تفسير سورة الشعراء

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة الشعراء من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

لجاجهم.. سلّى رسوله - ﷺ - على ذلك بأن قومه ليسوا ببدع في الأمم، وأنه ليس بالأوحد في الأنبياء المكذبين، فقد كذّب موسى من قبلك على ما أتى به من باهر الآيات وعظيم المعجزات، ولم تغن الآيات والنذر، فحاق بالمكذبين ما كانوا به يستهزئون، وأخذهم الله بذنوبهم، وأغرقهم في اليم جزاء اجتراحهم للسيئات، وتكذيبهم بعد ظهور المعجزات ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿طسم (١)﴾ الحروف المقطعة (١) في أوائل السور يجمعها قولك: سر حصين قطع كلامه، وأول ما قال أهل التفسير في حق هذه الحروف: الله أعلم بمراده؛ لأنها من الأسرار الغامضة كما قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: إن لكل كتاب سرًا، وسرّ القرآن في المقطعات.
في "رياض الأذكار": والمعاني المتعلقة بالأسرار والحقائق لا يعلمها إلا الله ومن أطلعه الله عليها من الراسخين في العلم، وهم العلماء بالله، فلا معنى للبحث عن مرتبة ليس للسان حظٌّ منها، ولا للقلم نصيب، وقيل: أقسم الله تعالى به.
وقال أهل الإشارة (٢): هو إشارة إلى طاء طَوْله تعالى في كمال عظمته، وإلى سين سلامته عن كل عيب ونقص، وهو منفرد في تنزهه عنه، وإلى ميم مجده في عزة كرم لا نهاية لها، وإشارة أيضًا إلى طاء طهارة قلب نبيه محمد - ﷺ - عن تعلقات الكونين، وإلى سين سيادته على الأنبياء والمرسلين، وإلى ميم مشاهدته لجمال رب العالمين، وإشارة أيضًا إلى طاء طيران الطائرين بالله، وإلى سين سير السائرين إلى الله، وإلى ميم مشي الماشين لله مشي العبودية، لا مشي التفخر والتكبر.
(١) روح البيان.
(٢) المراح.
ومحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف إن كان اسمًا للسورة كما ذهب إليه الأكثر، أو على أنه مبتدأ خبره محذوف، ويجوز أن يكون في محل نصب بتقدير: اذكر، أو اقرأ. وأما إن كان مسرودًا على نمط التعديد بطريق التحدي فلا محل له من الإعراب.
وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وأبو بكر والمفضّل وحمزة والكسائي وخلف وأبان (١): ﴿طسم (١)﴾ و ﴿طس﴾ النمل بإمالة الطاء فيهما، وقرأ نافع وأبو جعفر وشيبة والزهري بين اللفطين، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، وقرأ الباقون بفتح الطاء مشبعًا، وقرأ المدنيون وأبو عمرو وعاصم والكسائي بإدغام النون من هجاء سين ﴿طسم (١)﴾ في الميم، وقرأ الأعمش وحمزة بإظهارها، قال الثعلبي: الإدغام اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، قال النحاس: وحكى الزجاج في كتابه فيما يجري وما لا يجري: أنه يجوز أن يقال: ﴿طاسين ميم﴾ بفتح النون وضم الميم، كما يقال: هذا معدي كرب، وقرأ عيسى ويروى عن نافع بكسر الميم على البناء، وفي مصحف عبد الله بن مسعود: ﴿ط س م﴾ هكذا حروفًا مقطعة، فيوقف على كل حرف وقفة يتميز بها عن غيره، وكذلك قرأ أبو جعفر.
٢ - ﴿تِلْكَ﴾ مبتدأ، والإشارة به إلى السورة ﴿آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ خبر المبتدأ؛ أي (٢): هذه السورة التي نحن بصددها آيات القرآن الظاهر إعجازه، وصحة أنه كلام الله سبحانه، ولو لم يكن كذلك لقدروا على الإتيان بمثله، ولما عجزوا عن المعارضة، فهو من أبان بمعنى بان أو ظهر، أو المبين للأحكام الشرعية وما يتعلق بها؛ أي: هذه آيات القرآن البيّن الواضح الذي يفصل بين الحق والباطل، والغيّ والرشاد.
٣ - و ﴿لعل﴾ في قوله: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ﴾ للاستفهام (٣) الذى يراد به الإنكار؛
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
أي: أقاتل أنت نفسك يا محمد أسفًا وحزنًا على ﴿أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ بهذا الكتاب المبين. وقال العسكري: إنها للنهي، والمعنى على هذا: لا تبخع نفسك يا محمد ولا تهلكها أسى وحسرة على عدم إيمانهم.
وقيل: إنها على معناها الأصلي؛ أي: للإشفاق؛ أي: الخوف، والله تعالى منزه عنه، فهو بالنسبة إلى النبي - ﷺ -، ولكن الإشفاق هنا بمعنى الأمر. والبخع في الأصل أن يبلغ بالذبح النخاع - بالنون كما في "القاموس" - وهو عرق مستبطن في فقار القفا، والمعنى عليه: أشفق يا محمد على نفسك، وخف أن تقتلها بالحزن بلا فائدة، وهو حث على ترك التأسف، وتصبير وتسلية له - ﷺ -.
وقوله: ﴿أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ مفعول له بحذف المضاف؛ أي: خيفة أن لا يؤمن قريش بذلك الكتاب المبين، فإن الخوف والحزن لا ينفع في إيمان من سبق حكم الله بعدم إيمانه، كما أن الكتاب المبين لم ينفع في إيمانه، فلا تهتمّ فقد بلّغت. والمعنى: لعلك قاتل نفسك لتركهم الإيمان؛ لأنه كان حريصًا على إيمان قومه، شديد الأسف لما يراه من إعراضهم.
وفي "التأويلات النجمية": يشير إلى تأديب النبي - ﷺ -؛ لئلا يكون مفرطًا في الرحمة والشفقة على الأمة، فإنه يؤدي إلى الركون إليهم، وأن التفريط في ذلك يؤدي إلى الفظاظة وغلظ القلب، بل يكون مع الله مع المقبل والمدبر.
وقرأ قتادة وزيد بن علي (١): ﴿باخع نفسك﴾ على الإضافة، وقرأ الباقون بالقطع. ونحو الآية قوله: ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾، وقوله: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (٦)﴾.
٤ - ثم بيّن (٢): أن إيمانهم ليس مما تعلقت به مشيئة الله تعالى، فقال: ﴿إِنْ نَشَأْ﴾ إيمانهم، أي: لو شئنا إيمانهم، وتعلقت به إرادتنا أزلًا ﴿نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على مشركي قومك ﴿مِنَ السَّمَاءِ آيَةً﴾ دالة على كمال قدرتنا، ملجئة لهم إلى الإيمان كإنزال الملائكة، أو بليّة قاسرة عليه كآية من آيات القيامة، ولكن سبق
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
150
القضاء بأنّا لا ننزل ذلك ﴿فَظَلَّتْ﴾؛ أي: فصارت؛ أي: فتظل ﴿أَعْنَاقُهُمْ﴾؛ أي: رقابهم ﴿لَهَا﴾؛ أي: لتلك الآية ﴿خَاضِعِينَ﴾؛ أي: منقادين، فلا يكون أحد منهم يميل عنقه إلى معصية الله تعالى، ولكن لم نفعل؛ لأنه لا عبرة بالإيمان المبني على القسر والإلجاء كالإيمان يوم القيامة. وأصله: فظلوا لها خاضعين، فإن الخضوع صفة أصحاب الأعناق حقيقة، فأقحمت الأعناق لزيادة التقرير ببيان موضع الخضوع، وترك الخبر على حاله. وفيه بيان أن الإيمان والمعرفة موهبة خاصة خارجة عن اكتساب الخلق في الحقيقة، فإذا حصلت الموهبة نفع الإنذار والتبشير، وإلّا فلا، فليبك على نفسه من جبل على الشقاوة.
وقرأ أبو رزين وأبو المتوكل وأبو عمرو في رواية هارون عنه (١): ﴿إن يشأ ينزل﴾ على الغيبة؛ أي: إن يشأ الله ينزل، وفي بعض المصاحف: ﴿لو شئنا لأنزلنا﴾ وقرأ الجمهور: ﴿فَظَلَّتْ﴾ ماضيًا بمعنى المستقبل؛ لأنه معطوف على ﴿نُنَزِّلْ﴾ وقرأ طلحة ﴿فتظلل﴾.
وقال مجاهد وابن زيد والأخفش: معنى ﴿أَعْنَاقُهُمْ﴾: جماعاتهم، يقال: جاءني عنق من الناس؛ أي: جماعة، وقيل: أعناق الناس رؤساؤهم ومقدّموهم شبّهوا بالأعناق، وقيل: أريد به الجارحة، فقال ابن عيسى: هو حينئذ على حذف مضاف؛ أي: أصحاب الأعناق حيث قال: ﴿خَاضِعِينَ﴾، ولم يقل: خاضعة، وقرأ عيسى وابن أبي عبلة: ﴿خاضعة﴾.
ومعنى الآية: أي لو شئنا أن ننزل عليهم من السماء آية تلجئهم إلى الإيمان وتقسرهم عليه، كما نتقنا الجبل فوق قوم موسى حتى صار كالظلة فصار جماعاتهم خاضعين منقادين لها كرها.. لفعلنا، ولكن جرت سنتنا أن يكون الإيمان اختياريًا لا قسريًا، كما قال: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩)﴾.
ومن ثم نفذ قدرنا، ومضت حكمتنا، وقامت حجتنا على الخلق بإرسال
(١) البحر المحيط وزاد المسير.
151
الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم.
والخلاصة: أن القرآن، وإن بلغ في البيان الغاية، غير موصل لهم إلى الإيمان، فلا تبالغ في الأسى والحزن، فإنك إن فعلت ذلك كنت كمن يقتل نفسه، ثم لا ينتفع بذلك، فكما أن الكتاب على وضوحه لم يفدهم شيئًا فحزنك عليهم لا يجدي نفعًا، وقد كان في مقدورنا أن نلجئهم إلى الإيمان إلجاء، ولكن جرت سنتنا أن يكون الإيمان طوعًا لا كرهًا، ومن جرّاء هذا أرسلنا رسلنا بالعظات والزواجر، وأنزلنا الكتب لتهديهم إلى سواء السبيل، لكنهم ضلوا وأضلوا، وما ربك بظلام للعبيد.
٥ - ثم بين شدة شكيمتهم وعدم ارعوائهم عما هم عليه من الكفر والضلال بغير الآيات الملجئة تأكيدًا لصرف رسول الله - ﷺ - عن الحرص على إسلامهم، فقال: ﴿وَمَا يَأْتِيهِمْ﴾؛ أي: أهل مكة وما يجيئهم ﴿مِنْ ذِكْرٍ﴾: ﴿من﴾: زائدة لتأكيد العموم، وفي قوله: ﴿مِنَ الرَّحْمَنِ﴾ ابتدائية؛ أي: بوحيه إلى نبيه، دل (١) هذا الاسم الجليل على أن إتيان الذكر من آثار رحمة الله تعالى على عباده؛ أي: وما يأتي أهل مكة تذكير وموعظة من المواعظ القرآنية مبتدأ مجيئه من الرحمَن ﴿مُحْدَثٍ﴾؛ أي: مجدّد إنزاله لتكرير التذكير وتنويع التقرير، فلا يلزم حدوث القرآن؛ أي: فهو محدث التنزيل، وكلما نزل شيء من القرآن بعد شيء فهو أحدث من الأول، ﴿إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ﴾؛ أي: إلّا جدّدوا إعراضًا عن ذلك الذكر، وعن الإيمان به، وإصرارًا على ما كانوا عليه؛ أي (٢): وما يجدد الله سبحانه لهم بوحيه موعظة وتذكيرًا إلَّا جدّدوا إعراضًا عنه، وكفرًا به. والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال، محله النصب على الحالية من مفعول ﴿يَأْتِيهِمْ﴾ بإضمار قد، وبدونه على الخلاف المشهور في محله؛ أي: ما يأتيهم من ذكر في حال من الأحوال إلّا حال كونهم معرضين عنه.
وقد سبق نظير هذه الآية في سورة الأنبياء. فإن قلت: لم قال هناك {مِنْ
(١) روح البيان.
(٢) النسفي.
ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ}، وقال هنا ﴿مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ﴾؟
قلت: غاير بينهما ليوافق كل ما في سياقه؛ لأنه ذكر هناك: ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾ لموافقة قوله بعد ذلك: ﴿قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ﴾، وقال هنا: ﴿مِنَ الرَّحْمَنِ﴾ ليوافق قوله فيما بعد: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨)﴾؛ لأن الرحمن والرحيم من مادة واحدة، فهما أخوان، اهـ من "فتح الرحمن" بتصرف.
والمعنى: أي (١) وما يجيء هؤلاء المشركون الذين يكذبونك، ويجحدون ما أتيتهم به ذكر من عند ربك لتذكرهم به إلَّا أعرضوا عن استماعه، وتركوا إعمال الفكر فيه، ولم يوجهوا همهم إلى تدبره وفهم أسراره ومغازيه، وما كان أحراهم بذلك، وهم أهل الذكن والفطنة، ولكن طمس الله على قلوبهم فأكثرهم لا يعقلون، وخلاصة ذلك أنه لا يجدّد لهم موعطة وتذكيرًا إلَّا جدّدوا ما هو نقيض ذلك من إعراض وتكذيب واستهزاء.
٦ - ثم أكد إعراضهم بقوله: ﴿فَقَدْ كَذَّبُوا﴾ بالذكر عقب الإعراض، فالفاء للإفصاح؛ أي: جعلوه تارة سحرا، وأخرى شعرًا، ومرة أساطير الأولين؛ أي (٢): فقد كذبوا بالذكر الذي جاءهم تكذيبًا صريحًا، ولم يكتفوا بمجرد الإعراض. وقيل: إن الإعراض بمعنى التكذيب؛ لأن من أعرض عن شيء ولم يقبله فقد كذبه، وعلى هذا فيكون ذكر التكذيب للدلالة على صدور ذلك منهم على وجه التصريح، والأول أولى، فالإعراض عن الشيء عدم الالتفات إليه، ثم انتقلوا عن هذا إلى ما هو أشد منه؛ وهو التصريح بالتكذيب، ثم انتقلوا عن التكذيب إلى ما هو أشد منه؛ وهو الاستهزاء، كما يدل عليه قوله: ﴿فَسَيَأْتِيهِمْ﴾ البتة من غير تخلف أصلًا، والفاء للتفريع؛ أي: لإعراضهم المؤدي إلى التكذيب المؤدّى إلى الاستهزاء يأتيهم ﴿أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾؛ أي: أخبار (٣) الذكر الذي كانوا يستهزئون به، ومآله وعواقبه من العقوبات العاجلة والآجلة التي بمشاهدتها يقفون
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
على حقيقة حال القرآن بأنه كان حقًا أو باطلًا، وكان حقيقًا بأن يصدق ويعظم قدره، أو يكذب فيستخف أمره، كما يقفون على الأحوال الخافية عنهم باستماع الأنباء، وفيه تهويل له؛ لأن النبأ لا يطلق إلّا على خبر خطير له وقع عظيم.
أي: فقد كذب هؤلاء المشركون بالذكر الذي أتاهم من عند الله تعالى، ثم انتقلوا من التكذيب إلى الاستهزاء، وسيحل بهم عاجل العذاب وآجله في الدنيا والآخرة، كما قال ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨)﴾، وقال: ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾، ونحو الآية قوله: ﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٣٠)﴾، وقصارى ذلك أنهم كذبوا بما جئتهم به من الحق، وأنه سيأتيهم لا محالة صدق ما كانوا يستهزئون به من قبل، بلا تدبر ولا تفكير في العاقبة.
٧ - وبعد أن بين أنهم أعرضوا عن الآيات المنزلة من عند ربهم.. ذكر أنهم أعرضوا عن الآيات التي يشاهدونها في الآفاق، فقال: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ الهمزة (١) فيه للإنكار التوبيخي، داخلة على محذوف، والواو عاطفة على ذلك المحذوف؛ أي: أفعل المكذبون من قريش ما فعلوا من الإعراض عن الآيات والتكذيب والاستهزاء بها ولم ينظروا ﴿إِلَى الْأَرْضِ﴾؛ أي: إلى عجائبها الزاجرة عما فعلوا، الداعية إلى الإقبال إلى ما أعرضوا ﴿كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا﴾ بعد أن لم يكن فيها نبات ﴿مِنْ كُلِّ زَوْجٍ﴾؛ أي: جنس ونوع وصنف ﴿كَرِيمٍ﴾؛ أي: حسن من النبات مما يأكل الناس والأنعام.
قال أهل التفسير: ﴿كَمْ﴾: خبرية منصوبة بما بعدها على المفعولية، والجمع بينها وبين ﴿كُلِّ﴾؛ لأن ﴿كُلِّ﴾ للإحاطة بجميع أزواج النبات، و ﴿كَمْ﴾ لكثرة المحاط به من الأزواج. و ﴿مِنْ كُلِّ زَوْجٍ﴾؛ أي: صنف تمييز، والكريم من كل شيء مرضيه ومَحْمُودُه، والمعنى: كثيرًا من كل صنف مرضي كثير المنافع أنبتنا فيها، وتخصيص النبات النافع بالذكر دون ما عداه من أصناف الضارّ، وإن
(١) روح البيان.
كان كل نبت متضمنا لفائدة وحكمة؛ لاختصاصه بالدلالة على القدرة والنعمة معًا.
واعلم: أنه سبحانه كما أنبت من أرض الظاهر كل صنف ونوع من النبات الحسن الكريم، كذلك أنبت في أرض قلوب العارفين كل نبت من الإيمان والتوكل واليقين والإخلاص والأخلاق الكريمة، كما قال عليه السلام: "لا إله إلَّا الله ينبت الإيمان كما ينبت البقل"، قال أبو بكر بن طاهر: أكرم زوج من نبات الأرض آدم وحواء، فإنهما كانا سببًا في إظهار الرسل والأنبياء والأولياء والعارفين. اهـ. وقال الشعبي: الناس من نبات الأرض، فمن دخل الجنة فهو كريم، ومن دخل النار فهو لئيم.
والمعنى: أغفل هؤلاء المشركون وأصروا على ما هم عليه من الكفر بالله، وتكذيب رسوله، ولم يتأملوا في الأرض وكثرة ما فيها من أصناف النبات المختلفة الأشكال والألوان مما يدل على باهر القدرة وعظيم سلطان ذلك العلي الكبير؟!
والخلاصة: كيف اجترؤوا على مخالفة الرسول وتكذيب كتابه، وإلهه هو الذي خلق الأرض، وأنبت فيها الزرع والثمار والكروم على ضروب شتى وأشكال مختلفة تبهر الناظرين، وتسترعي أنظار الغافلين.
٨ - ثم بيّن أنهم قوم فقدوا وسائل الفكر، وعدموا التأمل والنظر في الأكوان، ومن ثم فهم جاحدون، فقال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ الإنبات المذكور، أو في كل واحد من تلك الأصناف ﴿لَآيَةً﴾ عظيمة دالة على كمال قدرة منبتها، وغاية وفور علمه، ونهاية سعة رحمته، موجبة للإيمان، زاجرة عن الكفر ﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ﴾؛ أي: أكثر قوم النبي - ﷺ - ﴿مُؤْمِنِينَ﴾ مع ذلك؛ لغاية تماديهم في الكفر والضلال وانهماكهم في الغي والجهالة.
و ﴿كَانَ﴾ (١) صلة عند سيبويه؛ لأنه لو حمل على معنى ما كان أكثرهم في
(١) روح البيان.
علم الله وقضائه لتوهم كونهم معذورين في الكفر بحسب الظاهر، وبيان موجبات الإيمان من جهته تعالى يخالف ذلك.
قال بعضهم: قوله تعالى: ﴿إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ...﴾ الآية، ونظائره يدل على المعنى الثاني، ولا يلزم من ذلك المعذورية؛ لأنهم صرفوا اختيارًا إلى جانب الكفر والمعصية، وكانوا في العلم الأزلي غير مؤمنين بحسب اختيارهم ونسبة عدم الإيمان إلى أكثرهم؛ لأن منهم من سيؤمن.
والمعنى (١): أنّ في ذلك الإنبات على هذه الأوضاع البديعة لدلالات لأولي الألباب على قدرة خالقه على البعث والنشور، فإن من أنبت الأرض بعد جدبها، وجعل فيها الحدائق الغنّاء والأشجار الفيحاء لن يعجزه أن ينشر فيها الخلائق من قبورهم، ويعيدهم سيرتهم الأولى، ولكن أكثر الناس غفلوا عن هذا، فجحدوا بها وكذبوا بالله ورسله وكتبه، وخالفوا أوامره، واجترحوا معاصيه، ولله درّ القائل:
تَأَمَّلْ فِيْ رِيَاضِ الْوَرْدِ وَانْظُرْ إِلَى آثَارِ مَا صَنَعَ الْمَلِيْكُ
عُيُوْنٌ مِنْ لُجَيْنٍ شَاخِصَاتٌ عَلَى أَهْدَابِهَا ذَهَبٌ سَبِيْكُ
عَلَى قُضُبِ الزَّبَرْجَدِ شَاهِدَاتٌ بِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ شَرِيْكُ
والخلاصة: أن في هذا وأمثاله لآية عظيمة، وعبرة جليلة دالة على ما يجب الإيمان به، ولكن ما آمن أكثرهم مع موجبات الإيمان، بل تمادوا في الكفر والضلالة، وانهمكوا في الغي والضلالة، وفي هذا ما لا يخفى من تقبيح حالهم، وبيان سوء مآلهم.
٩ - ثم بشّره بنصره وتأييده وغلبته لأعدائه، وإظهاره عليهم، فقال: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ﴾ يا محمد ﴿لَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ الغالب القادر على الانتقام من الكفرة ﴿الرَّحِيمُ﴾ المبالغ في الرحمة، ولذلك يمهلهم، ولا يأخذهم بغتة. وقال في "كشف الأسرار": يرحم المؤمنين الذين هم الأقل بعد الأكثر. وفي "التأويلات النجمية": بعزته قهر الأعداء العتاة، وبرحمته ولطفه أدرك أولياءه بجذبات العناية. اهـ.
(١) المراغي.
والمعنى: أي وإن ربك أيها الرسول الكريم لهو الغالب على أمره، والقادر على كل ما يريد وسينتقم لك من هؤلاء المكذبين على تكذيبهم بك، وإشراكهم بي، وعبادتهم للأوثان والأصنام، وهو ذو الرحمة الواسعة بمن تاب من كفره ومعصيته، فلا يعاقبه على ما سلف من جرمه بعد توبته، بل يغفر له حوبته.
والخلاصة: أن ربك عزَّ كل شيء وقهره، ورحم خلقه، فلا يعجل بعقاب من عصاه، بل يؤجله وينظره لعله يرعوي عن غيه، فإن تمادى أخذه أخذ عزيز مقتدر.
وهذه الآية كرّرها (١) في ثمانية مواضع: أولها في قصة موسى، ثم إبراهيم، ثم نوح، ثم هود، ثم صالح، ثم لوط، ثم شعيب، ثم في ذكر نبينا - ﷺ -، وإن لم يذكر صريحًا إشارة إلى أنه منتقم من أعدائه، ورحيم بأوليائه في كل زمان، وفي كل أمة من الأمم السالفة واللاحقة.
قصص موسى عليه السلام
١٠ - وجملة قوله: ﴿وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى...﴾ إلخ مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها من الإعراض والتكذيب والاستهزاء، والعامل في الظرف محذوف تقديره: واذكر يا محمد لقومك قصة وقت ندائه تعالى وكلامه موسى؛ أي: ليلة رأي الشجرة والنار حين رجع من مدين، وذكرهم يا محمد بما جرى مع قوم فرعون بسبب تكذيبهم إياه، وحذّرهم أن يصيبهم مثل ما أصابهم.
و ﴿أَنِ﴾ في قوله: ﴿أَنِ ائْتِ﴾ مفسرة بمعنى: أي، والإتيان (٢): المجيء بسهولة، والمعنى: وإذ قال ربك يا موسى ائت ﴿الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ أنفسهم بالكفر والمعاصي، واستعباد بني إسرائيل وذبح أبنائهم، وكان بنو إسرائيل في ذلك الوقت ست مئة ألف وثلاثين ألفًا، ومدة استعبادهم أربع مئة سنة ﴿قَوْمَ فِرْعَوْنَ﴾ بدل من ﴿الْقَوْمَ﴾، أو عطف بيان له، والاقتصار على القوم؛ للإيذان بشهرة أن
(١) فتح الرحمن.
(٢) روح البيان.
فرعون أول داخل في الحكم.
والمعنى (١): واذكر يا محمد لأولئك المعرضين المكذبين وقت ندائه تعالى موسى عليه السلام من جانب الطور الأيمن، وأمره له بالذهاب إلى أولئك القوم الظالمين لأنفسهم بالكفر والمعاصي، والظالمين لبني إسرائيل باستعبادهم وذبح أبنائهم، قوم فرعون ذي الجبروت والطغيان والعتوّ والبهتان؛ ليكون لهم في ذلك عبرة، لو تذكروا فيرعووا عن غيهم، ويثوبوا إلى رشدهم حتى لا يحيق بهم ما حاق بأولئك المكذبين من قبلهم؛ إذ ابتلعهم اليمّ، وأغرقوا جميعًا، ولا شك أن الأمر بذكر الوقت إنما هو ذكر لما جرى فيه من القصة كما أشرنا إليه آنفًا.
١١ - ثم اتبع ذكر إرساله عليه السلام بإنذارهم وتسجيل الظلم عليهم، وتعجيب موسى من حالهم التي بلغت غاية الشناعة، ومن أمنهم العواقب، وقلة خوفهم وحذرهم من أيام الله تعالى، فقال: ﴿أَلَا يَتَّقُونَ﴾؛ أي: قال الله سبحانه لموسى: ألا يتقي هؤلاء القوم ربهم، ويحذرون عاقبة بغيهم وكفرهم به. وهذا (٢) استئناف لا محل له من الإعراب. و ﴿أَلَا﴾: حرف تحضيض على الفعل؛ أعني: التقوى، أتبعه إرساله إليهم إنذارًا لهم، وتعجيبًا من غلوهم في الظلم وإفراطهم في العدوان؛ أي: ألا يخافون الله، ويصرفون عن أنفسهم عقابهم بالإيمان والطاعة. وقيل: المعنى: قل لهم: ألا تتقون. وجاء بالياء التحتية؛ لأنهم غيبٌ وقت الخطاب.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿أَلَا يَتَّقُونَ﴾ بالياء على الغيبة، وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار وشقيق بن سلمة وحماد بن سلمة وأبو قلابة وعبيد بن دمير وأبو حازم بتاء الخطاب على طريقة الالتفات إليهم إنكارًا وغضبًا عليهم وإن لم يكونوا حاضرين؛ لأنه مبلغهم ذلك ومكافحهم، قال ابن عطية: معناه: قل لهم، فجمع في هذه العبارة من المعاني نفي التقوى عنهم، وأمرهم بالتقوى اهـ.
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
١٢ - ﴿قَالَ﴾؛ أي: موسى إظهارًا لعجزه، وطلبًا للمعونة، وهذا (١) استئناف بياني، أنه قيل: فماذا قال موسى؟ فقيل: قال موسى تضرعًا إلى الله تعالى يا ﴿رَبِّ إِنِّي أَخَافُ﴾ والخوف توقع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة ﴿أَنْ يُكَذِّبُونِ﴾؛ أي: أن ينكروا نبوتي وما أقول من أول الأمر. قال بعضهم: خوفه كان شفقة عليهم، وأصله يكذبوني، فحذفت ياء المتكلم استغناء بكسر نون الوقاية، ومثلها (٢): ﴿أَنْ يَقْتُلُونِ﴾، ﴿سَيَهْدِينِ﴾، ﴿فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ [الشعراء: ٧٨]، ﴿وَيَسْقِينِ﴾ [الشعراء: ٧٩]، ﴿فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [الشعراء: ٨٠]، ﴿ثُمَّ يُحْيِينِ﴾، ﴿وَأَطِيعُونِ﴾ [الشعراء: ١٠٨]، ﴿كَذَّبُونِ﴾ [الشعراء: ١١٧]، فهذه ثمان آيات أثبت الياء في جميعها يعقوب في الحالين.
١٣ - ﴿وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي﴾ معطوفان على ﴿أَخَافُ﴾؛ أي: يضيق صدري لتكذيبهم إياي، ولا ينطلق لساني بتأدية الرسالة، واللسان: الجارحة وقوّتها. قال تعالى: ﴿وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (٢٧)﴾ يعني من قوة لساني، فإن العقدة لم تكن في الجارحة، وإنما كانت في قوّتها التي هي النطق بها كما في "المفردات"، والمراد هنا القوّة التي هي النطق.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿وَيَضِيقُ﴾ و ﴿لا ينطلق﴾ بالرفع فيهما عطفًا على ﴿أَخَافُ﴾، فالمعنى: أنه يفيد ثلاث علل: خوف التكذيب، وضيق الصدر، وامتناع انطلاق اللسان، أو على الاستئناف، وقرأ الأعرج وطلحة وعيسى وزيد بن علي وأبو حيوة وزائدة عن الأعمش ويعقوب بنصبهما عطفًا على ﴿يُكَذِّبُونِ﴾، فيكون التكذيب وما بعده يتعلق بالخوف، قال الفرّاء: كلا القراءتين له وجه، قال النحاس: الوجه الرفع؛ لأن النصب عطف على ﴿يُكَذِّبُونِ﴾، وهذا بعيد اهـ. وحكى أبو عمرو الداني عن الأعرج أنه قرأ بنصب ﴿وَيَضِيقُ﴾ ورفع ﴿وَلَا يَنْطَلِقُ﴾، وعدم انطلاق اللسان هو بما يحصل من الخوف وضيق الصدر؛ لأن اللسان إذ
(١) روح البيان.
(٢) زاد المسير.
(٣) البحر المحيط.
ذاك يتلجلج، ولا يكاد يبين عن مقصود الإنسان. وقال ابن عطية: وقد يكون عدم انطلاق اللسان بالقول لغموض المعاني التي تطلب لها ألفاظ محررة، فإذا كان هذا في وقت ضيق الصدر لم ينطلق اللسان.
ومعنى الآية: أي (١) قال موسى: رب إني أخاف تكذيبهم إياي، فيضيق صدري تأثرًا منه، ولا ينطلق لساني بأداء الرسالة، بل يتلجلج بسبب ذلك كما يرى كثيرًا من ذوي اللسن والبلاغة إذا اشتدّ بهم الغمّ، وضاق منهم الصدر. تلجلجت ألسنتهم حتى لا تكاد تبين عن مقصدهم.
وفي هذا (٢): تمهيد العذر في استدعاء عون له على الامتثال وإقامة الدعوة على أتم وجه، فإن ما ذكر ربما أوجب الإخلال بالدعوة، وعدم إلزام الحجة، ومن ثم قال: ﴿فَأَرْسِلْ﴾ جبريل ﴿إِلَى﴾ أخي ﴿هَارُونَ﴾ ليكون رسولًا مصاحبًا لي في دعوة فرعون وقومه، فإنه أفصح منى لسانًا، وكان هارون إذ ذاك بمصر، وموسى في المناجاة في الطور.
١٤ - ثم ذكر سببًا آخر في الحاجة إلى طلب العون، وهو خوفه أن يقتل قبل تبليغ الرساله، فقال: ﴿وَلَهُمْ﴾؛ أي: لقوم فرعون ﴿عَلَيَّ﴾؛ أي: بذمتي ﴿ذَنْبٌ﴾؛ أي: جزاء ذنب وموجبه، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، والمراد به: قتل القبطي الذي هو خبّاز فرعون بالوكزة التي وكزها دفعًا عن القبطي، وإنما سماه ذنبًا على زعمهم ﴿فَأَخَافُ﴾ إن أتيتهم وحدي ﴿أَنْ يَقْتُلُونِ﴾ بمقابلته قبل أداء الرسالة كما ينبغي، فيفوت المقصود من الرسالة، وأما هارون فليس له هذا الذنب، وفيه دليل على أن الخوف قد يحصل مع الأنبياء فضلًا عن الفضلاء.
