تفسير سورة القمر

إعراب القرآن و بيانه
تفسير سورة سورة القمر من كتاب إعراب القرآن وبيانه المعروف بـإعراب القرآن و بيانه .
لمؤلفه محيي الدين الدرويش . المتوفي سنة 1403 هـ

(٥٤) سورة القمر مكيّة وآياتها خمس وخمسون
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ١ الى ٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤)
حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨)
اللغة:
(مُزْدَجَرٌ) مصدر ميمي من الزجر إلا أن التاء أبدلت دالا ليوافق الزاي بالجهر، ولك أن تعتبره اسم مكان أي مكان اتعاظ.
(نُكُرٍ) منكر فظيع تنكره النفوس لهوله وهو يوم القيامة.
(مُهْطِعِينَ) الإهطاع هو الإسراع مع مدّ الأعناق والتشوّف بالأنظار
371
بصورة دائمة لا تقلع عن التحديق وهي صورة حيّة مجسّدة للفزع المرتاع الذي يتطلع إلى ما يرتقبه من أهوال.
الإعراب:
(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) اقتربت الساعة فعل ماض وفاعل وانشق القمر عطف على الجملة المتقدمة (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) الواو عاطفة وإن شرطية ويروا فعل الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل ويعرضوا جواب الشرط ويقولوا عطف على يعرضوا وسحر خبر لمبتدأ محذوف أي هذا ومستمر صفة لسحر وفي مستمر أربعة أقوال أحدها وهو الظاهر أنه دائم مطّرد وقيل: مستمر قوي محكم من قولهم استمر مريره، قال البحتري في وصف الذئب:
طواه الطوى حتى استمر مريره فما فيه إلا الروح والعظم والجلد
وقيل هو من استمر الشيء إذا اشتدت مرارته فلا ينساغ وقيل مستمر مار ذاهب لا يبقى وجميع هذه الاحتمالات سائغة (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) الواو عاطفة وكذبوا فعل وفاعل واتبعوا فعل وفاعل وأهواءهم مفعول به، وسيأتي سر العدول عن المضارع إلى الماضي في باب البلاغة، والواو للاستئناف وكل أمر مبتدأ ومستقر خبره والجملة استئناف مسوق لإدخال اليأس إلى قلوبهم مما علّلوا به أمانيهم الكذوب، وفي مستقر قراءات منها مستقر بفتح القاف على أنه اسم مكان أو زمان أو مصدر ميمي أي ذو موضع استقرار أو زمان استقرار أو استقرار وقرئ بالجر صفة لأمر فيكون كل مبتدأ والخبر محذوف أي معمول به أو معطوفا على الساعة واستبعده أبو حيان لطول الفصل بجمل ثلاث (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وجاءهم فعل ماض ومفعول به ومن
372
الأنباء حال من ما وما موصولة أو موصوفة وعلى الحالين هي فاعل جاءهم وفيه خبر مقدّم ومزدجر مبتدأ مؤخر والجملة صلة ما (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ) حكمة خبر لمبتدأ محذوف أو بدل من ما وبالغة صفة لحكمة ومفعول بالغة محذوف والتقدير بالغة غايتها أي لا يتطرق إليها خلل والفاء عاطفة وما نافية أو استفهامية للإنكار وهي في محل نصب مفعول مطلق أي فأي غناء تغن النذر ويجوز أن تجعلها مفعولا به مقدّما أي فأي شيء من الأشياء تغن النذر وتغن فعل مضارع مرفوع والنذر فاعل تغن (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) الفاء الفصيحة وتولّ فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وفاعله مستتر تقديره أنت أي لا تناظرهم بالكلام وعنهم متعلقان بتولّ ويوم ظرف متعلق باذكر مضمرا أو بيخرجون وجملة يدع في محل جر بإضافة الظرف إليها وحذفت الياء من يدعو خطا والداعي فاعل يدعو وقرئ بإسقاط الياء اكتفاء بالكسرة وإلى شيء متعلقان بيدعو ونكر صفة لشيء (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) خشعا حال وقرئ خاشعة وخاشعا وأبصارهم فاعل خشعا قال الزجّاج: ولك في أسماء الفاعلين إذا تقدمت على الجماعة التوحيد فتقول خاشعا أبصارهم ولك التوحيد والتأنيث نحو خاشعة أبصارهم ولك الجمع نحو خشعا أبصارهم وتقول مررت بشباب حسن أوجههم وحسنة أوجههم وحسان وجوههم قال:
وشباب حسن أوجههم... من إياد بن نزار بن معبد
وقال الزمخشري: «ويجوز أن يكون في خشعا ضميرهم وتقع أبصارهم بدلا منه وجملة يخرجون مستأنفة ومن الأجداث متعلقان بيخرجون» وكأن واسمها وجراد خبرها ومنتشر صفة وجملة كأنهم جراد حال (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) مهطعين
373
منصوب على الحال أيضا من فاعل يخرجون وإلى الداع متعلقان بمهطعين وجملة يقول الكافرون استئنافية كأنها قد وقعت جوابا لسؤال عمّا نشأ من وصف اليوم بالأهوال وأهله بسوء الحال كأنه قيل فما يكون حينئذ فقيل يقول الكافرون وجوّز بعضهم أن تكون الجملة حالية من فاعل يخرجون فالأحوال من الواو إذن أربعة واحد مقدّم وثلاثة مؤخرة وجملة هذا يوم عسر مقول القول.
