تفسير سورة النحل

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة النحل من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: (لما استبطأ المشركون العذاب) الخ، قال ابن عباس: لما نزل قوله تعالى﴿ ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ ﴾[القمر: ١] قال الكفار بعضهم لبعض: إن هذا الرجل يزعم أن القيامة قد قربت، فأمسكوا عن بعض ما كنتم عليه، حتى تنظروا ما هو كائن، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء، قالوا: ما نرى شيئاً، فنزل﴿ ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ ﴾[الأنبياء: ١] فأشفقوا، فلما امتدت الأيام قالوا: يا محمد ما نرى شيئاً مما تخوفنا به.
﴿ أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ ﴾ فوثب النبي صلى الله عليه وسلم، ورفع الناس رؤوسهم، وظنوا أنها قد جاءت حقيقة فنزل ﴿ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾ فاطمأنوا. قوله: (أي الساعة) مشى المفسر على أن المراد بأمر الله القيامة، وهو أحد قولين، وقيل المراد بأمر الله، عقوبة المكذبين في الدنيا بالسيف. قوله: (وأتى بصيغة الماضي) أي على سبيل المجاز، ففي الكلام استعارة تبعية، حيث شبه الإتيان في المستقبل، بالإتيان في الماضي، بجامع تحقق الحصول في كل، واستعير اسم المشبه به للمشبه، واشتق من الإتيان في الماضي أتى بمعنى يأتي. قوله: (فإنه واقع لا محالة) أي ولا مفر لكم منه. قوله: ﴿ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ تنازعه كل من سبحانه وتعالى، وقوله: (غيره) قدره إشارة إلى أن مفعول ﴿ يُشْرِكُونَ ﴾ محذوف. قوله: (أي جبريل) أي وجمع تعظيماً له. قوله: (بالوحي) أي وسمي روحاً، لأن به حياة القلوب، الناشىء عنه السعادة الأبدية، ومن حاد عنها فهو هالك، كما أن الروح بها حياة الأجسام، وهي بدونها هالكة. قوله: (بإرادته) أشار بذلك إلى أن المراد بالأمر الإرادة، ومن بمعنى الباء. قوله: ﴿ أَنْ ﴾ (مفسرة) أي وضابطها تقدم جملة فيها معنى القول دون حروفه وهو قوله: ﴿ يُنَزِّلُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ ﴾.
قوله: (خوّفوا الكافرين) أي بعد إعلامهم بالتوحيد. قوله: (بالعذاب) قدره إشارة إلى معمول الإنذار محذوف، وقوله: ﴿ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ ﴾ معمول لمحذوف قدره المفسر بقوله: (وأعلموهم). قوله: ﴿ فَٱتَّقُونِ ﴾ أي امتثلوا أوامري واجتنبوا نواهيّ، في محل نصب على الحال. قوله: ﴿ تَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ أي تنزه عن إشراكهم به غيره. قوله: ﴿ خَلَقَ ٱلإِنْسَانَ ﴾ أي غير آدم. قوله: ﴿ مِن نُّطْفَةٍ ﴾ ﴿ مِن ﴾ لابتداء العاية، وقوله: (إلى أن صيره قوياً شديداً) قدره جواباً عما يقال: إن كونه خصيماً مبيناً لا يكون عقب خلقه من نطفة، بل بعد قوته وشدته. قوله: (في نفي البعث) في للسببية، والمعنى أنه يخاصم ويجادل، بسبب كونه منكراً لبعث. قوله: (قائلاً من يحيي العظام) الخ، أشار بذلك إلى ما روي" أن أبي بن خلف، جاء بالعظم الرميم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أتظن أن الله يحيي هذا بعدما رم؟ قال صلى الله عليه وسلم: " نعم "، ففي هذه الآية رد على هذا الكافر، ومن حذا حذوه. قوله: ﴿ وَٱلأَنْعَامَ خَلَقَهَا ﴾ هذا من جملة أدلة توحيده وتعداد نعمه، وذلك أن الله تعالى لما ذكر خلق السماوات والأرض، أتبعه بذكر خلق الإنسان، ثم بذكر ما يحتاج إليه في ضروراته من أكل ولبس، فذكر الأنعام التي يكون منها ذلك. قوله: (في جملة الناس) أشار بذلك إلى أن الخطاب في ﴿ لَكُمْ ﴾ لقريش، ولو حمل على العموم، كما هو الواقع لاستغنى عن ذلك. قوله: ﴿ فِيهَا دِفْءٌ ﴾ هو بوزن حمل، يطلق على كل ما يستدفأ به، من ملبوس ومأكول. قوله: (وأصوافها) أي وأوبارها. قوله: ﴿ وَمَنَافِعُ ﴾ عطف عام على خاص. قوله: (والدر) أي اللبن، قوله: (والركوب) أي بالنسبة للمجموع. قوله: (للفاصلة) أي لا للحصر، فإن الإنسان قد يأكل من غيرها، وليس منهياً عنه، قال تعالى:﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ ﴾[الأعراف: ٣٢].
قوله: ﴿ وَلَكُمْ فِيهَا ﴾ أي الأنعام. قوله: ﴿ حِينَ تُرِيحُونَ ﴾ قدم الإراحة على التسريح، مع أنه خلاف الواقع، لأن الجمال في الرواح، أعظم منه في وقت التسريح، لأن النعم تقبل من المرعى، مملوءة البطون حافلة الضروع، فيفرح أهلها بها، بخلاف تسريحها إلى المرعى، فإنها تخرج جائعة البطون، ضامرة الضروع، وأكثرها ما تكون هذه الإراحة أيام الربيع، لحسن النعم إذ ذاك. قوله: ﴿ وَتَحْمِلُ ﴾ أي النعم، والمراد بها خصوص الإبل. قوله: ﴿ أَثْقَالَكُمْ ﴾ جمع ثقل، وهو ما يحتاج إليه من آلات السفر والأحمال الثقيلة. قوله: ﴿ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ ﴾ الخ، المراد أي بلد بعيد، مكة أو غيرها، وقال ابن عباس: أريد بها اليمن ومصر والشام، وقال عكرمة: مكة، والظاهر أنه عام لكل بلد بعيد كما علمت. قوله: ﴿ إِلاَّ بِشِقِّ ٱلأَنفُسِ ﴾ أي تعبها. قوله: ﴿ وَٱلْخَيْلَ ﴾ معطوف على﴿ وَٱلأَنْعَامَ ﴾[النحل: ٥] ولذا قدر المفسر (خلق). قوله: ﴿ وَٱلْبِغَالَ ﴾ جمع بغل، وهو المتولد بين الخيل والحمير. قوله: (مفعول له) أي لأجله، وجر الأول باللام لأن الفاعل مختلف، ففاعل الخلق هو الله، وفاعل الركوب المخلوق. قوله: (بهما) أي الركوب والزينة. قوله: (لا ينافي خلقهما لغير ذلك) أي فلا يفيد الحصر في الركوب والزينة، بل خلقها للأكل أيضاً، وبذلك أخذ الشافعي، وأما عند الأئمة الثلاثة، فأكل الخيل حرام كباقي الدواب، استدلوا بأن منفعة الأكل، أعظم من منفعة الركوب، فلو كان أكل لحوم الخيل جائزاً، لكان أولى بالذكر، فلما لم يذكره الله، علمنا تحريمه، ولأن الله خص الأنعام بالأكل حيث قال:﴿ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾[النحل: ٥]، وخص هذه بالركوب فقال: ﴿ لِتَرْكَبُوهَا ﴾، فعلمنا أنها مخلوقة للركوب لا للأكل، وفي الحقيقة الآية ليست صريحة، في نهي ولا جواز، وإنما مستند الأئمة السنة، فمن حرم لحم الخيل، حمل الحديث الصحيح على النسخ أو الاضطرار، ومن جوزها قال: الأصل عدم الاضطرار والنسخ. قوله: (بحديث الصحيحين) أي وهو ما روي عن أسماء بنت أبي بكر الصديق قالت: نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً ونحن بالمدينة فأكلناه. قوله: (من الأشياء العجيبة) أي كالطيور والسباع والوحوش وغيرها من الحيوانات. قوله: ﴿ وَعَلَىٰ ٱللَّهِ ﴾ أي تفضلاً وإحساناً. قوله: (أي بيان الطريق المستقيم) أي طريق الهدى والحق وتبيينها، بإرسال الرسل وإنزال الكتب. قوله: ﴿ وَمِنْهَا جَآئِرٌ ﴾ أي سبيل جائر، وهو سبيل الضلال والكفر. والجور العدول عن الاستقامة. قوله: ﴿ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ أي وصلكم إلى الطريق المستقيم بأجمعكم، ولكنه لم يشأ ذلك، فلم يحصل لما سبق في عمله، أن الجنة لها أهل، وأن النار لها أهل.
قوله: ﴿ هُوَ ٱلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَآءً ﴾ لما ذكر سبحانه وتعالى منته على بني آدم بخلق الحيوانات الخاصة بهم، أعقبه بذكر نعمه عامة لكل الحيوانات، آدميين وغيرهم، وهي إنزال الماء من السماء، الناشىء عنه النباتات، التي ينتفع بها جميع الحيوانات. قوله: ﴿ لَّكُم ﴾ الجار والمجرور صفة لماء، وقوله: ﴿ مِّنْهُ شَرَابٌ ﴾ مبتدأ وخبر. إن قلت: إنه ليس خاصاً ببني آدم، بل هو عام لكل حيوان. أجيب: بأن بني آدم هم المقصودون بالذات، وغيرهم بالتبع، والضمير في ﴿ مِّنْهُ ﴾ عائد على الماء، أي تشربون من ماء السماء. إن قلت: إن غالب الشرب، يكون من السحاب والأنهار والعيون، وهي بالأرض. أجيب: بأن أصل الماء الكائن في الأرض من السماء، لقوله تعالى﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّٰهُ فِي ٱلأَرْضِ ﴾[المؤمنون: ١٨].
قوله: ﴿ وَمِنْهُ شَجَرٌ ﴾ المراد بالشجر هنا مطلق النبات، سواء كان له ساق أم لا. قوله: (ينبت بسببه) أشار بذلك إلى أن من الثانية للسببية، وأما الأولى فهي ابتدائية. قوله: ﴿ يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ ٱلزَّرْعَ ﴾ المراد به الحب الذي يقتات، وقدمه لأن به قوام البدن، وثنى بالزيتون لأنه إدام ودهن، وثلث بذكر النخيل لأنه غذاء وتفكه، وأخر الأعناب لأنها تشبه النخيل في ذلك. قوله: ﴿ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ ﴾ عطف عام على خاص. قوله: (المذكور) أي من إنزال الماء وإنبات النبات قوله: ﴿ لآيَةً ﴾ ذكر لفظ الآية في هذه السورة سبع مرات، خمس بالأفراد، واثنتان بالجمع. والحكمة في ذلك: أن ما جاء بلفظ الأفراد. باعتبار المعلول الذي هو وحدانية الحق، وما جاء بلفظ الجمع، فباعتبار الدليل، فإن في كل شيء آية تدل على أنه الواحد. قوله: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيلَ وَٱلْنَّهَارَ ﴾ لما ذكر النعم الكائنة في العالم السفلي، أعقبه بذكر النعم الكائنة في العالم العلوي، وكل ذلك لنفع العالم وتمام نظامه. قوله: (بالنصب) أي ففي الشمس والقمر والنجوم ومسخرات، قراءتان سبعيتان، الرفع والنصب. قوله: ﴿ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ﴾ أي مذللات بإرادته، فهو سبحانه وتعالى، المؤثر في العالم العلوي والسفلي، فلا تتحرك ذرة في الدنيا، ولا تسكن إلا بتأثير الله فيها، وإنما هذه الأشياء أسباب عادية، يوجد النفع عندها لا بها، ففي هذه الآية رد على القائلين: إن العالم العلوي، هو المؤثر في العالم السفلي، بطبع أو علة. قوله: (بالنصب حال) أي مؤكدة لعاملها، وهو سخر. قوله: ﴿ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ عبر هنا بالعقل، إشارة إلى أن العالم العلوي مغيب عن الأبصار، فيحتاج المتأمل فيه لمزيد العقل بخلاف العالم السفلي فهو مشاهد، فيكفي فيه أدنى تأمل وتعقل، والأسلم أن يقال: إن التغاير في هذا وما قبله وما بعده، تفنن في التعبير، دفعاً للثقل، وإشارة إلى أن من اتصف بواحد منها، فقد اتصف بجميعها.
قوله: ﴿ وَمَا ذَرَأَ ﴾ معطوف على﴿ ٱلَّيلَ ﴾[النحل: ١٢]، ولذا قدر المفسر الفعل. قوله: (من الحيوان والنبات) فهي مذللة لبني آدم، ينتفعون بها ولا يعجزون عنها. قوله: (وغير ذلك) أي كالأحجار والمعادن والأنهار. قوله: ﴿ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ﴾ أي وطعومه. قوله: ﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلْبَحْرَ ﴾ أي عذباً وملحاً. قوله: (لركوبه) أي بالسفن والعوم. قوله: (والغوص) أي النزول فيه. قوله: ﴿ لَحْماً طَرِيّاً ﴾ وصف بالطراوة لأنه يسرع إليه الفساد، وحكمة ذلك، انتفاع الناس به، وعدم عزته عن الفقراء، وإلا فلو كان يمكث من غير فساد، لادّخره الأغنياء، وحرموا منه الفقراء. قوله: ﴿ وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ ﴾ أي البحر وهو الملح فقط. قوله: (والمرجان) هو عروق حمر تطلع من البحر كأصابع الكف. قوله: (عطف على لـتأكلوا) أي وما بينهما اعتراض. قوله: (بالتجارة) أي فيسافرون لها في البحر، ويقدمون في أقل ومن. قوله: ﴿ أَن تَمِيدَ ﴾ قدر المفسر " لا " ليصح الكلام، لأن جعل الجبال في الأرض، لأجل عدم الميد، لا لأجل حصوله، والمراد بالميد، الميل والتحرك والاضطراب. قوله: (طرقاً) أي في الجبال. قوله: ﴿ وَعَلامَاتٍ ﴾ أي أمارات. قوله: ﴿ وَبِٱلنَّجْمِ ﴾ المراد به الثريا وبنات نعش والفرقدان والجدي، فيهتدي بها إلى الطريق والقبلة. قوله: ﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ ﴾ أي أتسوون بين الخالق لتلك الأشياء العظيمة والنعم الفخيمة، وبين من لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فضلاً عن غيره، والكلام على القلب، والتقدير: أفمن لا يخلق كمن يخلق؟ لأنهم يشبهون من لا يخلق بمن يخلق في العبادة، وإنما أتى العبارة مقلوبة، زيادة في التشنيع عليهم. قوله: (لا) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري. قوله: ﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ ﴾ هذا تذكير إجمالي، بعد تفصيل بعض النعم. قوله: (حيث ينعم عليكم مع تقصيركم) أي ولم يقطع نعمة عنكم بسبب ذلك، بل وسعها عليكم.
قوله: ﴿ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ﴾ أي ما تخفون من العقائد والأعمال، وما تظهرونه من ذلك. قوله: (بالياء والتاء) فهما قراءتان سبعيتان في قوله: ﴿ يَدْعُونَ ﴾ فقط، وأما ﴿ تُسِرُّونَ ﴾ و ﴿ تُعْلِنُونَ ﴾ فبالتاء الفوقية سبعية، والياء التحتية شاذة. قوله: ﴿ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ ليس تكراراً مع قوله:﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ﴾[النحل: ١٧] لأنه أولاً أفاد أنهم لا يخلقون شيئاً، وهنا أفاد أنهم مع كونهم لم يخلقوا شيئاً، هم مخلوقون، ففيه زيادة فائدة. قوله: (خبر ثان) أي والأول قوله: ﴿ يُخْلَقُونَ ﴾ وقوله: ﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ خبر ثالث. قوله: (أي الخلق) ويصح أن يعود الضمير على الأصنام، والمعنى أن الأصنام لا تشعر متى يبعثها الله، قال ابن عباس: إن الله تعالى يبعث الأصنام، لها أرواح ومعها شياطينها، فتتبرأ من عابديها، فيأمر الله بالكل إلى النار. قوله: ﴿ إِلٰهُكُمْ إِلٰهٌ وَاحِدٌ ﴾ هذا نتيجة ما قبله، أي فحيث ثبت أنه الخالق لتلك الأشياء المتقدم ذكرها، فقد تقرر أنه المعبود المتصف بالوحدة في الذات والصفات والأفعال، فلا شريك له فيها قوله: ﴿ فَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ ﴾ أي لا يصدقون بها، وما يحصل فيها من بعث وحساب وجزاء وهذا نتيجة قوله:﴿ أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾[النحل: ١] وحينئذ فيكون المعنى: أتى أمر الله، فآمنوا وصدقوا أخبارنا ولا تنكروها، فالذين لا يؤمنون الخ. قوله: (متكبرون) أشار بذلك إلى أن السين مزيدة للتوكيد. قوله: ﴿ لاَ جَرَمَ ﴾ تقدم أن فيها ثلاثة أوجه، أحسنها أن ﴿ لاَ ﴾ نافية، ومنفيها محذوف، و ﴿ جَرَمَ ﴾ فعل ماض بمعنى حق وثبت، وأن وما دخلت عليه في محل رفع فاعل، وحينئذ يصير المعنى: لا عبرة بإنكار الكفار واستكبارهم، بل حق وثبت، علم الله بما يسرونه وما يعلنونه، وعلى هذا فقول المفسر (حقاً) مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره حق حقاً. قوله: (بمعنى أنه يعاقبهم) روي عن الحسين بن علي أنه مر بمساكين قد قدموا كسراً لهم وهم يأكلون فقالوا: الغذاء يا أبا عبدالله، فنزل وجلس معهم وقال: ﴿ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْتَكْبِرِينَ ﴾ ثم أكل، فلما فرغوا قال: قد أجبتكم فأجيبوني، فقاموا معه إلى منزله، فأطعمهم وسقاهم وأعطاهم فانصرفوا، وفي الحديث" إن المتكبرين يحشرون أمثال الذر يوم القيامة، تطؤهم الناس بأقدامهم لتكبرهم "قوله: (ونزل في النضر بن الحرث) أي في شأنه وسببه. وكان عنده كتب التواريخ، ويزعم أن حديثه أحسن مما أنزل على محمد.
