﴿ بسم الله ﴾ الذي أحاط بصفات الكمال ﴿ الرحمن ﴾ الذي عمّ الموجودات بصفة الجمال ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص أهل ودّه بصالح الأعمال.
ﰡ
وروى عكرمة عن ابن عباس أنها ما يرجم به الشياطين عند استراقهم السمع وقال أبو حمزة الثمالي : هي النجوم إذا انتثرت يوم القيامة وقيل : المراد بالنجم القرآن سمي نجماً لأنه نزل نجوماً متفرقة في عشرين سنة ويسمى التفريق تنجيماً والمفرّق منجما هذا قول ابن عباس في رواية عطاء، وقال الكلبي : والهوى النزول من أعلى إلى أسفل وقال الأخفش : النجم هو النبت الذي لا ساق له ومنه قوله تعالى :﴿ والنجم والشجر يسجدان ﴾ [ الرحمن : ٦ ] وهويه سقوطه على الأرض.
وقال جعفر الصادق : يعني محمداً صلى الله عليه وسلم إذا نزل من السماء ليلة المعراج والهوى النزول يقال هوى يهوى هوياً والكلام في قوله تعالى :﴿ والنجم ﴾ كالكلام في قوله تعالى ﴿ والطور ﴾ حيث لم يقل والنجوم والأطوار وقال :﴿ والذاريات ﴾ [ الذاريات : ١ ] ﴿ والمرسلات ﴾ [ المرسلات : ١ ] كما مر.
تنبيه : أوّل هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها فإنه تعالى قال في آخر تلك ﴿ وإدبار النجوم ﴾ وقال تعالى في أوّل هذه :﴿ والنجم إذا هوى ﴾ قال الرازي : والفائدة في تقييد القسم به في وقت هويه أنه إذا كان في وسط السماء يكون بعيداً عن الأرض لا يهتدي به الساري لأنه لا يعلم به المشرق من المغرب ولا الجنوب من الشمال، فإذا نزل عن وسط السماء تبين بنزوله جانب المغرب عن المشرق والجنوب عن الشمال.
تنبيه : الغي جهل عن اعتقاد فاسد بخلاف الضلال، وذهب أكثر المفسرين إلى أن الغي والضلال بمعنى واحد وفرق بعضهم بينهما فقال : الضلال في مقابلة الهدى، والغي في مقابلة الرشد قال تعالى :﴿ قد تبين الرشد من الغي ﴾ [ البقرة : ٢٥٦ ] وقال تعالى ﴿ وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً وإن يروا سبيل الغيّ يتخذوه سبيلاً ﴾ [ الأعراف : ١٤٦ ] قال الرازي : وتحقيق القول فيه أنّ الضلال أعم استعمالاً في الوضع تقول : ضل بعيري ورحلي ولا تقول غيّ.
فائدة : قد دافع الله سبحانه عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأمّا باقي الأنبياء فدافعوا عن أنفسهم ﴿ ليس بي ضلالة ﴾ ﴿ ليس بي سفاهة ﴾ ونحو ذلك قاله القشيري فإن قيل : كيف الجمع بين قوله تعالى :﴿ ما ضلّ صاحبكم ﴾ وبين قوله تعالى :﴿ ووجدك ضالاً فهدى ﴾ [ الضحى : ٧ ] أجيب : بأنّ المراد من الآية الآتية وجدك ضالاً عما أنت عليه الآن من الشريعة فهداك إليها بخلاف هذه الآية.
تنبيه : استدل بهذه الآية من لا يرى الاجتهاد للأنبياء، وأجيب : بأنّ الله تعالى إذا سوغ لهم الاجتهاد كان الاجتهاد وما يستند إليه كله وحياً لا نطقاً عن الهوى.
تنبيه : القاب والقيب والقاد والقيد والقيس المقدار، وقد جاء التقدير بالقوس والرمح والسوط والذراع والباع والخطوة والشبر والفتر والأصبع ومنه «لا صلاة إلى أن ترتفع الشمس مقدار رمحين » وفي الحديث «لقاب قوس أحدكم من الجنة وموضع قده خير من الدنيا وما فيها » والقد : السوط، ويقال بينهما خطوات يسيرة وقال الشاعر :
وقد جعلتني من خزيمة أصبعا ***
فإن قيل : كيف تقدير قوله :﴿ فكان قاب قوسين ﴾ أجيب : بأنّ تقديره فكان مسافة قربه مثل قاب قوسين فحذفت هذه المضافات كما قال أبو علي في قوله : وقد جعلتني من خزيمة أصبعا أي ذا مقدار مسافة أصبع.
وروى الشيباني قال : سألت زراً عن قوله تعالى :﴿ فكان قاب قوسين أو أدنى ﴾ قال أخبرنا عبد الله يعني ابن مسعود «أنه محمد صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح » وبهذا قال ابن عباس والحسن وقتادة، وقال آخرون : دنا الرب عز وجل من محمد صلى الله عليه وسلم فتدلى فقرب منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، ومعنى دنوه تعالى : قرب منزلة كقوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن ربه تبارك وتعالى «من تقرّب إليّ شبراً تقرّبت إليه ذراعاً ومن تقرّب إليّ ذراعاً تقرّبت إليه باعاً ومن مشى إليّ أتيته هرولة » وهذا إشارة إلى المعنى المجازي قال البغوي : وروينا في قصة المعراج من رواية شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس : فدنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى وهذه رواية أبي سلمة عن ابن عباس وقال مجاهد : دنا جبريل من ربه وقد قدّمت الكلام على المعراج وعلى جواز رؤيته صلى الله عليه وسلم ربه في أوّل الإسراء. وقال الضحاك : دنا محمد صلى الله عليه وسلم من ربه عز وجلّ فتدلى فأهوى للسجود فكان منه قاب قوسين أو أدنى وتقدّم الكلام على القاب، والقوس : ما يرمى به في قول مجاهد وعكرمة وعطاء عن ابن عباس، فأخبر أنه كان بين جبريل عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم مقدار قوسين. وقال مجاهد : معناه حيث الوتر من القوس وهذا إشارة إلى تأكيد القرب والأصل في ذلك أنّ الحليفين من العرب كانا إذا أراد الصفاء والعهد خرجا بقوسيهما فالصقا بينهما يريدان بذلك أنهما متظاهران يحامي كل واحد منهما عن صاحبه، وقال عبد الله بن مسعود : قاب قوسين قدر ذراعين وهو قول سعيد بن جبير، والقوس الذراع يقاس بها كل شيء أو أدنى بل أقرب وإنما ضرب المثل بالقوس لأنها لا تختلف بالقاب.
