تفسير سورة الحشر

فتح الرحمن في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة الحشر من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن المعروف بـفتح الرحمن في تفسير القرآن .
لمؤلفه مجير الدين العُلَيْمي . المتوفي سنة 928 هـ

آل أبي الحقيق وآل ابن أخطب لحقوا بخيبر، ولحقت طائفة منهم بالحيرة، فنزلت السورة (١).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١)﴾.
[١] ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ تقدم تفسيره
في أول سورة الحديد.
...
﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ (٢)﴾.
[٢] ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ هم بنو النضير، وكانت قبيلة عظيمة من بني إسرائيل، موازنة في القدر والمنزلة لبني قريظة، وكان يقال للقبيلتين: الكاهنان؛ لأنهما من ولد الكاهن ابن هارون.
﴿مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ وكانت أرضهم وحصونهم قريبة من المدينة بقرية يقال لها: زهرة، ولهم نخل وأموال عظيمة.
﴿لِأَوَّلِ الْحَشْرِ﴾ أي: عند أول حشرهم إلى الشام، والحشر: الجمع
(١) قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" (٣/ ٤٣٨): غريب، وهو في "تفسير الثعلبي" (٩/ ٢٦٧) هكذا من غير سند.
6
والتوجيه إلى ناحية ما، قال ابن عباس: من شكَّ أن المحشرَ بالشام، فليقرأ هذه الآية"، فكان أول حشر إلى الشام، قال النبي: - ﷺ - "اخرجوا"، قالوا: إلى أين؟ قال: "إلى أرض المحشر، ثم تحشر الخلق يوم القيامة إلى الشام (١) (٢)، وقيل: معناه لأول الحشر؛ لأنهم كانوا أول من أُجلي من أهل الكتاب من جزيرة العرب، ثم أجلى آخرَهم عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه، وسميت جزيرة، لأنه أحاط بها بحر الحبشة، وبحر فارس، ودجلة، والفرات.
﴿مَا ظَنَنْتُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿أَنْ يَخْرُجُوا﴾ من المدينة؛ لعزهم وقوتهم ﴿وَظَنُّوا﴾ أي: بنو النضير.
﴿أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ﴾ أي: من بأس الله؛ لوثوقهم بحصانتها.
﴿فَأَتَاهُمُ اللَّهُ﴾ أي: أمرُه وعذابه ﴿مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا﴾ أي: يظنوا.
﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾ الخوفَ بقتل سيدهم كعبِ بن الأشرف غيلةً قبلَ ذلك، وتقدم ذكرُ قتله في سورة آل عمران. قرأ أبو جعفر، وابن عامر، والكسائي، ويعقوب: (الرُّعُبَ) بضم العين، والباقون: بإسكانها (٣).
﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ﴾ يهدمونها. قرأ أبو عمرو: (يُخَرِّبُونَ) بفتح الخاء وتشديد الراء من خَرَّب، وقرأ الباقون: بإسكان الخاء مخففًا من أخرب،
(١) "إلى الشام" زيادة من "ت".
(٢) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" كما نسبه السيوطي في "الدر المنثور" (٨/ ٨٩)، والبزار في "مسنده" كما عزاه الهيثمي في "مجمع الزوائد" (١٠/ ٣٤٣)، ورواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (٣/ ٣٨٥).
(٣) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٩١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢١٦)، و "معجم القراءات القرآنية" (٧/ ١١١).
7
لغتان (١)، وقرأ ابن كثير، وقالون، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن عاصم: (بِيُوتَهُمْ) بكسر الباء، والباقون: بضمها، ومعناهما واحد (٢).
﴿بِأَيْدِيهِمْ﴾ [كانوا يخربون بواطنها؛ لئلا يتحسروا على بقائها للمسلمين] (٣).
﴿وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ كانوا يخربون باقيها.
