تفسير سورة الأنعام

فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن
تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن .
لمؤلفه زكريا الأنصاري . المتوفي سنة 926 هـ

قوله تعالى :﴿ الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنّور... ﴾ [ الأنعام : ١ ] جمع السّماء دون الأرض، لما مرّ في البقرة... وجمع الظّلمة دون النور، لأنها اسم جنس، والنّور مصدر، والمصدر لا يُجمع.
وقيل : لكثرة أسبابها( ١ )، بخلاف النّور.
و " جَعَلَ " تأتي لخمسة معانٍ :
فتأتي : بمعنى " خَلَقَ " كما هنا، وكما في قوله تعالى :﴿ وجعل فيها رواسي من فوقها ﴾ [ فصلت : ١٠ ].
وبمعنى : " بَعَثَ " كما في قوله تعالى :﴿ وجعلنا معه أخاه هارون وزيراً ﴾ [ الفرقان : ٣٥ ].
وبمعنى : " قال " كما في قوله تعالى :﴿ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمان إناثا ﴾ [ الزخرف : ١٩ ].
وبمعنى : " بَيَّنَ " كما في قوله تعالى :﴿ إنا جعلناه قرآنا عربيّا ﴾ [ الزخرف : ٣ ] أي بيّناه بحلاله وحرامه.
وبمعنى : " صَيَّرَ " كما في قوله تعالى :﴿ وجعلنا على قلوبهم أكنّة ﴾ [ الأنعام : ٢٥ ] وقوله تعالى :﴿ وجعل بين البحرين حاجزا ﴾ [ النمل : ٦١ ].
١ - إنما جمع الظّلمات لأن شُعب الضلال كثيرة ومتنوعة، وأفرد النّور لأن مصدره واحد، وهو الرحمن منوِّر الأكوان، فالهدى واحد، والضلال متنوّع..
قوله تعالى :﴿ وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سرّكم وجهركم... ﴾ [ الأنعام " ٣ ].
فائدة : ذكر الجهر بعد السرّ، مع أنه مفهوم منه بالأولى، المقابلةُ و " التأكيد " كما في قوله تعالى :﴿ فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخّر فلا إثم عليه ﴾ [ البقرة : ٢٠٣ ].
قوله تعالى :﴿ فقد كذّبوا بالحقّ لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤون ﴾ [ الأنعام : ٥ ] بسط هنا، واختصر في الشعراء فقال :﴿ فقد كذّبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤون ﴾ [ الشعراء : ٦ ] لأن ما هنا سابق على ما هناك، فناسب البسط هنا، والاختصار ثمّ.
قوله تعالى :﴿ ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن... ﴾ الآية [ الأنعام : ٦ ]، قاله هنا وفي النحل( ١ )، بلا عاطف من واو أو فاء عقب الهمزة، وفي الشعراء( ٢ ) بواو، وفي سبأ( ٣ )، بفاء... لأن مثل هذا الكلام يأتي للإنكار، فإن اعتُبر فيه الاستدلال، لم يؤت بواو ولا فاء، ليكون كالمستأنف.
وإن اعتُبرت فيه المشاهدة أُتي بالواو والفاء، لتدلّ الهمزة على الإنكار، والواو أو الفاء على عطف ما بعدها، على مقدّر قبلها يناسبه في المعنى، المناسب لمعنى ما قبل الهمزة، لكن الفاء أشدّ اتصالا بما قبلها من الواو، والتقدير في الشعراء :«أكذّبوا الرسل ولم يروا » ؟.
وفي سبأ :«أكفروا فلم يروا » ؟
١ - في قوله تعالى: ﴿ألم يروا إلى الطّير مسخّرات في جو السماء﴾..
٢ - في قوله تعالى: ﴿أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم﴾..
٣ - في قوله تعالى: ﴿أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض﴾..
قوله تعالى :﴿ قل سيروا في الأرض ثم انظروا... ﴾ الآية [ الأنعام : ١١ ].
قاله هنا ب " ثُمَّ " الدّالة على التراخي، وفي غير هذه السورة بالفاء، الدّالة على التعقيب، مع اشتراكهما في الأمر بالسير، لأن ما في هذه السورة، وقعد بعد ذكر القرون، في قوله :﴿ كم أهلكنا من قبلهم من قرن ﴾ [ الأنعام : ٦ ] وقوله :﴿ وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ﴾ [ الأنعام : ٦ ] فتعدّدت القرون في أزمنة متطاولة، فخُصّت الآية هنا ب " ثُمَّ "، بخلاف ما في غير هذه السورة، إذ لم يتقدّمه شيء من ذلك، فخُصَّت بالفاء( ١ ).
١ - كما قال تعالى في سورة النمل: ﴿قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين﴾ آية (٦٩)..
قوله تعالى :﴿ وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم ﴾ [ الأنعام : ١٣ ]. خصّ السّاكن بالذّكر دون المتحرك، لأن الساكن من المخلوقات، أكثر عددا من المتحرّك.
