تفسير سورة الدّخان

فتح البيان
تفسير سورة سورة الدخان من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ
سورة الدخان
هي ست أو سبع أو تسع وخمسون آية
قال القرطبي : هي مكيّة بالاتفاق إلا قوله :﴿ إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا ﴾ وبه قال ابن عباس وابن الزبير، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من قرأ حم الدخان في ليلة الجمعة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك " أخرجه البيهقي في الشعب، ورفعه الثعلبي أيضا والترمذي، وقال : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وعمر بن أبي خثعم ضعيف، قال البخاري : منكر الحديث، وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قرأ حم الدخان في ليلة الجمعة أصبح مغفورا له ) أخرجه البيهقي وابن مردويه ومحمد بن نصر والترمذي وقال غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وهشام بن مقدام يضعف، والحسن لم يسمع من أبي هريرة، كذا قال أيوب ويونس بن عبيد وعلي بن زيد.
ويشهد له طرق أخرى منها ما أخرجه الدارمي ومحمد بن نصر عن أبي رافع قال :( من قرأ حم الدخان في ليلة الجمعة أصبح مغفورا له، وزوج من الحور العين ) وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من قرأ سورة حم الدخان في ليلة الجمعة أو يوم الجمعة بنى الله له بيتا في الجنة ). قال الشهاب : في سورة الواقعة، ولم يذكر البيضاوي في فضائل السور حديثا غير موضوع من أول القرآن إلى هنا غير ما هنا، وما مر في سورة يس والدخان.

حم) قد تقدم قبل هذه السورة الكلام على هذا والله أعلم بمراده به
(والكتاب) الواو للقسم والكتاب القرآن (المبين) أي المشتمل على بيان ما للناس حاجة إليه في دينهم ودنياهم.
(إنا أنزلناه) جواب القسم، وقد أنكر بعض النحاة أن تكون هذه الجملة جواباً للقسم، لأنها صفة للمقسم به، ولا تكون صافة المقسم به جواباً للقسم، وقال: الجواب:
(إنا كنا منذرين) واختاره ابن عطية، وقال أيضاًً وجملة إنا أنزلناه اعتراض متضمن لتفخيم الكتاب، ورجح الأول بالسبق، وبكونه من البدائع، وبسلامته من الفك اللازم لما اختاره ابن عطية، وقيل: إن قوله إنا كنا الخ جواب ثان أو جملة مستأنفة مقررة للإنزال، وفي حكم العلة له كأنه قال: إنا أنزلناه لأن من شأننا الإنذار. والضمير في أنزلناه راجع إلى الكتاب وهو القرآن، واقتصر على ذلك البيضاوي، وتبعه الجلال المحلي.
387
وعلى هذا فقد أقسم بالقرآن أنه أنزل القرآن، وهذا النوع من الكلام يدل على غاية تعظيم القرآن، فقد يقول الرجل إذا أراد تعظيم الرجل له إليه حاجة: أتشفع بك إليك، وأقسم بحقك عليك.
وجاء في الحديث: " أعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناء عليك ". وقيل: المراد بالكتاب سائر الكتب المنزلة، والضمير راجع إلى القرآن على معنى أنه سبحانه أقسم بسائر الكتب المنزلة أنه أنزل القرآن والأول أولى، واستدلوا بهذه الآية على حدوث القرآن بوجوه لا دلالة لها عليه.
(في ليلة مباركة) أي ليلة القدر، كما في قوله (إنا أنزلناه في ليلة القدر) ولها أربعة أسماء هي، وليلة البراءة، وليلة الصك، وليلة الرحمة. قال عكرمة وطائفة الليلة المباركة هنا ليلة النصف من شعبان، وقال النووي في باب صوم التطوع من شرح مسلم إنه خطأ، والصواب وبه قال العلماء إنها ليلة القدر، وقيل بينها وبين ليلة القدر أربعون ليلة.
والجمهور وأكثر المفسرين على الأول وليلة القدر في أكثر الأقاويل في شهر رمضان، وقال قتادة أنزل القرآن كله في ليلة القدر من أم الكتاب، وهو اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في سماء الدنيا ثم أنزل الله سبحانه على نبيه ﷺ في الليالي والأيام في ثلاث وعشرين سنة في أنواع الوقائع حالاً فحالاً، وقد تقدم تحقيق الكلام في هذا في سورة البقرة، عند قوله:
(شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) وذكر سليمان الجمل أدلة القولين، وبسط فيها لا نطول بذكرها هنا.
وقال مقاتل كان ينزل من اللوح المحفوظ كل ليلة قدر من الوحي على مقدار ما ينزل به جبريل في السنة إلى مثلها من العام، وقيل ابتداء نزوله في ليلة القدر، ووصف الله سبحانه هذه الليلة بأنها مباركة لنزول القرآن فيها
388
وهو مشتمل على مصالح الدين والدنيا، ولكونها تتنزل فيها الملائكة والروح كما سيأتي في سورة القدر إن شاء الله تعالى.
قال ابن عباس " أنزل القرآن في ليلة القدر، ونزل به جبريل على رسول الله ﷺ نجوماً لجواب الناس "، وقيل المباركة الكثيرة الخير، لما ينزل فيها من الخير والبركة، ويستجاب من الدعاء، ولو لم يوجد فيها إلا إنزال القرآن وحده لكفى به بركة.
(إنا كنا منذرين) أي مخوفين عقابنا مستأنف أو جواب ثان بغير عاطف، ومن جملة بركتها ما ذكره الله سبحانه ههنا بقوله:
389
(فيها يفرق كل أمر حكيم) أي يفصل ويبين من قولهم فرقت الشيء أفرقه فرقاً، والأمر الحكيم المحكم المبرم الذي لا يحصل فيه تغيير ولا نقض، وذلك أن الله سبحانه يكتب فيها ما يكون في السنة من حياة وموت، وبسط وقبض، وخير وشر، ورزق وأجل، ونصر وهزيمة، وخصب وقحط، وغير ذلك من أقسام الحوادث وجزئياتها في أوقاتها وأماكنها، ويبين ذلك للملائكة من تلك الليلة إلى مثلها من العام المقبل فيجدونه سواء، فيزدادون بذلك إيماناً، كذا قال مجاهد وقتادة والحسن وغيرهم.
وقيل: معنى حكيم أي مفعول على ما تقتضيه الحكمة، وهو من الإسناد المجازي، لأن الحكيم صاحب الأمر على الحقيقة، ووصف به الأمر مجازاً، وهذه الجملة إما صفة أخرى لليلة وما بينهما اعتراض أو مستأنفة لتقرير ما قبلها، قرأ الجمهور يفرق بضم الياء وفتح الراء مخففاً، وقرىء بفتح الياء وضم الراء، ونصب كل أمر ورفع حكيم على أنه الفاعل.
والحق ما ذهب إليه الجمهور من أن هذه الليلة المباركة هي ليلة القدر لا ليلة النصف من شعبان لأن الله سبحانه أجملها هنا وبينها في سورة البقرة بقوله: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) وبقوله في سورة القدر (إنا
389
أنزلناه في ليلة القدر) فلم يبق بعد هذا البيان الواضح ما يوجب الخلاف، ولا ما يقتضي الاشتباه.
