تفسير سورة سورة الحاقة من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم
المعروف بـتفسير أبي السعود
.
لمؤلفه
أبو السعود
.
المتوفي سنة 982 هـ
سورة الحاقة مكية وآيها اثنتان وخمسون.
ﰡ
﴿الحاقة﴾ أي السَّاعةُ أو الحالةُ الثابتةُ الوقوعِ الواجبةُ المجىءِ لا محالةَ أو التي يحقُّ فيها الأمورُ الحقةُ من الحسابِ والثوابِ والعقابِ أو التي تُحقُّ فيها الأمورُ أي تُعرفُ على الحقيقةِ من حقَّهُ يحقه اذا عرف حقيقة جعل الفعل لها ومجازا وهو لِما فيها منَ الأمورِ أو لمَنْ فيها من أُولِي العلمِ وأيَّا ما كانَ فحذفُ الموصوفِ للإيذانَ بكمالِ ظهورِ اتصافهِ بهذِهِ الصفةِ وجريانِهَا مجرى الإسمِ وارتفاعُها على الابتداءِ خبرُها
﴿ما الحاقة﴾ الى أنَّ مَا مبتدأٌ ثانٍ والحاقَّةُ خبرُهُ والجملةُ خبرٌ للمبتدأ الأولِ والأصلُ ما هيَ أيْ أيُّ شيءٍ هي في حالِهَا وصفَتِهَا فإنَّ مَا قدْ يُطلب بها الصفةُ والحالُ فوضعُ الظاهرِ موضعَ المضمرِ تأكيداً لهولها هذا ما ذكرُوهُ في إعرابِ هذه الجملةِ ونظائرِهَا وقد سبقَ في سورةِ الواقعةِ أنَّ مُقتضَى التحقيقِ أنْ تكونَ ما الاستفهاميةُ خبراً لما بعدَهَا فإنَّ مناطَ الإفادةِ بيانُ أنَّ الحاقةَ أمرٌ بديعٌ وخَطْبٌ فظيعٌ كما يفيدُهُ كونُ مَا خبراً لا بيانُ أنَّ أمراً بديعاً الحاقةُ كما يفيدُهُ كونُها مبتدأً وكونُ الحاقَّةِ خبراً وقوله تعالى
﴿وَمَا أَدْرَاكَ﴾ أي وأيُّ شيءٍ أعلمكَ ﴿مَا الحاقة﴾ تأكيد لهولها وفظاعتها ببيان خروجها عن دائرة علوم المخلوقاتِ على مَعْنَى أنَّ عظمَ شأنِهَا ومَدَى هولِهَا وشدَّتِهَا بحيثُ لا تكادُ تبلغُهُ درايةُ أحدٍ ولا وهمُهُ وكيفَما قدرتَ حالَهَا فهيَ أعظمُ من ذلكَ وأعظمُ فلا يتسنَّى الإعلامُ وما في حيز الرفع على الابتداءِ وأدراكَ خبرُهُ ولا مساغَ هَهُنَا للعكسِ ومَا الحاقَّةُ جملةٌ من مبتدإٍ وخبرٍ على الوجهِ الذي عرفَتَهُ محلُّها النصبُ على إسقاطِ الخافضِ لأنَّ أدرى يتعدى إلى المفعول الثاني بالباء كما في قوله تعالى ولا أدراكم بِهِ فلمَّا وقعتْ جملةُ الاستفهامِ معلّقةً لهُ كانَتْ في موضعِ المفعولِ الثانِي والجملةُ الكبيرةُ معطوفةٌ على ما قبلها من الجملة الواقعةِ خبراً لقولِهِ تعالَى الحاقة مؤكدةٌ لهولِها كما مرَّ
﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بالقارعة﴾ أيْ بالحالةِ التي تقرعُ النَّاسَ بفنونِ الأفزاعِ والأهوالِ والسماءَ بالانشقاقِ والانفطارِ والأرضَ والجبال بالدك
21
٦٩ سورة الحافة (٥ ٩)