البلاغة:
١- المبالغة: في قوله: «اقتربت الساعة» زيادة مبالغة على قرب، كما أن في اقتدر زيادة مبالغة على قدر لأن أصل افتعل إعداد المعنى بالمبالغة نحو اشتوى إذا اتخذ شواء بالمبالغة في إعداده.
٢- العدول عن المضارع إلى الماضي: وفي قوله تعالى: «وكذبوا واتبعوا أهواءهم» عدول عن المضارع كما يقتضيه ظاهر السياق لكون كذبوا واتبعوا معطوفين على يعرضوا، والسر في هذا العدول الإشعار بأنهما من عاداتهم القديمة.
٣- التشبيه المرسل المفصل: وفي قوله «يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر» تشبيه مرسل مفصّل لأن الأركان الأربعة موجودة فيه فقد شبّههم بالجراد في الكثرة والتموج وعبارة القرطبي «كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداع» وقال في موضع آخر: «يوم يكون الناس كالفراش المبثوث فهما صفتان في وقتين مختلفين أحدهما عند الخروج من القبور يخرجون فزعين لا يهتدون أين يتوجهون فيدخل بعضهم في بعض فهم حينئذ كالفراش المبثوث بعضه في بعض لا جهة له يقصدها فإذا سمعوا المنادي قصدوه فصاروا كالجراد المنتشر لأن الجراد له وجه يقصده» وهذا تعقيب جميل. وقد أفاد هذا التشبيه تجسيد الصورة
374
وتشخيصها فهذه الجموع الخارجة من الأجداث في مثل رجع الطرف تشبه الجراد الذي اشتهر بانتشاره واحتشاده دون أن يكون له هدف من هذا الانتشار والاحتشاد وكذلك هذه الجمع قد ألجمها الخوف وعقد الهول أفهامها وضرب عليها رواكد من الحيرة وغشيها بأمواج من الضلالة والرين فهي تسير تلبية لدعوة الداع دون أن تعرف لم يدعوها، ولكنها تعرف بصورة مبهمة أنه يدعوها إلى شيء نكر لا تكتنه حقيقته ولا تعرف فحواه.
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٩ الى ١٧]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣)
تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧)
اللغة:
(مُنْهَمِرٍ) المنهمر: المنصب بشدة وغزارة وفي المختار: «همر الدمع والماء صبّه وبابه نصر وانهمر الماء: سال» قال امرؤ القيس:
375
(وَفَجَّرْنَا) التفجير: تشقيق الأرض عن الماء وللفاء مع الجيم فاء وعينا خاصة غريبة فهما تدلّان على الشق والتصديع، ففجأ وفجئ فجئا وفجأة وفجاءة وفاجأ مفاجأة الرجل: هجم عليه أو طرقه بغتة من غير أن يشعر به، والفجر ضوء الصباح وفيه تصديع لظلمة الليل، وشقّ لحنادسه، ومشى فلان مفاجّا بين رجليه أي مفرجا بينهما وفي أحاجيهم:
ما شيء يفاجّ ولا يبول: هو المنضدة شيء كالسرير له أربع قوائم يضعون عليه نضدهم وافتج الرجل: سلك الفجاج والفج يجمع على فجاج وفجاج وهو الطريق الواسع الواضح بين جبلين وركب فلان فجرة عظيمة وهو من أهل الفجر لا من أهل الفجور وهو الكرم وتبطح السيل في مفاجر الوادي ومرافضه وهي المواضع التي ترفض إليها السبل، وفجعه ما أصابه وفجّعه ويقولون: الدهر فاجئ بالشر فاجع واهب في هبته راجع، والفجوة المتّسع.
(عُيُوناً) جمع عين الماء وهي ما يفور من الأرض مستديرا كاستدارة عين الحيوان فالعين مشتركة بين عين الحيوان وعين الماء وعين الذهب وعين السحاب وعين الركية ويقال للعين ينبوع والجمع ينابيع والمنبع بفتح الميم والباء مخرج الماء والجمع منابع.
(وَدُسُرٍ) الدسر: المسامير التي تشدّ بها السفينة واحدها دسار ودسير ودسرت السفينة أدسرها دسرا إذا شددتها وقيل إن أصل الباب الدفع يقال دسره بالرمح إذا دفعه بشدة والدسر صدر السفينة لأنه يدسر به الماء أي يدفع ومنه الحديث في العنبر: «هو شيء دسره البحر» وفي المختار «الدسر: الدفع وبابه نصر» ويمكن التوفيق بين القولين لأن المسمار يدفع في منفذه، وسيأتي المزيد من هذا المعنى في باب البلاغة.
376
(مُدَّكِرٍ) أصله مذتكر فقلبت التاء دالا لتواخي الذال في الجهر ثم أدغمت الدال فيها.