قوله: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ﴾ القائل يحتمل أن يكون المسلمين، أو الوافد عليهم، أو بعضهم لبعض، على سبيل التهكم، فإن الكفار لا يقرون بأنه منزل من عند الله. قوله: ﴿ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ ﴾ جمع أسطورة، كأحاديث وأكاذيب وأعاجيب، جمع أحدوثة. قوله: (إضلالاً للناس) علة للقول. قوله: (في عاقبة الأمر) أشار بذلك إلى أن اللام في ﴿ لِيَحْمِلُواْ ﴾ لام العاقبة والصيرورة، والمعنى أنهم لما وصفوا القرآن، بكونه أساطير الأولين، كان عاقبتهم بذلك حملهم ذنوبهم. قوله: ﴿ كَامِلَةً ﴾ أي وبلاياهم التي أصابتهم في الدنيا، لا تكفر عنهم شيئاً يوم القيامة، بل يعاقبون على جميع أوزارهم، بخلاف بلايا المؤمنين، فإنها تكفير لذنوبهم، أو رفع درجات لهم، فالبلايا للمجرمين عقوبات، وللأبرار مكفرات، وللعارفين درجات، فقد يكون السابق في علمه تعالى، أن العارف لا ينال تلك الدرجة إلا بمنحة، فيوصلها الله له لينال تلك الدرجة. قوله: ﴿ وَمِنْ أَوْزَارِ ٱلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ ﴾ أي ويحصل للرؤساء الذين أضلوا غيرهم، بعض أوزار الأتباع، وهو السبب، هذا ما قرره المفسر تبعاً للبيضاوي، وهو خلاف التحقيق، بل التحقيق أن ﴿ وَمِنْ ﴾ بمعنى مثل، والمعنى أن للرؤساء مثل أوزار الاتباع، ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم" من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من يتبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من يتبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً ". قوله: ﴿ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ إما حال من المفعول، أي يضلون الأتباع، حال كون الأتباع، غير عالمين بأن الرؤساء في ضلال، بل يعتقدون أنهم على خير حيث قلدوهم، أو من الفاعل، والمعنى يضلون غيرهم، حال كونهم غير عالمين بما يستحقونه من العذاب، في مقابلة ضلالهم وإضلالهم. قوله: (فاشتركوا في الإثم) أي العقوبة، فعقوبة المتبوعين بضلالهم وإضلالهم، وعقوبة التابعين بالمطاوعة والتقليد، ولا يعذرون بالجهل، قوله: ﴿ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ ﴾ ﴿ سَآءَ ﴾ فعل ماض لإنشاء الذم كبئس، و ﴿ مَا ﴾ اسم موصول و ﴿ يَزِرُونَ ﴾ صلته أو نكرة موصوفة، و ﴿ يَزِرُونَ ﴾ صفة لها، والعائد على كل محذوف، والتقدير يزرونه، والمخصوص بالذم محذوف، كما أشار له المفسر بقوله: (حملهم) هذا.
قوله: ﴿ قَدْ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ هذا تسلية له صلى الله عليه وسلم. قوله: (وهو نمروذ) بضم النون وبالذال المعجمة، وهو ابن كنعان، وكان يدعي الألوهية، وكان أعظم أهل الأرض تجبراً. قوله: (بنى صرحاً طويلاً) أي ببابل، وكان طوله لجهة السماء خمسة آلاف ذراع، وقيل كان طوله فرسخين قوله: (الأساس) بكسر الهمزة جمع أس بضمها، كرماح جمع رمح، أو فتحها جمع أسس بضمتين، كعنق وأعناق. قوله: (فأرسل عليه الريح والزلزلة فهدمتها) أي فقصفته وألقت رأسه في البحر، وخر عليهم الباقي فأهلكهم وهم تحته. قوله: ﴿ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ ٱلسَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ ﴾ أي سقط ونزل عليهم. قوله: (أي وهم تحته) تفسير لقوله: ﴿ مِن فَوْقِهِمْ ﴾ ودفع بقوله: ﴿ مِن فَوْقِهِمْ ﴾ ما يتوهم أنهم لم يكونوا تحته. قوله: (وقيل هذا تمثيل لإفساد ما أبرموه) أي فإن الآية محمولة على العموم، وليس هناك بناء حقيقة، بل هو مثل ضربه الله للذين مكروا بأنبياء الله، فأهلكهم الله بمكرهم، فمثلهم بقوم بنوا بنياناً شديداً، فانهدم ذلك البنيان، وسقط عليهم فأهلكهم. قوله: (على لسان الملائكة) مرور منه على القول بأن الله لا يكلم الكفار، وقيل إن الله يكلمهم، قوله تعالى﴿ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ﴾[البقرة: ١٧٤] أي كلام رحمة وتعظيم. قوله: ﴿ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ ﴾ أي ما لهم لا يحضرون معكم، ليدفعوا معكم ما نزل بكم من العذاب. قوله: ﴿ تُشَاقُّونَ ﴾ بفتح النون وكسرها قراءتان سبعيتان، وقرىء شذوذاً بكسر النون مع التشديد، والأصل تشاقونني فأدغم. قوله: (تخالفون المؤمنين) أي تنازعونهم في شأنهم. قوله: ﴿ قَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ ﴾ أي وهم في الموقف. قوله: (شماتة بهم) أي فرحاً بما حصل لهم، جزاء لاستهزائهم بالمؤمنين في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة، وظهر أهل الحق، وأكرموا بأنواع الكرامات. وعذب أهل الباطل بأنواع العذاب، فعند ذلك يفرح المؤمنون بذلك، ويقول رؤساء المؤمنين: إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين. قوله: (بالياء والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان، لكنه مع الياء يقرأ بالإمالة، و ﴿ ٱلْمَلائِكَةُ ﴾ فاعل، والمراد بهم عزرائيل وأعوانه، وإنما أنث الفعل على قراءة التاء، لأن لفظ الجمع مؤنث. قوله: ﴿ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوۤءٍ ﴾ إنما أنكروا ذلك، رجاء أن يقبلوا. قوله: (ويقال لهم) أي عند خروج أرواحهم، وحينئذ فيكون المراد بالدخول، شهود أرواحهم دار العذاب، أو يوم القيامة؛ والدخول على حقيقته. قوله: ﴿ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ ﴾ أي طبقاتها، والمعنى ليدخل كل صنف الطبقة التي أعدت له. قوله: ﴿ فَلَبِئْسَ مَثْوَى ٱلْمُتَكَبِّرِينَ ﴾ أي مقامهم ومنزلهم، والمخصوص بالذم محذوف تقديره هو.
قوله: ﴿ وَقِيلَ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ ﴾ مقابل قوله:﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ ﴾[النحل: ٢٤] والقائل وفود العرب القادمين على مكة للبحث عن حال القرآن وحال محمد، فكانوا إذا صادفوا المسلمين سألوهم وقالوا لهم ﴿ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً ﴾، وإذا صادفوا الكفار سألوهم. قوله:﴿ مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ ﴾[النحل: ٢٤] فكل إناء بالذي فيه ينضح. قوله: ﴿ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ﴾ ﴿ مَاذَا ﴾ بتمامها اسم استفهام مفعول مقدم لأنزل، وحينئذ فتكون الجملة فعلية، وهو أنسب ليطابق الجواب السؤال، فإن الجواب جملة فعلية أيضاً، لأن ﴿ خَيْراً ﴾ مفعول بفعل محذوف، تقديره أنزل خيراً، بخلاف ما تقدم، فإن ما اسم استفهام، وذا اسم موصول، و ﴿ أَنْزَلَ ﴾ صلته، فالجملة اسمية لمطابقة الجواب، فإنه مرفوع باتفاق السبع، وما هنا منصوب باتفاق السبع، والحكمة في رفع الأول ونصب الثاني، الفرق بين جواب المقر، حيث طابق بين السؤال والجواب، فجعلهما من جنس واحد، وجواب الجاحد حيث عدل عن السؤال فقال: هو أساطير الأولين، وليس من الإنزال في شيء. قوله: ﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ﴾ هذا بيان لقوله: ﴿ خَيْراً ﴾ كأنهم قالوا: أنزل ربنا من أحسن في الدنيا بالطاعة، فله حسنة في الدنيا، وحسنة في الآخرة. قوله: (حياة طيبة) أي وهي تختلف باختلاف الاقبال على الله وعدمه، فكلما زاد العبد في الاقبال على ربه طابت حياته، فيزداد ترقياً في القرب والمحبة والعلوم والمعارف والمشاهدة، وغير ذلك من الكرامات التي تحصل له في الدنيا، وما خفي كان أعظم، قال تعالى﴿ لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فِي ٱلْحَياةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ ﴾[يونس: ٦٤].
قوله: ﴿ وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ ﴾ اللام موطئة لقسم محذوف، أو للابتداء مؤكدة. قوله: ﴿ خَيْرٌ ﴾ (من الدنيا وما فيها) أي ولو حصل له في الدنيا، غاية الرفعة والعز واسم التفضيل على بابه، إن أعطي العبد النعيم في الجنة، وليس على بابه إن لم يكن من أهل الجنة، إذ لا خير في لذة بعدها النار، بل كل من عظم تنعيمه في الدنيا، ولم يكن مرضياً عليه، فتنعيمه زيادة في عذابه، قال تعالى:﴿ يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ﴾[التوبة: ٣٥].
وقال تعالى:﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ ٱلنَّعِيمِ ﴾[التكاثر: ٨].
قوله: (قال تعالى) إنما قال ذلك، إشارة إلى أن جواب المؤمنين تم بقوله: ﴿ وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ ﴾، وقوله: ﴿ وَلَنِعْمَ دَارُ ٱلْمُتَّقِينَ ﴾ ثناء ومدح من الله لدار الآخرة التي هي خير. قوله: (هي) قدره إشارة إلى أن المخصوص بالمدح محذوف.
قوله: ﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ ﴾ أي إقامة لا يطرأ عليها زوال ولا فناء، بل هي دائمة بأهلها على سبيل التأييد. قوله: ﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ ﴾ أي من تحت قصورها وغرفها، قال تعالى:﴿ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ ﴾[الزمر: ٢٠] أو المراد بالأنهار المذكورة في قوله تعالى:﴿ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ ﴾[محمد: ١٥] الخ. قوله: ﴿ مَا يَشَآؤونَ ﴾ أي يطلبون مما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين. قوله: ﴿ كَذَلِكَ ﴾ الكاف بمعنى مثل، نعت لمصدر محذوف معمول ليجزي، والتقدير يجزي الله المتقين جزاء مثل ذلك الجزاء. قوله: ﴿ ٱلْمُتَّقِينَ ﴾ أي الذين اجتنبوا الشرك، وأل في المتقين للاستغراق. قوله: (نعت) أي للمتقين. قوله: ﴿ تَتَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ﴾ أي تقبض أرواحهم. قوله: ﴿ طَيِّبِينَ ﴾ حال من ضمير ﴿ تَتَوَفَّاهُمُ ﴾ وحينئذ تبشرهم الملائكة عند قبض أرواحهم، بالرضوان والجنة والكرامة، فيحصل لهم عند ذلك السرور والفرح، فيسهل عليهم قبض أرواحهم، ويطيب لهم الموت على هذه الحالة، فلو خير المؤمن، بين الرجوع إلى الدنيا، ويعطى جميع ما يشتهي فيها، وبين الموت، لاختار الموت، ولا يرجع إلى الدنيا، لشهوده حقارة الدنيا، بالنسبة لما رآه مهيأ له. قوله: (عند الموت)، أي لما ورد" إذا أشرف العبد المؤمن على الموت، جاءه ملك قال له: السلام عليك يا ولي الله، الله يقرأ عليك السلام ويبشرك بالجنة "قوله: (في الآخرة) هذا أحد قولين، وقيل إن القول المذكور يكون عند خروج الروح، ويكون الأمر بالدخول للروح دون الجسم، ويشهد له قوله تعالى﴿ يٰأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ * ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ ﴾[الفجر: ٢٧-٢٨] الآية، بناء على أن هذه المقالة، تقال للمؤمن عند خروج روحه. قوله: ﴿ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ الباء سببية، وما اسم موصول، والعائد محذوف، والتقدير بسبب الذي كنتم تعملونه. قوله: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ ﴾ الاستفهام إناري بمعنى النفي، ولذا فسره بما النافية، والمعنى لا ينتظر الكفار إلا أحد أمرين: إما نزول الموت بهم، أو حلول العذاب، وأو مانعة خلو تجوز الجمع. قوله: (بالتاء والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (أو القيامة) أولحكاية الخلاف. قوله: ﴿ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ ﴾ مرتب على محذوف قدره المفسر بقوله: (كذبوا رسلهم فأهلكوا). قوله: ﴿ فَأَصَابَهُمْ ﴾ معطوف على فعل ﴿ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ وما بينهما اعتراض. قوله: (أي جزاؤها) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف، والأصل. فأصابهم جزاء سيئات ما عملوا قوله: ﴿ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ أي جزاء الذي كانوا به يستهزئون.
قوله: ﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ ﴾ الخ، هذا كلام صحيح في حد ذاته، لكنهم توصلوا به إلى أمر باطل، وحاصل ذلك أنهم قالوا: لو شاء الله عدم عبادتنا لغيره لحصل، لكن وقعت منا العبادة لغيره، فهي بمشيئته، فهو راض بها، واعتقدوا أن الإرادة لازمة للرضا في حقه تعالى، وهو اعتقاد باطل، وحاصل الرد عليهم أن يقال: إن الإرادة لا تستلزم الرضا، بل قد يريد شيئاً ولا يرضى به، لتنزهه عن الأغراض في الأحكام والأفعال، فلا تقاس أفعال الله على أفعال العباد، وذلك لأن ما يغضب الله، لا يصل له منه ضرر، وما يرضيه لا يصل له منه نفع، بل معنى ذلك، أنه يعاقب على ما يغضبه، ويثيب على ما يرضيه، بخلاف العباد، فرضاهم لازم لإرادتهم، لأن ما يرضيهم يحصل لهم به النفع، فهو واقع منهم بإرادتهم، وما يغضبهم يحصل لهم به الضرر، فهو غير واقع بإرادتهم، والكفار قد سووا بين الخالق والمخلوق، فقالوا ما قالوا، والمقصود من هذه الشبهة، إبطال إرسال الرسل وجعله عبثاً، تعالى الله عن ذلك. قوله: ﴿ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ ﴾ من الأولى ابتدائية، والثانية زائدة. قوله: (فهو راض به) هذا هو محط شبهتهم التي رتبوا ما ذكر عليها. قوله: (الإبلاغ البين) أشار بذلك إلى أن البلاغ مصدر بمعنى الإبلاغ. قوله: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً ﴾ أي فلا خصوصية لك. قوله: (أي بأن) ﴿ ٱعْبُدُواْ ﴾ أشار بذلك إلى أن مصدرية، ويصح جعلها تفسيرية، والضابط موجود لتضمن البعث معنى القول. قوله: ﴿ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّاغُوتَ ﴾ أي تباعدوا عن عبادة الطاغوت، والمراد بالطاغوت، قيل كل ما يعبد من دون الله، وقيل الشيطان. قوله: (فلم يؤمن) أفرد باعتبار لفظ من، وفي نسخة فلم يؤمنوا بالجمع مراعاة للمعنى. قوله: ﴿ فَسِيرُواْ ﴾ أمر لأهل مكة بالسير، والنظر في أحوال من تقدمهم. قوله: ﴿ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ ﴾ أي مآلهم وآخر أمرهم على أي كيفية. قوله: (رسلهم) قدره إشارة إلى أن قوله: ﴿ ٱلْمُكَذِّبِينَ ﴾ مفعوله محذوف. قوله: (وقد أضلهم الله) الجملة حالية. قوله: (لا تقدر على ذلك) هذا هو جواب الشرك، وقوله: ﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ ﴾ الخ، تعليل للجواب. قوله: ﴿ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ ﴾ الجملة خبر إن، والرابط ضمير مقدر في يضل، تقديره من يضله، والظاهر أن هذا الرابط هو فاعل يضل العائد على الله، وأما الضمير المفعول الذي هو الهاء، فإنه عائد على من ولا ربط فيه. قوله: (بالبناء للفاعل والمفعول) أي فهما قراءتان سبعيتان، والمعنى أن من أراد الله إضلاله، فلا تمكن هدايته، فلا تتعب نفسك في هداه. إن قلت: إن التكليف لمن أراد الله عدم هداه بالهدى تكليف بالمستحيل. أجيب: بأنه لا يسأل عما يفعل. قوله: ﴿ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ﴾ أي من يريد إضلاله، لا مانع له من عذاب الله إذا نزل به.
