ﰡ
مكية، سبع وتسعون آية، ثلاثمائة وثمان وتسعون كلمة، ألف وسبعمائة وثلاثة أحرف
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) أي إذا قامت القيامة يعترف بها كل أحد ويبطل عناد المعاندين ولا يتمكن أحد من من إن كارها والعامل في «إذا» «ليس لوقعتها كاذبة» فاللام بمعنى في، أي ليس كاذبة توجد في وقت وقوعها، أو بمعنى عندي أي لا يكون عند وقوعها نفس تكذب في نفيها، وإنما سميت القيامة واقعة لشدة صوتها يسمع القريب والبعيد، خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) أي هي خافضة للكافرين في دركات النار والعذاب، ورافعة للمؤمنين في درجات الجنة والنعيم.
وقرئ «خافضة رافعة» بالنصب على الحال من «الواقعة»، إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤)، أي إذا زلزلت الأرض زلزالا شديدا بحيث ينهدم ما فوقها من بناء وجبل، و «إذا» متعلقة ب «خافضة» رافعة أو بدل من «إذا وقعت». وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) أي فتتت الجبال فتا، فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦) أي فصارت الجبال غبارا منتشرا، وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) أي وصرتم في ذلك اليوم أيها الخلائق ثلاثة أصناف، اثنان في الجنة وواحد في النار، ثم بينهم الله تعالى بقوله:
فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) أي فأهل الجنة الذين يعطون كتابهم بيمينهم، أيّ شيء هم في حالهم، فهم في غاية حسن الحال في الكرامة والسرور وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩) أي وأهل النار الذين يعطون كتابهم بشمالهم أيّ شيء هم في حالهم، فهم في غاية سوء الحال وهم في الهوان والعذاب، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أي والسابقون الذين لا حساب عليهم هم الذين اشتهرت أحوالهم وعرفت محاسنهم، فهم يسبقون الخلق إلى الجنة من غير حساب، فالسابقون إلى الخيرات في الدنيا هم السابقون إلى الجنة في العقبى،
أُولئِكَ أي السابقون الْمُقَرَّبُونَ (١١) إلى الله تعالى فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) في أعلى عليين، فلهم قرب عند الله كما يكون الجلساء الملوك فهم لا يكون بيدهم شغل ولا يرد عليهم أمر، فيلتذون بالقرب ويتنعمون بالراحة، بخلاف قرب الملائكة الذين هم للأشغال، فهو قرب الخواص عند الملك، فهم ليسوا في نعيم وإن كانوا في لذة عظيمة، ولا يزالون خائفين قائمين بباب الله يرد عليهم الأمر
ويقال: السابقون هم الذين أجسامهم أرواح نورانية وجميع جهاتهم وجه، يَطُوفُ عَلَيْهِمْ أي يدور حولهم للخدمة وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) أي مبقون أبدا على شكل الولدان، لا يكبرون ولا يلتحون بِأَكْوابٍ، أي بكيزان وهي أوان مستديرة الأفواه بلا عري ولا خراطيم، وَأَبارِيقَ وهي: أوان لها عري وخراطيم وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) أي إناء خمر طاهرة تجري من عيون لا يُصَدَّعُونَ عَنْها أي لا يصيبهم صداع بسبب شربها، وَلا يُنْزِفُونَ (١٩).
قرأ عاصم وحمزة والكسائي بكسر الزاي، أي لا ينفذ شرابهم.
والباقون بفتحها أي «لا يكسرون»، أي لا ينزف عقولهم وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠)، أي مما يختارونه ويأخذون أفضله،
وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١). وقرئ «ولحوم طير».
وعن أبي الدرداء أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن في الجنة طيرا مثل أعناق البخت تصطف على يد ولي الله فيقول أحدهما: يا ولي، الله رعيت في مروج تحت العرش، وشربت من عيون التنسيم فكل مني، فلا يزلن يفتخرن بين يديه حتى يخطر على قلبه أكل أحدها فيخر بين يديه على ألوان مختلفة فيأكل منها ما أراد، فإذا شبع تجمع عظام الطير فطار يرعى في الجنة حيث شاء». فقال عمر: يا نبي الله، إنها لناعمة. قال: «آكلها أنعم منها»
«١». وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) أي نساء شديدات بياض أجسادهن وشديدات سواد العيون مع سعتها.
