تفسير سورة الزمر

معاني القرآن
تفسير سورة سورة الزمر من كتاب معاني القرآن .
لمؤلفه الفراء . المتوفي سنة 207 هـ

وقوله :﴿ تَنزِيلُ الْكِتَابِ١ ﴾ ترفع ﴿ تنزيل ﴾ بإضمار : هذا تنزيل، كما قال :﴿ سُورَةٌ أَنْزلْناها ﴾ ومعناه : هذه سورة أنزلناها وإِن شئتَ جَعَلت رَفعه بمِن. والمعنى : من الله تنزيل الكتاب ولو نصبته وأنت تأمر باتباعه ولزومه كان صَوَاباً ؛ كما قالَ الله ﴿ كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ ﴾ أي الزمُوا كتابَ الله.
وقوله :﴿ فَاعبد الله مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ ﴾ منصوب بوقوع الإخلاص عَليه. وكذلك ما أشبهه في القرآن مثل ﴿ مُخْلِصِينَ لَهُ الدينَ ﴾ ينصب كما في هَذَا. ولو رفعت ( الدين ) بِلَهُ، وجعَلت الإخلاص مُكتفِياً غير واقعٍ ؛ كأنك قلت : اعبد الله مُطيعاً فَلَه الدين.
وقوله :﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء ﴾ :( الذين ) في موضع رفع بِقول مضمر. والمعْنى :﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء ﴾ يقولون لأوليائهم وهي الأصْنام : ما نعبدكم إلاّ لتقرّبونا إلى الله. وكذلك هي في ( حَرف ) أُبي وهي حرف عبد الله ( قالُوا ما نعبدهم ) والحكاية إذا كانت بالقول مضمراً أو ظاهراً جاز أن يجعَل الغائب كالمخاطَب، وأن تتركه كالغائب، كقوله :﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَيُغْلَبُونَ ﴾ و ﴿ سَتُغْلَبُونَ ﴾ بالياء والتاء على ما وصفتُ لكَ.
وقوله :﴿ خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها ﴾ : يقول القائل : كيف قال :﴿ خَلَقَكُمْ ﴾ لبنى آدم. ثم قال :﴿ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها ﴾ والزوج مخلوق قبل الوَلد ؟ ففي ذلكَ وجهان من العربيّة :
أحدهما : أن العرب إذا أخبرت عن رَجل بفعلين رَدّوا الآخر بِثُمَّ إذا كان هو الآخر في المعْنى. وربّما جَعَلوا ( ثُمَّ ) فيما معناه التقديم وَيَجْعَلون ( ثم ) من خبر المتكلّم. من ذلكَ أن تقول : قد بلغني ما صنعت يَومك هذا، ثمّ ما صَنعت أمس أعجبُ. فهذا نَسَق من خبر المتكلّم. وَتقول : قد أعطيتكَ اليوم شيئاً، ثم الذي أعطيتك أمس أكثر، فهذا من ذلكَ.
وَالوجه الآخر : أن تجعل خَلْقَه الزوج مردوداً على ( وَاحدة ) كأنه قال : خلقكم من نفسٍ وَحدها، ثمّ جَعَل منها زوجها. ففي ( وَاحدةٍ ) مَعْنى خَلْقها وَاحدة.
قال : أنشدني بعض العرب :
أعددتَه للخَصْم ذى التعدّى كوّحتَه منك بُدون الجَهْد
ومعناه الذي إذا تعدى كوَّحتَه، وكوَّحَته : غلبته.
وقوله :﴿ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ ﴾ : يقول : يرضى الشكر لكم. وهذا مِثْل قوله :﴿ فاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمانا ﴾ أي فزادهم قولُ الناس، فإن قال قائل : كيف قال ﴿ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ﴾ وقد كفروا ؟ قلتُ : إنه لا يرضى أن يكفرو. فمعنى الكفر : أن يكفروا. وليسَ معناه الكفر بعينه. ومثله مما يبيّنه لك أن تقول : لست أحبّ الإساءة، وإني لأحب أن يسيء فلان فيُعذَّب فهذا مما يبيّن لك مَعناه.