الإعراب:
(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) كذبت فعل ماض والتاء للتأنيث وقبلهم ظرف زمان منصوب لإضافته متعلق بكذبت وقوم نوح فاعل كذبت، فكذبوا الفاء عاطفة وكذبوا فعل وفاعل وعبدنا مفعول به وقالوا عطف على كذبوا ومجنون خبر لمبتدأ محذوف أي هو مجنون، وازدجر يجوز عطفه على قالوا أي لم يكتفوا بهذا القول بل ضمّوا إليه زجره ونهره وقيل هو معطوف على هو مجنون فهو في حيز مقولهم أي قالوا هو مجنون وقد ازدجرته الجن وتخبطته وذهبت بلبّه، وازدجر فعل ماض مبني للمجهول (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) الفاء عاطفة ودعا ربه فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وأن وما في حيزها في محل نصب بنزع الخافض أي بأني مغلوب على حكاية المعنى ولو جاء على حكاية اللفظ يقال أنه مغلوب، وأن واسمها وخبرها والفاء عاطفة وانتصر فعل أمر أي انتقم لي منهم فمتعلق انتصر محذوف كما رأيت (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) الفاء عاطفة على محذوف مقدّر أي فاستجبنا لنوح دعاءه ففتحنا، وفتحنا فعل وفاعل وأبواب السماء مفعول به وبماء متعلقان بفتحنا والباء للتعدية على المبالغة حيث جعل الماء كالآلة التي يفتح بها كما تقول فتحت بالمفتاح ويجوز أن تكون الباء للملابسة أي ملتبسة بماء منهمر فتكون في موضع نصب على الحال، ومنهمر صفة لماء (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) وفجرنا عطف على فتحنا والأرض مفعول به وعيونا تمييز فإن نسبة فجرنا إلى الأرض مبهمة وعيونا مبين لذلك
377
الإبهام والأصل وفجرنا عيون الأرض فحول المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وجيء بالمضاف تمييزا، فالتقى عطف على فجرنا والماء فاعل التقى وعلى أمر متعلقان بالتقى وأفادت على معنى التعليل والمعنى اجتمع لأجل إغراقهم المقضي أزلا، وقيل في موضع نصب على الحال، وجملة قد قدر صفة لأمر (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) الواو عاطفة وحملناه فعل وفاعل ومفعول به وعلى ذات متعلقان بحملناه وألواح مضاف إليه ودسر عطف على ألواح (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) الجملة صفة لذات دسر وذات ألواح في الأصل صفة لسفينة فهي صفة ثانية وتجري فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدّرة على الياء وبأعيننا جار ومجرور في موضع نصب على الحال من الضمير في تجري أي مكلوءة ومحفوظة بأعيننا وجزاء مفعول لأجله أي فعلنا ذلك جزاء أو بتقدير جازيناهم جزاء ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال ولمن متعلقان بجزاء وجملة كان صلة من (وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) الواو عاطفة واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وتركناها فعل ماض وفاعل ومفعول به والضمير يعود على الفعلة وهي إغراقهم على الشكل المذكور وأجاز الزمخشري أن يعود على السفينة، وآية حال أو مفعول به ثان إذا كان تركنا بمعنى جعلناها والفاء عاطفة وهل حرف استفهام ومن حرف جر زائد ومدكر مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره موجود (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) الفاء الأولى أن تكون هي الفاء الفصيحة كأنه قال إن علمتم ما حلّ بهم جميعا جزاء وفاقا لعملهم فكيف كان عذابي وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر كان المقدم وكان عذابي كان واسمها ونذري عطف على عذابي ولم تثبت الياء في الرسم لأنها من ياءات الزوائد وكذا يقال في المواضع الآتية كلها على أنه قرئ بإثباتها وسيأتي معنى الاستفهام في البلاغة (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) عطف على ما تقدم
378
وللذكر متعلقان بيسّرنا والمعنى ولقد هيأناه للذكر من يسر ناقته للسفر ويسر فرسه للغزو إذا أسرجه وألجمه قال:
وقمت إليه باللجام ميسرا... هنالك يجزيني الذي كنت أصنع
ومعنى البيت: وقمت إليه مهيئا ومعدّا له اللجام أو مسهلا له به دلالة على أنه كان صعبا لولا اللجام وهنالك إشارة إلى مكان الحرب وإلى زمانها ويجزيني أي يعطيني جزاء صنعي معه وشبهه لمن تصح منه المجازاة على طريق الاستعارة المكنية.
البلاغة:
١- إنابة الصفات مناب الموصوفات: في وقله «وحملناه على ذات ألواح ودسر» كناية عن موصوف وهو السفينة فقد نابت الصفات مناب الموصوفات وأدّت مؤداها بحيث لا يفصل بينها وبينها، ونحوه قول أبي الطيب:
مفرشي صهوة الحصان... ولكن قميصي مسرودة من حديد
أراد ولكن قميصي درع، وفي الآية لو جمعت بين السفينة وبين هذه الصفة أو بين الدرع وهذه الصفة لم يصحّ وهذا من فصيح الكلام وبديعه.
