تفسير سورة المطفّفين

الهداية الى بلوغ النهاية
تفسير سورة سورة المطففين من كتاب الهداية الى بلوغ النهاية المعروف بـالهداية الى بلوغ النهاية .
لمؤلفه مكي بن أبي طالب . المتوفي سنة 437 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة المطففين ١ مكية ٢
١ أ، ث سورة المطففين. وما في المتن من م هو الذي عند البخاري في كتاب التفسير (الفتح ٨/٦٩٥]. وما في أ، ث: هو الذي في الكشف٢/٣٦٦ وإعراب مكي ٢/٨٠٥، وسماها في روح المعاني ٣٠/٨٥: "سورة التطفيف"..
٢ ساقط من أ. وهذه السورة مكية في قول ابن مسعود والضحاك ويحيى بن سلام في تفسير الماوردي٤/٤١٨، وزاد القرطبي في تفسيره: ١٩/٢٥١ أنه قول مقاتل أيضاً. وهو قول ابن عباس وابن الزبير في الدر٨/٤٤١. وهي مدنية في قول الحسن وعكرمة ومقاتل في رواية أخرى عنه انظر: تفسير الماوردي٤/٤١٨ وتفسير القرطبي١٩/٢٥١..

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة ويل للمطففين
مكية
- قوله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ﴾، إلى قوله: ﴿لِيَوْمٍ عَظِيمٍ﴾.
أي: قبوح للمخسرين في كيلهم، الناقصين (الناس) إذا اكتالوا لهم أو وزنوا لهم.
وقيل: ﴿وَيْلٌ﴾ معناه: الوادي [الذي] في أسفل جهنم يسيل فيه صديد أهلها للذين ينقصون الناس ويبخسونهم حقوقهم في كيلهم ووزنهم.
8113
قال ابن مسعود: ويل: (واد) في جهنم.
والمطففون: الناقصون. وأصل ذلك في الشيء الطفيف وهو القليل، التَّزْرُ.
والمطفف في اللغة: المُقَلِّلُ حَقَّ صاحبِ الحقِّ عَمَّا لَهُ من الوفاء في كيل أو وزن.
وحكى القتبي: " إناء [طفان] إذا لم يكن ممتلأ ".
وطفف فلان صلاته: إذا لم يجودها.
ويقال للشيء المطرح: طفيف.
8114
و [قيل]: معنى ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ﴾ و ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾ [المرسلات: ١٥] عند سيبويه أنه دعاء يجري بين الناس، فخوطب العباد بما يجري [بينهم]، وجاء القرآن على لغتهم، فكأنه تعالى قال: هؤلاء ممن يجب هذا القول لهم، لأن هذا الكلام إنما يقال لصاحب الشر والهلكة. وروي عن ابن عباس أنه قال: لمَّا قَدِمَ النبي ﷺ المدينة كَانَ أهلها من أخْبَثِ الناس كَيْلاً، فأنزل الله: ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ﴾ فأحسنوا الكيل.
وهذا الخبر يدل على أن السورة نزلت بالمدينة.
- وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ﴾.
أي: إذا اكتالوا من الناس ما لهم عليهم من حق استوفوا لأنفسهم وافياً.
8115
و ﴿عَلَى﴾ بمعنى " من " - في هذ - عند الطبري.
وقيل: إن معنى الكلام بِ " عَلَى " خلاف معناه بِ " مِنْ " يقال: اكتلت عليك، بمعنى: أخذت ما عليك من حق. واكتلت منك، بمعنى: استوفيت/ منك.
- ثم قال تعالى: ﴿وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾.
أي: وإذا [كالوا] للناس أو وزنوا لهم ينقصون، فَ " هم " في موضع نصب، على هذا يقال: كِلْتُكَ حَقَّكَ، وكِلْتُ لَكَ حَقَّكَ. وهو قول أكثر النحويين. ودل على ذلك أن الخط لا ألف فيه بين الضميرين. وقال عيسى بن عمر: الهاء والميم في موضع رفع فيهما، وتقديره عنده: وهم إذا كالوا أو وزنوا يخسرون.
وقيل: " هم " في موضع رفع تأكيد للمضمر [المرفوع] في
8116
" كالوا " أو " وزنوا ".
- ثم قال تعالى: ﴿أَلا يَظُنُّ أولئك أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ﴾.