إلى قوله تعالى :﴿ ورفعنا لك ذكرك ﴾ [ الشرح : ٤ ] الثاني : أوحى إليه الصلاة. الثالث : أن أحداً من الأنبياء لا يدخل الجنة قبلك وأنّ أمة من الأمم لا تدخلها قبل أمتك. الرابع : أنه مبهم لا يطلع عليه أحد وتعبدنا به على الجملة. الخامس : أنّ ما للعموم والمراد كل ما جاء به جبريل.
ومن حدّثك أنه كتم شيئاً مما أنزل الله تعالى فقد كذب، ثم قرأت ﴿ يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ﴾ [ المائدة : ٦٧ ] الآية ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين »، وروى أبو ذر قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك «قال نور أنّى أراه » وحاصل المسألة : أنّ الصحيح ثبوت الرؤية وهو ما جرى عليه ابن عباس حبر الأمّة، وهو الذي يرجع إليه في المعضلات، وقد راجعه أبو عمرو فأخبره أنه رآه ولا يقدح في ذلك حديث عائشة، لأنها لم تخبر أنها سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لم أر وإنما اعتمدت على الاستنباط مما تقدم وجوابه ظاهر، فإنّ الإدراك هو الإحاطة والله تعالى لا يحاط به وإذا ورد النص بنفي الإحاطة لا يلزم منه نفي الرؤية بغير إحاطة، وأجيب عن احتجاجها بقوله تعالى :﴿ وما كان لبشر أن يكلمه الله ﴾ [ الشورى : ٥١ ] الآية بأنه لا يلزم من الرؤية وجود الكلام حال الرؤية فيجوز وجود الرؤية من غير كلام، وبأنه عام مخصوص بما تقدّم من الأدلة.
وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم «نور أنّى أراه » فقال الماوردي : الضمير في أراه عائد إلى الله تعالى ومعناه : إنه خالق النور المانع من رؤيته أي رؤية إحاطة كما مرّ إذ من المستحيل أن تكون ذات الله نوراً إذ النور من جملة الأجسام والله تعالى منزه عن ذلك فإن قيل : هلا قيل أفتمارونه على ما رأى بصيغة الماضي لأنهم إنما جادلوه حين أسري به فقالوا : صف لنا بيت المقدس وأخبرنا عن عيرنا في الطريق وغير ذلك مما جادلوه به وما الحكمة في إبرازه بصيغة المضارع أجيب : بأنّ التقدير أفتمارونه على ما يرى فكيف وهو قد رآه في السماء فماذا تقولون فيه.
تنبيه : قوله تعالى :﴿ نزلة ﴾ فعلة من النزول كجلسة من الجلوس فلا بدّ من نزول، واختلفوا في ذلك النزول. وفيه وجوه :
الأوّل : أنّ الضمير في رآه عائد إلى جبريل أي رأى جبريل نزلة أخرى أي رأى جبريل في صورته التي خلق عليها نازلاً من السماء مرّة أخرى وذلك أنه رآه في صورته مرتين مرة في الأرض ومرّة في السماء ﴿ عند سدرة المنتهى ﴾ قال الرازي : ويحتمل أن تكون النزلة لمحمد صلى الله عليه وسلم.
الثاني : أن الضمير عائد إلى الله تعالى أي رأى الله نزلة أخرى، وهذا قول من قال في قوله تعالى :﴿ ما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ هو الله تعالى وقد قيل : إنّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بقلبه مرتين وعلى هذا ففي النزول وجهان : أحدهما : قول من يجوز على الله الحركة من غير تشبيه. وثانيهما : أنّ نزوله بمعنى القرب بالرحمة والفضل، الثالث : أن محمداً رأى الله تعالى نزلة أخرى والمراد من النزلة : ضدّها وهي العرجة كأنه قال : رآه عرجة أخرى قال ابن عباس : نزلة أخرى هو أنه كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم عرجات في تلك الليلة لمسألة التخفيف في الصلوات فيكون لكلّ عرجة نزلة فرأى ربه في بعضها.
وروي عن ابن عباس أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده مرتين وعنه أنه رأى ربه بعينه وعلى أنّ المرئي هو الله تعالى فيكون قوله تعالى :﴿ عند سدرة المنتهى ﴾ ظرفاً للرائي كما إذا قال القائل رأيت الهلال فيقال له : أين رأيته فيقول : على السطح، وقد يقول : عند الشجرة الفلانية، وأمّا قول من قال : بأنّ الله تعالى في مكان فذلك باطل، وإن قيل : بأنّ المرئي جبريل عليه السلام فظاهر.
تنبيه : إضافة السدرة إلى المنتهى تحتمل وجوهاً :
أحدها : إضافة الشيء إلى مكانه كقولك أشجار بلدة كذا، فالمنتهى حينئذ موضع لا يتعدّاه ملك، قال هلال بن كيسان : سأل ابن عباس كعباً عن سدرة المنتهى وأنا حاضر فقال كعب : إنها سدرة في أصل العرش على رؤوس حملة العرش وإليها ينتهي علم الخلائق، وما خلفها غيب لا يعلمه إلا الله تعالى، وقيل : ينتهي إليها ما هبط من فوقها ويصعد من تحتها، وقال كعب : تنتهي إليها الملائكة والأنبياء، وقال الربيع : تنتهي إليها أرواح المؤمنين.