قال بعضهم (٣): ليس بعجب طريان خوف الطبيعة وصفات البشرية على الأنبياء، فالقلب ثابت على المعرفة. واعلم أن هذا وما قبله ليس تعللًا وتوقفًا من جانب موسى، وتركًا للمسارعة إلى الامتثال، بل هو استدفاع للبلية المتوقعة قبل
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
وقوعها، واستظهار في أمر الدعوة، وحقيقته: أن موسى عليه السلام أظهر التلوين من نفسه ليجد التمكين من ربه وقد أمنه الله،
١٥ - وأزال عنه كل كلفة حيث ﴿قَالَ﴾ تعالى ﴿كَلَّا﴾؛ أي: ارتع عما تظن يا موسى، فإنهم لا يقدرون على قتلك به؛ لأني لا أسلطهم عليك، بل أسلطك عليهم ﴿فَاذْهَبَا﴾؛ أي: اذهبب أنت والذي طلبت وهو هارون، فالخطاب إليهما على تغليب الحاضر، وفي ضمن هذا الجواب دليل على إجابة موسى إلى ما طلبه من ضم أخيه إليه؛ أي: إذهبا ولا تخافا من القبط حال كونكما متلبسين ﴿بِآيَاتِنَا﴾ التسع التي هي دلائل القدرة، وحجة النبوة، وهو رمز إلى دفع ما يخافه ﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾ تعليل للردع عن الخوف، ومزيد تسلية لهما بضمان كمال الحفظ والنصرة، وأجراهما مجرى الجمع حيث قال: ﴿مَعَكُمْ﴾؛ لكون الاثنين أقل الجمع على ما ذهب إليه بعض الأئمة، أو لكونه أراد موسى وهارون وفرعون وقومه، فمع موسى وهارون بالنصر والعون، ومع فرعون بالقهر والكسر، أو لكون المراد هما مع بني إسرائيل. و ﴿مَعَكُمْ﴾ خبر أول لـ ﴿إن﴾ ﴿مُسْتَمِعُونَ﴾؛ خبر ثان لها، أو هو الخبر وحده، و ﴿مَعَكُمْ﴾ ظرف لغو متعلق به، وحقيقة الاستماع طلب السمع بالإصغاء، وهو تعالى منزه عن ذلك، فاستعير للمسمع الذي هو مطلق إدراك الحروف والأصوات من غير إصغاء.
والمعنى: سامعون لما يجري بينكما وبينه، فأظهركما عليه. مثَّل حاله سبحانه بحال ذي شوكة قد حضر مجادلة قوم يسمع ما يجري بينهم؛ ليمدّ الأولياء منهم، ويظهرهم على الأعداء مبالغة في الوعد بالإعانة، وجعل الكلام استعارة تمثيلية؛ لكون وجه الشبه هيئة منتزعة من عدة أمور، كما سيأتي في مبحث البلاغة.
١٦ - ﴿فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ﴾؛ أي: فائت أنت وأخوك هارون فرعون اللعين؛ وهو (١) الوليد بن مصعب، وكنيته أبو العباس. وقيل: اسمه مغيث، وكنيته أبو مرّة. قيل: إنه عاش أربع مئة وستين سنة. وقيل فوق ذلك ﴿فَقُولَا لَهُ﴾؛ أي: لفرعون ﴿إِنَّا﴾؛ أي: إنّ كل واحد منا ﴿رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ إليك وإلى قومك. وإفراد الرسول لاتحادهما بسبب الأخوة واتفاقهما على شريعة واحدة، أو لأن المعنى:
(١) روح البيان.
أن كل واحد منا رسول رب العالمين. وعبارة "النسفي" هنا (١): ولم يثنّ الرسول هنا كما ثنّى في قوله: ﴿إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ﴾؛ لأن الرسول يكون بمعنى المرسل، وبمعنى الرسالة، فجعل ثمة بمعنى المرسل، فلم يكن بدّ من تثنيته، وجعل هنا بمعنى الرسالة، فيستوي في الوصف به الواحد والتثنية والجمع، كقول الشاعر:
لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُوْنَ مَا فُهْتُ عِنْدَهُمْ بِسِرٍّ وَلاَ أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُوْلِ
أي: برسالة، ولكن لا بد من تقدير مضاف على هذا التأويل، والتقدير: إنّا ذووا رسالة رب العالمين، أو لأنهما لاتحادهما واتفاقهما على شريعة واحدة كأنهما رسول واحد، أو أريد أن كل واحد منا. اهـ انتهت بزيادة من "البيضاوي".
١٧ - و ﴿أَنْ﴾ في قوله: ﴿أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٧)﴾ مفسرة بمعنى: أي؛ لتضمن (٢) الإرسال المفهوم من الرسول معنى القول، والإرسال هنا التخلية والإطلاق، أي: أطلقهم وخلّ سبيلهم حتى يسيروا معنا إلى فلسطين، وكانت مسكن آبائهم، وكان فرعون استعبدهم أربع مئة سنة، وكانوا في ذلك الوقت ست مئة وثلاثين ألفًا، فانطلق موسى من محل المناجاة جبل الطور إلى مصر، وهارون كان بها، فلما تلاقيا ذهبا إلى باب فرعون ليلًا، ودقّ موسى الباب بعصاه، ففزع البوابون، وقالوا: من بالباب؟ فقال موسى: أنا رسول رب العالمين، فذهب البواب إلى فرعون، فقال: إن مجنونًا بالباب يزعم أنه رسول رب العالمين، فأذن له في الدخول من ساعته - كما قاله السدي - أو ترك حتى أصبح ثم دعاهما، فدخلا عليه، وأدّيا رسالة رب العالمين.
وقال قتادة: إنهما انطلقا إلى باب فرعون فلم يؤذن لهما سنة، حتى قال البوّاب: هاهنا إنسان يزعم أنه رسول رب العالمين، فقال: ائذن له حتى نضحك منه، فأدّيا إليه الرسالة.
وروى وهب وغيره (٣): أنهما لمّا دخلا على فرعون وجداه وقد أخرج
(١) النسفي.
(٢) روح البيان.
(٣) القرطبي.
سباعًا من أسد ونمور وفهود يتفرج عليها، فخاف سوّاسها أن تبطش بموسى وهارون، فأسرعوا إليها، وأسرعت السباع إلى موسى وهارون، فأقبلت تلحس أقدامهما، وتُبصبِصُ إليهما بأذنابها، وتلصق خدودها بفخذيهما، فعجب فرعون من ذلك. فقال: من أنتما؟ قالا: إنا رسول رب العالمين، فعرف موسى؛ لأنه نشأ في بيته، فشتمه،
١٨ - فعند ذلك ﴿قَالَ﴾ فرعون لموسى على سبيل الامتنان: ﴿أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا﴾؛ أي: في منازلنا وحجرنا حالة كونك ﴿وَلِيدًا﴾؛ أي: طفلًا صغيرًا، سمّي الصبي وليدًا لقربه من الولادة، وهو فعيل بمعنى مفعول، والاستفهام فيه للتقرير؛ أي: ألم تكن صغيرًا، فربّيناك في منازلنا وبيوتنا، ولم نقتلك في جملة من قتلنا ﴿وَلَبِثْتَ﴾؛ أي: جلست ﴿فِينَا﴾؛ أي: بيوتنا ﴿مِنْ عُمُرِكَ﴾ حال من ﴿سِنِينَ﴾؛ أي: جلست في بيوتنا سنين من عمرك وحياتك، وأنعمنا عليك ردحًا من الزمن، ثم تقابل الإحسان بكفران النعمة، وتواجهنا بمثل تلك المقالة، فمتى هذا الذي تدّعيه.
روي (١): أنه لبث فيهم ثماني عشرة سنة، وقيل: ثلاثين سنة، ثم خرج إلى مدين وأقام بها عشر سنين، ثم عاد إليهم يدعوهم إلى الله تعالى ثلاثين سنة، ثم بقي بعد الغرق خمسين سنة، فيكون عمر موسى مئة وعشرين سنة. قال الراغب: العمر اسم لمدة عمارة البدن بالحياة قليلة أو كثيرة كما سيأتي.
وقرأ أبو عمرو في رواية: ﴿من عمرك﴾ بإسكان الميم.
١٩ - ثم قرر بقتل القبطي، فقال: ﴿وَفَعَلْتَ﴾ يا موسى ﴿فَعْلَتَكَ﴾ القبيحة ﴿الَّتِي فَعَلْتَ﴾ ببعض خواصي. والفعلة - بالفتح - المرة الواحدة. يعني: قتل القبطي الذي كان خباز فرعون، واسمه: فاتون.
وبعدما عدد نعمته عليه من تربيته وتبليغه مبلغ الرجال.. نبهه بما جرى عليه من قتل خبازه وعظمه. قال ابن الشيخ: تعظيم تلك الفعلة يستفاد من عدم التصريح باسمها الخاص، فإن تنكير الشيء وإبهامه قد يقصد به التعظيم، وقوله:
(١) روح البيان.
﴿وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ حال من إحدى التاءين؛ أي: والحال أنك من المنكرين لنعمتي، والجاحدين لحق تربيتي، حيث عمدت إلى رجل من خواصي، والمعنى: فجازيتنا على أن ربيناك أن كفرت نعمتنا، وقتلت منا نفسًا.
وقرأ الجمهور (١): ﴿فَعْلَتَكَ﴾ - بفتح الفاء - إذ كانت وكزة واحدة، وقرأ الشعبي بكسر الفاء يريد الهيئة؛ لأن الوكزة نوع من القتل.
وخلاصة ما سلف (٢): أنه عدد نعماءه عليه أولًا من تربيته وإبلاغه مبلغ الرجال، ثم بتوبيخه بما جرى على يديه من قتل خبازه، وهو من خواصه، وهو بهذا أيضًا يكون قد كفر نعمته وجحد فضله،
٢٠ - فأجاب موسى عن الأمر الثاني، وترك أمر التربية؛ لأنها معلومة مشهورة، ولا دخل لها في توجيه الرسالة، فإن الرسول إذا كان معه حجة ظاهرة على رسالته تقدم بها إلى المرسل إليهم سواء أكانوا أنعموا عليه أم لم ينعموا ﴿قَالَ﴾ موسى ﴿فَعَلْتُهَا﴾؛ أي: تلك الفعلة ﴿إِذًا﴾؛ أي: حين فعلت، وهو حرف جواب فقط؛ لأن ملاحظة المجازاة هاهنا بعيدة؛ أي: قال موسى مجيبًا لفرعون: فعلت هذه الفعلة التي ذكرت، وهي قتل القبطي وأنا إذ ذاك ﴿مِنَ الضَّالِّينَ﴾؛ أي: من الجاهلين بأن وكزتي تأتي على نفسه، فإني إنما تعمدت الوكز للتأديب، لا القتل، فأدى ذلك إلى القتل. وقيل: ﴿مِنَ الضَّالِّينَ﴾ عن طريق الصواب، وقيل: من المخطئين.
وقرىء (٣): ﴿من الجاهلين﴾ والمعني: من الفاعلين فعل أولي الجهل والسفه، أو من المخطئين؛ لأنه لم يتعمد قتله، أو من الذاهلين عما يؤول إليه الوكز؛ لأنه أراد به التأديب، أو الناسين، نظير قوله: ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا﴾. وقيل: المعنى: من الضالين عما أتاني الله بعدها من العلم والرسالة، وربأ بمحل النبوة عن تلك الصفة التي أطلقها عليه فرعون، وهي قوله له: ﴿وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾، فقال: ﴿مِنَ الضَّالِّينَ﴾؛ أي: من المخطئين كمن يقتل خطأ من غير تعمد للقتل.
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٣) البيضاوي.
٢١ - ﴿فَفَرَرْتُ﴾؛ أي: ذهبت من بيتكم هاربًا ﴿مِنْكُمْ﴾ إلى مدين حذرًا على نفسي ﴿لَمَّا خِفْتُكُمْ﴾ أن تصيبوني بمضرة، وتؤاخذوني بما لا أستحقه بجنايتي من العقاب؛ لأني قتلت القتيل خطأ، وأنا ابن اثنتي عشرة سنة مع كونه كافرًا، وروي عن حمزة: ﴿لما خفتكم﴾ - بكسر اللام، وبما المصدرية - أي: لتخوفي منكم، وقرأ الجمهور بتشديد الميم ظرفًا بمعنى حين.
﴿فَوَهَبَ لِي رَبِّي﴾ حين رجعت من مدين ﴿حُكْمًا﴾؛ أي: علمًا وفهمًا، أو نبوةً، وقال الزجاج: المراد بالحكم تعليمه التوراة التي فيها حكم الله ﴿وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ إليكم بعد تلك الفعلة. وفي "فتح الرحمن" ﴿حُكْمًا﴾؛ أي: نبوة، ﴿وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ درجة ثانية للنبوة، فرب نبي ليس برسول، وقرأ عيسى: ﴿حُكُمًا﴾ - بضم الكاف - والجمهور بالإسكان، والحكم: النبوة.
والمعنى: أي فخرجت هاربًا منكم حين توقعت مكروهًا يصيبني حين قيل لي: ﴿إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ﴾ فوهب لي ربي علمًا بالأشياء على وجه الصواب، وجعلني من المرسلين من قبله لهداية عباده، وإرشادهم إلى النجاة من العذاب.
وخلاصة ما قال (١): إن القتل الذي توبخني به لم يكن مقصودًا لي، بل كنت أريد بوكزه التأديب فحسب، فلا أستحق التخويف الذي أوجب فراري، وإن أنتم أسأتم إلى فقد أحسن إلى ربي فوهب لي فهم الأمور على حقائقها، وجعلني من زمرة عباده المخلصين.
٢٢ - ثم بين له أنه وإن أسدى النعمة إليه فقد أساء إلى شعبه عامة، فقال: ﴿وَتِلْكَ﴾؛ أي: التربية المدلول عليها بقوله: ﴿أَلَمْ نُرَبِّكَ﴾ ﴿نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ﴾؛ أي: تمن بها عليّ ظاهرًا، وهي في الحقيقة ﴿أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾؛ أي: وسبب (٢) تلك النعمة في الحقيقة تعبيدك بني إسرائيل، وقصدك إياهم بذبح أبنائهم؛ أي: فإن السبب في وقوعي عندك، وحصولي في تربيتك تعبيدك بني إسرائيل، يعني:
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
165
لو لم يفعل فرعون ذلك؛ أي: قهر بني إسرائيل وذبح أبناءهم.. لتكفلت أم موسى بتربيته، ولما قذفته في اليم، حتى يصل إلى فرعون، ويربى بتربيته، فكيف يمتن عليه بما كان بلاؤه سببًا له، فقوله: ﴿تِلْكَ﴾: مبتدأ، و ﴿نِعْمَةٌ﴾: خبرها، و ﴿تَمُنُّهَا عَلَيَّ﴾: صفة، و ﴿أَنْ عَبَّدْتَ﴾: خبر مبتدأ محذوف؛ أي: وهي في الحقيقة تعبيد قومى، يقال: عبدته إذا أخذته وقهرته وذللته.
رد موسى عليه السلام أولًا ما وبخه فرعون قدحًا في نبوته، ثم يرجع إلى ما عده عليه نعمة، ولم يصرح برده حيث كان صدقًا غير قادح في دعواه، بل نبه على أن ذلك كان في الحقيقة نقمة لكونه مسببًا عنها، وهي تعبيد بني إسرائيل وذبح أبنائهم.
وقرأ الضحاك (١): ﴿وتلك نعمة ما لك أن تمنها﴾، وهذه قراءة تؤيد هذا التأويل، وهذا التأويل فيه مخالفة لفرعون، ونقض كلامه كله. وقيل: هذا الكلام إقرار من موسى عليه السلام بالنعمة، كأنه يقول: وتربيتك لي نعمة علي من حيث أن عبدت غيري، وتركتني واتخذتني ولدًا، ولكن لا يدفع ذلك رسالتي، وإلى هذا التأويل ذهب السدي والطبري. وقيل: الكلام على تقدير (٢) همزة الاستفهام الإنكاري، والمعنى: أتمن علي أن ربيتني، وتنسى جنايتك على بني إسرائيل بالاستعباد والمعاملات القبيحة، أو يريد: كيف تمن علي بالتربية وقد استعبدت قومي، ومن أهين قومه فقد ذل، فتعبيد بني إسرائيل قد أحبط حسناتك إلي؛ ولو لم تستعبدهم، ولم تقتل أولادهم.. لم أرفع إليك حتى تربيني وتكفلني، ولكان من أهلي من يربيني، ولم يلقوني في اليم.
وخلاصة ذلك (٣): أفي إحسانك إلى رجل منهم بما أسألت به إلى مجموعهم؟ فهو ليس بشيء إذا قيس بما فعلته بالشعب أجمع، وكأنه قال: إن هذا ليس بنعمة؛ لأن الواجب عليك أن لا تقتلهم، ولا تستعبدهم، فإنهم قومي،
(١) البحر المحيط.
(٢) البيضاوي.
(٣) المراغي.
166
فكيف تذكر إحسانك إليّ على الخصوص، وتنسى استعباد الشعب كله.
٢٣ - ولما دخل موسى وهارون على فرعون، وقالا له: إنا رسولا رب العالمين، أرسلنا إليك لهدايتك إلى الحق، وإرشادك إلى طريق الرشد، وغلباه بالحجة.. رجع فرعون إلى معارضة موسى في قوله: ﴿رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ كما بينه سبحانه بقوله: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ﴾ لموسى: إنك تدعي أنك رسول رب العالمين ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ ﴿ما﴾: استفهامية؛ أي: أي شيء رب العالمين الذي تزعم أنك رسوله، وما حقيقته الخاصة، ومن أي جنس هو؟ منكرًا لأن يكون للعالمين رب سواه؛ إذ كان قد قال لقومه: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾، ولم يقل فرعون: ومن رب العالمين؛ لأنه كان منكرًا لوجود الرب، فلا ينكر عليه التعبير بـ ﴿مَا﴾؛ أي (١): يستوصفه إلهه الذي أرسله إليه، وهو سؤال عن جنس الشيء، والله تعالى منزه عن الجنسية والماهية،
٢٤ - فلهذا عدل موسى عن جوابه، وأجابه بذكر أفعاله وآثار قدرته التي تعجز الخلائق عن الإتيان بمثلها، كما بينه سبحانه بقوله: ﴿قَالَ﴾ موسى مجيبًا له بما يصح في وصفه تعالى رب العالمين الذي أرسلني هو سبحانه ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾؛ أي: وما بين النوعين من الهواء؛ أي: هو خالق العالم العلوي، وما فيه من الكواكب الثوابت والسيارات النيرات والعالم السفلي، وما فيه من بحار وقفار، وجبال وأشجار، وحيوان ونبات، وما بين ذلك من هواء وطير ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾ أنه خالقهما، فاعرفوا أنه لا يمكن تعريفه إلا بما ذكرته لكم، فإن أيقنتم بذلك لزمكم أن تقطعوا أنه لا جواب لكم عن هذا السؤال إلا ما ذكرته من الجواب.
والإيقان (٢): العلم الذي يستفاد بالاستدلال، ولذا لا يقال: الله موقن، فمعنى العلم بالله العلم به من حيث الارتباط بينه وبين الخلق، وإنشاء العالم منه بقدر الطاقة البشرية؛ إذ منه ما لا توفيه الطاقة البشرية، وهو ما وقع فيه الكمَّل في ورطة الحيرة، وأقروا بالعجز عن حق المعرفة. فإن قلت: كيف علق كونه رب
(١) الخازن.
(٢) النسفي.
السموات والأرض يكون فرعون وقومه موقنين، مع أن هذا الشرط منتف والربوبية ثابتة؟
قلت: معناه: إن كنتم موقنين أن السموات والأرض موجودات، وهذا الشرط موجود. أو المعنى (١): إن كنتم موقنين بالأشياء المحققين لها بالنظر الصحيح الذي يؤدّي إلى الإيقان.. علمتم أن العالم عبارة عن كل ما يعلم به الصانع من السموات والأرض وما بينهما، وأن ربها هو الذي خلقها، ورزق من فيها، ودبر أمورها، فهذا تعريفه، وجواب سؤالكم لا غير، والخطاب في ﴿كُنْتُمْ﴾ لفرعون وأشراف قومه الحاضرين؛ وهم القبط.
٢٥ - فلما قال ذلك موسى عجب فرعون من كلام موسى، والتفت إلى الملأ حوله معجبًا لهم من ذلك المقال، ومتحيرًا فيه، كما بيّنه سبحانه بقوله: ﴿قَالَ﴾ فرعون ﴿لِمَنْ حَوْلَهُ﴾، من أشراف قومه القبطيين، قال ابن عباس: كانوا خمس مئة رجل، عليهم الأساور التي لا يلبسها إلا السلاطين ﴿أَلَا تَسْتَمِعُونَ﴾ ما يقول في جوابه، فقد سألته عن حقيقته، وهو يذكر أفعاله وآثاره، أو (٢) لأنهم يزعمون قدمهما، وينكرون حدوثهما، وأن لهما ربًا،
٢٦ - فاحتاج موسى إلى أن يستدل بما شاهدوا حدوثه وفناءه، فاستدل به فـ ﴿قَالَ﴾ موسى - زيادة في البيان، وحطًا له عن مرتبة الربوبية إلى مرتبة المربوبية؛ لأنه كان يدّعي الربوبية -: رب العالمين هو ﴿رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ﴾؛ أي: خالقكم وخالق آبائكم الأولين. قيل (٣): إن فرعون كان يدّعي الربوبية على أهل عصره وزمانه، فلم يدع ذلك على من كان قبله، فبين بهذه الآية أن المستحق للربوبية هو رب كل عصر وزمان.
وقد انتقل (٤) بهم موسى من النظر في الآفاق وما فيها من باهر الأدلة إلى النظر في الأنفس وما فيها من عجيب الصنع، فإن التناسل المستمر في النبات
(١) روح البيان.
(٢) النسفي.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
والحيوان والإنسان وما فيها من العجائب لأوضح دلالة من النظر في الآفاق.
٢٧ - ولما لم يستطع ردًا لما جاء به، وخاف من قومه تأثرًا بما يقول موسى أورد ما يشكك قومه في حسن تقديره للأمور، وفهمه لما يقول، فـ ﴿قَالَ﴾؛ أي: فرعون من سفاته، وصرفًا لقومه عن قبول الحق، مخاطبًا لخاصة قومه، وعليهم أقبية الديباج مخوصة بالذهب: ﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾؛ أي: لا عقل له؛ إذ يقول قولًا لا نعرفه ولا نفهمه، فهو يدعي أن ثمة إلهًا غيري، وسماه رسولًا على السخرية، وأضافه إلى مخاطبيه ترفعًا من أن يكون مرسلًا إلى نفسه.
وقرأ مجاهد وحميد الأعرج: ﴿أَرسل إليكم﴾ بالبناء للفاعل؛ أي: أرسله ربه إليكم.
٢٨ - ثم وصف موسى الإله بأنه خالق الأكوان، ورب الزمان والمكان حيث ﴿قَالَ﴾؛ أي: موسى: رب العالمين هو ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾؛ أي: هو خالق موضع طلوع الشمس وغروبها ووقتهما وما بينهما، فتشاهدون في كل يوم أنه يأتي بالشمس من المشرق إلى المغرب على وجه نافع، تنتظم به أمور الكائنات، وكل ذلك أمور حادثة مفتقرة إلى محدث قادر عليم حكيم ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ شيئًا من الأشياء، أو من جملة من له عقل وتمييز.. علمتم أن الأمر كما قلته، وأن لا جواب فوقه، واستدللتم بالأثر على المؤثر، وفيه تلويح بأنهم بمعزل من دائرة العقل، متصفون بما رموه بهِ عليه السلام من الجنون، فمن كمال ضدّية موسى وفرعون، وكذا القلب والنفس، يعد كل منهما ما يصدر من الآخر من الجنون، والمعنى: إن كنت يا فرعون أنت ومن معك من العقلاء.. عرفت وعرفوا أنه لا جواب لسؤالك إلا ما ذكرت لك.
وقرأ عبد الله وأصحابه والأعمش: ﴿رب المشارق والمغارب﴾ على الجمع فيهما.
فإن قلت (١): ذكر السموات والأرض مستوعب جميع المخلوقات، فما
(١) فتح الرحمن.
فائدة قوله: ﴿رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ﴾، وقوله: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾؟
قلتُ: فائدتهما تمييزهما في الاستدلال على وجود الصانع، أما الأول: فإن أقرب ما للإنسان نفسه وما يشاهده من تغييراته وانتقاله من ابتداء ولادته، وأما الثاني: فلما تضمنه ذكر المشرق والمغرب وما بينهما من بديع الحكمة في تصريف الليل والنهار واختلافهما، وتغيير الفصول بطلوع الشمس من المشرق، وغروبها في المغرب على تقدير مستقيم في فصول السنة.
فإن قلت (١): لمَ قال أولًا: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾، وقال ثانيًا: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾؟
قلتُ: لاطفهم أولًا بقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾، فلما رأى عنادهم وشدة شكيمتهم خاشنهم وأغلظ عليهم في الرد، وعارضهم بمثل مقالهم بقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾؛ لأنه أوفق بما قبله من رد نسبة الجنون إليه في قول فرعون: ﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾.
٢٩ - ولما قامت الحجة على فرعون.. عدل إلى القهر واستعمال القوة، فتوعده بالسجن، ولم يقل: ما دليلك على أن هذا الإله أرسلك؛ لأن فيه اعترافًا بأن ثم إلهًا غيره، كما بينه سبحانه بقوله: ﴿قَالَ﴾ فرعون لشدة تمرده، وميلًا إلى العقوبة كما يفعله الجبابرة، وعدولًا إلى التهديد عن المحاجة بعد الانقطاع، وغيظًا على نسبة الربوبية إلى غيره، ولعله (٢) كان دهريًا، أعتقد أن من ملك قطرًا، وتولى أمره بقوة طالعه.. استحق العبادة من أهله، فبألوهيتي وربوبيتي ﴿لَئِنِ اتَّخَذْتَ﴾ وجعلت لنفسك ﴿إِلَهًا غَيْرِي﴾؛ أي: معبودًا غيري كما تدعيه ﴿لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾ اللام فيه للعهد؛ أي: لأجعلنك من الذين عرفت أحوالهم في سجوني، فإنه كان يطرحهم في هوة عميقة حتى يموتوا، ولذلك لم يقل: لأسجنك. وعبارة شيخ الإِسلام هنا (٣): فإن قلت: لم عدل إلى هذه العبارة عن قوله: لأسجنك، مع أنه
(١) فتح الرحمن.
(٢) روح البيان.
(٣) فتح الرحمن.
أخصر منه؟
قلتُ: عدل إليه لإرادة تعريف العهد؛ أي: لأجعلنك ممن عرفت حالهم في سجني، وكان إذا سجن إنسانًا طرحه في هوة عميقة مظلمة، لا يبصر فيها ولا يسمع، انتهت.
والمعنى: أي: قال له: لأجعلنك في زمرة الذين في سجوني على ما تعلم من فظاعة أحوالها وشديد أهوالها، وكانت سجونه أشد من القتل؛ لأنه إذا سجن أحدًا لم يخرجه حتى يموت، وكان يطرحه في هوة عميقة تحت الأرض وحده، وفي توعده بالسجن ضعف منه؛ لما يروى أنه كان يفزع من موسى فزعًا شديدًا، حتى كان اللعين لا يمسك بوله بعد ذلك.
٣٠ - وحينئذ اضطر موسى أن يترك الأدلة العقلية وراءه ظهريًا، ويلجأ إلى المعجزات وخوارق العادات فـ ﴿قَالَ﴾؛ أي: موسى لفرعون حين توعده بالسجن ﴿أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، والواو للحال؛ أي: أتفعل بي ذلك السجن، ولو جئتك بشيء موضح لصدق دعواي، يعني: المعجزة، فإنها الجامعة بين الدلالة على وجود الصانع، والدلالة على صدق مدعي نبوته؛ أي: أتفعل بي ذلك حالة كوني آتيًا بشيء مبين. وجعلها بعضهم للعطف على فعل محذوف؛ أي: أتفعل بي ذلك لو لم أجيء بشيء مبين، ولو جئتك به؛ أي: أتفعل به على كل حال من عدم المجيء والمجيء، وتقدم لنا الكلام على هذه ﴿الواو﴾ الداخلية على لو في مثل هذا السياق في قوله: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ فأغنى عن بسطه.
وقال الحوفي (١): واو العطف دخلت عليها همزة الاستفهام للتقرير، والمعنى: أتسجنني حتى في هذه الحالة التي لا تناسب أن أسجن وأنا ملتبس بها، اهـ والمعنى؛ أي: أتفعل هذا ولو جئتك بحجة بينة واضحة على صدق دعواي، وهي المعجزة الدالة على وجود الإله القادر وحكمته، وعلى صدق
(١) البحر المحيط.
دعوى من ظهرت على يديه.
٣١ - ولما سمع فرعون هذا من موسى.. طمع أن يجد موضع معارضة من موسى فـ ﴿قَالَ﴾؛ أي: فرعون لموسى ﴿فَأْتِ بِهِ﴾؛ أي: بذلك الشيء ﴿إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ في دعوى الرسالة، وأن لك برهانًا عليها، وكان (١) في يد موسى عصًا من شجر الآس من الجنة، وكان آدم جاء بها من الجنة، فلما مات قبضها جبريل، ودفعها إلى موسى وقت الرسالة،
٣٢ - فقال موسى لفرعون: ما هذه التي بيدي؟ قال فرعون: هذه عصا ﴿فَأَلْقَى﴾ موسى من يده ﴿عَصَاهُ﴾ قال ابن عباس: عصا موسى اسمها ماشا. وقيل: نبعة؛ أي: طرح موسى عصاه من يده ﴿فَإِذَا هِيَ﴾؛ أي: تلك العصا ﴿ثُعْبَانٌ﴾؛ أي: حية عظيمة صفراء ذكر ﴿مُبِينٌ﴾؛ أي: ظاهر الثعبانية للناظرين بحركاته، وبسائر العلامات، وليس بتمويه كما يفعله السحرة.
وروي: أنها لما صارت حية ارتفعت في السماء قدر ميل، ثم انحطت مقبلة إلى فرعون، فقال: بالذي أرسلك إلا أخذتها، فأخذها موسى، فعادت عصًا كما كانت، ولا تناقض بين قوله هنا: ﴿ثُعْبَانٌ﴾، وبين قوله في موضع آخر: ﴿كَأَنَّهَا جَانٌّ﴾، وهو الصغير من الحيات؛ لأن خلقها خلق الثعبان العظيم، وحركتها وخفتها كالجان، والحية جنس يشمل الصغير والكبير، كما في قوله: ﴿فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى﴾.
٣٣ - وروي: أن فرعون لما رأى الآية الأولى قال: فهل لك غيرها؟ فأخرج موسى يده، فقال لفرعون. ما هذه؟ قال فرعون: هذه يدك فما فيها؟ فأدخلها في إبطه، ثم نزعها ﴿فَإِذَا هِيَ﴾؛ أي: تلك اليد ﴿بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ﴾ إليها؛ ذات بياض من غير برص، تضيء الوادي من شدة بياضها، لها شعاع كشعاع الشمس، كاد يغشي الأبصار وسد الأفق، تعجب الناظرين إليها.
(١) روح البيان.
٣٤ - ولما رأى فرعون هذه الحجج بادر بالتكذيب والعناد، وذكر لأشراف قومه أمورًا ثلاثة:
١ - ﴿قَالَ﴾ فرعون ﴿لِلْمَلَإِ﴾؛ أي: لأشراف قومه حال كونه مستقرين ﴿حَوْلَهُ﴾ فهو ظرف وضع موضع الحال، وحول الشيء جانبه الذي يمكنه أن يحول إليه وينقلب كما سيأتي ﴿إِنَّ هَذَا﴾ الرجل يعني موسى ﴿لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ﴾؛ أي: فائق في علم السحر، والسحر تخيلات لا حقيقة لها، فالساحر المحتال المخيل بما لا حقيقة له.
فإن قلت: أسند القول هنا إلى فرعون حيث قال: ﴿قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ﴾ وأسند في سورة الأعراف إلى الملأ حيث قال: ﴿قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ﴾ فبين الآيتين معارضة، فما وجه الجمع بينهما؟
قلتُ: وجه الجمع بينهما أن فرعون قاله للحاضرين عنده، والحاضرون قالوه للغائبين عنه، فنظر هنا إلى قوله للحاضرين، وهناك إلى قول الحاضرين للغائبين، فبهذا يزول الإشكال. كما في "كشف الأسرار".
والمعنى: أي قال فرعون لرؤساء دولته وأشراف قومه الذين حوله ليروج عليهم بطلان ما يدعيه موسى: إن هذا الرجل لبارع في السحر، حاذق في الشعوذة، ومراده من هذا: أن ما ظهر على يديه إنما هو من قبيل السحر، لا من وادي المعجزات،
٣٥ - ثم هيجهم وحرضهم على مخالفته، والكفر به، والتنفير منه بقوله:
٢ - ﴿يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ﴾؛ أي: من أرض مصر، ويتغلب عليكم ﴿بِسِحْرِهِ﴾؛ أي: يريد أن يذهب بقلوب الناس معه بسبب هذا السحر، فيكثر أعوانه وأتباعه، ويغلبكم على دولتكم، فيأخذ البلاد منكم.