والنسفِ والنجومَ بالطمسِ والانكدارِ ووضعُهَا موضعَ ضميرِ الحَاقَّةِ للدلالةِ على مَعْنَى القرعِ فيها تشديدا لهلولها والجملةُ استئنافٌ مسوقٌ لإعلامِ بعضِ أحوالِ الحَاقَّةِ لهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إثرَ تقريرِ أنَّه ما أدراهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بها أحدٌ كما في قولِهِ تعالى وما أدراك ما هية نَارٌ حَامِيَةٌ ونظائرُهُ خَلا أنَّ المبيِّنَ هناكَ نفسُ المسؤل عنْهَا وهَهُنَا حالٌ منْ أحوالِهَا كَما في قولِهِ تعالى وما أدراك ما لَيْلَةُ القدر لَيْلَةُ القدر خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ فكمَا أنَّ المبيَّنَ هناكَ ليسَ نفسَ ليلةِ القدرِ بل فضلَها وشرفَها كذلكَ المبيَّنُ ههنا هولُ الحاقةِ وعظمُ شأنِهَا وكونُها بحيثُ يحقُّ إهلاكُ منْ يكذبُ بها كأنَّه قيلَ وما أدراكَ ما الحاقةُ كذبتْ بها ثمودُ وعادٌ فأُهلِكُوا
22
﴿فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية﴾ أي بالواقعةِ المجاوزةِ للحدِّ وهيَ الصِّيحةُ أو الرَّاجفةُ
﴿وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ﴾ أي شديدةِ الصَّوتِ لها صرصرةٌ أو شديدةُ البردِ تحرقُ ببردِهَا ﴿عَاتِيَةٍ﴾ شديدةِ العصفِ كأنَّها عتتْ على خُزَّانِهَا فلم يتمكنُوا من ضبطِهَا أو على عادٍ فلم يقدرُوا على ردِّها وقولُهُ تعالَى
﴿سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ﴾ الخ استئنافٌ جيء به بيانا لكيفية إهلاكِهِم بالريحِ أي سلَّطها الله عليهِم بقدرتِه القاهرةِ ﴿سبع ليال وثمانية أيام حُسُوماً﴾ أي متتابعاتٍ جمعُ حاسمٍ كشهودٍ جمعُ شاهدٍ من حسمتُ الدابةُ إذا تابعتُ بين كيِّها أو نحساتٌ حسمتْ كلَّ خيرٍ واستأصلتهُ أو قاطعاتٌ قطعتْ دابرَهُم ويجوزُ أنْ يكونَ مصدراً منتصباً على العلةِ بمعنى قطعاً أو عَلى المصدرِ لفعلِهِ المقدرِ حالاً أي تحسمُهُم حُسوماً ويؤيدُه القراءةُ بالفتحِ وهيَ كانتْ أيامَ العجوزِ من صبيحةِ أربعاءَ إلى غروبِ الأربعاءِ الآخرِ وإنَّما سُمِّيتْ عجُوزاً لأنَّ عجُوزاً من عادٍ توارتْ في سِرْبٍ فانتزعتْهَا الريحُ في اليومِ الثامنِ فأهلكَتْهَا وقيلَ هي أيامُ العجزِ وهيَ آخرُ الشتاءِ وأسماؤُها الصِنُّ والصِّنَّبرُ والوبرُ والآمرُ والمؤتمرُ والمعللُ ومطفىءُ الجَمْرِ وقيلَ ومُكفىءُ الظعنِ ﴿فَتَرَى القوم﴾ إنْ كنتَ حاضراً حينئذٍ ﴿فِيهَا﴾ في مهابِّها أو في تلكَ الليالِي والأيامِ ﴿صرعى﴾ مَوْتَى جمعُ صريعٍ ﴿كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ﴾ أي أصولُ نخلٍ ﴿خَاوِيَةٍ﴾ متآكلةِ الأجوافِ
﴿فَهَلْ ترى لَهُم مّن بَاقِيَةٍ﴾ أي بقيةٍ أو نفسٍ باقيةٍ أو بقاءٍ على أنَّها مصدرٌ كالكاذبةِ والطاغيةِ
﴿وَجَاء فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ﴾ أيْ ومَنْ تقدَّمهُ وقُرِىءَ ومن قبله أي ومن عندَهُ من أتباعِهِ ويؤيدُهُ أنَّه قُرِىءَ ومَنْ مَعَهُ
﴿والمؤتفكات﴾ أي قرى قومٍ لوطٍ أي أهلُهَا
﴿بِالْخَاطِئَةِ﴾ بالخطإِ أو بالفعلةِ أو الأفعالِ ذاتِ الخطإِ التي من جُمْلتِهَا تكذيبُ
22
٦٩ سورة الحاقة (١٠ ١٥)
البعثِ والقيامةِ
23