أو لأن كل متحرك يصير إلى السّكون، من غير عكس.
أو لأن السّكون هو الأصل، والحركة حادثة عليه.
قوله تعالى :﴿ وهو يُطعِم ولا يُطعَم... ﴾ [ الأنعام : ١٤ ] الآية. خصّ الإطعام بالذّكر، لأن الحاجة إليه أثم.
قوله تعالى :﴿ قل أيّ شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم... ﴾ [ الأنعام : ١٩ ].
إن قلتَ : كيف اكتُفي من النبي صلى الله عيله وسلم في الجواب بقوله :«الله شهيد بيني وبينكم » مع أن ذلك لا يكفي من غيره ؟
قلتُ : لأنه قادر على إقامة الحجة، على أنه شهيد له، وقد أقامها بقوله :﴿ وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ﴾ [ الأنعام : ١٩ ] بخلاف غيره لا يقدر على ذلك.
قوله تعالى :﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذّب بآياته إنه لا يفلح الظالمون ﴾ [ الأنعام : ٢١ ] بدأ الآية هنا بالواو، وختمها بقوله :﴿ إنه لا يفلح الظالمون ﴾.
وبدأها في يونس( ١ ) بالفاء، وختمها بقوله :﴿ إنه لا يفلح المجرمون ﴾ [ يونس : ١٧ ].
لأن ما قبلها ثَمَّ سبب لها، ومعطوف بالفاء، ومذكور فيه المجرمون، فناسب فيها ما ذكر، بخلاف ما هنا، فإن المتقدم فيه معطوف بالواو، ولم يُذكر فيه المجرمون.
١ - في قوله تعالى: ﴿فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون﴾ يونس: ١٧..
قوله تعالى :﴿ ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ﴾ [ الأنعام : ٢٣ ]. كذبوا في قولهم ذلك، مع معاينتهم حقائق الأمور، ظنا منهم أنهم يتخلّصون به.
فإن قلتَ : كيف الجمع بين هذا وبين قوله :﴿ ولا يكتمون الله حديثا ﴾ [ النساء : ٤٢ ] ؟
قلتُ : في القيامة مواقف مختلفة، ففي بعضها لا يكتمون، وفي بعضها يكتمون، بل يكذبون ويحلفون، كما في قوله تعالى :﴿ فوربّك لنسئلنهم أجمعين عما كانوا يعملون ﴾ [ الحجر : ٩٢، ٩٣ ] مع قوله تعالى :﴿ فيومئذ لا يُسأل عن ذنبه إنس ولا جان ﴾ [ الرحمن : ٣٩ ].
قوله تعالى :﴿ ومنهم من يستمع إليك... ﴾ الآية [ الأنعام : ٢٥ ]. قال هنا " يستمع " بالإفراد، وفي يونس ﴿ ومنهم من يستمعون إليك ﴾ [ يونس : ٤٢ ] بالجمع، لأن ما هنا نزل في قوم قليلين، وهم " أبو سفيان " و " النّضر بن الحارث " و " عتبة، وشيبة، وأمية، وأبيّ بن خلف " فنُزّلوا منزلة الواحد، فأُعيد الضمير على لفظ " مَنْ " ( ١ )، وما في " يونس " نزل في جميع الكفار، فناسب الجمع، فأُعيد الضير على معنى " من ".
وإنما لم يُجمع ثَمَّ في قوله تعالى :﴿ ومنهم من ينظر إليك ﴾ [ يونس : ٤٣ ] لأن الناظرين إلى المعجزات، أقلّ من المستمعين للقرآن.
قوله تعالى :﴿ ولو ترى إذ وُقفوا على النار ﴾. وفي أخرى بعدها ﴿ ولو ترى إذ وُقفوا على ربّهم ﴾ [ الأنعام : ٣٠ ] لأنهم أنكروا وجود النار في القيامة، وجزاء ربّهم ونَكَاله فيها، فقال في الأولى " على النار " وفي الثانية ﴿ إذ وُقفوا على ربّهم ﴾ أي على جزاء ربّهم، ونكاله في النار.
١ - الضمير إما أن يعود على اللفظ، أو على المعنى، فلفظ (مَنْ) مفرد، ولكن معناها الجمع، قال تعالى: ﴿ومن يعمل من الصالحات... فأولئك يدخلون الجنة﴾ أعاد الضمير على المعنى..
قوله تعالى :﴿ وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ﴾ [ الأنعام : ٢٩ ]. قاله هنا بدون " نموت ونحيا " وفي " المؤمنون " ( ١ ) و " الجاثية " ( ٢ ) به، لأنهم في القيامة قالوه بموقف، ولم يقولوه بآخر، فأشار إلى الأمرين بما ذكر.
١ - في قوله تعالى: ﴿إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين﴾ المؤمنون: ٣٧..
٢ - في قوله تعالى: ﴿وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر﴾ الجاثية: ٢٤..