٣ - ﴿فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾؛ أي: فماذا تشيرون به علي في دفعه ومنعه، أو فأي شيء تأمرونني به في شأنه؟ قهره سلطان المعجزة، وحيره حتى حطه عن دعوى الربوبية إلى مقام مشاورة عبيده بعدما كان مستقلًا بالرأي والتدبير، وأظهر
استشعار الخوف من استيلائه على ملكه. ونسبة الإخراج والأرض إليهم لأجل تنفيرهم عن موسى
٣٦ - ﴿قَالُوا﴾؛ أي: الملأ لفرعون ﴿أَرْجِهْ وَأَخَاهُ﴾؛ أي: أخر أمر موسى وأخيه هارون حتى تنظر، ولا تعجل بقتلهما قبل أن يظهر كذبهما، حتى لا يسيء عبيدك الظن بك، وتصير معذورًا في القتل. من أرجأته إذا أخرته. وقيل: المعنى: احبسهما.
وقرأ قالون: ﴿أَرْجِهْ﴾ بغير همز، وباختلاس كسر الهاء، وورش والكسائي بإشباع كسرة الهاء، وابن كثير وهشام بالهمزة الساكنة وبصلة الهاء المضمومة، أبو عمرو بضم الهاء مع الاختلاس، وابن ذكوان بالهمز وكسر الهاء مع الاختلاس، وعاصم وحمزة بغير همز وإسكان الهاء.
﴿وَابْعَثْ﴾؛ أي: وأرسل ﴿فِي الْمَدَائِنِ﴾؛ أي: في الأمصار والبلدان وأقطار مملكتكم، وفي "فتح الرحمن": هي مدائن الصعيد من نواحي مصر ﴿حَاشِرِينَ﴾؛ أي: شُرَطًا يحشرون الناس، ويجمعونهم إليك. فـ ﴿حَاشِرِينَ﴾: صفة لموصوف محذوف هو مفعول ﴿ابعث﴾ كما قدرنا. والشُرَط - بضم أوله وفتح ثانيه - جمع شُرْطة - بالضم وسكون الراء وفتحها -، وهم طائفة من أعوان الولاة معروفة كما في "القاموس"، والشَّرط - بالفتح - العلامة، ومنه سمى الشرط، لأنهم جعلوا لأنفسهم علامة يعرفون بها.
٣٧ - وذلك لظنهم أن السحرة إذا كثرت غلبوا موسى عليه السلام وكشفوا حاله ﴿يَأْتُوكَ﴾؛ أي: الحاشرون ﴿بِكُلِّ سَحَّارٍ﴾؛ أي: بليغ في صناعة السحر ﴿عَلِيمٍ﴾؛ أي: فائق في معرفتها، يعارضوا موسى بمثل سحره، بل يفضلوا عليه، ويتضح للعامة كذبه، فتقتله حينئذ، وهذا تدبير النفس وإلقاء الشيطان في دفع الحق الصريح، وكل تدبير هكذا في كل عمر فصاحبه مدمَّر البتة، وإنما يجيء خبث القول والفعل لمن خبث النفس؛ إذ كل إناء يترشح بما فيه، ولو ترك فرعون وقومه التدبير في أمر موسى، وقابلوه بالقبول.. لسلموا من كل آفة، لكن منعهم حب الجاه عن الانتباه، وحبك الشيء يعمي ويصم.
وقرأ الأعمش وعاصم في رواية: ﴿بكل ساحر﴾، وأمال ﴿سحار﴾ ابن
174
عامر والكسائي وأبو عمرو.
ومعنى الآية: أي (١) قالوا له: أخر البت في أمرهما، ولا تعاجلهما بالعقوبة، حتى تجمع لهما من مدائن مملكتك وأقاليم دولتك كل سحار عليم، ثم تقابلهم به وجهًا لوجه، ويأتون من ضروب السحر ما يستطيعون به التغلب عليه، فتكون قد قابلت الحجة بالحجة، وقرعت الدليل بمثله، ويكون لك النصر والتأييد عليه، وتجتذب قلوب الشعب إليك.
وقد كان هذا من تسخير الله تعالى له؛ ليجتمع الناس في صعيد واحد، وتظهر آيات الله تعالى وحججه للناس في وضح النهار جهرة. روي أن فرعون أراد قتله، فقال له الملأ: لا تفعل فإنك إن قتلته أدخلت على الناس شبهة في أمره، وأشاروا عليه بإنفاذ حاشرين يجمعون له كل سحار عليم ظنًا منهم أنهم إذا كثروا غلبوه على أمره، وتم لفرعون الغلب فأخذ بمشورتهم وأجابهم إلى طلبتهم.
الإعراب
﴿طسم (١) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (٤)﴾.
﴿طسم (١)﴾: خبر لمبتدأ محذوف إن قلنا: إنه علم للسورة، تقديره: هذه طسَمَ؛ أي: سورة اسمها طسَمَ، والخبر مرفوع بالمبتدأ، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الأخير، منع من ظهورها اشتغال المحل بسكون الوقف، والجملة مستأنفة استئنافًا نحويًا لا محل لها من الإعراب، وتقدمت فيه أوجه أخرى في مبحث التفسير فراجعها. ﴿تِلْكَ﴾ مبتدأ. ﴿آيَاتُ الْكِتَابِ﴾: خبر ومضاف إليه. ﴿الْمُبِينِ﴾: صفة لـ ﴿الْكِتَابِ﴾، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا. ﴿لَعَلَّكَ﴾: لعل حرف نصب
(١) المراغي.
175
وترجّ وإشفاق، و ﴿الكاف﴾: ضمير المخاطب في محل النصب اسمها. ﴿بَاخِعٌ﴾: خبرها. ﴿نَفْسَكَ﴾: مفعول به لـ ﴿بَاخِعٌ﴾، وجملة ﴿لعل﴾ مستأنفة. ﴿أَلَّا﴾ ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يَكُونُوا﴾: فعل ناقص، واسمه منصوب بـ ﴿أَن﴾ المصدرية. ﴿مُؤْمِنِينَ﴾ خبره، وجملة يكون مع ﴿أَن﴾ المصدرية في تأويل مصدر مجرور بإضافة المصدر المحذوف إليه المنصوب على أنه مفعول لأجله، تقديره: لعلك باخع نفسك خيفة عدم إيمانهم بهذا الكاتب، وبما جئت به من ربك. ﴿إِن﴾: حرف شرط جازم. ﴿نَشَأْ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله مجزوم بـ ﴿إِن﴾ على كونه فعل شرط لها، ومفعول المشيئة محذوف تقديره: إيمانهم. ﴿نُنَزِّلْ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله مجزوم بـ ﴿إِن﴾ الشرطية على كونه جوابًا لها. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿نُنَزِّلْ﴾. ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾: حال من ﴿آيَةً﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿آيَةً﴾: مفعول به لـ ﴿نُنَزِّلْ﴾، وجملة ﴿إِن﴾ الشرطية مستأنفة مسوقة لتعليل الأمر بإشفاقه على نفسه من الاسترسال في التحسّر والغم على عدم إيمانهم. ﴿فَظَلَّتْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿ظلت﴾: فعل ماضٍ ناقص من أخوات كان. ﴿أَعْنَاقُهُمْ﴾: اسمها. ﴿لَهَا﴾: متعلق بـ ﴿خَاضِعِينَ﴾، و ﴿خَاضِعِينَ﴾: خبر ﴿ظلت﴾، وجملة ﴿ظلت﴾ معطوفة على جملة ﴿نُنَزِّلْ﴾، وهي بمعنى فتظل أعناقهم.
﴿وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٦)﴾
﴿وَمَا يَأْتِيهِمْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: نافية. ﴿يَأْتِيهِمْ﴾: فعل مضارع ومفعول به. ﴿مِنْ﴾ زائدة. ﴿ذِكْرٍ﴾: فاعل مرفوع بضمة مقدرة. ﴿مِنَ الرَّحْمَنِ﴾: جار ومجرور صفة أولى لـ ﴿ذِكْرٍ﴾. ﴿مُحْدَثٍ﴾: صفة ثانية له، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿إن﴾ الشرطية، أو مستأنفة. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ من أعم الأحوال. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿عَنْهُ﴾: متعلق بـ ﴿مُعْرِضِينَ﴾. ﴿مُعْرِضِينَ﴾: خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل النصب حال من مفعول ﴿يَأْتِيهِمْ﴾، والتقدير: وما يأتيهم من ذكر من الرحمن في حال من الأحوال إلّا
176
حالة كونهم معرضين عنه. ﴿فَقَدْ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت إعراضهم عن الذكر، وأردت بيان موقفهم بعد الإعراض.. فأقول لك. ﴿قد كذبوا﴾: ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿كَذَّبُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة وجملة ﴿إذا﴾ المقدرة مستأنفة. ﴿فَسَيَأْتِيهِمْ﴾: ﴿الفاء﴾ حرف عطف وتعقيب، و ﴿السين﴾: حرف تنفيس، ﴿يأتيهم﴾: فعل ومفعول ﴿أَنْبَاءُ مَا﴾: فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿كَذَّبُوا﴾ ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَسْتَهْزِئُونَ﴾. ﴿يَسْتَهْزِئُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ صلة ﴿مَا﴾ الموصولة.
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩)﴾
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري المضمّن للتعجب، داخلة على محذوف، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، ﴿لم﴾: حرف نفي وجزم. ﴿يَرَوْا﴾: فعل مضارع وفاعل، من رأى البصرية، مجزوم بـ ﴿لم﴾. ﴿إِلَى الْأَرْضِ﴾: متعلق بـ ﴿يَرَوْا﴾، وهو في محل المفعول، والجملة الفعلية معطوفة على تلك المحذوفة، والتقدير: أفعل المكذبون من أهل مكة ما فعلوا، ولم يروا إلى الأرض، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿كَمْ﴾: خبرية بمعنى عدد كثير في محل النصب مفعول مقدم لـ ﴿أَنْبَتْنَا﴾. ﴿أَنْبَتْنَا﴾: فعل وفاعل، ﴿أنبت﴾: فعل ماض مبني على السكون. ﴿فِيهَا﴾: متعلق بـ ﴿أَنْبَتْنَا﴾. ﴿مِنْ كُلِّ زَوْجٍ﴾: تمييز لـ ﴿كَمْ﴾ الخبرية، و ﴿مِن﴾: زائدة. ﴿كَرِيمٍ﴾: صفة ﴿زَوْجٍ﴾، وجملة ﴿أَنْبَتْنَا﴾ في محل النصب حال من ﴿الْأَرْضِ﴾، والتقدير: ألم يروا إلى الأرض حالة كونها أنبتنا فيها كثيرًا من كل زوج كريم. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿فِي ذَلِكَ﴾ جار ومجرور خبر مقدم لـ ﴿إِنَّ﴾. ﴿لَآيَةً﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿آية﴾: اسم ﴿إِنَّ﴾ مؤخر، وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: حالية. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾: فعل ناقص واسمه وخبره، وجملة ﴿كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾: فعل ناقص واسمه وخبره، وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل النصب حال من واو ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾،
177
وقيل ﴿كَانَ﴾ زائدة عند سيبويه كما مر. ﴿وَإِنَّ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿إنّ ربك﴾: ناصب واسمه. ﴿لَهُوَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿هو﴾: ضمير فصل. ﴿الْعَزِيزُ﴾: خبر ﴿إِنَّ﴾. ﴿الرَّحِيمُ﴾: خبر ثان لها، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة.
﴿وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (١١) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤)﴾.
﴿وَإِذْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى متعلق بمحذوف تقديره: واذكر إذ نادى، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿نَادَى رَبُّكَ﴾: فعل وفاعل. ﴿مُوسَى﴾: مفعول به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾ ﴿أَنِ﴾: مفسرة بمعنى أي، ويجوز أن تكون مصدرية؛ أي: بأن. ﴿ائْتِ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود إلى ﴿مُوسَى﴾، مبني على حذف حرف العلة. ﴿الْقَوْمَ﴾: مفعول به. ﴿الظَّالِمِينَ﴾: صفة لـ ﴿الْقَوْمَ﴾، والجملة الفعلية جملة مفسرة لـ ﴿نَادَى﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿قَوْمَ فِرْعَوْنَ﴾: بدل من ﴿الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾، أو عطف بيان منه، ولعله أولى؛ لأنهما عبارتان تعتقبان على مدلول واحد، ولما كان القوم الظالمين يوهم الاشتراك.. أتى بعطف البيان لإزالته. ﴿أَلَا﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التعجبي. ﴿لا﴾: نافية. ﴿يَتَّقُونَ﴾: فعل وفاعل، ومفعول ﴿يَتَّقُونَ﴾: محذوف؛ أي: ألا يتقون عقاب الله، والجملة مستأنفة. وقيل: ﴿أَلَا﴾: حرف تحضيض. وقيل: حرف عرض. وقيل: حرف تنبيه. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾، والجملة مستأنفة. ﴿رَبِّ﴾ منادى مضاف حذف منه حرف النداء للتخفيف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه. ﴿أَخَافُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾، وجملة ﴿أَخَافُ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جواب النداء. ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿يُكَذِّبُونِ﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أَنْ﴾، وعلامة نصبه حذف النون، والنون نون الوقاية، وياء المتكلم المحذوفة لرعاية الفواصل في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: إني أخاف تكذيبهم إياي. ﴿وَيَضِيقُ صَدْرِي﴾:
178
فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَخَافُ﴾، فهو مرفوع مثله، ويجوز عطفه على ﴿يُكَذِّبُونِ﴾، فهو منصوب مثله، وقد قرىء به، والفرق بين المعنيين أن الرفع يفيد فيه ثلاث علل أو معاذير، وهو خوف التكذيب وضيق الصدر وامتناع انطلاق اللسان، وأما النصب فيفيد أن خوفه متعلق بهذه الثلاثة. ﴿وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿أَخَافُ﴾، أو على ﴿يُكَذِّبُونِ﴾. ﴿فَأَرْسِلْ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا سمعت اعتذاري إليك، وأردت فعل ما هو الأصلح لهم.. فأقول لك. ﴿أرسل إلى هارون﴾: ﴿أرسل﴾ فعل أمر معناه الالتماس، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿إِلَى هَارُونَ﴾: متعلق بـ ﴿أرسل﴾، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿وَلَهُمْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لهم﴾ خبر مقدم. ﴿عَلَيَّ﴾: حال من ﴿ذَنْبٌ﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت. ﴿ذَنْبٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿إِنِّي أَخَافُ﴾ على كونها مقولا لـ ﴿قَالَ﴾. ﴿فَأَخَافُ﴾: ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفريع، ﴿أخاف﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر. ﴿أَنْ يَقْتُلُونِ﴾: ناصب وفعل وفاعل ونون وقاية، وياء المتكلم المحذوفة لرعاية الفواصل في محل النصب مفعول به، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية؛ أي: فأخاف قتلهم إياي، وجملة ﴿أخاف﴾ معطوفة على الجملة الاسمية قبلها مفرّعة عليها.
﴿قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٧)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض. ﴿كَلَّا﴾: حرف ردع وزجر نابت عن الفعل، وهو ارتدع يا موسى، ولذلك عطف عليها بالفاء في قوله: ﴿فَاذْهَبَا﴾: فعل أمر مبني على حذف النون، والألف ضمير التثنية في محل الرفع فاعل، والجملة معطوفة على الجملة التي دلت عليها حرف الردع، كأنه قيل: ارتدع عما تظن يا موسى فاذهب أنت وأخوك، وجملة ارتدع مستأنفة. ﴿بِآيَاتِنَا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿اذهبا﴾. ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه. ﴿مَعَكُمْ﴾: حال من اسم ﴿إنّ﴾،
179
أو متعلق بـ ﴿مُسْتَمِعُونَ﴾، أو خبر ثان لـ ﴿إن﴾ ﴿مُسْتَمِعُونَ﴾: خبر ﴿إن﴾، ومفعول ﴿مُسْتَمِعُونَ﴾ محذوف تقديره: مستمعون ما يدور بينكما وبين فرعون وقومه، وجله ﴿إنّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿فَأْتِيَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿ائتيا﴾: فعل أمر وفاعل. ﴿فِرْعَوْنَ﴾: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿اذهبا﴾. ﴿فَقُولَا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿قولا﴾: فعل أمر وفاعل معطوف على ﴿ائتيا﴾. ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه. ﴿رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾: خبره ومضاف إليه، وجملة ﴿إنّ﴾ في محل النصب مقول لـ ﴿قولا﴾. ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿أَرْسِلْ﴾: فعل أمر في محل النصب بـ ﴿أَنْ﴾ المصدرية، وفاعله ضمير يعود على ﴿فِرْعَوْنَ﴾، ويجوز أن تكون ﴿أَنْ﴾ مفسرة. ﴿مَعَنَا﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أَرْسِلْ﴾ ﴿بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية صلة ﴿أَنْ﴾ المصدرية، ﴿أَنْ﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف تقديره: فقولا: إنّا رسول رب العالمين بإرسالك معنا بني إسرائيل.
﴿قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (١٩) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿فِرْعَوْنَ﴾، والجملة مستأنفة. ﴿أَلَمْ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التقريري، ﴿لم﴾: حرف نفي وجزم. ﴿نُرَبِّكَ﴾: فعل مضارع ومفعول به مجزوم بـ ﴿لمْ﴾، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وفاعله ضمير مستتر تقديره: نحن، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿فِينَا﴾: متعلق بـ ﴿نُرَبِّكَ﴾. ﴿وَلِيدًا﴾: حال من مفعول ﴿نُرَبِّكَ﴾. ﴿وَلَبِثْتَ﴾: فعل وفاعل. ﴿فِينَا﴾: متعلق بـ ﴿لبثت﴾. ﴿مِنْ عُمُرِكَ﴾: حال من ﴿سِنِينَ﴾. و ﴿سِنِينَ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿لبثت﴾ أيضًا، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة الاستفهام على كونها مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَفَعَلْتَ﴾: فعل وفاعل معطوف على الجملة التي قبلها. ﴿فَعْلَتَكَ﴾: مفعول به ومضاف إليه، أو مفعول مطلق. ﴿الَّتِي﴾: صفة لـ ﴿فَعْلَتَكَ﴾، وجملة ﴿فَعَلْتَ﴾ صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: فعلتها. ﴿وَأَنْتَ﴾: مبتدأ. ﴿مِنَ الْكَافِرِينَ﴾: خبر، والجملة في محل النصب حال من فاعل
180
﴿فَعَلْتَ﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿مُوسَى﴾، والجملة مستأنفة. ﴿فَعَلْتُهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِذًا﴾: حرف جواب مهملة لا عمل لها. ﴿وَأَنَا﴾: مبتدأ. ﴿مِنَ الضَّالِّينَ﴾: خبر، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿فَعَلْتُهَا﴾؛ أي: من الضالين عما أتاني الله بعدها من الرسالة والعلم.
﴿فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (٢٢)﴾.
﴿فَفَرَرْتُ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿فررت﴾: فعل وفاعل. ﴿مِنْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿فررت﴾، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿فَعَلْتُهَا﴾. ﴿لَمَّا﴾: ظرف بمعنى حين في محل النصب مبني على السكون، والظرف متعلق بـ ﴿فررت﴾، وقال سيبويه: إنها رابطة. ﴿خِفْتُكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿لَمَّا﴾. ﴿فَوَهَبَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿وهب﴾: فعل ماض. ﴿لِي﴾: متعلق به. ﴿رَبِّي﴾: فاعل ومضاف إليه. ﴿حُكْمًا﴾: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿فررت﴾. ﴿وَجَعَلَنِي﴾: فعل وفاعل مستتر ونون وقاية ومفعول به أول معطوف على ﴿وهب﴾. ﴿مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾: جار ومجرور في محل المفعول الثاني لـ ﴿جَعَلَ﴾. ﴿وَتِلْكَ﴾: مبتدأ. ﴿نِعْمَةٌ﴾: خبر، والجملة مستأنفة. ﴿تَمُنُّهَا﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على ﴿فِرْعَوْنَ﴾ ومفعول به. ﴿عَلَيَّ﴾: متعلق به، والجملة في محل الرفع صفة لـ ﴿نِعْمَةٌ﴾. ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿عَبَّدْتَ﴾: فعل وفاعل في محل النصب بـ ﴿أَن﴾ المصدرية. ﴿بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مرفوع على كونه خبرًا لمبتدأ محذوف تقديره: سببها تعبيدك بني إسرائيل، والجملة من المبتدأ المحذوف وخبره في محل الرفع صفة ثانية لـ ﴿نِعْمَةٌ﴾ و ﴿تمن﴾ يتعدى بالباء، فقيل: هي محذوفة؛ أي: تمنُّ بها، وقيل: ضمِّن تمنُّ فمعنى تذكر كما في "السمين".
وفي "السمين": قوله: ﴿أَنْ عَبَّدْتَ﴾ فيه سبعة أوجه:
أحدها: أنه في محل رفع عطف بيان لـ ﴿تِلْكَ﴾، موضح له، فتلك إشارة إلى
181
شيء مبهم، وقد وضّح وبيّن بقوله: ﴿أَنْ عَبَّدْتَ﴾، نظير قوله: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ﴾.
والثاني: أنه في محل نصب مفعولًا من أجله.
والثالث: أنه بدل من ﴿نِعْمَةٌ﴾.
والرابع: أنه بدل من الهاء في ﴿تَمُنُّهَا﴾.
والخامس: أنه مجرور بباء مقدرة؛ أي: بأن عبّدت.
والسادس: أنه خبر مبتدأ مضمر؛ أي: هي.
والسابع: أنه منصوب بإضمار أعني.
﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (٢٣) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤)﴾.
﴿قَالَ فِرْعَوْنُ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة تعطف قول فرعون على قول موسى: ﴿إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، أو زائدة، أو استئنافية. ﴿مَا﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾: خبر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، وإنما عبر بما؛ لأنه سأل عن صفاته وأفعاله، ولو أراد عينه.. لقال: ومن رب العالمين. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿مُوسَى﴾، والجملة مستأنفة. ﴿رَبُّ﴾: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو رب السموات، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿السَّمَاوَاتِ﴾: مضاف إليه. ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف عليه. ﴿وَمَا﴾: معطوفة على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾. ﴿بَيْنَهُمَا﴾: ظرف ومضاف إليه صلة لـ ﴿ما﴾. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾: فعل ناقص واسمه وخبره في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها، وجواب ﴿إن﴾ الشرطية محذوف، تقديره: إن كنتم موقنين هذا الجواب، فهو كاف لكم في جواب سؤالكم، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
182
﴿قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿فِرْعَوْنُ﴾، والجملة مستأنفة. ﴿لِمَنْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿قَالَ﴾. ﴿حَوْلَهُ﴾: ظرف ومضاف إليه صلة ﴿من﴾ الموصولة ﴿أَلَا﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التعجبي، ﴿لا﴾: نافية، أو ﴿أَلَا﴾: حرف عرض، أو تحضيض. ﴿تَسْتَمِعُونَ﴾: فعل وفاعل ومفعول محذوف تقديره: جوابه الذي لا يطابق السؤال، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿مُوسَى﴾، والجملة مستأنفة. ﴿رَبُّكُمْ﴾: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو ربكم، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَرَبُّ﴾: معطوف على ﴿رَبُّكُمْ﴾. ﴿آبَائِكُمُ﴾: مضاف إليه. ﴿الْأَوَّلِينَ﴾: صفة لـ ﴿آبَائِكُمُ﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿فِرْعَوْنُ﴾، والجملة مستأنفة. ﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ﴾: ناصب واسمه. ﴿الَّذِي﴾: صفة لـ ﴿رَسُولَكُمُ﴾. ﴿أُرْسِلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعل ضمير يعود على الموصول. ﴿إِلَيْكُمْ﴾: متعلق به، والجملة صلة الموصول. ﴿لَمَجْنُونٌ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء زحلقت إلى خبر ﴿إنَّ﴾ ﴿مجنون﴾: خبر ﴿إنَّ﴾، والجملة ﴿إنَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿مُوسَى﴾، والجملة مستأنفة. ﴿رَبُّ﴾: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو رب، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿الْمَشْرِقِ﴾: مضاف إليه. ﴿وَالْمَغْرِبِ﴾: معطوف على ﴿الْمَشْرِقِ﴾. ﴿وَمَا﴾: معطوف على ﴿الْمَشْرِقِ﴾. ﴿بَيْنَهُمَا﴾: ظرف ومضاف إليه صلة لـ ﴿ما﴾. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها، وجملة ﴿تَعْقِلُونَ﴾ خبر كان، وجواب ﴿إن﴾ الشرطية محذوف تقديره: إن كنتم تعقلون علمتم أن الأمر كما قلته، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب
183
مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿فِرْعَوْنُ﴾، والجملة مستأنفة. ﴿لَئِنِ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿اتَّخَذْتَ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿إِلَهًا﴾: مفعول به. ﴿غَيْرِي﴾: صفة له، أو ﴿غَيْرِي﴾: مفعول أول ﴿إِلَهًا﴾: مفعول ثان قدّمه اعتناء به، والتقدير: لئن اتخذت غيري إلهًا. ﴿لَأَجْعَلَنَّكَ﴾ ﴿اللام﴾: موطئة للقسم مؤكدة للأولى، ﴿أجعلنك﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول أول، ونون توكيد في محل الرفع لتجرده من الناصب والجازم مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة. ﴿مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾: جار ومجرور في محل المفعول الثاني لجعل، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، وجواب الشرط محذوف تقديره: أسجنك، وجملة الشرط في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها معترضة بين القسم وجوابه.
﴿قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿مُوسَى﴾، والجملة مستأنفة. ﴿أَوَلَوْ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف تقديره: أتفعل ذلك. والواو: حالية، ﴿لو﴾: حرف شرط. ﴿جِئْتُكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿بِشَيْءٍ﴾: متعلق بـ ﴿جِئْتُكَ﴾. ﴿مُبِينٍ﴾: صفة، وجواب ﴿لو﴾ الشرطية محذوف تقديره: ولو جئتك بشيء مبين تسجنني، وجملة ﴿لو﴾ الشرطية في محل النصب حال من مفعول الفعل المحذوف الداخل عليه همزة الاستفهام، والتقدير: أتسجنني حالة كوني جائيًا بشيء مبين على صدقي، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿فِرْعَوْنُ﴾، والجملة مستأنفة. ﴿فَأْتِ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت توعدي لك بالسجن، وأردت بيان ما هو المخلص لك.. فأقول لك:
184
ائت. ﴿ائت﴾: فعل أمر، فاعل مستتر يعود على ﴿مُوسَى﴾ مبني على حذف حرف العلة. ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿كُنتَ﴾: فعل ناقص واسمه، في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها. ﴿مِنَ الصَّادِقِينَ﴾: خبر كان، وجواب الشرط محذوف تقديره: إن كنت من الصادقين فائت به، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤)﴾.
﴿فَأَلْقَى﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما قاله فرعون لموسى، وأردت بيان ما فعله موسى فأقول لك: ألقى عصاه. ﴿ألقى﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾. ﴿عَصَاهُ﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿فَإِذَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿إذا﴾: فجائية، حرف لا محل لها من الإعراب. ﴿هِيَ ثُعْبَانٌ﴾: مبتدأ وخبر ﴿مُبِينٌ﴾: صفة ﴿ثُعْبَانٌ﴾، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿ألقى﴾. ﴿وَنَزَعَ يَدَهُ﴾: فعل ومفعول وفاعل مستتر يعود على ﴿مُوسَى﴾، والجمله معطوفة على جملة ﴿ألقى﴾. ﴿فَإِذَا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿إذا﴾: فجائية. ﴿هِيَ بَيْضَاءُ﴾: مبتدأ وخبر. ﴿لِلنَّاظِرِينَ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿بَيْضَاءُ﴾، تقديره: بيضاء معجبة للناظرين، والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿وَنَزَعَ يَدَهُ﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿فِرْعَوْنَ﴾، والجملة مستأنفة. ﴿لِلْمَلَإِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿قَالَ﴾. ﴿حَوْلَهُ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من ﴿الملأ﴾؛ أي: حالة كونهم كائنين حوله. ﴿إِنَّ هَذَا﴾: ناصب واسمه. ﴿لَسَاحِرٌ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء. ﴿لَسَاحِرٌ﴾: خبر ﴿إن﴾. ﴿عَلِيمٌ﴾: صفة لـ ﴿ساحر﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
185
﴿يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (٣٥)﴾.
﴿يُرِيدُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿مُوسَي﴾، والجملة في محل الرفع صفة ثانية لـ ﴿ساحر﴾. ﴿أَنْ يُخْرِجَكُمْ﴾: ناصب وفعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على ﴿مُوسَي﴾ ومفعول به. ﴿مِنْ أَرْضِكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿يُخْرِجَكُمْ﴾. ﴿بِسِحْرِهِ﴾: متعلق به أيضًا، والجملة الفعلية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: يريد إخراجه إياكم من أرضكم بسحره، وهذه الجملة بيت كامل من مجزوء الرجز، وليس شعرًا لانتفاء القصد. ﴿فَمَاذَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿ما﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، ﴿ذا﴾: اسم موصول بمعنى الذي في محل الرفع خبر. ﴿تَأْمُرُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: فما الذي تأمرونني به، والجملة من المبتدأ والخبر في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿إِنَّ هَذَا﴾ على كونها مقولا لـ ﴿قَالَ﴾، أو ﴿فَمَاذَا﴾ اسم استفهام مركب في محل النصب مفعول لـ ﴿تَأْمُرُونَ﴾، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿إِنَّ هَذَا﴾.
﴿قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧)﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿أَرْجِهْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على ﴿فِرْعَوْنَ﴾ ومفعول به مبني على حذف حرف العلة؛ وهي الياء، والكسرة قبلها دليل عليها؛ لأنه من أرجيت. ﴿وَأَخَاهُ﴾: معطوف على ضمير المفعول، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿وَابْعَثْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على ﴿فِرْعَوْنَ﴾ معطوف على ﴿أَرْجِهْ﴾. ﴿فِي الْمَدَائِنِ﴾: متعلق بـ ﴿وَابْعَثْ﴾. ﴿حَاشِرِينَ﴾: مفعول به. ﴿يَأْتُوكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به مجزوم بالطلب السابق، وعلامة جزمه حذف النون. ﴿بِكُلِّ سَحَّارٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَأْتُوكَ﴾. ﴿عَلِيمٍ﴾: صفة ﴿سَحَّارٍ﴾.
186
التصريف ومفردات اللغة
﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ﴾ لعل هنا للاستفهام الذي يراد به الإنكار، وقال العسكري: إنها للنهي، ﴿بَاخِعٌ نَفْسَكَ﴾؛ أي: مهلكها من شدة الحزن، قال ذو الرمة.
ألاَ أَيُّهَا الباخِعُ الوُجْدِ نَفْسَهُ لِشَيْءٍ نَحَتَهُ عن يديهِ المَقَادِيرُ
وأصل البخع: أن يبلغ بالذبح البخاع، وذلك أقصى حد الذبح، والبخاع - بكسر الباء -: عرق في الصلب غير النخاع - بالنون مثلثة - فإنه الخيط الذي في جوف الفقار، ينحدر من الدماغ، ويتشعب منه شعب في الجسم. وفي "المصباح": وبخع نفسه بخعا من باب نفع قتلها من وجد أو غيظ، وبخع لي بالحق بخوعًا انقاد وبذله.
﴿أَعْنَاقُهُمْ﴾ والأعناق: الجماعة، يقال: جاءت أعناق الناس؛ أي: جماعة منهم. ﴿ذِكْرٍ﴾؛ أي: موعظة. ﴿أَنْبَاءُ﴾ والمراد بالأنباء: ما سيحل بهم من العذاب. ﴿مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ والكريم من كل شيء مرضيه ومحموده، يقال: وجه كريم؛ أي: مرضي في حسنه وجماله، وكتاب كريم مرضي في معانيه وفوائده، وفارس كريم مرضي في شجاعته وبأسه.
﴿وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى﴾ والمناداة والنداء: رفع الصوت، وأصله من الندى؛ وهو الرطوبة، واستعارته للصوت من حيث إنّ من تكثر رطوبة فمه حسن كلامه، ولهذا يوصف الفصيح بكثرة الريق. ﴿إِنِّي أَخَافُ﴾ أمر من الأتيان، والإتيان: المجيء بسهولة. ﴿إِنِّي أَخَافُ﴾ والخوف: توقع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة، كما أن الرجاء والطمع توقع محبوب عن أمارة مظنونة أو معلومة.