﴿فَاعْتَبِرُوا﴾ فاتعِظوا (٤) بمصابهم ﴿يَاأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ ذوي العقول والبصائر.
...
﴿وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (٣)﴾.
[٣] ﴿وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ﴾ أي: حكمَ عليهم بخروجهم من أوطانهم ﴿لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا﴾ بالقتل والأسر؛ كقريظة.
﴿وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ﴾ إن نجوا هنا من القتل.
﴿عَذَابُ النَّارِ﴾ وكان إجلاء بني النضير مرجعَ النبي - ﷺ - من أُحد في سنة ثلاث من الهجرة، وفتحُ قريظة مرجعَه من الأحزاب في سنة خمس من الهجرة، وبينهما سنتان.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٣٢)، و"التيسير" للداني (ص: ٢٠٩)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٣٥٣)، و "معجم القراءات القرآنية" (٧/ ١١١ - ١١٢).
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٤١٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ١١٢).
(٣) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".
(٤) "فاتعظوا" زيادة من "ت".
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٤)﴾.
[٤] ﴿ذَلِكَ﴾ الذي نزل بهم ﴿بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ والمشاقة: كون الإنسان في شق، ومخالفُه في شق ﴿وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾.
...
﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (٥)﴾.
[٥] ولما حاصروا بني النضير، قطعوا بعض نخلهم؛ ليغيظوهم، فتحرَّج بعض المسلمين من ذلك، فنزل: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ﴾ من نخلة ﴿أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ﴾ بمشيئته، فلا جناح عليكم.
﴿وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ﴾ اليهودَ، فيه دليل على جواز قطع شجر الكفار وحرقها وهدم بيوتهم إذا قوتلوا، والحكم كذلك بالاتفاق.
...
﴿وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦)﴾.
[٦] ولما ترك بنو النضير رباعهم وضياعهم، طلب المسلمون قسمتها كخيبر، فنزل: ﴿وَمَا أَفَاءَ﴾ ردَّ ﴿اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ﴾ من أموال الكفار؛ أي: جعله فيئًا يختص به - ﷺ -.
﴿فَمَا أَوْجَفْتُمْ﴾ أي: سرتم بسرعة ﴿عَلَيْهِ﴾ على طلبه.
﴿مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ﴾ إبل خاصة، و (مِنْ) زائدة، المعنى: لم تقاسوا مشقة على أخذ أموال اليهود، فلذلك اختص به - ﷺ -.
﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ﴾ إهلاكَه وأخذَ ماله.
﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ يفعل ما يريد، فجعل أموال بني النضير لرسول الله - ﷺ - خاصة، يضعها حيث يشاء، فقسمها بين المهاجرين، ولم يعط الأنصار منها شيئًا إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة، وهم أبو دجانة سماكُ بنُ خرشة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمة (١).
...
﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٧)﴾.
[٧] ثم بين ما يصنع - ﷺ - بالفيء، فقال:
﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ﴾ أموال الكفار.
﴿أَهْلِ الْقُرَى﴾ وهي قريظةُ والنضير، وفدك، وخيبر، وقرى عرينة.
﴿فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (الْقُرَى) و (الْقُرْبَى) و (الْيَتَامَى) بالإمالة، وافقهم أبو عمرو في (الْقُرَى) و (الْقُرْبَى)، واختلف عن ورش، وقرأ الباقون:
(١) انظر: "تفسير الثعلبي" (٩/ ٢٧٢)، و "تفسير البغوي" (٤/ ٣١٦)، و "زاد المسير" لابن الجوزي (٨/ ٢٠٩).
10
بالفتح (١)، وتقدم حكم الفيء والغنيمة واختلاف الأئمة فيهما مستوفىً في سورة الأنفال.
﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً﴾ هو ما يُتداول.