أي: ألا يظن المطففون أنهم مبعوثون ليوم القيامة من قبورهم فيجازون على تطفيفهم وبخسِهم الناس حقوقهم.
روي أنها نزلت في رجل من قريش كان بالمدينة معه صاعان: واف يقبض به، وناقص يعطي به، ثم هي عامة في كل من نقس الكيل إذا دفع وأوفى إذا قبض.
- قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبِّ العالمين﴾، إلى قوله: ﴿كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾.
أي: يبعثون يوم يقوم.
ويجوز [أن يكون] بدلاً من ﴿لِيَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ على الموضع.
8117
وقال الفراء: هو مبني على الفتح، ولا يحسن عند البصريين بناؤه مع إضافته إلى معرب، إنما يناؤه إذا أضيف إلى مبني. المعنى: يوم يقوم الناس على أقدامهم لرب العالمين.
روي أن الناس يقومون يوم القيامة حتى يلجمهم العرق، فيقومون مقدار أربعين عاماً.
وقيل: مقدار ثلاثمائة عام.
وروى ابن عمر [عن النبي ﷺ أَنَّهُ قال: " يَقْدُمُ أَحَدُكُمْ فِي رَشْحِهِ إلى أنْصافِ أُذُنَيْهِ " وروى أبو هريرة] أن النبي ﷺ قال لبشير الغفاري: " كَيْفَ أَنْتَ صَانِعٌ
8118
فِي يَوْمٍ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِ العَالَمِينَ مِقْدَارَ ثَلاَثَمائة سَنَةٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا لاَ يَأْتِيهِمْ خَبَرٌ مِنَ السَّمَاءِ وَلاَ يَأْمُرُ فِيهِمْ بِأَمْرٍ؟ فَقَالَ بَشِيرٌ: اللهُ المُسْتَعَانُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ لَهُ النبي ﷺ: إِذَا أَوَيْتَ إلى فِرَاشِكَ، فَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْ كَرْبِ (يَوْمِ) القِيَامَةِ وَسُوءِ الحِسَابِ ".
وعن ابن عمر أنه قال: " يقومون مائة سنة ".
وقال ابن مسعود: يمكثون أربعين عاماً رافعي رؤوسهم إلى السماء، لا يكلمهم أحد، قد ألجم العرق كل بر وفاجر. قال: [فينادي] مناد: أليس عدلاً من ربكم أنه خلقكم ثم صوركم (ثم رزقكم) ثم توليتم غيره أن يولي كل عبد
8119
منكم ما تولى في الدنيا؟! فيقولون: بلى "، ثم ذلك الحديث.
وقال كعب: يقومون قدر ثلاثمائة سنة.
وروى عقبة بن عامر عن النبي ﷺ قال: " تَدْنُو الشَّمْسُ يَومَ القيامةِ من الأَرضِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْرَقُ إلى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْرَقُ إلى رُكْبَتَيْهِ، ومِنْهُمْ مَنْ يَعْرَقُ إلى عَجْزِهِ، وَمنهم مَنْ يَعْرَقُ إلى خَاصِرَتِهِ، وَمِنْهم مَنْ يَعْرَقُ إلى مَنْكِبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْرَقُ إلى عُنُقِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْرَقُ إلى نِصْفِ فَمِهِ مُلْحَماً بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ بيَشْمَلُهُ] العَرَقُ " قال عمير [بن] هانئ: يحشر الناس يوم القيامة على أرض قد مدها [الله] تبارك وتعالى مد الأديم العُكَاظِي، فهم من ضيق مقامهم فيها كضيق سهام
8120
اجتمعت في كنانتها. قال: فالسعيد يومئذ من وجد لقدمه مقاماً. قال: وأكثر الأقدام يومئذ بعضها على بعض. قال: فهم فيها مجتمعون ينفذهم البصر ويسمعهم الداعي. فبينما هم كذلك، إذا سمعوا زفرة من زفير جهنم، فلا يبقى مالك مقرب، ولا نبيٌ مرسل إلا خَرَّ لركبيته، حتى إنَّ إبراهيم ﷺ ليقول: (نفسي)، (رب) نفسي، لا أسألك غيرها. فلا يبقى عند تلك الزفرة دمعة إلا جرت، ثم يسمعون زفرة أخرى فلا يبقى دم في عين إلا جرى، ثم يسمعون زفرة أخرى فلا يبقى قيح إلا
8121
سال يتبع بعضه بعضاً، ويمد بعضه بعضاً حتى يسيل إلى واد يقال (له سائل، فيفرغ في جهنم، فذلك قوله):
﴿سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ﴾ [المعارج: ١].