قوله: ﴿ وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ ﴾ أي حلفوا به، وقوله: ﴿ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ﴾ أي لأنهم كانوا يحلفون بآبائهم وآلهتهم، فإذا كان الأمر عظيماً حلفوا بالله. قوله: (أي غاية اجتهادهم) أي فالمراد بالجهد بالفتح الطاقة، فقولهم الجهد بالفتح المشقة، وبالضم الطاقة بحسب الغالب. قوله: (قال تعالى) أي رداً لمقالتهم. قوله: (مصدران مؤكدان) أي للجملة المقدرة بعد ﴿ بَلَىٰ ﴾.
قوله: (أي وعد ذلك) الخ، الوضح أن يقول أي وعد ذلك وعداً، وحقه حقاً. قوله: ﴿ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ (ذلك) أي أنهم يبعثون لجهلهم. قوله: (المقدر) أي بعد ﴿ بَلَىٰ ﴾.
قوله: (من أمر الدين) أي وهو البعث. قوله: (بتعذيبهم) إلخ، متعلق ﴿ لِيُبَيِّنَ ﴾ والمعنى ليميز لهم الأمر الذي يختلفون فيه، بإثابة المطيع، وتعذيب العاصي. قوله: ﴿ وَلِيَعْلَمَ ﴾ معطوف على ﴿ لِيُبَيِّنَ ﴾.
قوله: ﴿ لِشَيْءٍ ﴾ تسميته شيئاً باعتبار ما يؤول إليه، وإلا فالمعدوم لا يسمى شيئاً. قوله: (والآية لتقرير القدرة على البعث) أي فهي رد على من قال: إن الله لا يبعث من يموت، والأمر كناية عن سرعة الإيجاد عند تعلق الإرادة بالإيجاد، وليس ثم كاف ولا نون، وإلا لزم إما خطاب المعدوم حال عدمه، وهو لا يعقل، أو تحصيل الحاصل إن كان الخطاب له بعد وجوده، وكلا الأمرين محال. قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ ﴾ أي انتقلوا من مكة للمدينة. قوله: (لإقامة دينه) أشار بذلك إلى أن في بمعنى اللام، والكلام على حذف مضافين. قوله: ﴿ أَكْبَرُ ﴾ أي من دار الدنيا. قوله: (أو المتخلفون) تفسير ثان للضمير في ﴿ يَعْلَمُونَ ﴾.
قوله: (لوافقوهم) جواب الشرط. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ ﴾ خبر لمحذوف قدره المفسر بقوله: (هم). قوله: ﴿ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ أي يثقون به، ويفوضون أمورهم إليه، والتعبير بالمضارع لاستحضار الحال الماضية، إشارة إلى أن توكلهم كان أعظم توكل، وذلك أنهم خرجوا عن أموالهم وأنفسهم في مرضاة ربهم، ورضوا بالذل بدل العز، وبالفقر بدل الغنى، فجازاهم الله بإبدال الذل عزاً والفقر غنى، فصاروا سادات الناس في الدنيا والآخرة، قال البوصيري رضي الله عنه: ما لموسى ولا لعيسى حواريو   ن في فضلهم ولا نقباءقوله: (فيرزقهم الله من حيث لا يحتسبون) نتيجة التوكل، وليست معنى التوكل.
قوله: ﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً ﴾ سبب نزولها: أن كفار مكة قالوا: ما كان الله أن يرسل رسولاً من الرجال، بل اللائق أن يرسل ملكاً. قوله: ﴿ فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ ﴾ جواب شرط مقدر دل عليه. قوله: ﴿ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ تقديره: إن شككتم في ذلك فاسألوا. قوله: ﴿ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ أي على سبيل الفرض والتقدير، وإلا فهم عالمون بذلك، وإنما كفرهم عناد. قوله: (أقرب من تصديق المؤمنين بمحمد) أي لأن كفار مكة، كانوا يعتقدون أن أهل الكتاب عندهم علم الكتب القديمة، فلا بد أن أرسل الله لهم رسلاً، كموسى وعيسى وداود وسليمان وغيرهم، وكانوا بشراً، فإذا سألوهم، فلا بد أن يجيبوا بأن الرسل الذين أرسلوا إليهم كانوا بشراً، فحينئذ يزول عن قلوبهم الريب والشك. قوله: (متعلق بمحذوف) أي جواباً لسؤال مقدر، كأنه قال: لم أرسلوا؟ فقيل: أرسلوا بالبينات والزبر، وهذا أحسن ما قيل هنا. قوله: (القرآن) إنما سمي القرآن ذكراً، لأنه مشتمل على المواعظ التي بها يتذكر العاقل، ويتنبه الغافل. قوله: ﴿ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾ أي ما أجمل من الأحكام، فبيان المجمل من القرآن، تكفل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحاديثه كالشرح والتفسير للقرآن. قوله: ﴿ أَفَأَمِنَ ٱلَّذِينَ ﴾ الهمزة داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره أعموا ولم يتفكروا، فأمن الذين الخ. قوله: ﴿ ٱلسَّيِّئَاتِ ﴾ صفة لمقدر محذوف، قدره المفسر بقوله: (المكرات) بفتح الكاف جمع مكرة بسكونها المرة من المكر. قوله: ﴿ أَن يَخْسِفَ ﴾ ﴿ أَن ﴾ وما دخلت عليه في تأويل مصدر معمول لأمن، والتقدير أفأمنوا خسف الله بهم الأرض. قوله: (وقد أهلكوا ببدر) أي أهلك صناديدهم، وهم الذين اجتمعوا في دار الندوة. قوله: (يقدروا ذلك) أي الهلاك، أي يعتقدوه ويظنوه، وهو بدل من يكونوا، والمبدل من المجزوم مجزوم، أو حذفت النون تخفيفاً، قوله: ﴿ فِي تَقَلُّبِهِمْ ﴾ أي حال كونهم منقلبين في أسفارهم.
قوله: ﴿ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰ تَخَوُّفٍ ﴾ أي يهلكهم في حال خوفهم، أو المراد بالتخوف التنقص كما قال المفسر من تخوفته إذا انتقصته، روي أن عمر رضي الله عنه قال على المنبر: ما تقولون فيها؟ فسكتوا، فقام شيخ من هذيل فقال: هذه لغتنا التخوف التنقص، فقال: هل تعرف العرب ذلك في اشعارها؟ قال: نعم، قال شاعرنا أبو بكر يصف ناقته: تخوف الرحل منها تامكا قردا   كما تخوف عود التبعة السفنفقال عمر: عليكم بديوانكم لا تضلوا، قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية، فإنه فيه تفسير كتابكم، ومعاني كلامكم، والرحل بالحاء المهملة رحل الناقة، والتامك بالفوقية السنام، والقرد بفتح القاف وكسر الراء، هو المرتفع أو المتراكم، والنبع شجر تتخذ منه القسي، والسفن بفتحتين وهو المبرد أو القدوم، والمعنى أن الرحل أثر في سنام تلك الناقة، فأكله وانتقصه كما ينقص المبرد أو القدوم العود من الشجر. قوله: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ ﴾ الهمزة داخلة على محذوف، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير أعموا ولم يروا، والاستفهام للتوبيخ. قوله: (له ظل) خرج الملك والجن. قوله: ﴿ يَتَفَيَّؤُاْ ﴾ أي تنتقل من جانب إلى آخر، واختلف في الفيء، فقيل: هو مطلق الظل قبل الزوال أو بعده، وهو الموافق لمعنى الآية هنا، وقيل: الظل ما كان قبل الزوال، والفيء ما كان بعده، وقيل غير ذلك. قوله: ﴿ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَٱلْشَّمَآئِلِ ﴾ أي يمين المستقبل للقبلة وشماله، وذلك أن الشمس إذا طلعت من المشرق، وأنت متوجه إلى القبلة، كان ظلك عن يمينك، فإذا ارتفعت واستوت في وسط السماء، كان ظلك خلفك، فإذا مالت إلى الغروب، كان ظلك عن يسارك، وأفرد اليمين، وجمع الشمال تفنناً. قوله: (أي عن جانبهما) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف. قوله: (حال) أي من قوله: ﴿ ظِلاَلُهُ ﴾.
قوله: (بما يراد منهم) أي من طول وقصر وتحول من جانب لآخر. قوله: ﴿ وَهُمْ دَاخِرُونَ ﴾ الجملة حالية من الضمير في ﴿ سُجَّداً ﴾.
قوله: (نزلوا) أي في جمعهم بالواو والنون كالعقلاء، وذلك لاتصافها بالطاعة والانقياد لله، وذلك من وصف العقلاء، فجمعت بالواو والنون. قوله: ﴿ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾ أي طوعاً وكرهاً، فسجود الملائكة وغير العاقل طوعاً فقط، وسجود الآدميين والجن طوعاً من مؤمنهم، وكرهاً من كافرهم. قوله: (أي يخضع له) أشار بذلك إلى أن المراد بالسجود معناه اللغوي. قوله: ﴿ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ ﴾ عطف على ما في قوله: ﴿ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ ﴾.
قوله: (تفصيلاً) أي تشريفاً وتعظيماً. قوله: (يتكبرون عن عبادته) أي لا يتركون عبادة ربهم، ولا يتكبرون عنها. قوله: (حال من هم) صوابه من ربهم بدليل قوله: (عالياً) الخ، والمعنى يخافون الله حال كونه سبحانه وتعالى مستعلياً عليهم وقاهراً لهم، فالمراد بالفوقية الاستعلاء والقهر لا الجهة، لأنها مستحيلة عليه تعالى.
قوله: ﴿ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ أي فلا يعصون ربهم أبداً، بل هم ممتثلون لأمره مجتنبون لنهيه. قوله: ﴿ وَقَالَ ٱللَّهُ ﴾ أي لعباده. قوله: ﴿ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ ﴾ ﴿ لاَ ﴾ ناهية، و ﴿ تَتَّخِذُواْ ﴾ مجزوم بحذف النون، والواو فاعل، و ﴿ إِلـٰهَيْنِ ﴾ مفعول أول، و ﴿ ٱثْنَيْنِ ﴾ تأكيد له، والمفعول الثاني محذوف تقديره معبوداً، ويعلم من النهي عن اتخاذ اثنين، النهي عن اتخاذ الأكثر بالأولى. قوله: ﴿ إِنَّمَا هُوَ إِلـٰهٌ وَاحِدٌ ﴾ أتى به لإثبات الألوهية والوحدانية، والمعنى أن المعبود لا يكون إلا واحداً، وإلا لم يوجد شيء من العالم، قال تعالى:﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾[الأنبياء: ٢٢] وقال تعالى:﴿ مَا ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ﴾[المؤمنون: ٩١].
قوله: ﴿ فَإيَّايَ فَٱرْهَبُونِ ﴾ إياي مفعول لفعل محذوف، يفسره قوله ارهبون، أي ارهبوا إياي فارهبون، والمعنى لا تخافوا غيري، فإن النفع والضر بيدي، والألوهية وصفي، فلا تخشوا غيري، ولا ترجوا غيري. قوله: (وفيه التفات عن الغيبة) أي إلى التكلم، لأنه أبلغ في التخويف. قوله: ﴿ وَلَهُ مَا فِي ٱلْسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ فيه التفات من المتكلم للغيبة، وهذا دليل على أنه المنفرد بالألوهية والوحدانية، إذ غيره لا يخلو، إما أن يكون في السماوات أو الأرض، وكل بما فيها مملوك لله، فلا يصح ولا يليق اتخاذ غيره إلهاً. قوله: (ملكاً وخلقاً وعبيداً) أي فجميع ما في السماوات والأرض مملوكون مخلوقون له، يتصرف فيهم كيف يشاء. قوله: ﴿ وَلَهُ ٱلدِّينُ ﴾ أي التدين والانقياد لا لغيره، فالطاعة لا تكون إلا لله وحده، وطاعة الرسول والوالدين وأولي الأمر، من طاعة الله لأمره بها. قوله: (والعامل فيه معنى الظرف) أي الاستقرار المفهوم من الجار والمجرور، والمعنى استقر الدين له حال كونه دائماً، وهذا ظاهر على أن ﴿ ٱلدِّينُ ﴾ فاعل بالجار والمجرور، وأما إن جعل الدين مبتدأ مؤخراً، والجار والمجرور خبراً مقدماً، فلا يصح ما قاله المفسر، لأن العامل في الحال، هو العامل في صاحبها، والمبتدأ ليس معمولاً للخبر، وحينئذ فالأولى أن يجعل حالاً من الضمير الكائن في الظرف، والتقدير والدين ثابت له حال كونه واصباً. قوله: ﴿ أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَتَّقُونَ ﴾ الهمزة داخلة على محذوف تقديره أتركتم عبادة الله ومخافته فغير الله تتقون. قوله: (والاستفهام للإنكار) أي والمعنى لا يليق منكم، أي تتقوا غيره، ولا تطيعوا غيره، إلا إذا كان الآمر بذلك هو الله، كطاعة الوالد والرسول، ففي الحقيقة التقوى لله. قوله: ﴿ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ ﴾ أي دنيوية أو أخروية. قوله: (وما شرطية) أي وفعل الشرط محذوف، والتقدير أيما نزل بكم، وقوله: ﴿ فَمِنَ ٱللَّهِ ﴾ جواب الشرط، وقوله: ﴿ مِّن نِّعْمَةٍ ﴾ بيان لما، ويرد عليه أنه لا يحذف فعل الشرط، إلا بعد إن في موضعين: الأول في باب الاشتغال نحو: وإن أحد من المشركين استجارك فأجره. الثاني أن تكون لا النافية تالية، لأن مع وجود ما يدل على الشرط، كقول الشاعر: فطلقها فلست لها بكفء   وإلا يعل مفرقك الحسامفإن لم توجد لا، أو كانت الأداة غير إن، لم يحذف إلا لضرورة، فالأحسن الإعراب الثاني. قوله: (أو موصولة) أي بمعنى الذي، والجار والمجرور متعلق بمحذوف صلة ما، و ﴿ مِّن نِّعْمَةٍ ﴾ بيان لما وهو مبتدأ: وخبره قوله: ﴿ فَمِنَ ٱللَّهِ ﴾ والفاء زائدة في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط، والمعنى أن الله هو مولى النعم لا غيره، وتسمية غيره منعماً، باعتبار أن النعم أجريت على يده، وهو مظهر لها. قوله: ﴿ تَجْأَرُونَ ﴾ من الجؤار بوزن غراب، وهو رفع الصوت بالدعاء، في كشف ما نزل من الضر. قوله: ﴿ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ ٱلضُّرَّ عَنْكُمْ ﴾ أي أزاله بإيصال النفع لكم.
قوله: ﴿ لِيَكْفُرُواْ ﴾ اللام لام كي، وهي متعلقة بيشركون، أو لام العاقبة والصيرورة، أو لام الأمر للتهديد. قوله: (أمر تهديد) أي تخويف. قوله: (عاقبة ذلك) أي وهي الخلود في النار. قوله: (لأنها لا تضر ولا تنفع) أشار بذلك إلى أن مفعول ﴿ يَعْلَمُونَ ﴾ محذوف. قوله: (وهي الأصنام) تفسير لما، والمعنى: ويجعل المشركون للأصنام، التي لا يعلمون منها نفعاً ولا ضراً نصيباً، الخ. قوله: (من الحرث) بيان لما، والمراد بالحرث الزرع. قوله: (بقولهم) متعلق بيجعلون. قوله: (وفيه التفات عن الغيبة) أي لزيادة التوبيخ عليهم. قوله: (بقولهم الملائكة بنات الله) أي وليس المراد بالبنات بناتهم التي يلدونها، لأنهم يعترفون بأنها منسوبة لهم، فلا يضيفونها لله، وإنما البنات التي يضيفونها لله، هي الملائكة، والقائل ذلك كنانة وخزاعة. قوله: (والجملة في محل رفع) المناسب أن يقول مستأنفة، لأن هم خبر مقدم، وما مبتدأ مؤخر لا محل لها من الإعراب. قوله: (أو نصب بيجعل) أي بالعطف على معمولي يجعل، فإن قوله: ﴿ وَلَهُمْ ﴾ معطوف على ﴿ لِلَّهِ ﴾، و ﴿ مَّا ﴾ معطوفة على ﴿ ٱلْبَنَاتِ ﴾ مسلط عليهما، ويجعل فيه العطف على معمولي عام واحد، وهو جائز بتفاق. قوله: (بالأسنى) أي الأرفع والأشرف.