قوله تعالى :﴿ وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو... ﴾ الآية [ الأنعام : ٣٢ ]. قدّم اللعب هنا وفي " القتال " و " الحديد " وعكس في " الأعراف " ( ١ ) و " العنكبوت " ( ٢ ) لأن اللعب زمن الصِّبا، واللهو زمن الشباب، وزمن الصبا مقدّم على زمن الشباب، فناسب إعطاء المقدَّم للأكثر، والمؤخر للأقل.
قوله تعالى :﴿ وللدّار الآخرة خير للذين يتّقون أفلا تعقلون ﴾ [ الأنعام : ٣٢ ] ؟.
خصّ المتّقين بالذّكر، مع أن غيرهم كذلك، لأنهم الأصل وغيرهم تبع لهم، وقرئ هنا " وللدار الآخرة " بلامين ثانيهما مدغمة في الدار، ورفع الآخرة بجعلها صفة للدار، وبإضافة الدار إليها بلام واحدة، تبعا لاختلاف المصاحف في ذلك. وفي " يوسف " ( ٣ ) بالوجه الثاني فقط تبعا للمصاحف( ٤ ).
١ - في قوله تعالى: ﴿الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرّتهم الحياة الدنيا... ﴾ الأعراف: ٥١..
٢ - في قوله تعالى: ﴿وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون﴾ العنكبوت: ٦٤..
٣ - في قوله تعالى: ﴿ولدار الآخرة خير للذين اتّقوا أفلا تعقلون﴾ يوسف: ١٠٩..
٤ - يريد الشيخ رحمه الله أن في سورة الأنعام وردت القراءتان: ﴿ولدار الآخرة خير﴾ و﴿الدار الآخرة خير﴾ بخلاف ما جاء في سورة يوسف فهي بالإضافة فقط..
قوله تعالى :﴿ ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين ﴾ [ الأنعام : ٣٦ ].
إن قلتَ : كيف قال لمحمد ذلك( ١ )، وهو أغلظ خطابا من قوله لنوح ﴿ إني أعظك أن تكون من الجاهلين ﴾ [ هود : ٤٦ ] مع أن محمدا صلى الله عليه وسلم أعظم رتبة ؟
قلتُ : لأن نوحا كان معذورا بجهله بمطلوبه، لأنه تمسّك بوعد الله تعالى، في إنجاء أهله، وظن أن ابنه من أهله.
بخلاف محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن معذوراً، لأنه كَبُر عليه كفرُهم، مع علمه أن كفرهم وإيمانهم بمشيئة الله تعالى، وأنهم لا يهتدون إلا أن يهديهم الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون ﴾ [ الأنعام : ٣٦ ].
إن قلتَ : ما فائدة ذكره، مع أنه مفهوم من قوله قبله :﴿ والموتى يبعثهم الله ﴾ لأنهم إذا بعثوا من قبورهم، فقد رجعوا إليه بالحياة بعد الموت ؟
قلتُ : ليس مفهوما منه، لأن المراد به، وقوفهم بين يديه للحساب والجزاء، وهو غير البعث الذي هو إحياء بعد الموت( ٢ ).
١ - هذا الأسلوب للتنبيه والتحذير، وليس للتوبيخ، والمراد تنبيه الرسول صلى الله عليه وسلم من الغفلة والمعنى: لو أراد الله هداية المشركين لهداهم إلى الإيمان، فلا تكونن يا محمد من الذين يجهلون حكمة الله ومشيئته الأزلية، فالأسلوب إذا أسلوب تحذير وتنبيه..
٢ - قوله: ﴿والموتى يبعثهم الله﴾ لا يراد بالموتى هنا الذين فارقوا الدنيا، إنم يراد بهم الكفار موتى القلوب، الذين لا يفقهون ولا يؤمنون، شبّههم بالأموات لعدم انتفاعهم بآيات الذكر الحكيم..
قوله تعالى :﴿ قل إن الله قادر على أن ينزّل آية... ﴾ [ الأنعام : ٣٧ ]. وقع جوابا لقولهم :﴿ لولا نزّل عليه آية من ربّه ﴾ [ الأنعام : ٣٧ ].
فإن قلتَ : لو صحّ جوابا له، لصحّ من كل من ادّعى النبوّة، وطولب بآية أن يجيب بذلك ؟   !
قلتُ : يلتزم ذلك إن تثبت نبوّته بمعجزة، كما ثبت للنبي صلى الله عليه وسلم بها، وإلا فلا يصحّ الجواب بذلك.
قوله تعالى :﴿ وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه... ﴾ الآية [ الأنعام : ٣٨ ]، فائدة ذكر ﴿ في الأرض ﴾ بعد دابة، مع أنها لا تكون إلا في الأرض، وذكر ﴿ يطير بجناحيه ﴾ التأكيد، كما في قوله تعالى :﴿ لا تتخذوا إلهين اثنين ﴾ [ النحل : ٥١ ]، أو زيادة التعميم والإحاطة.