- ثم قال تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفجار لَفِي سِجِّينٍ﴾.
من جعل ﴿كَلاَّ﴾ وقفا، كان تقديره: ليس الأمر كما يظن هؤلاء الكفار أنهم غير مبعوثين، إن كتابهم الذي كتبت فيه أعمالهم في الدنيا لفي سجين.
ومن لم يره وقفا، جعل ﴿كَلاَّ﴾ بمعنى " أَلاَ "، افتتاح كلام.
و ﴿سِجِّينٍ﴾: الأرض السفلى، فيه أعمال الكفار وأرواحهم.
وروي أن إبليس موثق بالحديد والسلاسل في الأرض السفلى. (وسأل ابن عباس كعباً عن ﴿سِجِّينٍ﴾، فقال/: هي الأرض السابعة السفلى)، فيها أرواح الكفار تحت خد إبليس.
8122
وروي أنه قال (له): إن أرواح الكفار يُصعد بها إلى السماء، فتأبى السماء أن تقبلها، ثم يُهبط بها إلى الأرض، فتأبى الأرض أن تقبلها، فيُهبط، فتدخل تحت سبع أرضين حتى يُنتهى بها إلى سجين، وهو خد إبليس، فيخرج [لها] من سجين من تحت خد إبليس [رق] فترقهم وتختم وتوضع تحت خد إبليس.
وقال ابن جبير: ﴿لَفِي سِجِّينٍ﴾: " تحت خد إبليس ".
وقال ابن أبي نجيح: ﴿سِجِّينٍ﴾ صخرة تحت الأرض السابعة، تقلب [فتجعل] تحتها.
وقال ابن عباس: " أعمالهم في كتاب في الأرض السفلى ".
وروى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: " الْفَلَقُ جُبٌّ في جَهَنَّمَ مُغَطَّى. وأما ﴿سِجِّينٍ﴾، فمفتوح ". يعني أنه جب مفتوح.
8123
وقيل: ﴿سِجِّينٍ﴾ من السِّجِلِّ، والنون مبدلة من اللام.
وقال أبو عبيد: ﴿لَفِي سِجِّينٍ﴾: لفي حبس. وهو فِعِّيلٌ من السجن.
وقيل: ﴿سِجِّينٍ﴾: هي الصخرة التي تحت الأرض السفلى وهو صفة، وليس باسم الصخرة، ولو كان اسماً لها لم تنصرف.
وروى البراء بن عازب أن النبي ﷺ قال: " إِنَّ العَبْدَ (الكَافِرَ - أَوْ) الفاجِرَ - إِذَا مَاتَ صَعِدُوا بِروحِهِ إلى السماءِ، فَيَقُولُ اللهُ - جَلَّ ذِكْرُهُ -: اكْتُبُوا كِتَابَه في سَجِّينٍ. وَهِيَ الأَرْضُ السُّفْلَى ".
8124
وعن كعب (أيضاً) أنه قال: في التوراة أن سجينا شجرة سوداء تحت الأرضين السبع، مكتوب فيها اسم كل شيطان، تُلْقَى أنفس الكفار عندها.
- ثم قال تعالى: ﴿وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ﴾.
أي: وأي شيء أدراك يا محمد ما سجين؟! على التعظيم لأمره. ثم بَيَّنَ فقال: ﴿كِتَابٌ مَّرْقُومٌ﴾. أي: مكتوب فيه عمل الكفار.
قال قتادة: مرقوم: مكتوب رُقِمَ لهم فيه بِشَرٍّ.
- ثم (قال تعالى: ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾.
قد تقدم تفسيره في مواضع).
- ثم قال: ﴿الذين يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدين﴾.
أي: لا يؤمنون بالجزاء والبعث والنشور.
- ﴿وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ﴾.
8125
أي: بالبعث، ﴿إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ.
..﴾
أي: كل من تعدى حدود الله. ﴿أَثِيمٍ﴾ أي: مأثوم في فعله.
﴿إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا...﴾. أي: حججنا وأدلتنا.
﴿قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين...﴾. أي: قال: هذه أخبار الأولين وأحاديثهم وما كتب عنهم وَسُطِّرَ.
- ثم قال تعالى: ﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾.