قال ابن عباس في الآية " يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق وموت وحياة ومطر، حتى يكتب الحاج يحج فلان ويحج فلان " وقال ابن عمر: " أمر السنة إلى السنة إلا الشقاوة والسعادة، فإنه في كتاب الله لا يبدل ولا يغير " أخرجه ابن أبي حاتم، وأخرج عبد بن حميد وغيره عنه أنه قال: " إنك لترى الرجل يمشي في الأسواق وقد وقع اسمه في الموتى، ففي تلك الليلة يفرق أمر الدنيا إلى مثلها من قابل من موت أو حياة أو رزق كل أمر الدنيا يفرق تلك الليلة إلى مثلها "، وأخرج ابن زنجويه والديلمي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح ويولد له قد خرج اسمه في الموتى " وأخرجه ابن أبي الدنيا وابن جرير عن عثمان بن محمد، وهذا مرسل لا تقوم به الحجة، ولا يعارض بمثله صرائح القرآن، وما روي في هذا فهو إما مرسل أو غير صحيح، وقد أورد ذلك صاحب الدر المنثور، وأورد ما ورد في فضل ليلة النصف من شعبان، وذلك لا يستلزم أنها المراد بقوله في ليلة مباركة (١).
وانتصاب قوله
_________
(١) زاد المسير ٣٣٧.
390
(أمراً من عندنا) بيفرق أي يفرق فرقاً لأن أمراً بمعنى فرقاً، قاله الزجاج والفراء، والمعنى أنا نأمر ببيان ذلك ونسخه من اللوح المحفوظ، فهو على هذا منتصب على المصدرية، مثل قولك يضرب ضرباً، قال المبرد أمراً في موضع المصدر، والتقدير أنزلناه إنزالاً، وقال الأخفش انتصابه على الحال، أي آمرين، وقيل على الاختصاص أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا، وفيه تفخيم لشأن القرآن وتعظيم له. وقد ذكر بعض أهل العلم في انتصاب أمراً أثني عشر وجهاً أظهرها ما ذكرناه، وقرأ زيد بن عليّ بالرفع أي هو أمر.
390
(إنا كنا مرسلين) الرسل محمداً ومن قبله قال الرازي المعنى إنا فعلنا ذلك الإنذار لأجل أنا كنا مرسلين للأنبياء، ومثله قال ابن الخطيب، وانتصاب
391
(رحمة) على العلة أي أنزلناه للرحمة، قاله الزجاج وقال المبرد: إنها منتصبة على أنها مفعول لمرسلين، أي إنا كنا مرسلين رحمة، وقيل: هي مصدر في موضع الحال أي راحمين قاله الأخفش وقيل: إنها مصدر منصوب بفعل مقدر، أي رحمنا رحمة، وقيل: إنها حال من ضمير مرسلين أي ذوي رحمة، وقرأ الحسن بالرفع أي هي رحمة ورأفة بالمرسل إليهم.
(من ربك) متعلق بالرحمة أو صفة لمحذوف، وفيه التفات من التكلم إلى الغيبة، ولو جرى على منوال ما تقدم لقال: من ربنا، والمعنى رأفة مني بخلقي ونعمة عليهم بما بعثت إليهم من الرسل (إنه هو السميع) لمن دعاه (العليم) بكل شيء ثم وصف سبحانه نفسه بما يدل على عظيم قدرته الباهرة فقال:
(رب السموات والأرض وما بينهما) قرأ الجمهور رب بالرفع على أنه عطف بيان على السميع العليم أو على أنه مبتدأ وخبره قوله الآتي
(لا إله إلا هو) أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي هو رب وقرأ الكوفيون بالجر على أنه بدل من ربك أو بيان له أو نعت (إن كنتم موقنين) بأنه رب السموات والأرض وما بينهما، وقد أقروا بذلك كما حكاه الله عنهم في غير موضع فأيقنوا بأن محمداً رسوله.
(لا إله إلا هو) مستأنفة مقررة لما قبلها أو خبر رب السموات كما مر وكذلك جملة (يحيي ويميت) فإنها مستأنفة مقررة لما قبلها (ربكم ورب آبائكم الأولين) قرأ الجمهور بالرفع على الاستئناف بتقدير مبتدأ أي هو ربكم أو على أنه بدل من رب السموات أو بيان أو نعت له وقرأ الكسائي في رواية الشيرازي عنه وغيره بالجر ووجه الجر ما ذكرناه في قراءة من قرأ بالجر في رب السموات، وقرأ الأنطاكي بالنصب على المدح.
391
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧)
392
(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) أضرب عن كونهم موقنين إلى كونهم في شك من التوحيد والبعث وفي إقرارهم بأن الله خالقهم وخالق سائر المخلوقات، وإنما يقولونه تقليداً لآبائهم من غير علم وأن ذلك منهم على طريقة اللعب والهزء في دينهم بما يعن لهم من غير حجة، ومحل يلعبون الرفع على أنه خبر ثان أو النصب على الحال
(فارتقب) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها لأن كونهم في شك ولعب، يقتقي ذلك والمعنى فانتظر لهم يا محمد.
(يوم تأتي السماء بدخان مبين) وقيل المعنى احفظ قولهم هذا لتشهد عليهم يوم تأتي السماء الخ وقد اختلف في هذا الدخان المذكور في الآية متى يأتي فقيل إنه من أشراط الساعة، وإنه يمكث في الأرض أربعين يوماً.
وقد ثبت في الصحيح أنه من جملة العشر الآيات التي تكون قبل قيام الساعة وقيل إنه أمر قد مضى، " وهو ما أصاب قريشاً بدعاء النبي ﷺ حتى كان الرجل يرى بين السماء والأرض دخاناً " وهذا ثابت في الصحيحين وغيرهما وبه قال الفراء والزجاج، وقيل إنه يوم فتح مكة.
392
وقال ابن قتيبة: فيه وجهان، الأول: أنه في سنة القحط يعظم يبس الأرض بسبب انقطاع المطر ويرتفع الغبار الكثير، ويظلم الهواء وذلك يشبه الدخان، ويقولون كان بيننا أمر ارتفع له دخان، ولهذا يقال للسنة المجدبة: الغبراء (الثاني): أن العرب يسمون الشيء الغالب بالدخان، والسبب فيه أن الإنسان إذا اشتد خوفه أو ضعفه اظلمت عيناه، ويرى الدنيا كالمملوءة من الدخان.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود " أن قريشاً لما استعصت على رسول الله ﷺ وأبطأوا عن الإسلام قال: اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف، فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجوع فأنزل الله هذه الآية فأتى النبي ﷺ فقيل يا رسول الله استسق الله المطر فاستسقى لهم فسقوا فأنزل الله (إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون) فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم فأنزل الله (يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون) فانتقم الله منهم يوم بدر فقد مضى البطشة والدخان واللزام "، وقد روي عن ابن مسعود نحو هذا من غير وجه وروي نحوه عن جماعة من التابعين كمقاتل ومجاهد وعن أبي مليكة قال دخلت على ابن عباس فقال: " لم أنم هذه الليلة فقلت لم؟ قال طلع الكوكب فخشيت أن يطرق الدخان " (١) قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح وكذا صححه السيوطي ولكن ليس فيه أنه سبب نزول الآية (٢).