﴿بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾ المعنى: قسم تعالى هذه الأموال بين المذكورين؛ لئلا يختص بها الأغنياء، ويتداولوها بينهم. قرأ أبو جعفر: (تَكُونَ) بالتاء على التأنيث؛ لتأنيب لفظ (دُوَلةً)، [و (دولةٌ) بالرفع؛ أي: كي لا يقع دولة جاهلية، وافقه هشام على رفع دولة] (٢)، واختلف عنه في تذكير (يَكُونَ) وتأنيثه، وقرأ الباقون: بالياء على التذكير، لأن تأنيث (دُولَة) غير حقيقي، و (دُولَةً) بالنصب (٣)؛ أي: لكيلا يكون الفيء دولة، والمخاطبة للأنصار؛ لأنه لم يكن في المهاجرين في ذلك الوقت غنى.
﴿وَمَا آتَاكُمُ﴾ أعطاكم ﴿الرَّسُولُ﴾ أيها المؤمنون من الفيء وغيره.
﴿فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ﴾ من الغلول وغيره.
﴿فَانْتَهُوا﴾ وهذا نازل في أمر الفيء، ثم اطَّرد بعدُ معنى الآية في جميع أوامر النبي - ﷺ - ونواهيه، فما حكم به الشارع - ﷺ - مطلقًا، أو في عين، أو فعله، أو أقره، لا يعلل بعلة مختصة بذلك الوقت بحيث يزول الحكم مطلقًا عند الحنابلة والشافعية، وجوزه الحنفية والمالكية.
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٦٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ١١٤).
(٢) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".
(٣) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٢٠٩)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٣٥٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٨٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ١١٤).
11
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ لمن خالفه.
...
﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨)﴾.
[٨] ثم بين مَنْ له الحقُّ في الفيء، فقال: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ﴾ فإن كفار مكة أخرجوهم، وأخذوا أموالهم.
﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا﴾ رزقًا ﴿مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾ أي: أُخرجوا إلى دار الهجرة طلبًا لرضا الله عز وجل. قرأ أبو بكر عن عاصم: (وَرُضْوَانًا) بضم الراء، والباقون: بكسرها (١).
﴿وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ بأنفسهم وأموالهم.
﴿أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ في إيمانهم.
...
﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩)﴾.
[٩] ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا﴾ استوطنوا ﴿الدَّارَ﴾ المدينةَ، وهم الأنصار ﴿وَالْإِيمَانَ﴾ أي: وأخلصوا الإيمان ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ من قبل قدوم المهاجرين
(١) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٤١٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ١١٥).
12
عليهم؛ فإنهم آمنوا، وبنوا المساجد قبل قدوم النبي - ﷺ - والمهاجرين المدينة بسنتين.
﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾ من المؤمنين ﴿وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ﴾ لقسم النبي - ﷺ - أموالَ بني النضير للمهاجرين دون الأنصار ﴿حَاجَةً﴾ حزازة وحسدًا ﴿مِمَّا أُوتُوا﴾ أي: مما أُعطي المهاجرون دونَهم من الفيء.
﴿وَيُؤْثِرُونَ﴾ إخوانَهم من المهاجرين بأموالهم ومنازلهم.
﴿عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ فقرٌ إلى ما يؤثرون به.
﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ﴾ وشحُّ النفس: هو كثرة الطمع وضبطها على المال والرغبة فيه، وامتداد الأمل، وهو فقر لا يُذهبه غنى المال، بل يزيده، وهو داعية كل خلق سوء ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ الفائزون بالثناء والثواب.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله - ﷺ - يقول: "لا يجتمعُ غبارٌ في سبيل الله ودخانُ جهنمَ في جوفِ عبدٍ أبدًا، ولا يجتمعُ الشحُّ والإيمانُ في قلبِ عبدٍ أبدًا" (١).
وقال - ﷺ -: "من أَدَّى الزكاةَ المفروضةَ، وقِرى الضيف، وأعطى في النائبة، فقد برئ من الشح" (٢).
والشح: هو أقبح البخل.