﴿فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبّهِمْ﴾ أي فعَصَى كلُّ أُمَّةٍ رسولَهَا حينَ نَهَوهُم عمَّا كانُوا يتعاطونَهُ من القبائحِ ﴿فَأَخَذَهُمْ﴾ أي الله عزل وجَلَّ ﴿أَخْذَةً رَّابِيَةً﴾ أي زائدةً في الشدةِ كما زادتْ قبائحُهُم في القبحِ من ربا الشيء اذ زاد
﴿إنا لما طغى الماء﴾ بسببِ إصرارِ قومِ نوحٍ على فنونِ الكفرِ والماصي ومبالغتِهِم في تكذيبِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فيما أوحَى إليهِ من الأحكامِ التي من جُملتها أحوالُ القيامةِ ﴿حملناكم﴾ أي في أصلابِ أبائِكُم ﴿فِى الجارية﴾ في سفينةِ نوحٍ عليهِ السَّلامُ والمرادُ بحملِهِم فيها رفعُهُم فوقَ الماءِ إلى انقضاءِ أيامِ الطُّوفانِ لا مجردُ رفعِهِم إلى السفينةِ كما يُعربُ عنهُ كلمةُ في فإنَّها ليستْ بصلةٍ للحملِ بلْ متعلقةٌ بمحذوفٍ هو حالٌ من مفعولِهِ أي رفعناكُم فوقَ الماءِ وحفظناكُم حالَ كونِكُم في السفينةِ الجاريةِ بأمرِنَا وحفظِنَا وفيه تنبيهٌ على أنَّ مدارَ نجاتِهِم محضُ عصمتِهِ تعالى إنَّما السفينةُ سببٌ صُوريٌّ
﴿لِنَجْعَلَهَا﴾ أي لنجعلَ الفعلةَ التي هي عبارةٌ عن إنجاءِ المؤمنينَ وإغراقِ الكافرينَ ﴿لَكُمْ تَذْكِرَةً﴾ عبرةً ودلالةً على كمالِ قُدرة الصَّانعِ وحكمتِهِ وقوةِ قهرِهِ وسعةِ رحمَتِهِ ﴿وَتَعِيَهَا﴾ أي تحفظُهَا والوعيُ أنْ تحفظَ الشيءَ في نفسِكَ والإيعاءُ أن تحفظَهُ في غيرِ نفسِكَ من وعاءٍ وقُرِىء تَعْيها بسكونِ العينِ تشبيهاً له بكتفٍ ﴿أُذُنٌ واعية﴾ أي أذنٌ من شأنِهَا أنْ تحفظَ ما يجبُ حفظُهُ بتذكرِهِ وإشاعَتِهِ والتفكرِ فيهِ ولا تضيعُهُ بتركِ العملِ بهِ والتنكيرُ للدلالةِ على قلَّتِهَا وأنَّ مَن هَذا شأنُه مَع قلتِهِ يتسببُ لنجاةِ الجمِّ الغفيرِ وإدامةِ نسلِهِم وقُرِىءَ أُذْنٌ بالتخفيفِ
﴿فَإِذَا نُفِخَ فِى الصور نَفْخَةٌ واحدة﴾ شروعٌ في بيان نفس الحاقة وكيفة وقوعِهَا إثرَ بيانِ عظمِ شأنِهَا بإهلاكِ مكذبيها وإنَّما اسند الفعلِ إلى المصدرِ لتقييدِه وحسُنَ تذكيرُهُ للفصلِ وقُرِىءَ نفخةً واحدةً بالنصبِ على إسنادِ الفعلِ إلى الجارِّ والمجرورِ والمرادُ بها النفخةُ الأُولى التي عندَهَا خرابُ العالمِ
﴿وَحُمِلَتِ الأرض والجبال﴾ أي قلعت ورُفعتْ من أماكنِهَا بمجردِ القدرة الالهية او بتوسط الزلزلةِ أو الريحِ العاصفةِ ﴿فَدُكَّتَا دَكَّةً واحدة﴾ أيْ فضُربتْ الجملتانِ إثرَ رفعِهِمَا بعضِهَا ببعضٍ ضربةً واحدةً حتى تندقَّ وترجعَ كثيباً مهيلاً وهباءً منبثاً وقيل فبُسطتا بسطةً واحدةً فصارتَا قاعا صفصفا لا ترى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً من قولِهِم اندكَّ السنامُ إذا تفرشَ وبعيرٌ أدكُّ وناقةٌ دكاءُ ومنهُ الدكانُ
﴿فَيَوْمَئِذٍ﴾ فحينئذٍ
﴿وَقَعَتِ الواقعة﴾
23
﴿وانشقت السماء﴾ لنزولِ الملائكةِ ﴿فَهِىَ﴾ أي السماءُ ﴿يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ﴾ ضعيفة مسترخية بعد ما كانَتْ محكمةً