وقرأ حمزة والكسائي بالجر عطف على «جنات النعيم» كأنه قيل: هم في جنات وفاكهة، ولحم طير، ومصاحبة حور. والباقون بالرفع عطفا على «ولدان» فلأهل الجنة حور مقصورات معظمات، ولهن جوار وخوادم وحور تطوف مع الولدان السقاة. وقرئ «وحورا عينا» بالنصب، أي ويعطون حورا عينا، كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣)
أي المصون الذي لم تقع عليه الشمس
واعلم أن الأشجار يجمعها نوعان أوراق صغار، وأوراق كبار، فالسدر في غاية الصغر وشجر الموز في غاية الكبر، فوقعت الإشارة إلى الطرفين جامعة لجميع الأشجار نظرا إلى أوراقها، كما ذكر الله النخل والرمان عند ذكر الثمار، لأن بينهما غاية الخلاف فوقعت الإشارة إليهما جامعة لجميع الأشجار نظرا إلى ثمارها، وكذلك النخيل والأعناب فإن النخل من أعظم الأشجار المثمرة، والكرم من أصغر الأشجار المثمرة وبينهما أشجار فوقعت الإشارة إليهما جامعة لسائر الأشجار، فإن البليغ يذكر طرفي أمرين يتضمن ذكرهما الإشارة إلى جميع ما بينهما، كما يقال: فلان ملك الشرق والغرب ويفهم منه أنه ملك ما بينهما، وكما يقال فلان أرضى الصغير والكبير، ويفهم منه أنه أرضى كل أحد. وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) أي منبسط لا تزيله الشمس أبدا، كظل ما بين الفجر وطلوع الشمس،
وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) أي مصبوب من ساق العرش سائل يجري على الأرض في غير أخدود، ومثل الله حال السابقين بأقصى ما يتصور لأهل المدن، وحال أصحاب اليمين بأكمل ما يتصور لأهل البوادي إعلاما بالتفاوت بين الحالين وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) بحسب الأنواع والأجناس لا مَقْطُوعَةٍ في وقت من الأوقات، وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) عن متناوليها بوجه من الوجوه. وقرئ و «فاكهة» بالرفع أي وهناك فاكهة إلخ.
وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) على الأسرّة كما قاله علي، أو نساء مرفوعات على الأرائك ومرفوعات بالفضل والجمال، ويدل على هذا التأويل قوله تعالى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦).
روى النحاس أن أم سلمة سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن قوله تعالى إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فقال: هن اللواتي قبضن في الدنيا عجائز شمطا، عمشا، رمصا، جعلهن الله تعالى بعد الكبر أترابا على ميلاد واحد في الاستواء.