قوله تعالى :﴿ قل أرأيتم إن أتاكم عذاب الله... ﴾ الآية [ الأنعام : ٤٠ ]. أي أرأيتم آلهتكم تنفعكم إن أتاكم عذاب الله ؟   ! وقد جمع في هذه الآية ونظيرتها بعد( ١ )، بين علامتي خطاب " التاء " و " الكاف "، لمزيد الاهتمام للمراد، والذي هو الاستئصال بالهلاك، والتاء اسم إجماعا، والكاف حرف خطاب عند البصريين.
١ - في قوله تعالى بعدها: ﴿قل أرآيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون﴾ آية (٤٧)..
قوله تعالى :﴿ فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرّعون ﴾ [ الأنعام : ٤٢ ]. قال ذلك هنا، وقال في الأعراف " يَضَّرَّعُون " بالإدغام، لأن ههنا وافق ما بعده، وهو قوله :﴿ جاءهم بأسنا تضرّعوا ﴾ [ الأنعام : ٤٣ ] ومستقبل " تضرّعو " " يتضرّعون " لا غير.
قوله تعالى :﴿ انظر كيف نصرّف الآيات ثم هم يصدِفون ﴾ [ الأنعام : ٤٦ ]. كرره طلبا للرغبة في إيمان المذكورين، إذ التقدير :﴿ انظر كيف نصرّف الآيات ثم هم يصدِفون ﴾ أي يعرضون عنها، فلا تعرض عنهم، بل كرّرها لهم ﴿ لعلهم يفقهون ﴾ [ الأنعام : ٦٥ ] أي يفهمون.
وإنما ختم الأولى بقوله :﴿ ثم هم يصدفون ﴾ والثانية بقوله :﴿ لعلهم يفقهون ﴾ لأن الإعراض عن الشيء، أقبح من عدم فهمه، فوُصفوا بالأول في الآية الأولى ؛ تبعا لما وُصفوا به قبلها من قسوة قلوبهم، ونسيانهم ما ذكّروا به وغيرهما، وذلك مفقود في الثانية.
قوله تعالى :﴿ قل لا أقول لكم عندي خزائن الله... ﴾ ( ١ ) الآية [ الأنعام " ٥٠ ]، كرّر( ٢ ) فيها " لكم " لعدم ذكره قبلها وبعدها، ولم يكرّره في آية هود( ٣ )، اكتفاء بذكره قبلها مرتين : في قوله :﴿ إني لكم نذير ﴾ [ هود : ٢٥ ] وقوله :﴿ وما نرى لكم ﴾ [ هود : ٣٧ ] وبعدها مرة في قوله :﴿ أن أنصح لكم ﴾ [ هود : ٣٤ ].
١ - كرّرت الآية في قوله تعالى: ﴿انظر كيف نصرّف الآيات لعلهم يفقهون﴾ الأنعام: ٦٥..
٢ - التكرار واضح في هذه الآية: ﴿قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك﴾ الأنعام: ٥٠..
٣ - في قوله تعالى: ﴿ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك... ﴾ هود: ٣١..
قوله تعالى :﴿ وكذلك نفصّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين ﴾ [ الأنعام : ٥٥ ]. ترك تعيين سبيل المؤمنين( ١ )، لعلمه من تبيين سبيل المجرمين.
١ - أي كذلك نوضح الآية ونبينها، لتظهر طريق المؤمنين من طريق المجرمين، فاكتفى بأحدهما عن الآخر..
قوله تعالى :﴿ وهو الذي يتوفّاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنّهار... ﴾ الآية [ الأنعام : ٦٠ ]، أي كسبتم فيه، وخصّ النهار بالذكر دون الليل، لأن الكسب فيه أكثر، لأنه زمن حركة الإنسان، والليل زمن سكونه.
قوله تعالى :﴿ ثم ردّوا إلى الله مولاهم الحق... ﴾ الآية [ الأنعام : ٦٢ ]، أي مولى جميع الخلق، وهذا لا ينافي قوله :﴿ وأن الكافرين لا مولى لهم ﴾ [ محمد : ١١ ] لأن المراد بالمولى هنا : المالك، أو الخالق، أو المعبود... وثَمّ الناصر.
قوله تعالى :﴿ ويوم يقول كن فيكون قوله الحق... ﴾ الآية [ الأنعام : ٧٣ ]، خصّ ﴿ قوله الحق ﴾ بيوم القيامة، مع أنه لا يختص به، لوجوده في الدنيا أيضا، لأن ذلك اليوم، ليس لغيره تعالى فيه قول يُرجع إليه، بل قوله فيه هو الحقّ الذي لا يدفعه أحد من العباد، لانكشاف الغطاء فيه... ونظيره قوله تعالى :﴿ والأمر يومئذ لله ﴾ [ الإنفطار : ١٩ ] مع أن الأمر له في كل زمان.