﴿والملك﴾ أي الخلقُ المعروفُ بالملكِ ﴿على أَرْجَائِهَا﴾ أي جوانِبِهَا جمعُ رَجَا بالقصرِ أي تنشقُّ السماءُ التي هيَ مساكنُهُم فيلجأونَ إلى أكنافِهَا وحافاتِهَا ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ﴾ فوقَ الملائكةِ الذين هم الأرجاءِ أو فوقَ الثمانيةِ ﴿يَوْمَئِذٍ ثمانية﴾ من الملائكةِ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم هُم اليومَ أربعةٌ فإذا كانَ يومُ القيامةِ أيدهُم الله تعالَى بأربعةٍ آخرينَ فيكونونَ ثمانيةً ورُوِيَ ثمانيةُ أملاكٍ أرجلهُم في تخومِ الأرضِ السابعةِ والعرشُ فوقَ رؤسهم وهم مُطرقونَ مسبحونَ وقيل بعضُهُم على صورةِ الإنسانِ وبعضهم على صورة الأسد وبعضُهُم على صورةِ الثورِ وبعضُهُم على صورةِ النسرِ ورُويَ ثمانيةُ أملاكٍ في خَلقْ الأوعالِ ما بينَ أظلافِهَا إلى رُكبِهَا مسيرةُ سبعينَ عاماً وعن شَهْرِ بنِ حَوشبٍ أربعةٌ منهُم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لكَ الحمدُ على عفوِكَ بعد قدرَتِكَ وأربعة يقولونَ سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمدُ على حلمِك بعد علمِك وعنِ الحسنِ الله أعلمُ أثمانيةٌ أم ثمانيةُ آلافٍ وعن الضحَّاكِ ثمانيةُ صفوفٍ لا يعلمُ عددَهم إلا الله تعالَى ويجوزُ أنْ يكونَ الثمانيةُ من الروحِ أو من خلقٍ آخرَ وقيلَ هو تمثيلٌ لعظمتِهِ تعالَى بما يشاهدُ من أحوالِ السلاطينِ يومَ خروجِهِم على الناسِ للقضاءِ العامِ لكونِهَا أَقْصَى ما يتصورُ من العظمةِ والجلالِ والا فشؤنه سبحانَهُ أجلُّ من كلَّ ما يحيطُ بهِ فَلَكُ العبارةِ والإشارةِ
﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ﴾ أي تُسألونَ وتُحاسبونَ عبِّر عنهُ بذلكَ تشبيهاً لهُ بعرضِ السلطانِ العسكرَ لتعرّفِ أحوالِهِم رُوِيَ أنَّ في يومِ القيامةِ ثلاثَ عرضاتٍ فأما عرضتانِ فاعتذارٌ واحتجاجٌ وتوبيخٌ وأما الثالثةُ ففيها تنشرُ الكتبُ فيأخذُ الفائزُ كتابَهُ بيمينِهِ والهالكُ بشمالِهِ وهذا وإنْ كانَ بعدَ النفخةِ الثانيةِ لكنْ لما كانَ اليومُ إسماً لزمانٍ متسعٍ يقعُ فيهِ النفختانِ والصعقةُ والنشورُ والحسابُ وإدخالُ أهلِ الجنةَ وأهلُ النَّارِ النارَ صحَّ جعلُهُ ظرفاً للكُلِّ ﴿لاَ تخفى مِنكُمْ خَافِيَةٌ﴾ حالٌ من مرفوعِ تُعرضونَ أي تُعرضونَ غيرَ خافٍ عليهِ تعالَى سرٌّ من أسرارِكُم قبلَ ذلكَ أيضاً وإنَّما العرض لافشاء الحال والمبالغ في العدلِ أو غيرِ خافٍ يومئذٍ على الناسِ كقولِهِ تعالَى يَوْمَ تبلى السرائر وقُرِىءَ يَخْفى بالياءِ التحتانيةِ
﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ﴾ تفصيلٌ لأحكامِ العرضِ
﴿فَيَقُولُ﴾ تبجّحاً وابتهاجاً