وثانيها : إضافة الملك إلى مالكه كقولك : دار زيد وشجر زيد وحينئذ المنتهى فيه محذوف تقديره سدرة المنتهى إليه قال الله تعالى :﴿ إلى ربك المنتهى ﴾ [ النجم : ٤٢ ] فالمنتهى إليه هو الله تعالى وإضافة السدرة إليه حينئذ كإضافة البيت إليه للتشريف والعظيم، كما يقال في التسبيح يا غاية رغبتاه ويا منتهى أملاه.
وثالثها : إضافة المحل إلى الحال فيه كقولك كتاب الفقه وعلى هذا فالتقدير سدرة عندها منتهى العلوم فتتلقى هناك.
قال البقاعي : وذلك والله أعلم ليلة الإسراء في السنة الثالثة عشرة من النبوّة قبل الهجرة بقليل بعد أن ترقى في معارج الكمالات من السنين على عدد السماوات وما بينها من المسافات فانتهى إلى منتهى سمع فيه صرير الأقلام.
تنبيه : قوله تعالى :﴿ نزلة ﴾ فعلة من النزول كجلسة من الجلوس فلا بدّ من نزول، واختلفوا في ذلك النزول. وفيه وجوه :
الأوّل : أنّ الضمير في رآه عائد إلى جبريل أي رأى جبريل نزلة أخرى أي رأى جبريل في صورته التي خلق عليها نازلاً من السماء مرّة أخرى وذلك أنه رآه في صورته مرتين مرة في الأرض ومرّة في السماء ﴿ عند سدرة المنتهى ﴾ قال الرازي : ويحتمل أن تكون النزلة لمحمد صلى الله عليه وسلم.
الثاني : أن الضمير عائد إلى الله تعالى أي رأى الله نزلة أخرى، وهذا قول من قال في قوله تعالى :﴿ ما كذب الفؤاد ما رأى ﴾ هو الله تعالى وقد قيل : إنّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بقلبه مرتين وعلى هذا ففي النزول وجهان : أحدهما : قول من يجوز على الله الحركة من غير تشبيه. وثانيهما : أنّ نزوله بمعنى القرب بالرحمة والفضل، الثالث : أن محمداً رأى الله تعالى نزلة أخرى والمراد من النزلة : ضدّها وهي العرجة كأنه قال : رآه عرجة أخرى قال ابن عباس : نزلة أخرى هو أنه كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم عرجات في تلك الليلة لمسألة التخفيف في الصلوات فيكون لكلّ عرجة نزلة فرأى ربه في بعضها.
وروي عن ابن عباس أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده مرتين وعنه أنه رأى ربه بعينه وعلى أنّ المرئي هو الله تعالى فيكون قوله تعالى :﴿ عند سدرة المنتهى ﴾ ظرفاً للرائي كما إذا قال القائل رأيت الهلال فيقال له : أين رأيته فيقول : على السطح، وقد يقول : عند الشجرة الفلانية، وأمّا قول من قال : بأنّ الله تعالى في مكان فذلك باطل، وإن قيل : بأنّ المرئي جبريل عليه السلام فظاهر.
تنبيه : إضافة السدرة إلى المنتهى تحتمل وجوهاً :
أحدها : إضافة الشيء إلى مكانه كقولك أشجار بلدة كذا، فالمنتهى حينئذ موضع لا يتعدّاه ملك، قال هلال بن كيسان : سأل ابن عباس كعباً عن سدرة المنتهى وأنا حاضر فقال كعب : إنها سدرة في أصل العرش على رؤوس حملة العرش وإليها ينتهي علم الخلائق، وما خلفها غيب لا يعلمه إلا الله تعالى، وقيل : ينتهي إليها ما هبط من فوقها ويصعد من تحتها، وقال كعب : تنتهي إليها الملائكة والأنبياء، وقال الربيع : تنتهي إليها أرواح المؤمنين.
وثانيها : إضافة الملك إلى مالكه كقولك : دار زيد وشجر زيد وحينئذ المنتهى فيه محذوف تقديره سدرة المنتهى إليه قال الله تعالى :﴿ إلى ربك المنتهى ﴾ [ النجم : ٤٢ ] فالمنتهى إليه هو الله تعالى وإضافة السدرة إليه حينئذ كإضافة البيت إليه للتشريف والعظيم، كما يقال في التسبيح يا غاية رغبتاه ويا منتهى أملاه.
وثالثها : إضافة المحل إلى الحال فيه كقولك كتاب الفقه وعلى هذا فالتقدير سدرة عندها منتهى العلوم فتتلقى هناك.
قال البقاعي : وذلك والله أعلم ليلة الإسراء في السنة الثالثة عشرة من النبوّة قبل الهجرة بقليل بعد أن ترقى في معارج الكمالات من السنين على عدد السماوات وما بينها من المسافات فانتهى إلى منتهى سمع فيه صرير الأقلام.
وقيل : يغشاها أنوار الله تعالى، لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما وصل إليها تجلى ربه لها كما تجلى للجبل فظهرت الأنوار، ولكن السدرة كانت أقوى من الجبل وأثبت فجعل دكا ولم تتحرّك الشجرة وخر موسى عليه السلام صعقاً ولم يتزلزل محمد صلى الله عليه وسلم وقيل : أبهمه تعظيماً له والغشيان يكون بمعنى التغطية قال الماوردي في معاني القرآن : فإن قيل : لم اختيرت السدرة لهذا الأمر دون غيرها من الشجر قلنا : لأنّ السدرة تختص بثلاثة أوصاف : ظلّ مديد وطعم لذيذ ورائحة ذكية، فشابهت الإيمان الذي يجمع قولاً وعملاً ونية فظلها من الإيمان بمنزلة العمل لتجاوره، وطعمها بمنزلة النية لكمونه، وريحها بمنزلة القول لظهوره، وروى أبو داود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :«من قطع سدرة صوب الله تعالى رأسه في النار » وسئل أبو داود عن معنى هذا الحديث فقال : هو مختصر يعني : من قطع سدرة في فلاة يستظلّ بها ابن السبيل والبهائم، عبثاً وظلماً بغير حق يكون له فيها، صوب الله تعالى رأسه في النار.