ومثل ذلك يأتي في قوله :﴿ وله الملك يوم ينفخ في الصور ﴾ [ الأنعام : ٧٣ ] وأما ملك غيره في الدنيا، فهو إنما يكون خلافة عنه، وهبة منه وإنعاما، بدليل قوله تعالى في حقّ " داود " عليه السلام :﴿ وآتاه الله الملك والحكمة ﴾ [ البقرة : ٢٥١ ].
قوله تعالى :﴿ ووهبنا له إسحاق ويعقوب... ﴾ الآية [ الأنعام : ٨٤ ].
إن قلتَ : كيف ذكر في معرض الامتنان من أولاده " إسحاق " ولم يذكر معه " إسماعيل " بل أخّره عنه بدرجات، مع أنه أكبر منه ؟
قلتُ : لأن إسحاق وُهب له من حُرّة، وكانت عجوزا عقيما... وإسماعيل من أمة( ١ )، فكانت المِنّة في هبة إسحاق أظهر.
وقيل : لأن القصد هنا ذكر أنبياء بني إسرائيل، وهم بأسرهم أولاد إسحاقن وإسماعيل لم يخرج من صلبه نبيّ إلا محمد صلى الله عليه وسلم.
١ - إسماعيل عليه السلام ولد من (هاجر) وكانت أمة، وأمّا إسحاق فأمه (سارة) زوجة إبراهيم عليه السلام، وهي حرّة..
قوله تعالى :﴿ قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين ﴾ [ الأنعام : ٩٠ ] قاله هنا بدون تنوين، وفي يوسف( ١ ) بالتنوين، لأنه ذكر هنا قبل قوله :﴿ فلا تقعد بعد الذكرى ﴾ [ الأنعام : ٦٨ ] بلا تنوين، فناسب ذكره هنا كذلك.
١ - في قوله تعالى: ﴿وما نسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين﴾ يوسف: ١٠٤..
قوله تعالى :﴿ والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به... ﴾ الآية [ الأنعام : ٩٢ ].
إن قلتَ : كيف قال في وصف القرآن ذلك، مع أن كثيرا ممن يؤمن بالآخرة، من اليهود، والنصارى وغيرهم، لا يؤمن به ؟   !
قلتُ : معناه والذين يؤمنون بالآخرة إيمانا نافعا مقبولا، هم الذين يؤمنون به.
قوله تعالى :﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء ﴾ الآية [ الأنعام : ٩٣ ].
إن قلتَ : كيف أفرده بالذّكر، مع دخوله في قوله قبلُ :﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا... ﴾ ؟ [ سبأ : ٨ ].
قلتُ : إنما أفرده بالذّكر، لأنه لما اختصّ بمزيد قبح، من بين أنواع الافتراء، خُصّ بالذكر، تنبيها على مزيد العقاب فيه والإثم.
قوله تعالى :﴿ يخرج الحيّ من الميت ويخرج الميّت من الحيّ... ﴾ الآية [ الأنعام : ٩٥ ]، قال ذلك هنا، وقال في " آل عمران " و " يونس " و " الروم " :﴿ ويخرج الميّت من الحيّ ﴾ [ يونس : ٣١ ] بالفعل.
لأن ما هنا وقع بعد اسم فاعل وهو " فالق "... وقبل اسمي فاعل وهما : فالق، وجاعل( ١ )، فناسب ذكر " مُخْرج " لكونه اسم فاعل، وخُصّ بالاسم لتكرّر الاسمين بعده... وخصّ " يخرج الحيّ " قبله بالفعل، إذ لم يتقدّمه إلا اسم واحد.
وما في بقية السّور، لم يقع قبله وبعده إلا أفعال، فناسب ذكره بالفعل.
١ - هذا الذي أشار إليه الشيخ على غير قراءة حفص، أما قراءة حفص فقد جاءت بالفعل ﴿فالق الإصباح وجعل الليل سكنا... ﴾ وليست باسم الفاعل «وجاعل الليل سكنا»..
قوله تعالى :﴿ وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة... ﴾ الآية [ الأنعام : ٩٨ ]. قاله هنا بلفظ " أنشأكم " وفي غير هذه السورة بلفظ " خلقكم " لأن ما هنا موافق لقوله قبله ﴿ وأنشأنا من بعدهم ﴾ [ المؤمنون : ٢١ ] ولقوله بعده ﴿ وهو الذي أنشأ جنات ﴾ [ الأنعام : ١٤١ ] بخلاف البقية( ١ ).
١ - نبّه المؤلف إلى أن لفظ "أنشأكم" إنما جاء هنا بخلاف سائر الآيات، لكمال التناسب والتناسق بين الآيات، حيث تقدمه لفظ إنشاء وهذا من أسرار القرآن البديعة..
قوله تعالى :﴿ بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كلّ شيء وهو بكل شيء عليم ﴾ [ الأنعام : ١٠١ ].