٢- التكرير: وفي قوله «فهل من مدّكر» تكرار وقد مرّ تعريفه، ونقول هنا أن فائدة التكرار أن يجددوا عند سماع كل نبأ اتعاظا، وسيأتي من أحكام التكرير العجب العجاب.
٣- معنى الاستفهام: وفي قوله «فكيف كان عذابي ونذر» الاستفهام هنا للسؤال عن الحال أي كان على كيفية هائلة لا يحيطها
379
الوصف، والمعنى حمل المخاطبين على الإقرار بوقوع عذابه تعالى للمكذبين.
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ١٨ الى ٢٢]
كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢)
اللغة:
(صَرْصَراً) الصرصر: الريح الشديدة الهبوب حتى يسمع صوتها، وهو مضاعف صر، وتكرير الأحرف إشعار بتكرير العمل وقد تقدم بحثه ومثله كبّ وكبكب ونه ونهنه.
(أَعْجازُ نَخْلٍ) الأعجاز: جمع عجز وعجز كل شيء مؤخره ومنه العجز لأنه يؤدي إلى تأخر الأمور والنخل يذكّر ويؤنّث.
(مُنْقَعِرٍ) : منقلع من أصله لأن قعر الشيء قراره ومنه تقعر فلان في كلامه إذا تعمق فيه.
الإعراب:
(كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) كذبت عاد فعل ماض وفاعل وكيف كان عذابي ونذر تقدم إعرابها (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً
380
صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ)
إن واسمها وجملة أرسلنا عليهم خبرها والجملة مستأنفة مسوقة لبيان ما أجمل وريحا مفعول أرسلنا وصرصرا نعت ريحا ومستمر نعت للنحس أو لليوم، وسيأتي الحديث عن يوم النحس في باب الفوائد (تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) الجملة صفة لريحا وكأن واسمها وأعجاز نخل خبرها ومنعقر صفة لنخل والجملة حالية وهي حال مقدّرة وسيأتي المزيد عن هذا التشبيه في باب البلاغة (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) تقدم إعرابها (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) تقدم إعرابها قريبا فجدد به عهدا.
البلاغة:
١- في قوله «تنزع الناس» وضح الظاهر موضع المضمر وذلك لإفادة العموم أي إن النزع يعمّ الذكور والإناث جميعا وإلا فالأصل تنزعهم، قال مجاهد «تلقى الرجل على رأسه فتفتت رأسه وعنقه وما يلي ذلك من بدنه» وقيل كانوا يصطفون آخذي بعضهم بأيدي بعض ويدخلون في الشعاب ويحفرون الحفر فيندسون فيها فتنزعهم وتدق رقابهم.
٢- التشبيه: وفي قوله: «كأنهم أعجاز نخل منقعر» تشبيه مرسل تمثيلي، شبّههم بأعجاز النخل المنقعر إذ تساقطوا على الأرض أمواتا وهم جثث غطام طوال، وقيل كانت الريح تقطع رءوسهم فتبقى أجسادا بلا رءوس فأشبهت أعجاز النخل التي انقلعت من مغارسها.
الفوائد:
يوم النحس: قال الزجّاج: «قيل أنه كان في يوم الأربعاء في آخر الشهر لا تدور» ومن ثم شاع النحس عن يوم الأربعاء التي لا تدور، قال
381
الشهاب في حاشيته على البيضاوي «فإن الناس يتشاءمون بآخر أربعاء في كل شهر ويقولون له أربعاء لا يدور وتشاؤمهم به لا يستلزم شؤمه في نفسه» وسيأتي المزيد من هذا البحث في سورة الحاقة.
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٢٣ الى ٣٢]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧)
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢)
اللغة:
(سُعُرٍ) يجوز أن يكون مفرد أي جنون يقال ناقة مسعورة أي كالمجنونة في سيرها قال:
راح تمريه الصبا ثم انتحى فيه شؤبوب جنوب منهمر
كأنّ بها سعرا إذا العيس هزّها ذميل وإرخاء من السير متعب
يقول: كأن بناقتي جنونا لقوة سيرها فالعيس جمع عيساء وهي النوق البيض حركها ذميل وإرخاء وهما ضربان من السير متعب كل منهما، وإسناد الهز إليهما مجاز عقلي من باب الإسناد للسبب وإن أريد
382
بالهز التسيير فيكون من الإسناد للمصدر كجد جده ويجوز أن يكون جمع سعير وهو النار.
(الْأَشِرُ) الشديد البطر والتكبّر فهي صيغة مبالغة وقيل انه صفة مشبهة كحذر ويقظ ووطف وعجز وفي المختار «أشر وبطر من باب طرب أو فرح».
(مُحْتَضَرٌ) اسم مفعول من احتضر بمعنى حضر لأن الماء كان مقسوما بينهم لكل فريق يوم أي كل نصيب من الماء يحضره لا يحضر آخر معه ففي يوم الناقة تحضره الناقة وفي يومهم يحضرونه هم، وحضر واحتضر بمعنى واحد وإنما قال قسمة بينهم تغليبا لمن يعقل والمعنى يوم لهم ويوم لها.