وعن المسيب بن شريك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال في قوله تعالى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً: «هن عجائز الدنيا أنشأهن الله تعالى خلقا جديدا كلما أتاهن أزواجهن
«ليس هناك وجع»
. عُرُباً أي حسناء محسنة لكلامها متحببات إلى أزواجهن أَتْراباً (٣٧) أي مستويات في السن على مقدار ثلاث وثلاثين سنة لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) أي على سنهم. وفي هذا الإشارة إلى الاتفاق، لأن أحد الزوجين إذا كان أكبر من الآخر فالشباب يعيره، والجار والمجرور متعلق ب «أترابا» كقولك: هذا ترب لهذا أي مساو له في السن ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠) أي هم أي أصحاب اليمين كثيرون من أوائل الأمم قبل أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم ومن أواخر الأمم، وهي أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم
وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ، أي في ريح متعفن يتحرك من جانب إلى جانب، فإذا شم الإنسان منه يفسد قلبه العفوية ويقتل الإنسان وَحَمِيمٍ (٤٢) أي ماء حار إشارة بالأدنى إلى الأعلى، فالهواء والماء أنفع الأشياء في الدنيا، فهواؤهم الذي يهب عليهم سموم وماؤهم الذي يستغيثون به حميم فما ظنك بنارهم التي هي عندنا أحر، وكيف حالهم مع أحر الأشياء؟ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) أي من دخان جهنم أسود، لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) أي لا بارد يطلب الظل لبرده، ولا ذي كرامة قد أعد للجلوس فيه وحفظ عن القاذورات، إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ أي قبل سوء العذاب في الدنيا مُتْرَفِينَ (٤٥)، أي منعمين بأنواع النعم ولم يشكروها وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) أي كانوا في الدنيا يديمون على الذنب العظيم الذي هو الشرك، وَكانُوا يَقُولُونَ إذا كانوا في الدنيا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا أي صرنا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨). وهذه الآيات الثلاثة إشارة إلى الأصول الثلاثة فقوله تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ يدل على ذمهم بإنكار الرسل وعلى تكبرهم بغناهم، وهم كانوا يقولون: أبشرا منا واحدا نتبعه. وقوله تعالى: يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ إشارة إلى الشرك ومخالفة التوحيد. وقوله تعالى: وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً إلخ إشارة إلى إنكار الحشر.
وقرأ قالون وابن عامر بسكون الواو. والباقون بفتحها أي أإنا أو آباؤنا مبعثون أي أتبعث آباؤنا الأولون الذي قد فنيت عظامهم. قُلْ يا أشرف الخلق لمنكري البعث: إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) أي إنهم يساقون بعد البعث إلى عرصة الحساب، ويجمعون في وقت يوم معين عند الله تعالى وهو يوم القيامة،
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ عن سبيل الله وهو التوحيد، الْمُكَذِّبُونَ (٥١) أي المنكرون الحشر لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) أي لآكلون شجرا هو الزقوم، فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) أي كل واحد منكم يملأ بطنه من تلك الشجر، فَشارِبُونَ عَلَيْهِ أي عقب ذلك الأكل بلا ريث مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) أي الماء الحار، فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) أي لا يكون شربكم منه شربا معتادا بل يكون مثل شرب الإبل العطاش. هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦) أي ليس المذكور كل العذاب، بل هذا أول ما يلقونه من العذاب وهو جزء منه، وإذا كان هذا ما يعدّ لهم
نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ أي وقتنا موت كل أحد بوقت معين. وقرأ ابن كثير بتخفيف الدال أي سوّينا بينكم بالموت فتموتون كلكم، وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ أي لا يغلبنا أحد على أن نذهبكم، ونأتي مكانكم أشباهكم من الخلق، أي وما نحن عاجزون عن خلق أمثالكم وإعادتكم بعد تفرق أوصالكم، وَنُنْشِئَكُمْ فِي
ما لا تَعْلَمُونَ
(٦١) أي إنا قادرون على أن نخلقكم في صور لا تعلمونها في جنسكم، ويقال: أن نجعل أرواحكم يوم القيامة فيما لا تصدقون وهي النار.