قوله: ﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ ﴾ الجملة في محل نصب حال من الواو في﴿ وَيَجْعَلُونَ ﴾[النحل: ٥٧] والمراد بالبشارة الإخبار. قوله: (صار) أشار بذلك إلى أن ﴿ ظَلَّ ﴾ ليست على بابها من أنها تدل على الإقامة على تلك الصفة نهاراً، بل المراد منها الانتقال من حالة لأخرى. قوله: ﴿ مِن سُوۤءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ﴾ أي من أجل سوء الأنثى التي بشر بها، وسوءها من حيث إنه يخاف عليها الزنا ويتحمل عارها، وكونها لا تكتسب وغير ذلك. قوله: (متردداً) قدره إشارة إلى أن قوله: ﴿ أَيُمْسِكُهُ ﴾ الخ، معمول لحال محذوفة، ولا يصلح أن يكون حالاً لأنه جملة طلبية. قوله: ﴿ عَلَىٰ هُونٍ ﴾ حال من المفعول، والمعنى أيمسكه مهيناً له. قوله: ﴿ أَمْ يَدُسُّهُ ﴾ أي يخفيه. قوله: (بأن يئده) الوأد دفن البنت حية. قوله: (بهذا المحل) أي الرقبة، وهي الحقارة والذل. قوله: (أي الصفة السوأى) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ مَثَلُ ٱلسَّوْءِ ﴾ من إضافة الموصوف لصفته، والسوأى بضم السين والقصر بوزن طوبى. قوله: ﴿ وَلِلَّهِ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ ﴾ أي فصفات الله أعلى الصفات، وصفات الكفار أخسها، حيث ينسبون لله ما يكرهون لأنفسهم، مع كونه منزهاً عن صفات الحوادث. قوله: ﴿ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ﴾ (في ملكه) أي الغالب فلا يعجزه شيء. قوله: ﴿ ٱلْحَكِيمُ ﴾ (في خلقه) أي يضع الشيء في محله. قوله: ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ ﴾ الخ. أي لو يعجل الله للناس العقوبة بسبب عصيانهم، لم يبق أحداً. قوله: ﴿ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا ﴾ الضمير عائد على الأرض المفهومة من السياق، لأن الدابة ما دب على وجه الأرض. قوله: ﴿ مِن دَآبَّةٍ ﴾ ﴿ مِن ﴾ زائدة في المفعول، ووجه هلاك الجميع، أن الله تعالى يمسك السماء عن المطر، والأرض عن النبات، فإذا حصل ذلك، هلك كل مرزوق، لأن كل دابة محتاجة للقوام، فإذا أمسك قوامها هلكت عن آخرها، وهو أقرب ما يقال في ذلك. قوله: ﴿ وَلٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّىٰ ﴾ أي لكن سبقت حكمة الله، بأن الدنيا تصير عماراً، إلى أن تنقضي المدة التي قدرها الله تعالى، فإذا كان كذلك، فلا يعاجلهم بالعقوبة، بل يوفيهم أرزاقهم وآجالهم، لغلبة الرحمة على الغضب، فلو عاجلهم بالعقوبة، لكان الغضب غالباً على الرحمة، وهو خلاف ما سبق علمه به. قوله: ﴿ وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ أي لايتقدمون على الأجل المعين الذي حضر. إن قلت: إنه لا يحسن ترتبه على الشرط لأن الأجل إذا جاء، لا يتوهم التقدم عليه إذ هو مستحيل، ولا ينفى إلا ما يتوهم ثبوته. أجيب: بأن قوله: ﴿ وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ معطوف على جملة الشرط، وجوابه كأنه قال: فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون عنه ساعة، وإذا لم يجىء لا يتسقدمون عليه.
قوله: ﴿ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ ﴾ هذا من جملة صفات السوء. قوله: (والشريك في الرياسة) أي وهو الأصنام، جعلوها شركاء لله في الألوهية التي هي أعلى أوصاف الرياسة. قوله: (وإهانة الرسل) أي كما أهانوا رسول الله، فهم يكرهون البنات والشريك في الرياسة وإهانة رسلهم، ويجعلون ما يكرهونه لله، فينسبون لله البنات، ويشركون مع الله في الألوهية غيره، ويهينون رسول الله. قوله: ﴿ ٱلْكَذِبَ ﴾ مفعول به، وقوله: ﴿ أَنَّ لَهُمُ ٱلْحُسْنَىٰ ﴾ بدل كل من كل. والمعنى: وتقول ألسنتهم زيادة على ما سبق منهم، أن لهم الحسنى. قوله: (لقوله) دليل لقوله: (عند الله). قوله: (قال تعالى) أي رداً عليهم وتبكيتاً لهم. قوله: ﴿ لاَ جَرَمَ ﴾ تقدم أن ﴿ لاَ ﴾ نافية ما قبلها، و ﴿ جَرَمَ ﴾ بمعنى حق وثبت، و ﴿ أَنَّ ﴾ وما دخلت عليه في محل رفع فاعل. والمعنى: لا عبرة بقولهم الكذب، بل حق وثبت كون النار لهم وتركهم فيها. وتقدم أن قول المفسر (حقاً) مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره حق حقاً. قوله: (أو مقدمون إليها) أي معجلون إليها قبل غيرهم. قوله: (وفي قراءة) وهي سبعية أيضاً. قوله: ﴿ تَٱللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ ﴾ شروع في تسليته صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ فَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ﴾ أي جعلها حسنة ليضلهم بها. قوله: (أي في الدنيا) هذا أحد قولين ذكرهما المفسر، وعلى هذا القول فلا يحتاج لتأويل، لأن مدة الدنيا كالوقت الحاضر بالنسبة الآخرة، وقيل المراد باليوم يوم القيامة الخ، أي وعليه فاليوم مستعمل في غير معناه الأصلي، لأنه حقيقة في الزمان الحاضر المقارن للتكلم، ولذا أوله المفسر بقوله: (على حكاية الحال الآتية) أي فعبر عن الزمان الذي لم يحصل، بما هو موضوع للحاضر المقارن لتحقق حصوله، فكأنه حاضر الآن. قوله: (أي لا ولي لهم) أي لا ناصر ولا مغيث لهم غيره. قوله: (وهو عاجز) الخ، الجملة حالية. قوله: (فكيف ينصرهم) أشار بذلك إلى أن المراد بالولي على هذا القول الثاني الناصر، وأما على الأول، فمعناه القرين المتولي إغواءهم.
قوله: ﴿ وَمَآ أَنْزَلْنَا ﴾ الخ هذا من جملة تسليته صلى الله عليه وسلم. قوله: (من أمر الدين) أي كالتوحيد وأحكام العبادات والمعاملات وغير ذلك. قوله: ﴿ وَهُدًى ﴾ أي من الضلال. قوله: ﴿ وَرَحْمَةً ﴾ أي إحساناً. قوله: ﴿ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ خصهم لأنهم المنتفعون به دون غيرهم. قال تعالى:﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً ﴾[الإسراء: ٨٢].
قوله: ﴿ وَٱللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ ٱلْسَّمَآءِ مَآءً ﴾ شروع في ذكر أدلة توحيده سبحانه وتعالى. قوله: (دالة على البعث) أي لأن القادر على إحياء الأرض بالماء بعد يبسها، قادر على إعادة الأجسام بعد تفرقها وانعدامها. قوله: (سماع تدبر) أي فالمراد بالسماع سماع القلوب، لا سماع الآذان. قوله: ﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ ﴾ ﴿ فِي ﴾ للسببية. والمعنى: وإن لكم بسبب الأنعام لعبرة الخ. قوله: ﴿ لَعِبْرَةً ﴾ أي اتعاظاً وتذكاراً، يعتبر بها المعتبر ويستدل على أن الله هو الرحمن الرحيم الفعال لما يريد. قوله: (بيان لعبرة) أي لمتعلقها وهو المعتبر به. قوله: ﴿ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ ﴾ من للتبعيض، قوله: ﴿ مِن بَيْنِ فَرْثٍ ﴾ ﴿ مِن ﴾ ابتدائية كما قال المفسر. والمعنى: نسقيكم بعض الذي في بطونه لبناً خالصاً، ناشئاً من بين فرث ودم، وذكر الضمير في بطونه هنا، مراعاة للفظ الأنعام، وأنثه في سورة المؤمنون، مراعاة للمعنى الذي هو جماعة الأنعام، لأن الأنعام اسم جمع. قوله: (ثفل الكرش) بضم الثلثة وسكون الفاء، و(الكرش) بوزن الكبد. قوله: ﴿ لَّبَناً ﴾ مفعول ثان لنسقيكم، والأول هو الكاف. قوله: (وهو بينهما) وذلك لأن البهيمة إذا أكلت العلف طبخه الكرش، فيجعل الله أسفله فرثاً، وأوسطه لبناً خالصاً لا يشوبه شيء وأعلاه دماً، وبينهما حاجز بقدرة الله تعالى، ثم يسلط الكبد عليه، فتجري عليه الدم في العروق، واللبن في الضروع، ويبقى الفرث في الكرش، فينزل من مخرجه روثاً. قوله: (سهل المرور) أي ولذا جعل غذاء لصغار الحيوانات التي ترضعها أمهاتها، ولعظم مزيته يقال عقب أكله: اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه، بخلاف غيره من الأطعمة، فيقال وعوضنا خيراً منه.
قوله: ﴿ وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ ﴾ خبر مقدم، والمبتدأ محذوف قدره المفسر بقوله: (ثمر)، قوله: ﴿ تَتَّخِذُونَ ﴾ نعت لذلك المحذوف، والضمير في ﴿ مِنْهُ ﴾ عائد على ذلك المحذوف. قوله: (خمراً) أي وقيل إنه اسم للخل بلغة الحبشة، وقيل اسم للعصير ما دام حلواً، وتسميته سكراً باعتبار ما يؤول إليه، وعلى هذين التفسيرين، فالامتنان به باق لم ينسخ. قوله: (سميت بالمصدر) أي فالسكر مصدر سكر من باب فرح. قوله: (وهذا قبل تحريمها) أي لأن هذه السورة مكية، وتحريم الخمر كان بالمدينة، نزلت به سورة المائدة وهي مدنية. قوله: (والدبس) هو عسل الرطب ويطلق على عسل العنب. قوله: (المذكور) أي من إخراج اللبن على هذه الكيفية، واتخاذ السكر والرزق من الثمرات. قوله: ﴿ وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ ﴾ لما ذكر سبحانه وتعالى، ما يدل على باهر قدرته وعظيم حكمته، من إخراج اللبن من بين فرث ودم، وإخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب، ذكر إخراج العسل الذي جعله شفاء للناس من النحل، وهي دابة ضعيفة، لما فيه من العجائب البديعة والأمور الغريبة، وكل هذا يدل على وحدانية الصانع، وقدرته وعظمته. قوله: ﴿ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ ﴾ هو اسم جنس جمعي، يفرق بينه وبين واحده بالتاء، كنمل ونملة، وشجر وشجرة، ويذكر ويؤنث، فمن التأنيث قوله هنا ﴿ أَنِ ٱتَّخِذِي ﴾ ويجوز في غير القرآن تذكيره فيقال أن اتخذ. قوله: (وحي إلهام) أي هداية ورشد، لا وحي نبوة، إذ هي مستحيلة على غير المختصين من بني آدم، فمن أثبتها لغير النوع الإنساني فقد كفر. قوله: (مفسرة) أي لتقدم جملة فيها معنى القول دون حروفه وهو قوله: ﴿ وَأَوْحَىٰ ﴾.
قوله: (أو مصدرية) أي فهي وما دخلت عليه، في تأويل مصدر مجرور بالباء، والتقدير أوحى ربك إلى النحل باتخاذها. قوله: ﴿ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً ﴾ أي أماكن و ﴿ مِنَ ﴾ بمعنى في، أي اتخذي في الجبال أماكن تأوين إليها الخ. ومن عجيب قدرته تعالى، أن ألهمها اتخاذ بيوت على شكل مسدس، من أضلاع متساوية، لا يزيد بعضها على بعض، وليس فيه فرج خالية ولا خلل، وألهمها الله تعالى، أن تجعل عليها أميراً كبيراً نافذاً حكمه فيها وهي تطيعه، وهذا الأمير أكبرها جثة وأعظمها خلقة، يسمى يعسوب، وألهمها سبحانه وتعالى، أن تجعل على كل باب خلية بواباً، لا يمكن غير أهلها من الدخول إليها، وألهمها أن تخرج من بيوتها فتدور وترعى، ثم ترجع إلى بيوتها ولا تضل عنها. قوله: ﴿ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ﴾ أي وفيما (يبنون لك) أي فالنحل تارة تبني بيوتها التي هي من الشمع والماء، تارة في الجبال، وتارة في الأشجار، وذلك في النحل الوحشي، وتارة تبنيه في الخلايا، وهذا في النحل الأهلي. قوله: (وإلا لم تأو إليها) أي وإلا بأن لم يلهمها الله اتخاذ البيوت في الأماكن الثلاثة لم تأو إليها، فيضيع عسلها ولا ينتفع به.
قوله: ﴿ مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ ﴾ أي حلوها مرها، طيبها ورديئها. قوله: (وإن توعرت) أي صعبت. قوله: (ولا تضلي) معطوف على قوله: (فلا تعسر عليك). قوله: (أي منقادة لما يراد منك) أي ممتثلة، ولذا يقسم يعسوبها أعمالها بينها، فالبعض يعمل الشمع، والبعض يعمل العسل، والبعض يأتي بالماء ويصبه في البيت، والبعض يبني البيوت. قوله: ﴿ شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ ﴾ أي ما بين أبيض وأصفر وأحمر، وغير ذلك من ألوان العسل، واختلف في سبب اختلاف ألوانه، فقيل بسبب اختلاف المرعى، وقيل بسبب اختلاف سن النحل، فالأبيض لصغيرها، والأصفر لكهلها، والأحمر لمسنها، ورد هذا بأنه لا دليل عليها. قوله: (قيل لبعضها) أي الأوجاع، كالبلغم والبرودة وباقي الأمراض الباردة. قوله: (أو لكلها) أي الأوجاع جميعها، فالأمراض التي شأنها البرودة هو نافع لها بنفسه، والأمراض التي شأنها الحرارة، ينفع فيها مضموماً لغيره، ولذلك تجد غالب المعاجين لا تخلو منه. قوله: (أقول وبدونها بنيته) أي بنية الشفاء الجازمة، أن الله يخلق الشفاء عند استعماله، لاخباره تعالى بذلك، فتحصل أن في قوله تعالى: ﴿ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ ﴾ أقوال ثلاثة: قيل شفاء لبعض الأوجاع التي شأنها البرودة، وقيل لجميعها، لكن في الأمراض الباردة يستعمل خالصاً، والحارة يستعمل مشوباً بغيره، وقيل شفاء لجميعها، لكن في الأمراض الباردة يستعمل خالصاً، والحارة يستعمل مشوباً بغيره، وقيل شفاء لجميعها بالنية في كل ولكل أحد، ولذا روي عن ابن عمر، أنه كان لا يشكو قرحة ولا شيئاً، إلا جعل عليها عسلاً، حتى الدمل إذا خرج، طلى عليه عسلاً، وحكى النقاش عن أبي وجرة، أنه كان يكتحل بالعسل، ويتنشق بالعسل، ويتداوى بالعسل. قوله: (وقد أمر به صلى الله عليه وسلم) الخ قد اقتصر المفسر الحديث ونصه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:" جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي استطلق بطنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسقه عسلاً، فسقاء ثم جاءه فقال: سقيته عسلاً، لم يزده إلا استطلاقاً، فقال له ثلاث مرات، ثم جاءه الرابعة فقال: اسقه عسلاً، فقال: سقيته فلم يزده إلا استطلاقاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق الله وكذب بطن أخيك، فسقاه فبرأ "، ولا عبرة باعتراض الملحدين الذين في قلوبهم مرض على هذا الحديث حيث قالوا: إن الأطباء مجمعون على أن العسل مسهل، فكيف يوصف لمن به الإسهال، لأن الإسهال يكون من أنواع كثيرة، منها الإسهال الحادث من التخم والأخلاط، وقد أجمع الأطباء على أن علاجه بالمعين على الإسهال، إذ حبس الطبيعة مضر فهذا الحديث محمول على ذلك، ولذا نفعه آخراً، حين نظفت المعدة، وخلصت من الغش. قوله: ﴿ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً ﴾ أي دلالة على وحدانية الصانع الحكيم القادر.
قوله: ﴿ وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ ﴾ أي أنشأكم وأوجدكم. قوله: ﴿ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ﴾ أي يميتكم. قوله: ﴿ وَمِنكُم ﴾ الخ، معطوف على محذوف، والتقدير فمنكم من يبقى على قوة جسمه وعقله إلى أن يموت، ومنكم الخ. قوله: ﴿ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ ﴾ أي أضعفه، قال بعض العلماء: عمر الإنسان له أربع مراتب، أولها: سن النشوء والنماء، وهو من أول العمر إلى بلوغ ثلاث وثلاثين سنة، وهو غاية سن الشباب وبلوغ الأشد. ثم المرتبة الثانية: سن الوقوف، وهو من ثلاث وثلاثين سنة إلى أربعين. وهو غاية القوة وكمال العقل. ثم المرتبة الثالثة: سن الكهولة، وهي الأربعين إلى ستين سنة، وفي هذه المرتبة يشرع الإنسان في النقص، غير أنه يكون خفياً. ثم المرتبة الرابعة: سن الشيخوخة والانحطاط، من الستين إلى آخر العمر، وفيه يتبين النقص، ويكون الهرم والخرف، وقد استعاذ منه صلى الله عليه وسلم حيث قال:" اللهم إني أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات ". قوله: ﴿ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً ﴾ اللام لام التعليل، وكي مصدرية، ولا نافية، و ﴿ شَيْئاً ﴾ تنازعه الفعل والمصدر، فأعمل في الثاني، وأضمر في الأول وحذف. والمعنى لأجل انتفاء علمه بالأشياء التي كان يعلمها قبل هذه الحالة، فيرجع إلى مبدئه في عدم المعرفة والعلم، كالطفل الذي لا يدري شيئاً. قوله: (من قرأ القرآن) أي عاملاً به، وكذلك العلماء العاملون، لا يصيرون بهذه الحالة، بل كلما ازدادوا في العمر، ازدادوا في العلم والمعرفة والعقل، كما هو مشاهد، ولذا قالوا: أعلى كلام العارفين، ما صدر منهم في آخر عمرهم، بل قالوا: الرد لأرذل العمر، يكون للكفار وللمنهمكين في الشهوات من عوام المؤمنين. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلْرِّزْقِ ﴾ المقصود من ذلك الرد على الكفار، حيث جعلوا لله شريكاً في ألوهيته، كأنه قال: الله جعل منكم أغنياء وفقراء، فالأغنياء لا ترضى أن تشرك الفقراء في أوصافهم، فكيف يجعلون لله شريكاً في صفاته، مع أنه الغني المطلق عما سواه، وهذا من ثمرات قوله:﴿ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ ﴾[النحل: ٦٢].