﴿مُسْتَمِعُونَ﴾؛ أي: سامعون، والفرق بين السماع والاستماع أن السماع وكذا السمع مطلق إدراك الحروف والأصوات، فيوصف به سبحانه، والاستماع طلب السمع بالإصغاء بالأذن، وهو محال عليه تعالى؛ لأن سمعه ليس بالجارحة.
187
﴿أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٧)﴾ والإرسال هاهنا: التخلية والإطلاق، كما تقول: أرسلت الكلب إلى الصيد؛ أي: خلّهم وشأنهم ليذهبوا إلى أرض الشام مسكن آبائهم.
﴿مِنْ عُمُرِكَ﴾ والعمر - بضمتين - مصدر عمر؛ أي: عاش وحيي، قال الراغب: العمر: اسم لمدة عمارة البدن بالحياة، قليلة كانت أو كثيرة.
﴿فَعْلَتَكَ﴾ الفعلة - بالفتح -: المرّة الواحدة، والفِعلة - بالكسر - الهيئة، كما قال ابن مالك:
لِمَرَّةٍ فَعْلَةٌ، وَفِعْلَةٌ وَضَعُوْا لِهَيْئَةٍ غَالِبًا، كَمِشْيَةِ الْخُيَلاَ
﴿وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ﴾ يقال: ضل فلان الطريق أخطأه؛ أي: ضللت طريق الصواب وأخطأته من غير تعمّد، كمن رمى سهمًا إلى طائر وأصاب آدميًا، وذلك لأن مراد موسى كان تأديبه، لا قتله.
﴿فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ﴾؛ أي: ذهبت من بينكم إلى مدين، وهو من المضاعف اللازم، يجب كسر عين مضارعة، كما قال ابن مالك:
ذَا الْوَاوَ فَاءً أَوِ الْيَا عَيْنًا أَوْ كَأتَى كَذَا الْمُضَاعَفُ لاَزِمًا كَحَنَّ طَلاَ
تقول: فرّ يفرّ فرارًا، ودبّ يدبّ دبيبًا، وحنّ يحنّ حنينًا.
﴿أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ يقال: عبّدته إذا أخذته عبدًا وقهرته وذللته.
﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ والرب: المربي والمتكفل لمصلحة الموجودات، والعالم اسم لما سوى الله تعالى من الجواهر والأعراض، سمّي عالمًا؛ لأنه علامة على وجود صانعه وخالقه.
﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾ والجنون: مرض حائل بين النفس والعقل، كما في "المفردات".
﴿مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾؛ أي: من المحبوسين عندي، وفي "المصباح": سجنته
188
سجنًا - من باب قتل - حبسته، والسِجن - بالكسر -: الحبس، والجمع سجون مثل حمل وحمول، اهـ.
﴿فَأَلْقَى عَصَاهُ﴾ والإلقاء: طرح الشيء حيث تلقاه وتراه، ثم صار في التعارف اسمًا لكل طرح.
﴿ثُعْبَانٌ مُبِينٌ﴾؛ أي: ظاهر الثعبانية حقيقة، لا متخيلًا بالسحر، كما تفعله السحرة، والثعبان أعظم الحيات، وهو مشتق من ثعب بمعنى جرى لجريه بسرعة من غير رجل، كأنه ماء سائل، وأما كونه من ثعبت الماء فانثعب إذا فجرته فانفجر، وإن كان مآله ذلك فليس بمراد، اهـ "شهاب"، والثعبان يطلق على الذكر والأنثى، ويجمع على ثعابين. ﴿بَيْضَاءُ﴾؛ أي: ذات بياض ونور من غير برص. ﴿لِمَنْ حَوْلَهُ﴾ وحول الشيء: جانبه الذي يمكنه أن يحول إليه وينقلب، والملأ جماعة يجتمعون على رأي يملؤون العيون رواء، والنفوس جلالة وبهاء. ﴿لَسَاحِرٌ﴾ والسحر: تخيلات لا حقيقة لها، فالساحر المحتال المخيل بما لا حقيقة له. ﴿فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾: من المؤامرة، لا من الأمر؛ وهي المشاورة، وقيل للتشاور: ائتمار؛ لقبول بعضهم أمر بعض فيما أشار به.
﴿أَرْجِهْ وَأَخَاهُ﴾ يقال: أرجأته وأرجيته إذا أخّرته، ومنه المرجئة، وهما لغتان، أي أخر أمرهما، ولا تباغتهما بالقتل خيفة الفتنة قبل أن يظهر كذبهما.
﴿فِي الْمَدَائِنِ﴾: جمع مدينة؛ أي: في الأمصار والبلدان، وأقطار مملكتك.
﴿حَاشِرِينَ﴾؛ أي: شرطًا يحشرون الناس ويجمعونهم.
﴿بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ﴾ ولما قال فرعون أولًا: إن هذا لساحر عليم عارضوا بقولهم: بكل سحار عليم، فجاء بكلمة الاستغراق والبناء الذي للمبالغة؛ لينفسوا عنه بعض ما لحقه من الكرب، ذكره أبو حيان.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
189
فمنها: الكناية اللطيفة في قوله: ﴿فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾؛ لأنه كناية عن الذل والهوان الذي يلحقهم بعد العز والكبرياء.
ومنها: المجاز العقلي في إسناد الخضوع للأعناق، فقد يقال: كيف صح مجيء خاضعين خبرًا عن الأعناق، والخضوع من خصائص العقلاء، وقد كان أصل الكلام: فظلوا لها خاضعين؟ والسر في ذلك أنه لما وصفت بالخضوع الذي هو للعقلاء.. قيل: خاضعين، كما تقدم في قوله: ﴿لِي سَاجِدِينَ﴾، وههنا أقوال أخرى أوصلها علماء البيان إلى سبعة نلخصها فيما يلي:
١ - المراد الرؤساء، كما قيل: لهم وجوه وصدور، يقال لهم: أعناق.
٢ - أنه على حذف مضاف؛ أي: فظل أصحاب الأعناق، ثم حذف وبقي الخبر على ما كان عليه قبل الحذف مراعاة للمحذوف.
٣ - أنه لما أضيف إلى العقلاء اكتسب منهم هذا الحكم، كما يكتسب التأنيث بالإضافة.
٤ - أن الأعناق جمع عنق من الناس؛ وهم الجماعة، يقال: جاءنا عنق من الناس؛ أي: فوج، وليس المراد الجارحة المعلومة.
٥ - إقحام الأعناق لبيان موضع الخضوع، وترك الكلام على أصله.
٦ - ما ذكرناه من أنها عوملت معاملة العقلاء لما أسند إليها ما يكون عادة من أفعال العقلاء على طريق المجاز العقلي.
٧ - أنه لما أضاف الأعناق إلى المذكورين، وكانت الأعناق متصلة بهم في الخلقة والتكوين.. أجرى عليها حكمهم.
ومنها: التتميم في قوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧)﴾ حيث جمع بين ﴿كَمْ﴾ و ﴿كُلِّ﴾، مع إغناء أحدهما عن الآخر، وضابط التتميم أن تأتي في الكلام كلمة إذا طرحت من الكلام نقص معناه في ذاته أو في
190
صفاته، ولفظه تام، والمقصود من الآية آحاد الأزواج، ولو أسقطت ﴿كلًّا﴾، فقلت: انظروا إلى الأرض كم أنبت الله فيها من الصنف الفلاني.. لكنت مكنيًا عن آحاد ذلك الصنف المشار إليه، فإذا أدخلت كلًّا فقد أديت بذكره آحاد كل صنف، وفائدة الجمع بين ﴿كُلِّ﴾ و ﴿كَمْ﴾ أن ﴿كلًّا﴾ إنما دخلت للإحاطة بأزواج النبات، و ﴿كَمْ﴾ دلت على أن هذا المحاط مفرط بالكثرة، وفي ذلك تنبيه على تمام القدرة وكمالها، وهذا هو مقتضى التتميم الذي تقدمت الإشارة إليه.
ومنها: الوعيد والتهديد في قوله: ﴿فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾.
ومنها: التوبيخ والإنكار في قوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ﴾؛ لأن الاستفهام فيه للتوبيخ على تركهم النظر بعين الاعتبار.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى﴾؛ لأن النداء رفع الصوت مأخوذ من الندى؛ وهو الرطوبة، فاستعيرت للصوت من حيث إن من تكثر رطوبة فمه حسن كلامه، ولهذا يوصف الفصيح بكثرة الريق، ذكره في "روح البيان".
ومنها: المقابلة اللطيفة بين قوله: ﴿وَيَضِيقُ صَدْرِي﴾ وقوله: ﴿وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي﴾.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ﴾ حيث استعار الاستماع الذي هو طلب السمع بالإصغاء بالأذن للسمع الذي هو مطلق إدراك الحروف والأصوات من غير إصغاء. والمعنى: إنا سامعون لما يجري بينكما وبينه، فأظهركما عليه. مثل حاله تعالى بحال ذي شوكة قد حضر مجادلة قوم يسمع ما يجري بينهم، ليمد الأولياء منهم، ويظهرهم على الأعداء مبالغة في الوعد بالإعانة، وجعل الكلام استعارة تمثيلية؛ لكون وجه الشبه هيئة منتزعة من عدة أمور اهـ "روح".
ومنها: جناس الاشتقاق بين ﴿رَسُولُ﴾ و ﴿أَرْسِلْ﴾.
191
ومنها: الإبهام في قوله: ﴿فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ﴾ يعني: قتل القبطي؛ لإفادة التعظيم والتفخيم، فإن في عدم التصريح باسمها الخاص تعظيم تلك الفعلة، فإن قوله: ﴿الَّتِي فَعَلْتَ﴾ يذهب فيها الوهم كل مذهب، ويحتمل الكثير من المعاني، وهو كثير شائع في القرآن الكريم.
ومنها: الجناس الناقص بين ﴿فَعَلْتَ﴾ و: ﴿فَعْلَتَكَ﴾ فقد اتفقت الحروف فيهما، واختلف الشكل، فصار جناسًا غير تام.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا﴾ دل على هذا الحذف السياق، تقديره: فأتيا فرعون فقولا له ذلك، فقال لموسى: ﴿أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا﴾.
ومنها: إفادة التعجيب في قوله: ﴿أَلَا تَسْتَمِعُونَ﴾، فكأنه قال: استمعوا ما يقول، وتعجبوا منه.
ومنها: التخصيص في قوله: ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ بعد التعميم في قوله: ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ فإنه استوعب به الخلائق كلها، ثم عاد إلى التخصيص بذكرهم وذكر آبائهم.
ومنها: التأكيد بـ ﴿إن﴾ واللام واسمية الجملة في قوله: ﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾؛ لأن السامع متشكك ومتردد.
ومنها: الطباق بين ﴿الْمَشْرِقِ﴾ ﴿وَالْمَغْرِبِ﴾ في قوله: ﴿قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾.
ومنها: لام العهد في قوله: ﴿لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾؛ أي: لأجعلنك من الذين عرفت أحوالهم في سجوني، فإنه كان يطرحهم في هوة عميقة، ويتركهم حتى يموتوا، ولم يقل: لأسجنك للإشارة إلى أن ذلك ديدنه وعادته.
ومنها: الاستغراق والمبالغة في قوله: ﴿بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ﴾؛ لأن كلمة ﴿كل﴾ تفيد الإحاطة والاستغراق، وكلمتي ﴿سَحَّارٍ عَلِيمٍ﴾ يفيدان المبالغة؛
192
لأنهما من أوزان المبالغة.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
193
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (٤١) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (٤٦) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (٤٨) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (٥٦) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (٦٩) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (٧٠) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (٧١) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢)﴾
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (٦٩)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر في أول السورة شدة حزنه - ﷺ - على كفر قومه
194
وعدم استجابتهم دعوته، ثم ذكر قصص موسى عليه السلام ليكون في ذلك تسلية له، وليعلم أنه ليس ببدع في الرسل، وأن قومه ليسوا بأول الأمم عنادًا واستكبارًا، فقد أتى موسى بباهر المعجزات وعظيم الآيات، ولم يؤمن به من قومه إلا القليل، ولم يؤمن به من المصريين إلّا النذر اليسير.. أردف ذلك بقصص إبراهيم أبي الأنبياء، وخليل الرحمن؛ ليعلم أن حزنه لكفران قومه كان أشد، وآلامه كانت أمضى، فهو كان يرى أن أباه وقومه صائرون إلى النار، وهو ليس بمستطيع إنقاذهم، وقد أكثر حجاجهم حتى حجهم، ولم يجد ذلك فيهم شيئًا، بل ركنوا إلى التقليد بما ورثوه عن الآباء والأجداد، وقد أبان لهم أثناء حجاجه أن أصنامهم لا تغني عنهم شيئًا، فهي لا تسمع دعاءهم ﴿وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ﴾، ولو سمعت لم تغن عنهم شيئًا، ثم ذكر لهم صفات الرب الذي ينبغي أن يعبد، وفصلها أتم التفصيل.
التفسير وأوجه القراءة
٣٨ - ﴿فَجُمِعَ السَّحَرَةُ﴾؛ أي: بعث فرعون الشرط في المدائن لجمع السحرة، فجمعوا وهم اثنان وسبعون، أو سبعون ألفًا كما يدل عليه كثرة الحبال والعصي التي خيلوها، وكان اجتماعهم بالإسكندرية على ما رواه الطبري. ﴿لِمِيقَاتِ﴾ وميعاد ﴿يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ عندهم. والميقات (١): الوقت المضروب للشيء؛ أي: اجتمعت السحرة في الوقت الذي وقت به موسى، وعين لهم من ساعات يوم معين، وذلك الوقت وقت الضحى من يوم الزينة، وهو يوم عيد لهم، كانوا يتزينون ويجتمعون فيه كل سنة، روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه وافق يوم السبت في أول يوم من السنة؛ وهو يوم النيروز، وهو أول يوم من فرودين ماه، ومعنى نيروز بلغة القبط: طلع الماء؛ أي: علا ماء النيل، وبلغة العجم نوروز؛ أي: اليوم الجديد، وهو أول السنة المستأنفة عندهم.
وإنما وقت لهم موسى وقت الضحى من يوم الزينة في قوله: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ
(١) روح البيان.
يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ}، ليظهر الحق ويزهق الباطل على رؤوس الأشهاد، ويشيع ذلك في الأقطار، واختاره فرعون أيضًا، ليظهر كذب موسى بمحضر الجمع العظيم، فكان ما كان.
٣٩ - ﴿وَقِيلَ﴾ من طرف فرعون ﴿لِلنَّاسِ﴾؛ أي: لأهل مصر وغيرهم ممن يمكن حضوره ﴿هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ﴾ لتنظروا ما يفعل الفريقان، ولمن تكون له الغلبة، وليس المراد بـ ﴿هَلْ﴾ حقيقة الاستفهام بقرينة عدم الجواب، بل المراد بالاستفهام الحث على المبادرة إلى الاجتماع والترجي للغلبة، لا لاتباع السحرة؛ لأنه مقطوع به. والمعنى؛ أي (١): احضروا لتشاهدوا ما يكون من الجانبين ﴿لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ﴾ في دينهم ﴿إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ﴾ لموسى، لا لموسى؛ أي: فإنا نرجو أن تكون الغلبة للسحرة، فنتبعهم في دينهم، لا نتبع موسى. قال ابن جرير: ﴿لعل﴾ هنا بمعنى كي. والمراد (٢) باتباع السحرة في دينهم: هو البقاء على ما كانوا عليه؛ لأن دين السحرة إذ ذاك هو دينهم، والمقصود المخالفة لما دعاهم إليه موسى. وقيل (٣): أرادوا بالسحرة موسى وهارون، وقالوا ذلك على طريقة الاستهزاء.
والمعنى: ﴿فَجُمِعَ السَّحَرَةُ...﴾ إلخ؛ أي (٤): إن الملأ بعد أن أشاروا على فرعون بتأخير البت في أمر موسى، وبأن من الخير له أن يجمع السحرة؛ ليظهر عند حضورهم فساد قوله.. رضي بما أشاروا به واستقروا عليه، وأحب أن تقع المناظرة في يوم عيد لهم؛ لتكون بمحضر الجمّ الغفير من الناس، ويتم الله نوره، ويظهر الحق على الباطل بلطفه وفضله ﴿وَقِيلَ لِلنَّاسِ﴾ حثًا لهم على المبادرة إلى الاجتماع، ومشاهدة ما يكون من الجانبين ﴿هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ﴾ في ذلك الميقات لتروا ما سيكون في ذلك اليوم المشهود، وكان ذلك ثقة من فرعون بالظهور، وقد طلب أن يكون بمجمع من الناس؛ لئلا يؤمن بموسى أحد منهم، فوقع من موسى الموقع الذي يريده؛ لأنه يعلم أن حجة الله هي الغالبة، وحجة الكافرين هي
(١) المراح.
(٢) الشوكاني.
(٣) الخازن.
(٤) المراغي.
الداحضة، وفي ظهور حجة الله بمجمع من الناس زيادة في الاستظهار للمحقين، وقهر للمبطلين
٤٠ - ﴿لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (٤٠)﴾؛ أي: إنا نرجوا أن يكون لهم الغلبة فنتبعهم ونستمر على دينهم، ولا نتبع دين موسى
٤١ - ﴿فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ﴾ فرعون ﴿قَالُوا﴾؛ أي: السحرة ﴿لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا﴾؛ أي: جعلًا عظيمًا، أو لجزاء تجزينا به من مال أو جاء، وقيل: أرادوا إن لنا ثوابًا عظيمًا، ثم قيدوا ذلك بظهور غلبتهم لموسى، فقالوا: ﴿إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ﴾ لا موسى،
٤٢ - ووافقهم فرعون على ذلك، و ﴿قَالَ نَعَمْ﴾ نعم ذلك عندي. وقرأ (١) الكسائي ﴿نعم﴾ بكسر العين، وهما لغتان. اهـ "بيضاوي". ﴿وَإِنَّكُمْ﴾ مع ذلك ﴿إِذًا﴾؛ أي: إذا غلبتم ﴿لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ عندي، تكونون أول من يدخل علي، وآخر من يخرج من عندي. وكان (٢) ذلك من أعظم المراتب عندهم، وهكذا حال أرباب الدنيا في حب قربة السلطان ونحوه، وهو من أعظم المصائب عند العقلاء.
٤٣ - فلما تقابلوا مع موسى ﴿قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا﴾؛ أي: اطرحوا ﴿مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ﴾؛ أي: ما أنتم تريدون إلقاءه، لم يرد به أمرهم بالسحر والتمويه؛ لأن ذلك غير جائز، بل الإذن في تقديم ما هم فاعلوه لا محالة توسلًا به إلى إظهار الحق وإبطال الباطل، قال في "كشف الأسرار": ظاهر الكلام أمر، ومعناه التهاون في الأمر، وترك المبالاة بهم وبأفعالهم، وتهديد لهم. وعبارة "الكرخي": هذا (٣) جواب سؤال صورته: كيف يجوز على النبي المعصوم الأمر بالكفر؟
وحاصل الجواب: أن صيغة الأمر ليست على حقيقتها، بل هي مجاز عن الإذن، فإن قيل: الإذن يستلزم الرضا فيعود الإشكال؟ فالجواب: أن الممتنع هو الرضا في حال كونه مستحسنًا، ولا يلزم ذلك هنا، بل اللازم هو الرضا به للتوسل إلى إبطاله، وهذا عين استقباحه، فليس فيه محظور، اهـ.
(١) البيضاوي.
(٢) روح البيان.
(٣) الفتوحات.
فإن قلت: إن ما هنا يدل على أن البادىء بالكلام هو موسى عليه السلام، وفي سورة طه: ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (٦٥)﴾، فيدل على أن البادىء هم السحرة، فبين الآيتين معارضة في تعيين البادىء، فبين وجه الجمع بينهما؟
قلتُ: يجمع بينهما يحمل ما هنا على أنه قال لهم: ألقوا، بعد أن قالوا هذا القول، فحينئذ البادىء بالكلام هم السحرة.
٤٤ - ﴿فـ﴾ بعد أن قال لهم موسى ألقوا ﴿أَلْقَوْا حِبَالَهُمْ﴾: جمع حبل ﴿وَعِصِيُّهُمْ﴾: جمع عصا، اثنين وسبعين ألف حبل، واثنتين وسبعين ألف عصا ﴿وَقَالُوا﴾ عند الإلقاء حالفين ﴿بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ﴾ وعظمته ﴿إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ﴾ على موسى وهارون. أقسموا (١) بعزته على أن الغلبة لهم لفرط اعتقادهم في أنفسهم وإتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى من السحر، والقسم بغير الله من أيمان الجاهلية، وفي الحديث: "لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالطواغيت، ولا تحلفوا إلا بالله إلا وأنتم صادقون".
وقال الشوكاني: قولهم: ﴿بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ﴾ يحتمل وجهين:
الأول: أنه قسم، وجوابه: ﴿إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ﴾.
والثاني: أنه متعلق بمحذوف، والباء للسببية؛ أي: نغلب بسبب عزته. قال بعضهم (٢): رأوا كثرة تمويهاتهم وقلة العصا، فنظروا إليها بنظر الحقارة، وظنوا غلبة الكثير على القليل، وما علموا أن القليل من الحق يبطل الكثير من الباطل، كما أن قليلًا من النور يمحو كثيرًا من الظلمة، اهـ.
قال أبو حيان (٣): وعدلوا عن الخطاب إلى اسم الغيبة، في قولهم: ﴿بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ﴾ تعظيمًا له، كما يقال للملوك: أمروا بكذا، فيخبر عنه إخبار الغائب، وهذا من نوع أيمان الجاهلية، وقد سلك كثير من المسلمين في الأيمان ما هو
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
أشنع من أيمان الجاهلية، لا يرضون بالقسم بالله، ولا يعتدون به، حتى يحلف أحدهم بنعمة السلطان، وبإغاثة شيخه، وبرأس المحلف، فحينئذ يستوثق منه. وقال ابن عطية: بعد أن ذكر أنه قسم قال: والأحسن أن يكون على جهة التعظيم والتبرك باسمه إذ كانوا يعبدونه، كما تقول إذا ابتدأت بعمل شيء: بسم الله وعلى بركة الله، ونحو هذا.
والمعنى: أي (١) قال لهم موسى: ألقوا ما تريدون إلقاءه مما يكون حجة لكم على إبطال ما أدعيه من المعجزات، فألقوا ما معهم من الحبال والعصي، وقد كانت مطلية بالزئبق، والعصي مجوفة مملوءة به، وقالوا: بقوة فرعون وجبروته إنا لنحن الغالبون، فلما حميت حرارة الشمس اشتدت حركتها، وصارت كأنها حيات تدب من كل جانب، وسحروا أعين الناس واسترهبوهم، وجاؤوا بسحر عظيم، وجاء في سورة طه: ﴿قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (٦٧) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (٦٨)﴾، وقد استفرغوا الوسع، وقاموا بما ظنوا أن فيه الكفاية، بل ما فوقها، وأن النصر قد كتب لهم
٤٥ - ﴿فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ﴾ بالأمر الإلهي ﴿فَإِذَا هِيَ﴾؛ أي: عصاه ﴿تَلْقَفُ﴾؛ أي: تبتلع بسرعة. وقرأ حفص: ﴿تَلْقَفُ﴾ بالتخفيف، اهـ. "بيضاوي" ﴿مَا يَأْفِكُونَ﴾؛ أي: ما يقلبونه؛ أي: وحين ألقى موسى عصاه ابتلعت ما كانوا يقلبون ويغيرون صورته وحاله الأولى من الجمادية بتمويههم وتخييل الحبال والعصي أنها حيات تسعى، وجاء في آية أخرى: ﴿فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨)﴾.
والمأخوذ عند بعض المحققين (٢): أنها التقفت صور الحيات من حبال السحرة وعصيهم، حتى بدت للناس حبالًا وعصيًا كما هي في نفس الأمر، كما يبطل الخصم بالحق حجة خصمه، فيظهر بطلانها، لا نفس الحبال والعصي كما هو عند الجمهور، وإلا لدخل على السحرة الشبهة في عصا موسى، والتبس عليهم الأمر، فكانوا لم يؤمنوا، وكان الذي جاء به موسى حينئذ من قبيل ما
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
جاءت به السحرة، إلا أنه أقوى منهم سحرًا، ويدل على ما قلنا قوله تعالى: ﴿تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ﴾ ﴿تلقف ما صنعوا﴾، وما أفكوا الحبال وما صنعوا العصي بسحرهم، وإنما صنعوا وأفكوا في أعين الناظرين صور الحيات، وهي التي تلقفته عصا موسى، ذكره الإِمام الشعراني في "الكبريت الأحمر".
٤٦ - ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ﴾ على وجوههم حالة كونهم ﴿سَاجِدِينَ﴾ لله تعالى؛ أي: ألقوا إثر ما شاهدوا ذلك من غير تردد غير متمالكين، كأن ملقيًا ألقاهم لعلمهم بأن مثل ذلك خارج عن حدود السحر، وأنه أمر إلهي قد ظهر على يده لتصديقه.
قال الزمخشري (١): فإن قلت: فاعل الإلقاء ما هو لو صرّح به؟
قلت: هو الله عز وجل بما خولهم من التوفيق وإيمانهم، أو بما عاينوا من المعجزة الباهرة، انتهى.
وفي هذا (٢): دليل على أن التبحر في كل فن نافع، فإن السحرة ما تيقنوا بأن ما فعل موسى معجزهم إلا بمهارتهم في فن السحر، وعلى أن منتهى السحر تمويه وتزوير وتخييل شيء لا حقيقة له، وجه الدلالة أن حقيقة الشيء لو انقلبت إلى حقيقة شيء آخر بالسحر.. لما عدوا انقلاب العصا حية من قبيل المعجزة الخارجة عن حد السحر، ولما خروا ساجدين عند مشاهدته، وقد سبق تفصيل السحر في سورة طه.
قال بعضهم: السِّحر: مأخوذ من السَّحر، وهو ما بين الفجر الأول والفجر الثاني، وحقيقته اختلاط الضوء والظلمة، فما هو بليل لما خالطه من ضوء الصبح، ولا هو بنهار لعدم طلوع الشمس للأبصار، فكذلك ما فعله السحرة ما هو باطل محقق فيكون عدمًا، فإن العين أدركت أمرًا لا تشك فيه، وما هو حق محض فيكون له وجود في عينه، فإنه ليس هو في نفسه كما تشهد العين ويظنه الرائي. قال الشعراني بعدما نقله: هو كلام نفيس ما سمعنا مثله قط.
(١) الكشاف.
(٢) روح البيان.
والمعنى: أي فخروا سجدًا لله؛ لأنهم قد علموا أن هذا الذي فعلوه هو منتهى التخييل السحري، فلما ابتلعت الحية ما زوروه أيقنوا أن هذا من قدرة فوق ما عرفوا، وما هو إلا من قوة آتية من السماء لتأييد موسى، وحينئذ خروا سجدًا لله القوي القاهر فوق عباده.
٤٧ - وفي التعبير بالإلقاء إشارة إلى أنهم لم يتمالكوا أنفسهم من الدهش حتى كأنهم أخذوا فطرحوا، ثم فاهوا بما يجيش في صدورهم، وتنطوي عليه جوانحهم ﴿قَالُوا﴾؛ أي: السحرة، بدل اشتمال من ﴿فَأُلْقِيَ﴾، فلذلك لم يتخلل بينهما عاطف، أو (١) حال بإضمار قد ﴿آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الذي دعا إليه موسى أول ما تكلم مع فرعون، انظر كيف أصبحوا سحرة، وأمسوا شهداء مسلمين مؤمنين، فالمغرور من اعتمد على شيء من أعماله وأقواله وأحواله،
٤٨ - وقوله: ﴿رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ﴾ بدل من (٢) ﴿بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾؛ لدفع توهم إرادة فرعون حيث كان قومه الجهلة يسمونه بذلك، ولو وقفوا على رب العالمين.. لقال فرعون: أنا رب العالمين؛ إياي عنوا، فزادوا ﴿رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ﴾، فارتفع الإشكال، وفي هذا إيماء إلى عزل فرعون عن الربوبية، وأن سبب إيمانهم ما أجراه الله تعالى على يدي موسى وهارون من المعجزات، وأضافوه سبحانه إليهما؛ لأنهما القائمان بالدعوة في تلك الحال، وفيه تبكيت لفرعون بأنه ليس برب، وأن الرب في الحقيقة هو هذا.
وبعد أن حصحص الحق، ووضح الصبح لذي عينين.. لجأ فرعون إلى العناد والمكابرة، وشرع يهدد ويتوعد، ولكن ذلك لم يجد في السحرة شيئًا، ولم يزدهم إلا إيمانًا وتسليمًا إذ كان حجاب الكفرة قد انكشف، واستبان لهم نور الحق وعلمهم ما جهل قومهم، وأن القوة التي تؤيد موسى قوة غيبية، قد أيده الله بها وجعلها دليلًا على صدق ما يدعي.
٤٩ - فلما سمع فرعون ذلك منهم، ورأى سجودهم لله.. ﴿قَالَ﴾؛ أي: فرعون
(١) بيضاوي.
(٢) روح البيان.
201
للسحرة ﴿آمَنْتُمْ لَهُ﴾؛ أي: لموسى، وصدقتم به بصيغة الخبر، ويجوز تقدير همزة الاستفهام كما في الأعراف. وقرأ (١) حمزة والكسائي وأبو بكر وروح: ﴿أأمنتم﴾ بهمزتين أولاهما للاستفهام التقريري المضمن للتهديد ﴿قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ﴾؛ أي (٢): بغير إذن لكم من جانبي، كما في قوله تعالى: ﴿لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي﴾ لا أن إذن الإيمان ممكن أو متوقع، ثم قال مغالطًا للسحرة الذين آمنوا، وموهمًا للناس أن فعل موسى سحر من جنس ذلك السحر ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: إن موسى ﴿لَكَبِيرُكُمُ﴾؛ أي: لعالمكم وأستاذكم ﴿الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾ فعلمكم شيئًا دون شيء، ولذلك غلبكم أو فوادعكم على ما فعلتم وتواطأتم عليه قبل أن تخرجوا إلى هذا الموضع، كما قال في الأعراف: ﴿إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ﴾ أراد بذلك التلبيس على قومه كيلا يعتقدوا أنهم آمنوا على بصيرة وظهور حق. وإنما (٣) اعترف له بكونه كبيرهم مع كونه لا يحب الاعتراف بشيء يرتفع به شأن موسى؛ لأنه قد علم كل من حضر أن ما جاء به موسى أبهر مما جاء به السحرة، فأراد أن يشكك على الناس بأن هذا الذي شاهدتم وان كان قد فاق على ما فعله هؤلاء السحرة.. فهو فعل كبيرهم ومن هو أستاذهم الذي أخذوا عنه هذه الصناعة، فلا تظنوا أنه فعل لا يقدر عليه البشر، وأنه من فعل الرب الذي يدعو إليه موسى، ثم توعد أولئك السحرة الذين آمنوا بالله لما قهرتهم حجة الله، فقال: ﴿فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾؛ أي: وبال ما فعلتم، واللام (٤) للتأكيد، لا للقسم، ولا للحال، فلذلك اجتمعت بحرف الاستقبال أجمل ما أوعدهم أولًا للتهويل، ثم فصله، فقال: ﴿لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ﴾؛ أي: أقسمت لكم بقهري وسلطاني لأقطعن منكم أكفكم وأقدامكم حالة كونها من خلاف؛ أي: متخالفات من كل شق طرفًا، وهو أن يقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، وذلك زمانة من جانبي البدن، كما في "كشف الأسرار". وهو أول من قطع من خلاف وصلب كما في "فتح الرحمن".
(١) البيضاوي.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
(٤) روح البيان.
202
وصيغة التفعيل وهو التقطيع لكثرة الأيدي والأرجل، كما تقول: فتحت الباب، وفتحت الأبواب. وقال بعضهم: من للتعليل؛ أي: من أجل (١) خلاف ظهر منكم، وذلك (٢) لأن القطع المذكور لكونه تخفيفًا للعقوبة، واحترازًا عن تفويت منفعة البطش على الجاني لا يناسب حال فرعون ولما هو بصدده، إلا أن يحمل على حمقه حيث أوعد لهم في موضع التغليظ بما وضع للتخفيف، انتهى. وذلك وهم محض؛ لأنه يدفعه قوله: ﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ﴾ على شاطىء البحر كلكم ﴿أَجْمَعِينَ﴾ قال في "الكشف"؛ أي: أجمع عليكم التقطيع والصلب، روي أنه علقهم على جذوع النخل حتى ماتوا، ولكن ليس في الآية ما يدل على أن فرعون فعل ذلك أو لم يفعل، وفي الأعراف ﴿ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ﴾ فأوقع المهلة؛ ليكون هذا التصليب بعذابهم أشد. ويجمع بين ما في الموضعين بجعل ﴿الواو﴾ هنا بمعنى ثم؛ لأن المهلة أغلظ في التعذيب.