وقوله :﴿ نَسِيَ ما كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ ﴾ : يقول : ترك الذي كان يدعوه إذا مسَّه، الضر يريد الله تعالى. فإن قلت : فهلاّ قيل : نسىَ من كانَ يَدعُو ؟ قلت : إن ( ما ) قد تكون في موضع ( مَن ) قال الله ﴿ قُلْ يأيُّها الكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ، وَلاَ أَنْتُم عَابِدُونَ ما أَعْبُدُ ﴾ يعنى الله. وقال ﴿ فانكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاء ﴾ فهذا وجه. وبه جاء التفسير، ومثله ﴿ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيّ ﴾ وقد تكون ﴿ نسىَ ما كان يدعُو إليْه ﴾ يراد : نسىَ دعاءه إلى الله من قبل. فإن شئتَ جعلت الهاء التي في ( إليه ) لِما. وإن شئت جَعَلتَها لله وكلّ مستقيم.
وقوله ﴿ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً ﴾١٦٦ ا فهذا تهدُّد وليس بَأمر محض. وكذلك قوله :﴿ فتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ وَما أشبهه.
وقوله :﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آناء اللَّيْلِ ٩ ﴾ قرأها يحيى بن وَثّاب بالتخفيف. وذُكر ذلك عن نافع وحمزة وفسّروها يريد : يا من هو قانت. وهو وجه حسَن، العرب تدعو بألف، كما يدعون بيَا. فيقولون : يا زيدُ أقبل، وأَزيدُ أقبل. قال الشاعر :
أبنى لبُيََنْيَ لستم بيدٍ إلاّ يدٍ ليسَت لها عَضُد
وقال الآخر :
أضمر بن ضمرةَ ماذا ذكَرْ تَ مِن صِرْمة أُخذت بالمُرارِ
وهو كثير في الشعر فيكون المعنى مردوداً بالدعَاء كالمنسُوق، لأنه ذكر الناسيَ الكافر، ثم قَصّ قصة الصالح بالنداء، كما تقول في الكلام : فلان لا يصَلّى ولا يَصُوم فيا من يصَلّى ويصوم أبشر فهذا هو مَعناه. والله أعْلَم.
وقد تكون الألِف استفهاما بتأويل أم لأن العرب قد تضع ( أمْ ) في موضع الألِف إذا سَبَقها كلام، قد وصفت منْ ذلك ما يُكتفي به. فيكون المعْنى أمَن هو قانت ( خفيف ) كالأوّل الذي ذُكر بالنسيان والكفر.
ومن قرأها بالتشديد فإنه يريد معنى الألِف. وهو الوجه : أن تجعَل أم إذا كانت مردودة على مَعْنىً قد سَبَق قلتها بأم. وقد قرأ بها الحسن وعاصم وأبو جعفر المدنيّ. يريدون : أَمْ مَن. والعرب تقول : كان هَذَا حين قلت : أأخوك أم الذئب. تقال هذه الكلمة بعد المغرب إذا رأيت الشخص فلم تَدْر ما هو. ومنه قولك : أَفَتِلك أم وَحْشِيّة، وقولك أذلِك أم جَأْب يطارد أُتُنا.
فإن قال قائل فأين جواب ( أمّن هُوَ ) فقد تبيَّن في الكلام أنه مضمر، وقد جرى معناه في أوّل الكلمة، إذ ذكر الضالّ ثم ذكر المهتدى بالاستفهام فهو دليل على أنه يريد : أهذا مثل هذا أو أهذا أفضل أم هذا. ومن لم يعْرف مذاهب العرب ويتبيَّن له المعْنى في هذا وشبهِه لم يكتفِ ولم يشتف ؛ ألا ترى قول الشاعر :
فأقسم لو شيء أتانا رَسُوله سواكَ ولكن لم نجد لك مَدْفعَا
أنّ معناه : لو أتانا رسولُ غيرِك لدفعْناهُ، فعلم المعنى ولم يُظهر. وجرى قوله :﴿ أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ للإِسْلاَمِ ﴾ على مثل هذا.
وقوله ﴿ آناء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائما ﴾ نُصِب على قوله : يقنت سَاجداً مرّةً وقائما مَرّةً، أي مطيع في الحالين. ولو رُفع كما رُفعَ القانت كان صَواباً. والقنوت : الطاعة.