(١) رواه النسائي (٣١١٠)، كتاب: الجهاد، باب: فضل من عمل في سبيل الله على قدمه، والإمام أحمد في "المسند" (٢/ ٢٥٦)، وابن حبان في "صحيحه" (٣٢٥١)، والحاكم في "المستدرك" (٢٣٩٥).
(٢) رواه الخطيب في "موضح أوهام الجمع والتفريق" (١/ ٤٥٩)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
13
﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٠)﴾.
[١٠] ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ يعني: التابعين، وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة، وإعراب (الَّذِينَ) رفع عطفًا على (هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، ثم وصف الله تعالى القولَ الذي ينبغي أن يلتزمه كلُّ من لم يكن من الصدر الأول، فقال:
﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ﴾ قوله: (يَقُولُونَ) حال فيها الفائدة، والمراد: والذين جاؤوا قائلين كذا.
﴿وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا﴾ غشًّا وحقدًا.
﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ فكل من كان قلبه غل على أحد من الصحابة، ولم يترحم على جميعهم، فإنه ليس ممن عناه الله بهذه الآية؛ لأن الله رتب المؤمنين على ثلاث خلال: المهاجرين، والأنصار، والتابعين الموصوفين بما ذكرهم، فمن لم يكن من التابعين بهذه الصفة، كان خارجًا من أصناف (١) المؤمنين، ولهذه الآية قال مالك وغيره: إنه من كان له في الصحابة قول سوء أو بغض، فلا حظَّ له في الغنيمة؛ أدبًا له، وتقدم في سورة الحديد [الآية: ٩] اختلاف القراء في (رَؤوف).
...
(١) في "ت": "أقسام".
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (١١)﴾.
[١١] ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ أي: أظهروا خلاف ما أضمروا؛ يعني: عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه ﴿يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ وهم اليهود من بني قريظة والنضير:
﴿لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ﴾ من المدينة ﴿لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا﴾ سألنا خِذْلانكم ﴿أَبَدًا﴾ أي: من رسول الله والمسلمين.
﴿وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ﴾ لنعاوننَّكُمْ.
﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ لعلمِه بعدم فعلهم ذلك.
...
﴿لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (١٢)﴾.
[١٢] كما قال: ﴿لَئِنْ أُخْرِجُوا﴾ من ديارهم ﴿لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ﴾ وكان الأمر كذلك؛ فإنهم أخلفوهم الوعد.
﴿وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ﴾ أي: جاؤوا لنصره.
﴿لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ﴾ منهزمين ﴿ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ اليهود؛ لانهزام ناصرهم.
***
﴿لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (١٣)﴾.
[١٣] ﴿لأَنْتُمْ﴾ يا معشرَ المسلمين ﴿أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ﴾ المعنى: خوفُ المنافقين منكم أيها المؤمنون سرًّا أشدُّ من خوفهم من الله تعالى جهرًا، فإن استبطان رهبتكم سببٌ لإظهار رهبة الله تعالى.
﴿ذَلِكَ﴾ الخوفُ منكم ﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾ عظمةَ الله.
...
﴿لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (١٤)﴾.
[١٤] ﴿لَا يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ اليهودُ والمنافقون ﴿جَمِيعًا﴾ أي: مجتمعين.
﴿إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ﴾ بالخنادق، والدروب، فلا يبرزون لقتالكم.
﴿أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ﴾ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: (جِدَارٍ) بكسر الجيم وفتح الدال وألف بعدها على التوحيد، وأبو عمرو: على أصله في الإمالة، وقرأ الباقون: بضم الجيم والدال من غير ألف على الجمع (١)، وهما بمعنى الحائط ﴿بَأْسُهُمْ﴾ حربهم ﴿بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ﴾ قتالهم لكم من وراء السور شديد، ولكن لا يطيقون مبارزتكم.
﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا﴾ متفقين. وتقدم اختلاف القراء في (تَحْسَبُهُمْ) في
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٣٢)، و "التيسير" للداني (ص: ٢٠٩)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٣٦٤)، و "معجم القراءات القرآنية" (٧/ ١١٦ - ١١٧).
سورة الحديد ﴿وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾ متفرقة ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ﴾ ما فيه صلاحُهم.
﴿كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٥)﴾.
[١٥] فمثلُ بني النضير ﴿كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا﴾ يعني: مشركي مكة.
﴿ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ﴾ سوءَ عاقبة كفرهم، وهو القتل ببدر، وكانت غزوة بدر [في رمضان من السنة الثانية من الهجرة قبل غزوة] (١) بني النضير، والتقدير: ذاقوا وبال أمرهم قريبًا من عصيانهم، و (قَرِيبًا) ظرف، أو نعت لظرف ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ في الآخرة.
﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (١٦)﴾.
[١٦] ومثل المنافقين وإغوائهم اليهود بقولهم: ﴿إِنّا مَعَكم﴾
﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ﴾ إبليس ﴿إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ﴾ فكفر.
﴿فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ﴾ تبرأ منه (٢) مخافةَ أن يشاركه في العذاب، ولم ينفعه ذلك.
وحكي أن هذا في شيطان مخصوص مع عابد من العباد مخصوص اسمه
(١) ما بين معكوفتين سقط من "ت".
(٢) في "ت": "عنه".
برصيصا، استودع امرأة سيقت إليه ليشفيها بدعائه من الجنون، فسول له الشيطان الوقوع عليها، فحملت، فخشي الفضيحة، فسول له قتلها ودفنها، ثم شهره، فلما استخرجت المرأة، وحُمل العابدُ شرَّ حمل، وهو قد قال: إنها قد ماتت، فقصتُ عليها فدفنتها فلما وُجدت مقتولة، علموا كذبه، فتعرض له الشيطان، فقال له: اكفر واسجد لي وأنا أنجيك، ففعل، فتركه عند ذلك، وقال: إني بريء منك، قال ابن عطية (١): وهذا كله ضعيف، والتأويل الأول هو وجه الكلام (٢).
وقوله: ﴿إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ رياء من قوله، وليست على ذلك عقيدته. قرأ أبو جعفر بخلاف عنه: (بَرِيٌّ) بتشديد الياء بغير همز، والباقون: بالمد والهمز (٣)، وقرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو: (إِنِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (٤).
﴿فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (١٧)﴾.
[١٧] ﴿فكَانَ عَاقِبَتَهُمَا﴾ آخرَ أمر الغاوي والمغوى.
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ٣٦٤)، و"تفسير الثعلبي" (٤/ ٢٨٧).
(٢) انظر: "المحرر الوجيز" (٥/ ٢٩٠).
(٣) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٤٠٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ١١٨).
(٤) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٣٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٨٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ١١٨).
﴿أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ﴾ وذهب الجمهور من المتأولين إلى أن (الشيطانَ) و (الإنسانَ) في هذه الآية اسما جنس؛ لأن العرف أن يعمل هذا شياطين بناس، كما يغوي الشيطان الإنسان، ثم يفر عنه بعد أن يورطه، كذلك أغوى المنافقون بني النضير، وحرضوهم على الثبوت، ووعدوهم النصر، فلما نشب بني النضير، وكشفوا عن وجوههم، تركهم المنافقون في أسوأ حال.
﴿نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٨)﴾.
[١٨] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ﴾ من العمل.
﴿لِغَدٍ﴾ ليوم القيامة، وسماه به؛ لدنوه.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ تكرير للتأكيد.
﴿إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ وهو كالوعيد على المعاصي.
﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (١٩)﴾.
[١٩] ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ﴾ أي: نسوا حقه، وغفلوا عنه.
﴿فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾ أي: حقَّ أنفسهم بالخذلان حتى لم يقدموا لها خيرًا.