وقد عرفناك أنه لا منافاة بين كون هذه الآية نازلة في الدخان الذي كان يتراءى لقريش من الجوع، وبين كون الدخان من آيات الساعة وعلاماتها
_________
(١) الطبري ٢٥/ ١١٣.
(٢) ذكره البخاري بألفاظ مختلفة ٨/ ٣٩٤ - ٤٢٠ - ٤٤٠ ورواه مسلم أيضاًً.
393
وأشراطها، فقد وردت أحاديث صحاح وحسان وضعاف بذلك. وليس فيها أنه سبب نزول الآية فلا حاجة بنا إلى التطويل بذكرها.
والواجب التمسك بما ثبت في الصحيحين وغيرهما أن دخان قريش عند الجهد والجوع هو سبب النزول، وبهذا تعرف اندفاع ترجيح من رجح أنه الدخان الذي من أشراط الساعة كابن كثير في تفسيره وغيره في غيره، وهكذا يندفع قول من قال: إنه الدخان الكائن يوم فتح مكة متمسكاً بما أخرجه ابن سعد عن أبي هريرة قال: " كان يوم فتح مكة دخان، وهو قول الله فارتقب الخ " فإن هذا لا يعارض ما في الصحيحين على تقدير صحة إسناده مع احتمال أن يكون أبو هريرة رضي الله تعالى عنه ظن من وقوع ذلك الدخان يوم الفتح أنه المراد بالآية، ولهذا لم يصرح بأنه سبب نزولها.
394
(يغشى الناس) صفة ثانية للدخان أي يشملهم ويحيط بهم (هذا عذاب أليم) أي يقولون هذا أو قائلين ذلك أو يقول الله لهم ذلك
(ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون) أي يقولون ذلك " وقد روي أنهم أتوا النبي ﷺ وقالوا: إن كشف الله عنا العذاب أسلمنا " والمراد بالعذاب الجوع الذي كان بسببه ما يرونه من الدخان أو يقولونه إذا رأوا الدخان الذي هو من آيات الساعة أو إذا رأوه يوم فتح مكة على اختلاف الأقوال.
والراجح منها أنه الدخان الذي كانوا يتخيلونه مما نزل بهم من الجوع وشد الجهد، ولا ينافي ترجيح هذا ما ورد أن الدخان من آيات الساعة، فإن ذلك دخان آخر، ولا ينافيه أيضاًً ما قيل إنه الذي كان يوم فتح مكة، فإنه دخان آخر على فرض صحة وقوعه.
(أنى لهم الذكرى) أي كيف يتذكرون ويتعظون بما نزل بهم (و) الحال أنه (قد جاءهم رسول مبين) يبين لهم كل شيء يحتاجون إليه من أمر
394
الدنيا والدين
395
(ثم تولوا عنه) أي أعرضوا عن ذلك الرسول الذي جاءهم ولم يكتفوا بمجرد الإعراض عنه بل جاوزوه.
(وقالوا معلم مجنون) أي قالوا في حقه تارة إنما يعلمه القرآن بشر، وتارة أخرى إنه مجنون، أو قال بعضهم هذا وبعضهم ذلك فيكف يتذكر هؤلاء وأنى لهم الذكرى؟ ثم لما دعوا الله بأن يكشف عنهم العذاب، وأنه إذا كشفه عنهم آمنوا أجاب الله سبحانه عليهم بقوله:
(إنا كاشفو العذاب قليلاً) أي إنا نكشفه عنهم كشفاً قليلاً أو زماناً قليلاً وهذا جواب بطريق الالتفات لمزيد التهديد والتوبيخ، وما بينهما اعتراض أي إلى يوم بدر أو إلى ما بقي من أعمارهم، ثم أخبر سبحانه عنهم أنهم لا ينزجرون عما كانوا عليه من الشرك ولا يفون بما وعدوا به من الإيمان فقال:
(إنكم عائدون) إلى ما كنتم عليه من الشرك، وقد كان الأمر هكذا فإن الله سبحانه لما كشف عنهم العذاب رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر والعناد، وقيل المعنى إنكم عائدون إلينا بالبعث والنشور والأول أولى.
(يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون) قرأ الجمهور نبطش بفتح النون وكسر الطاء أي نبطش بهم وقرىء بضم الطاء وهي لغة وقرىء بضم النون وكسر الطاء والظرف منصوب بإضمار اذكر، وقيل بدل من (يوم تأتي السماء) وقيل هو متعلق بـ (منتقمون)، وقيل بما دل عليه منتقمون، وهو منتقم والبطشة الكبرى هي يوم بدر، قاله الأكثر.
والمعنى أنهم لما عادوا إلى التكذيب والكفر بعد رفع العذاب عنهم انتقم الله منهم بوقعة بدر. وقال الحسن وعكرمة والمراد بها عذاب النار يوم القيامة، واختار هذا الزجاج، والأول أولى.
وعن ابن عباس أنه قال: قال ابن مسعود: البطشة الكبرى يوم بدر
395
وأنا أقول هي يوم القيامة، قال ابن كثير وهذا إسناد صحيح، وقال ابن الخطيب هذا القول أصح لأن يوم بدر لا يبلغ هذا المبلغ الذي يوصف بهذا الوصف العظيم، وأن الانتقام التام إنما يحصل يوم القيامة، لقوله تعالى:
(اليوم تجزى كل نفس بما كسبت) وقال ابن كثير قبل هذا فسر ذلك ابن مسعود بيوم بدر، وهذا قول جماعة ممن وافق ابن مسعود على تفسيره الدخان بما تقدم، وروي أيضاًً عن ابن عباس من رواية العوفي عنه، وعن أبيّ بن كعب وجماعة وهو محتمل والظاهر أن ذلك يوم القيامة، وإن كان يوم بدر يوم بطشة كبرى أيضاًً انتهى.
قال الشوكاني: بل الظاهر أنه يوم بدر، وإن كان يوم القيامة بطشة أكبر من كل بطشة، فإن السياق مع قريش، فتفسيره بالبطشة الخاصة لهم أولى من تفسيره بالبطشة التي تكون يوم القيامة لكل عاص من الإنس والجن انتهى.
396
(ولقد فتنا) وقرىء فتنا بالتشديد على المبالغة أو التكثير لكثرة متعلقة أي ابتلينا (قبلهم) أي قبل هؤلاء العرب، ليكون ما مضى من خبرهم عبرة لهم (قوم فرعودن) معه ومعنى الفتنة هنا أن الله سبحانه أرسل إليهم رسله وأمرهم بما شرعه لهم، فكذبوهم، أو وسع عليهم الأرزاق فطغوا وبغوا، قال الزجاج: بلوناهم أي امتحناهم، وفعلنا بهم فعل الممتحن، والمعنى عاملناهم معاملة المختبر ببعث الرسل إليهم، والتمكين في الأرض.
(وجاءهم رسول كريم) على الله، كريم في قومه أي كريم في نفسه حسيب نسيب، لأن الله لم يبعث نبياً إلا من سراة قومه وكرامهم، وقال مقاتل: حسن الخلق بالتجاوز والصفح، وقال الفراء كريم على ربه إذ اختصه بالنبوة وإسماع الكلام، قال ابن عباس: هو موسى.