﴿هَاؤُمُ اقرؤوا كتابيه﴾ هَا اسمٌ لخُذْ وفيهِ ثلاثُ لُغاتٍ أجودُهُنَّ هاءِ يا رجلُ وهاءِ يا أمرأة وهاؤما يا رجلانِ أو امرأتانِ وهاؤُونَ يا رجالُ وهاؤُنَّ يا نسوةُ ومفعولُهُ محذوفٌ وكتابيه مفعول اقرؤا لأنه اقرب العالمين ولأنه
24
٦٩ سورة الحاقة (٢٠ ٢٧)
لو كانَ مفعولَ هاؤُمُ لقيلَ اقرؤُه إذِ الأَوْلَى إضمارُهُ حيثُ أمكنَ والهاءُ فيهِ وفي حسابَيه ومالَيه وسلطانَيه للسكتَ تُثبتُ في الوقفِ وتسقطُ في الوصلِ واستُحبَّ إثباتُهَا لثباتِهَا في الإمامِ
25
﴿إِنّى ظَنَنتُ أَنّى ملاق حِسَابِيَهْ﴾ أي علمتُ ولعلَّ التعبيرَ عنْهُ بالظنِّ للإشعارِ بأنَّهُ لا يقدحُ في الاعتقادِ ما يهجسُ في النفسِ من الخطراتِ التي لا ينفكُّ عنها العلومُ النظريةُ غالباً
﴿فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾ ذاتِ رِضَا على النسبةِ بالصيغةِ كما يقالُ دارعٌ في النسبةِ بالحرفِ أو جُعلَ الفعلُ لها مجازاً وهو لصاحِبِهَا وذلكَ لكونِهَا صافيةً عن الشوائبِ دائمةً مقرونةً بالتعظيمِ
﴿فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ﴾ مرتفعةِ المكانِ لأنَّها في السماءِ أو الدرجاتِ أو الأبنيةِ والأشجارِ
﴿قُطُوفُهَا﴾ جمعُ قِطْفٍ وهُو ما يُجتَنَى بسرعةٍ والقَطْفُ بالفتحِ مصدرٌ ﴿دَانِيَةٌ﴾ يتناولُهَا القاعدُ
﴿كُلُواْ واشربوا﴾ بإضمارِ القولِ والجمعُ باعتبارِ المَعْنَى ﴿هَنِيئَاً﴾ أكلا وشربا هنيئا أو هنئتُم هنيئاً ﴿بِمَا أَسْلَفْتُمْ﴾ بماقبلة ما قدمتهم من الأعمالِ الصالحةِ ﴿فِى الأيام الخالية﴾ أي الماضيةِ في الدُّنيا وعن مجاهدٍ أيامُ الصيامِ ورُوِيَ يقولُ الله تعالى يأوليائي طالما نظرتُ إليكُم في الدُّنيا وقد قلصتْ شفاهُكُم عن الأشربةِ وغارتْ أعينُكُم وخَمُصتْ بطونُكُم فكونُوا اليومَ في نعيمِكُم وكُلُوا واشربُوا الآيةَ
﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بشماله﴾ وأرى ما فيهِ من قبائحِ الأعمال ﴿فيقول يا ليتني لَمْ أُوتَ كتابيه﴾
﴿وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ﴾ لما شاهدَ من سُوءِ العاقبة
﴿يا ليتها﴾ يا ليتَ الموتةَ التي مِتُّها
﴿كَانَتِ القاضية﴾ أي القاطعةَ لأمرِي ولم أُبعثْ بعدَها ولم ألقَ ما أَلقَى فضميرُ ليتِهَا للموتةِ ويجوزُ أن يكونَ لِمَا شاهدَهُ من الحالةِ أي يا ليتَ هذه الحالةَ كانتِ الموتةَ التي قضتْ عليَّ لما أنَّهُ وجدَها أمرَّ من الموتَ فتمنَّاهُ عندَها وقد جُوِّزَ أن يكونَ للحياةِ الدُّنيا أيْ
25
٦٩ سورة الحاقة (٢٠ ٢٧)
يا ليتَ الحياةَ الدُّنيا كانتِ الموتةَ ولم أُخلقْ حياً
26
﴿مَا أغنى عَنّى مَالِيَهْ﴾ مالي من المالِ والأتباعِ على أنَّ ما نافيةٌ والمفعولُ محذوفٌ أو استفهاميةٌ للإنكارِ أيْ أيُّ شيءٍ أغْنَى عنِّي مَا كَانَ لِىَ مِنْ اليسارِ
﴿هَلَكَ عَنّى سلطانيه﴾ أي مُلكِي وتسلُّطِي على الناسِ او حجتي الى كنتُ أحتجُّ بها في الدُّنيا أو تسلطي على القُوَى والآلاتِ فعجزتُ عن استعمالِهَا في العِبَاداتِ