قوله: (أي الموالي) المراد بهم السادة. قوله: (المعنى ليس لهم شركاء) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ ﴾ حذف منه أداة الاستفهام، والتقدير أفهم فيه سواء، ومعناه النفي، أي ليسوا مستوين فيه، أي لا ترضى الأغنياء بتسوية الفقراء معهم في غناهم، ولا الموالي بتسوية العبيد معهم في سيادتهم، فكيف يجعلون وصف الألوهية لغيره تعالى. قوله: ﴿ أَفَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ ﴾ الهمزة داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، وهي داخلة على الفعل. والمعنى أيشركون به فيجحدون نعمته؟ قوله: (يكفرون) أشار بذلك إلى أنه ضمن قوله: ﴿ يَجْحَدُونَ ﴾ معنى (يكفرون) فعداه بالباء، وإلا فالجحد يتعدى بنفسه.
قوله: ﴿ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ ﴾ أي نوعكم وجنسكم. قوله: (فخلق حواء من ضلع آدم) أي الأيسر القصير. قوله: ﴿ بَنِينَ ﴾ لم يذكر البنات لكراهتهم لهن، فلم يمتنّ عليهم إلا بما يحبونه. قوله: (أولاد الأولاد) أي وسموا حفدة، لأنهم يخدمون أجدادهم، ويسارعون في طاعتهم، لأن الحافد معناه الخادم. قوله: ﴿ أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ ﴾ يقال فيه ما قيل فيما قبله، فيكون التقدير أبعد تحقق ما ذكر من نعم الله يؤمنون بالباطل؟ وهو استفهام توبيخ وتقريع. قوله: ﴿ وَيَعْبُدُونَ ﴾ عطف على ﴿ يَكْفُرُونَ ﴾.
قوله: ﴿ مَا لاَ يَمْلِكُ ﴾ الخ أي أصناماً، لا تستطيع جلب نفع ولا دفع ضر. قوله: (بالمطر) أي بإنزاله. قوله: (بدل من رزقاً) أي على أن الرزق اسم عين بمعنى المرزوق، وفيه أن البدل إما للتوكيد أو للبيان، وشيئاً لا يصلح لذلك، وحينئذ فالمناسب جعله صفة لمصدر محذوف مفعول مطلق لقوله يملك، والتقدير ما لا يملك لهم ملكاً شيئاً، أي قليلاً أو كثيراً، جليلاً أو حقيراً. قوله: (تشركونهم به) أي فإن ضرب المثل تشبيه حال بحال، والله منزه عن الأحوال والكيفيات، وأما ضرب المثل، بمعنى تشبيه حال بعض المخلوقات بحال بعض، لأجل الاستدلال على اتصافه بالكمالات، فلا ينهى عنه، بل ذكره الله تعالى في كتابه، وعلمنا كيفية ضربه. قال تعالى:﴿ أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ﴾[الرعد: ١٧] إلى آخره، وقال هنا﴿ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً ﴾[النحل: ٧٥] الخ. قوله: (أن لا مثل له) وقيل المراد أن الله يعلم كيفية ضرب الأمثال، وأنتم لا تعلمون كيفيتها.
قوله: ﴿ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً ﴾ هذا مرتب على قوله:﴿ فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ ٱلأَمْثَالَ ﴾[النحل: ٧٤] لأن المنهي عنه، الأمثال التي تفيد تشبيه الله بغيره، وأما المثل الذي يفيد التوحيد، فقد ضربه الله بقوله: ﴿ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً ﴾ الخ. قوله: (صفة تميزه من الحر) جواب عما يقال: إن كل شخص مملوك لله، حراً كان أو عبداً. فأجاب: بأن المراد به الرفيق، إذ الحر لا يسمى مملوكاً عرفاً، وإن كان عبداً لله. قوله: ﴿ لاَّ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ ﴾ أي من التصرفات. واختلف العلماء في العبد، هل يملك ما تحت يده من الأموال، أو لا يملكها؟ فقال مالك: إنه يملك، غير أن ملكه غير تام. وقال الشافعي: لا يملك أصلاً، وإنما الذي تحت يده ملك سيده، والآية مفروضة في عبد لا يقدر على شيء، وكون العبد يملك أو لا شيء آخر. قوله: ﴿ وَمَن ﴾ معطوف على عبداً. قوله: ﴿ حَسَناً ﴾ أي حلالاً. قوله: (والأول مثل الأصنام والثاني مثله تعالى) أي فالمقصود من ذلك التوصل إلى إبطال الشريك، والرد على الكفار، كأن الله يقول: لأنتم لا تسوون العبد المملوك العاجز، مع الله القادر المتصرف في خلقه. قوله: ﴿ هَلْ يَسْتَوُونَ ﴾ أي في الإجلال والتعظيم، ولم يقل يستويان، نظراً إلى تعدد أفراد كل قسم، وإنما يجمع المفسر الحر، كما جمع العبيد، إشارة إلى أنه مثل متوصل به إلى توحيد الله، والله تعالى واحد فأفرد تأدباً. قوله: (لا) هو جواب استفهام. قوله: ﴿ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾ هذا حمد من الله لنفسه، في مقام الرد على المشركين، أي هو المستحق لجميع المحامد، المنعم المتفضل الخالق الرازق، وأما هذه الأصنام فلا تستحق ذلك، لأنها جمادات عاجزة، لا تنفع ولا تضر. قوله: (فيشركون) أي يعبدون غير الله، مع ظهور البراهين والحجج الدالة على وحدانية الله تعالى. قوله: ﴿ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ ﴾ أي والآخر ناطق قادر خفيف على مولاه، أينما يوجهه يأت بخير، وقد حذف هذا المقابل لدلالة قوله: ﴿ وَمَن يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ ﴾ الخ. قوله: (ولد أخرس) المناسب تفسيره بالذي لا يسمع ولا يبصر ليظهر قوله: (لأنه لا يفهم ولا يفهم). قوله: ﴿ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ ﴾ الخ أين اسم شرط جازم، و ﴿ يُوَجِّههُّ ﴾ فعل الشرط، وقوله: ﴿ لاَ يَأْتِ ﴾ جواب الشرط مجزوم بحذف الياء. قوله: (ينجح) بضم النون بوزن قفل، أي لا يأت بشيء نافع. قوله: ﴿ وَمَن يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ ﴾ معطوف على الضمير في ﴿ يَسْتَوِي ﴾ والشرط موجود، وهو الفصل بالضمير المنفصل. قوله: (وقيل هذا) أي من يأمر بالعدل. قوله: (والذي قبله) أي وهو قوله: ﴿ عَبْداً مَّمْلُوكاً ﴾ ﴿ وَمَن رَّزَقْنَاهُ ﴾ وقيل كل في الكافر والمؤمن، وقيل كل في المعبود بحق، والمعبود بباطل، فتكون الأقوال أربعة. قوله: (في الكافر والمؤمن) قيل محمول على العموم، وقيل المراد بالكافر أبو جهل، والمؤمن النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل غير ذلك. قوله: ﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ ﴾ هذا دليل على كمال علمه وقدرته. قوله: (أي علم ما غاب) أي خفي وبطن. قوله: ﴿ وَمَآ أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ ﴾ أي قيام الخلق من القبور. قوله: ﴿ إِلاَّ كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ ﴾ أي انطباق جفن العين أو فتحه. قوله: (لأنه بلفظ كن فيكون) فيه تسامح، إذ ليس ثم كاف ولا نون، بل المراد سرعة الإيجاد، فإذا أراد شيئاً أوجده سريعاً. قوله: ﴿ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ أي لا تعرفون قوله: (حال) أي من الكاف في أخرجكم. قوله: ﴿ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ ﴾ أفرده باعتبار كونه مصدراً في الأصل.
قوله: ﴿ أَلَمْ يَرَوْاْ ﴾ أي ينظروا بأبصارهم. قوله: ﴿ مُسَخَّرَٰتٍ ﴾ هو حال من ﴿ ٱلطَّيْرِ ﴾.
قوله: ﴿ فِي جَوِّ ٱلسَّمَآءِ ﴾ الجو الفضاء الكائن بين السماء والأرض، قال كعب الأحبار: إن الطير يرتفع في الجو مسافة اثني عشر ميلاً، ولا يرتفع فوق ذلك. قوله: (عند قبض أجنحتهن) هذا يفيد أنها في حال الطيران تقبض أجنحتها، مع أنه خلاف المشاهد، فالمناسب أن يقول ما يمسكهن في حال طيرانهن إلا الله، فإن ثقل أجسادها يقتضي سقوطها، ولا علاقة فوقها، ولا شيء تحتها يمسكها. قوله: ﴿ مِّن جُلُودِ ٱلأَنْعَامِ بُيُوتاً ﴾ أي وذلك في بعض الناس كالسودان، فإنهم يتخذون خيامهم من الجلود. قوله: (كالخيام) جمع خيمة، والقباب جمع قبة، وهي دون الخيمة. قوله: ﴿ تَسْتَخِفُّونَهَا ﴾ أي يخف عليكم حملها في رحيلكم وإقامتكم، فلا يثقل عليكم حملها في الحالين. قوله: ﴿ وَمِنْ أَصْوَافِهَا ﴾ معطوف على ﴿ مِّن جُلُودِ ٱلأَنْعَامِ ﴾، وقوله: ﴿ أَثَاثاً ﴾ معطوف على ﴿ بُيُوتاً ﴾، ولم يذكر القطن والكتان، لأنهما لم يكونا ببلاد العرب. قوله: (كبسط) بضم الباء والسين وقد تسكن. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً ﴾ أي ما تستظلون به، وذكر في مقام الامتنان، لأن بلاد العرب شديدة الحر، فحاجتهم للظلال، وما يدفع عنهم شدة الحر وقوته أكثر. قوله: (والغمام) أي السحاب. قوله: (جمع كن) أي غطاء، والأكنة الأغطية، ومنه﴿ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً ﴾[الأنعام: ٢٥] قوله: (أي والبرد) أشار بذلك إلى أن فيه حذف الواو مع ما عطفت، ويسمى عند أهل المعاني اكتفاء. قوله: (كالدروع) أي دروع الحديد، قوله: (والجواشن) جمع جوشن وهو الدرع، فالعطف للتفسير. قوله: ﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ أي داموا على التولي والاعراض. قوله: (وهذا قبل الأمر بالقتال) مراده أن هذه الآية منسوخة، وفيه أنه لا يظهر إلا قدر جواب الشرط، فلا تقاتلهم مثلاً، وأما لو قدر، فلا عتب عليك ولا مؤاخذة، لأنك لا قدرة لك على خلق الإيمان في قلوبهم، فلا يظهر النسخ، لأنه لا ينافي الأمر بقتالهم.
قوله: ﴿ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ ٱللَّهِ ﴾ أي وهي ما تقدم من أول السورة إلى هنا من النعم العظيمة، بأن يقرونها من عند الله، ولا يصرفونها في مصارفها. قوله: ﴿ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا ﴾ أتى بثم إشارة إلى أن إنكارهم مستبعد بعد المعرفة، لأن من عرف النعمة، فحقه أن لا ينكرها بعد ذلك. قوله: ﴿ وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْكَافِرُونَ ﴾ أي يموتون كفاراً، وأقلهم يهتدي للإسلام، فإن أكثر صناديدهم مات كافراً والأقل منهم أسلم. قوله: ﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ ﴾ ﴿ وَيَوْمَ ﴾ منصوب بفعل محذوف قدره المفسر بقوله: (اذكر)، والمعنى: اذكر يا محمد لقومك، يوم نجعل لكل أمة شهيداً، أو المراد بالبعث الإحياء، أي يوم نحيي من كل أمة شهيداً، والأول أقرب. قوله: (يشهد عليها) أي بالتكذيب والكفر، وقوله: (ولها) أي بالتصديق والإيمان. قوله: (وهو يوم القيامة) أي لأنه ورد: أنه يؤتى بالأمم الماضية وأنبيائهم، فيقال للأنبياء: هل بلغتم أممكم؟ فيقولون: نعم بلغنا، فيقال للأمم: هل بلغكم رسلكم؟ فيقولون: يا ربنا ما جاءنا من نذير، فيؤتى بالأمة المحمدية، فتشهد للأنبياء بالتبليغ، وعلى الأمم بالتكذيب، فتقول الأمم: من أين أتى لكم ذلك، وأنتم آخر الأمم؟ فيقولون: أخبرنا نبينا بذلك عن ربنا، وهو صادق عن صادق، فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيزكي أمته، فحين يقول: يا رب قد بلغتهم تنقطع حجتهم، فهو مخصوص بأنه مقبول الشهادة، من غير مزك له. قوله: ﴿ ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ اختلف في متعلق الإذن المنفي، فقال المفسر في الاعتذار، ويدل له قوله تعالى﴿ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ﴾[المرسلات: ٣٦] وقيل لا يؤذن لهم في كثرة الكلام، وقيل في الرجوع إلى الدنيا والتكليف، وقيل في التكلم وقت شهادة الشهود، بل يسكتون وقتها، ولا يقدر أحد منهم على التكلم إذ ذاك. قوله: ﴿ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ﴾ أي لا تزال للسلب، نظير الهمزة في أعذر إليه على ألسنة المرسلين. قوله: (إلى ما يرضي الله) أي من الرجوع إلى الدنيا والعبادة فيها. قوله: ﴿ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ ﴾ أي فهم لا يخفف عنهم، وإنما احتيج لتقدير المبتدأ، لصحة دخول الفاء، لأن الفعل المضارع الصالح لمباشرة الأداة لا يقرن بالفاء، فاحتيج لجعلها جملة اسمية لوجود الفاء. قوله: ﴿ ٱلْعَذَابَ ﴾ تفسير للضمير المستتر في الفعل.
قوله: ﴿ وَإِذَا رَأى ﴾ أي أبصر. قوله: ﴿ شُرَكَآءَهُمْ ﴾ مفعول به، والإضافة لأدنى ملابسة، لكون الإشراك نشأ منهم، وكذا يقال في قوله: ﴿ هَـٰؤُلآءِ شُرَكَآؤُنَا ﴾.
قوله: ﴿ قَالُواْ رَبَّنَا هَـٰؤُلآءِ شُرَكَآؤُنَا ﴾ إنما قصدوا بذلك توزيع العذاب بينهم. قوله: ﴿ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ ٱلْقَوْلَ ﴾ المعنى: فيخلق الله الحياة والعقل والنطق في تلك الأصنام ويقولون: إنكم قد كذبتم في عبادتكم لنا، فإنكم ما عبدتمونا، بل عبدتم هواكم، وإنما كذبوهم وقد كانوا يعبدونهم، لأن الأوثان لم يكونوا راضين بذلك، فكأنهم لم يعبدوهم. قوله: (أي استسلموا) أي انقادوا بعد أن كانوا في الدنيا متكبرين، ولكن هذا الانقياد لا ينفعهم. قوله: (من أن آلهتهم تشفع لهم) أي حيث قالوا: ما نعبدهم إلا ليقوبونا إلى الله زلفى. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ مبتدأ خبره قوله: ﴿ زِدْنَاهُمْ ﴾.
قوله: ﴿ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾ أي منعوا الناس عن الدخول في الإيمان، وهذه الآية تعم من يحمل الناس على الكفر، ولو كان يقول: لا إله إلا الله. قوله: (قال ابن مسعود) أي في تفسير العذاب الزائد. وقال سعيد بن جبير: حيات كالبخت وعقارب أمثال البغال، تلسع إحداهن اللسعة، فيجد صاحبها ألمها أربعين خريفاً. وقال ابن عباس ومقاتل: يعني بزيادة العذاب خمسة أنهار، من أصفر مذاب كالنار يسيل من تحت الفرش، يعذبون بها ثلاثة على مقدار الليل، واثنان على مقدار النهار، وقيل إنهم يخرجون من حر النار إلى برد الزمهرير، فيبادرون من شدة الزمهرير إلى النار مستغيثين بها. قوله: (أنيابها كالنخل الطوال) أي وجسمها بالنسبة لأنيابها، كجسم أحدنا بالنسبة إلى نابه، فتكون عظيمة الجثة جداً، أجارنا الله والمسلمين منها. قوله: ﴿ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ ﴾ الباء سببية، وما مصدرية، أي بسبب كونهم مفسدين.