396
أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (٢٧) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (٢٨)
397
(أن أدوا) أن هذه هي المفسرة لتقدم ما هو بمعنى القول، أو مخففة من الثقيلة، والمعنى أن الشأن والحديث أدوا (إليَّ عباد الله) أو مصدرية أي بأن أدوا، والمعنى أنه طلب منهم أن يسلموا إليه بني إسرائيل الذين كان فرعون استعبدهم، فأداؤهم استعارة بمعنى إطلاقهم وإرسالهم معه.
قال مجاهد: المعنى أرسلوا معي عباد الله وأطلقوهم من العذاب، فعباد الله على هذا مفعول به، كقوله في سورة طه: (فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم) وقيل: المعنى أدوا إلى عباد الله ما وجب عليكم من حقوق الله فيكون منصوباً على أنه منادى مضاف، وقيل: أدوا إلى سمعكم حتى أبلغكم رسالة ربي وقال ابن عباس: اتبعوني إلى ما أدعوكم إليه من الحق (إني لكم رسول) من الله (أمين) على الرسالة غير متهم وهذا تعليل للأمر.
(وأن لا تعلوا على الله) أي لا تتجبروا ولا تتكبروا عليه بترفعكم عن طاعته ومتابعة رسله وإهانة وحيه وهذا أوضح، وقيل: لا تبغوا على الله وقيل: لا تفتروا عليه، قاله ابن عباس، والأول أولى، والفرق بين البغي والافتراء أن البغي بالفعل والافتراء بالقول، وقال ابن عباس أيضاً لا تعثوا، وقال ابن جريج لا تتعظموا، وقال يحيى بن سلام لا تستكبروا والفرق بينهما
397
أن التعاظم تطاول المقتدر، والاستكبار ترفع المحتقر، أفاده الماوردي.
وجملة (إني آتيكم) تعليل لما قبلها من النهي قرأ الجمهور بكسر همزة إني وقرىء بالفتح بتقدير اللام (بسلطان مبين) أي بحجة بينة واضحة يعترف بصحتها كل عاقل، ولا سبيل إلى إنكارها، وقال قتادة وابن عباس بعذر بين، والأول أولى، وبه قال يحيى بن سلام.
398
(وإني عذت بربي وربكم) من (أن ترجمون) استعاذ بالله سبحانه لما توعدوه بالقتل، قال قتادة ترجموني بالحجارة، وبه قال ابن عباس، وقيل تشتموني، كذا قال ابن عباس أيضاً، وقيل تقتلوني
(وإن لم تؤمنوا لي) أي إن لم تصدقوا لي وتقروا بنبوتي، ولم تؤمنوا بالله لأجل برهاني، فاللام في لي لام الأجل، وقيل أي وإن لم تؤمنوا بي. كقوله (فآمن له لوط) أي به.
(فاعتزلون) أي فاتركوني ولا تتعرضوا لي بأذى، قال مقاتل دعوني كفافاً لا علي ولا لي وقيل كونوا بمعزل عني، وأنا بمعزل منكم إلى أن يحكم الله بيننا وقيل فخلوا سبيلي قاله ابن عباس، والمعنى متقارب، ثم لما لم يصدقوه ولم يجيبوا دعوته رجع إلى ربه بالدعاء كما حكى الله عنه بقوله:
(فدعا ربه إن هؤلاء قوم مجرمون) أي كافرون قرأ الجمهور بفتح الهمزة على إضمار حرف الجر أي دعاه بأن هؤلاء وقرىء بكسرها على إضمار القول، وفي الكلام حذف أي لكفروا فدعا ربه، وسماه دعاء مع أنه لم يذكر إلا مجرد كونهم مجرمين لأنهم قد استحقوا بذلك الدعاء عليهم، وقيل كان دعاؤه اللهم عجل لهم ما يستحقونه باجرامهم، وقيل: هو قوله: (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) والأول أولى.
(فأسر بعبادي ليلاً) أجاب الله سبحانه دعاءه، فأمره أن يسري ببني إسرائيل ليلاً، يقال: سرى وأسرى لغتان جيدتان، قرأ الجمهور فأسر بالقطع من أسرى، وقرأ أهل الحجاز بالوصل من سرى، وهما سبعيتان، والجملة بتقدير القول أي فقال الله لموسى أسر بعبادي ليلاً (إنكم متبعون)
398
أي يتبعكم فرعون وجنوده، وقد تقدم في غير موضع خروج فرعون بعدهم.
399
(واترك البحر رهواً) أي ساكناً، يقال: رها يرهو رهواً إذا سكن لا يتحرك قال الجوهري: يقال افعل ذلك رهواً أي ساكناً على هيئتك وعيش راه أي ساكن، ورها البحر سكن، وقال الهروي وغيره: وهو المعروف في اللغة، والمعنى اترك البحر ساكناً على صفته بعد أن ضربته بعصاك، ولا تأمره أن يرجع كما كان ليدخله آل فرعون بعدك وبعد بني إسرائيل، فينطبق عليهم فيغرقون.
وقال أبو عبيدة: رها بين رجليه يرهو رهواً أي فتح، قال: ومنه قوله (واترك البحر رهواً) والمعنى اتركه منفرجاً، كما كان بعد دخولكم فيه، وكذا قال أبو عبيدة، وبه قال مجاهد وغيره قال ابن عرفة وهما يرجعان إلى معنى واحد، وإن اختلف لفظاهما لأن البحر إذا سكن جريه انفرج قال الهروي ويجوز أن يكون رهواً نعتاً لموسى، أي سر ساكناً على هيئتك، وقال كعب والحسن: رهواً طريقاً، وقال الضحاك والربيع: سهلاً، وقال عكرمة يبساً كقوله (فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً) وعلى كل تقدير فالمعنى اتركه ذا رهو أو اتركه رهواً على المبالغة في الوصف بالمصدر وقال ابن عباس: رهواً سمتاً وعنه قال كهيئة وأمضِ وعنه أيضاًً قال الرهو أن يترك كما كان.
(إنهم) أي إن فرعون وجنده بعد خروجكم (جند مغرقون) أي متمكنون في هذا الوصف، وإن كان لهم وصف القوة والتجمع الذي شأنه النجدة الموجبة للعلو في الأمور أخبر سبحانه موسى بذلك ليسكن قلبه ويطمئن جأشه، قرأ الجمهور بكسر إن على الاستئناف لقصد الإخبار بذلك وقرىء بالفتح على تقدير لأنهم.
(كم تركوا) كم هي الخبرية المفيدة للتكثير، وقد مضى الكلام في معنى الآية في سورة الشعراء، والتقدير فأغرقوا، وكم مفعول به أي تركوا أموراً كثيرة وقد بينها بقوله: (من جنات) أي بساتين (وعيون) تجري
(وزروع ومقام كريم) قرأ الجمهور مقام بفتح الميم على أنه اسم مكان للقيام وقرىء بضمها اسم مكان الإقامة قال ابن عباس ومقام كريم المنابر، وعن جابر مثله، وقيل: هو ما كان لهم من المنازل الحسنة، والمجالس الشريفة والمحافل المزينة.