وحاصل معنى الآية: ﴿قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ﴾؛ أي (٣): قال لهم فرعون: أتؤمنون به قبل أن تستأذنوني، وقد كان ينبغي أن تفعلوا ذلك، وأن لا تفتاتوا علي، فإني أنا الحاكم المطاع، ثم التمس لايمانهم عذرًا آخر غير انبلاج الحق؛ ليعمي على العامة، ويصرفهم عن وجه الحق، فقال: ﴿إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾، فأنتم فعلتم ذلك عن مواطأة بينكم وبينه، ولا شك أن هذا تضليل لقومه، ومكابرة ظاهرة البطلان، فإنهم لم يجتمعوا بموسى قبل ذلك اليوم، فكيف يكون هو كبيرهم الذي أفادهم صناعة السحر، ثم توعدهم، فقال: ﴿فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ وَبَال ما فعلتم، وسوء عاقبة ما اجترحتم، ثم بين ذلك بقوله: ﴿لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ﴾ الخ؛ أي: لأقطعن اليد اليمنى من كل منكم، والرجل اليسرى، ثم لأصلبنكم أجمعين بعد ذلك.
٥٠ - فأجابوه غير مكترثين بقوله، ولا عابئين بتهديده بأمرين كل منهما دليل على
(١) النسفي.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
اطمئنان النفس وبرد اليقين:
١ - ﴿قَالُوا﴾؛ أي: السحرة المؤمنون ﴿لَا ضَيْرَ﴾؛ أي: لا ضرر علينا في تنفيذ وعيدك، ولا نبالي به؛ لأن كل حي لا محالة ميت:
وَمَنْ لَمْ يَمُتْ بِالسَّيْفِ مَاتَ بِغَيْرِهِ تَعَدَّدَتِ الأسْبَابُ وَالْمَوْتُ وَاحِدُ
ونحو ذلك قول علي - كرم الله وجهه -: لا أبالي أوقعت على الموت، أم وقع الموت عليّ ﴿إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ﴾؛ أي: راجعون فيثيبنا بالصبر على ما فعلت، ويجازينا على الثبات على التوحيد، وفي الآية دلالة على أن للإنسان أن يظهر الحق وإن خاف القتل.
والمعنى: أي (١) لا ضرر علينا فيما يلحقنا من عذاب الدنيا، فإن ذلك يزول ويذهب، وننقلب بعده إلى ربنا فيعطينا من النعيم الدائم ما لا يحد ولا يوصف، قال الهروي: لا ضير، ولا ضرر، ولا ضرّ بمعنى واحد، وأنشد أبو عبيدة:
فَإِنَّكَ لاَ يَضُرُّكَ بَعْدَ حَوْلٍ أَظَبْيٌ كَانَ أُمّكَ أَمْ حِمَارُ
قال الجوهري: ضاره يضوره ويضيره ضيرًا وضورًا؛ أي: ضره، قال الكسائي: سمعت بعضهم يقول: لا ينفعني ذلك ولا يضورني.
٢ - ٥١ ﴿إِنَّا نَطْمَعُ﴾ ونرجوا ﴿أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا﴾ السالفة من الشرك وغيره، ثم عللوا هذا بقولهم: ﴿أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ بفتح همزة ﴿أَن﴾، والجملة في المعنى تعليل ثان لنفي الضير، أو تعليل للعلة المتقدمة كما في "البيضاوي"؛ أي: لأن كنا أول المؤمنين بموسى من أتباع فرعون، أو من أهل المشهد بعد ظهور الآية، وقال الفراء: أول مؤمني زمانهم. وأنكره الزجاج وقال: قد روي أنه آمن معهم ست مئة ألف وسبعون ألفًا؛ وهم الشرذمة القليلون الذين عناهم فرعون بقوله: ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤)﴾، وأجاز الفراء والكسائي كسر همزة إن على أن يكون مجازاة، والمعنى؛ أي: ولأنا نأمل أن يغفر لنا ربنا ما فعلنا من
(١) الشوكاني.
204
السحر، واعتقدناه من الكفر من أجل أن كنا أول من آمن من الجماعة الذين شهدوا هذا الموقف انقيادًا للحق، وإعراضًا عن زخرف الدنيا وزينتها.
وقرأ الجمهور (١): ﴿أن كنا﴾ بفتح الهمزة، وفيه الجزم بإيمانهم، وقرأ أبان بن تغلب وأبو معاذ ﴿إن كنا﴾ - بكسر الهمزة - قال صاحب "اللوامح": على الشرط، وجاز حذف الفاء من الجواب؛ لأنه متقدم، وتقديره: إن كنا أول المؤمنين فإنا نطمع، وحسن الشرط لأنهم لم يتحققوا مآلهم عند الله تعالى من قبول الإيمان. انتهى وهذا التخريج على مذهب الكوفيين وأبي زيد والمبرد حيث يجيزون تقديم جواب الشرط عليه، ومذهب جمهور البصريين أن ذلك لا يجوز، وجواب مثل هذا الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه. وقال البيضاوي (٢): وقرىء ﴿إن كنا﴾: على الشرط لهضم النفس وعدم الثقة بالخاتمة، أو على طريقة المدل بأمره: إن أحسنت إليك فلا تنس حقي اهـ.
تنبيه: قوله تعالى: ﴿قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (٥٠)﴾ قاله هنا بحذف (٣) لام التأكيد، وفي الزخرف قاله بإثباتها ﴿لَمُنْقَلِبُونَ﴾ فإن قلت: فما الفرق بين الموضعين؟
قلت: لأن ما هنا كلام السحرة حين آمنوا، ولا عموم فيه، فناسب عدم التأكيد، وما في الزخرف عام لمن ركب سفينة أو دابة فناسبه التأكيد.
قال ابن عطاء (٤): من اتصلت مشاهدته بالحقيقة احتمل معها كل وارد عليه من محبوب أو مكروه، ألا ترى أن السحرة لما صحت مشاهدتهم كيف قالوا: ﴿لَا ضَيْرَ﴾.
وكان جعفر ابن عم النبي - ﷺ - آخذ اللواء في بعض الغزوات بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضده حتى قتل، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة،
(١) البحر المحيط.
(٢) البيضاوي.
(٣) فتح الرحمن.
(٤) روح البيان.
205
فأثابه الله تعالى بذلك جناحين في الجنة، يطير بهما حيث شاء، ولذلك قيل له: جعفر الطيار، وهكذا شأن من هو صادق في دعواه فليخفف ألم البلاء عنك علمك بأن الله تعالى هو المبتلي، لكن هذا العلم إذا لم يكن من مرتبة المشاهدات لا يحصل التخفيف التام، فحال السحرة كانت حال الشهود والجذبة، وكان حال عمر - رضي الله عنه - حين الإيمان كحال السحرة، وبالجملة أن الإيمان وسيلة الإحسان، فمن سعى في إصلاح حاله في باب الأعمال أوصله الله تعالى إلى ما أوصل إليه أرباب الأحوال، كما قال عليه السلام: "من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم".
٥٢ - ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى﴾ بعد ثلاثين سنة ﴿أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ﴾ أي: بمن آمن معك من بني إسرائيل، والإيحاء: إعلام في خفاء، ويقال: سرى يسري سُرًى إذا سار ليلًا، كما سيأتي في مبحث التصريف، وسماهم عباده؛ لأنهم آمنوا بموسى وبما جاء به، والمعنى (١): وقلنا لموسى بطريق الوحي: يا موسى اذهب ببني إسرائيل بالليل، وسر بهم حتى تنتهي إلى بحر القلزم، فيأتيك هناك أمري فتعمل به، وذلك بعد سنين أقام بين أظهرهم يدعوهم إلى الحق، ويظهر لهم الآيات، فلم يزيدوا إلا عتوًا وفسادًا وعلم الانتهاء إلى البحر من الوحي؛ إذ من البعيد أن يؤمر بالمسير ليلًا وهو لا يعرف جهة الطريق، ومن قول جبريل حين خرجوا من مصر: موعد ما بيني وبينك يا موسى البحر؛ أي: شط بحر القلزم. تقدم (٢) الخلاف في ﴿أَسْرِ﴾، وأنه قرىء بوصل الهمزة، وبقطعها في سورة هود، وقرأ اليماني: ﴿أن سر﴾ أمر من سار يسير. وجملة قوله: ﴿إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ﴾؛ أي: يتبعكم فرعون وجنوده تعليل للأمر بالإسراء؛ أي: أسر بهم حتى إذا اتبعوكم مصبحين كان لكم تقدم عليهم بحيث لا يدركونكم قبل وصولكم إلى البحر، بل يكونون على أثركم حين تدخلون البحر، فيدخلون مداخلكم، فأطبقه عليهم فأغرقهم.
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
ثم (١) إن قوم موسى قالوا لقوم فرعون: إن لنا في هذه الليلة عيدًا، ثم استعاروا منهم حليهم وحللهم بهذا السبب، ثم خرجوا بتلك الأموال في الليل إلى جانب البحر. قال القرطبي: فخرج موسى عليه السلام ببني إسرائيل سَحرًا، فترك الطريق إلى الشام على يساره، وتوجه نحو البحر، فكان الرجل من بني إسرائيل يقول له في ترك الطريق، فيقول: هكذا أمرت،
٥٣ - فلما أصبح فرعون، وعلم بسري موسى ببني إسرائيل خرج في أثرهم، وبعث إلى مدائن مصر لتلحقه العساكر، وقوى نفسه ونفس أصحابه بأن وصف قوم موسى بوصفين من أوصاف الذم، ووصف قوم نفسه بصفة المدح، وذلك قوله تعالى: ﴿فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ﴾ حين أخبر بمسيرهم في الليل ﴿فِي الْمَدَائِنِ﴾؛ أي: في مدائن مصر وبلدانها ﴿حَاشِرِينَ﴾؛ أي: شرطًا جامعين للعساكر ليتبعوهم. قيل: كان له ألف مدينة واثنا عشر ألف قرية،
٥٤ - وقال لهم حين جمع عساكر المدائن ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ﴾؛ أي: بني إسرائيل ﴿لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ﴾؛ أي: لطائفة قليلة، وكانوا ست مئة ألف مقاتل، ليس فيهم من دون عشرين سنة، ولا من يبلغ ستين سوى الحشم، وفرعون يقللهم؛ إذ روي أنه أرسل في أثرهم ألف ألف ملك وخمسة آلاف ملك إلخ. وخمس مئة ألف ملك مسور، ومع كل ملك ألف، وخرج فرعون في جمع عظيم، وكانت مقدمته سبع مئة ألف رجل على حصان وعلى رأسه بيضة.
وعن ابن عباس: خرج فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث. وروي أن فرعون خرج على حصان أدهم، وفي عسكره على لون فرسه ثلاث مئة ألف، والشرذمة الطائفة القليلة. وقال: قليلون دون قليلة باعتبار أنهم أسباط، كل سبط منهم سبط قليل
٥٥ - ﴿وَإِنَّهُمْ﴾؛ أي: وإن بني إسرائيل ﴿لَنَا لَغَائِظُونَ﴾؛ أي: لفاعلون ما يغيظنا ويغضبنا بمخالفتهم ديننا، وذهابهم بأموالنا التي استعاروها أن لهم عيدًا في هذه الليلة، وخروجهم من أرضنا بغير إذن منا، وهم منخرطون في سلك عبادنا
٥٦ - ﴿وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (٥٦)﴾؛ أي: لجماعة متيقظون غير مغفلين، يستعملون الحزم والاحتياط في الأمور.
(١) المراح.
207
يريد أن بني إسرائيل لقلتهم وحقارتهم لا يبالي بهم، ولا يتوقع علوهم وغلبتهم، ولكنهم يفعلون أفعالًا تغيظنا وتضيق بها صدورنا، ونحن جمع وقوم من عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور، فإذا خرج علينا خارج سارعنا إلى إطفاء ثائرة فساده، قاله فرعون لأهل المدائن؛ لئلا يظن به أنه خاف من بني إسرائيل.
وقيل: معنى ﴿حَاذِرُونَ﴾؛ أي: خائفون من شرهم. وقيل: ذووا قوة وأداة، شاكون السلاح؛ أي: متسلحون.
وقرأ الكوفيون وابن ذكران وزيد بن علي ﴿حَاذِرُونَ﴾ بالألف بعد الحاء؛ أي: شاكون السلاح، وقرأ باقي السبعة ﴿حذرون﴾ بغير ألف؛ أي: متيقظون. وقال الزجاج: مؤدون؛ أي: متسلحون، وقرأ سميط بن عجلان وابن أبي عمار وابن السميقع: ﴿حادرون﴾ بالدال المهملة؛ أي: أقوياء أشداء.

فصل في بيان كيفية خروجهم من مصر


وقد جاء في سفر الخروج من التوراة في الإصحاح الحادي عشر: إن الرب أمر أن يطلب كل رجل من صاحبه، وكل امرأة من صاحبتها أمتعة ذهب وأمتعة فضة، وأن الله سبحانه سيميت كل بِكْرٍ في أرض مصر من الإنسان والحيوان، وأمرهم أن يذبح أهل كل بيت شاة في اليوم الرابع عشر من شهر الخروج، وأن يلطخوا القائمتين والعتبة العليا من الدار بالدم، وأن يأكلوا اللحم تلك الليلة مشوبًا بالنار مع فطير، وأمرهم أن يأكلوا بعجلة، ويأكلوا الرأس مع الأكارع والجوف، وهذا هو فصح الرب، وهذا الدم علامة على بيوت بني إسرائيل حتى يحفظ كل بكر معهم، ويتخطاهم إلى أبكار المصريين، ويكون أكل الفطير سبعة أيام، ويكون هذا فريضة أبدية تذكارًا بالخروج من مصر من يوم (١٤) من شهر أبيب إلى (٢١) من هذا الشهر كل سنة، وهكذا أمر موسى قومه بذلك، ففعلوا كل هذا، ونجا أولادهم، وصار ذلك سنة أبدية، ولما مات الأبكار من الإنسان والحيوان في جميع بلاد مصر في نصف الليل اشتغل الناس بالأموات، وأخذ بنوا
208
إسرائيل غنمهم وبقرهم وعجينهم قبل أن يختمر، ومعاجنهم مصرورة في ثيابهم على أكتافهم، وفعللوا ما أمرهم به الرب، فارتحلوا من رَعْمَسِيس إلى سكوت، وكانوا ست مئة ألف ماشٍ من الرجال ما عدا الأولاد، وخبزوا العجين الذي أخرجوه من مصر خبز ملة، فطيرًا، اهـ.
وكانت (١) إقامة بني إسرائيل في مصر (٤٣٠) سنة، وليلة الخروج هي عيد الفصح عندهم إلى الأبد، فلما أسرى بهم موسى، وأخبر فرعون بما صنعوا أرسل في مدائن مصر رجالًا من حرسه ليجمعوا الجند، فيتبعوهم ويردوهم إلى مصر، ويعذبوهم أشد التعذيب على ما فعلوا، ثم قوى فرعون جنده في اقتفاء آثارهم بأمور:
١ - ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤)﴾ فيسهل اقتفاؤهم وإرجاعهم، وكبح جماحهم في الزمن الوجيز.
٢ - ﴿وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (٥٥)﴾؛ أي: وإنهم بين آونة وأخرى يصدر منهم ما يخل بالأمن، فيحدثون الشغب والاضطراب في البلاد، إلى أنهم ذهبوا بأموالنا التي استعاروها.
٣ - ﴿وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (٥٦)﴾؛ أي: وإن لنا أن نحذر عاقبة أمرهم قبل أن يستفحل خطبهم، ويصعب رأب صدعهم، ونحن قوم من دأبنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور.
وخلاصة مقاله: أنّ هؤلاء عدد لا يعبأ به، وأن في مقدورنا أن نبيدهم بأهون الوسائل، ولا خوف منهم إذا نحن اتبعنا آثارهم، ورددناهم على أعقابهم خاسئين، حتى لا يعودوا كرة أخرى إلى الإخلال بالأمن والهرج والمرج والاضطراب في البلاد، وهذا ما يقتضيه الحزم واليقظة في الأمور.
والذي نقول به ونجزم: أن بني إسرائيل كانوا أقل من جند فرعون، لكنا لا
(١) المراغي.
209
نجزم بعدد معين، وما في كتب التاريخ والتوراة مبالغات يصعب تصديقها كما ذكرنا، ولا ينبغي التعويل عليها، فخير لنا أن لا نشغل أنفسنا باستقصاء تفاصيلها، وقد فند ابن خلدون في مقدمة تاريخه هذه الروايات، وأبان ما فيها من مغالاة لا يقبلها العقل، ولا تثبت أمام البحث العلمي الصحيح.
٥٧ - وقد جازى الله فرعون وجنوده بما أرادوا أن يجازوا به بني إسرائيل، فأهلكوا جميعًا، كما قال سبحانه: ﴿فَأَخْرَجْنَاهُمْ﴾؛ أي: (١) فأخرجنا فرعون وقومه بأن خلقنا فيهم داعية الخروج بهذا السبب، فحملتهم عليه، يعني أنهم وإن
خرجوا باختيارهم إلا أنه أسند الإخراج إليه تعالى من حيث الخلق المذكور ﴿مِنْ جَنَّاتٍ﴾؛ أي: من بساتين كانت ممتدة على حافتي النيل من أسوان إلى رشيد ﴿وَعُيُونٍ﴾ وأنهار جارية من الماء
٥٨ - ﴿وَكُنُوزٍ﴾؛ أي: وأموال ظاهرة من الذهب والفضة ونحوهما. سمّاها كنزًا؛ لأن ما لا يؤدي منه حق الله تعالى فهو كنز، وإن كان ظاهرًا على وجه الأرض، وما أدي منه فليس بكنز، وإن كان تحت سبع أرضين، والكنز: المال المجموع المحفوظ.
فائدة: والفرق بين الكنز والركاز والمعدن أن الركاز: المال المركوز؛ أي: المدفون في الأرض مخلوقًا كان أو موضوعًا. والمعدن: ما كان مخلوقًا. والكنز: ما كان موضوعًا. قال في "خريدة العجائب": وفي أرض مصر كنوز كثيرة، ويقال: إن غالب أرضها ذهب مدفون حتى قيل: إنه ما فيها موضع إلا وهو مشغول من الدفائن.
﴿وَمَقَامٍ كَرِيمٍ﴾؛ أي: مجلس حسن. قيل (٢): أراد مجالس الأمراء والرؤساء التي كانت لهم. قيل: إنه إذا قعد على سريره وضع بين يديه ثلاث مئة كرسي من ذهب، يجلس عليها الأشراف من قومه والأمراء، وعليهم أقبية الديباج مخوصة بالذهب. وقيل: أراد به المنازل الحسنة، وهذا أظهر، ومن ذلك قول الشاعر:
وَفَيْهِمْ مَقَامَاتٌ حِسَانٌ وَجُوْهُهَا وَأَنْدِيَةٌ يَنْتَابُهَا الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ
(١) روح البيان.
(٢) الخازن.
٥٩ - وقوله: ﴿كَذَلِكَ﴾ إما (١) مصدر تشبيهي لـ ﴿أخرجنا﴾؛ أي: أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفناه، فهو في محل نصب، أو في محل جر صفة لـ ﴿مقام﴾؛ أي: مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم، أو في محل رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: إخراجنا كذلك؛ أي: كما وصفنا فيهم، أو الأمر كذلك، وقوله: ﴿وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ معطوف على ﴿فَأَخْرَجْنَاهُمْ﴾؛ أي: ملكنا تلك الجنات والعيون والكنوز والمقام الكريم بني إسرائيل على طريقة تمليك مال المورث للوارث، كأنهم ملكوها من حين خروج أربابها منها قبل أن يقبضوها ويتسلموها. والمعنى: جعلناهم متملكين لتلك النعيم بعد هلاك فرعون وقومه. وقيل: المعنى؛ أي: وملكنا بني إسرائيل جنات وعيونًا مماثلة لها في أرض الميعاد التى ساروا إليها، وفي هذا بيان أن حالهم تحول من الاستعباد والرق إلى الشرف والنعيم والعيون والمقام الكريم.
والمعنى: أي (٢) فأخرجناهم من النعيم إلى الجحيم، وتركوا المنازل العالية، والبساتين والأنهار والأموال والملك والجاه العظيم الذي لم يسمع بمثله، وأورثنا تلك الجنات والعيون والكنوز والمقام الكريم بني إسرائيل
٦٠ - ﴿فَأَتْبَعُوهُمْ﴾؛ أي: لحق فرعون وقومه موسى وأصحابه حالة كون فرعون وقومه ﴿مُشْرِقِينَ﴾؛ أي: داخلين في وقت شروق الشمس وطلوعها، أو حالة كون موسى وأصحابه داخلين في الشروق، فهو حال إما من الفاعل، أو من المفعول، أو منهما جميعًا؛ لأن الدخول المذكور قائم بهم جميعًا، والمعنى: فجعلوا أنفسهم تابعة لبني إسرائيل وقت شروق الشمس وطلوعها.
وقرأ الجمهور: ﴿فَأَتْبَعُوهُمْ﴾ بقطع الهمزة؛ أي: جعلوا أنفسهم تابعة. وقرأ الحسن والحارث الديناري بوصلها وتشديد التاء؛ أي: لحقوهم.
والخلاصة: أي فخرجوا من مصر في حفل عظيم وجمع كثير من أولي الحل والعقد من الأمراء والوزراء والرؤساء والجند، فوصلوا إليهم حين شروق
(١) مراح.
(٢) المراغي.
الشمس.
٦١ - ثم ذكر ما عَزَا بني إسرائيل من الخوف حين رؤيتهم فرعون وقومه، فقال: ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ﴾؛ أي: فلما رأى كل من الفريقين صاحبه. وقرأ الجمهور: ﴿تَرَاءَى﴾ بتخفيف الهمزة مثل تراعى، وقرأ ابن وثاب والأعمش: ﴿تراي الجمعان﴾ بغير همز على مذهب التخفيف، وقرأ حمزة: ﴿تريء﴾ بكسر الراء وبمد ثم همز، وروى مثله عن عاصم، وقرىء: ﴿تراءت الفئتان﴾، والصواب قراءة الجمهور؛ لأنه من باب تفاعل؛ أي: فلما رأى أحد الفريقين الآخر ﴿قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾؛ أي: ملحقون، قالوا ذلك حين رأوا العدو القوي وراءهم والبحر أمامهم، وساءت ظنونهم؛ أي: إنا لملحقون من ورائنا، ولا طاقة لنا بقوم فرعون، وهذا البحر أمامنا، لا منفذ لنا فيه. قرأ الجمهور (١): ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ بإسكان الدال اسم مفعول من أدرك، ومنه ﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ﴾، وقرأ الأعرج وعبيد بن عمير بفتح الدال مشددة وكسر الراء على وزن مفتعلون، وهو لازم بمعنى الفناء، والاضمحلال، يقال منه: أدرك الشيء بنفسه إذا فني تتابعًا، ولذلك كسرت الراء على هذه القراءة. وقال الزمخشري: إن معنى هذه القراءة: إنا لمتتابعون في الهلاك على أيديهم حتى لا يبقى منا أحد، وقال الفراء: معناهما؛ أي: معنى القراءتين واحد.
والخلاصة: أنا لمتابعون، وسنهلك على أيديهم، حتى لا يبقى منا أحد؛ لأنا قد انتهى بنا المسير إلى سيف البحر - ساحله -، وقد أدركنا فرعون وجنوده،
٦٢ - فأجابهم موسى وطمأنهم وقوى نفوسهم حيث ﴿قَالَ﴾ موسى عليه السلام ﴿كَلَّا﴾؛ أي: ارتدعوا وانزجروا عن ذلك المقال، فإنهم لا يدركونكم فإن الله تعالى وعدكم الخلاص منهم ﴿إِنَّ مَعِيَ رَبِّي﴾ بالحفظ والنصر والرعاية والعناية ﴿سَيَهْدِينِ﴾؛ أي: سيدلني إلى طريق النجاة منهم البتة.
أي: قال موسى لهم: إنه لن يصلكم شيء مما تحذرون، فإن الله هو الذي
(١) البحر المحيط.
أمرني أن أسير بكم إلى هنا، وهو تعالى لا يخلف وعده، فهو سيهدين إلى طريق النجاة والخلاص وسينصرني عليهم ويتكفل بمعونتي.
٦٣ - روي (١): أن رجلًا مؤمنًا من آل فرعون يكتم إيمانه كان بين يدي موسى عليه السلام، فقال: يا كليم الله أين أمرت؟ قال هاهنا، فحرك فرسه بلجامه حتى طار الزبد من شدقه، ثم أقحمه البحر، فارتسب في الماء، وذهب القوم يصنعون مثل ذلك، فلم يقدروا، فأوحى الله إليه بضرب البحر بعصاه، فإذا الرجل واقف على فرسه، ولم يبتل سرجه، ولا لبده، وذلك قوله تعالى: ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ﴾؛ أي: قلنا له يا موسى اضرب بعصاك البحر. فـ ﴿أَنِ﴾ مفسرة بمعنى أي، و ﴿الْبَحْرَ﴾ (٢): هو بحر القلزم؛ وهو طرف من بحر فارس، والقُلْزُم - بضم القاف وسكون اللام وضم الزاي -: بليدة كانت على ساحل البحر من جهة مصر، بينها وبين مصر نحو ثلاثة أيام، وقد خربت، ويعرف موضعها اليوم بالسويس تجاه عجرود، منزل ينزله الحاج المتوجه من مصر إلى مكة، وبالقرب منها غرق فرعون، وبحر القلزم بحر مظلم وحش، لا خير فيه ظاهرًا وباطنًا، وعلى ساحل هذا البحر مدينة مدين؛ وهي خراب، وبها البئر التى سقى موسى عليه السلام منها غنم شعيب، وهي معطلة الآن.
و ﴿الفاء﴾: في قوله: ﴿فَانْفَلَقَ﴾ عاطفة على محذوف تقديره: فضربه موسى فانفلق ماء البحر؛ أي: انشق فصار اثني عشر فرقًا بعدد الأسباط بينهن مسالك ﴿فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ﴾؛ أي: كل جزء تفرق منه وتقطع ﴿كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾؛ أي: كالجبل المرتفع في السماء الثابت في مقره، فدخلوا في شعاب تلك الفرق، كل سبط في شعب منها، فقال كل سبط: قتل أصحابنا، فعند ذلك دعا موسى ربه، فجعل في تلك الجدران المائية مناظرة كالكوى حتى نظر بعضهم إلى بعض على أرض يابسة.
قال الراغب: الطود: الجبلى العظيم، ووصفه بالعظم؛ لكونه فيما بين
(١) المراح.
(٢) روح البيان.
الأطواد عظيمًا، لا لكونه عظيمًا فيما بين سائر الجبال. وحكى (١) يعقوب عن بعض القراءة أنه قرأ: ﴿كل فلق﴾ باللام عوض الراء.
قيل: لما انتهى موسى ومن معه إلى البحر هاجت الرياح، فصار البحر يرمي بموج كالجبال، قال يوشع: يا كليم الله أين أمرت فقد غشينا فرعون من خلفنا، والبحر أمامنا؟ قال موسى: هاهنا، فخاض يوشع الماء لا يواري حافر دابته، وقال الذي يكتم إيمانه من آل فرعون: يا كليم الله أين أمرت؟ قال: هاهنا، فكبح فرسه، فصكه بلجامه حتى طار الزبد من شدقه، ثم أقحمه البحر فارتسب في الماء إلى آخر ما تقدم آنفًا. قيل: دخلوا البحر بالطول وخرجوا في الصفة التي دخلوا منها بعد مسافة، وكان بين موضع الدخول وموضع الخروج أوعار وجبال لا تسلك.
٦٤ - ﴿وَأَزْلَفْنَا﴾؛ أي: قربنا ﴿ثَمَّ﴾؛ أي: هناك؛ أي: في موضع انفلاق البحر ﴿الْآخَرِينَ﴾؛ أي: فرعون وقومه حتى دخلوا عقب قوم موسى مداخلهم. وعن (٢) عطاء بن السائب أن جبريل عليه السلام كان بين بني إسرائيل وبين قوم فرعون، يقول لبني إسرائيل: ليلحق آخركم بأولكم، ويقول للقبط: رويدكم ليلحق آخركم أولكم، فكان بنو إسرائيل يقولون: ما رأينا أحسن سياقة من هذا الرجل، وكان قوم فرعون يقولون: ما رأينا أحسن دعة من هذا الرجل.
وقيل المعنى: وقربناهم إلى الموت؛ لأنهم قربوا من أجلهم في ذلك الوقت. وقيل: المعنى: وحبسنا فرعون وقومه في الضبابة عند طلبهم موسى بأن أظلمنا عليهم الدنيا بسحابة وقفت عليهم، فوقفوا حيارى.
وقرأ الحسن وأبو حيوة (٣): ﴿وزلفنا﴾: بلا ألف ثلاثيًا، وقرأ أبي وابن عباس وعبد الله بن الحارث: ﴿وأزلقنا﴾ بالقاف بدل الفاء؛ أي: أزللنا وأهلكنا من قولهم: أزلقت الفرس إذا ألقت ولدها.
(١) البحر المحيط.
(٢) الخازن.
(٣) البحر المحيط.
والمعنى: أي (١) وأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر، فضرب فانفلق، فكان كل قطعة من الماء كالجبل العالي، وصار فيه اثنا عشر طريقًا، لكل سبط منهم طريق، وصار فيه طاقات ينظر منها بعضهم إلى بعض، وبعث الله الريح إلى قعر البحر فلفحته، فصار يبسًا كوجه الأرض، كما قال في آية أخرى: ﴿فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى﴾. ﴿وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤)﴾؛ أي: وقربنا فرعون وجنوده من البحر، وأدنيناهم منه.
٦٥ - وقوله: ﴿وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥)﴾ قبله محذوف تقديره: ودخل موسى وبنو إسرائيل البحر، وأنجيناهم ومن اتبعهم على دينهم كلهم أجمعين، فلم يهلك منهم أحد؛ أي: أنجيناهم من الغرق بحفظ البحر على تلك الهيئة إلى أن عبروا إلى البر
٦٦ - ﴿ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦)﴾؛ أي: فرعون وقومه بإطباق البحر عليهم، ولم نبق منهم أحدًا.
والخلاصة: أنه لما خرج أصحاب موسى، وتتام أصحاب فرعون.. انطبق عليهم البحر، فأغرقهم جميعًا.
٦٧ - ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾؛ أي: إن في جميع ما فصل من قصة موسى وفرعون خصوصًا في الإنجاء والغرق ﴿لَآيَةً﴾؛ أي: لعبرة عظيمة للمعتبرين، وسطوة باهرة من أدل العلامات على قدرة الله سبحانه، وعظيم سلطانه؛ أي: إن في الذي حدث في البحر لعبرة دالة على قدرته تعالى، وعلى صدق موسى عليه السلام من حيث كونه معجزة له، وتحذيرًا من الإقدام على مخالفة أمر الله، وأمر رسوله - ﷺ -، ثم بين أنهم لم تجدهم الآيات والنذر شيئًا، فقال: ﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ﴾؛ أي: أكثر المصريين وهم قوم فرعون؛ أي: ما كان أكثر هؤلاء الذين مع فرعون ﴿مُؤْمِنِينَ﴾ فإنه لم يؤمن منهم فيما بعد إلا القليل كحزقيل وابنته وآسية امرأة فرعون والعجوز التي دلت على قبر يوسف عليه السلام حين الخروج من مصر، واسمها مريم بنت ناموشا، وليس المراد أكثر من كان مع فرعون عند لحاقه بموسى، فإنهم هلكوا
(١) المراغي.
في البحر جميعًا، بل المراد من كان معه من الأصل، ومن كان متابعًا له ومنتسبًا إليه، هذا غاية ما يمكن أن يقال. وقال سيبويه: إن ﴿كَانَ﴾ زائدة، وإن المراد الإخبار عن المشركين بعدما سمعوا الموعظة.