قوله: ﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ ﴾ كرر لزيادة التهديد. قوله: (أي قومك) هذا أحد تفسيرين، وقيل المراد بهؤلاء الأنبياء، لاستجماع شرعه لشرائعهم، وأما كونه شهيداً على أمته، فقد علم مما تقدم، فحملها عليه فيه تكرار، إلا أن يقال: المراد بشهادته على أمته، تزكيته وتعديله لهم، حق شهدوا على تبليغ الأنبياء، وهذا لم يعلم مما مر، مع أنه الوارد في الحديث. قوله: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ﴾ أي في الدنيا، فهو كلام مستأنف. قوله: ﴿ تِبْيَاناً ﴾ حال أو مفعول لأجله، وهو مصدر، ولم يجىء من المصادر على وزن تفعال بالكسر، إلا تبيان وتلقاء، وفي الأسماء كثير، نحو التمساح والتمثال. قوله: ﴿ تِبْيَاناً ﴾ أي بياناً شافياً بليغاً، لأن زيادة البناء، تدل على زيادة المعنى. قوله: ﴿ لِّكُلِّ شَيْءٍ ﴾ محتاج إليه من أمر الشريعة. ن قلت: إنا نجد كثيراً من أحكام الشريعة، لم يعلم من القرآن تفصيلاً، كعدد ركعات الصلاة، ونصاب الزكاة وغير ذلك، فكيف يقول الله تبياناً لكل شيء؟ أجيب: بأن البيان، إما في ذات الكتاب، أو بإحالته على السنة، قال تعالى:﴿ وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ ﴾[الحشر: ٧] أو بإحالته على الإجماع، قال تعالى:﴿ وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾[النساء: ١١٥] الآية، أو على القياس، قال تعالى:﴿ فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ ﴾[الحشر: ٧] والاعتبار النظر والاستدلال اللذان يحصل بهما القياس فهذه أربعة طرق، لا يخرج شيء من أحكام الشريعة عنها، وكلها مذكورة في القرآن، فكان تبياناً لكل شيء بهذا الاعتبار. قوله: ﴿ لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ تنازعه كل من هدى ورحمة وبشرى. قوله: (الموحدين) أي وأما الكفار، فهو لهم خسران وعذاب وإنذار.
قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ ﴾ هذه الآية من ثمرات قوله:﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ ﴾[النحل: ٨٩] حتى قال العلماء: إن لم يكن في القرآن غير هذه الآية، لكفت في البيان والهدى والرحمة، لأنها آمرة بكل خير، ناهية عن كل شر. قوله: (التوحيد) أي شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وهذا التفسير وارد عن ابن عباس، وفي رواية عنه أيضاً: العدل خلع الأنداد، والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، وأن تحب للمرء ما تحب لنفسك، فإن كان مؤمناً، تحب أن يزداد إيماناً، وإن كان كافراً تحب أن يكون أخاك في الإسلام. وفي رواية: العدل التوحيد، والإحسان الأخلاص، وكل هذا أفاده المفسر بقوله: (التوحيد والانصاف) أي في كل أمور، فالانصاف في التوحيد، اعتقاد أن الله متصف بكل كمال، منزه عن كل نقص، والانصاف في الاعتقاد، نسبة الأفعال كلها لله، ونسبة الكسب للعبيد، خلافاً للجبرية والمعتزلة، فالفرقة الأولى نفت الكسب أصلاً. وقالوا: العبد كالخيط المعلق في الهواء، لا فعل له أصلاً، وتعذيب الله له ظلم، وهؤلاء كفار. والفرقة الثانية قالوا: العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية، وهؤلاء فساق، وكلا المذهبين جور، والانصاف نسبة الأفعال كلها لله، خيرها وشرها، ظاهرها وباطنها، ولكن من الأفعال ما هو جبري، وهذه لا كسب للعبد فيها، ولذا لا يثاب عليها ولا يعاقب، ومنها ما هو اختياري، وهذه للعبد فيها نوع كسب، ولذا يثاب عليه إن كان خيراً، ويعاقب عليه إن كان شراً، وهذا مذهب أهل السنة، خرج من بين فرث ودم، لبناً خالصاً سائغاً للشاربين، والانصاف في العبادات، عدم التفريط والإفراط فيها، بل يكون بين ذلك قواماً، والانصاف في النفقات، أن لا يسرف ولا يقتر، قال تعالى:﴿ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ ﴾[الإسراء: ٢٩] والانصاف بين عباد الله: يقسم لزوجاته، وينصر المظلوم على الظالم، ويعامل الخلق باللطف والرفق، وغير ذلك. قوله: ﴿ وَٱلإحْسَانِ ﴾ أي مع الله ومع عباده، فالإحسان مع الله، أداء فرائضه على الوجه الأكمل، والإحسان مع عباده، أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك،. قوله: (كما في الحديث) أي فقد سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإحسان، فقال له عليه الصلاة والسلام:" أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك "، والمعنى أن تعبد الله ملاحظاً لجلاله، كأنك تراه ببصرك، وهذا مقام المشاهدة فإن لم تصل لهذه المرتبة، فلاحظ أنه يراك وأنك في حضرته، وهذا مقام المراقبة، فمثل المشاهد كالبصير الجالس في حضرة الملك، فأدبه من جهتين؛ كونه رائياً الملك، وكون الملك رائياً له، ومثل المراقب كمثل الأعمى الجالس في حضرة الملك، فأدبه من جهة ملاحظته، كون الملك رائياً له. قوله: ﴿ وَإِيتَآءِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ ﴾ أي التصدق على القريب، وهو آكد من التصدق على غيره، لأن فيه صدقة وصلة، قال عليه الصلاة والسلام:" إن أعجل الطاعة ثواباً صلة الرحم "قوله: (من المكفر والمعاصي) أي فيدخل فيه الزنا وغيره، فهو تعميم بعد تخصيص. قوله: (اهتماماً به) أي لأنه أعظم المعاصي بعد الكفر، ولذا قال بعض العلماء: أعجل العقوبة على المعاصي العقوبة على البغي. وفي الحديث:" لو أن جبلين بغى أحدهما على الآخر؛ لانتقم الله من الباغي "وفيه أيضاً" الظلمة وأعوانهم كلاب النار "قوله: (كما بدأ بالفحشاء كذلك) أي اهتماماً به، لأن فيه ضياع الأنساب والأعراض، ويترتب عليه المقت والعقوبة من الله، قال تعالى:﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً ﴾[الإسراء: ٣٢].
قوله: ﴿ يَعِظُكُمْ ﴾ حال من فاعل يأمر وينهى، أي يأمركم وينهاكم، حال كونه واعظاً لكم. قوله: (في الأصل) أي فأصله تتذكرون، قلبت التاء ذالاً، وأدغمت في الدال. قوله: (هذه أجمع آية) الخ، روي" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية على الوليد بن المغيرة. فقال: أعدها يا محمد، فلما قرأها قال: إن له حلاوة، وإن عليه طلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر "، ولكونها أجمع آية استعملها الخطباء في آخر الخطبة. قوله: ﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ ﴾ هذا من جملة المأمور به على سبيل التفصيل، وبدأ بالأمر بالوفاء بالعهد، لأنه آكد الحقوق، وهذه الآية نزلت في الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، ولكن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب. قوله: (من البيع) بكسر الباء جمع بيعة، وهي المعاهدة على أمر شرعي. قوله: (والإيمان) جمع يمين، أي وأوفوا بما حلفتم عليه، ولا تحنثوا في أيمانكم، أي إذا ان فيها صلاح، وإلا فالحنث خير، لقوله عليه الصلاة والسلام:" من حلف على يمين، فرأى غيرها خيراً منها، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه "فهو عام مخصوص. قوله: (وغيرها) أي كالمواعيد، فالمراد من العهد كل ما يلزم الإنسان الوفاء به، سواء أوجبه الله على الشخص، أو التزمه الشخص من نفسه، كعهود المشايخ التي يأخذونها على المريدين، بأنهم يلازمون طاعة الله، ولا يخالفونه في أمرنا، فالواجب على المريدين الوفاء بها، حيث كانت المشايج موزونين بميزان الشرع، متصفين بالأخلاق الحميدة والأفعال السديد. قوله: ﴿ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ﴾ أي تغليظها، والتوكيد مصدر وكد بالواو، ويقال أكد بالهمزة، فمصدره التأكيد، وهما لغتان. قوله: ﴿ كَفِيلاً ﴾ أي شهيداً. قوله: (والجملة حال) أي من فاعل تنقضوا.
قوله: ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا ﴾ أي لا تنقضوا العهود التي عاهدتم عليها الخالق، أو المخلوق في غير معصية، فتكونوا كالتي نقضت غزلها. قوله: (حال) أي أو منصوب على المصدرية لأن معنى نقضت نكثت، فهو مطابق لعامله في المعنى. قوله: (جمع نكث) بكسر النون. قوله: (وهي امرأة حمقاء) أي واسمها ريطة بنت سعد بن تميم قرشية، قد اتخذت مغزلاً قدر ذراع، وسنارة مثل الأصبع، وفلكة عظيمة على قدرها، فكانت تغزل هي وجواريها من الغذاة إلى الظهر، ثم تأمرهن فينقضن ما غزلنه، وقوله حمقاء. أي قليلة العقل. قوله: (كانت تغزل) أي الصوف والوبر والشعر. قوله: ﴿ تَتَّخِذُونَ ﴾ أي تصيرون، و ﴿ أَيْمَانَكُمْ ﴾ مفعول أول، و ﴿ دَخَلاً ﴾ مفعول ثان. قوله: ﴿ دَخَلاً ﴾ أصل الدخل العيب، فإن شأنه أن يدخل في الشيء وليس من جنسه، والمراد به هنا الفساد والخديعة، كما قال المفسر. قوله: (أي لأن) ﴿ تَكُونَ ﴾ أشار بذلك إلى أن النصب على وجه التعليل، أي لأجل ﴿ أَن تَكُونَ ﴾، و ﴿ أُمَّةٌ ﴾ فاعل ﴿ أُمَّةٌ ﴾ على أنها تامة، أو اسمها على أنها ناقصة، وجملة ﴿ هِيَ أَرْبَىٰ ﴾ خبرها. قوله: (وكانوا) أي قريش، وهو مشاهد في أهل زماننا، حيث يلتجئون لأرباب المناصب ما داموا في مناصبهم، فإذا عزلوا أو نقصت مرتبتهم، تركوهم ولم يلتفتوا لهم، وكأنهم لم يعرفوهم، وليس هذا من الإيمان، بل الإيمان الوفاء بالعهد وعدم نقضه، إن لم يكن في بقائه عصيان الله. قوله: (فإذا وجدوا أكثر منهم) أي مالاً أو جاهاً. قوله: (حلف أولئك) الحلف بكسر فسكون، العهد يكون بين القوم. قوله: (لينظر المطيع) أي ليظهر لكم المطيع من غيره، فإن المطيع يدوم على العهد والود، وإن ذهبت من حليفه حظوظ المظاهر، وغيره يدور مع المظاهر. قوله: (أو يكون) معطوف على قوله: (بما أمر به)، وعليه فالضمير عائد على المصدر المنسبك من أن تكون، والمعنى لا تتخذوا عهودكم حيلة وخداعاً، من أجل كون تلك الأمة التي عاهدتموها ذات مال أو جاه؛ فإن انتقل المال أو الجاه لغيرهم، نقضتم عهود الأوائل، فصاحب هذه الأوصاف، خائن لله ولعباده. قوله: ﴿ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ أي تترددون. قوله: ﴿ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ هذا تسلية له صلى الله عليه وسلم. قوله: (سؤال تبكيت) أي لا تفهم، وقد أشار بذلك إلى وجه الجمع، بين هذه الآية وبين قوله تعالى:﴿ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ ﴾[الرحمن: ٣٩] فالمثبت سؤال التبكيت، والمنفي سؤال التفهم.
قوله: ﴿ وَلاَ تَتَّخِذُوۤاْ أَيْمَانَكُمْ ﴾ أي عهودكم. قوله: ﴿ دَخَلاً بَيْنَكُمْ ﴾ أي فساداً وخديعة. قوله: (كرره تأكيداً) أي كرر النهي عن اتخاذ الأيمان خديعة وحيلة، تأكيداً للإشارة إلى أن هذا أمر فظيع جداً، فإن نقض العهد، فيه فساد الدين والدنيا والعرض، والوفاء به، خير الدنيا والآخرة. قوله: ﴿ فَتَزِلَّ قَدَمٌ ﴾ منصوب بإضمار أن في جواب النهي، وأفرد القدم ونكره، إشارة إلى أن زلة القدم ولو مرة واحدة، أو أي قدم مضرة، لأن من زل به القدم، فقد طرد عن باب الله. قوله: (عن محجة الإسلام) أي طريقه، ومثل من زل القدم في عهد شيخه فنقضه، فإنه مطرود عن طريقته، ومتى طرد من طريقته، فقد سلب ما وهبه الله له من النور الإلهي، فلا يرجى له الفتح في طريقة أخرى، لأن غاية الطرق واحدة، وهو قد طرد عن الغاية. قوله: (العذاب) أي في الدنيا بدليل قوله: ﴿ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ (في الآخرة). قوله: ﴿ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾ أي دينه الموصل لمرضاته. قوله: (أي بصدكم عن الوفاء) هو من صد اللازم، أي امتناعكم وإعراضكم عن الوفاء. قوله: (أو بصدكم غيركم عنه) هو من صد المتعدي، أي منعكم غيركم. قوله: (لأنه) أي ذلك الغير. قوله: (يستن) أي يقتدي بكم في نقض العهود. قوله: ﴿ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ أي لا تتركوا عهد الله، في نظير عرض قليل تأخذونه قوله: (بأن تنقضوه) أي العهد، وقوله: (لأجله) أي الثمن القليل، وظاهره ولو من حلال، وإذا كان نقض العهد، لأجل القليل من الحلال مذموماً، فالحرام أولى بالذم، والمراد بالثمن القليل، أعراض الدنيا وإن كثرت. قوله: ﴿ إِنَّمَا عِنْدَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ علة لما قبله، وإن حرف توكيد ونصب، وما اسم موصول اسمها، و ﴿ عِنْدَ ٱللَّهِ ﴾ صلته، وجملة ﴿ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ خبرها، وقوله: (من الثواب) بيان لما. قوله: ﴿ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ شرط حذف جوابه. وقدره المفسر بقوله فلا تنقضوا. قوله: ﴿ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ ﴾ مبتدأ وخبر، والنفاذ بالفتح الفناء والذهاب، يقال نفذ بالكسر ينفد بالفتح، فني وفرغ، وأما نفذ بالفتح والمعجمة ينفذ بالضم، فمعناه مضى، يقال: نفذ حكم الأمير بمعنى مضى. قوله: ﴿ بَاقٍ ﴾ يصح الوقف عليه، بثبوت الياء وحذفها مع سكون القاف، قراءتان سبعيتان. قوله: (دائم) أي لا يفرغ ولا يفنى. قوله: (بالياء والنون) أي فهما قراءتان سبعيتان قوله: (على الوفاء بالعهود) أي والمراد مشاق التكاليف. قوله: ﴿ أَجْرَهُمْ ﴾ مفعول ثان ليجزي، قوله: ﴿ بِأَحْسَنِ ﴾ الباء بمعنى على. قوله: (أحسن بمعنى حسن) أشار بذلك إلى أن أفعل التفضيل ليس على بابه، ودفع بذلك ما يتوهم من قصر المجازاة على الأحسن الذي هو الواجبات، مع أنهم يجازون على الواجبات والمندوبات. وهناك تقرير آخر في الآية، وهو أن الأحسن صفة لموصوف محذوف، أي بثواب أحسن من عملهم، أي أكثر منه تفضلاً وإحساناً، قال تعالى:﴿ مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ﴾[الأنعام: ١٦٠] والباء لمجرد التعدية.