تنبيه : اللام في البصر تحتمل وجهين :
أحدهما : المعروف أي ما زاغ بصر محمد صلى الله عليه وسلم وعلى هذا إن قيل بأنّ الغاشي للسدرة هو الجراد والفراش فمعناه لم يلتفت إليه ولم يشتغل به ولم يقطع نظره عن مقصوده فيكون غشيان الجراد والفراش ابتلاء وامتحاناً لمحمد صلى الله عليه وسلم وإن قيل إنّ الغاشي أنوار الله تعالى ففيه وجهان : أحدهما : لم يلتفت يمنة ولا يسرة بل اشتغل بمطالعتها. الثاني : ما زاغ البصر بصعقه بخلاف موسى عليه السلام فإنه قطع النظر وغشي عليه، ففي الأوّل بيان أدب محمد صلى الله عليه وسلم وفي الثاني بيان قوّته.
الوجه الثاني : أنّ اللام لتعريف الجنس أي ما زاغ بصره أصلاً في ذلك الموضع لعظم هيبته فإن قيل : لو كان كذلك لقال ما زاغ بصره فإنه أدلّ على العموم فإنّ النكرة في معرض النفي تعم، أجيب : بأنّ هذا مثل كقوله تعالى :﴿ لا تدركه الأبصار ﴾ [ الأنعام : ١٠٣ ] ولم يقل ولا يدركه بصر.
وعن مجاهد أن العزى شجرة لغطفان كانوا يعبدونه فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقطعها فجعل خالد يضربها بالفأس ويقول :
يا عز كفرانك لا سبحانك | إني رأيت الله قد أهانك |
وقال الضحاك : هي صنم لغطفان وضعها لهم سعيد بن ظالم الغطفاني، وذلك أنه لما قدم مكة فرأى الصفا والمروة ورأى أهل مكة يطوفون بهما فعاد إلى نخلة وقال لقومه : إن لأهل مكة الصفا والمروة وليستا لكم ولهم إله يعبدونه وليس لكم قالوا : فما تأمرنا به، قال : أنا أصنع لكم كذلك وأخذ حجراً من الصفا وحجراً من المروة ونقلهما إلى نخلة فوضع الذي أخذه من الصفا وقال : هذا الصفا ووضع الذي أخذه من المروة، وقال هذه المروة : ثم أخذ ثلاثة أحجار فأسندها إلى شجرة فقال : هذا ربكم، فجعلوا يطوفون بين الحجرين ويعبدون الحجارة حتى افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فأمر برفع الحجارة وبعث خالد بن الوليد إلى العزى فقطعها وقال ابن زيد : هي بيت بالطائف كان تعبده ثقيف.
وقوله تعالى :﴿ الثالثة الأخرى ﴾ نعت لمناة إذ هي الثالثة للصنمين في الذكر، وأما الأخرى فقال أبو البقاء : توكيد لأنّ الثالثة لا تكون إلا أخرى، وقال الزمخشري : الأخرى ذم وهي المتأخرة الوضيعة المقدار كقوله تعالى :﴿ وقالت أخراهم ﴾ [ الأعراف : ٣٨ ] أي : وضعاؤهم ﴿ أولاهم ﴾ أي : لأشرافهم، ويجوز أن تكون الأولية والتقدّم عندهم للات والعزى ا. ه. قال ابن عادل : وفيه نظر لأنّ الأخرى إنما تدل على الغيرية وليس فيها تعرّض لمدح ولا ذم فإن جاء شيء فلقرينة خارجية ا. ه. ووجه الترتيب أنّ اللات كان وثناً على صورة آدمي، والعزى شجرة نبات، ومناة صخرة فهي جماد فهي في أخريات المراتب.
فإن قيل : ما فائدة الفاء في قوله تعالى :﴿ أفرأيتم ﴾ وقد وردت في مواضع بغير فاء كقوله تعالى :﴿ قل أرأيتم ما تدعون من دون الله ﴾ [ الأحقاف : ٤ ] ﴿ أرأيتم شركاءكم ﴾ [ فاطر : ٤٠ ] أجيب : بأنه تعالى لما قدم عظمته في ملكوته وأنّ رسوله إلى الرسل يسد الآفاق ببعض أجنحته ويهلك المدائن بشدّته وقوّته ولا يمكنه مع هذا أن يتعدّى السدرة في مقام جلال الله وعزته قال : أفرايتم هذه الأصنام مع ذلتها وحقارتها شركاء الله تعالى مع ما تقدّم، فقال بالفاء أي عقب ما سمعتم من عظمة آيات الله الكبرى ونفاذ علمه في الملأ الأعلى وما تحت الثرى انظروا إلى اللات والعزى تعلموا فساد ما ذهبتم إليه.
تنبيه : مفعول أرأيت الأول اللات وما عطف عليه والثاني : محذوف والمعنى أخبروني ألهذه الأصنام قدرة على شيء ما فتعبدونها دون الله القادر على ما تقدّم ذكره.
وقرأ ابن كثير ﴿ مناة ﴾ بهمزة مفتوحة بعد الألف والباقون بغير همز.
