تفسير سورة المطفّفين

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة المطففين من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

سورة المطفّفين
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ».
«بِسْمِ اللَّهِ» اسم عزيز رداؤه كبرياؤه، وسناؤه علاؤه، وعلاؤه بهاؤه، وجلاله جماله، وجماله جلاله. الوجود له غير مستفتح، والموجود منه غير مستقبح. المعهود منه لطفه، المأمول منه لطفه.. كيفما قسم للعبد فالعبد عبده إن أقصاه فالحكم حكمه، وإن أدناه فالأمر أمره «١».
قوله جل ذكره:
[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ١ الى ٩]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤)
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩)
«وَيْلٌ» : الويل كلمة تذكر عند وقوع البلاء، فيقال: ويل لك، وويل عليك! و «المطفّف». الذي ينقص الكيل والوزن، وأراد بهذا الذين يعاملون الناس فإذا أخذوا لأنفسهم استوفوا، وإذا دفعوا إلى من يعاملهم نقصوا، ويتجلّى ذلك فى: الوزن والكيل، وفي إظهار العيب، وفي القضاء والأداء والاقتضاء فمن لم يرض لأخيه المسلم ما لا يرضاه لنفسه
(١) هذا هو نصر تفسير البسملة كما جاء في م أمّا في ص فهى على النحو التالي: -[بسم الله: اسم جليل جلاله لا بالأشكال، وجماله لا على احتذاء أمثال، وأفعاله لا بأغواض وأعلال، وقدرته لا باجتلاب ولا احتيال، وعلمه لا بضرورة ولا استدلال، فهو الذي لم يزل ولا يزال، ولا يجوز عليه فناء ولا زوال].
وهذا هو تفسير بسملة سورة الانشقاق كما جاء في م وكما سنرى، ومعنى هذا أن اضطرابا حدث في الأمر.
وما دمنا نعرف أن القشيري لا يستوحى إشارته من كل بسملة بطريقة عفوية، ولكن على أساس المغزى العام للسورة.. فقد اخترنا أن تكون بسملة «المطففين» هى هذه على أساس أن قسمة الله للعبد قسمة عادله لبس فيها (تطفيف)، وأن ما أوجده الله من وجود (غير مستقبح). [.....]
699
فليس بمنصف. وأمّا الصّدّيقون فإنهم كما ينظرون للمسلمين فإنهم ينظرون لكلّ من لهم معهم معاملة- والصدق عزيز، وكذلك أحوالهم في الصّحبة والمعاشرة.. فالذى يرى عيب الناس ولا يرى عيب نفسه فهو من هذه الجملة- جملة المطففين- كما قيل:
وتبصر في العين منّى القذى وفي عينك الجذع لا تبصر
ومن اقتضى حقّ نفسه- دون أن يقضى حقوق غيره مثلما يقتضيها لنفسه- فهو من جملة المطففين.
والفتى من يقضى حقوق الناس ولا يقتضى من أحد لنفسه حقّا.
قوله جل ذكره: «أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ؟ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» أي: ألا يستيقن هؤلاء أنهم محاسبون غدا، وأنهم مطالبون بحقوق الناس؟.
ويقال: من لم يذكر- فى حال معاملة الناس- معاينة القيامة ومحاسبتها فهو فى خسران في معاملته.
ويقال: من كان صاحب مراقبة لله ربّ العالمين استشعر الهيبة في عاجله، كما يكون حال الناس في المحشر لأنّ اطلاع الحقّ اليوم كاطلاعه غدا.
قوله جل ذكره: «كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ؟ كِتابٌ مَرْقُومٌ» «سِجِّينٍ «١» » قيل: هى الأرض السابعة، وهي الأرض السفلى، يوضع كتاب أعمال الكفار هنالك إذلالا لهم وإهانة، ثم تحمل أرواحهم إلى ما هنالك.
(١) فى رواية عن أنس أنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «سجّين أسفل الأرض السابعة».
700
ويقال: «السّجين» جبّ في جهنم. وقيل: صخرة في الأرض السفلى، وفي اللغة السّجين: فعيل من السجن.
«وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ». استفهام على جهة التهويل «كِتابٌ مَرْقُومٌ». أي مكتوب كتب الله فيه ما هم عاملون، وما هم إليه صائرون.
وإنما المكتوب على بنى آدم في الخير والشر، والشقاوة والسعادة فهو على ما تعلّق به علمه وإرادته، وإنما أخبر على الوجه الذي علم أن يكون أو لا يكون، وكما علم أنه يكون أو لا يكون أراد أن يكون أو لا يكون. ثم إنه سبحانه لم يطلع أحدا على أسرار خلقه إلّا من شاء من المقربين بالقدر الذي أراده فإنه يجرى عليهم في دائم أوقاتهم ما سبق لهم به التقدير.
ثم قال:
[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ١٠ الى ٢١]
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤)
كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩)
كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١)
ويل للذين لا يصدّقون بيوم الدين، وما يكذّب به إلا كل مجاوز للحدّ الذي وضع له إذا يتلى عليه القرآن كفر به.
«كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ» أي: غطّى على قلوبهم ما كانوا يكسبون من المعاصي.. وكما أنهم- اليوم- ممنوعون عن معرفته فهم غدا ممنوعون عن رؤيته. ودليل الخطاب يوجب أن يكون المؤمنون يرونه غدا كما يعرفونه اليوم.
قوله جل ذكره: «كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ» «عِلِّيِّينَ» أعلى الأمكنة، تحمل إليه أرواح الأبرار تشريفا لهم وإجلالا.