(ونعمة كانوا فيها فاكهين) النعمة بالفتح التنعم ونضارة العيش ولذاذته يقال نعمه الله وناعمه فتنعم، وبالكسر المنة وما أنعم به عليك وفلان واسع النعمة أي واسع المال، ذكر معنى هذا الجوهري، وقال المحلي: نعمة أي متعة أي أمور يتمتعون وينتفعون بها، كالملابس والمراكب قرأ الجمهور فاكهين بالألف، وقرىء بغير ألف والمعنى على الأولى متنعمين طيبة أنفسهم وعلى الثانية أشرين بطرين. قال الجوهري: فكه الرجل بالكسر فهو فكه إذا كان طيب النفس مزاحاً، والفكه أيضاًً الأشر البطر، قال وفاكهين أي ناعمين وقال الثعلبي هما لغتان كالحاذر والحذر، والفاره والفره وقيل: إن الفاكه هو المستمتع بأنواع اللذة كما يتمتع الرجل بأنواع الفاكهة.
(كذلك) أي الأمر كذلك يجوز أن تكون في محل نصب، والإشارة إلى مصدر فعل يدل عليه تركوا، أي مثل ذلك السلب سلبناهم إياها، وقيل مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها. وقيل مثل ذلك الإهلاك أهلكناهم، فعلى الوجه الأول يكون قوله (وأورثناها) معطوفاً على تركوا وعلى الوجوه الآخرة يكون معطوفاً على الفعل المقدر (قوماً آخرين) المراد بهم بنو إسرائيل، فإن الله سبحانه ملكهم مصر، بعد أن كانوا مستعبدين فصاروا لها وارثين أي أنها وصلت إليهم كما يصل الميراث إلى الوارث، ومثل هذا قوله (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها) وهذا قول الحسن، وقيل: إنهم لم يرجعوا إلى مصر، والقوم الآخرون غير بني إسرائيل وهو قول ضعيف جداً قاله الكرخي.
400
فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (٣٣)
401
(فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ) هذا بيان لعدم الأكتراث بهلاكهم والاعتداد بوجودهم، كقولك: بكت عليهم السماء وكسفت لمهلكهم الشمس في نقيض ذلك فالبكاء مجاز مرسل ومع ذلك لا بد من جعل الآية استعارة بالكناية، والمعنى أنه لم يصب بفقدهم وهلاكهم أحد من أهل السماء ولا من أهل الأرض، وكانت العرب تقول عند موت السيد منهم: بكت له السماء والأرض، أي عمت مصيبته، وقال الحسن في الكلام مضاف محذوف أي فما بكى عليهم أهل السماء والأرض من الملائكة والناس، وقال الزمخشري ذكر هذا على سبيل السخرية بهم يعني أنهم كانوا يستعظمون أنفسهم ويعتقدون أنهم لو ماتوا لبكت عليهم السماء والأرض، ولم يكونوا بهذا الحد بل كانوا دون ذلك فذكر هذا تهكماً بهم.
وقال مجاهد إن السماء والأرض تبكيان على المؤمن أربعين صباحاً، وقيل تبكي على المؤمن مواضع صلاته ومصاعد عمله، وعلى هذا إنه بكاء كالمعروف من بكاء الحيوان، وفي معنى الآية وجهان، والثاني أظهر وأوفق بالأحاديث ونظم القرآن قال السدي: لما قتل الحسين رضي الله عنه بكت عليه السماء وبكاؤها حمرتها.
وعن أنس قال: قال رسول الله ﷺ " ما من عبد إلا
401
وله بابان باب يصعد منه عمله، وباب ينزل منه رزقه، فإذا مات فقداه وبكيا عليه، وتلا هذه الآية فما بكت " (١) الخ وذكر أنهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملاً صالحاً تبكي عليهم، ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم، ولا من عملهم، كلام صالح فيفتقدهم، فيبكي عليهم، " (٢) أخرجه الترمذي وابن أبي الدنيا وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والخطيب.
وأخرج ابن جرير وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في الشعب نحوه من قول ابن عباس، وعنه قال: " يقال: الأرض تبكي على المؤمن أربعين صباحاً " وعن شريح بن عبيد الحضرمي مرسلاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ ألا لا غربة على مؤمن ما مات مؤمن في غربة غابت عنه فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض ثم قرأ رسول الله ﷺ هذه الآية ثم قال إنهما لا تبكيان على كافر " أخرجه ابن جرير وابن أبي الدنيا.
وعن علي رضي الله تعالى عنه " إن المؤمن إذا مات بكى عليه مصلاه ومصعد عمله من السماء، ثم تلا هذه الآية " (وما كانوا منظرين) أي مؤخرين للتوبة وممهلين إلى وقت آخر. بل عوجلوا بالعقوبة لفرط كفرهم وشدة عنادهم.
_________
(١) الترمذي ٢/ ١٥٨.
(٢) السيوطي في الدر ٦/ ٣١.
402
(ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين) أي خلصناهم بإهلاك
عدوهم مما كانوا فيه من الاستعباد، وقتل الأبناء واستيحاء النساء وتكليفهم
402
للأعمال الشاقة
403
(من فرعون) بدل من العذاب إما على حذف مضاف أي من عذابه، وإما على المبالغة كأنه نفس العذاب، فأبدل منه أو على أنه حال من العذاب، أي صادراً من فرعون، وقرأ ابن عباس من فرعون؟ بفتح الميم على الاستفهام التحقيري، كما يقال لمن افتخر بحسبه أو نسبه: من أنت؟ والأول أولى.
ثم بين سبحانه فقال (إنه كان عالياً) في التكبر والتجبر (من المسرفين) في الكفر بالله، وارتكاب معاصيه، كما في قوله (إن فرعون علا في الأرض) ومن إسرافه أنه كان على حقارته وخسته ادعى الإلهية، ولما بين سبحانه كيفية دفعه للضرر عن بني إسرائيل بين ما أكرمهم به فقال:
(ولقد اخترناهم) أي مؤمني بني إسرائيل (على) أي مع (علم) منا بحالهم، وهي كونهم أحقاء بأن يختاروا، أو كونهم يزيغون وتحصل منهم الفرطات في بعض الأحوال (على العالمين) أي على عالمي زمانهم على علم منه سبحانه باستحقاقهم لذلك، وليس المراد أنه اختارهم على جميع العالمين، بدليل قوله في هذه الأمة (كنتم خير أمة أخرجت للناس) وقيل على كل العالمين لكثرة الأنبياء فيهم، وهذا خاصة لهم، وليس لغيرهم، حكاه ابن عيسى والزمخشري وغيرهما والأول أولى، وقيل: يرجع هذا الاختيار إلى تخلصيهم من الغرق، وإيراثهم الأرض بعد فرعون.
(وآتيناهم من الآيات) أي معجزات موسى (ما فيه بلاء مبين) أي اختبار ظاهر، وامتحان واضح لننظر كيف يعلمون؟ وقال قتادة: الآيات إنجاؤهم من الغرق، وفلق البحر لهم، وتظليل الغمام عليهم، وإنزال المن والسلوى لهم، وقال ابن زيد الآيات هي الشر الذي كفهم عنه، والخير الذي أمرهم به، وقال الحسن وقتادة البلاء المبين النعمة الظاهرة، كما في قوله (وليبلي المؤمنين منه بلاء حسناً) (ونبلوكم بالشر والخير فتنة).