٦٨ - ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ﴾ يا محمد ﴿لَهُوَ الْعَزِيزُ﴾؛ أي: الغالب المنتقم من أعدائه كفرعون وقومه ﴿الرَّحِيمُ﴾ بأوليائه كموسى وبني إسرائيل. قال بعضهم: هذا التأويل هو الذي يقتضيه ظاهر السياق، فإن قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ...﴾ الخ. ذَكر في هذه السورة في ثمانية مواضع: أولها في ذكر النبي عليه السلام وقومه كما سبق، وذكر النبي عليه السلام وإن لم يتقدم صريحًا فقد تقدم كناية. والثاني في قصة موسى، ثم إبراهيم، ثم نوح، ثم هود، ثم صالح، ثم لوط، ثم شعيب، عليهم الصلاة والسلام، فتعقيب القول المذكور بكل قصة من هذه القصص يدل على أن المراد بالأكثر هو من لم يؤمن من قوم كل نبي من الأنبياء المذكورين، وقد ثبت في غير هذه المواضع أيضًا أن أكثر الناس من كل أمة هم الكافرون، فكون كل قصة آية وعبرة إنما يعتبر بالنسبة إلى من شاهد الواقعة، ومن جاء بعدهم إلى قيام الساعة، فيدخل فيهم قريش؛ لأنهم سمعوا قصة موسى وفرعون مثلًا من لسان النبي - ﷺ -، فكانت آية لهم مع أن بيانها من غير أن يسمعها من أحد آية أخرى موجبة للإيمان، حيث دل على أنه ما كان إلا بطريق الوحي الصادق.
وقد رجَّح بعضهم رجوع ضمير ﴿أَكْثَرُهُمْ﴾ إلى قومه - ﷺ -، فيكون المعنى أن في ذلك المذكور لآية لأهل الاعتبار، كما في المذكور في أول السورة آية أيضًا، وما كان أكثر هؤلاء الذين يسمعون قصة موسى وفرعون - وهم أهل مكة - مؤمنين لعدم تدبرهم واعتبارهم، فليحذروا عن أن يصيبهم مثل ما أصاب آل فرعون، وإن ربك لهو العزيز الغالب على ما أراد من انتقام المكذبين، الرحيم البالغ في الرحمة، ولذلك يمهلهم ولا يعجل عقوبتهم بعدم إيمانهم بعد مشاهدة هذه الآيات العظيمة بطريق الوحي مع كمال استحقاقهم لذلك.
وفي الآية (١): تسلية لرسول الله - ﷺ -؛ لأنه كان يغتم قلبه المنير بتكذيب قومه
(١) روح البيان.
مع ظهور المعجزات على يديه، فنبهه بذكر أمثال هذه القصص على أنه له أسوة بموسى وسائر الأنبياء عليهم السلام، فإن ما ظهر على يد موسى من المعجزات التي تبهر العقول لم يمنع من تكذيب القبط له، وكفرهم به مع ما شاهدوه في البحر وغيره، وتكذيب بني إسرائيل، فإنهم بعد أن نجوا عبدوا العجل، وقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة؛ ليقتدي بهم في الصبر على عناد قومه، وفي انتظار الفرج والنصر، كما قيل: اصبروا تظفروا كما ظفروا. وفي قوله: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ بشارة عظيمة لنبينا - ﷺ - بأن النصر سيكتب له، والظفر سيكون حليفه، كما قال: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾.
فائدة: وأخرج (١) الفريابي بسنده عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن رسول الله - ﷺ - قال: "إن موسى لما أراد أن يسير ببني إسرائيل أضل الطريق، فقال لبني إسرائيل: ما هذا؟ فقال له علماء بني إسرائيل: إن يوسف لما حضره الموت أخذ علينا موثقًا أن لا نخرج من مصر حتى ننقل تابوته معنا، فقال لهم موسى: أيكم يدري أين قبره؟ فقالوا: ما يعلم أحد مكان قبره إلا عجوز لبني إسرائيل عاشت من العمر نحو سبع مئة سنة، فأرسل إليها موسى، فقال: دلينا على قبر يوسف، فقالت: لا والله حتى تعطيني حكمي، قال: وما حكمك؟ قالت: أن أكون معك في الجنة، فكأنه ثقل عليه ذلك، فقيل له: أعطها حكمها، فأعطاها حكمها، فانطلقت بهم إلى بحيرة مستنقعة ماء، فقالت لهم: انضبوا عنها الماء، ففعلوا، قالت: احفروا، فحفروا، فاستخرجوا قبر يوسف، فلما احتملوه إذا الطريق مثل ضوء النهار.
قصص إبراهيم عليه السلام
٦٩ - قوله: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: واقرأ يا محمد على مشركي العرب، وأخبر أهل مكة ﴿نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ﴾ عليه السلام؛ أي: خبره العظيم الشأن، معطوف على العامل في قوله: ﴿وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى﴾ وهو (اذكر) المقدر،
٧٠ - وقوله: ﴿إِذْ قَالَ﴾ إبراهيم منصوب بـ ﴿نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ﴾؛ أي: واقرأ عليهم خبر إبراهيم الخليل وقصته
(١) الشوكاني.
وقت قوله: ﴿لِأَبِيهِ﴾ آزر، وهو تارخ ﴿وَقَوْمِهِ﴾ أهل بابل، وهو كصاحب موضع بالعراق، وإليه ينسب السحر ﴿مَا تَعْبُدُونَ﴾؛ أي: أي شيء تعبدونه؟ والاستفهام فيه للتقرير المضمن للتوبيخ، سألهم وقد علم أنهم عبدة الأوثان؛ لينبههم على ضلالهم، ويريهم أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة، وليلزمهم الحجة.
فإن قلت (١): لم قال إبراهيم هنا في السؤال ﴿مَا تَعْبُدُونَ﴾، وقال في الصافات؛ ﴿مَاذَا تَعْبُدُونَ﴾ بزيادة (ذا)، فما الفرق بين الموضعين؟
قلتُ: الفرق بينهما أنه لما وقع الجواب منهم هنا بقولهم: ﴿نَعْبُدُ أَصْنَامًا﴾ سألهم بـ ﴿مَا﴾ الموضوعة لمجرد الاستفهام، وهناك لما لم يجيبوه سألهم بـ ﴿ماذا﴾ مبالغة في توبيخهم، ولهذا زاد هناك في التوبيخ، فقال: ﴿أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٨٧)﴾ فذكر في كل سورة ما يناسب ما ذكر فيها، والله أعلم بأسرار كلامه.
والمعنى: أي (٢) واتل يا محمد على أمتك أخبار إبراهيم الخليل إمام الحنفاء؛ ليقتدوا به في الإخلاص والتوكل على الله وعبادته وحده لا شريك له، والتبري من الشرك، وقد أوتي الرشد من صغره، فهو من حين نشأ وترعرع أنكر على قومه عبادة الأوثان، فقال لأبيه وقومه: ماذا تعبدون؟ وهو مشاهد راء له ليعلمهم أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة في شرع ولا عقل، روي أن أصنامهم كانت من ذهب وفضة ونحاس وحديد وخشب،
٧١ - فأجابوه إجابة المفتخر بما يفعل المزهو بجميل ما يصنع، كما ذكره بقوله سبحانه: ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال أبوه وقومه ﴿نَعْبُدُ أَصْنَامًا﴾ وهي اثنان وسبعون صنمًا، جمع صنم، والصنم: ما كان على صورة ابن آدم من حجر أو غيره، كما في "فتح الرحمن" ﴿فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ﴾؛ أي: فنقيم على عبادتها طول النهار، وإنما قالوا: ﴿فَنَظَلُّ﴾؛ لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل، أو معناه الدوام، وإنما لم يقتصروا على قولهم: ﴿أَصْنَامًا﴾ بل أطنبوا في الجواب بإظهار الفعل وعطف دوام عكوفهم على أصنافهم ابتهاجًا
(١) فتح الرحمن بتصرف.
(٢) المراغي.
وافتخارًا بذلك، وصلة العكوف كلمة على، وإيراد اللام لإفادة معنى زائد، كأنهم قالوا: فنظل لأجلها مقبلين على عبادتها، ومستديرين حولها.
وقال أبو الليث: إن إبراهيم عليه السلام ولدته أمه في الغار، فلما خرج وكبر دخل المصر، وأراد أن يعلم على أي مذهب هم، وهكذا ينبغي للعاقل إذا دخل بلدة أن يسألهم عن مذهبهم، فإن وجدهم على الاستقامة دخل معهم، وإن وجدهم على غير الاستقامة أنكر عليهم.
٧٢ - فلما قال إبراهيم: ما تعبدون، وقالوا: نعبد أصنامًا فنظل لها عاكفين، وأراد أن يبين عيب فعلهم ﴿قَالَ﴾ إبراهيم، استئناف بياني ﴿هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ﴾؛ أي: هل يسمعون دعاءكم؛ أي: هل تسمع تلك الأصنام دعاءكم، فهو على حذف المضاف، فإن ﴿كم﴾ ليس من قبيل المسموعات، والتعبير عنها بالواو بحسب زعمهم، فإنهم كانوا يجرون الأصنام مجرى العقلاء، وقرأ الجمهور: ﴿يَسْمَعُونَكُمْ﴾ بفتح الياء من سمع الثلاثي، وقرأ قتادة ويحيى بن يعمر بضم الياء وكسر الميم من أسمع الرباعي؛ أي: هل يسمعونكم أصواتهم في الاستجابة لكم ﴿إِذْ تَدْعُونَ﴾؛ أي: وقت دعائكم إياهم لحوائجكم فيستجيبون لكم، وقرىء بإظهار ذال ﴿إِذْ﴾، وبإدغامها في تاء ﴿تَدْعُونَ﴾
٧٣ - ﴿أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ﴾ في معايشكم بسبب عبادتكم لها ﴿أَوْ يَضُرُّونَ﴾ في معايشكم بتركك لعبادتها؛ إذ لا بد للعبادة من جلب نفع أو دفع ضر.
٧٤ - ﴿قَالُوا﴾ ما رأينا منهم ذلك السمع أو النفع أو الضر ﴿بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ﴾: منصوب بقوله: ﴿يَفْعَلُونَ﴾ وهو مفعول ثان لـ ﴿وَجَدْنَا﴾؛ أي: وجدناهم يعبدون مثل عبادتنا، فاقتدينا بهم، اعترفوا بأنها بمعزل من السمع والمنفعة والمضرة بالكلية، واضطروا إلى إظهار أن لا سند لهم سوى التقليد.
والاستفهام في قوله: ﴿هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ﴾ للتقرير؛ أي: فإنها إذا كانت لا تسمع ولا تنفع ولا تضر فلا وجه لعبادتها، فإذا قالوا: نعم هي كذلك أقروا بأن عبادتهم لها من باب اللعب والعبث، وعند ذلك تقوم الحجة عليهم، فلما أورد عليهم الخليل هذه الحجة الباهرة لم يجدوا لها جوابًا إلا رجوعهم إلى التقليد
البحت، وهو أنهم وجدوا آباءهم كذلك؛ أي: يفعلون هذه العبادة لهذه الأصنام مع كونها بهذه الصفة التي هي سلب السمع والنفع والضر عنها، وهذا الجواب هو العصي التي يتوكأ عليها كل عاجز، ويمشي بها كل أعرج، ويغتر بها كل مغرور، وينخدع لها كل مخدوع.
٧٥ - وفي الآية: دليل على إبطال التقليد في الدين وذمه، ومدح الأخذ بالاستدلال ﴿قَالَ﴾ إبراهيم متبرئًا من الأصنام ﴿أَفَرَأَيْتُمْ﴾ والهمزة فيه للاستفهام التوبيخي المضمن للإنكار، داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف. ورأى؛ إما بصرية تتعدى لمفعول واحد، أو علمية بمعنى عرف تتعدى لمفعول واحد أيضًا، والتقدير: أنظرتم فأبصرتم، أو تأملتم فعلمتم
٧٦ - ﴿مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦)﴾؛ أي: الأولون حق الإبصار، أو حق العلم، فإن الباطل لا ينقلب حقًا بكثرة فاعليه، وكونه دأبًا قديمًا، و ﴿مَا﴾ موصولة عبارة عن الأصنام،
٧٧ - و ﴿الفاء﴾ في: ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي﴾ تعليلية؛ أي: فأنا لا أعبدها؛ لأنها عدو لي؛ أي: هل تأملتم ما كنتم تعبدونه أنتم وآباؤكم، فعلمتم أنها لا تنفع ولا تضر، ولا تستحق العبادة، وأنا لا أعبدها معكم؛ لأنها عدو لي إلا رب العالمين. وقيل: أرأيتم بمعنى أخبروني؛ أي: أخبروني عن حال ما كنتم تعبدون هل هي تنفع، أو تضر، أم لا، أو أخبروني ما كنتم تعبدون هل هو حقيق بالعبادة أم لا، وهذا استهزاء بعبدة الأوثان.
أي: لم تنظروا ولم تقفوا على حالها أنها لا تنفع ولا تضر، ولو وقفتم على حالها ما عبدتموها، فاعلموا أن الأصنام أعداء لعابديهم؛ لما أنهم يتضررون بهم يوم القيامة فوق ما يتضرر الرجل من عدوه، فسمى الأصنام أعداء، وهي جمادات على سبيل الاستعارة، وصور الأمر في نفسه حيث قال: ﴿عَدُوٌّ لِي﴾ لا لكم تعريضًا لهم، فإنه أنفع في النصح من التصريح، وإشعارًا بأنها نصيحة بدأ بها نفسه ليكون أدعى إلى القبول. وقال الفراء: هو من المقلوب، ومعناه: فإني عدو لهم، فإن من عاديته عاداك، وأفرد العدو؛ لأنه يطلق بلفظه كالصديق على المفرد والمثنى والجمع والمذكر؛ لأنه في الأصل مصدر، أو بمعنى النسب؛ أي: ذووا
عداوة كتامر لذي تمر.
والاستثناء في قوله: ﴿إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾؛ أي: إما (١) منقطع، فالمعنى عليه: فاعلموا أن معبوداتكم عدوّ لي، لا أعبدها، لكن رب العالمين ليس كذلك، بل هو وليي في الدنيا والآخرة، لا يزال يتفضل عليّ بمنافعهما فأعبده، أو متصل، فالمعنى عليه: فإن كل معبود عدوّ لي إلا رب العالمين، فإنه ليس بعدوّي بل هو وليي ومعبودي.
والحاصل: أن إبراهيم عليه السلام صوّر الأمر في نفسه كما مر آنفًا تعريضًا بهم، فالمعنى: إني تفكرت في أمري، فرأيت عبادتي للأصنام عبادة للعدو؛ لأن من يغري على عبادتها هو الشيطان؛ فإنه أعدى عدو الإنسان، فاجتنَبتها، وأراهم إبراهيم أن تلك الكلمة نصيحة نصح بها نفسه، فإذا تفكروا قالوا: ما نصحنا إبراهيم إلّا بما نصح به نفسه، فيكون ذلك أدعى للقبول، وأبعث إلى الاستماع منه.
ومعنى الآية: أي (٢) إن كانت هذه الأصنام لها تأثير كما تدعون، وتستطيع أن تضر وتنفع فتخلص إليّ بالمساءة، فإني عدو لها، لا أبالي بها، ولا آبَهُ بشأنها، ولكن رب العالمين هو وليي في الدنيا والآخرة، ولا يزال متفضلًا علي فيهما.
ونحو الآية قول نوح عليه السلام: ﴿فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ﴾، وقول هود: ﴿إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦)﴾.
٧٨ - ثم وصف معبوده رب العالمين الذي يستحق العبادة بأوصاف استحق لأجلها أن يعبد، فقال:
(١) المراح.
(٢) المراغي.
١ - ﴿الَّذِي خَلَقَنِي﴾ وصورني من النطفة بالتكوين في القرار المكين، ﴿فَهُوَ﴾ وحده ﴿يهدينـ﴾ ـي ويرشدني إلى مصالح الدين والدنيا بضروب الهدايات في كل لحظة ولمحة. والاستقبال (١) في ﴿يهديني﴾ مع سبق العناية بالهداية؛ لأنه يحتمل يهديني للأهم الأفضل، والأتم الأكمل، أو الذي خلقني لأسباب خدمته، فهو يهديني إلى آداب خلته، أي: رب العالمين هو الخالق الذي خلقني وصوّرني فأحسن صورتي، فهو الذي يهديني إلى كل ما يهمني من أمور المعاش والمعاد هداية تتجدد على جهة الدوام والاستمرار.
٢ - ٧٩ ﴿و﴾ هو الإله ﴿الَّذِي هُوَ﴾ وحده ﴿يُطْعِمُنِي﴾؛ أي: طعام شاء ﴿وَيَسْقِينِ﴾ ـي أي شراب شاء؛ أي: هو وحده رازقي بكل منافع الرزق وأنواعها، فمن عنده طعامي وشرابي، وليس الإطعام والسقي عبارتين عن مجرد خلق الطعام والشراب له، وتمليكهما إياه، بل يدخل فيهما إعطاء جميع ما يتوقف الانتفاع بالطعام والشراب عليه، كالشهوة وقت المضغ والابتلاع والهضم والدفع ونحو ذلك، ومن دعاء أبي هريرة - رضي الله عنه - اللهم اجعل لي ضرسًا طحونًا، ومعدة هضومًا، ودبرًا بشورًا.
والمعنى (٢): وهو رازقي بما يسر من الأسباب السماوية والأرضية، فساق المزن، وأنزل الماء، فأحيا به الأرض، وأخرج به من كل الثمرات رزقًا للعباد، وأنزل الماء عذبًا زلالًا، يسقيه ما خلق من الأنعام والأناسي.
فإن قلت: لِمَ زاد ﴿هُوَ﴾ عقب ﴿الَّذِي﴾ في الإطعام والسقي؟
قلت: لأنهما مما يصدران من الإنسان عادة، فيقال: زيد يطعم ويسقي، فذكر ﴿هُوَ﴾ تأكيدًا وإعلامًا بأن ذلك منه تعالى، لا من غيره بخلاف الخلق والموت والحياة، لا تصدر من غير الله تعالى: اهـ من "فتح الرحمن".
وتكرير (٣) الموصول في المواضع الثلاثة المعطوفة للإيذان بأن كل واحد من
(١) النسفي.
(٢) المراغي.
(٣) أبو السعود.
الصلات نعت جليل مستقل في إيجاب الحكم.
٣ - ٨٠ ﴿و﴾ الذي ﴿إِذَا مَرِضْتُ﴾؛ أي: أصابني مرض ﴿فَهُوَ﴾ وحده ﴿يَشْفِينِ﴾ ـي؛ أي: يبرئني ويعافيني من المرض؛ أي: ينعم علي بالشفاء إذا حصل لي مرض، لا الأطباء، وذلك أنهم كانوا يقولون: المرض من الزمان، ومن الأغذية، والشفاء من الأطباء والأدوية، فأعلم إبراهيم أن الذي أمرض هو الذي يشفي، وهو الله تعالى.
والخلاصة: أني إذا مرضت لا يقدر على شفائي أحد غيره مما يقدر من الأسباب الموصلة إلى ذلك، وحكي عن بعضهم أنه مرض وضعف حتى اصفر لونه، فقيل له: ألا ندعو لك طبيبًا يداويك من هذا المرض؟ فقال: الطبيب أمرضني.
فإن قلت: لِمَ (١) نسب المرض إلى نفسه حيث قال: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ﴾ ولم يقل: وإذا أمرضني، والشفاء إلى الله تعالى حيث قال ﴿فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ مع أنهما من الله تعالى؟
قلت: أراد الثناء على ربه، فأضاف إليه الخير المحض الذي هو الشفاء، وأضاف المرض الذي هو النقمة إلى نفسه لرعاية حسن الأدب؛ لأنه لو قال: وإذا أمرضني لعد قومه ذلك عيبًا، ونظيره قصة الخضر حيث قال في العيب: ﴿فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا﴾، وفي الخير المحض ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا﴾، وكذا الجن راقبوا هذا الأدب بعينه، حيث قالوا: ﴿وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (١٠)﴾.
فإن قيل: فهذا يرده قوله: ﴿وَالَّذِي يُمِيتُنِي﴾؟.
فالجواب: أن القوم كانوا لا ينكرون الموت، وإنما يجعلون له سببًا سوى تقدير الله تعالى، فأضافه إبراهيم إلى الله عز وجل. اهـ. من "زاد المسير".
(١) زاد المسير بتصرف.
وقوله: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ﴾ معطوف على ﴿يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ﴾، وإنما نظمهما في سلك صلة واحدة، لما أن الصحة والمرض من متفرعات الأكل والشرب غالبًا، فإن البطنة تورث الأسقام والأوجاع، والخمصة أصل الراحة والسلامة، قالت الحكماء: لو قيل لأكثر الموتى: ما سبب آجالكم؟ لقالوا: التخم، وفي الحكمة: ليس للبطنة خير من خمصة تتبعها.
٤ - ٨١ ﴿وَالَّذِي يُمِيتُنِي﴾ في الدنيا بقبض روحي عند انقضاء الأجل ﴿ثُمَّ يُحْيِينِ﴾ ي بالبعث في الآخرة لمجازاة العمل. أدخل ﴿ثُمَّ﴾ هنا؛ لأن بين الإماتة الواقعة في الدنيا وبين الإحياء الحاصل في الآخرة تراخيًا، ونسبة الإماتة إلى الله تعالى؛ لأنها من النعم الإلهية في الحقيقة حيث إن الموت وصلة لأهل الكمال إلى الحياة الأبدية، والخلاص من أنواع المحن والبلية.
٥ - ٨٢ ﴿وَالَّذِي أَطْمَعُ﴾ وأرجو ﴿أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي﴾ بترك الأولى، أو هي كذباته الثلاث، وقد تقدم الكلام عليها ﴿يَوْمَ الدِّينِ﴾؛ أي: يوم الجزاء والحساب، روى مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قلت: يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، أكان ذلك نافعًا له؟ قال: لا ينفع؛ إنه لم يقل يومًا: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين". وابن جدعان اسمه عبد الله، وهو ابن عم عائشة - رضي الله عنها - وكان في ابتداء أمره فقيرًا، ثم ظفر بكنز استغنى به، فكان ينفق من ذلك الكنز، ويفعل المعروف.
وهذا كله احتجاج من إبراهيم على قومه أنه لا يصلح للإلهية إلا من يفعل هذه الأفعال.
وخلاصة مقاله: أن جميع النعم التي يتمتع بها المرء من النشأة الأولى إلى آخر الدهر هي من الله وحده، ولا قدرة لأصنامكم على شيء منها. قرأ الجمهور: ﴿خَطِيئَتِي﴾ بالإفراد، والحسن ﴿خطاياي﴾ بالجمع.
واستغفار الأنبياء عليهم السلام تواضع منهم لربهم، وتعليم لأممهم؛ ليكونوا على حذر وطلب، لأن يغفر الله سبحانه لهم ما فرط منهم.
224
وبعدما ذكر فنون الألطاف الفائضة عليه من الله تعالى من مبدأ خلقه إلى يوم بعثه حمله ذلك على مناجاته تعالى، ودعائه لربط العتيد، وجلب المزيد، فقال: ﴿رَبِّ هَبْ لِي﴾ إلى آخر ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
الإعراب
﴿فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (٤٠)﴾.
﴿فَجُمِعَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف تقديره: فبعث فرعون في المدائن حاشرين، فجمع السحرة ﴿جُمِعَ السَّحَرَةُ﴾: فعل مغير ونائب فاعل، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة. ﴿لِمِيقَاتِ يَوْمٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿جمع﴾. ﴿مَعْلُومٍ﴾: صفة ﴿يَوْمٍ﴾. ﴿وَقِيلَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿قيل﴾: فعل ماض مغير الصيغة. ﴿لِلنَّاسِ﴾: متعلق به. ﴿هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ﴾: نائب فاعل محكي لـ ﴿قيل﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿جمع﴾، وإن شئت قلت: ﴿هَلْ﴾: حرف للاستفهام الاستبطائي، فيه معنى الحث على الفعل. ﴿أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿قيل﴾. ﴿لَعَلَّنَا﴾: ﴿لعل﴾: حرف ترج ونصب، و ﴿نا﴾: اسمها. ﴿نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿لعل﴾، وجملة ﴿لعل﴾ في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿قيل﴾ على كونها معللة للاجتماع. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها. ﴿هُمُ﴾: ضمير فصل. ﴿الْغَالِبِينَ﴾: خبر كان، وجواب ﴿إن﴾ الشرطية معلوم مما قبلها، تقديره: إن كانوا هم الغالبين نتبعهم، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿قيل﴾.
﴿فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (٤١) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢)﴾.
﴿فَلَمَّا﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر
225
تقديره: إذا عرفت أن السحرة جمعت، وأردت بيان ما قالوا بعدما جمعوا: فأقول لك: لما جاء السحرة. ﴿لَمَّا﴾: اسم شرط غير جازم في محل نصب مفعول فيه ظرف زمان. ﴿جَاءَ السَّحَرَةُ﴾: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ ﴿لما﴾. ومحلها الجر بالإضافة ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿لِفِرْعَوْنَ﴾: متعلق به، والجملة جواب ﴿لَمَّا﴾، وجملة ﴿لَمَّا﴾ في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿أَئِنَّ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التقريري، ﴿إن﴾: حرف نصب. ﴿لَنَا﴾: جار ومجرور خبر مقدم لـ ﴿إن﴾. ﴿لَأَجْرًا﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿أجرا﴾: اسم ﴿إن﴾ مؤخر، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿كُنَّا﴾: فعل ناقص واسمه، في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿نَحْنُ﴾: ضمير فصل. ﴿الْغَالِبِينَ﴾: خبر كان، وجواب ﴿إِن﴾ الشرطية معلوم مما قبلها، تقديره: إن كنا نحن الغالبين فلنا أجر، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿فِرْعَوْنَ﴾، والجملة مستأنفة. ﴿نَعَمْ﴾ حرف جواب قائم مقام الجواب المحذوف تقديره: نعم لكم أجر، والجواب المحذوف في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَإِنَّكُمْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إنكم﴾ ناصب واسمه. ﴿إِذًا﴾: حرف جواب وجزاء مهمل لا عمل لها. ﴿لَمِنَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء. ﴿من المقربين﴾: جار ومجرور خبر ﴿إِنَّكُمْ﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب معطوفة على الجواب المحذوف.
﴿قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (٤٤)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض. ﴿لَهُمْ﴾: متعلق به. ﴿مُوسَى﴾: فاعل، والجملة مستأنفة. ﴿أَلْقُوا﴾ فعل أمر وفاعل. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به، وجملة ﴿أَلْقُوا﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَنْتُمْ مُلْقُونَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة صلة ﴿مَا﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: ما أنتم ملقونه. ﴿فَأَلْقَوْا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿ألقوا﴾: فعل ماض وفاعل. ﴿حِبَالَهُمْ﴾: مفعول به
226
ومضاف إليه. ﴿وَعِصِيَّهُمْ﴾: معطوف عليه، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿قَالَ﴾. ﴿وَقَالُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿أَلْقُوا﴾. ﴿بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ﴾: الباء: حرف جر وقسم، ﴿عزة﴾: مقسم به مجرور بباء القسم. ﴿فِرْعَوْنَ﴾: مضاف إليه، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف تقديره: نحلف ونقسم بعزة فرعون، وجملة القسم في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه. ﴿لَنَحْنُ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿نحن﴾: ضمير فصل. ﴿الْغَالِبُونَ﴾: خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ على كونها جواب القسم.
﴿فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (٤٦) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (٤٨)﴾.
﴿فَأَلْقَى﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿ألقى موسى عصاه﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على قوله: ﴿فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ﴾. ﴿فَإِذَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿إذا﴾: حرف فجأة. ﴿هِيَ﴾: مبتدأ. ﴿تَلْقَفُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على العصا. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به، وجملة ﴿تَلْقَفُ﴾ في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿ألقى﴾ عطف اسمية على فعلية. ﴿يَأْفِكُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة ﴿مَا﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: يأفكونه. ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ﴾: فعل ونائب فاعل معطوف على قوله: ﴿فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ﴾. ﴿سَاجِدِينَ﴾: حال من ﴿السَّحَرَةُ﴾، والأصل: فألقى الله السحرة ساجدين. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال ثانية من ﴿السَّحَرَةُ﴾، ولكن بتقدير قد. ﴿آمَنَّا﴾: فعل وفاعل. ﴿بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿آمَنَّا﴾، وجملة ﴿آمَنَّا﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿رَبِّ﴾: بدل من ﴿رب العالمين﴾: ﴿مُوسَى﴾: مضاف إليه. ﴿وَهَارُونَ﴾: معطوف على ﴿مُوسَى﴾.
﴿قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿فِرْعَوْنَ﴾، والجملة مستأنفة.
227
﴿آمَنْتُمْ لَهُ﴾ إلى قوله: ﴿قَالُوا﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿آمَنْتُمْ﴾: فعل وفاعل. ﴿لَهُ﴾: متعلق به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿قَبْلَ﴾: منصوب على الظرفية متعلق بآمن أيضًا. ﴿أَنْ﴾: حرف نصب. ﴿آذَنَ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على ﴿فِرْعَوْنَ﴾. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق به، والجملة في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه، ﴿أَىَّ﴾ قبل إذني لكم. ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه. ﴿لكبيركم﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿لَكَبِيرُكُمُ﴾: خبر ﴿إن﴾ ومضاف إليه، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها معللة لإيمانهم. ﴿الَّذِي﴾: في محل الرفع صفة لـ ﴿كبيركم﴾. ﴿عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعولان، والجملة صلة الموصول. ﴿فَلَسَوْفَ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم ما قلت لكم واستمررتم على فعلكم، وأردتم بيان عاقبتكم.. فأقول لكم. ﴿لسوف تعلمون﴾: و ﴿اللام﴾: زائدة زيدت لتأكيد معنى الكلام، وليست للقسم كما مر في مبحث التفسير. ﴿سوف﴾: حرف تنفيس للاستقبال البعيد. ﴿تَعْلَمُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب ﴿إذا﴾ المقدرة، وجملة ﴿إذا﴾ المقدرة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿لَأُقَطِّعَنَّ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿أقطعن﴾: فعل مضارع في محل الرفع لتجرده من الناصب والجازم مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير مستتر يعود على ﴿فِرْعَوْنَ﴾. ﴿أَيْدِيَكُمْ﴾: مفعول به. ﴿وَأَرْجُلَكُمْ﴾: معطوف على ﴿أَيْدِيَكُمْ﴾، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها مفسرة لقوله: ﴿فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾. ﴿مِنْ خِلَافٍ﴾: جار ومجرور حال من ﴿أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ﴾؛ أي: حالة كونها متخالفات النوع والاسم. ﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿أصلبنكم﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به. ﴿أَجْمَعِينَ﴾: تأكيد لضمير المخاطبين، وجملة القسم معطوفة على جملة القسم الأولى.
﴿قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١)﴾
228
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿لَا ضَيْرَ﴾: ﴿لَا﴾: نافية تعمل عمل إن. ﴿ضَيْرَ﴾: في محل النصب اسمها، وخبر ﴿لَا﴾ محذوف تقديره: لا ضير كائن علينا، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه. ﴿إِلَى رَبِّنَا﴾: متعلق بـ ﴿مُنْقَلِبُونَ﴾. ﴿مُنْقَلِبُونَ﴾: خبر ﴿إنّ﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ على كونها معللة لعدم الضير. ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه. ﴿نَطْمَعُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر، وجملة ﴿نَطْمَعُ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ على كونها علة ثانية لعدم الضير. ﴿أَنْ يَغْفِرَ﴾: ناصب وفعل منصوب. ﴿لَنَا﴾: متعلق بـ ﴿يَغْفِرَ﴾. ﴿رَبُّنَا﴾: فاعل. ﴿خَطَايَانَا﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض؛ أي: في غفران خطايانا، أو منصوب على المفعولية على تضمين نطمع معنى نرجو. ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿كُنَّا﴾: فعل ناقص واسمه، في محل النصب بـ ﴿أَن﴾ المصدرية. ﴿أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ﴾: خبر كان ومضاف إليه، وجملة كان مع ﴿أَن﴾ المصدرية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف؛ أي: لكوننا أول المؤمنين، أو بسبب كوننا أول المؤمنين، والجار المحذوف متعلق بـ ﴿يَغْفِرَ﴾؛ أي: أول من آمن من أتباع فرعون ورعيته.
﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (٥٦)﴾.