﴿كَلاَّ﴾ عند أبي حاتم لا يوقف عليها. وهي بمعنى " أَلاَ " [و] بمعنى " حَقاً ".
ويوقف عليها عند غيره، على معنى: ليس الأَمْرُ على ما قال هؤلاء المكذبون بيوم الدين: إن آياتنا أساطير الأولين.
ثم ابتدأ فأخبر عَنْهُم ما نزل بهم حين كفروا بالبعث فقال: {بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا
8126
كَانُواْ يَكْسِبُونَ}، أي: (بل) ران على قلوبهم إِثْمُ ذُنُوبِهِمْ وكُفْرِهِمْ حتى غطاها، فلا يبصرون الصواب من الخطأ.
يقال: رانت الخمرُ على عقله: إذا غلبت (عليه). وغَانَتْ بمعناه.
وروى أبو هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: " إِذَا أَذْنَبَ العَبْدُ نُكِتَ (فِي) قَلبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإن (تاب) صُقِلَ مِنْهَا، فإن عَادَ عَادَتْ حتى تَعْظُم فِي قَلْبِهِ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ ".
وقال الحسن: هو الذنب على الذنب حتى يَعْمَى القلب فيموت.
8127
قال مجاهد: القلب مثل الكف. فإذا أذنب انقبض - وقَبَضَ مجاهد أُصبُعاً - قال: فإذا أذنب انقبض - وقبض مجاهدٌ أصبعاً آخر - ثم كذلك حتى ينقبض كله - وقبض مجاهد أصابعه على الكف - قال: ثم يطبع عليه. فكانوا يرون أن ذلك هو الرين. قال قتادة: هو " الذنب على الذنب حتى يرين على القلب فَيَسْوَدُ ".
قال ابن زيد: ﴿بَلْ رَانَ﴾، أي: غلبت على قلوبهم ذنوبُهم، فلا يَخْلُصُ إليها معها خير.
- ثم قال تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾.
" كلا " عند أبي حاتم بمعنى " ألا ". ولا يوقف عليها.
ويوقف عليها عند غيره، على معنى: ليس الأمر كما يقول هؤلاء المكذبون بيوم الدين: إن لهم عند الله زلفة يوم القيامة لكنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون، فلا يرونه ولا يرون شيئاً من كرامته.
8128
وقول أبي حاتم أَبْيَنُ في [هذا الموضع] من " كلا "، لأن هذا التقدير ليس هو في ظاهر الكلام، ولا في الكلام ما يدل عليه. ففيه تعسف. [وَدَلَّ لالهُ المؤمنِينَ، بهذه الآية، أنهم لا يحجبون عن ربهم وعن النظر إليه.
قال مالك C: في هذا دليل على أن ثم قوماً لا يحجبون عن الله وينظرون إليه/.
وبه استدل الشافعي على النظر إلى الله تعالى يوم القيامة. وقد قدره منكرو النظر إلى الله على معنى أنهم عن كرامة ربهم لمحجوبون.
8129
وهذا لا يجوز عند أحد من النحويين، ولو جاز هذا لجاز: " جاءني زيد "، تريد غلام زيد أو كرامة زيد.
وفي جواز هذا نقض كلام العرب كله. ولا يجوز إخراج الكلام عن ظاهره إلا لضرورة تدعو إلى ذلك مع امتناع جوازه على ظاهره. فإذا امتنعك جواز الكلام على ظاهره، جاز الإضمار الذي يسوغ معه جواز الكلام. ولا ضرورة تدعو إلى أضمارٍ هنا على مذهب أهل السنة.
قال الحسن: يكشف (الحجاب) فينظر إليه المؤمنون دون الكافرين، ثم يحجب الكافرون، وينظر إليه المؤمنون كل يوم غُدْوَةً وَعَشِيَةً.
8130
- ثم قال تعالى: -ayah text-primary">﴿(ثُمَّ) إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الجحيم﴾.
أي: لَوَارِدُهُ مع [حجبهم] عن النظر إلى الله.
- ﴿ثُمَّ [يُقَالُ] هذا الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾.
أي: يقال لهم: هذا العذاب الذي كنتم تكذبون به في الدنيا.
- قوله: ﴿كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأبرار...﴾، إلى قوله: ﴿يَشْرَبُ بِهَا المقربون﴾.
أي: ألا إن كتاب الأبرار، أي: كتاب أعمالهم لفي عليين.