فائدة ذكر قوله :﴿ خالق كلّ شيء فاعبدوه ﴾ [ الأنعام : ١٠٢ ] فيها بعد قوله :﴿ وخلق كل شيء ﴾ جعله توطئة لقوله تعالى :﴿ فاعبدوه ﴾ [ الأنعام : ١٠٢ ] وأما قوله :﴿ وخلق كل شيء ﴾ فإنما ذُكر استدلالا على نفي الولد.
قوله تعالى :﴿ لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ﴾ [ الأنعام : ١٠٣ ].
إن قلتَ : كيف خصّ الأبصار في الثاني بالذكر، مع أنه تعالى يدرك كل شيء ؟   !
قلتُ : خصّه بالذكر لرعاية المقابلة اللفظية، لأنها نوع من البلاغة( ١ ).
١ - يسمى هذا في علم البلاغة "طباق السّلب" وهو من المحسنات البديعية..
قوله تعالى :﴿ ولو شاء ربّك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ﴾ [ الأنعام : ١١٢ ].
قاله هنا بلفظ الرب، وبعده بلفظ الله، لأنه هنا وقع بين آيات فيها ذكر الربّ مرات، وما بعدُ وقع بعد آيات فيها ذكر الله مرات، ولهذا ذكر لفظ " الله " قبلُ، في قوله تعالى :﴿ ولو شاء الله ما أشركوا ﴾ [ الأنعام : ١٠٧ ] وبعدُ، في قوله تعالى :﴿ لو شاء الله ما أشركنا ﴾ [ الأنعام : ١٤٨ ].
قوله تعالى :﴿ أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصّلا... ﴾ [ الأنعام : ١١٤ ].
إن قلتَ : كيف قال : " إليكم " ولم يقل " إليّ " مع أنه تعالى إنما قال :﴿ وأنزلنا إليك الكتاب ﴾ ؟ [ المائدة : ٤٨ ].
قلتُ : لما كان إنزاله لأجل تبليغهم، كان كأنه أُنزل إليهم.
قوله تعالى :﴿ إن ربّك هو أعلم من يضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ﴾ [ الأنعام : ١١٧ ]. قال ذلك هنا بلا " باء " وبالمضارع، موافقة لقوله بعدُ ﴿ الله أعلم حيث يجعل رسالته ﴾ [ الأنعام : ١٢٤ ].
وقال : في " النحل " ( ١ ) و " النجم " ( ٢ ) و " ن " ( ٣ ) : " بمن ضل " بزيادة الباء وبالماضي، عملا بزيادة الباء في مفعول " أعلم " تقوية له لضعفه، كما في قوله تعالى :﴿ وهم أعلم بالمهتدين ﴾ وقوله :﴿ وهو أعلم بمن اهتدى ﴾ [ النجم : ٣٠ ] وعملا في الماضي بكثرة الاستعمال في قولهم : أعلم بمن دبَّ ودَرَجَ، وأحسن من قام وقعد، وأفضل من حجّ واعتمر.
وحيث حُذفت الباء، أُضمر فعل من مادة " عَلِمَ " يعمل في المفعول، لضعف " أَعْلَمُ " عن العمل بلا تقوية، وتقديره في الآية : يعلم من يَضِلّ.
١ - أشار إلى قوله تعالى: ﴿إن ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين﴾ النحل: ١٢٥..
٢ - أشار إلى قوله تعالى: ﴿إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى﴾ آية (٣٠)..
٣ - في سورة (ن): ﴿إن ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين﴾..
قوله تعالى :﴿ كذلك زُيّن للكافرين ما كانوا يعملون ﴾ [ الأنعام : ١٢٢ ]. المزيّن لهم هو الله لقوله تعالى :﴿ زيّنا لهم أعمالهم ﴾ [ النمل : ٤ ]. أو الشيطان لقوله تعالى :﴿ وزيّن لهم الشيطان أعمالهم ﴾ [ النمل " ٢٤ ] وكلّ صحيح، فالتزيين من الله بالإيجاد والخلق، ومن الشيطان بالإغواء والوسوسة.
قوله تعالى :﴿ يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم ﴾ الآية [ الأنعام : ١٣٠ ].
فإن قلتَ : كيف قال ذلك، والرسل إنما كانت من الإنس خاصة ؟   !
قلتُ : بل ومن الجن أيضا على قول الضحاك ومقاتل، أنه أُرسل إليهم رسل، وأما على قول غيرهما بمنع ذلك، فالمراد برسل الجن "، الذين سمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ولّوا إلى قومهم منذرين، كما قال تعالى :﴿ وإذ صرفنا إليك نفرا من الجنّ يستمعون القرآن... ﴾ الآية [ الأحقاف : ٢٩ ].
قوله تعالى :﴿ قالوا شهدنا على أنفسنا وغرّتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ﴾ [ الأنعام : ١٣٠ ] كرّر شهادتهم على أنفسهم، لاختلافها باختلاف المشهود به، لأن الأولى شهادتُهم بتبليغ الرسل إليهم، والثانية شهادتهم بكفرهم.