ويقال: إنها سدرة المنتهى. ويقال: فوق السماء السابعة. كتاب مرقوم فيه أعمالهم مكتوبة يشهده المقربون «١» من الملائكة.
[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ٢٢ الى ٢٤]
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤)
اليوم وغدا: اليوم في روح العرفان، وراحة الطاعة والإحسان، ونعمة الرضا وأنس القربة وبسط الوصلة. وغدا- فى الجنة وما وعدوا به من فنون الزلفة والقربة.
قوله تعالى: «عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ» أثبت النظر ولم يبيّن المنظور إليه لاختلافهم في أحوالهم فمنهم من ينظر إلى قصوره.
ومنهم من ينظر إلى حوره، ومنهم ومنهم.. ومنهم الخواصّ فهم على دوام الأوقات إلى الله- سبحانه- ينظرون.
قوله جل ذكره: «تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ» من نظر إليهم علم أنّ أثر نظره إلى مولاه ما يلوح على وجهه من النعيم فأحوال المحبّ شهود عليه أبدا. فإن كان الوقت وقت وصال فاختياله ودلاله، وسروره وحبوره، ونشاطه وانبساطه. وإن كان الوقت وقت غيبة وفراق فالشهود عليه نحوله وذبوله، وحنينه وأنينه، ودموعه وهجوعه.. وفي معناه قلت «٢».
يا من تغيّر صورتى لمّا بدا - لجميع ما ظنوا بنا- تحقيق
(١) هكذا في ص وفي م (يشهد) بدون ضمير غائب، وحسب النسخة الأولى تكون عودة الضمير على الكتاب المرقوم، وحسب النسخة الثانية يكون الكلام مستمرا خصوصا ولم يبدأ كالعادة بعلامة نشعر ببدء الآية مثل:
قوله تعالى أو قوله جل ذكره.. أي: يشهد المقربون أن الأبرار لفى نعيم، ويتقوّى الرأى الأول بما قاله القشيري منذ قليل: إن الله يطلع بعض المقربين على أسرار خلقه بالقدر الذي يريده سبحانه، كذلك فإن السياق- على الفهم الثاني- يقتضى فتح همزة (إن الأبرار... ) ولكنها مكسورة مما يدل على أن الكلام مستأنف- اللهم إلا إذا كانت يشهد بمعنى يقسم- فالشهادة ترد بمعنى القسم- كما مرّ من قبل... وهمزة إن تكسر بعد القسم.
(٢) نسعد كثيرا جدا بهذا الشعر الذي صاغه القشيري، فهو شاعر مقلّ، ولكنه- كما هو واضح- رقيق دقيق.
وربما كان معنى النص الأول على هذا الترتيب: يا من تغيّر صورتى- لمّا بدا- تحقيق لجميع ما ظنوا بنا أي أن ما ظهر على أسرّتى من أشياء حاولت كتمانها قد حقّق ظنون الواشين والعاذلين.. فلا فائدة.. فالصبّ تفضحه عيونه! ونحسب أن ما قبل النص، وما يقصده النص الثاني يؤيدان تذوقنا على هذا النحو.
وقلت:فقالوا:
ولمّا أتى الواشين أنّى زرتها جحدت حذارا أن تشيع السرائر
نرى في وجهك اليوم نضرة كست محيّاك «١».. وهاذاك ظاهر!
وبردك لا ذاك الذي كان قبله به طيب نشر لم تشعه المجامر
فما كان منّى من بيان أقيمه وهيهات أن يخفى مريب مساتر!
قوله جل ذكره:
[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ٢٥ الى ٢٨]
يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨)
«مَخْتُومٍ» أي رحيق لا غشّ فيه.
ويقال: عتيق طيّب.
ويقال: إنهم يشربون شرابا آخره مسك.
ويقال: بل هو مختوم قبل حضورهم.
ويقال: «خِتامُهُ مِسْكٌ». ممنوع من كلّ أحد، معدّ مدّخر لكلّ أحد باسمه.
«وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ». وتنافسهم فيه بالمبادرة إلى الأعمال الصالحة، والسباق إلى القرب، وتعليق القلب بالله، والانسلاخ عن الأخلاق الدّنيّة، وجولان الهمم فى الملكوت «٢»، واستدامة المناجاة.
قوله جل ذكره: «وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ» «تَسْنِيمٍ» أي: عين تسنّم عليهم من علوّ.
وقيل: ميزاب ينصبّ عليهم من فوقهم.
ويقال: سمّى تسنيما لأن ماءه يجرى في الهواء متسنّما فينصبّ في أوانى أهل الجنة
(١) كذا بالأصل ولعلّها (بدت في محياك) كى يستقيم الوزن.
(٢) هكذا في ص وهي أصح مما في م (المكتوب) فهى مشتبهة على الناسخ.
فمنهم من يسقى مزجا، ومنهم من يسقى صرفا.. الأولياء يسقون مزجا، والخواص يسقون صرفا «١».
قوله جل ذكره:
[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ٢٩ الى ٣٦]
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣)
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦)
كانوا يضحكون استهزاء بهم.. فاليوم.. الذين آمنوا من الكفار يضحكون! «فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ؟» «هَلْ... » استفهام يراد منه التقرير.
ويقال: إذا رأوا أهل النار في النار يعذّبون لا تأخذهم بهم رأفة، ولا ترقّ لهم قلوبهم، بل يضحكون ويستهزئون ويعيّرونهم.
(١) نفهم من هذا أن الخواص أعلى درجة من الأولياء.
Icon