والأبرار: الذين بروا ربهم بأداء فرائضه واجتناب محارمه.
وقيل: هم المؤمنون الذي بَرَّوا الآباء والأبناء.
وقال الحسن: " [هم الذين] لا يؤذون شيئاً حتى الذر ". وسأل ابن
8131
عباس كعباً عن ﴿عِلِّيِّينَ﴾ فقال: " هي السماء السابعة، وفيها أرواحُ المؤمنين ".
وروي (عنه أنه قال (له: إن) أرواح المؤمنين إذا قبضت صُعِدَ بها ففتحت لها أبواب السماء وتلقتها الملائكة بالبُشرى، ثم عَرَجُوا مَعَهَا حتى ينتهوا إلى العرش فيُخْرَحُ لها من عند العرش رَقٌّ [فَيُرْقَم] ويختم بمعرفتها النجاة يوم القيامة، ويشهدها الملائكة المقربون.
وقال قتادة ومجاعج: هي " السماء السابعة ".
وقيل: السماء الرابعة، اسمها عليون، وفيها أعمال المؤمنين وأرواحهم.
8132
وقال الضحاك: ﴿لَفِي عِلِّيِّينَ﴾ أي: " لفي السماء عند الله ".
وقال قتادة أيضاً: ﴿لَفِي عِلِّيِّينَ﴾: " فوق السماء السابعة [عند قائمة] العرش اليمنى ".
وعن ابن عباس: ﴿لَفِي عِلِّيِّينَ﴾ لفي " الجنة ".
وروى الأجلح عن الضحاك أنه قال: إذا قبض روح العبد المؤمن عُرِج به إلى السماء الدنيا، فينطلق معه المقربون إلى السماء الثانية. قال الأجلح: (قلت): وما المقربون؟ قال: أقربهم إلى السماء [الثانية. قال: فينطلق معه (المقربون) إلى السماء] الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة، ثم السادسة، ثم السابعة حتى يُنْتَهى به إلى سدرة المنتهى. قال الأجلح: قلت للضحاك: لم سميت سدرة المنتهى؟... قال: لأَنَّه يَنتهي إليها كل شيء من أمر الله،
8133
[لا يعدوها]. [قال]: فيقولون: [يا رب]، عند فلان. وهو أعلم به منهم، فيبعث الله جل ذكره إليه بصك مختوم بأمنه من العذاب، فذلك قوله: ﴿كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأبرار لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ المقربون﴾.
وعن ابن عباس: أيضاً: ﴿لَفِي عِلِّيِّينَ﴾ لفي السماء عند الله وهو قول الفراء ﴿﴾ وهي الرواية الأولى عن الضحاك.
وإنما أعرب ﴿عِلِّيُّونَ﴾ بإعراب الجمع (لأنه) لا واحد له، فأشبَهَ " عشرين ". ومعناه: من علو إلى علو، أي: من سماء إلى سماء، (إلى) السابعة.
وقيل: إن ﴿عِلِّيِّينَ﴾ (من صفة الملائكة)، فلذلك جمع بالواو والنون.
8134
والتقدير عند الطبري: ﴿لَفِي عِلِّيِّينَ﴾ أي: في عُلُوٍّ وارتفاعٍ، في سَمَاء فوق سماء، وعلوٍ فوق علوٍ إلى السماء السابعة، أو إلى سدرة المنتهى أو إلى قائمة العرش، على الاختلاف المتقدم.
- وقوله: ﴿وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ﴾.
أي: وأي شيء أدراك يا محمد ما عليون؟! يُعَجِّبُ نبيه ﷺ من عليين، ثم بينه فقال:
- ﴿كِتَابٌ مَّرْقُومٌ﴾.
أي: مكتوب [بأمان الله للأبرار من العذاب يوم القيامة والفوز بالجنة.
- وقوله: ﴿يَشْهَدُهُ المقربون﴾.
أي: يشهدُ ذلِكَ الكتابَ المكتوبَ] بأمان الله للبَرِّ من عباده من النار
8135
والفوز بالجنة المقربونَ من ملائكة كل سماء.
قال [ابن عباس]: المقربون. أهل كل سماء. وقاله الضحاك.
- ثم قال: ﴿إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ﴾.
[أي]: يتمتعون في الجنان ﴿عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ﴾.
أي: [السرر] في الحجال من اللؤلؤ والياقوت ينظرون إلى ما أعطاهم الله من الكرامة.