(فَتَعاطى) فتناول السيف وعقرها، وقد مرّ مدتها.
(الْمُحْتَظِرِ) بكسر الظاء اسم فاعل وهو الذي يتخذ حظيرة من الحطب وغيره والحظيرة الزريبة وفي المختار «الحظيرة تعمل للإبل من شجر لتقيها البرد والريح والمحتظر بكسر الظاء الذي يعملها» والمعنى صاروا كيبس الشجر المفتت إذا تحطم والهشيم المتكسر المتفتت.
الإعراب:
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) فعل ماض وفاعل وبالنذر متعلقان بكذبت وقد تقدم أن النذر إما أن يكون مصدرا فيكون بمعنى الإنذار وإما أن يكون جمع نذير أي منذر (فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) الفاء عاطفة وقالوا فعل ماض وفاعل، وأبشرا الهمزة للاستفهام وبشرا منصوب على الاشتغال أي بفعل مضمر يفسره ما بعده أي أنتبع بشرا ومنّا صفة لبشرا وواحدا فيه وجهان أظهرهما أنه نعت لبشرا
383
إلا أنه يشكل عليه تقديم الصفة المؤولة على الصفة الصريحة ويجاب بأن منّا حينئذ ليس وصفا بل حال من واحدا قدم عليه والوجه الثاني أنه نصب على الحال من الهاء في نتبعه، والبشر يقع على الواحد والجمع ونتبعه فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وإن واسمها وإذن حرف جواب وجزاء مهملة ولفي اللام المزحلقة وفي ضلال متعلقان بمحذوف خبر إن وسعر معطوف على ضلال (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) الهمزة للاستفهام الإنكاري وألقي فعل ماض مبني للمجهول والذكر نائب فاعل وعليه متعلقان بألقي ومن بيننا حال من الهاء في عليه أي منفردا وبل حرف إضراب وعطف وهو مبتدأ وكذاب خبر وأشر نعت (سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) الجمل مقول قول محذوف تقديره قال تعالى والسين للاستقبال ويعلمون فعل وفاعل وغدا ظرف متعلق بيعلمون ومن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ والكذاب خبره والأشر صفة والجملة المعلقة لتصدّر الاستفهام بها سدّت مسدّ مفعولي يعلمون (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ) إن واسمها ومرسلو الناقة خبرها والجملة مستأنفة لبيان الموعود به وفتنة مفعول لأجله أي اختبارا لهم والفاء الفصيحة وارتقبهم فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به واصطبر عطف على ارتقبهم، ومتعلق واصطبر محذوف أي واصطبر على أذاهم (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) ونبئهم الواو عاطفة ونبئهم فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت والهاء مفعول أول وأن وما في حيزها في موضع المفعول الثاني والثالث لأن نبّأ تنصب ثلاثة مفاعيل وأن واسمها وقسمة خبرها وبينهم ظرف متعلق بمحذوف صفة مقسمة أو بقسمة لأنها بمعنى مقسومة وكل مبتدأ وشرب مضاف إليه ومحتضر خبر كل أي محضور لهم أو للناقة (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ) الفاء عاطفة ونادوا فعل ماض وفاعل والمعطوف عليه محذوف أي فتمادوا على ذلك، والأحسن أن تكون الفصيحة أي فبقوا على ذلك مدة ثم
384
ملّوا من نضوب الماء وجدب المراعي فأجمعوا على قتلها واتفقوا على الكمون لها حيث تمر وتطوع لهذا الأمر قدار بن سالف، وقد تقدمت قصته، فنادوه فتعاطى وصاحبهم مفعول به فتعاطى عطف على فنادوا أي فاجترأ على تعاطي هذا الأمر غير آبه له فعقر عطف على تعاطي (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) تقدم إعرابها قريبا (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) إن واسمها وجملة أرسلنا خبرها وعليهم متعلقان بأرسلنا وصيحة مفعول به وواحدة صفة، فكانوا عطف على أرسلنا والواو اسم كان والهشيم المحتظر خبرها وقرئ بالفتح على أنه اسم مكان وهو موضع الاحتظار أي الحظيرة (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) تقدم إعرابها قريبا.
البلاغة:
١- في قوله «سيعلمون غدا من الكذاب الأشر» فن الإبهام ليكون الوعيد أحفل بالانتقام والتهديد أشدّ أثرا في النفوس، وأورده مورد الإبهام وإن كانوا هم المعنيين لأنه أراد وقت الموت ولم يرد غدا بعينه وهو شائع في الشعر العربي، قال أبي الطماح:
ألا عللاني قبل نوح النوائح وقبل اضطراب النفس بين الجوانح
وقبل غد يا لهف نفسي في غد إذا راح أصحابي ولست برائح
أراد وقت الموت ولم يرد غدا بعينه. ومنه قول الحطيئة:
للموت فيها سهام غير مخطئة من لم يكن ميتا في اليوم مات غدا
٢- التشبيه: وفي قوله «فكانوا كهشيم المحتظر» تشبيه مرسل لإهلاكهم وإفنائهم.