﴿خُذُوهُ﴾ حكايةٌ لما يقولُهُ الله تعالَى يومئذٍ لخزنةِ النارِ ﴿فَغُلُّوهُ﴾ أي شُدوه بالأغلالِ
﴿ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ﴾ أي لا تُصلُّوه إلا الجحيمَ وهي النارُ العظيمةُ ليكونَ الجزاءُ على وفقِ المعصيةِ حيثُ كانَ يتعاظمُ على الناسِ
﴿ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا﴾ أي طولُهَا ﴿سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاْسْلُكُوهُ﴾ فأدخلُوه فيها بأنْ تلفّوهَا على جسدِهِ فهو فيما بينَهَا مرهقٌ لا يستطع حرا كاما وتقديمُ السلسلةِ كتقديمِ الجحيمِ للدلالةِ على الاختصاصِ والاهتمامِ بذكرِ ألوانِ ما يعذبُ ألوانِ ما يعذبُ بهِ وثمَّ لتفاوتِ ما بينَ الغُلِّ والتصليةِ وما بينهُمَا وبينَ السلكِ في السلسلةِ في الشدَّةِ
﴿إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بالله العظيم﴾ تعليلٌ بطريقِ الاستئنافِ التحقيقيِّ ووصفُه تعالَى بالعِظَمِ للإيذانِ بأنَّه المُستحقُّ للعظمةِ فحسبُ فمَنْ نسبَها إلى نفسِهِ استحقَّ أعظمَ العُقوباتِ
﴿وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين﴾ ولا يحثُّ على بذلِ طعامِهِ أوْ عَلَى إطعامِهِ فضلاً أنْ يبذلَ ما مِن مالِهِ وقيلَ ذُكِرَ الحضُّ للتنبيهِ على أنَّ تاركَ الحضِّ بهذهِ المنزلةِ فما ظنُّكَ بتاركِ الفعلِ وفيه دلالة على أن الكفار مخاطبون بالفروع في حق المؤخذة قالُوا تخصيصُ الأمرينِ بالذكرِ لما أنَّ أقبحَ العقائدِ الكفرُ وأشنعَ الرذائلِ البخلُ وَقَسوةُ القلبِ
﴿فليس له اليوم ها هنا حميم﴾ اي قريب يحيمه ويدفعُ عنْهُ ويحزَنُ عليهِ لأنَّ أولياءَهُ يتحامونَهُ ويُفرُّونَ منْهُ
﴿وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ﴾ أي من غُسالةِ اهل النار
26
٦٩ سورة الحاقة (٣٧ ٤٤)
وصديدِهِم فِعلين من الغُسْلِ
27
﴿لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الخاطئون﴾ أصحابُ الخَطَايَا منْ خَطِىءَ الرِجلُ إذَا تعمَّدَ الذنبَ لا من الخطإِ المقابلِ للصوابِ دونَ المقابلِ للعمدِ عن ابن عباس رضي الله عنهُمَا أنَّهم المشركونَ وقُرِىءَ الخَاطِيُونَ بإبدالِ الهمزةِ ياءً وقُرِىءَ بطرحِهَا وقدْ جُوِّز أن يراد بهم الذينَ يتخطَّونَ الحقَّ إلى الباطلِ ويتعدّونَ حدودَ الله
﴿فلا أقسم﴾ أي فأقسم على أنَّ لاَ مزيدةٌ للتأكيدِ وأمَّا حملُه على مَعْنَى نفيِ الإقسامِ لظهورِ الأمرِ واستغنائِهِ عن التحقيقِ فيردُّه تعيينُ المقسمِ بهِ بقولِهِ تعالَى ﴿بِمَا تُبْصِرُونَ﴾
﴿وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ﴾ كما مرَّ في سورةِ الواقعةِ أي أقسمُ بالمُشاهداتِ والمغيباتِ وقيلَ بالدُّنيا والآخرةِ وقيلَ بالأجسام والأرواح والانسن والجِنِّ والخلقِ والخالقِ والنعمِ الظاهرةِ والباطنةِ والأولُ منتظمٌ للكلِّ