وقوله :﴿ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النارِ ١٩ ﴾.
يقال : كيفَ اجتمع اسْتفهامان في مَعْنىً واحدٍ ؟ يقال : هذا مما يراد به استفهامٌ واحدٌ ؛ فيسبِق الاستفهام إلى غير موضعه يُردّ الاستفهام إلى موضعه الذي هو له. وإِنّما المعنى - والله أعْلم - : أفأنت تُنقذ من حَقّت عَليه كلمة العذاب. ومثله من غير الاستفهام قوله :﴿ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاما أَنَّكُمْ مُخْرَجُون ﴾ فردّ ﴿ أنكم ﴾ مَرّتين، والمعْنى - والله أعْلم - : أيعِدكُم أنّكم مخرَجون إذا متّم وكنتم تراباً. ومثله قوله :﴿ لاَ تَحْسَبَنّ الذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أن يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلاَ تَحْسَبَنّهُمْ ﴾ فرَدّ ( تحسبَنّ ) مرّتين ؛ ومعناهما - والله أعْلم - لا تَحسَبنّ الذينَ يفرحُون بما أَتَوْا بمفازة من العَذاب. ومثله كثير في التنزيل وغَيره من كلام العرب.
وقوله :﴿ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ : و ﴿ عن ذكر الله ﴾ كلّ صَواب. تقول : اتّخمتُ منْ طعَامٍ أكلته وعن طَعَام أكلته، سَوَاء في المعْنى. وكأنّ قوله : قسَت مِنْ ذكره أنهم جَعَلوه كذِباً فأقسى قلوبهم : زادها قَسْوَة. وكأن مَن قال : قست عنه يريد : أعرضت عنه.
وقوله :﴿ كِتَاباً مُّتَشَابِها ﴾ أي غير مختلف لا ينقض بعضه بعضاً.
وقوله ﴿ مَّثَانِيَ ﴾ أي مكرّراً يكرّر فيه ذكر الثواب والعقاب.
وقوله :﴿ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ﴾ : تقشعرّ خوفاً من آية العذاب إِذا نزلت ﴿ ثُمَّ تَلِينُ ﴾ عند نزل آية رَحمة.
وقوله :﴿ أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ : يقال : إن الكافر تنطلق به الخَزَنة إلى النار مغلولاً، فيُقذَف به في النارِ، فلا يتّقيها إلاّ بوجهه وَجَوابه من المضمر الذي ذكرتُ لك.
وقوله :﴿ فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ ﴾ مختلفون. هَذَا مَثَل ضربه الله للكافر والمؤمن. فجعلَ الذي فيه شركاء الذي يَعبد الآلهةَ المختلفة.
وقوله ﴿ وَرَجُلاً سَلَما لِّرَجُلٍ ﴾ هو المؤمن الموحِّد. وقد قرأ العوامّ ( سَلَما ) وسَلَمٌ وَسالم متقاربان في المعْنى، وكأنّ ( سلما ) مصدر لقولكَ : سَلِم لهُ سَلَما والعرب تقولُ : رَبِحَ رِبحا ورَبحا، وسَلِمَ سِلما وسَلَما وسلامة. فسالم من صفة الرّجل، وسَلَمَ مصدرٌ لذلك. والله أعلم.
حدّثنا أبو العبّاس قال : حدّثنا محمد، قال : حدثنا الفراء قال : حدَّثني أبو إسْحاق التيميّ -وليسَ بصاحب هُشيم - عن أبى رَوْق عن إبراهيم التيميّ عن ابن عباس أنه قرأ ( ورَجُلاً سَالما ) قال الفراء : وحدثني ابن عُيَيْنَةَ عن عبد الكريم الجزرى عن مجاهد أنه قرأ ( سالما ).
وقوله :﴿ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ﴾ ولم يقل مثلَين، لأنهما جميعاً ضُرِبا مثلا واحداً، فجرى المَثَل فيهما بالتوحيد ومثله ﴿ وجَعَلْنا ابنَ مَرْيَمَ وَأُمّهُ آيَةً ﴾ ولم يقل : آيتين ؛ لأن شأنهما وَاحد. ولو قيل مَثَلين أو آيتين كانَ صَوابَا ؛ لأنهما اثنانِ في اللفظ.