قوله: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً ﴾ ﴿ مَنْ ﴾ اسم شرط مبتدأ، و ﴿ عَمِلَ ﴾ فعل الشرط، قوله: ﴿ فَلَنُحْيِيَنَّهُ ﴾ جوابه. قوله: (قيل هي حياة الجنة) هذا القول لمجاهد وقتادة، ورواه عوف عن الحسن وقال: لا يطيب لأحد الحياة إلا في الجنة، لأنها حياة بلا موت، وغنى بلا فقر، وصحة بلا سقم، وملك بلا هلاك، وسعادة بلا شقاوة. قوله: (وقيل في الدنيا بالقناعة) هذا القول للحسن، قوله: (أو الرزق الحلال) هو لسعيد بن جبير وعطاء وزيد، على ما ذكره المفسر ما قيل هي حلاوة الطاعة، وقيل رزق يوم بيوم، وقيل الحياة الطيبة تحصل في القبر، لأن المؤمن يستريح بالموت من نكد الدنيا وتعبها، وقيل ما هو أعم، فالحياة الطيبة في الدنيا بالتوفيق للطاعة والرزق الحلال، وفي القبر بالراحة من النكد والتعب، وفي الجنة بالنعيم المقيم. قوله: ﴿ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ أي في الجنة، واستفيد من هذا، أن الحياة الطيبة ليست هي الجزاء، لأنه قد قيل بأنها تكون في الدنيا أو القبر، وليس النعيم في ذلك بجزاء، بل الجزاء ما كان في الآخرة بالجنة وما فيها. قوله: ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْآنَ ﴾ حكمة التفريع على ما تقدم، أن قراءة القرآن من أفضل الأعمال، فطلب بالاستعاذة عند قراءته، ليحفظ من الضياع المترتب على الوساوس الشيطانية، والمعنى إذا علمت مما تقدم، أن عظم الجزاء محاسن الأعمال، فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم. عند قراءة القرآن، الذي هو أحسن الأعمال وأزكاها. قوله: (أي أردت قراءته) أشار بذلك إلى أن الأمر بالاستعاذة قبل القراءة، وإليه ذهب أكثر الفقهاء والمحدثين، ووجهه أن الاستعاذة تذهب الوسوسة، فتقديمها أولى، وذهب الأقل إلى إبقاء الآية على ظاهرها، وأن الأمر بالاستعاذة بعد تمام القراءة، ووجه بأن القارىء يستحق الثواب العظيم على قراءته، وربما حصلت له الوسوسة في قلبه، هل حصل له ذلك أم لا؟ فأمر بالاستعاذة لتذهب تلك الوسوسة، ويبقى الثواب خالصاً، لأن التردد في صدق الوعد بالثواب من أسباب منعه. قوله: ﴿ فَٱسْتَعِذْ ﴾ السين والتاء للطلب، أي اطلب من الله التعوذ والتحصن من شره، والأمر للاستحباب، وظاهر الآية، أن الاستعاذة مطلوبة عند قراءة القرآن مطلقاً في الصلاة وغيرها، وأنه أخذ الشافعي ووافقه مالك في النفل، وكره الاستعاذة في صلاة الفرض، لدليل أخذه من السنة. قوله: (أي قل أعوذ بالله) الخ، هذا بيان للأفضل، وإلا فامتثال الأمر يحصل بأي صيغة كانت، وعن ابن مسعود رضي الله عنه: قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم، فقال: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، هكذا أقرأنيه جبريل عن القلم عن اللوح المحفوظ وأراد بالقلم الذي نسخ به من اللوح المحفوظ، ونزل به جبريل دفعة إلى سماء الدنيا، وليس المراد به القلم الذي كتب في اللوح المحفوظ، فإنه مقدم الرتبة على اللوح. قوله: ﴿ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ ﴾ هو من شطن إذا بعد، أو من شاط إذا احترق، والرجيم بمعنى المرجوم أي المطرود عن رحمة الله. قوله: ﴿ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ ﴾ تعليل لمحذوف، والتقدير فإذا استعذت بالله كفيت شره، ودخلت في أمان الله لأنه الخ. قوله: (تسلط) أي استيلاء وقهر.
قوله: ﴿ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ ﴾ مقابل قوله: ﴿ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾.
وقوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ﴾ مقابل قوله:﴿ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾[النحل: ٩٩].
قوله: (أي الله) بذلك إلى أن الضمير راجع لربهم والباء للتعدية، ويصح أن يعود على الشيطان، وتكون الباء سببية وهي أولى، لعدم تشتيت الضمائر. قوله: ﴿ وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً ﴾ الخ، سبب نزولها، أن المشركين من أهل مكة قالوا: إن محمداً يسخر بأصحابه، يأمره اليوم بأمر، وينهاهم عنه غداً، ما هذا إلا مفتر يتقوله من تلقاء نفسه. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ ﴾ هذه الجملة معترضة بين الشرط وجوابه، أتى بها تسلية له صلى الله عليه وسلم، والمعنى والله أعلم بالناسخ والمنسوخ، فيكفيك علمه، فلا يحزنك ما قالوه. قوله: (تقوله من عندك) أتختلقه من عند نفسك وليس بقرآن. قوله: (حقيقة القرآن) أي وهو أنه اللفظ المنزل من عند الله على محمد صلى الله عليه وسلم للإعجاز بأقصر سورة منه المتعبد بتلاوته. قوله: (وفائدة النسخ) أي وهي المصالح التي تعود على العباد. قوله: ﴿ رُوحُ ٱلْقُدُسِ ﴾ بضم الدال وسكونها، قراءتان سبعيتان، أي الروح المقدس، بمعنى المطهر المنزه على الرذائل، فهو من إضافة الموصوف للصفة. قوله: ﴿ بِٱلْحَقِّ ﴾ الباء للملابسة، أي نزله تنزيلاً ملتبساً بالحق. قوله: (بإيمانهم به) أي بسبب إيمانهم بالقرآن. قوله: ﴿ لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ أي وأما لغيرهم فهو خسران، لا يزيدون به إلا ضلالاً، فهو تعريض بحصول ضد ذلك لغير المسلمين. قوله: ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ ﴾ أي علماً مستمراً لا تجدد فيه. قوله: ﴿ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ ﴾ ﴿ إِنَّمَا ﴾ أداة حصر، أي لا يعلم محمد القرآن إلا بشر، لا جبريل كما يقول. قوله: (وهو قين) أي حداد وكان رومياً وفي نسخه قن أي عبد واسمه جبر، وهو غلام عامر بن الحضرمي، وقيل يعنون جبراً ويساراً، كانا يصنعان السيوف بمكة، ويقرآن التوراة والإنجيل باللغة التي نزلا بها، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يمر عليهما ويسمع ما يقرآنه، ليتسلى بما وقع للأنبياء قبله، وقيل غير ذلك، وعلى كل فقد ورد أنه أسلم ذلك البشر الذي نسبوا لرسول الله التعلم منه. قوله: (قال تعالى) أي رداً عليهم. قوله: (يميلون) ﴿ إِلَيْهِ ﴾ أي ينسبون إليه أنه يتعلم منه. قوله: ﴿ أَعْجَمِيٌّ ﴾ الأعجمي الذي لم يتكلم بالعربية. قوله: ﴿ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ ﴾ أي ولا يكون العربي متلقياً من العجمي. قوله: (فكيف يعلمه أعجمي) أي لا يصح ولا يليق ذلك لاستحالته عادة.
قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ﴾ أي في علمه، وقوله: ﴿ لاَ يَهْدِيهِمُ ٱللَّهُ ﴾ أي في الخارج. قوله: ﴿ وَأُوْلـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ ﴾ أي في قولهم إنما يعلمه بشر. قوله: (والتأكيد) مبتدأ، وقوله: (رد) خبر.
قوله: ﴿ مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ ﴾ نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر، وذلك أنه من جملة السبعة السابقين للإِسلام وهم: عمار وأبوه ياسر وأمه سمية وصهيب وبلال وخباب وأبو بكر الصديق رضي الله عنهم، وذلك أن الكفار، أخذوهم وعذبوهم ليرجعوا عن الإيمان، فأما سمية أم عمار، فربطوها بين بعيرين، وضربها أبو جهل بحربة في فرجها فماتت، وقتل زوجها ياسر، وهما أول قتيلين في الإِسلام، وأما عمار فإنه أعطاهم بعض ما أرادوا بلسانه، وقلبه كاره لذلك،" فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن عماراً كفر، كلا إن عماراً مليء إيماناً من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه، فأتى عمار وهو يبكي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما وراءك؟ فقال: شر يا رسول الله، نلت منك وذكرت، فقال: كيف وجدت قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان، فجعل النبي يمسح عينيه وقال له: إن عادوا لك فقل لهم ما قلت "وأما بلال فكانوا يعذبونه وهو يقول: أحد أحد، حتى اشتراه أبو بكر وأعتقه، وأما خباب فقد أوقدوا له ناراً، فلم يطفئها إلا ودك ظهره، وأما أبو بكر فحفظه الله بقومه وعشيرته. وفيما فعله عمار، دليل على جواز التلفظ بالكفر عند خوف القتل، ولكن القتل أجمل، كما وقع من أبويه، ولما روي" أن مسيلمة أخذ رجلين فقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله، قال: ما تقول فيّ، قال: أنت أيضاً فخلاه. وقال للآخر: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله، قال: ما تقول فيّ؟ قال: أنا أصم، فأعاد عليه ثلاثاً، فأعاد جوابه فقتله، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما الأول فقد أخذ برخصة الله، وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئاً له "قوله: (على التلفظ بالكفر) أي أو فعله. قوله: (والخبر أو الجواب) الخ، الأولى تقدير هذا قبل الاستثناء. قوله: (لهم وعيد) الأولى أن يقدره بالفاء، لأن الجواب إذا وقع جملة اسمية يقرن بالفاء، والمبتدأ الذي يشبه الشرط، يقرن خبره بالفاء أيضاً لشبهة بالشرط. قوله: (دل على هذا) أي على الجواب أو الخبر. قوله: ﴿ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ ﴾ أتى بالاستدراك، لأنه ربما يتوهم من قوله إلا من أكره، أنه حين الإكراه يجوز التكلم بالكفر، ولو انشرح صدره له في بعض الأحيان، فدفع التوهم بالاستدراك. ولا يبعد الوهم قوله: ﴿ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ ﴾، و ﴿ مَنْ ﴾ إما شرطية أو موصولة، ويلزم تقدير مبتدأ قبل ﴿ مَنْ ﴾، وما قيل إن الاستدراك لا يقع في الشروط ممنوع. قوله: (بمعنى طابت به نفسه) أي قبله وما إليه. قوله: ﴿ فَعَلَيْهِمْ ﴾ جمع مراعاة لمعنى ﴿ مِّنَ ﴾.
قوله: ﴿ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمُ ﴾ أي حاصل وثابت بسبب أنهم الخ، فاسم الإشارة مبتدأ، والجار والمجرور في محل رفع خبره. قوله: ﴿ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ ﴾ أي لا يوصلهم إلى الإيمان، ولا يعصمهم من الزيغ. قوله: ﴿ أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ ﴾ الخ، أي جعل عليها غلافاً معنوياً، بحيث لا تذعن للحق، ولا تسمعه ولا تبصره. قوله: ﴿ ٱلْخَاسِرونَ ﴾ أي لأنهم ضيعوا أعمارهم في غير منفعة تعود عليهم، والموجب لخسرانهم، أن الله تعالى وصفهم بست صفات تقدمت: الغضب، والعذاب العظيم، واختيار الدنيا على الآخرة، وحرمانهم من الهدى، والطبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، وجعلهم من الغافلين. قوله: ﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ ﴾ نزلت هذه الآية في عياش بن ربيعة، وكان أخا أبي جهل من الرضاعة، وقيل من أمه، وفي أبي جندل بن سهل بن عمرو، والوليد بن الوليد بن المغيرة، وسلمة بن هشام، وعبدالله بن أسد الثقفي، فتنهم المشركون وعذبوهم، فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم، ثم هاجروا وجاهدوا. قوله: ﴿ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ ﴾ متعلق بمحذوف هو خبر إن، أي لغفور رحيم للذين هاجروا، وهذا معنى قوله الآتي، وخبر ﴿ إِنَّ ﴾ الأولى الخ، قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً، وعليها فيحتمل أن الفعل لازم، فيكون معنى قوله: ﴿ فُتِنُواْ ﴾، افتتنوا بمعنى قامت بهم الفتنة، وقد أشار له المفسر بقوله: (أي كفروا) أو متعد كما قال: (أو فتنوا الناس عن الإيمان).
قوله: ﴿ يَوْمَ تَأْتِي ﴾ ﴿ يَوْمَ ﴾ ظرف معمول لمحذوف قدره المفسر بقوله (اذكر)، والأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، أي اذكر يا محمد لقومك، أهوال الآخرة وما يقع فيها، لعلهم يعتبرون. قوله: (تحاج) أي تخاصم وتسعى في خلاصها. قوله: ﴿ عَن نَّفْسِهَا ﴾ إن قلت: إن ظاهر الآية مشكل، لأنه يقتضي أن النفس لها نفس وليس كذلك. أجيب: بأن المراد بالنفس الأولى، الإنسان المركب من جسم وروح وحقيقة، والمراد بالنفس الثانية، الذات المركبة من جسم وروح غير ملاحظ فيها الحقيقة فاختلفا بالاعتبار، فكأنه قال: يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته ولا يهمه غيره، والمراد بالمجادلة الاعتذار بما لا يقبل منهم، كقولهم: والله ربنا ما كنا مشركين، روي عن ابن عباس أنه قال: ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة، حتى يخاصم الروح الجسد، فيقول الروح: يا رب لم يكن لي يد أبطش بها، ولا رجل أمشي بها، ولا عين أبصر بها، فضعف عليه العذاب، فيقول الجسد: يا رب أنت خلقتني كالخشبة، ليس لي يد أبطش بها، ولا رجل أمشي بها، ولا عين أبصر بها، فجاء هذا الروح كشعاع النور، فيه نطق لساني، وبه أبصرت عيناي، وبه مشت رجلاي، فيضرب الله لهم مثلاً، أعمى ومقعداً دخلا حائطاً أي بستاناً فيه ثمار، فالأعمى لا يبصر الثمر، والمقعد لا يتناوله. فحمل الأعمى المقعد فأصابا الثمر، فعلى من يكون العذاب؟؟ قالا: عليهما، قال: عليكما جميعاً العذاب. إذا علمت ذلك، تعلم أن هذا الوعيد خاص بالكافر، وأما المؤمن فهو في أمن وأمان، لا يحزنه الفزع الأكبر، وإن كان يحصل له الخوف من جلال الله وهيبته، لأن الله تعالى سبحانه وتعالى في ذلك اليوم، يتجلى بالجلال على عباده، فيخاف المسلمون والمشركون، فالمشركون يخافون من العذاب اللاحق لهم، والمسلمون يخافون من هيبته تعالى، وإن كانوا مطمئنين بالإيمان. قوله: (لا يهمها غيرها) أي لشغلها بهمها. قوله: ﴿ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ (شيئاً) أي لا يعذبون من غير ذنب، أو المراد لا ينقصون من أجورهم شيئاً، والأول أولى، لأن نفي النقص من الأجر علم من قوله: ﴿ وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ ﴾.
قوله: ﴿ وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً ﴾ المثل تشبيه قول بقول آخر بينهما مشابهة، ليتبين أحدهما ويظهر. قوله: (هي مكة) هذا هو المشهور بين المفسرين وهو الصحيح، وعليه فالآية مدنية، لأن الله تعالى وصف القرية بصفات ست، كانت هذه الصفات في أهل مكة، حين كان النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وعلى القول بأنها مكية، يكون إخباراً بالغيب، تنزيلاً لما سيقع منزلة الواقع لتحقق الحصول. قوله: ﴿ رَغَداً ﴾ بفتح الراء والغين المعجمة، يقال رغد العيش بالضم رغادة اتسع. قوله: ﴿ مِّن كُلِّ مَكَانٍ ﴾ أي من كل جهة من البر والبحر. قوله: ﴿ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ ﴾ جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء، كدرع وأدرع، أو جمع نعماء، كأبؤس وبأساء. قوله: (بتكذيب النبي) الباء سببية. قوله: ﴿ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ ﴾ أي وذلك أن الله ابتلاهم بالجوع سبع سنين، فقطع عنهم المطر، وقطعت العرب عنهم الميرة، حتى جهدوا، فأكلوا العظام المحرقة والجيف والكلاب والميتة، وشربوا الدماء، واشتد بهم الأمر، حتى كان أحدهم ينظر إلى السماء فيرى شبه الدخان، ثم إن رؤساء مكة، كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فقالوا له: ما هذا دأبك، عاديت الرجال، فما بال النساء والصبيان، فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس في حمل الطعام إليهم، وفي رواية أنهم أرسلوا إليه أبا سفيان بن حرب في جماعة، فقدموا عليه المدينة، وقال له أبو سفيان: يا محمد إنك جئت تأمر بصلة الرحم والعفو، وإن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم، فدعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأذن للناس بحمل الطعام إليهم وهم بعد مشركون، واعلم أن العلماء ذكروا في هذه الآية ثلاث استعارات: الأولى تصريحية أصلية في الجوع والخوف، من حيث إضافة اللباس إليهما، وتقريرها أن يقال: شبه ما غشيهم من اصفرار اللون ونحولة البدن وسوء الحال باللباس بجامع الظهور في كل، واستعير اسم المشبه به للمشبه. الثانية مكنية، وتقريرها أن يقال: شبه ذلك اللباس من حيث الكراهية، بالطعم المر البشع، طوى ذكر المشبه به، ورمز له بشيء من لوازمه وهو الإذاقة، فإثباتها تخييل: الثالثة تبعية وتقريرها أن يقال: شبه الابتلاء بالإذاقة، واستعير اسم المشبه به للمشبه، واشتق منه الإذاقة أذاقهم بمعنى ابتلاهم. قوله: (بسرايا النبي) الباء سببية، والمراد بسراياه جماعته التي كان يبعثها للإغارة عليهم، فكان أهل مكة يخافونهم. قوله: ﴿ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴾ أي بسبب صنعهم، أو بسبب الذي كانوا يصنعونه. قوله: ﴿ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ ﴾ أي أهل مكة. قوله: ﴿ رَسُولٌ مِّنْهُمْ ﴾ أي من جنسهم. قوله: ﴿ وَهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ الجملة حالية، والمراد بالظالمين الكافرون. قوله: ﴿ فَكُلُواْ ﴾ مفرع على التمثيل، أي فإذا علمتم ما حصل للكفار من الحرمان، وما حل بهم، بسبب كفر النعم، فدوموا أيها المؤمنون على حالتكم المرضية وكلوا الخ. قوله: ﴿ حَلَـٰلاً طَيِّباً ﴾ حالان من ما، أي كلوّا مما رزقكم الله به حال كونه حلالاً طيباً. قوله: ﴿ تَعْبُدُونَ ﴾ أي تطيعون. قوله: ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ ﴾ الخ شروع في ذكر المحرمات، ليعلم أن ما عدا ذلك حلال طيب قوله: ﴿ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ ﴾ أي خارج على الإمام كالبغاة، وقوله: ﴿ وَلاَ عَادٍ ﴾ أي قاطع للطريق، فلا يباح لهم تعاطي الميتة إذا اضطروا ما لم يتوبوا، وأما المضطر غير ما ذكر، فيحل له الأكل منها والشبع والتزود عند مالك، وعند الشافعي لا يحل له إلا ما يسد رمقه. قوله: ﴿ وَلاَ تَقُولُواْ ﴾ (لا) ناهية والفعل مجزوم بحذف النون، والواو فاعل، وقوله: ﴿ هَـٰذَا حَلاَلٌ ﴾ الخ مقول القول، وقوله: ﴿ لِمَا تَصِفُ ﴾ اللام للتعليل، وما مصدرية و ﴿ ٱلْكَذِبَ ﴾ مفعول لتصف، قوله: ﴿ لِّتَفْتَرُواْ ﴾ بدل من التعليل الأول، والمعنى لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام، لأجل وصف ألسنتكم الكذب، افتراء على الله بنسبة ذلك إليه. قوله: (بنسبة ذلك) أي التحليل والتحريم. قوله: ﴿ لاَ يُفْلِحُونَ ﴾ أي لا يفوزون ولا يظفرون بمطلوبهم، لا في الدنيا ولا في الآخرة، والوقف هنا، وقوله: ﴿ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ﴾ كلام مستأنف. قوله: ﴿ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ﴾ مبتدأ خبره محذوف، قدره المفسر بقوله: (لهم) وقدره مقدماً ليكون مسوغاً للابتداء بالنكرة.