رَوَى الخدري عن النبي ﷺ أنه قال: " (على الأرائك متكئون) [يَنْظُرُونَ] إلى أَعْدَائِهِمْ فِي النَّارِ ".
8136
قال مجاهد: ﴿عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ﴾: " من اللؤلؤ والياقوت/ ".
- ثم قال: ﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم﴾.
أي: حسن النعيم وبريقه.
- ثم قال تعالى: ﴿يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ﴾.
أي: من خمر [صرف لا] غش فيها.
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد: الرحيق: الخمر. وهو قول الحسن، [و] قاله ابن مسعود.
وقال أهل اللغة: الرحيق [صَفْوُ] الخمر.
وقال أبو عبيدة: (الرحيق): الخالص من الشراب.
وقال ابن مسعود: مختوم: أي مخلوط.
8137
- -ayah text-primary">﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ...﴾.
أي: خلطه مسك.
وقال علمقة: " طعمه وريحه مسك ".
وقال ابن عباس: ﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ﴾ أي: تختم الخمر بالمسك، آخر: شرابهم مسك.
قال ابن عباس: طيب الله تعالى ( مُقَدَّمَ) شرابهم، كان آخر شيء جعل فيه مِسْكاً ختامه بالمسك.
وقال قتادة: آخره مسك، عاقبته مسك، قوم تمزج لهم بالكافور وتختم لهم بالمسك.
قال الضحاك: " طيب الله لهم الخمر فوجدوا في آخر شيء منها ريح المسك ".
8138
وقال أبو الدرداء: هو شراب مثل الفضة يختمون به شرابهم لو أن رجلا من أهل الجنة أدخل أصبعه فيه ثم أخرجها إلى الدنيا لم يبق ذو روح إلا وجد طِيبَهَا؟
وعن مجاهد أن معناه أنه مختوم (مطين) بخاتم من مسك، وقال ابن زيد.
وهذا إنما يكون على قراءة الكسائي، لأنه قد قرأ: (خاتمه مسك).
والقراءة الأولى [معناها]: آخره مسك. وهو اختيار الطبري. قال:
8139
لأنه لا وجه للختم إلا الطبع أو الفراغ، ولا معنى للطبع على شراب أهل الجنة، (إذ شرابهم) جارٍ جَرْيَ المياه في الأنهار ولم يكن مُعَتَّقاً في الدنان فيطبق عليه، فلا يصح معناه إلا في الفراغ. فالمعنى: آخره مسك، كما تقول ختمت القرآن، أي: بلغت آخره.
وقراءة الكسائي (تروى) عن علي بن أبي طالب رضي [الله] عنه. والخِتام: مصدر " خَتَمَ يَخْتِمُ خَتْمَاً وَخِتَامأً "، " والخَاتَمْ " الاسم.
- ثم قال تعالى: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون﴾.
أي: وفي ما تقدم وصفه من النعيم فلتنافس المتنافسون، مأخوذ من الشيء النفيس، وهو العالي الشريف الذي تحرص عليه نفوس الناس وتطلبه وتشتهيه.
8140
والمعنى: وفي ذلك فَلْيَجِدَّ في طلبه المُجِدُّونَ، ولتحرص عليه نفوسهم.
- ثم قال تعالى: ﴿وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المقربون﴾.
أي: ومزاج هذا الرحيق - وهو الخمر التي آخرها مسك - ﴿مِن تَسْنِيمٍ﴾ أي: من عُلُوٍّ ينزل عليهم.
تَسْنِيمٌ: تفعيل، من قول القائل: سَنَمْتُهُمْ العينَ تسنيماً، إذا أجريتها عليهم من فوقهم. ويقال: سمنتُ الماء أسنمه تسنيماً، إذا أخرجته من موضع عال.
وقبرٌ مُسَنَّمٌ، أي: مرتفع. ومنه سنام البعير، وَهُوَ اسْمٌ لمذكر وهو الماء. ولذلك انصرف.
وقال ابن زيد: بلغنا أنها عين تخرج من تحت العرش، فهي مزاج هذا
8141
الخمر.
وقال الضحاك: " هو شراب اسمه تسنيم، وهو من أشرف الشراب ". وعنه أنه قال: ﴿تَسْنِيمٍ﴾: عين تتسنم من أعلى الجنة، ليس في الجنة عين أشرف منها.