وقوله :﴿ وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ٣٣ ﴾ ( الذي ) غير موقَّت، فكأنه في مذهب جماعٍ في المعنى. وفي قراءة عبد الله ( والذين جاءوا بالصّدق وصَدّقوا به ) فهذا دَليل أنَّ ( الذي ) في تأويل جَمْعٍ.
وقوله :﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ٣٦ ﴾ قرأها يحيى بن وثّاب وأبو جعفر المدني ( أليس الله بكافٍ عباده ) على الجمع. وقرأها الناس ﴿ عَبْدَهُ ﴾ وذلك أن قريشاً قالت للنبيّ صلى الله عليْه وسلم : أما تخاف أن تَخْبِلَكَ آلهتُنا لعيبكَ إيّاها ! فأنزل الله ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾ محمّدا صَلى الله عليه وسلم، فكيفَ يخوِّفونكَ بمن دونه. والذين قالوا ﴿ عِبَادَهُ ﴾ قالوا : قد هَمَّت أمم الأنبياء بهم، ووعَدُوهم مِثلَ هذا، فقالوا لشعيب ﴿ إنْ نقُولُ إلاّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بسُوءٍ ﴾ فقال الله ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عبادَهُ ﴾ أي محمداً عَلَيْه السلام والأنبيَاء قبله. وكلّ صواب.
وقوله :﴿ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ٣٨ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ ٣٨ ﴾ نوَّن فيهما عَاصم والحسن وشَيْبَة المدنيّ. وَأضَاف يحيى بن وثّاب. وكلّ صَوَاب. ومثله ﴿ إنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ﴾ و ﴿ بالِغٌ أمْرَهُ ﴾ و ﴿ مُوهِنُ كَيْدِ الكافِرِينَ ﴾ و ﴿ مُوهِنٌ كَيْدَ الكافِرِين ﴾ وللإِضافة مَعْنى مضّى مِنَ الفعل. فإذا رأيتَ الفعْل قد مَضَى في المعْنى فآثر الإضافة فيه، تقول أخوك أَخَذ حقه، فتقول ها هُنا : أخوكَ آخذُ حَقِّه. ويقبح أن تقول : آخذٌ حقَّه. فإِذا كان مستقبلاً لم يقع بعدُ قلت : أخوك آخِذٌ حقَّه عن قليل، وآخذُ حقِّه عن قليل : ألا ترى أنك لا تقول : هذا قاتلٌ حمزة مُبغَّضاً، لأن معناه ماضٍ فقبح التنوين ؛ لأنه اسم.
وقوله :﴿ اللَّهُ يَتَوَفى الأَنفُسَ حِينَ مِوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها ٤٢ ﴾
وَالمعنى فيه يتوفى الأنفس حينَ موتها، ويتوفى التي لم تمت في منامها عند انقضاء أجلها. ويقال : إن توفِّيها نومُها. وهو أحبّ الوجهين إلىَّ لقوله ﴿ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْها الْمَوْتَ ﴾.
ولقوله :﴿ وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُمْ بالليلِ ﴾ وتقرأ ﴿ قَضَى عَلَيْها الْمَوْتَ ﴾ ﴿ وقُضِى عَليها الموتُ ﴾.
وقوله :﴿ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ ٤٩ ﴾
خرجَت ( هي ) بالتأنيث لتأنيث الفتنة. ولو قيل : بل هو فتنة لكان صَوَاباً ؛ كما قَالَ ﴿ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّى ﴾ ومثله كثير في القرآن. وكذلك قوله :﴿ قَدْ قَالَها الذينَ منْ قَبْلِهِم ﴾ أنثت إرادة الكلمة ولو قيل : قد قَاله الذين منْ قبلهم كان صَوَابا. ومثله في الكلام أن تقول : قد فعَلتها وفعَلتَ ذاك : ومثله. قوله :﴿ وَفَعَلْتَ فَعْلتك التي فعَلْتَ ﴾ يجوز مكانها لو أتى : وفعَلت فِعلكَ.
وقوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ٥٣ ﴾
هي في قراءة عبد الله ( الذنوب جميعاً لمن يشاء ) قال الفراء : وحدّثني أبو إسحاق التَّيميّ عن أبى رَوْق عن إبراهيم التيميّ عن ابن عبَّاس أنه قرأها كما هي في مصحف عبد الله ( يغفر الذنوب جميعاً لمن يشاء ) وإنما نزلت في وَحْشيّ قاتل حمزة وذوِيه.
وقوله :﴿ أَن تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتَا ٥٦ ﴾
أي افعَلوا وأنيبُوا وافعَلوا ﴿ أَن تَقُولَ نَفْسٌ ﴾ ألاّ يقول أحدكم غداً ﴿ يا حَسْرَتَا ﴾ ومثله قوله :﴿ وَأَلْقَى في الأَرْضِ رَوَاسِي أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ﴾ أي لا تميد.
وقوله :﴿ يا حَسْرَتَا ﴾ : يا ويلتا مضاف إلى المتكلّم يحوّل العرب اليَاء إلا الألف في كلّ كلام كان مَعْناه الاسْتغَاثة، يخرج على لفظ الدعاء. وربّما قيل : يا حَسْرَتِ كما قَالوا : يا لهَفِ على فلانٍ، ويا لهفَا عَلَيْهِ قَال : أنشدني أبو ثَرْوان العُكْليُّ.
تزورونها أَو لا أزور نِسَاءكم ألهَفِ لأولاد الإماء الحواطب
فخفضَ كما يُخفض المنادَى إذا أضافه المتكلّم إلى نفسه.
وربّما أدخلت العرب الهاء بعدََ الألفِ التي في ﴿ حسرتَا ﴾ فيخفضونها مَرة، ويرفعُونها. قَالَ : أنشدني أبو فَقْعَس، بعضُ بنى أسد :
يا ربِّ يا ربّاهِ إيّاك أسَلْ عَفراء يا ربّاهِ من قبل الأَجل
فخفض، قال : وأنشدني أبُو فَقْعَسٍ :
يا مرحباهِ بحمار ناهِيْه إِذَا أتى قرّبته للسَّانية
والخفض أكثر في كلام العرب، ألاّ في قولهم : يا هناه ويا هَنْتَاه، فالرفع في هذا أَكثر من الخفض ؛ لأنه كَثُر في الكلام فكأنه حَرف واحِدٌ مدعوّ.
وقوله :﴿ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ٥٨ ﴾
النصب في قوله ﴿ فَأَكُونَ ﴾ جَواب لِلو. وإن شئت جَعلته مردوداً على تأويل أنْ، تُضمرها في الكرَّة، كما تقول : لو أَنَّ لي أن أكُرَّ فأكونَ. ومثله مَّما نُصب على ضمير أنْ قوله :﴿ وَما كَانَ لِبَشَرٍ أنْ يُكَلِّمهُ اللهُ إلاّ وَحيْاً أوْ مِنْ وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ ﴾ المعْنَى - والله أعلم - ما كان لبشرٍ أن يكلمه الله إلاّ أن يوحى إليه أو يرسل. ولو رفع ﴿ فيُوحى ﴾ إذا لم يظهر أنْ قبله ولا معه كان صوابا. وقد قرأ به بعض القراء. قال : وأنشدني بعض بنى أسَدٍ :
يَحُلّ أُحَيْدَه ويقال بَعْلٌ ومثلُ تموُّلٍ منه افتقارُ
فما يُخطئكِ لا يخطئكِ منه طَبَانِيَةٌ فيَحْظُلُ أو يَغارُ
فرفع. وأنشدني آخر :
فمالك منها غير ذِكرى وحِسْبة وتسأل عن ركبانها أينَ يمَّموا
وقال الكسائي : سمعت من العرب : ما هي إلا ضَرْبة من الأَسَد فيحطِمُ ظهره، ( و ) يحطِمَ ظهرَه. قال : وأنشدني الأسَدِيّ :
على أحْوذِيَّيْن استقلت عَشِيَّة فما هي إلاَّ لمحة فتغيب
وقوله :﴿ بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِها ٥٩ ﴾
القراء مجتمعون على نصب الكاف وأن المخاطب ذَكَر. قال الفراء وحدثني شيخ عن وِقَاء بن إياسٍ بسنده أنه قرأ ( بَلَى قد جَاءتْكِ آياتي فكذَّبتِ بها واستكبرتِ ) فخفض الكاف والتاء كأنه يخاطب النفس. وهو وجه حسَن ؛ لأنه ذكر النفس فخاطبها أوّلاً، فأجْرى الكَلام الثاني على النفْس في خطابها.