﴿وَأَوْحَيْنَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿أوحينا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿إِلَى مُوسَى﴾: متعلق بـ ﴿أوحينا﴾. ﴿أَنْ﴾: مفسرة لأن في الإيحاء معنى القول دون حروفه. ﴿أَسْرِ﴾: فعل أمر من أسرى إذا سار ليلًا، وفاعله ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾، والجملة الفعلية جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب. ﴿بِعِبَادِي﴾: متعلق بـ ﴿أَسْرِ﴾، أو حال من فاعل ﴿أَسْرِ﴾؛ أي: متلبسًا بعبادي. ﴿إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ﴾: ناصب واسمه وخبره، وجملة ﴿أَنْ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل الإسرار. ﴿فَأَرْسَلَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿أرسل فرعون﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على ﴿أوحينا﴾. ﴿فِي الْمَدَائِنِ﴾: متعلق بـ ﴿أرسل﴾، أو حال من
229
﴿حَاشِرِينَ﴾. ﴿حَاشِرِينَ﴾: مفعول به. ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ﴾: ناصب واسمه. ﴿لَشِرْذِمَةٌ﴾: خبره، و ﴿اللام﴾: حرف ابتداء. ﴿قَلِيلُونَ﴾: صفة لـ ﴿شرذمة﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول لقول محذوف وقع حالًا من فرعون؛ أي: حالة كونه قائلًا: إن هؤلاء لشرذمة قليلون. ﴿وَإِنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه. ﴿لَنَا﴾: متعلق بـ ﴿غائظون﴾. ﴿لَغَائِظُونَ﴾: خبر ﴿إن﴾، و ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ﴾، ﴿وَإِنَّا﴾: ناصب واسمه. ﴿لَجَمِيعٌ﴾: خبر ﴿إن﴾، و ﴿اللام﴾: حرف ابتداء. ﴿حَاذِرُونَ﴾: صفة ﴿جميع﴾، وجملة ﴿إن﴾ معطوفة على جملة ﴿إن﴾ الأولى.
﴿فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠)﴾.
﴿فَأَخْرَجْنَاهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿أخرجناهم﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على قوله: ﴿فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ﴾. ﴿مِنْ جَنَّاتٍ﴾: متعلق بـ ﴿أخرجنا﴾. ﴿وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ﴾ معطوفة على ﴿جَنَّاتٍ﴾. ﴿كَذَلِكَ﴾: صفة لمصدر محذوف تقديره: أخرجنا إخراجًا مثل ذلك الإخراج العجيب الذي وقع لهم، أو خبر لمبتدأ محذوف تقديره: الأمر كذلك؛ أي: أمرنا كائن كذلك؛ أي: مثل ما فعلنا بهم من الإخراج المذكور، أو صفة ثانية لـ ﴿مقام﴾. ﴿وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾: فعل وفاعل ومفعولان معطوف على ﴿أخرجنا﴾. ﴿فَأَتْبَعُوهُمْ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿أتبعوهم﴾: فعل وفاعل ومفعول ثان، والمفعول الأول محذوف تقدير: فأتبعوا أنفسهم إياهم؛ أي: لحقوهم. ﴿مُشْرِقِينَ﴾: حال؛ إما من الفاعل، أو من المفعول، والجملة معطوفة على ﴿أخرجناهم﴾، وذلك لأن إعطاء البساتين وما بعدها لبني إسرائيل إنما كان بعد هلاك فرعون وقومه اهـ. شيخنا.
﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣)﴾.
﴿فَلَمَّا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿لما﴾: اسم شرط غير جازم. في محل نصب مفعول فيه ظرف زمان. ﴿تَرَاءَى الْجَمْعَانِ﴾: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط في
230
محل جر بالإضافة لـ ﴿لما﴾. ﴿قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى﴾: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة جواب ﴿لما﴾، وجملة ﴿لما﴾ معطوفة على جملة قوله: ﴿فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠)﴾ ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه. ﴿لَمُدْرَكُونَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿مدركون﴾: خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿مُوسَى﴾، والجملة مستأنفة. ﴿كَلَّا﴾: حرف ردع وزجر بمعنى ارتدعوا وانزجروا. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿مَعِيَ﴾: ظرف ومضاف متعلق بمحذوف خبر ﴿إِنَّ﴾ مقدم على اسمها. ﴿رَبِّي﴾: اسمها مؤخر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿سَيَهْدِينِ﴾ ﴿السين﴾: حرف استقبال. ﴿يَهْدِينِ﴾: فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ضمة مقدرة، والنون نون الوقاية، وفاعله ضمير يعود على الله، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بالكسرة في محل النصب مفعول به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿فَأَوْحَيْنَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿أوحينا﴾: فعل وفاعل. ﴿إِلَى مُوسَى﴾: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى﴾. ﴿أَنِ﴾: مفسرة بمعنى أي. ﴿اضْرِبْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير مستتر يعود على ﴿مُوسَى﴾. ﴿بِعَصَاكَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿اضْرِبْ﴾. ﴿الْبَحْرَ﴾: مفعول به، والجملة جملة مفسرة لجملة ﴿أوحينا﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿فَانْفَلَقَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿انفلق﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿الْبَحْرَ﴾، والجملة معطوفة على محذوف تقديره: فضربه فانفلق. ﴿فَكَانَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿كان كل فرق﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿كَالطَّوْدِ﴾: خبر ﴿كان﴾. ﴿الْعَظِيمِ﴾: صفة لـ ﴿الطود﴾، وجملة ﴿كان﴾: معطوفة على جملة ﴿انفلق﴾.
﴿وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨)﴾.
﴿وَأَزْلَفْنَا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿أوحينا﴾. ﴿ثَمَّ﴾: اسم إشارة للمكان البعيد، في محل النصب على الظرفية المكانية متعلق بـ ﴿أزلفنا﴾.
231
﴿الْآخَرِينَ﴾: مفعول به. ﴿وَأَنْجَيْنَا مُوسَى﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿أزلفنا﴾. ﴿وَمَنْ﴾: اسم موصول في محل النصب معطوف على ﴿مُوسَى﴾. ﴿مَعَهُ﴾: ظرف ومضاف إليه صلة لـ ﴿مَن﴾ الموصولة. ﴿أَجْمَعِينَ﴾: تأكيد لـ ﴿مَن﴾ الموصولة. ﴿ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦)﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿أنجينا﴾. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿فِي ذَلِكَ﴾: خبر لـ ﴿إِنَّ﴾ مقدم على اسمها. ﴿لَآيَةً﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿آية﴾: اسمها مؤخر، والجملة مستأنفة، ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: نافية. ﴿كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾: فعل ناقص واسمه وخبره معطوف على جملة ﴿إِنَّ﴾. ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ﴾: ناصب واسمه. ﴿لَهُوَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿هو﴾: ضمير فصل. ﴿الْعَزِيزُ﴾: خبر ﴿إِنَّ﴾. ﴿الرَّحِيمُ﴾: خبر ثان لها، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً﴾.
﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (٦٩) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (٧٠) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (٧١) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤)﴾.
﴿وَاتْلُ﴾: ﴿الواو﴾: عاطف. ﴿اتل﴾: فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، وفاعله ضمير يعود على محمد. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق به. ﴿نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة معطوفة على اذكر المقدر عاملًا في قوله: ﴿وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى﴾. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾، والظرف بدل من ﴿نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ﴾ بدل اشتمال، فيكون العامل فيه ﴿أتل﴾، وقيل: منصوب بـ ﴿نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ﴾؛ أي: وقت قوله لأبيه. ﴿لِأَبِيهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿قَالَ﴾. ﴿وَقَوْمِهِ﴾: معطوفة على ﴿أبيه﴾. ﴿مَا﴾: اسم استفهام في محل النصب مفعول مقدم لـ ﴿تَعْبُدُونَ﴾. ﴿تَعْبُدُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿نَعْبُدُ أَصْنَامًا﴾: فعل ومفعول به، وفاعل مستتر يعود على قوم إبراهيم وأبيه، والجملة في
232
محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿فَنَظَلُّ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿نظل﴾: فعل مضارع ناقص، واسمها ضمير يعود على قوم إبراهيم. ﴿لَهَا﴾: متعلق بـ ﴿عَاكِفِينَ﴾. ﴿عَاكِفِينَ﴾: خبر ظل، وجملة ﴿نظل﴾ في محل النصب معطوفة على جملة ﴿نَعْبُدُ﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾، والجملة مستأنفة. ﴿هَلْ﴾: حرف استفهام للاستفهام التوبيخي. ﴿يَسْمَعُونَكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، ولكنه على تقدير محذوف؛ أي: يسمعون دعاءكم، أو يسمعونكم إذ تدعون، فعلى الأول تكون متعدية لواحد اتفاقًا، وعلى الثاني هي متعدية للاثنين، فقامت الجملة المقدرة مقام المفعول الثاني؛ وهو قول أبي علي الفارسي، وعند غيره الجملة المقدرة حال كما هو مبسوط في محله، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى متعلق بـ ﴿يَسْمَعُونَكُمْ﴾. ﴿تَدْعُونَ﴾: فعل وفاعل في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿يَسْمَعُونَكُمْ﴾. ﴿أَوْ يَضُرُّونَ﴾: معطوف عليه أيضًا. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿بَلْ﴾: حرف للإضراب الانتقالي أفادوا بها الإجابة عن استفهامة. ﴿وَجَدْنَا آبَاءَنَا﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، وجملة ﴿يَفْعَلُونَ﴾ في محل المفعول الثاني. ﴿كَذَلِكَ﴾: صفة لمصدر محذوف تقديره: يفعلون فعلًا مثل ذلك الفعل، أو تجعل الكاف مفعولًا به مقدمًا لـ ﴿يَفْعَلُونَ﴾، ولعله أولى، وجملة قوله: ﴿بَلْ وَجَدْنَا﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾.
﴿قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير مستتر يعود على ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾، والجملة مستأنفة. ﴿أَفَرَأَيْتُمْ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري المتضمن معنى الاستهزاء والسخرية، داخلة على محذوف، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، ﴿رأيتم﴾: فعل وفاعل؛ وهي إما بصرية تتعدى لمفعول واحد، أو علمية بمعنى عرف تتعدى لمفعول واحد أيضًا. ﴿مَا﴾: موصولة في محل النصب مفعول به، والتقدير: أنظرتم فأبصرتم ما كنتم تعبدون، أو تأملتم فعلمتم ما كنتم تعبدون،
233
والجملة المحذوفة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ويحتمل أن تكون رأيتم بمعنى أخبروني، فتكون متعدية لمفعولين؛ أولهما اسم الموصول، وثانيهما محذوف، وهو جملة استفهامية، والتقدير: أخبروني ما كنتم تعبدون هل هو جدير بالعبادة. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿تَعْبُدُونَ﴾: خبر كان، وجملة كان صلة ﴿مَا﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: ما كنتم تعبدونه.
﴿أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩)﴾.
﴿أَنْتُمْ﴾: تأكيد للضمير في ﴿تَعْبُدُونَ﴾؛ ليصح العطف عليه. ﴿وَآبَاؤُكُمُ﴾: معطوف على ﴿الواو﴾ في ﴿تَعْبُدُونَ﴾. ﴿الْأَقْدَمُونَ﴾: صفة لـ ﴿آباؤكم﴾. ﴿فَإِنَّهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: تعليلية، ﴿إنهم﴾: ناصب واسمه. ﴿عَدُوٌّ﴾: خبره. ﴿لِي﴾: صفة لـ ﴿عَدُوٌّ﴾، أو متعلق به؛ لأنه بمعنى معاد لي. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء. ﴿رَبَّ﴾: منصوب على الاستثناء، والاستثناء منقطع، وإلا تقدر بـ: لكن، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها تعليلية لمحذوف تقديره: فلا أعبدهم لأنهم عدو لي إلّا رب العالمين ﴿الْعَالَمِينَ﴾: مضاف إليه. ﴿الَّذِي﴾: اسم موصول في محل النصب صفة لـ ﴿رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾، أو بدل منه، أو عطف بيان له، ويجوز الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو الذي خلقني. ﴿خَلَقَنِي﴾: فعل ماض ونون وقاية، وفاعل مستتر يعود على الموصول ومفعول به، والجملة صلة الموصول. ﴿فَهُوَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿هو﴾: مبتدأ. ﴿يَهْدِينِ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة لرعاية الفاصلة في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية على كونها صلة الموصول. ﴿وَالَّذِي﴾: معطوف على الموصول الأول. ﴿هُوَ﴾: مبتدأ. ﴿يُطْعِمُنِي﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ونون وقاية ومفعول، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية صلة الموصول. ﴿وَيَسْقِينِ﴾: فعل وفاعل مستتر ونون وقاية، وياء المتكلم المحذوفة للفاصلة في محل النصب مفعول به، والجملة معطوفة على
234
جملة ﴿يُطْعِمُنِي﴾.
﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢)﴾.
﴿وَإِذَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان مضمّن معنى الشرط. ﴿مَرِضْتُ﴾: فعل وفاعل، والجملة في حل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها. ﴿فَهُوَ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إذا﴾، ﴿هو﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَشْفِينِ﴾ في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ معطوفة على جملة الصلة. ﴿وَالَّذِي﴾: معطوف على الموصول الأول وجملة ﴿يُمِيتُنِي﴾: صلة الموصول. ﴿ثُمَّ يُحْيِينِ﴾: معطوف على ﴿يُحْيِينِ﴾. ﴿وَالَّذِي﴾: معطوف على الموصول الأول. ﴿أَطْمَعُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾. ﴿أَنْ يَغْفِرَ﴾: ناصب وفعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الموصول. ﴿لِي﴾: متعلق به. ﴿خَطِيئَتِي﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿يَوْمَ الدِّينِ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَغْفِرَ﴾، وجملة ﴿يَغْفِرَ﴾ في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ ﴿أَطْمَعُ﴾ على تضمينه معنى أرجو؛ أي: والذي أرجو غفرانه لي يوم الدين، وجملة ﴿أَطْمَعُ﴾ صلة الموصول، والعائد ضمير مستتر في ﴿يَغْفِرَ﴾، ويجوز أن يكون في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض تقديره: والذي أطمعه في غفران خطيئتي.
التصريف ومفردات اللغة
﴿لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ الميقات: ما وقت به؛ أي: حدّد من مكان أو زمان، ومنه مواقيت الإحرام ومواقيت الصلاة. أصله: موقات؛ لأنه من وقت قلبت ﴿الواو﴾ ياء؛ لوقوعها إثر كسرة، واليوم المعلوم هو يوم الزينة الذي حدده موسى في قوله: ﴿مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى﴾. وفي "الروح": الميقات: الوقت المضروب للشيء؛ أي: لما وقت به وعين من ساعات يوم معين، وهو
235
وقت الضحى من يوم الزينة، وهو يوم عيد لهم، كانوا يتزينون ويجتمعون فيه كل سنة.
﴿بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ﴾؛ أي: قوته التي يمتنع بها من الضيم.
﴿تَلْقَفُ﴾؛ أي: تبتلع بسرعة، من لقفه - كسمعه - إذا تناوله بسرعة، كما في "القاموس".
﴿إِنَّا نَطْمَعُ﴾؛ أي: نرجو، قال في "المفردات": الطمع: نزوع النفس إلى شيء شهوة له.
﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي﴾ الإيحاء: إعلام في خفاء، ويقال: سرى يسري - بالكسر - سرى - بالضم - وسرى - بالفتح - وأسرى أيضًا؛ أي: سار ليلًا.
﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ﴾ والشرذمة: الطائفة القليلة، والجمع الحقير القليل يجمع على شراذم. قال الجوهري: الشرذمة: الطائفة من الناس، والقطعة من الشيء، وثوب شراذم؛ أي: قطع، ومنه قول الشاعر:
جَاءَ الشِّتَاءُ وَقَمِيْصِيْ أخْلاَقُ شَرَاذِمٌ يَضْحَكُ مِنْهَا الْخَلاَقْ
﴿قَلِيلُونَ﴾ قال الفراء: يقال: عصبة قليلة وقليلون، وكثيرة وكثيرون، وقال المبرد: الشرذمة: القطعة من الناس غير الكثير، وجمعها الشراذم، قال المفسرون: وكان الشرذمة الذين قللهم ست مئة ألف، ولا يحصى عدد أصحاب فرعون.
﴿لَغَائِظُونَ﴾؛ أي: فاعلون ما يغيظنا ويغضبنا، يقال: غاظني كذا وأغاظني، ومنه التغيظ والاغتياظ، والغيظ أشد الغضب؛ وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من ثوران دم قلبه.
﴿وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (٥٦)﴾ يقال للمجموع: جمع وجميع وجماعة، والحذر: الاحتراز عن المخاوف. قال الفراء: الحاذر الذي يحذرك الآن، والحذر المخلوق كذلك لا تلقاه إلّا حذرًا، وقال الزجاج: الحاذر المستعد، والحذر
236
المتيقظ، وبه قال الكسائي ومحمد بن يزيد: قال النحاس: ﴿حذرون﴾ قراءة المدنيين وأبي عمرو، و ﴿حَاذِرُونَ﴾ قراءة أهل الكوفة، قال: وأبو عبيدة لذهب إلى أن معنى ﴿حذرون﴾ و ﴿حَاذِرُونَ﴾ واحد؛ وهو قول سيبويه، وأنشد سيبويه:
حَذِرُ أُمُوْرًا لاَ تَضِيْرُ وَآمِنٌ مَا لَيْسَ يُنْجِيْهِ مِنَ الأَقْدَارِ
وفي "المصباح" حذر حذرًا من باب تعب، واحتذر واحترز كلها بمعنى استعد وتأهب، فهو حاذر وحذر، والاسم منه الحذر مثل حمل، وحذر الشيء إذا خافه، فالشيء محذور؛ أي: مخوف، وحذرته الشيء فحذره، اهـ.
﴿جَنَّاتٍ﴾؛ أي: بساتين، جمع جنة. ﴿وَعُيُونٍ﴾: جمع عين من الماء، قال الراغب: يقال لمنبع الماء عين تشبيهًا بالعين الجارحة؛ لما فيها من الماء. ﴿وَكُنُوزٍ﴾؛ أي: أموال كنزوها وخزنوها في باطن الأرض.
﴿وَمَقَامٍ كَرِيمٍ﴾؛ أي: قصور عالية، ودور فخمة. قال السهيلي في كتاب "التعريف والإعلام": المقام الكريم الفيوم من أرض مصر في قول طائفة من المفسرين، ومعنى الفيوم ألف يوم، كما في "التكملة"؛ وهي مدينة عظيمة بناها يوسف الصديق عليه السلام، ولها نهر يشقها، ونهرها من عجائب الدنيا، وذلك أنه متصل بالنيل، وينقطع أيام الشتاء، وهو يجري في سائر الزمان على العادة، ولهذه المدينة ثلاث مئة وستون قرية عامرة كلها مزارع وغلال، ويقال: إن الماء قد أخذ أكثرها في هذا الوقت، وكان يوسف جعلها على عدد أيام السنة، فإذا أجدبت الديار المصرية كانت كل قرية منها تقوم بأهل مصر يومًا، وبأرض الفيوم بساتين وأشجار وفواكه كثيرة رخيصة وأسماك زائدة الوصف، وبها من قصب السكر كثير. ﴿وَأَوْرَثْنَاهَا﴾؛ أي: ملكناها لهم تمليك الميراث.
﴿فَأَتْبَعُوهُمْ﴾ بقطع الهمزة، يقال: أتبعه إتباعًا إذا طلب الثاني اللحوق بالأول، وتبعه تبعًا إذا مرّ به ومضى معه.
﴿مُشْرِقِينَ﴾ أي: داخلين في وقت الشروق، يقال: أشرق وأصبح وأمسى وأظهر إذا دخل في الشروق والصباح والمساء والظهيرة. قال الزجاج: يقال:
237
شرقت الشمس إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت.
﴿تَرَاءَى الْجَمْعَانِ﴾؛ أي: تقاربا بحيث رأى كل منهما الآخر، وهو تفاعل من الرؤية. ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾؛ أي: سيدركوننا ويلحقون بنا، اسم مفعول من أدرك الرباعي، ومنه: ﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ﴾.
﴿الْبَحْرَ﴾: وهو بحر القلزم كما مر، وسمّي البحر بحرًا لاستبحاره؛ أي: اتساعه وانبساطه. ﴿فَانْفَلَقَ﴾؛ أي: انشق.
﴿كُلُّ فِرْقٍ﴾ الفرق: الجزء المنفرق منه. قال في "المفردات": الفرق يقارب الفلق، لكن الفلق يقال اعتبارًا بالانشقاق، والفرق يقال اعتبارًا بالانفصال، والفرق القطعة المنفصلة، وكل فرق بالتفخيم والترقيق لكل القراء، والتفخيم أولى.
﴿كَالطَّوْدِ﴾ الطود: الجبل، ويجمع على أطواد، يقال: طاد يطود إذا ثبت قال امرؤ القيس:
فَبَيْنَا الْمَرْءُ فِيْ الأَحْيَاءِ طَوْدٌ رَمَاهُ النَّاسُ عَنْ كَثَبٍ فَمَالاَ
وقال الأسود بن يعمر:
حَلّوا بِأنْقَرَةٍ يَسِيْلُ عَلَيْهِمُ مَاءُ الْفُرَاتِ يَجِيْءُ مِنْ أَطْوَادِ
﴿وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤)﴾؛ أي: قربناهم إلى البحر يعني فرعون وقومه، قال الشاعر:
وَكُلُّ يَوْمٍ مَضَى أَوْ لَيْلَةٍ سَلَفَتْ فِيْهَا النُّفُوْسُ إِلَى الآجَالِ تَزْدَلِفُ
قال أبو عبيدة: أزلفنا جمعنا، ومنه قيل لليلة مزدلفة: ليلة جمع.
﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ﴾: من التلاوة، وهي القراءة على سبيل التتابع، والقراء أعم.
﴿وَقَوْمِهِ﴾ والقوم: جماعة الرجال في الأصل دون النساء، كما نبّه عليه قوله تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾، وفي عامة القرآن أريدوا به والنساء
238
جميعًا، كما في "المفردات".
﴿أَصْنَامًا﴾: جمع صنم، قال في "المفردات": الصنم: جثة متخذة من فضة، أو نحاس، والوثن: حجارة كانت تعبد.
﴿فنظل﴾ يقال: ظللت أعمل كذا - بالكسر - ظلولًا إذا عملت بالنهار دون الليل.
﴿عَاكِفِينَ﴾ العكوف: اللزوم، ومنه المعتكف لملازمته المسجد على سبيل القربة.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الجناس المغاير بين ﴿فَجُمِعَ﴾ و ﴿مُجْتَمِعُونَ﴾.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ﴾.
ومنها: التأكيد في قوله: ﴿أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا﴾، وفي قوله: ﴿وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾.
ومنها: الجناس المغاير في قوله: ﴿أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ﴾.
ومنها: التأكيد في قوله: ﴿إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ﴾.
ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (٤٦)﴾ كأنهم أخذوا فطرحوا على وجوههم، وقد زاد هذه الاستعارة حسنًا المشاكلة؛ لأنه عبر بـ ﴿ألقى﴾ عن الخرور، فلم يقل: فخروا ساجدين؛ لمشاكلة الإلقاءات المتقدمة.
ومنها: الإبهام والتفصيل في قوله: ﴿فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ أبهم ما أوعدهم به، ثم فصله بقوله: ﴿لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ﴾ الخ.
239
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿فَانْفَلَقَ﴾؛ أي: فضرب فانفلق.
ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: ﴿كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾؛ أي: كالجبل في رسوخه وثباته، ذكرت أداة التشبيه وحذف وجه الشبه.
ومنها: الإطناب في قوله: ﴿نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ﴾؛ لأنه كان مقتضى جواب السؤال؛ وهو ﴿مَا تَعْبُدُونَ﴾ أن يقولوا: أصنامًا؛ لأنه سؤال عن المعبود فحسب، ولكنهم أضافوا إلى الجواب زيادة شرحوا بها قصتهم كاملة؛ لأنهم قصدوا إظهار ابتهاجهم وإعلان افتخارهم، وذلك شائع في الكلام، وقالوا: نظل؛ لأنهم كانوا يعكفون على عبادتها في النهار دون الليل، وهذه هي مزية الإطناب.
ومنها: التعريض في قوله: ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (٧٧)﴾ فإنه صور المسألة في نفسه والعداوة مستهدفة شخصه، كأنه يعرض بهم قائلًا: لقد فكرت في المسألة مليًا، وأمعنت النظر فيها طويلًا، فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو الذي يتربص بي الدوائر.
ومنها: الطباق بين ﴿يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ﴾، وكذلك بين ﴿يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ﴾.
ومنها: مراعاة الأدب في قوله: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠)﴾ لم يقل وإذا أمرضني، بل أسند المرض لنفسه تأدبًا مع الله سبحانه؛ لأن الشر لا ينسب إليه تعالى أدبًا، وإن كان المرض والشفاء كلاهما بيده تعالى وقدرته، وللإشارة إلى أن كثيرًا من الأمراض تحدث بتفريط الإنسان في مأكله ومشربه وغير ذلك.
ومنها: حسن النسق في هذه الجمل، فإنه قدم الخلق الذي يجب تقديم الاعتداد به من الخالق على المخلوق، واعتراف المخلوق بنعمته فإنه أول نعمة، وفي إقرار المخلوق بنعمة الإيجاد من العدم إقراره بقدرة الخالق على الإيجاد والاختراع وحكمته، ثم ثنَّى بنعمة الهداية التي هي أولى بالتقديم بعد نعمة الإيجاد من سائر النعم، ثم ثلّث بالإطعام والإسقاء اللذين هما مادة الحياة،
240
وبهما من الله استمرار البقاء إلى الأجل المحتوم، وذكر المرض وأسنده إلى نفسه أدبًا كما قلنا مع ربه، ثم أعقب ذكر المرض بذكر الشفاء مسندًا ذلك إلى ربه، ثم ذكر الإماتة مسندًا فعلها إلى ربه لتكميل المدح بالقدرة المطلقة على كل شيء من الإيجاد والإعدام، ثم أردف ذكر الموت بذكر الإحياء بعد الموت، وفيه مع الإقرار بهذه النعمة الاعتراف بالقدرة والإيمان بالبعث، وكل هذه المعاني جمل ألفاظها معطوف بعضها على بعض بحروف ملائمة لمعاني الجمل المعطوفة.
ومنها: صحة التقسيم، فقد استوعبت هذه الآيات أقسام النعم الدنيوية والأخروية من الخلق والهداية، والإطعام والإسقاء، والمرض والشفاء، والموت والحياة، والإيمان بالبعث وغفران الذنب.
ومنها: التخلص؛ وهو فن عجيب بأخذ مؤلف الكلام في معنى من المعاني، فبينا هو فيه إذ أخذ في غيره آخر، وجعل الأول سببًا إليه، فيكون بعضه آخذًا برقاب بعض من غير أن يقطع كلامه، بل يكون جميع كلامه كأنما أفرغ إفراغًا، فمما جاء من التخلص هذه الآية التي تسكر العقول، وتسحر الألباب، ألا ترى ما أحسن ما رتب إبراهيم كلامه مع المشركين حين سألهم أولًا عما يعبدون سؤال مقرّر، لا سؤال مستفهم، ثم ألحى على آلهتهم باللائمة فأبطل أمرها بأنها لا تضر ولا تنفع، ولا تعي ولا تسمع، وعلى تقليد آبائهم الأقدمين فكسره، وأخرجه من أن يكون شبهة، فضلًا عن أن يكون حجة، ثم أراد الخروج من ذلك إلى ذكر الإله الذي لا تجب العبادة إلّا له، ولا ينبغي الرجوع والأنابة إلّا إليه، فصور المسألة في نفسه دونهم، فقال: ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي﴾ على معنى أني فكرت في أمري، فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو وهو الشيطان فاجتنبتها، وآثرت عبادة من بيده الخير كله، وأراهم بذلك أنها نصيحة ينصح بها نفسه لينظروا، فيقولوا: ما نصحنا إبراهيم إلّا بما نصح به نفسه، فيكون ذلك أدعى إلى القبول لقوله، وأبعث على الاستماع منه، ولو قال: إنهم عدو لكم لم يكن بهذه المثابة، فتخلص عند تصوره المسألة في نفسه إلى ذكر الله تعالى، فأجرى عليه تلك الصفات العظام، فعظم شأنه وعدد نعمته من لدن خلقه وأنشأه إلى حين يتوفاه مع
241
ما يرجى في الآخرة من رحمته؛ ليعلم من ذلك أن من هذه صفاته حقيق بالعبادة، واجب على الخلق الخضوع له، والاستكانة لعظمته، ثم تخلص من ذلك إلى ما يلائمه ويناسبه فدعا الله بدعوات المخلصين، وابتهل إليه ابتهال الأوابين؛ لأن الطالب من مولاه إذا قدّم قبل سؤاله وتضرعه الاعتراف بالنعمة.. كان ذلك أسرع للإجابة، وأنجح لحصول الطلبة، ثم أدرج في ضمن دعائه ذكر البعث ويوم القيامة ومجازاة الله من آمن به واتقاه بالجنة، ومن ضل عن عبادته بالنار، فتدبر هذه التخلصات البديعة المودعة في أثناء هذا الكلام.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
242
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (٨٨) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٩٨) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (١٠٠) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٠٩) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢) كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٢٧) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣)﴾ الآية، مناسبة
243
هذه الآية لما قبلها: أن إبراهيم الخليل عليه السلام لما أثنى (١) على ربه سبحانه بما أثنى عليه.. ذكر مسألته ودعاءه إياه بما ذكره، كما هو دأب من يشتغل بدعائه تعالى، فإنه يجب عليه أن يتقدم بالثناء عليه وذكر عظمته وكبريائه؛ ليستغرق في معرفة ربه ومحبته، ويصير أقرب شبهًا بالملائكة الذين يعبدون الله سبحانه بالليل والنهار لا يفترون، وبذا يستنير قلبه إلى ما هو أرفق به في دينه ودنياه، وتحصل له قوة إلهية تجعله يهتدي إلى ما يريد، ومن ثم جاء في الأثر حكاية عن الله تعالى: "من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين".
قوله تعالى: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠)﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما ذكر (٢) إبراهيم عليه السلام أنه لا ينفع في هذا اليوم مال ولا بنون، وإنما ينفع البعد عن الكفر والنفاق.. ذكر هنا من وصف هذا اليوم أمورًا تبين شديد أهواله وعظيم نكاله.
قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥)﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما قص على رسول الله - ﷺ - قصص أبيه إبراهيم وما لقيه من تكذيب قومه له مع ما أرشدهم إليه من أدلة التوحيد، وما حجّهم به من الآيات.. أردف هذا بقصص الأب الثاني؛ وهو نوح عليه السلام، وفيه ما لاقاه من قومه من شديد التكذيب لدعوته وعكوفهم على عبادة الأصنام والأوثان، وأنه مع طول الدعوة لهم لم يزدهم ذلك إلَّا عتوًا واستكبارًا، وقد كان من عاقبة أمرهم ما كان لغيرهم ممن كذبوا رسل ربهم بعد أن أملى لهم بطول الأمد ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣)﴾، فأغرقهم الطوفان، ولم ينج منهم إلَّا من حملته السفينة، وهذا القصص مجمل هنا تقدم تفصيله في سورتي الأعراف وهود، وسيأتي بسطه أتم البسط في سورة نوح.
قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر قصص نوح وقومه، وأن نوحًا دعاهم وحذّرهم عقاب الله
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
244
وطال عليه المطال، ولم يزدهم ذلك إلّا عتوًا ونفورًا فدعا ربه، فأخذهم الطوفان وهم ظالمون.. أردف ذلك بقصص هود عليه السلام مع قومه عاد، وكانوا بعد قوم نوح، كما قال في سورة الأعراف: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً﴾ يسكنون الأحقاف، وهي جبال الرمل القريبة من حضرموت ببلاد اليمن، وكانت لهم أرزاق دارّة وأموال وجنات وأنهار وزروع وثمار، وكانوا يعبدون الأصنام والأوثان، فبعث الله فيهم نبيًا منهم يبشرهم وينذرهم ويدعوهم إلى عبادة الله وحده، ويحذرهم نقمته وعذابه، فكذبوه فأهلكهم كما أهلك المكذبين لرسله.
التفسير وأوجه القراءة
٨٣ - ثم لما فرغ الخليل من الثناء على ربه والاعتراف بنعمته.. عقبَّه بالدعاء؛ ليقتدي به غيره في ذلك، فقال: ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا﴾؛ أي (١): علمًا وفهمًا في الدين. وقيل: نبوة ورسالة. وقيل: معرفة بحدود الله تعالى وأحكامه. ﴿وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾؛ أي: بالنبيين من قبلي. وقيل: بأهل الجنة. ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤)﴾؛ أي: اجعل لي ثناء حسنًا في الآخرين الذين يأتون بعدي إلى يوم القيامة، وقد أعطى الله سبحانه إبراهيم ذلك بقوله: ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨)﴾ فإن كل أمة تتمسك به وتعظِّمه.