385

[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٣٣ الى ٤٢]

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧)
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢)
اللغة:
(حاصِباً) ريحا حصبتهم أي رمتهم بالحجارة والحصباء، قال الفرزدق:
مستقبلين شمال الشام تضربنا بحاصب كنديف القطن منثور
وفي المختار: «الحصباء بالمدّ الحصى ومنه المحصّب وهو موضع بالحجاز والحاصب الريح الشديدة تثير الحصى والحصب بفتحتين ما تحصب به النار أي ترمى وكل ما ألقيته في النار فقد حصبتها به وبابه ضرب» وسيأتي المزيد من معناه في باب الإعراب.
(بِسَحَرٍ) سحر إذا كان نكرة يراد به سحر من الأسحار يقال رأيت زيدا سحرا من الأسحار ولو أريد من يوم معين لمنع من الصرف لأنه
386
معرفة معدول عن السحر لأن حقه أن يستعمل في المعرفة بأل، وعبارة الزمخشري: «بسحر بقطع من الليل وهو السدس الأخير منه وقيل: هما سحران فالسحر الأعلى قبل انصداع الفجر والآخر عند انصداعه وأنشد:
يا سائلي إن كنت عنها تسأل مرّت بأعلى السحرين تذأل
وصرف لأنه نكرة»
هذا وقد اختلف في تعريف الممنوع فقيل إنه ممنوع من الصرف للتعريف والعدل أما التعريف ففيه خلاف فقيل هو معرفة بالعلمية لأنه جعل علما لهذا الوقت وقيل يشبه العلمية لأنه تعريف بغير أداة ظاهرة كالعلم وأما العدل فإن صيغته معدولة عن السحر المقرون بأل لأنه لما أريد به معين كان الأصل فيه أن يذكر معرّفا بأل فعدل عن اللفظ بأل وقصد به التعريف فمنع من الصرف، وقال السهيلي والشلوبين الصغير معرف معروف واختلف في منع تنوينه فقال السهيلي: هو على نية الإضافة وقال الشلوبين على نيّة أل.
الإعراب:
(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ) فعل ماض وفاعل وبالنذر متعلقان بكذبت (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) إن واسمها وجملة أرسلنا خبرها وعليهم متعلقان بأرسلنا وحاصبا مفعول به وإلا أداة استثناء وآل لوط مستثنى بإلا وفي هذا الاستثناء وجهان أحدهما أنه متصل ويكون المعنى أنه أرسل الحاصب على الجميع إلا أهله فإنه لم يرسل عليهم والثاني أنه منقطع ويكون المعنى أنه لم يرسل على آل لوط والوجه هو الأول، ونجيناهم فعل وفاعل وبسحر متعلقان بنجيناهم (نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) نعمة مفعول مطلق ملاق لعامله في المعنى وهو نجيناهم إذ الإنجاء نعمة، أو مفعول لأجله تعليل
387
لأنجيناهم وإليه جنح الزمخشري واقتصر عليه ومن عندنا صفة لنعمة وكذلك متعلق بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف أي مثل ذلك الإنجاء ونجزي فعل مضارع مرفوع ومن موصول مفعول به وجملة شكر صلة الموصول (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ) الواو حرف عطف واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأنذرهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول وبطشتنا مفعول به ثان أو هو منصوب بنزع الخافض قولان، والفاء حرف عطف وتماروا فعل ماض والواو فاعل أي تدافعوا بالإنذار على وجه الجدال وبالنذر متعلقان بتماروا (وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) الجملة عطف على الجملة السابقة وعن ضيفه متعلقان براودوه، فطمسنا عطف على راودوه وأعينهم مفعول به والفاء عاطفة ومعطوفها محذوف أي فقلنا لهم وجملة ذوقوا مقول القول المحذوف وعذابي مفعول ذوقوا ونذر عطف على عذابي وحذفت ياء المتكلم كما تقدم (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) عطف أيضا وبكرة ظرف متعلق بصحبهم أي من غير يوم معين وعذاب فاعل ومستقر نعت لعذاب أي لا يزول عنهم (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) تقدم إعرابها (وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) تقدم إعراب نظيرها (كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) كلام مستأنف مسوق للردّ على سؤال نشأ من حكاية مجيء النذر كأنه قيل فماذا فعلوا حينئذ فقيل كذبوا، وبآياتنا متعلقان بكذبوا وكلها تأكيد لآياتنا، فأخذناهم الفاء عاطفة وأخذناهم فعل وفاعل ومفعول به وأخذ عزيز مفعول مطلق ومقتدر صفة لعزيز والإضافة من إضافة المصدر لفاعله.
البلاغة:
التكرير: في الآيات المتقدمة تكرير ملحوظ مقصود والغاية منه التذكير والانتباه من سنة الغفلة التي قد تطرأ على الأذهان فتحجبها عن
388
التأمل والتدبّر، وترين عليها سجوف الجهالات حتى ما تكاد تبصر شيئا وسيأتي المزيد من هذا الفن في سورة الرحمن.