فأما انتصاب " عين "، ففيه أقوال:
قال الأخفش: هي منصوبة [بِ " يسقون "] عيناً، (أي): ما [عين].
وقال المبرد: نصبها على إضمار أعني.
وقال الفراء: تقديره: من تسنيم عين، فلما نونت " تسنيماً " [نصبت] عيناً، يقدر نصبه نصب المفعول بمنزلة ﴿يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ﴾ [البلد: ١٥]. وقيل: نصبه على الحال، لأن
8142
" تَسْنِيماً " اسْمٌ لِلْمَاءِ، مَعْرِفَةٌ. و " عين ": نكرة. ومعنى " عَيْن ": جار، كأنه قال: من الماء العالي جارياً، فهي في موضع الحال.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ (مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ)﴾ إلى آخر السورة.
أي: إن الذين اكتسبوا المآثم في الدنيا وكفروا بالله كانوا يضحكون في الدنيا من المؤمنين استهزاء بهم.
(قال قتادة: كانوا يقولون في الدنيا: والله إن هؤلاء لكذبة وما هم/ على شيء، استهزاءً بهم).
- ثم قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ﴾.
أي: وإذا مروا بالمؤمنين غمَز بعضهم بعضاً استهزاءً بالمؤمنين.
- ثم قال تعالى: ﴿وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ﴾.
8143
أي: (وإذا) انقلب المجرمون إلى أهلهم من مجالسهم انقلبوا ناعمين معجبين.
قال ابن عباس: ﴿فَكِهِينَ﴾: " معجبين ".
وقال ابن زيد: انقلبوا ناعمين، ثم أعقبهم الله النار في الآخرة.
ويروى أن أبا جهل وأصحابه ضحكوا واستهزءوا بعلي بن أبي طالب رضي الله عنهـ وأصحابه.
وحكى أبو عبيد عن أبي زيد أن العرب تقول: رجل فكهٌ أي: ضحوكٌ طيب النفس.
- ثم قال تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ﴾.
8144
أي: وإذ رأى المجرمون المؤمنين قالوا: إن هؤلاء الضالونَ عن محجة الحق.
- ثم قال تعالى: ﴿وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ﴾.
أي: وما بعث هؤلاء المجرمون القائلون للمؤمنين: إن هؤلاء لضالون حافظين عليهم أعمالهم رقباء عليهم: إنما كلفوا أنفسهم ليؤمنوا بالله [ورسوله] وكتابه [وليعلموا] بطاعة ربهم.
- ثم قال تعالى: ﴿فاليوم الذين (آمَنُواْ) مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ﴾.
أي: فيوم القيامة يضحك المؤمنون من الكفار على سررهم في الحجال ينظرون.
(وقال ابن عباس: يفتح في السور الذي بين الجنة والنار أبواب، فينظر المؤمنون إلى أهل النار، والمؤمنون على السرر ينظرون) كيف يعذبون، فيضحكون منهم، فيكون ذلك مما أقرَّ الله به أعْيُنَهم كيف ينتقم الله منهم.
8145
وروى قتادة عن كعب أنه قال: ذُكر لنا أن بين الجنة والنار كِواء، إذا أراد المؤمنون أن [ينظروا] إلى عَدُوٍّ لَهُمْ كانوا في الدنيا، [طلعوا] من بعض تلك الكواء [قال الله عز] ﴿فاطلع فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الجحيم﴾ [الصافات: ٥٥]، أي: في وسط النار، ذكر لنا أنه رأى جماجم القوم تغلي.
قال سفيان: [يجاء بالكفار] حتى [ينظروا] إلى أهل الجنة في الجنة على سرر، فحين ينظرون إليهم تغلق دونهم الأبواب (ويضحك) أهل الجنة منهم، فهو قول الله تعالى ذكره:
- ﴿فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ * عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ﴾.
8146
- ثم قال تعالى: -ayah text-primary">﴿هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾.
(أي: هل جوزي الكفار ثواب ما كانوا يفعلون) في الدنيا بالمؤمنين من سخريتهم بهم وضحكهم بهم.
قال مجاهد: الأرائك لؤلؤ وزبرجد؟
وقوله: ﴿يَنظُرُونَ﴾ تَمَامٌ، المعنى ينظرون إلى الكفار وليس ينظرون [﴿هَلْ ثُوِّبَ الكفار﴾] أو لم يجاوزوا. ومعنى ﴿ثُوِّبَ﴾: جوزي.
8147
Icon