فإن قيل : الأسماء لا تسمى وإنما يسمى بها أجيب : بأن التسمية وضع الاسم فكأنه قال أسماء وضعتموها فاستعمل سميتموها استعمال وضعتموها ﴿ أنتم وآباؤكم ﴾ أي : لا غير ﴿ ما أنزل الله ﴾ أي : الذي له جميع صفات الكمال ﴿ بها ﴾ أي باستحقاقها للأسماء أو لما سميتموها به من الإلهية، وأغرق في النفي فقال :﴿ من سلطان ﴾ أي : حجة تصلح مسلطاً على ما يدعى فيها بل لمجرد الهوى لم تروا منها آية ولا كلمتكم قط بكلمة تعتمدونها وعلى تقدير أن تتكلم الشياطين على ألسنتها فأيّ طريقة قويمة شرعت لكم، وأيّ كلام صالح أو بليغ برز إليكم منها وأيّ آية كبرى أرَتْكموها.
﴿ إن ﴾ أي : ما ﴿ يتبعون ﴾ أي : في وقت من الأوقات في أمر هذه الأوثان بغاية جهدهم من أنها آلهة وأنها تشفع لهم أو تقربهم إلى الله تعالى ﴿ إلا الظن ﴾ أي : وهو غاية أمرهم لمن يحسن الظن بهم والظن ترجيح أحد الجائزين على زعم الظان. ولما كان الظن قد يكون موافقاً للحق مخالفاً للهوى قال تعالى :﴿ وما تهوى الأنفس ﴾ أي : تشتهي وهي لما لها من النقص لا تشتهي أبداً إلا ما يهوى بها عن غاية أوجها إلى أسفل حضيضها، وأما المعالي وحسن العواقب فإنما يسوق إليها العقل.
قال القشيري : فأما الظن الجميل بالله تعالى فليس من هذا الباب، والتباس عواقب الشخص عليه ليس من هذه الجملة بسبيل إنما الظن المعلول في الله تعالى وأحكامه وصفاته ا. ه. ولهذا كان كثير من الفقه ظنياً وقال صلى الله عليه وسلم حكاية عن ربه «أنا عند ظن عبدي بي ».
﴿ ولقد جاءهم ﴾ أي : العجب أنهم يقولون ذلك والحال أنهم قد جاءهم ﴿ من ربهم ﴾ المحسن إليهم ﴿ الهدى ﴾ على لسان النبيّ صلى الله عليه وسلم بالبرهان القاطع أنها ليست بآلهة، وأنّ العبادة لا تصلح إلا لله الواحد القهار فلم يرجعوا عما هم عليه، وقرأ حمزة والكسائي في الوصل بضم الهاء والميم وقرأ أبو عمرو بكسرهما والباقون بكسر الهاء وضم الميم.
فإن قيل : كيف يقال إنهم لا يؤمنون بالآخرة مع أنهم كانوا يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وكان من عادتهم أن يربطوا مركوباً على قبر من يموت ويعتقدون أنه يحشر عليه أجيب : بأنهم ما كانوا يجزمون به بل كانوا يقولون لا حشر فإن كان فلنا شفعاء بدليل ما حكى الله تعالى عنهم :﴿ وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إنّ لي عنده للحسنى ﴾ [ فصلت : ٥٠ ] وبأنهم ما كانوا يعترفون بالآخرة على الوجه الذي وردت به الرسل فإن قيل : كيف قال : تسمية الأنثى ولم يقل تسمية الإناث أجيب بأن المراد بيان الجنس وهذا اللفظ أليق بهذا الموضع لمؤاخاة رؤوس الآي.
قال الرازي : وأكثر المفسرين يقولون : بأن كل ما في القرآن من قوله تعالى :﴿ فأعرض ﴾ منسوخ بآية القتال وهو باطل، لأنّ الأمر بالإعراض موافق لآية القتال فكيف ينسخ بها وذلك لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم في الأول كان مأموراً بالدعاء بالحكمة والموعظة الحسنة فلما عارضوه بأباطيلهم أمر بإزالة شبههم والجواب عن أباطيلهم. وقيل له : وجادلهم بالتي أحسن ثم لما لم ينفع قال له ربه : أعرض عنهم ولا تقل لهم بالدليل والبرهان فإنهم لا ينتفعون به ولا يتبعون الحق، وقاتلهم والإعراض عن المناظرة شرط لجواز المقاتلة فكيف يكون منسوخاً بها ؟
فإن قيل : إنّ الله تعالى بين أنّ غايتهم ذلك في العلم ولا يكلف الله تعالى نفساً إلا وسعها والمجنون الذي لا علم له أو الصبيّ الذي لا يؤمر بما فوق احتماله فكيف يعاقبهم الله تعالى ؟ أجيب : بأنه ذكر قبل ذلك أنهم تولوا عن ذكر الله فكان عدم علمهم لعدم قبولهم العلم، وإنما قدر الله تعالى توليهم ليضاف الجهل إلى ذلك فيتحقق العقاب.
تنبيه : اللام في ليجزي يجوز أن تتعلق بقوله تعالى :﴿ بمن ضل ﴾ و﴿ بمن اهتدى ﴾، واللام للصيرورة أي عاقبة أمرهم جميعاً للجزاء بما عملوا قال معناه الزمخشري، وأن تتعلق بما دلّ عليه قوله تعالى :﴿ أعلم بمن ضلّ ﴾ أي : حفظ ذلك ليجزي قاله أبو البقاء ﴿ ويجزي ﴾ أي : ويثيب ويكرم ﴿ الذين أحسنوا ﴾ أي : على ثباتهم على الدين وصبرهم عليه وعلى أذى أعدائهم ﴿ بالحسنى ﴾ أي : بالمثوبة الحسنى وهي الجنة.