403
إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (٣٨) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٣٩) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١)
404
(إِنَّ هَؤُلَاءِ) أي كفار قريش، لأن الكلام فيهم، وقصة فرعون مسوقة للدلالة على استوائهم في الإصرار على الكفر، (ليقولون
إن هي إلا موتتنا الأولى) التي نموتها في الدنيا، ولا حياة بعدها ولا بعث، وهو معنى قوله (وما نحن بمنشرين) أي بمبعوثين، يقال أنشر الله الموتى ونشرهم إذا بعثهم، وليس في الكلام قصد إلى إثبات موتة أخرى، بل المراد ما العاقبة ونهاية الأمر، إلا الموتة الأولى المزيلة للحياة الدنيوية.
قال الرازي وابن الخطيب المعنى أنه لا يأتينا من الأحوال الشديدة إلا الموتة الأولى، وهذا الكلام يدل على أنه لا تأتيهم الحياة الثانية البتة، فلا حاجة إلى التكلف الذي ذكره الزمخشري في هذا المقام، ثم أوردوا على من وعدهم بالبعث ما ظنوه دليلاً، وهو حجة داحضة فقالوا:
(فأتوا بآبائنا) أي ارجعوهم بعد موتهم إلى الدنيا، قال الفراء والخطاب لرسول الله ﷺ وحده، كقوله (رب أرجعونِ)
404
والأولى أنه خطاب له ﷺ ولأتباعه من المسلمين (إن كنتم صادقين) فيما تقولونه وتخبروننا به من البعث، ثم رد الله سبحانه عليهم بقوله
405
(أهم خير) في القوة والمنعة.
(أم قوم تبع) الحميري الذي دار في الدنيا بجيوشه، وغلب أهلها وقهرهم، وحير الحيرة وبني سمرقند، وقيل هدمها وكان مؤمناً، وكان قومه كافرين، وكان من ملوك اليمن، سمي تبعاً لكثرة أتباعه، وقيل كل واحد من ملوك اليمن يسمى تبعاً لأنه يتبع صاحبه الذي قبله، كما سمي في الإسلام خليفة، وفيه وعيد شديد، وقيل المراد بقوم تبع جميع أتباعه لا واحد بعينه، وكان تبع هذا يعبد النار فأسلم ودعا قومه وهم حمير إلى الإسلام فكذبوه.
وعن ابن عباس عن النبي ﷺ قال " لا تسبوا تبعاً فإنه قد أسلم " رواه البيهقي والحاكم وصححه، وابن المبارك وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا، وعن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " فذكر نحوه " (١) أخرجه أحمد والطبراني وابن ماجة وابن مردويه وروي نحو هذا عن غيرهما من الصحابة والتابعين، قال الرياشي كان أبو كرب أسعد الحميري من التبابعة ممن آمن بالنبي محمد ﷺ قبل أن يبعث بسبعمائة سنة وإليه تنسب الأنصار وهو أول من كسى البيت بعد ما أراد غزوه وبعد ما غزا المدينة وأراد خرابها ثم انصرف عنها لما أخبر أنها مهاجر نبي اسمه أحمد وقال شعراً أودعه عند أهلها وكانوا يتوارثونه كابراً عن كابر إلى أن هاجر النبي ﷺ فدفعوه إليه وقال " كعب ذم الله قومه ولم يذمه ".
والمراد بقوله (والذين من قبلهم) عاد وثمود ونحوهم من الأمم الكافرة (أهلكناهم) مستأنفة لبيان حالهم وعاقبة أمرهم (إنهم كانوا
_________
(١) رواه الحاكم ٢/ ٤٥٠ مثله.
405
مجرمين) أي كافرين منكرين للبعث، تعليل لإهلاكهم، يعني أن الله سبحانه قد أهلكهم بسبب كونهم مجرمين، فإهلاكه لمن هو دونهم بسبب كونه مجرماً، مع ضعفه وقصور قدرته بالأولى.
406
(وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما) أي ما بين جنسي السماء والأرض (لاعبين) أي بغير غرض صحيح، قال مقاتل لم نخلقهما عابثين لغير شيء، وقال الكلبي لاهين، وقيل غافلين قرأ الجمهور ما بينهما، وقرىء وما بينهن لأن السموات والأرض جمع.
(ما خلقناهما) وما بينهما (إلا بالحق) أي بالأمر الحق، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال، وقال الكلبي إلا للحق وكذا قال الحسن، وقيل إلا لإقامة الحق وإظهاره، وقيل بالعدل، وهو الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية، وقيل بالجد ضد اللعب.
(ولكن أكثرهم لا يعلمون) لقلة نظرهم أن الأمر كذلك، وهم المشركون، وفيه تجهيل عظيم لمنكري البعث والحشر، وتوكيد لأن إنكارهم يؤدي إلى إبطال الكائنات بأسرها ويحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم، وفي هذه الآية دليل على صحة الحشر ووقوعه.
ووجه الدلالة أنه لو لم يحصل البعث والجزاء لكان هذا الخلق عبثاً، لأنه تعالى خلق نوع الإنسان، وخلق ما ينتظم به أسباب معاشهم من السقف المرفوع، والمهاد المفروش، وما فيهما وما بينهما من عجائب المصنوعات وبدائع الأحوال ثم كلفهم بالإيمان والطاعة فاقتضى ذلك أن يتميز المطيع من المعاصي، بأن يكون المطيع متعلق فضله وإحسانه، والعاصي متعلق عدله وعقابه، وذلك لا يكون في الدنيا لقصر زمانها، وعدم الاعتداد بمنافعها، لكونها مشوبة بأنواع الآفات والمحن، فلا بد من البعث (لتجزى كل نفس بما كسبت) فظهر بهذا وجه اتصال الآية بما قبلها، وهو أنه لما حكى مقالة
406
منكري البعث والجزاء، وهددهم ببيان مآل المجرمين الذين مضوا، ذكر الدليل القاطع، الدال على صحة البعث والجزاء فقال: وما خلقنا الخ.
407
(إن يوم الفصل) أي يوم القيامة الذي يفصل فيه الحق عن الباطل، والإضافة على معنى في، والظاهر أنها بمعنى اللام (ميقاتهم) أي الوقت المجعول لتميز المحسن من المسيء، والمحق من المبطل (أجمعين) لا يخرج عنهم أحد من ذلك، وقد اتفق القراء على رفع ميقاتهم على أنه خبر إن، واسمها يوم الفصل، وأجاز الكسائي والفراء نصبه على أنه اسمها، ويوم الفصل خبرها، ثم وصف سبحانه ذلك اليوم فقال:
(يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا) بدل من يوم الفصل أو منتصب بفعل يدل عليه الفصل، أي يفصل بينهم يوم لا يغني، والمعنى أنه لا ينفع قريب قريباً، ولا يدفع عنه شيئاًً.
ويطلق المولى على الولي، وهو القريب والناصر، وفي المختار المولى المعتق والمعتق وابن العم والناصر والجار، والحليف، أي لا يدفع ابن عم عن ابن عمه ولا صديق عن صديقه شيئاًً، ومولى الأول مرفوع بالفاعلية، والثاني مجرور بعن، وإعرابهما إعراب المقصور كفتى وعصا ورحى، والمراد بالمولى الثاني الكافر، ويالأول المؤمن، أي لا يغني مولىً مؤمن عن مولىً كافر شيئاًً فهذه الآية نظير قوله تعالى (واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاًً) الآية.