﴿أَنَّهُ﴾ أيِ القرآنَ ﴿لَقَوْلُ رَسُولٍ﴾ يبلغُهُ عن الله تعالَى فإنَّ الرسولَ لا يقولُ عن نفسِهِ ﴿كَرِيمٌ﴾ على الله تعالَى وهو النبيُّ أو جبريلُ عليهما السَّلامُ
﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ﴾ كما تزعمونَ تارةً ﴿قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ﴾ إيماناً قليلاً تؤمنونَ
﴿وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ﴾ كما تدَّعُونَ ذلكَ تارةً أُخرى ﴿قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ أي تذكراً قليلاً أو زماناً قليلاً تتذكرونَ على أنَّ القِلَّةَ بمَعْنَى النَّفي أيْ لا تُؤمنونَ ولا تتذكرونَ أصْلاً قيلَ ذُكِرَ الإيمانُ معَ نَفي الشاعريةِ والتذكرُ مع نَفي الكاهنيةِ لما أنَّ عدمَ مشابهةِ القُرآنِ الشعرَ أمرٌ بينٌ لا يُنكرهُ إلا معاندٌ بخلافِ مباينتِهِ للكهانةِ فإنَّها تتوقفُ على تذكرِ أحوالِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ومعانِي القُرآنِ المنافيةِ لطريقةِ الكَهَنَةِ ومعانِي أقوالِهِم وأنتُ خبيرٌ بأنَّ ذلكَ أيضاً مما لا يتوقفُ على تأملٍ قطعاً وقُرِىءَ بالياءِ فيهما
﴿تنزيلٌ مّن ربِّ العالمينَ﴾ نزلَّهُ على لسانِ جبريلَ عليهِ السَّلامُ
﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاقاويل﴾ سُمِّي الافتراءُ تقوُّلاً لأنَّه قولٌ متكلفٌ والأقوالُ المُفتراةُ أقاويلُ تحقيراً لها كأنَّها جمعُ أُفْعُولةٍ من القول كالأضاحيك
﴿لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين﴾ أي بيمينِهِ
﴿ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين﴾ أي نياطَ قلبِهِ بضربِ عنقِهِ وهو تصويرٌ لإهلاكِهِ بأفظعِ ما يفعلُهُ الملوكُ بمن يغضبونَ عليهِ وهو أن يأخذ القتَّالُ بيمينه ويكفَحُه بالسيفِ ويضربَ عُنقَهُ وقيلَ اليمينُ بمعنى القوةِ قال قائلُهُم إذَا مَا رايةٌ رُفعتْ لِمَجْد تَلقَّاها عُرابةُ باليمينِ
﴿فَمَا مِنكُم﴾ أيُّها الناسُ ﴿مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ﴾ عن القتلِ أو المقتولِ ﴿حاجزين﴾ دافعينَ وصفٌ لأحدٍ فإنَّهُ عامٌّ
﴿وَإِنَّهُ﴾ أي وإنَّ القُرآنَ ﴿لَتَذْكِرَةٌ لّلْمُتَّقِينَ﴾ لأنهم المنتفعونَ بهِ
﴿وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مكذبين﴾ فنجازيهم على تكذبيهم
﴿وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الكافرين﴾ عند مشاهدتهم لثوابِ المؤمنينَ
﴿وَإِنَّهُ لَحَقُّ اليقين﴾ الذي لا يحومُ حولَهُ ريبٌ مَا
﴿فسبح باسم ربك العظيم﴾ أي فسبحْ بذكرِ اسمهِ العظيمِ تنزيهاً لهُ عن الرِّضا بالتقولِ عليهِ وشكراً على ما أُوحِيَ إليكَ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الحَاقَّةِ حاسبَهُ الله حسابا يسيرا
28
٧٠ سورة المعارج (١ ٤)
سورة المعارج مكية وآياتها اربع وأربعون
﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾
29