وقوله تعالى :﴿ إلا اللمم ﴾ فيه أوجه : أحدها وهو المشهور أنه استثناء منقطع أي لكن اللمم، لأنه الصغائر فلم تندرج فيما قبلها ثانيها : أنه صفة وإلا بمعنى غير كقوله تعالى ﴿ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ﴾ [ الأنبياء : ٢٢ ] أي كبائر الإثم والفواحش غير اللمم. ثالثها : أنه متصل وهذا عند من يفسر اللمم بغير الصغائر قالوا : إنّ اللمم من الكبائر والفواحش قالوا : إن معنى الآية إلا أن يلم بالفاحشة مرّة ثم يتوب ويقع الوقعة ثم ينتهي وهو قول أبي هريرة ومجاهد والحسن ورواه عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال عبد الله بن عمرو بن العاص : اللمم ما دون الشرك قال السدي : قال أبو صالح : سئلت عن قول الله عز وجل إلا اللمم فقلت : هو الرجل يلم بالذنب ثم لا يعاوده فذكرت ذلك لابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال : لقد أعانك عليها ملك كريم وروى : عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :«أن الله عز وجل كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه » ولمسلم «كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا يدرك ذلك لا محالة العينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه النطق واليد زناها البطش والرجل زناها الخطأ والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه ».
تنبيه : ذهب الجماهير من السلف والخلف من جميع الطوائف إلى انقسام المعاصي إلى كبائر وصغائر، وقد تظاهرت على ذلك دلائل الكتاب والسنة، وقد اختلف في ضبط الكبيرة بالحد فقال جمع : هي ما لحق صاحبها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة، وقال جمع : هي المعصية الموجبة للحد والأوّل أوجه لأنهم عدوا الربا وأكل مال اليتيم وشهادة الزور ونحوها من الكبائر ولا حد فيها وقال إمام الحرمين : هي كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين، وأما تعريفها بالعد فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : هي إلى السبعين أقرب وقال سعيد بن جبير هي إلى السبعمائة أقرب أي باعتبار أصناف أنواعها وما عدا المحدود من المعاصي فمن الصغائر ولا بأس بذكر شيء من النوعين.
فمن الأوّل تقديم الصلاة أو تأخيرها عن وقتها بلا عذر ومنع الزكاة وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة ونسيان القرآن واليأس من رحمة الله تعالى، وأمن مكر الله تعالى، وقتل النفس عمداً أو شبه عمد، والفرار من الزحف وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والإفطار في رمضان من غير عذر، وعقوق الوالدين والزنا واللواط وشهادة الزور، وشرب الخمر وإن قل، والسرقة والغصب وقيده جماعة بما يبلغ ربع مثقال كما يقطع به في السرقة، وكتمان الشهادة بلا عذر، وضرب المسلم بغير حق، وقطع الرحم والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمداً، وسب الصحابة، وأخذ الرشوة، والسحر والنميمة، وأما الغيبة فإن كانت في أهل العلم وحملة القرآن فهي كبيرة وإلا فصغيرة.
ومن الصغائر النظر المحرم وكذب لا حد فيه ولا ضرر، والإشراف على سوآت الناس، وهجر المسلم فوق ثلاث والضحك في الصلاة المفروضة، والنياحة وشق الجيب في المصيبة والتبختر في المشي والجلوس بين الفساق إيناساً لهم، وإدخال مجانين وصبيان ونجاسة يغلب تنجيسهم المسجد، واستعمال نجاسة في بدن أو ثوب لغير حاجة، والإصرار على صغيرة من نوع أو أنواع يصيرها كبيرة إلا أن تغلب طاعاته معاصيه كما أوضحت ذلك في شرح المنهاج وغيره.
﴿ إنّ ربك ﴾ أي : المحسن إليك بإرسالك رحمة للعالمين والتخفيف عن أمتك ﴿ واسع المغفرة ﴾ يغفر الصغائر باجتناب الكبائر، ويغفر الكبائر بالتوبة وله أن يفغر ما شاء من الذنوب ما عدا الشرك صغيرها وكبيرها كما قال تعالى :﴿ إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾ [ النساء : ٤٨ ] بخلاف غيره من الملوك فإنه لا يغفر لمن تكرّرت ذنوبه إليهم وإن صغرت قال البيضاويّ : ولعله عقب به وعيد المسيئين لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته ولا يتوهم وجوب العقاب على الله تعالى ا. ه. ونزل فيمن كان يقول صلاتنا صيامنا حجنا ﴿ هو أعلم بكم ﴾ أي : بذواتكم وأحوالكم منكم بأنفسكم ﴿ إذ ﴾ أي : حين ﴿ أنشأكم من الأرض ﴾ أي : التي طبعها طبع الموت البرد واليبس بإنشاء أبيكم آدم عليه السلام منها، وتهيئتكم للتكوين بعد أن لم يكن فيكم وأنتم تراب قابلية للحياة بقوة قريبة ولا بعيدة أصلاً فميز التراب الذي يصلح لتكوينكم منه والذي لا يصلح ﴿ وإذ ﴾ أي : وحين ﴿ أنتم أجنة ﴾ أي : مستورون ﴿ في بطون أمهاتكم ﴾ فهو يعلم إذ ذاك ما أنتم صائرون إليه من خير وشرّ وإن عملتم مدة من العمر بخلافه، لأنه يعلم ما جبلكم عليه من ذلك.
وقرأ حمزة والكسائيّ في الوصل بكسر الهمزة والباقون بضمها، وكسر حمزة الميم وفتحها الباقون، وأما في الابتداء بالهمزة فالجميع بضمها.
﴿ فلا تزكوا ﴾ أي : تمدحوا بالزكاة وهي البركة والطهارة عن الدناءة ﴿ أنفسكم ﴾ أي : حقيقة بأن يثني الإنسان على نفسه فإنّ تزكيته لنفسه قال القشيري : من علامات كونه محجوباً عن الله تعالى أي : من مدح نفسه على سبيل الإعجاب، أما على سبيل الاعتراف بالنعمة فحسن، أو مجازاً بأن يثنى على غيره من إخوانه وأنه كثيراً ما يثنى بشيء فيظهر خلافه وربما حصل له الأذى بسببه «وإنّ العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع » الحديث.