وقال بعضهم: أنجعل أرواحكم في حواصل طير تكون ببرهوت كأنها الزرازير كما أخرجه ابن أبي حاتم. وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى أي الخلق الأول في بطون الأمهات وهو من نطفة ثم من علقة، ثم من مضغة، فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أي فهلا تتعظون بأن من قدر على النشأة الأولى قدر على النشأة الأخرى حتما.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الشين في النشأة، وبألف بعدها فهمزة. وقرأ حمزة والكسائي وحفص بتخفيف الذال في «تذكرون». والباقون بالتشديد. وقرئ «تذكرون» من الثلاثي. وفي الخبر: «عجبا كل العجب للمكذب بالنشأة الآخرة وهو يرى النشأة الأولى وعجبا للمصدق بالنشأة الآخرة وهو يسعى لدار الغرور». أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أي أخبروني يا أهل مكة ما تبذرون من الحبوب أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤)، أي أأنتم تنبتونه! بل نحن المنبتون لا أنتم، لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً أي لجعلنا الزرع متكسرا يابسا بعد خضرته، وقبل ظهور الحب، أي إن قلتم: نحن نلقي البذر في الأرض وهو بنفسه يصير زرعا لا بفعلنا ولا بفعل غيرنا، قال تعالى: ولو سلم لكم هذا الباطل فما تقولون في سلامة الزرع عن الآفات فيفسد قبل اشتداد الحب فهل تدفعون الآفات عنه، أو هذا الزرع بنفسه يدفعها عن نفسه كما تقولون إنه بنفسه ينبت؟ فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) أي فصرتم تعجبون من يبسه بعد خضرته. وقرئ «فظلتم» بكسر الظاء و «فظلتم» على الأصل بكسر اللام. وقرئ «تفكهون» أي تتندمون على ما أنفقتم عليه قائلين: إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) أي إنا لمعذبون بالجوع بهلاك الزرع، أو إنا لمكرهون بالغرامة. وقرأ شعبة أإنا على الاستفهام بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) أي ممنوعون منفعة زروعنا، أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي
(٦٨) عذبا فراتا، أَأَنْتُمْ يا أهل مكة أَنْزَلْتُمُوهُ عليكم مِنَ الْمُزْنِ أي السحاب الثقيل بالماء، أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) أي بل نحن المنزلون عليكم لا أنتم لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أي ذلك الماء أُجاجاً، أي حارا أو مرا من شدة الملوحة، فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (٧٠) أي فهلا تشكرون على هذه النعمة التامة، فإن النعمة لا تتم إلا عند الأكل والشرب، وذلك لأن الإنسان إذا كان في البراري التي لا يوجد فيها الماء لا يأكل شيئا مخافة العطش.
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أي تقدحونها عن كل عود غير العناب وهو الشجر الأحمر، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أي الشجرة التي تصلح لإيقاد النار أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) أي بل نحن المنشئون لها بقدرتنا لا أنتم؟ نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً لنار جهنم فيجب على العاقل إذا رأى النار الموقدة أن يخشى عذاب الله أو تذكرة لصحة البعث، لأن من قدر على إيداع النار في الشجر الأخضر لا يعجز عن إيداع الحرارة الغريزية في بدن الميت، وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) أي منفعة للذين ينزلون القوى وهي القفر البعيدة من العمران، وهم الذين أوقدوا النار، لأنهم أحوج إلى النار في الليل لتهرب السباع ويهتدي الضال، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤) ولا تقل لغير الله تعالى انه إله فإن الاسم يتبع المعنى والحقيقة، أي إن الكفار اعترفوا بأن الأمور من الله، وإذا طولبوا بالوحدانية قالوا: نحن لا نشرك في المعنى وإنما نتخذ أصناما آلهة في الاسم، ونسميها آلهة والله هو الذي خلقها، فنحن ننزهه تعالى في الحقيقة فقال تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أي فكما أنت أيها العاقل اعترفت بعدم اشتراك الله مع غيره في الحقيقة اعترف بعدم اشتراكهما في الاسم. فَلا أُقْسِمُ قيل: «لا» مزيدة مؤكدة. وقيل: الأصل فلانا أقسم، فحذف المبتدأ، وأشبعت فتحة لام الابتداء، ويعضده قراءة من قرأ «فلأقسم» بلام التأكيد. وقيل: إن «لا» نافية، رد لكلام يخالف المقسم عليه، والتقدير:
والله لا صحة لقول الكفار أقسم بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) أي بمواضعها في السماء في منازلها.