فإن قلتَ : شهادتهم بكفرهم تضمّنت إقرارهم به، وهو مناف لجحدهم في قوله حكاية عنهم ﴿ والله ربّنا ما كنا مشركين ﴾ [ الأنعام : ٢٣ ] ؟   !
قلتُ : مواقف القيامة مختلفة، ففي مواقف أقرّوا، وفي آخر جحدوا.
أو المراد بشهادتهم : شهادة أعضائهم عليهم، حين يُختم على أفواههم، كما قال تعالى :﴿ اليوم نختم على أفواههم وتكلّمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ﴾ [ يس : ٦٥ ]. وبجحدهم : جحدُهم بأفواههم قبل أن يُختم عليها.
قوله تعالى :﴿ قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار ﴾ [ الأنعام : ١٣٥ ].
قاله هنا وفي مواضع بالفاء، لأنه وقع جوابا بالأمر قبله.
وقال في أواخر " هود " بدون فاء( ١ )، لأنه لم يتقدّمه أمر، فصار استئنافا، أو صفة ل، " عامل " أي إني عامل سوف تعلمون.
١ - أشار إلى قوله تعالى :﴿ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه﴾ هود: ٩٣..
قوله تعالى :﴿ قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم... ﴾ الآية [ الأنعام : ١٤٠ ].
إن قلتَ : ما فائدته بعد قوله : " سفها " مع أن السّفه لا يكون إلا بغير علم ؟   !
قلتُ : معنى قوله تعالى :﴿ بغير علم ﴾ بغير حجّة.
قوله تعالى :﴿ قد ضلّوا وما كانوا مهتدين ﴾ [ الأنعام : ١٤٠ ].
فائدته بعد قوله :﴿ قد ضلّوا ﴾ أنهم بعد ما ضلّوا، لم يهتدوا مرّة أخرى.
قوله تعالى :﴿ كلوا من ثمره إذا أثمر... ﴾ [ الأنعام : ١٤١ ].
إن قلتَ : ما فائدة ذكره بعد قوله :﴿ كلوا من ثمره ﴾ مع أنه معلوم أنه إنما يؤكل من ثمره إذا أثمر ؟
قلتُ : فائدته نفي توهّم توقّف إباحة أكله، على بدوّ صلاحه.
قوله تعالى :﴿ قل لا أجد في ما أوحي إليّ محرّما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة ﴾ الآية [ الأنعام : ١٤٥ ]، أي لا أجد فيه محرّما، مما كانوا يحرّمونه في الجاهلية ﴿ إلا أن يكون ميتة ﴾ إلى آخره، وإلا ففي القرآن تحريم أشياء أُخر غير ذلك، كالرّبا، وأكل مال اليتامى، ومال الغير بالباطل.
قوله تعالى :﴿ فإن كذّبوك فقل ربّكم ذو رحمة واسعة ولا يردّ بأسه عن القوم المجرمين ﴾ [ الأنعام : ١٤٧ ].
فإن قلتَ : كيف قال في الجواب ذلك، مع أنّ المحلّ محلّ عقوبة، فكان الأنسب أن يقال : فقل ربّكم ذو عقوبة شديدة ؟   !
قلتُ : إنما قال ذلك نفيا للاغترار بسعة رحمته، في الاجتراء على معصيته، وذلك أبلغ في التهديد، معناه : لا تغترّوا بسعة رحمته( ١ )، فإنه مع ذلك لا يردّ عذابه عنكم.
١ - الأولى أن يقال: إن هذا الأسلوب "أسلوب التعجب" قاله تلطّفا بهم، في دعوتهم إلى الإيمان والمعنى: إن كذّبك يا محمد هؤلاء اليهود، فقل متعجبا من حالهم: ربّكم ذو رحمة واسعة، حيث لم يعاجلكم بالعقوبة، مع شدة إجرامكم، وهذا كما تقول عند رؤية معصية عظيمة: ما أحلمَ الله !! أي ما أحلمه على إمهاله للعاصي !!.
قوله تعالى :﴿ سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرّمنا من شيء... ﴾ الآية [ الأنعام : ١٤٨ ].
قال ذلك هنا، وقال في النحل :﴿ لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرّمنا من دونه من شيء... ﴾ [ النحل : ٣٥ ].
بزيادة :﴿ من دونه ﴾ مرتين، وزيادة " نحن ".
لأن الإشراك يدلّ على إثبات شريك لا يجوز إثباته، وعلى تحريم أشياء من دون الله، فلم يحتج إلى " من دونه " فحُذف، وتبعه في الحذف " نحن " طرداً للتخفيف.
بخلاف العبادة فإنها غير مستنكرة، وإنما المستنكر عبادة شيء مع الله، ولا يدلّ لفظُها على تحريم شيء، كما دلّ عليه " أشرك " فلم يكن بدّ من تقييده بقوله :﴿ من دونه ﴾ وناسب استيفاء الكلام فيه زيادة " نحن " وظاهر أن زيادة ذكر التحريم في آية ﴿ لو شاء الله ما أشركنا ﴾ تصريح بما أفاده لفظ " أشركنا ".