(ولا هم ينصرون) الضمير راجع إلى المولى وإن كان مفرداً في اللفظ، لأنه في المعنى جمع لأنه نكرة في سياق النفي، وهو من صيغ العموم، أي ولا هم يمنعون من عذاب الله، والجملة توكيد لما قبلها، فالمعنى لا ينصر المؤمن الكافر، ولو كان بينهما في الدنيا علقة من قرابة أو صداقة أو غيرهما، كما أشار له القرطبي.
407
إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢) إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعَامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (٥٣)
408
(إلا من رحم الله) قال الكسائي الاستثناء منقطع أي لكن من رحم الله، وكذا قال الفراء، وقيل هو متصل، والمعنى لا يغني قريب عن قريب إلا المؤمنين، فإنه يؤذن لهم في الشفاعة فيشفعون في بعضهم أو مرفوع على البدلية من مولى الأول، ويغني بمعنى ينفع، قال الحوفي أو مرفوع المحل أيضاًً على البدلية من واو ينصرون، أي لا يمنع من عذاب الله إلا من رحمه الله ذكره السمين.
(إنه هو العزيز الرحيم) أي الغالب الذي لا ينصر من أراد عذابه، الرحيم بعباده المؤمنين، ثم لما وصف اليوم ذكر بعده وعيد الكفار فقال:
(إن شجرة الزقوم طعام الأثيم) هي الشجرة التي خلقها الله في جهنم على صورة شجر الدنيا، وسماها الشجرة الملعونة، والزقوم ثمرها، وهو كل طعام ثقيل، فإذا جاء أهل النار التجأوا إليها فأكلوا منها، وقد مضى الكلام على شجرة الزقوم في سورة الصافات، وشجرت ترسم بالتاء
408
المفتوحة، ووقف عليها بالهاء أبو عمرو وابن كثير والكسائي، ووقف الباقون بالتاء على الرسم قاله الخطيب.
وفي القرطبي: كل ما في كتاب الله من ذكر الشجرة فالوقف عليه بالهاء إلا حرفاً واحداً في سورة الدخان: (إن شجرة الزقوم) انتهى أي فيجوز الوقف عليها بالتاء والهاء، وفي القاموس كلام مبسوط على الزقم والزقوم فليرجع إليه، والأثيم الكثير الإثم، قال في الصحاح: أثم الرجل بالكسر إثماً ومأثماً إذا وقع في الإثم فهو آثم وأثيم وأثوم فمعنى طعام الأثيم طعام ذي الإثم، قيل هو أبو جهل ولا وجه للتخصيص.
409
﴿ طَعَامُ الْأَثِيمِ ﴾ فمعنى طعام الأثيم طعام ذي الإثم، قيل هو أبو جهل ولا وجه للتخصيص.
(كالمهل) وهو دردي الزيت وعكر القطران وقيل: هو النحاس المذاب وقيل كل ما يذوب في النار من ذهب أو فضة وكل منطبع سواء كان من صفر أو حديد أو رصاص وقيل الصديد والقيح.
(يغلي في البطون
كغلي الحميم) قرأ الجمهور تغلي بالتاء على أن الفاعل ضمير يعود على الشجرة والجملة خبر ثالث أو حال أو خبر مبتدأ محذوف أي تغلي غلياً مثل غلي الحميم وهو الماء الشديد الحرارة وقرىء بالتحتية على أن الفاعل ضمير يعود إلى الطعام، وهو في معنى الشجرة ولا يصح عوده إلى المهل لأنه مشبه به وإنما يغلي ما يشبه بالمهل.
(خذوه) أي يقال للملائكة الذين هم خزنة النار: خذوه أي الأثيم (فاعتلوه) العتل القود بالعنف، يقال عتله يعتله إذا جره وذهب به إلى مكروه، وقيل: العتل أن تأخذ بتلابيب الرجل ومجامعه فتجره، قرأ الجمهور فاعتلوه بكسر التاء، وقرىء بضمها وهما لغتان وقراءتان سبعيتان (إلى سواء الجحيم) أي إلى وسطه ومعظمه كقوله (فرآه في سواء الجحيم)
(ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ) من هي التبعيضية أي صبوا فوق رأسه بعض
409
هذا النوع، وإضافة العذاب إلى الحميم للبيان أي عذاب هو الحميم وهو الماء الحار كما تقدم أو من إضافة الصفة للموصوف أو المسبب للسبب فالمصبوب هو الحميم لا عذابه وصب العذاب استعارة، كقوله (أفرغ علينا صبراً) فقد شبه العذاب بالمائع ثم خيل له بالصب.
410
(ذق) الأمر للإهانة به أي قولوا له تهكماً وتقريعاً وتوبيخاً ذق العذاب (إنك) قرأ الجمهور بكسر الهمزة وقرأ الكسائي بفتحها، وروي ذلك عن عليّ أي لأنك (أنت العزيز الكريم) قيل إن أبا جهل كان يزعم أنه أعز أهل الوادي وأكرمهم فيقولون له: ذق العذاب أيها المتعزز المتكرم على زعمك، وفيما كنت تقوله قال الفراء أي لهذا القول الذي قلته في الدنيا - عن ابن عباس في الآية قال: " يقول لست بعزيز ولا كريم " أخرج الأموي في مغازيه عن عكرمة قال: لقي رسول الله ﷺ أبا جهل فقال: " إن الله أمرني أن أقول لك (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (٣٤) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) قال فنزع يده من يده وقال ما تستطيع لي أنت ولا صاحبك من شيء، لقد علمت أني أمنع أهل بطحاء، وأنا العزيز الكريم، فقتله الله يوم بدر وأذله وعيره بكلمته، وأنزل (ذق إنك أنت العزيز الكريم) ".
(إن هذا) العذاب أو هذا الأمر (ما كنتم به تمترون) أي تشكون فيه حين كنتم في الدنيا والجمع باعتبار جنس الأثيم، ثم ذكر سبحانه مستقر المتقين فقال:
(إن المتقين) الذين اتقوا الكفر والمعاصي (في مقام) قرأ الجمهور مقام بفتح الميم وهو موضع القيام، وقرىء بضمها وهو موضع الإقامة قاله الكسائي وغيره وهما سبعيتان وقال الجوهري قد يكون كل واحد منهما بمعنى الإقامة وقد يكون بمعنى موضع القيام والمراد المكان وهو من الخاص الذي وقع
410
مستعملاً في معنى العموم، ثم وصف المقام بقوله:
(أَمِينٍ) يأمن فيه صاحبه من جميع المخاوف، قال النسفي: هو من أمن الرجل أمانة فهو أمين وهو ضد الخائن فوصف به المكان استعارة لأن المكان المخيف كأنما يخون صاحبه بما يلقي فيه من المكاره انتهى.
وأصل الأمن طمأنينة النفس وزوال الخوف والأمن والأمان والأمانة في الأصل مصادر ويستعمل الأمان تارة اسماً للحالة التي عليها الإنسان في الأمن، وتارة لما يؤمن عليه الإنسان كقوله: (وتخونوا أماناتكم) أي ما ائتمنتم عليه.