قوله: ﴿ وَعَلَىٰ ٱلَّذِينَ هَادُواْ ﴾ شروع في ذكر ما يخص اليهود من التحريم، إثر بيان ما يحل لأهل الإسلام وما يحرم عليهم، وتحريم الشيء إما لضرر فيه، وإما لبغي المحرم عليهم، فأشار للأول بقوله: ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ ﴾ الخ، وأشار للثاني بقوله: ﴿ وَعَلَىٰ ٱلَّذِينَ هَادُواْ ﴾ الخ. قوله: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ ﴾ لما بالغ في تهديد المشركين، وبين ما حل وما حرم، ذكر أن فعل تلك القبائح، لا يمنع من التوبة والرجوع والإنابة، بل باب التوبة مفتوح لكل كافر ما لم يغرغر، فهو ترغيب للكافر في الإسلام، وللعاصي في التوبة، والإقلاع عن الذنوب. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ ﴾ متعلق بمحذوف دل عليه خبر ﴿ إِنَّ ﴾ الآتية، تقديره ثم إن ربك لغفور رحيم للذين عملوا السوء، الخ. قوله: ﴿ بِجَهَالَةٍ ﴾ أي بسبب جهل العواقب وجلال الله، إذ لا يقع الذنب إلا من جاهل بالعواقب، أو جاهل بجلال الله، ولو علم قدر العقاب المدخر للعاصي، ما قدم على معصية قط. قوله: ﴿ مِن بَعْدِ ذَلِكَ ﴾ أي الشرك. قوله: (أو التوبة) أو لتنويع الخلاف في مرجع الضمير. قوله: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ﴾ للمفسرين في معنى هذه اللفظة أقوال، قيل الأمة معلم الخير، أي إنه كان معلماً للخير، يأتم به أهل الدنيا، وقيل إنه كان مؤمناً وحده، والناس كلهم كفار، فلهذا المعنى كان أمة وحده، وقيل الأمة الذي يقتدى ويؤتم به، لأنه كان إماماً يقتدى به، وفي الأصل الأمة الجماعة، وإطلاق الأمة بمعنى الجماعة عليه، لجمعه أوصاف الكمالات التي تفرقت في الخلق، ومنه قول الشاعر: وليس على الله بمستنكر   أن يجمع العالم في واحدوقد ذكر الله في هذه الآيات من صفات إبراهيم، عشرة أوصاف حميدة. قوله: (مائلاً إلى الدين القيم) أي تاركاً لما عداه من الأديان الباطلة. قوله: ﴿ وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾ هذا الوصف قد علم التزاماً منقوله: ﴿ حَنِيفاً ﴾ وإنما ذكره رداً على المشركين، حيث زعموا أنهم على ملة إبراهيم. قوله: ﴿ شَاكِراً لأَنْعُمِهِ ﴾ أي صارفاً جميع ما أنعم الله به عليه، إلى ما خلق لأجله فهو معصوم عن الغفلة، وعن كل شاغل يشغله عن الله، ظاهراً وباطناً. قوله: ﴿ ٱجْتَبَاهُ ﴾ أي اختاره من دون خلقه، وهذا الوصف وما بعده، ناشىء من الله خاصة، لم يكن له فيه كسب، إشارة إلى أن ما نشأ عنه من الأخلاق الحميدة والأفعال الجميلة، باختيار الله له لا بنفسه. قوله: ﴿ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ أي دين قويم لا اعوجاج فيه. قوله: (فيه التفات عن الغيبة) أي إلى التكلم، إشارة إلى زيادة الاعتناء بشأنه. قوله: (هي الثناء الحسن) أي الذكر بخير. قوله: (في كل أهل الأديان) أي عند كل أهل الملل، فجميعهم يترضون عنه ولا يكفرون به، ويزعمون أنهم على ملته. قوله: ﴿ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ ﴾ أي من أكملهم وأعلاهم درجة، وهذا تتميم لقوله: ﴿ وَآتَيْنَاهُ فِي ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةً ﴾ فإن حسنة الدنيا لا تتم إلا بحسنة الآخرة.
قوله: ﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ ﴾ هذا هو الوصف العاشر، ولما كان أعلى الأوصاف لإبراهيم وأجلها وأكملها، اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملته، فصله عما قبله، حيث عطفه بثم. قوله: ﴿ أَنِ ٱتَّبِعْ ﴾ يصح أن تكون ﴿ أَنِ ﴾ تفسيرية أو مصدرية، فتكون مع ما دخلت عليه في محل نصب مفعول لقوله: ﴿ أَوْحَيْنَآ ﴾.
قوله: ﴿ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ﴾ أي شريعته، ومعنى اتباع النبي فيها اتباعه في الأصول، وهي عقائد التوحيد، فرسول الله أمر باتباع إبراهيم، بل وباتباع من تقدمه من الأنبياء في التوحيد، لأنهم مشتركون فيه، قال تعالى:﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً ﴾[الشورى: ١٣] الآية. قوله: ﴿ حَنِيفاً ﴾ حال من ﴿ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ﴾ وهو وإن كان مضافاً إليه، إلا أن شرطه موجود، وهو أن المضاف كالجزء من المضاف إليه، لأنه يصح الاستغناء بالثاني عن الأول. قوله: (رداً على زعم اليهود والنصارى) المناسب لأن يقول رداً على المشركين، لأن اليهود والنصارى لم يكونوا مدعين الإشراك. قوله: ﴿ إِنَّمَا جُعِلَ ٱلسَّبْتُ ﴾ الخ، هذا رد على اليهود، حيث كانوا يدعون أن تعظيم السبت من شريعة إبراهيم، وهم متبعون له، فرد الله عليهم بأنه ليس السبت من شريعة إبراهيم التي زعمتم أنكم متبعون لها، بل كان من شريعته تعظيم يوم الجمعة، ولذا اختاره الله للأمة المحمدية، لأنه يوم تمام النعمة، ويوم المزيد في الجنة. قوله: ﴿ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ ﴾ أي خالفوا ربهم، حيث أمرهم على لسان نبيهم، أن يعظموا يوم الجمعة بالتفرغ للعبادة فيه، فأبوا واختاروا السبت، فشدد عليهم بتحريم الاصطياد فيه عليهم، وليس المراد بالاختلاف أن بعضهم رضي به والبعض لم يرض، بل المراد امتناع الجميع. قوله: (واختاروا السبت) أي وقالوا لأنه تعالى فرغ فيه من خلق السماوات والأرض وما فيهما، فنحن نوافق ربنا في ترك الأعمال يوم السبت، واختارت النصارى يوم الأحد، وقالوا لأنه مبدأ الخلق، فنجعله عيداً لنا. قوله: (من أمره) أي السبت. قوله: (بأن يثيب الطائع) أي وهو من لم يصطد به ويعظمه. قوله: (ويعذب العاصي) أي وهو من صنع الحيلة، واصطاد فيه، فعذبوا في الدنيا بمسخهم قردة وخنازير، وفي الآخرة بالعذاب الدائم.
قوله: ﴿ ٱدْعُ ﴾ فعل أمر، وفاعله مستتر وجوباً تقديره أنت، ومفعوله محذوف قدره المفسر بقوله: (الناس) وفي هذه إشارة إلى أن بعثته عامة، وعبر بالناس وإن كان داعياً للجن أيضاً، باعتبار ما ظهر لنا فقط. قوله: (دينه) سمي الدين سبيلاً، لأنه الموصل لدار السعادة الأبدية، والسعادة السرمدية. قوله: (بالقرآن) أي وسمي حكمة، لأنها العلم النافع. قوله: ﴿ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ ﴾ عطف خاص على عام، لأن القرآن مشتمل على مواعظ وغيرها، والمراد بالموعظة الحسنة الترغيب والترهيب، والحكمة في ذكر الموعظة الحسنة، التشويق للعبادة والنشاط لها، وسهولة العبد عن المخالفات، لما في الحديث" كان صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة أحياناً، مخافة السآمة علينا "أي يخلل كلامع بالترغيب والترهيب في بعض الأحيان، لئلا يحصل لنا الملل من توالي الأمر والنهي، وتتابعهما من غير تخللهما بشيء يروح النفوس ويشوقها، ويحثها على فعل الطاعات واجتناب المنهيات. قوله: (أو القول الرفيق) تفسير ثان للموعظة الحسنة، والمراد بالقول الرفيق، الألفاظ التي فيها اللين والرفق كقوله تعالى:﴿ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰ ﴾[الشورى: ٢٣] وقوله تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون﴿ وَيٰقَوْمِ مَا لِيۤ أَدْعُوكُـمْ إِلَى ٱلنَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِيۤ إِلَى ٱلنَّارِ ﴾[غافر: ٤١] الآيات. قوله: ﴿ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ أي ليترتب على ذلك حصول الفائدة لهم، والانقياد للطريق القويم. قوله: (بآياته) أي كقصة إبراهيم مع قومه، حيث قال لهم حين جن عليه الليل ورأى كوكباً﴿ رَأَى كَوْكَباً ﴾[الأنعام: ٧٦] الخ. قوله: (والدعاء إلى حججه) أي براهينه ودلائله، قال تعالى:﴿ قُلِ ٱنظُرُواْ مَاذَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾[يونس: ١٠١] الآية. قوله: (أي عالم) أشار بذلك إلى أن اسم التفضيل ليس على بابه، ودفع بذلك ما يقال إن اسم التفضيل يقتضي المشاركة، مع أن صفات الله قديمة، لا مشارك له فيها. قوله: ﴿ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ﴾ أي حاد وزاغ عنه. قوله: ﴿ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ ﴾ حكمة التعبير في جانب أهل الهدى بصيغة الاسم، وفي جانب أهل الضلال بالفعل، الإشارة إلى أن أهل الهدى، استمروا على الفطرة الأصلية، وأهل الضلال غيروا تلك الفطرة وبدلوها بأحداث الضلال. إن قلت: قوله تعالى:﴿ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾[العصر: ٢-٣] الخ، يقتضي أن الأصل في الإنسان، الضلال والهدى طارىء عليه. أجيب: بأنه محمول على العالم الجسماني، أي أن الأصل في الإنسان، باعتبار عالم الأجساد الخسران والضلال، والهدى طارىء ببعثه الرسل، وما في هذه الآية محمول على عالم الأرواح، وهو الأصيل، لأن الله لما خاطب الأرواح في عالم الذر وقال لهم: ألست بربكم؟ قالوا جميعاً: بلى، فالمهتدي في عالم الأجساد استصحب ذلك الأصل، ومن ضل في عالم الأجساد، فقد نسي ذلك العهد، وتبع شهوات نفسه. ثم اعلم أن مقتضى حل المفسر، يقتضي أن المدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن واحد، وقال بعضهم: الناس خلقوا ثلاثة أقسام، الأول العلماء الراسخون، فهم المشار إليهم بقوله: ﴿ ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ ﴾ أي العلم النافع، لينتفعوا وينفعوا الناس. الثاني الذين لم يبلغوا حد الكمال، وكانوا دون الأوائل، وهم المشار إليهم بقوله: ﴿ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ ﴾.
الثالث الكفار أصحاب الجدال والخصام، وهم المشار إليهم بقوله: ﴿ وَجَٰدِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ أي لينقادوا للحق ويرجعوا إليه. قوله: (وهذا قبل الأمر بالقتال) أشار بذلك إلى أن الآية منسوخة، وقيل ليست منسوخة، لأن الأمر بالمجادلة الحسنة، ليس فيها نهي عن القتال، بل المراد ادعهم وجادلهم برفق في أول الأمر، فإن امتثلوا فواضح، وإلا فشيء آخر. قوله: (ونزل) أي بالمدينة. قوله: (لما قتل حمزة) أي في السنة الثانية في أحد، وحمزة عم رسول الله وأخوه من الرضاع، وقريبه من الأم أيضاً، وكان أسن من النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين. قوله: (ومثل به) أي مثل به المشركون، فقطعوا أنفه وأذنيه، وذكره وأنثييه وفجروا بطنه. قوله: (وقد رآه) الجملة حالية. قوله: (والله لأمثلن) الخ في كلام المفسر اختصار للحديث، ولفظه" أما والله لئن ظفرني الله بهم لأمثلن "الخ.
قوله: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ ﴾ أي أردتم المعاقبة. قوله: ﴿ وَلَئِن صَبَرْتُمْ ﴾ أي عفوتم وتركتم القصاص. قوله: ﴿ لَهُوَ ﴾ بضم الهاء وسكونها، قراءتان سبعيتان. قوله: (فكف) أي عن التمثيل بهم. قوله: ﴿ وَٱصْبِرْ ﴾ الخطاب للنبي، والمراد به العموم، تعليماً للأمة حسن الأدب. قوله: ﴿ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِٱللَّهِ ﴾ أي بإقداره لك عليه لا بنفسك، فإن الصبر كالحب والبغض قائم بالقلب، والقلب بيد الله يقلبه كيف يشاء، فمن خلق الله فيه الصبر صبر، ومن لا فلا، فليس للعبد مدخل فيه. قوله: ﴿ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ﴾ أي لا تتأسف على إعراضهم عن الهدى. قوله: ﴿ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ ﴾ بفتح الضاد وكسرها، قراءتان سبعيتان، أي لا يكن فيه ضيق، فالكلام على القلب، وإنما أتى به مقلوباً، إشارة إلى أن الضيق إذا اشتد، كان كالشيء المحيط، وأتى هنا بحذف نون تك، وفي النمل بإثباتها تفنناً، لأن حذفها للتخفيف، وهو حذف غير لازم، قال ابن مالك: ومن مضارع لكان منجزم   تحذف نون وهو حذف ما التزملأن أصل يك يكون، دخل الجازم فسكن النون فالتقى ساكنان، حذفت الواو لالتقائهما، حذفت النون تخفيفاً. قوله: (أي لا تهتم بمكرهم) أشار بذلك إلى أن ما مصدرية، تسبك مع ما بعدها بمصدر. قوله: (بالعون والنصر) أشار بذلك إلى أن المعية مع المتقين، والمحسنين معية معنوية خاصة، وهذا لا ينافي قوله تعالى﴿ وَلاَ أَدْنَىٰ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ﴾[المجادلة: ٧] لأن المعية خاصة وعامة، فالعامة بالتصريف والتدبير لكل مخلوق، والخاصة بالإعانة والنصر والرضا، للمتقين والمحسنين، أحياء وأمواتاً، فرضا الله على المتقين والمحسنين دائم مستمر لا ينقطع، فإذا كان كذلك، فينبغي زيارة الصالحين وخدمتهم، لكونهم في حضرة الرضا أحياء وأمواتاً، لا ينقطع عنهم مدد ربهم؛ وقوله في الحديث" إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، علم ينتفع به "الخ، المراد ثواب أعمالهم المتجدد، فلا يتجدد لهم ثواب عمل، وأما ما ثبت لهم في نظير العمل السابق، فهو دائم مستمر، وإنما يتجدد لهم ثواب علم خلفوه، أو ولد صالح، إلى آخر ما في الحديث. ومن هنا زيارة الصالح الحي، أفضل من زيارة الصالح الميت، لأن الحي أعماله كلها مستمرة الصعود ما دام حياً، ويتجدد له ثوابها، ولذلك تضن روح المؤمن الصالح بالحياة، فلا تحب الموت، لأن فيه عزلها عن خدمة ربها، التي هي أشرف الأشياء وأفضلها.
Icon