وقرأ حمزة والكسائي «بموقع النجوم» بسكون الواو، أي بموضع سقوطها عند غروبها وَإِنَّهُ أي إن القسم بها لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦)، أي لو تعلمون عظمة القسم لعظمتم هذا القسم، لكنكم ما عظمتونا، لأنكم لا تعلمون ولا وقف هنا، لأن القسم وقع على ما بعده، إِنَّهُ أي إن الكلام الذي أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) أي كثير النفع لاشتماله على إصلاح المعاش والمعاد، فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) أي في كتاب محفوظ عن الباطل، وهو المصحف، الذي في أيدينا، لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) أي لا يمس ذلك الكتاب إلّا المطهرون من الأحداث، أي يحرم عليهم مسّه بدون الطهارة. وهذه الجملة صفة ثانية ل «كتاب»، فالخبر بمعنى النهي ويؤيد هذا قراءة عبد الله بن مسعود «ما يمسه» ب «ما» النافية. وروى مالك وغيره أن كتاب عمرو بن حزم، وهو من أهل الظاهر لا يمس القرآن إلّا طاهر.
«١» تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠) صفة ثالثة ل «قرآن» أي منزل من الله تعالى، وفي ذلك رد على قول من قال: إن القرآن شعر، أو سحر، أو كهانة، وفي هذا رد على الذين يقولون: إن القرآن في كتاب ولا يمسه إلا المطهرون- وهم الملائكة- ورد على الروافض الذي يقولون: إن جبريل أنزل على علي فنزل على محمد. فقال تعالى: هو من الله ليس باختيار الملك. وقرئ «تنزيلا» بالنصب حال من قرآن،
أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) أي أفبهذا القرآن أنتم يا أهل مكة متهاونون به. ويقال:
أفبهذا الكلام الذي تتحدثون به أنتم تلينونه لأصحابكم من شأن محمد والبعث، والحساب، والجنة، والنار تعلمونهم خلافه، وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢) أي تجعلون معاشكم تكذيب محمد، لأنكم تخافون إن صدقتموه ومنعتم ضعفاءكم عن الكفر أن يفوت عليكم من كسبكم ما تربحونه بسببهم فتجعلون رزقكم أنكم تكذبون الرسل. وقرئ «وتجعلون شكركم أنكم تكذبون»، أي تجعلون شكركم لنعمة القرآن أنكم تكذبون به، فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) أي فلم لا تكذبون الرسل إذا بلغت الروح الحلقوم، والحال أنكم وقت النزع تشاهدون الأمور وتعلمونها. وهذا إشارة إلى أن كل أحد يؤمن عند الموت لكن لم يقبل إيمان من لم يؤمن قبله، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥) أي ونحن أقرب إلى الميت من أهله الحاضرين عنده بعلمنا وقدرتنا، ولكن لا تدركون ذلك لجهلكم بشئوننا، فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٨٧)، أي فلم لا تردون الروح إلى الجسد عند بلوغها الحلقوم إن كنتم غير مجزيين وغير محاسبين إن كنتم صادقين في اعتقادكم أي إنكم إذا كنتم لستم تحت قدرة أحد فلم لا ترجعون أنفسكم إلى الدنيا مع أن ذلك مشتهى أنفسكم ومنى قلوبكم كما كنتم في الدنيا التي ليست دار جزاء، فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ أي فأما إن كان المجزى من المقربين السابقين فله راحة. وقرأ بعضهم بضم الراء، أي فله حياة دائمة، أو رحمة، لأنها كالحياة للمرحوم وَرَيْحانٌ، أي رزق عظيم أو زهرة فقد قيل: إن أرواح أهل الجنة لا تخرج من الدنيا إلّا ويؤتى إليهم بريحان من الجنة يشمونه، وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) أي بستان ذات تنعم ليس فيها غيره،
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١) أي إن مكانة النبي صلّى الله عليه وسلّم بالنسبة إلى المقربين الذين هم في عليين، كأصحاب الجنة بالنسبة إلى أهل عليين فكأن الله تعالى
حَمِيمٍ
(٩٣)، أي وأما إن كان المجزى من المنكرين للبعث الضالين عن سبيل الله، فله ضيافة من ماء حار يشربه بعد أكل الزقوم وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) أي وإدخال في النار واحتراق بها، إِنَّ هذا أي ما ذكر في هذه السورة لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) أي نهاية اليقين، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦) لم بين الله تعالى الحق وامتنع الكفار قال لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: هذا هو حق فإن امتنعوا، فسبح ربك في نفسك وما عليك من قومك سواء صدقوك أو كذبوك.