وقوله :﴿ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ على اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ ٦٠ ﴾
ترفع ﴿ وجوههم ﴾ و ﴿ مسودّة ﴾ لأنَّ الفعل قد وقع على ( الذين ) ثم جاء بعد ( الذين ) اسم له فعل فرفعته بفعله، وكان فيه معنى نصب. وكذلك فالفعل بكل اسم أوقعتَ عليه الظنّ والرأي وما أشبههما فارفع ما يأتي بعده من الأسماء إذا كان معها أفاعيلها بعدها ؛ كقولكَ : رأيت عبد الله أمرُه مستقيم. فإن قدمت الاستقامة نصبتها، ورفعت الاسم ؛ فقلت : رأيت عبدَ الله مستقيما أمرُه، ولو نصبت الثلاثة في المسألة الأولى على التكرير كان جَائزاً، فتقول : رَأيت عبدَ الله أمرَهُ مستقيما. وقالَ عدِىّ ابن زيدٍ.
ذرِيني إن أمركِ لن يطاعَا *** وما ألفيتِني حِلْمي مُضَاعَا
فنصب الحلم والمُضاع على التكرير. ومثله :
ما للجمال مشيِها وئيدا ***...
فخفض الجَمال والمشي على التَّكرير. ولو قرأَ قارئ ﴿ وُجُوهَهُم مُّسْوَدَّةٌ ﴾ على هذا لكانَ صَوَاباً.
وقوله :﴿ بِمَفَازَاتِهِمْ ٦١ ﴾
جَمْع وقد قرأ أهل المدينة ﴿ بِمَفَازَتِهِمْ ﴾ بالتوحيد. وكلّ صَوَاب. تقول في الكلام : قد تَبيَّنَ أمرُ القوم وأُمُورُ القوم، وارتفع الصوت والأصوات ( ومعناه ) واحد قال الله ﴿ إنَّ أنْكَرَ الأصواتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ ﴾ ولم يقل : أصْواتٌ وكلّ صَوَاب.
وقوله :﴿ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ ٦٦ ﴾
تنصب ( الله ) - يعني في الإعراب - بهذا الفعْل الظاهر ؛ لأنه ردّ كلام. وإن شئت نصبته بفعل تُضمره قبله ؛ لأنَّ الأمر والنهي لا يتقدّمهما إلاّ الفعل.
ولكن العرب تقول : زيد فليقم، وزيداً فليقم فمَن رفعه قال : أَرفعه بالفعل الذي بعده ؛ إذا لم يظهر الذي قبله. وقد يُرفع أيضاً بأنْ يُضمر له مثل الذي بَعْده ؛ كأنك قلت : ليَنظر زيد فليقم. ومن نصبه فكأنه قال : انظروا زيداً فليقم.
وقوله :﴿ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ٦٧ ﴾
ترفع القبضة. ولو نصبها ناصب، كما تقول : شهر رمضانَ انسلاخَ شعبَانَ أي هذا في انسلاخ هذا.
وقوله :﴿ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ﴾ ترفع السَّموات بمطوياتٌ إذا رفعت المطويات. ومن قال ﴿ مَطْوِيَّاتٍ ﴾ رفع السموات بالباء التي في يمينه، كأنه قال : والسَّموات في يمينه. وينصبُ المطويَّاتِ على الحال أو على القطع. والحال أجود.
وقوله :﴿ فِي الصُّورِ ٦٨ ﴾
قال : كان الكلبيّ يقول : لا أدري ما الصور. وقد ذُكر أنه القَرْن وذكر عن الحسن أو عن قتادة أنه قال : الصور جماعة الصورة.
وقوله :﴿ طِبْتُمْ ٧٣ ﴾ أي زَكَوتم ﴿ فَادْخُلُوها ﴾.
وقوله :﴿ وَأَوْرَثَنا الأَرْضَ ٧٤ ﴾ يعنى الجنَّة.
Icon