قوله تعالى :﴿ ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإيّاهم ﴾ الآية [ الأنعام : ١٥١ ]، قال ذلك هنا، وقال في الإسراء :﴿ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإيّاكم ﴾ [ الإسراء : ٣١ ].
قدّم هنا المخاطبين على الغائبين، وعكس ثَمّ، لأن ظاهر قوله هنا : " من إملاق " أي فقر، أن الإملاق حاصل للوالدين المخاطبين، لا توقُّعُه فبدئ بهم، وظاهر قوله ثَمّ ﴿ خشية إملاق ﴾ أن الإملاق متوقّع بهم وهم موسرون، فبُدئ بالأولاد، فما هنا يفيد النهي للآباء عن قتل الأولاد وإن تلبّسوا بالفقر، وما هناك يفيده وإن تلبّسوا باليُسر.
قوله تعالى :﴿ ذلكم وصّاكم به لعلّكم تعقلون ﴾ [ الأنعام : ١٥١ ].
ختم : الآية الأولى بقوله : " تعقلون "، والثانية بقوله : " تذكرون "، والثالثة بقوله : " تتقون ".
لأن الأولى : اشتملت على خمسة أشياء عظام، والوصيّة فيها أبلغ منها في غيرها، فختمها بما في الإنسان من أعظم السجايا وهو " العقل " الذي امتاز به على سائر الحيوان.
والثانية : اشتملت على خمسة أشياء يقبُح ارتكابُها، والوصيّة فيها تجري مجرى الزجر والوعظ، فختمها بقوله : " تذكّرون " أي تتعظون.
والثالثة : اشتملت على ذكر الصّراط المستقيم، والتحريض على اتباعه، واجتناب مُنافيه، فختمها بالتقوى التي هي ملاك العمل، وخير الزّاد.
قوله تعالى :﴿ وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى... ﴾ الآية [ الأنعام : ١٥٢ ].
إن قلتَ : لم خصّ العدل بالقول، مع أن الفعل إلى العدل أحوج، فإن الضّرر الناشئ من الجور الفعلي، أقوى من الضّرر الناشئ من الجور القولي ؟
قلتُ : إنما خصّه بالقول، ليُعلم وجوب العدل في الفعل بالأولى، كما في قوله تعالى :﴿ فلا تقل لهما أفّ ﴾ [ الإسراء : ٢٣ ].
قوله تعالى :﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى... ﴾ [ الأنعام : ١٦٤ ].
إن قلتَ : هو مناف لنحو قوله تعالى :﴿ وليحملنّ أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم ﴾ [ العنكبوت : ١٣ ] ولخبر :( من عمل ( ١ ) سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ) ؟
قلتُ : لا منافاة إذ الوزر في الآية الأولى، محمول على من لم يتسبّب في الفعل بوجه، وفيما عداها على من تسبّب فيه بوجه كالأمر به، والدلالة عليه، فعليه وزر مباشرته له، ووزر تسبّبه فيه.
١ - الحديث رواه مسلم في قصة طويلة وفيه (ومن سنّ في الإسلام سنّة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء). رواه مسلم..
قوله تعالى :﴿ وهو الذي جعلكم خلائف الأرض... ﴾ الآية [ الأنعام : ١٦٥ ]. قال ذلك هنا، وقال في " يونس " ( ١ ) و " فاطر " ﴿ خلائف في الأرض ﴾ [ يونس : ١٤ ] لأن ما ههنا تكرّر قبلَه ذكر المخاطبين مرات، فعرّفهم بالإضافة، وما في السورتين جاء على الأصل، كما في قوله تعالى :﴿ إني جاعل في الأرض خليفة ﴾ [ البقرة : ٣٠ ] وقوله :﴿ وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ﴾ [ الحديد : ٧ ].
قوله تعالى :﴿ إن ربّك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم ﴾ [ الأنعام : ١٦٥ ] وقال في الأعراف ﴿ إن ربّك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم ﴾ [ الأعراف : ١٦٧ ] باللام في الجملتين، لأن ما هنا وقع بعد قوله :﴿ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ﴾ [ الأنعام : ١٦٠ ] وقوله :﴿ وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ﴾ فأتى باللام المؤكدة في الجملة الثانية فقط، ترجيحا للغُفران على سرعة العقاب.
وما هناك وقع بعد قوله :﴿ وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس ﴾ [ الأعراف : ١٦٥ ] وقوله :﴿ فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ﴾ [ البقرة : ٦٥ ] فأتى باللام في الجملة الأولى، لمناسبة ما قبلها، وفي الثانية تبعا للام في الأولى.
فإن قلتَ : كيف قال :﴿ سريع العقاب ﴾ مع أنه حليم، والحليم لا يُعجِّل بالعقوبة على من عصاه ؟   !
قلتُ : معنى " سريع " شديد، أو المعنى سريع العقاب إذا جاء وقته.
١ - أشار إلى قوله تعالى: ﴿ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون﴾ يونس: ١٤..
Icon