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٤٣ الى ٥٥]
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧)
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢)
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥)
الإعراب:
(أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) أكفّاركم: الهمزة للاستفهام الإنكاري الذي هو بمعنى النفي وكفّاركم مبتدأ وخير خبر ومن أولئكم متعلقان بخير وأم منقطعة بمعنى بل فهي للإضراب والانتقال إلى وجه آخر من التبكيت ولكم خبر مقدم وبراءة مبتدأ مؤخر وفي الزبر نعت لبراءة (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) أم تقدم القول فيها
389
ويقولون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل ونحن مبتدأ وجميع خبر ومنتصر نعت لجميع لأنه بمعنى جمع والجملة مقول القول، وإنما وحّد منتصر للفظ بجميع فإنه واحد في اللفظ وإن كان اسما للجماعة كالرهط والجيش وقيل لم يقل منتصرون لموافقة رؤوس الآي وهو جيد (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) السين حرف استقبال ويهزم فعل مضارع مبني للمجهول والجمع نائب فاعل ويولون عطف على سيهزم والدبر مفعول به، ولم يقل الأدبار لموافقة رؤوس الآي أيضا ولأنه اسم جنس لأن كل واحد يولي دبره (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) بل حرف إضراب وعطف والساعة مبتدأ وموعدهم خبر والواو حرف عطف والساعة مبتدأ وأدهى خبر وأمرّ عطف على الساعة ولك أن تجعل الواو للحال (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) إن واسمها في ضلال خبرها (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) يوم الظرف متعلق بقول محذوف أي يقال لهم يوم يسحبون وجملة يسحبون في محل جر بإضافة الظرف إليها وفي النار متعلقان بيسحبون وعلى وجوههم متعلقان بمحذوف حال وذوقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة مقول القول المقدّر ومسّ مفعول به وسقر مضاف إليه وهي علم لجهنم ولذلك منعت من الصرف لأنها علم مؤنث (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) إن واسمها وكل شيء نصب على الاشتغال بفعل محذوف يفسره ما بعده أي إنّا خلقنا كل شيء خلقناه وجملة الفعل المحذوف في محل رفع خبر إنّا وجملة خلقناه مفسّرة لا محل لها، وقد نشب خلاف طويل حول هذه الآية لخصناه لك في باب الفوائد، وبقدر متعلقان بمحذوف حال من كل أي مقدّرا محكما مرتبا (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) الواو عاطفة وما نافية وأمرنا مبتدأ وإلا أداة حصر وواحدة خبر أمرنا وكلمح متعلقان بمحذوف حال من متعلق الأمر وهو الشيء المأمور بالوجود أي حال كونه يوجد سريعا وبالبصر متعلقان بلمح (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا
390
أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)
تقدم إعراب نظيرها قريبا (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) الواو عاطفة وكل مبتدأ وشيء مضاف إليه وجملة فعلوه صفة وفي الزبر خبر أي الكتب جمع زبور (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) مبتدأ وخبر أي مسطور في اللوح المحفوظ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) إن واسمها وفي جنات خبرها ونهر عطفت على جنات (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) الجار والمجرور بدل بعض من كل من قوله في جنات لأن المقعد بعض الجنات ولك أن تعلقه بمحذوف على أنه خبر ثان لإن وعند مليك ظرف متعلق بمحذوف صفة لجنات أو لمقعد وقيل هو خبر ثان أو ثالث لإن ومليك صيغة مبالغة.
الفوائد:
١- شجر خلاف بين أهل السنّة والمعتزلة حول قوله تعالى «إنّا كل شيء خلقناه بقدر» وكان قياس ما مهّد النحاة رفع «كل» لكن لم يقرأ بها واحد من السبعة لأن الكلام مع الرفع جملة واحدة ومع النصب جملتان فالرفع أخصر مع أنه لا مقتضى للنصب هاهنا من أحد الأصناف الستة وهي الأمر والنهي والاستفهام والتمنّي والترجّي والتحضيض، ولا نجد هنا مناسب عطف ولا غيره مما يعدّونه من محال اختيارهم للنصب، فإذا تبين ذلك علم أنه إنما عدل عن الرفع إجمالا لسر لطيف يعين اختيار النصب وهو أنه لو رفع لوقعت الجملة التي هي خلقناه صفة لشيء ورفع قوله بقدر خبرا عن كل شيء المقيد بالصفة ويحصل الكلام على تقدير إنّا كل شيء مخلوق لنا بقدر فأفهم ذلك أن مخلوقا ما يضاف إلى غير الله تعالى ليس بقدر، وعلى النصب يصير الكلام إنّا خلقنا كل شيء بقدر فيفيد عموم نسبة كل مخلوق إلى الله تعالى، فلما كانت هذه الفائدة لا توازيها الفائدة اللفظية على قراءة الرفع مع ما في
391
الرفع من نقصان المعنى ومع ما في هذه القراءة المستفيضة من مجيء المعنى تاما كفلق الصبح لا جرم أجمعوا على العدول عن الرفع إلى النصب.