ولذلك علل بقوله تعالى :﴿ هو أعلم ﴾ أي : منكم ومن جميع الخلق ﴿ بمن اتقى ﴾ أي فإنه يعلم المتقي وغيره منكم قبل أن يخرجكم من صلب أبيكم آدم عليه السلام فمن جاهد نفسه حتى حصل منه تقوى فهو يوصله فوق ما يؤمل من الثواب في الدارين فكيف بمن صارت له التقوى وصفا ثابتاً.
وأعطى قليلاً ثم أكدى عطاءه | ومن يفعل المعروف في الناس يحمد |
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : هذا منسوخ الحكم في هذه الشريعة أي : وإنما هو في صحف موسى وإبراهيم عليهما السلام بقوله :﴿ ألحقنا بهم ذريتهم ﴾ [ الطور : ٢١ ] فأدخل الأبناء الجنة بصلاح الآباء وقال عكرمة إنّ ذلك لقوم موسى وإبراهيم عليهما السلام، وأما هذه الأمة فلهم ما سعوا وما سعى لهم غيرهم لما يروى أن امرأة رفعت صبياً لها فقالت يا رسول الله ألهذا حج فقال نعم ولك أجر «وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم إنّ أمي انسلت نفسها فهل لها أجر إن تصدقت عنها قال نعم ».
قال الشيخ تقيّ الدين أبو العباس أحمد بن تيمية : من اعتقد أنّ الإنسان لا ينتفع إلا بعمله فقد خرق الإجماع وذلك باطل من وجوه كثيرة : أحدها : أنّ الإنسان ينتفع بدعاء غيره وهو انتفاع بعمل الغير. ثانيها : أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الموقف في الحساب، ثم لأهل الجنة في دخولها ثم لأهل الكبائر في الخروج من النار وهذا انتفاع بعمل الغير. ثالثها : أن كل نبي وصالح له شفاعة وذلك انتفاع بعمل الغير. رابعها : أنّ الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في الأرض وذلك منفعة بعمل الغير. خامسها : أنّ الله تعالى يخرج من النار من لم يعمل خيراً قط بمحض رحمته وهذا انتفاع بغير عملهم. سادسها : أنّ أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم وذلك انتفاع بمحض عمل الغير. سابعها : قال تعالى في قصة الغلامين اليتيمين ﴿ وكان أبوهما صالحاً ﴾ [ الكهف : ٨٢ ] فانتفعا بصلاح أبيهما وليس هو من سعيهما. ثامنها : أنّ الميت ينتفع بالصدقة عنه والعتق بنص السنة والإجماع وهو من عمل الغير. تاسعها : أنّ الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وليه بنص السنة وهو انتفاع بعلم الغير. عاشرها : أنّ الحج المنذور أو الصوم المنذور يسقط عن الميت بعمل غيره بنص السنة وهو انتفاع بعمل الغير. حادي عشرها : أن المدين الذي امتنع صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه حتى قضى دينه أبو قتادة، وقضى دين الآخر علي بن أبي طالب وانتفع بصلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم وبردت جلدته بقضاء دينه وهو من عمل الغير. ثاني عشرها : أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لمن صلى وحده «ألا رجل يتصدّق على هذا فيصلى معه » فقد حصل له فضل الجماعة بفعل الغير. ثالث عشرها : أنّ الإنسان تبرأ ذمته من ديون الخلق إذا قضاها قاض عنه وذلك انتفاع بعمل الغير. رابع عشرها : أن من عليه تبعات ومظالم إذا حلل منها سقطت عنه وهذا انتفاع بعمل الغير. خامس عشرها : أنّ الجار الصالح ينفع في المحيا والممات كما جاء في الأثر وهذا انتفاع بعمل الغير. سادس عشرها : أنّ جليس أهل الذكر يرحم بهم وهو لم يكن منهم ولم يجلس لذلك بل لحاجة عرضت له والأعمال بالنيات فقد انتفع بعمل غيره. سابع عشرها : الصلاة على الميت والدعاء له في الصلاة انتفاع للميت بصلاة الحيّ عليه وهو عمل غيره. ثامن عشرها : أنّ الجمعة تحصل باجتماع العدد وكذلك الجماعة بكثرة العدد وهو انتفاع للبعض بالبعض. تاسع عشرها : أنّ الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم ﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ﴾ [ الأنفال : ٣٣ ] وقال تعالى :﴿ ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات ﴾ [ الفتح : ٢٥ ] ﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض ﴾ [ البقرة : ٢٥١ ] فقد دفع الله تعالى العذاب عن بعض الناس بسبب بعض وذلك انتفاع بعمل الغير. عشروها : أنّ صدقة الفطر تجب عن الصغير وغيره ممن يمونه الرجل فينتفع بذلك من يخرج عنه ولا سعي لهما. حادي عشريها : أنّ الزكاة تجب في مال الصبي والمجنون ويثاب على ذلك ولا سعي له ومن تأمّل العلم وجد من انتفاع الإنسان بما لم يعمله ما لا يكاد يحصى، فكيف يجوز أن تتأوّل الآية على خلاف صريح الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
والمراد بالإنسان العموم وقال الربيع بن أنس : ليس للإنسان يعني الكافر : وأما المؤمن فله ما سعي وما سعى له وقيل : ليس للكافر من الخير إلا ما عمله يثاب عليه في الدنيا حتى لا يبقى له في الآخرة خير، وروي «أنّ عبد الله بن أبي كان أعطى العباس قميصاً ألبسه إياه فلما مات أرسل النبيّ صلى الله عليه وسلم قميصه ليكفن فيه فلم تبق له حسنة في الآخرة يثاب عليها ».