411
(في جنات وعيون) بدل من مقام أمين، جيء به للدلالة على نزاهته واشتماله على ما يستلذ به من المآكل والمشارب، أو بيان له أو خبر ثان.
(يلبسون من سندس وإستبرق) خبر ثان أو ثالث أو حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور، والسندس مارق من الديباج، وفي المصباح الديباج ثوب سداه ولحمته إبريسم ويقال إنه معرب انتهى والإستبرق ما غلظ منه وهو تعريب استبر واللفظ إذا عرب خرج من أن يكون عجمياً لأن معنى التعريب أن يجعل عربياً بالتصرف فيه، وتغييره عن منهاجه وإجرائه على أوجه الإعراب فساغ أن يقع في القرآن العربي، وقد تقدم تفسيره في سورة الكهف.
(مُتَقَابِلِينَ) أي في مجالسهم ينظر بعضهم إلى بعض وهو أتم للأنس فلا يرد ما قيل من أن الجلوس على هذه الصفة موحش، لأن قليل الثواب إذا اطلع على حال كثير الثواب يتنغص، لأن أحوال الآخرة بخلاف أحوال الدنيا وقال المحلي: لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض لدوران الأسرة بهم.
411
كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩)
412
(كذلك) أي نفعل بالمتقين فعلاً كذلك أو الأمر كذلك (وزوجناهم) أي أكرمناهم بأن زوجناهم (بحور عين) الحور جمع حوراء وهي البيضاء والعين جمع عيناء، وهي الواسعة العين، وقال مجاهد إنما سميت الحوراء حوراء لأنه يحار الطرف في حسنها، وقيل هو من حور العين وهو شدة بياض العين في شدة سوادها، كذا قال أبو عبيدة، وقال الأصمعي: ما أدري ما الحور في العين، قال أبو عمرو: الحور أن تسود العين كلها مثل أعين الظباء والبقر قال وليس في بني آدم حور، وإنما قيل للنساء: حور لأنهن شبهن بالظباء والبقر.
وقيل المراد بقوله (زوجناهم) قرناهم، وليس من عقد التزويج لأنه لا يقال زوجته بامرأة، وقال أبو عبيدة وجعلناهم أزواجاً لهن كما يزوج البعل بالبعل، أي جعلناهم اثنين اثنين، وكذا قال الأخفش، واختلف أيهما أفضل في الجنة النساء الآدميات أم الحور ذكر ابن المبارك أن نساء الآدميات من دخل منهن الجنة فضلن على الحور العين بما عملن في الدنيا، وروي مرفوعاً " أن الآدميات أفضل من الحور العين بسبعين ألف ضعف "، وقيل إن الحور العين أفضل لقوله عليه الصلاة والسلام " فأبدله زوجاً خيراً من زوجه " والله أعلم.
(يدعون فيها) أي في الجنة (بكل فاكهة) أي يأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه حال كونهم (آمنين) من التخم والأسقام والآلام قال قتادة آمنين من الموت والوصب والشيطان وقيل من انقطاع ما هم فيه من النعيم.
(لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) أي لا يموتون فيها أبداً إلا الموتة التي ذاقوها في الدنيا والإستثناء منقطع أي لكن الموتة كذا قال الزجاج والفراء وغيرهما، ومثل هذه الآية قوله (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف) وقيل إن إلا بمعنى بعد واختاره الطبري كقولك ما كلمت رجلاً اليوم إلا رجلاً عندك، أي بعد رجل عندك وأباه الجمهور لأن مجيء إلا بمعنى بعد لم يثبت.
وقيل هي بمعنى سوى أي سوى الموتة الأولى نقله الطبري وضعفه. قال ابن عطية وليس تضعيفه بصحيح بل كونها بمعنى سوى مستقيم متسق، قال ابن قتيبة إنما استثنى الموتة الأولى، وهي في الدنيا لأن السعداء حين يموتون يصيرون بلطف الله وقدرته إلى أسباب من الجنة يلقون الروح والريحان ويرون منازلهم من الجنة ويفتح لهم أبوابها فإذا ماتوا في الدنيا فكأنهم ماتوا في الجنة لاتصالهم بأسبابها ومشاهدتهم إياها فيكون الاستثناء على هذا متصلاً.
قال الزمخشري فإن قلت كيف استثنيت الموتة الأولى المذوقة قبل دخول الجنة من الموت المنفي ذوقه فيها قلت أريد أن يقال لا يذوقون فيها الموت البتة فوضع قوله: إلا الموتة الأولى موضع ذلك لأن الموتة الماضية محال ذوقها في المستقبل؛ فهو من باب التعليق بالمحال، كأنه قيل إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها في المستقبل فإنهم يذوقونها في الجنة انتهى. قلت وهذا عند علماء البيان يسمى نفي الشيء بدليله.
(ووقاهم عذاب الجحيم) قرأ الجمهور وقاهم بالتخفيف وقرىء
413
بالتشديد على المبالغة
414
(فضلاً من ربك) أي لأجل الفضل منه، أو أعطاهم ذلك عطاء فضلاً منه.
(ذلك) الذي تقدم ذكره من صرف العذاب ودخول الجنة (هو الفوز العظيم) الذي لا فوز بعده، المتناهي في العظم، لأنه خلاص عن المكاره، وظفر بالمطالب ثم لما بين سبحانه الدلائل، وذكر الوعد والوعيد قال:
(فإنما يسرناه بلسانك) أي إنما أنزلنا القرآن بلغتك كي يفهمه قومك فيتذكروا ويعتبروا ويعملوا بما فيه، أو سهلناه بلغتك عليك وعلى من يقرأه، وهذا فذلكة للسورة وإجمال لما فيها من التفصيل (لعلهم يتذكرون) أي يتعظون فيؤمنون، لكنهم لا يؤمنون.
(فارتقب) أي فانتظر ما وعدناك من النصر عليهم وإهلاكهم على يدك (إنهم مرتقبون) أي فإنهم منتظرون ما ينزل بك من موت أو غيره، وقيل انتظر أن يحكم الله بينك وبينهم فإنهم منتظرون بك نوائب الدهر والمعنى متقارب قال المحلي وهذا قبل الأمر بجهادهم أي فهو منسوخ وليس بصحيح لأن رفع الإباحة الأصلية ليس نسخاً إنما النسخ رفع حكم ثبت في الشرع بحكم آخر.
414

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سورة الجاثية
وتسمى الشريعة قاله الخازن هي ست أو سبع وثلاثون آية
وهي مكيّة كلها في قول الحسن وجابر وعكرمة، وقال ابن عباس وقتادة إلا آية منها، وهي قوله: (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ) فأنها نزلت بالمدينة في عمر بن الخطب، ذكره الماوردي، وقال المهدوي والنحاس: " إنها نزلت في عمر شتمه رجل من المشركين بمكة قبل الهجرة فأراد أن يبطش به، فأنزل الله: (قل للذين آمنوا) الآية ثم نسخت بآية القتال فالسورة كلها مكيّة على هذا من غير استثناء.
415

بسم الله الرحمن الرحيم

حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (٩)
(بسم الله الرحمن الرحيم
417
Icon