على أن الزمخشري وهو من رؤوس المعتزلة وأعلامهم حاول خرق الإجماع ونقل قراءة بالرفع وخلقناه في موضع الصفة وبقدر هو الخبر أو جملة خلقناه هي الخبر وبقدر حال وعبارته «كل شيء منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر وقرئ كل شيء بالرفع» وقد انفرد بها أبو السمال وهي شاذة.
٢- خلاصة وافية لبحث الاشتغال: وهذه خلاصة وافية لبحث الاشتغال:
أما حدّه فهو أن يتقدم اسم ويتأخر عنه فعل متصرف أو اسم يشبهه ناصب لضميره أو لملابس ضميره بواسطة أو غيرها، ويكون ذلك العامل بحيث لو فرغ من ذلك المعمول وسلط على الاسم المتقدم لنصبه، ويجب النصب إذا وقع الاسم المتقدم بعد ما يختص بالفعل كأدوات التحضيض نحو هلّا زيدا أكرمته، وأدوات الاستفهام غير الهمزة نحو هل زيدا رأيته، وأدوات الشرط نحو حيثما زيدا لقيته فأكرمه، ويترجح النصب في ست مسائل:
١- أن يكون الفعل المشتغل طلبا وهو الأمر والدعاء بخير أو شر.
٢- أن يكون الفعل المشتغل مقرونا باللام أو بلا الطلبيتين نحو عمرا ليضربه بكر، وخالدا لا تهنه.
٣- أن يكون الاسم المشتغل عنه واقعا بعد شيء الغالب عليه أن يليه فعل ولذلك أمثلة منها همزة الاستفهام نحو: «أبشرا منّا واحدا نتبعه».
392
٤- أن يقع الاسم المشتغل عنه بعد عاطف غير مفصول بأما المفتوحة الهمزة المشددة الميم، مسبوق بفعل غير مبني على اسم قبله نحو قام زيد وعمرا أكرمته، وقوله تعالى «والأنعام خلقها لكم» بخلاف نحو: ضربت زيدا وأما عمرو فأهنته فالمختار فيه الرفع.
٥- أن يتوهم في الرفع أن الفعل المشتغل بالضمير صفة لما قبله نحو «إنّا كل شيء خلقناه بقدر» لأنه إذا رفع كل احتمل خلقناه أن يكون خبرا له فيكون المعنى على عموم خلق الكائنات الموجودة بقدر خيرا كانت أو شرا كما هو مذهب السنّة، واحتمل أن يكون خلقناه صفة لشيء وبقدر خبر لكل والتخصيص بالصفة يوهم أن ما لا يكون موصوفا بها لا يكون بقدر والصفة هي المخلوقية المنسوبة له فالمخلوقية التي لا تكون منسوبة له لا تكون بقدر فيوهم أن ثمة مخلوقا لغيره تعالى وهو مذهب المعتزلة وإنما لم يتوهم ذلك مع النصب لكل على أنه مفعول بفعل محذوف يفسره خلقنا، ويمتنع جعله صفة لكل شيء لأن الصفة لا تعمل في الموصوف وما لا يعمل لا يفسر عاملا، ومن ثم وجب الرفع لكل إن كان الفعل المتصل بالضمير صفة لكل شيء نحو «وكل شيء فعلوه في الزبر» أي الكتب ولا يصحّ نصب كل لأن تقدير تسليط الفعل عليها إنما يكون على حسب المعنى المراد وليس المعنى هنا أنهم فعلوا كل شيء في الزبر حتى يصحّ تسليط فعلوا على كل شيء وإنما المعنى وكل شيء مفعول لهم ثابت في الزبر وهو مخالف لذلك المعنى فرفع كل واجب على الابتدائية والفعل المتأخر صفة له أو لشيء وفي الزبر خبر كل.
هذا ولم يعتبر سيبويه إيهام الصفة مرجحا للنصب كما فعل ابن مالك بل جعل سيبويه النصب مرجوحا في الآية المذكورة قال: «فأما قوله تعالى: «إنّا كل شيء خلقناه بقدر فإنما جاء على حدّ قوله زيدا
393
ضربته وهو عربي كثير» وقال ابن الشجري: «أجمع البصريون في هذه الآية على أن الرفع أرجح لعدم تقدم ما يقتضي النصب، وقال الكوفيون: النصب فيها أجود لأنه قد تقدم على كل عامل ينصب وهو إن فاقتضى ذلك إضمار خلقنا».
٦- المسألة السادسة مما يترجح نصبه أن يكون الاسم المشتغل عنه جوابا لاستفهام منصوب بما يليه كزيدا ضربته جوابا لمن قال: أيّهم ضربت أو من ضربت فزيد يترجح نصبه لكونه جوابا للاستفهام ليطابق الجواب السؤال في الجملة الفعلية.
هذا وفي قوله «وكل شيء فعلوه في الزبر» يجب رفع كل ويمتنع نصبها لأن تقدير تسليط الفعل عليها إنما يكون على حسب المعنى المراد وليس المعنى هنا أنهم فعلوا كل شيء في الزبر حتى يصحّ تسليط فعلوا على كل شيء والفعل المتأخر صفة له أو لشيء.
394
Icon