فإن قيل : العمل كيف يرى بعد وجوده ومضيه ؟ أجيب : بأنه يرى على صورة جميلة إن كان العمل صالحاً قال الرازي وذلك على مذهبنا غير بعيد، فإن كل موجود يرى والله تعالى قادر على إعادة كل ما عدم فيعيد الفعل فيرى، وفيه بشارة للموحد وذلك أنّ الله تعالى يريه أعماله الصالحة ليفرح بها ويحزن الكافر بأعماله الفاسدة فيزداد غماً.
قال القرطبي : ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم «يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا من خلق كذا حتى يقول له من خلق ربك فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله تعالى » ولقد أحسن من قال :
ولا تفكرن في ذي العلا عز وجهه | فإنك تردى إن فعلت وتخذل |
ودونك مخلوقاته فاعتبر بها | وقل مثل ما قال الخليل المبجل |
وروي أنه صلى الله عليه وسلم مر على قوم من أصحابه وهم يضحكون فقال صلى الله عليه وسلم «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً » فنزل عليه جبريل عليه السلام فقال يا محمد إنّ الله يقول لك :﴿ وأنه هو أضحك وأبكى ﴾ أي : قضى أسبابهما فرجع إليهم صلى الله عليه وسلم فقال ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل فقال : ائت هؤلاء فقل لهم إن الله تعالى يقول :﴿ هو أضحك وأبكى ﴾ أي قضى أسباب الضحك والبكاء وقال بسام بن عبد الله أضحك أسنانهم وأبكى قلوبهم وأنشد يقول :
السنّ تضحك والأحشاء تحترق | وإنما ضحكها زور ومختلق |
يا رب باك بعين لا دموع لها | ورب ضاحك سنّ ما به رمق |
تنبيه : قوله تعالى :﴿ وأنه هو أضحك وأبكى ﴾ وما بعده يسميه البيانيون الطباق المتضادّ وهو نوع من البديع، وهو : أن يذكر ضدّان أو نقيضان أو متنافيان بوجه من الوجوه، وأضحك وأبكى لا مفعول لهما في هذا الموضع لأنهما سيقا لقدرة الله تعالى لا لبيان المقدور فلا حاجة إلى المفعول كقول القائل : فلان بيده الأخذ والعطاء يعطي ويمنع، ولا يريد ممنوعاً ومعطى واختار هذين الموضعين المذكورين لأنهما أمران لا يعللان فلا يقدر أحد من الطبائعيين يبين لاختصاص الإنسان بالضحك والبكاء وجهاً ولا سبباً، وإذا لم يعلل بأمر فلا بدّ له من موجد وهو الله تعالى بخلاف الصحة والسقم فإنهم يقولون : سببهما اختلال المزاج وخروجه عن الاعتدال ومما يدل على ذلك أنهم إذا عللوا الضحك قالوا : لقوّة التعجب وهو باطل، لأنّ الإنسان ربما بهت عند رؤية الأمور العجيبة ولا يضحك وقيل : لقوّة الفرح وليس كذلك لأنّ الإنسان قد يبكي لقوّة الفرح كما قال بعضهم :
هجم السرور عليّ حتى أنه | من عظم ما قد سرني أبكاني |
فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى :﴿ وأنه خلق ﴾ ولم يقل وأنه هو خلق كما قال تعالى :﴿ وأنه هو أضحك وأبكى ﴾ أجيب بأن الضحك والبكاء ربما يتوهم أنهما بفعل الإنسان، والإماتة والإحياء وإن كان ذلك التوهم أبعد فيهما لكن ربما يقول به جاهل كما قال من حاج إبراهيم عليه السلام أنا أحيي وأميت فأكد ذلك بالفصل، وأما خلق الذكر والأنثى من النطفة فلا يتوهم أحد أنه بخلق أحد من الناس فلم يؤكد بالفصل ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿ وأنه هو أغنى وأقنى ﴾ [ النجم : ٤٨ ] حيث كان الإغناء عندهم غير مستند إلى الله تعالى، وكان في معتقدهم أن ذلك بفعلهم كما قال قارون :﴿ إنما أوتيته على علم عندي ﴾ [ القصص : ٧٨ ] ولذلك قال :﴿ هو رب الشعرى ﴾ [ النجم : ٤٩ ] فأكد في مواضع استبعادهم إلى الإسناد ولم يؤكد في غيره.
تنبيه : حذف مفعولا أغنى وأقنى لأنّ المراد نسبة هذين الفعلين إليه، وكذلك باقيها وألف أقنى منقلبه عن ياء لأنه من القنية قال الشاعر :
ألا إنّ بعد العدم للمرء قنية ***
ويقال : قنيت كذا وأقنيته قال الشاعر :
قنيت حياتي عفة وتكرّما ***
والشعرى في لسان العرب كوكبان : تسمى أحدهما الشعرى العبور وهي المرادة في الآية الكريمة وهي تطلع بعد الجوزاء في شدّة الحرّ ويقال لها : مرزم الجوزاء وتسمى كلب الجبار أيضاً، وتسمى الشعرى اليمانية. والثانية : الشعرى الغميصاء وهي التي في الذراع والمجرة بينهما، وتسمى الشامية وسبب تسميتها بالغميضاء على ما زعمه العرب أنهما كانا أختين أو زوجتين لسهيل فانحدر سهيل إلى اليمن فأتبعته الشعرى العبور فعبرت المجرة فسميت العبور، وأقامت الغميصاء تبكي حتى غمصت عينها ولذلك كانت أخفى من العبور وكان من لا يعبد الشعرى من العرب يعظمها ويعتقد تأثيرها في العالم.
ألا أيها الإنسان إنك سامد | كأنك لا تفنى ولا أنت هالك |
رمى الحدثان نسوة آل سعد | بمقدار سمدن له سمودا |
فردّ شعورهنّ السود بيضا | ورد وجوههنّ البيض سودا |