﴿أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ الكاملون في الفسق، ويعطي لفظ هذه
الآية أن من عرف نفسه ولم ينسها، عرف ربه تعالى، وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: اعرف نفسك تعرف ربك (١).
﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (٢٠)﴾.
[٢٠] ﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾ فيه دليل على أن المسلم لا يُقتل بالكافر، وتقدم الحكم في ذلك، واختلاف الأئمة فيه في سورة البقرة.
﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ بالنعيم المقيم.
﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١)﴾.
[٢١] ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا﴾ متشققًا.
﴿مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ قرأ ابن كثير: (القُرَانَ) بالنقل، والباقون: بالهمز (٢)، وهذا تمثيل توبيخًا للإنسان على قسوة قلبه وقلة تخشعه عند تلاوة القرآن.
﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ﴾ المذكورات هنا وجميع القرآن.
﴿نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ فيؤمنون.
(١) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (٥/ ٢٩١)، و"تفسير الثعالبي" (٤/ ٢٨٧).
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٤١٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ١٢٠).
﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (٢٢)﴾.
[٢٢] ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ لما قال تعالى: ﴿مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ تعالى جاء بالأوصاف التي توجب لمخلوقاته هذه الخشية.
﴿عَالِمُ الْغَيْبِ﴾ ما غاب عن المخلوقين، ولم يعاينوه.
﴿وَالشَّهَادَةِ﴾ ما شاهدوه وعلموه ﴿هُوَ الرَّحْمَنُ﴾ ذو الرحمة، ولا يوصف به إلا هو سبحانه ﴿الرَّحِيمُ﴾ عظيم الرحمة.
﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣)﴾.
[٢٣] ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ﴾ البليغٌ في النزاهة، وهو فُعُّول من تقدَّس: إذا تطهَّر، وحظيرة القدس: الجنة؛ لأنها طاهرة، ومنها روح القدس، والأرض المقدسة: بيت المقدس، سمي به؛ لأنه يُتطهر فيه من الذنوب.
﴿السَّلَام﴾ الذي سلم من النقائص ﴿الْمُؤْمِنُ﴾ واهب الأمن ﴿الْمُهَيْمِنُ﴾ الرقيب على كل شيء ﴿الْعَزِيزُ﴾ الذي لا يوجد له نظير ﴿الْجَبَّارُ﴾ العظيم الذي جبر خلقَه على ما أراد ﴿الْمُتَكَبِّرُ﴾ المتعالي عن صفات المحدثات وعن كل سوء.
﴿سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ إذ لا يشاركه أحد في شيء من ذلك.
﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤)﴾.
[٢٤] ﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ﴾ المقدِّرُ لما يوجد ﴿الْبَارِئُ﴾ المنشئ من العدم. قرأ الدوري عن الكسائي: (الْبَارِئُ) بالإمالة (١) ﴿الْمُصَوِّرُ﴾ الممثِّل لصورة خلقه بالشكل واللون.
﴿لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ أي: ذات الحسن في معانيها القائمة بذاته سبحانه، وهذه الأسماء التي حصرها رسول الله - ﷺ - بقوله: "إن لله تسعةً وتسعين اسمًا، مئةً إلا واحدًا، من أحصاها، دخلَ الجنةَ" (٢)، وتقدم ذكرها والكلام عليها في سورة الأعراف عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [الآية: ١٨٠].
﴿يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ينزهه عن النقائص.
﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ قدم تفسيره في أول سورة الحديد.
روي أن اسم الله الأعظم في هذه الآيات من ﴿هُوَ اللَّهُ﴾ إلى آخرها (٣)، والله أعلم.
(١) انظر: "الكشف" لمكي (١/ ١٧١)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٤١٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ١٢١).
(٢) تقدم تخريجه.
(٣) انظر: "تفسير الطبري" (٢٨/ ٥٦).
Icon