وقيل معنى الآية: ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا﴾؛ أي (٢): كمالًا في العلم والعمل، أستعد به لخلافة الحق ورياسة الخلق، فإن من يعلم شيئًا ولا يأتي من العمل بما يناسب علمه لا يقال له حكيم، ولا لعلمه حكم، ولا حكمة ﴿وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾؛ أي: وفقني من العلوم والأعمال والأخلاق لما ينظمني في زمرة الكاملين الراسخين في الصلاح، المتنزهين عن كبائر الذنوب وصغائرها، أو اجمع بيني وبينهم في الجنة، فقد أجابه تعالى حيث قال: ﴿وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ روي أن النبي - ﷺ - قال في دعائه: "اللهم أحينا مسلمين، وأمتنا
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مبدلين".
٨٤ - ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤)﴾؛ أي: جاهًا وحسن صيت في الدينا يبقى أثره إلى يوم الدين، ولذلك ما من أمة إلّا وهم محبون له، مثنون عليه، فحصل بالأول الجاه، وبالثاني حسن الذكر، فقوله: "في الآخرين"؛ أي: في الأمم بعدي، وعبّر عن الثناء الحسن والقبول العام باللسان؛ لكون اللسان سببًا في ظهوره وانتشاره، وبقاء الذكر الجميل على ألسنة العباد إلى آخر الدهر دولة عظيمة من حيث كونه دليلًا على رضي الله عنه، ومحبته له، والله تعالى إذا أحب عبدًا يلقي محبته إلى أهل السموات والأرض، فيحبه الخلائق كافة حتى الحيتان في البحر، والطيور في الهواء.
وحاصل معنى: ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ...﴾ إلخ؛ أي (١): واجعل لي جاهًا وذكرًا جميلًا باقيًا إلى يوم الدين، فإن من صار ممدوحًا بين الناس بسبب ما عنده من الفضائل يصير داعيًا لغيره إلى اكتساب مثل تلك الفضائل، فيكون له مثل أجورهم، أو المعنى: اجعل لي من ذريتي في آخر الزمان من يكون داعيًا إلى الله تعالى، وقد أجاب الله دعاءه، فما من أمة إلّا وهي تثني عليه، وجعله الله تعالى شجرة فرّع الله منها الأنبياء.
٨٥ - ولما طلب عليه السلام سعادة الدنيا بهذه الدعوة.. طلب سعادة الأخرة، فقال: ﴿وَاجْعَلْنِي﴾ في الآخرة وارثًا ﴿مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ﴾، أو اجعلني بعض الذين يرثون جنة النعيم، شبّه (٢) الجنة التي استحقها العامل بعد فناء عمله وانقطاعه بالميراث الذي استحقه الوارث بعد فناء مورّثه وموته، فأطلق عليها اسم الميراث، وعلى استحقاقها اسم الوارثة، وعلى العامل اسم الوارث، والمعنى: واجعلني من المستحقين لجنة النعيم، والمتمتعين بها كما يستحق الوارث مال مورثه، ويمتع به، أو واجعلني ممن يدخلون الجنة (٣)، ويتمتعون بنعيمها كما
(١) المراح.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
يتمتع المالك بما يملكه ميراثًا، ويؤول إليه أمره من شؤون الدنيا، ومعنى جنة النعيم؛ أي: بستان النعيم الدائم، وفيه إشارة إلى أن الجنة لا تنال إلّا بكرمه تعالى، وفيه أيضًا إشارة إلى أن طلب الجنة لا ينافي طلب الحق سبحانه، وترك الطلب مكابرة للربوبية.
٨٦ - وبعد أن طلب السعادة الدنيوية والأخروية لنفسه.. طلبها لأقرب الناس إليه؛ وهو أبوه، فقال: ﴿وَاغْفِرْ لِأَبِي﴾ ذنوبه؛ أي: اهد أبي ﴿إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ﴾؛ أي: من المشركين الضالين عن طريق الهداية، و ﴿كَانَ﴾: زائدة على مذهب سيبويه، وكان أبوه قد وعده أنه يؤمن به، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، كما قال في آية أخرى: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾.
واعلم (١): أن المغفرة مشروطة بالإيمان، وطلب المشروط يتضمن طلب شرطه، فيكون الاستغفار لأحياء المشركين عبارة عن طلب توفيقهم وهدايتهم للإيمان. روي عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "ما من رجل توضأ، فأسبغ الوضوء، ثم خرج من بيته يريد المسجد، فقال حين خرج: بسم الله ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨)﴾ إلّا هداه الله لصواب الأعمال، ﴿وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩)﴾ إلّا أطعمه الله من طعام الجنة، وسقاه من شرابها،
﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠)﴾ إلّا شفاه الله تعالى، ﴿وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١)﴾ إلّا أحياه الله حياة الشهداء، وأماته ميتة الشهداء، ﴿وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢)﴾ إلّا غفر الله خطاياه ولو كانت أكثر من زبد البحر، ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣)﴾ إلّا وهب له حكمًا، وألحقه بصالحي من مضى، وصالحي من بقي، ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤)﴾ إلّا كتب عند الله صديقًا، ﴿وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥)﴾ إلّا جعل الله له القصور والمنازل في الجنة"، وكان الحسن يزيد فيه ﴿واغفر لوالديّ كما ربّياني صغيرًا﴾، كذا في
(١) روح البيان.
"كشف الأسرار".
٨٧ - ثم طلب من ربه عدم خزيه وهوانه يوم القيامة، فقال: ﴿وَلَا تُخْزِنِي﴾ من الخزي بمعنى الهوان والذل؛ أي: لا تفضحني على رؤوس الأشهاد بمعاتبتي على ما فرطت، أو بنقص مرتبتي عن بعض الوارثين ﴿يَوْمَ يُبْعَثُونَ﴾؛ أي: يوم يبعث الناس من قبورهم كافة وهو يوم القيامة، أو لا تعذبني يوم القيامة. والإضمار في ﴿يُبْعَثُونَ﴾ مع عدم سبق المرجع؛ لكونه معلومًا؛ لأن البعث عام فيدل عليه.
ولما كانت مغفرة الخطيئة في قوله: ﴿وَالَّذِي أَطْمَعُ...﴾ إلخ لا تستلزم ترك المعاتبة.. أفرد الدعاء بتركها بعد ذكر مغفرة الخطيئة، وقيّد عدم الإخزاء بيوم البعث؛ لأن الدنيا مظهر اسم الستار.
قال أبو الليث: إلى هاهنا كلام إبراهيم، وقد انقطع كلامه،
٨٨ - ثم إن الله سبحانه وتعالى وصف ذلك اليوم، فقال: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (٨٨)﴾ بدل من ﴿يَوْمَ يُبْعَثُونَ﴾، ومفعول الفعل محذوف، والتقدير: يوم لا ينفع مال أحدًا، وإن كان مصروفًا في الدنيا إلى وجوه البر والخيرات، ولا ينفع بنون ولا بنات فردًا، وإن كانوا صلحاء مستأهلين للشفاعة جدًّا
٨٩ - ﴿إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ﴾ سبحانه، وجاء يوم القيامة ﴿بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ من الشرك والنفاق؛ أي: إلّا من أتى الله سبحانه وتعالى مخلصًا سليم القلب من مرض الكفر والنفاق ضرورة اشتراط نفع كل منهما بالإيمان، قال في "كشف الأسرار": إلا بنفس سليمة من الكفر والمعاصي، وإنما أضاف إلى القلب، لأن الجوارح تابعة للقلب، فتسلم بسلامته، وتفسد بفساده، وفي الخبر: "إن في جسد ابن آدم لمضغة، إذا صلحت صلح سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب". قال الليث: كان الكفار يقولون: ﴿نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾، فأخبر الله سبحانه أنه لا ينفعهم ذلك اليوم المال والبنون؛ لعدم سلامة قلوبهم في الدنيا، وأما المسلمون فينفعهم خيراتهم، وينفعهم البنون أيضًا؛ لأن المسلم إذا مات ابنه قبله يكون له ذخرًا وأجرًا، وإن تخلف بعده فإنه يذكره بصالح دعائه، ويتوقع منه الشفاعة من حيث
صلاحه. انتهى.
والمعنى: أي (١) لا يقي المرء من عذاب الله تعالى المال، ولو افتدى بملء الأرض ذهبًا، ولا البنون ولو افتدى بهم جميعًا، ولكن ينفعه أن يجيء خالصًا من الذنوب وأدرانها وحب الدنيا وشهواتها.
وخص الابن بالذكر؛ لأنه أولى القرابة بالدفع والنفع، فإذا لم ينفع فغيره من القرابة أولى، وأما من أتى بقلب سليم فينفعه ماله الذي أنفقه في الخير، وولده الصالح بدعائه، كما جاء في خبر: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلَّا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له".
واختلف في معنى القلب السليم (٢)، فقيل: السليم من الشرك، أما الذنوب فليس يسلم منها أحد، قاله أكثر المفسرين. وقال سعيد بن المسيب: القلب السليم الصحيح، وهو قلب المؤمن؛ لأن قلب الكافر والمنافق مريض. وقيل: هو القلب الخالي عن البدعة، المطمئن إلى السنة. وقيل: السالم من آفة المال والبنين. وقيل: السليم الخالص. قال الرازي: أصح الأقوال أن المراد منه سلامة النفس عن الجهل والأخلاق الرذيلة. وسئل أبو القاسم الحكيم عن القلب السليم؟ فقال: له ثلاث علامات؛ أولاها: أن لا يؤذي أحدًا، والثانية: أن لا يتأذى من أحد، والثالثة: إذا اصطنع مع أحد معروفًا لم يتوقع منه المكافأة، فإذا هو لم يؤذ أحدًا فقد جاء بالورع، وإذا لم يتأذ من أحد فقد جاء بالوفاء، وإذا لم يتوقع المكافأة بالاصطناع فقد جاء بالإخلاص، اهـ.
٩٠ - ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ﴾؛ أي: قرّبت وأدنيت ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ عن الشرك والمعاصي؛ ليدخلوها بحيث يشاهدونها من الموقف، ويطلعون على ما فيها من فنون المحاسن، فيفرحون بأنهم المحشورون إليها. وقال الزجاج: قرب دخولهم إياها، ونظرهم إليها، وهو عطف على لا ينفع، وصيغة الماضي لتحقق وقوعه، كما أن صيغة المضارع في المعطوف عليه للدلالة على استمرار انتفاء النفع ودوامه.
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
فإن قلت (١): كيف قرّبت مع أنها لم تنقل من مكانها؟
قلتُ: فيه قلب؛ أي: وأزلف المتقون إلى الجنة، كما يقول الحجاج إذا دنوا إلى مكة: قربت مكة إلينا، وفي هذا تعجيل لمسرتهم كفاء ما عملوا لها، ورغبوا عن الدنيا وزخرفها.
٩١ - ﴿وَبُرِّزَتِ﴾؛ أي: ويوم برزت وأظهرت ﴿الْجَحِيمُ﴾؛ أي: نارها ﴿لِلْغَاوِينَ﴾؛ أي: للضالين عن طريق الحق الذي هو الإيمان والتقوى؛ أي (٢): جعلت بارزة لهم بحيث يرونها مع ما فيها من أنواع الأهوال، ويوقنون بأنهم مواقعوها، ولا يجدون عنها مصرفًا، فيزدادون غمًا، والمعنى أنها أظهرت لهم قبل أن يدخلها المؤمنون ليشتد حزن الكافرين، ويكثر سرور المؤمنين، وفي اختلاف الفعلين ترجيح لجانب الوعد، فإن التبريز لا يستلزم التقريب، ثم في تقديم إزلاف الجنة إيماء إلى سبق رحمته على غضبه. وقرأ الأعمش (٣): ﴿فبرزت﴾ بالفاء بدل ﴿الواو﴾، وقرأ مالك بن دينار ﴿وبَرَزَتْ﴾ بالفتح والتخفيف، ﴿الْجَحِيمُ﴾ بالرفع بإسناد الفعل إليها اتساعًا، ذكره أبو حيان.
وفي هذا تعجيل للغم والحسرة؛ إذ نسوا في دنياهم هذا اليوم، كما جاء في قوله: ﴿وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٣٤)﴾.
٩٢ - ثم ذكر أنه يسأل أهل النار تقريعًا لهم، فقال: ﴿وَقِيلَ لَهُمْ﴾؛ أي: للغاوين يوم القيامة على سبيل التوبيخ، والقائلون الملائكة من جهة الحق تعالى ﴿أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ في الدنيا
٩٣ - ﴿تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ سبحانه؛ أي: أين آلهتكم الذين كنتم تزعمون في الدنيا أنها شفعاؤكم في هذا الموقف، وتقربكم إلى الله زلفى ﴿هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ﴾ بدفع العذاب عنكم ﴿أَوْ يَنْتَصِرُونَ﴾ بدفعه عن أنفسهم. و ﴿هَلْ﴾ هنا للاستفهام الإنكاري؛ أي: أين آلهتكم التي كنتم تعبدونها؟ هل ينفعونكم بنصرتهم
(١) فتح الرحمن.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
لكم، أو هل ينفعون أنفسهم بانتصارهم لأنفسهم؟ لا، وإنهم وآلهتهم وقود النار.
والخلاصة (١): ليست الآلهة التي عبدتموها من دون الله سبحانه من الأصنام والأوثان بمغنية عنكم اليوم شيئًا، ولا هي بدافعة عن نفسها شيئًا، فإنكم وإياها اليوم حصب جهنم أنتم لها واردون، وباب افتعل هاهنا مطاوع فعل، قال في "كشف الأسرار": النصر المعونة على دفع الشر والسوء عن غيره، والانتصار أن يدفع عن نفسه، وإنما قال (٢): ﴿أَوْ يَنْتَصِرُونَ﴾ بعد قوله: ﴿هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ﴾؛ لأن رتبة النصر بعد رتبة الانتصار؛ لأن من نصر غيره فلا شك في الانتصار، وقد ينتصر من لا يقدر على نصر غيره.
٩٤ - ثم هذا سؤال تقريع وتبكيت لا يتوقع له جواب، ولذلك قيل: ﴿فَكُبْكِبُوا فِيهَا﴾؛ أي: فألقي المعبودون في الجحيم مرة بعد أخرى منكوسين على رؤوسهم إلى أن يستقروا في قعرها ﴿هُمْ﴾؛ أي: المعبودون، تأكيد لمرفوع ﴿كبكبوا﴾: ليعطف عليه قوله: ﴿وَالْغَاوُونَ﴾؛ أي: العابدون الذين ضلوا وغووا بعبادتهم
٩٥ - ﴿وَجُنُودُ إِبْلِيسَ﴾؛ أي: شياطينه وأعوانه؛ أي: ذريته الذين كانوا يغوونهم ويوسوسون إليهم، ويسولون لهم ما هم عليه من عبادة الأصنام وسائر فنون الكفر والمعاصي، ليجتمعوا في العذاب حسبما كانوا مجتمعين فيما يوجبه. وقيل: المراد بجنود إبليس كل من يدعو إلى عبادة الأصنام، وقوله: ﴿أَجْمَعُونَ﴾ تأكيد لضمير ﴿هُمْ﴾ وما عطف عليه. والمعنى؛ أي (٣): فألقي الآلهة والغاوون الذين عبدوها في النار، والشياطين والداعون إلى عبادتها على رؤوسهم، أو ألقِي بعضهم على بعض، وتأخير الغاوين في الكبكبة عن آلهتهم ليشاهدوا سوء حالهم، فينقطع رجاؤهم منهم قبل دخول الجحيم، ثم ذكر ما يحدث من المخاصمة والمحاجة بين الآلهة والغاوين عبدتها، والشياطين الذين دعوهم إلى تلك العبادة بقوله: ﴿قَالُوا...﴾ إلخ.
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
٩٦ - وجملة قوله: ﴿قَالُوا﴾؛ أي: العابدون حين فعل بهم ما فعل معترفين بخطاياهم ﴿وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ﴾؛ أي: والحال أنهم في الجحيم بصدد الاختصام مع من معهم من المذكورين مخاطبين لمعبوداتهم على أن الله تعالى يجعل الأصنام صالحة للاختصام بأن يعطيها القدرة على النطق والفهم. قال أبو الليث: ومعناه: قالوا وهم يختصمون فيها على معنى التقديم جملة مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: ماذا قالوا حين فعل بهم ما فعل،
٩٧ - ومقول القول ﴿تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٩٧)﴾ ﴿إن﴾: مخففة من الثقيلة، و ﴿اللام﴾: هي الفارقة بينها وبين النافية؛ أي: نقسم ونحلف بالله سبحانه إن الشأن كنا في ضلال وخطأ واضح لا خفاء فيه
٩٨ - ﴿إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٩٨)﴾: ظرف لكونهم في ضلال مبين، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة الماضية؛ أي (١): تالله لقد كنا في غاية الضلال الفاحش وقت تسويتنا إياكم أيها الأصنام في استحقاق العبادة برب العالمين الذي أنتم أدنى مخلوقاته وأذلهم وأعجزهم
٩٩ - ﴿وَمَا أَضَلَّنَا﴾؛ أي: وما دعانا إلى الضلال عن الهدى ﴿إِلَّا الْمُجْرِمُونَ﴾؛ أي: إلا الرؤساء والكبراء البالغون غاية الإجرام والإشراك.
والمعنى: أي (٢) قال الغاوون وهم يخاصمون من معهم من الأصنام والشياطين تالله إننا كنا في ضلال واضح، لا لبس فيه حين سويناكم يا هذه الأصنام برب العالمين في استحقاق العبادة، وعظمناكم تعظيم المعبود الحق، وما أضلنا إلا المجرمون من الرؤساء والكبراء، كما جاء في آية ﴿رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا﴾.
وخلاصة ذلك: أنهم حين رأوا صور تلك الآلهة اعترفوا بالخطأ العظيم الذي كان منهم، وندموا على طاعتهم لأولئك الرؤساء والسادة الذين حملوهم على عبادتها وتعظيم شأنها، ثم أكدوا ندمهم على ما فرط منهم، وحسرتهم على ما صنعوا، فقالوا:
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
١٠٠ - ﴿فَمَا لَنَا﴾ اليوم ﴿مِنْ شَافِعِينَ﴾ يشفعون لنا من العذاب، كما للمؤمنين من الملائكة والأنبياء عليهم السلام
١٠١ - ﴿وَلَا﴾ من ﴿صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾؛ أي: ذي قرابة؛ أي: صديق قريب موافق في الدين، كما نرى أن للمؤمنين أصدقاء؛ لأنه لا يتصادق في الآخرة إلا المؤمنون، وأما أهل النار فبينهم التباغض والتعادي. والصديق من صدقك في مودته، والحميم القريب المشفق، مأخوذ من حامة الرجل؛ أي: أقربائه، وأفرد الصديق؛ لأنه يطلق على الواحد والإثنين والجماعة والمذكر والمؤنث.
وإنما جمع (١) الشافع لكثرة الشفعاء عادة، ألا ترى أن السلطان إذا غضب على أحد ربما شفع فيه جماعة، كما أن إفراد الصديق لقلته. ولو قيل بعدمه لم يبعد، والمعنى؛ أي: فليس لنا اليوم شفيع يشفع لنا مما نحن فيه من ضيق، أو ينقذنا من هلكة، ولا صديق شفيق يعنيه أمرنا، ويودنا ونوده، ونحو الآية ما جاء في آية أخرى حكاية عنهم: ﴿فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ﴾، وقد أرادوا بهذا الإخبار إظهار اللهفة والحسرة على فقد الشفيع والصديق النافع، وقد نفوا أولًا أن يكون لهم من ينفعهم في تخليصهم من العذاب بشفاعة، ثم ترقوا ونفوا أن يكون لهم من يهمه أمرهم ويشفق عليهم، ويتوجع لهم، وإن لم يخلصهم.
والخلاصة: أن الأمر قد بلغ من الهول ما لا يستطيع أحد أن ينفع فيه أدنى نفع، وقد مر لك آنفًا أنما جمع الشافع وأفرد الصديق لكثرة الشفعاء عادة وقلة الصديق، ولهذا قال الشافعي رضي الله عنه:
مَا فِيْ زَمَانِكَ مَنْ تَرْجُوْ مَوَدَّتَهُ وَلاَ صَدِيْقٌ إِذَا جَارَ الزَّمَانُ وَفَى
فَعِشْ فَرِيْدًا وَلاَ تَرْكَنْ إِلى أَحَدٍ هَا قَدْ نَصَحْتُكَ فِيْمَا قُلْتُهُ وَكَفَى
١٠٢ - ثم حكى عنهم تمنيهم الرجوع إلى الدنيا ليعملوا بطاعة ربهم فيما يزعمون، والله يعلم أنهم لو ردوا لعادوا إلى ما نهوا عنه وإنهم لكاذبون، فقال: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا
(١) روح البيان.
كَرَّةً}؛ أي: رجعة إلى الدنيا ﴿فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ بالنصب بأن المضمرة بعد الفاء السببية الواقعة في جواب التمني، فلو هنا للتمني، وأقيم فيه ﴿لَوْ﴾ مقام ليت؛ لتلاقيها في معنى التقدير: أي: تقدير المعدوم وفرضه؛ أي: فليت لنا رجعة إلى الدنيا فنعمل صالحًا غير الذي كنا نعمل حتى إذا متنا وبعثنا مرة أخرى لا ينالنا من العذاب مثل ما نحن فيه.
وهذا كلام التأسف والتحسر، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، فإن من يضلل الله فما له من هاد، ولو رجع إلى الدنيا مرارًا، ألا ترى إلى الأمم في الدنيا، فإن الله تعالى أخذهم بالبأساء والضراء كرارًا،
١٠٣ - ثم كشفه عنهم فلم يزيدوا إلا إصرارًا، جعلنا الله وإياكم من المستمعين المعتبرين، لا من المعرضين الغافلين ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾؛ أي: فيما ذكر من قصة إبراهيم مع قومه ﴿لَآيَةً﴾؛ أي: لعبرة لمن يعبد غير الله تعالى، ليعلم أنه يتبرأ منه في الآخرة، ولا ينفعه أحد، ولا سيما لأهل مكة الذين يدعون أنهم على ملة إبراهيم ﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ﴾؛ أي: أكثر قوم إبراهيم مؤمنين كحال أكثر قريش، وقد روي أنه ما آمن لإبراهيم من أهل بابل إلا لوط وابنه نمرود، أو أكثر هؤلاء الذين يتلو عليهم رسول الله - ﷺ - نبأ إبراهيم؛ وهم قريش ومن دان بدينهم، وهذا أصح؛ لأن قوم إبراهيم كلهم غير مؤمنين، كذا قاله الشوكاني.
والمعنى: أي إن في محاجة إبراهيم لقومه وإقامة الحجة عليهم في التوحيد لآية واضحة جلية على أنه تعالى لا رب غيره، ولا معبود سواه، ومع كل هذا ما آمن به أكثرهم، وفي هذا تسلية للرسول - ﷺ - على ما يجده من تكذيب قومه له مع ظهور الآيات وعظيم المعجزات.
١٠٤ - ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ﴾ المحسن إليهم بإرسالك لهدايتهم ﴿لَهُوَ الْعَزِيزُ﴾؛ أي: لهو القادر على الانتقام منهم ﴿الرَّحِيمُ﴾ بهم؛ إذ لم يهلكهم، بل أخر ذلك، وأرسل إليهم الرسل، ونصب لهم الشرائع ليؤمنوا بها هم أو ذريتهم.
قصص نوح عليه السلام
١٠٥ - ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥)﴾ تكذيبًا مستمرًا من حين الدعوة إلى انتهائها، وأنث (١) الفعل لكونه مسندًا إلى ﴿قَوْمُ﴾، وهو في معنى الجماعة، أو الأمة، أو القبيلة، والقوم الجماعة من الرجال والنساء، وأوقع التكذيب على المرسلين؛ وهم لم يكذبوا إلا الرسول المرسل إليهم؛ لأن من كذب رسولًا فقد كذب الرسل؛ لأن كل رسول يأمر بتصديق غيره من الرسل، أو لاجتماع الكل على التوحيد وأصول الشرائع، وقيل: كذبوا نوحًا وحده في الرسالة، وكذبوه فيما أخبرهم من مجيء المرسلين بعده
١٠٦ - ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ﴾: ظرف للتكذيب على أنه عبارة (٢) عن زمان مديد وقع فيه ما وقع من الجانبين إلى تمام الأمر ﴿أَخُوهُمْ﴾ في النسب، لا في الدين؛ لئلا يجهل أمره في الصدق والديانة، ولتعرف لغته، فيؤدي ذلك إلى القبول ﴿نُوحٌ﴾: عطف بيان لـ ﴿أَخُوهُمْ﴾ الله بترك عبادة الأصنام، وإجابة دعوة رسوله الذي أرسله إليكم.
والمعنى: أي كذبت قوم نوح رسل الله حين قال لهم أخوهم نوح: ألا تتقون فتحذروا عقابه على كفركم به وتكذيبكم رسله، وقد حكى سبحانه عن نوح عليه السلام أنه خوفهم أولًا بقوله: ألا تتقون لأن القوم إنما قبلوا تلك الأديان تقليدًا والمقلد إذا خوف خاف، وما لم يستشعر بالخوف لا يشتغل بالاستدلال والنظر،
١٠٧ - وقد وصف نوح نفسه بأمرين:
١ - ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ﴾ من جهته تعالى ﴿أَمِينٌ﴾؛ أي: مشهور بالأمانة فيما بينكم، ومن كان أمينًا على أمور الدنيا كان أمينًا على الوحي والرسالة، أو أمين فيما بعثني به أبلغكم رسالاته، لا أزيد فيها، ولا أنقص منها
١٠٨ - ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾؛ أي: خافوا عقاب الله في مخالفتي ﴿وَأَطِيعُونِ﴾ فيما آمركم به من التوحيد والطاعة لله تعالى، فإني لا أخونكم ولا أريدكم بسوء، والفاء لترتيب ما بعدها على الأمانة.
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
وقدم (١) الأمر بتقوى الله على الأمر بطاعته؛ لأن التقوى هي ملاك الأمر كله في هذه الحياة، وكرر الأمر بها؛ لأنها العمدة في جميع الأعمال، فيجب على العالم ملاحظتها إذا أراد الإحسان وتجويد العمل.
٢ - ١٠٩ ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ﴾؛ أي: على تبليغ الرسالة ﴿مِنْ أَجْرٍ﴾؛ أي: جعل أصلًا، وذلك لأن الرسل إذا لم يسألوا أجرًا كان أقرب إلى التصديق، وأبعد عن التهمة ﴿إِنْ أَجْرِيَ﴾؛ أي: ما ثوابي فيما أتولاه ﴿إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾؛ لأن من عمل لله فلا يطلب الأجر من غير الله.
وبه يشير إلى أن العلماء الذين هم ورثة الأنبياء يتأدبون بآداب أنبيائهم، فلا يطلبون من الناس شيئًا في بث علومهم ونشرها، ولا يرتفقون منهم بتعليمهم، ولا بالتذكير لهم، فإن من ارتفق من المسلمين المستمعين في بث ما يذكره من الدين ويعظ به لهم فلا يبارك الله للناس فيما يسمعون، ولا للعلماء أيضًا بركة فيما يأخذون منهم، يبيعون دينهم بعرض يسير، ثم لا بركة لهم فيه، كذا قالوا.
١١٠ - ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ فقد وضح الأمر لكم وبان نصحي وأمانتي فيما بعثني الله به وائتمنني عليه. والفاء (٢) لترتيب ما بعدها على تنزهه عن الطمع، والتكرير للتأكيد والتنبيه على أن كلًّا من الأمانة وقطع الطمع مستقل في إيجاب التقوى والطاعة، فكيف إذا اجتمعا.
ونظير هذا ما يقول الوالد لولده: ألا تتقي الله في عقوقي، وقد ربيتك صغيرًا، ألا تتقي الله في عقوقي وقد علمتك كبيرًا. وقدم الأمر بتقوى الله على الأمر بطاعته؛ لأن تقوى الله علة لطاعته.
تنبيه: قوله (٣): ﴿أَلَا تَتَّقُونَ﴾ إلى قوله: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٠٩)﴾ ذكر في خمسة مواضع: في قصة نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، وإنما كررت هذه الآية الكريمة في تلك المواضع للتنبيه على أن
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) فتح الرحمن.
دعوة الرسل الكرام واحدة، وهدفهم واحد، وطريقتهم واحدة، فهم لا يطلبون من أحد أجرًا، ولا مالًا، ولا شيئًا من حطام الدنيا على تبليغهم الرسالة، إنما يطلبون الأجر من الله وحده.
وقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ ذكر مكررًا للتأكيد في ثلاثة مواضع: في قصة نوح، وهود، وشعيب، فإن قلت: لِمَ خصت الثلاثة بالتأكيد؟.
قلت: اكتفاء عنه في قصة لوط بقوله: ﴿إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ﴾، وفي قصة شعيب بقوله: ﴿وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤)﴾ لاستلزامهما له.
١١١ - وبعد أن أقام الدليل على صدق رسالته وعظيم نصحه وأمانته لهم.. أرادوا أن يتنصلوا من اتباع دعوته بحجة هي أوهى من بيت العنكبوت، كما ذكره بقوله: ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال قوم نوح ﴿أَنُؤْمِنُ لَكَ﴾ الاستفهام للإنكار؛ أي: لا نؤمن لك ﴿وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ﴾؛ أي: والحال أنه قد اتبعك الأخسون؛ أي: الأقلون مالًا وجاهًا، والمراد (١) بهم هنا فقراء الناس وضعفاؤهم، وإنما بادروا للاتباع قبل الأغنياء؛ لاستيلاء الرئاسة على الأغنياء وصعوبة الانفكاك منها، والأنفة عن الانقياد للغير، والفقير خلي من تلك الموانع، فهو سريع الإجابة والانقياد، وهذا غالب أحوال أهل الدنيا اهـ. "قرطبي" من سورة هود.
وهذا (٢) من كمال سخافة عقولهم وقصرهم أنظارهم على الدنيا، وكون الأشرف عندهم من هو أكثر منها حظًا، والأرذل من حرمها، وجهلهم أنها لا تزن عند الله جناح بعوضة، وأن النعيم هو نعيم الآخرة، والأشرف من فاز به، والأرذل من حرمه، وهكذا كانت قريش تقول في أصحاب رسول الله - ﷺ -، وما زالت أتباع الأنبياء ضعفاء الناس، وقس أتباع العلماء على أتباعهم من حيث وراثتهم لدعوتهم وعلومهم وأذواقهم، ومحنهم وابتلائهم، وذلك لأن العلوم من أرباب المال والجاه والثروة لم تأت إلا نادرًا.
(١) قرطبي.
(٢) روح البيان.
والمعنى: أي (١) قالوا: كيف نتبعك ونصدقك ونؤمن بك، ونأتسى بهؤلاء الأراذل الذين اتبعوك، ومرادهم أن هذا لن يكون أبدًا، وهذه شبهة لا ينبغي لعاقل أن يركن إليها؛ لأن نوحًا عليه السلام بعث إلى الخلق كافة، لا فارق بين غني وفقير وصعلوك وأمير، ولا بين ذوي البيوتات والحسب، وذوي الوضاعة والخسة في النسب، فليس له إلا اعتبار الظواهر دون التفتيش والبحث عن البواطن، ومن ثم أجابهم بقوله: ﴿وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿وَاتَّبَعَكَ﴾ فعلًا ماضيًا، وقرأ عبد الله وابن عباس والأعمش وأبو حيوة والضحاك وابن السميقع وسعيد بن أبي سعيد الأنصاري وطلحة ويعقوبـ ﴿وأتباعُك﴾: - بالرفع - جمع تابع كصاحب وأصحاب. وقيل: جمع تبيع كشريف وأشراف، وعن اليماني: ﴿وأتباعِك﴾ - بالجر - عطفًا على الضمير في ﴿لَكَ﴾، وهو قليل وقاسه الكوفيون.
١١٢ - ﴿قَالَ﴾ نوح جوابًا عما يشير إليه قولهم من أنهم لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة ﴿وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أنهم عملوه إخلاصًا أو نفاقًا، وما وظيفتي إلا اعتبار الظواهر، وبناء الأحكام عليها دون التفتيش عن بواطنهم، والشق عن قلوبهم، والظاهر أن ﴿مَا﴾ استفهامية للإنكار في محل الرفع على الابتداء، و ﴿عِلْمِي﴾ خبرها؛ أي: وأيّ شيء (٣) يعلمني ما كان يعمل أتباعي؟ إنما لي منهم ظاهر أمرهم دون باطنه، فمن أظهر الحسن ظننت به حسنًا، ومن أظهر السوء ظننت به ذلك، ولم أكلف العلم بأعمالهم، وإنما كلفت أن أدعوهم إلى الإيمان والاعتبار به، لا بالحرف والصناعات، والفقر والغنى، وهم كأنهم يقولون: إن إيمان هؤلاء لم يكن عن نظر صحيح، بل لتوقع مال ورفعة.
١١٣ - ثم أبان أن أمر جزائهم وحسابهم على ربهم، لا عليه، فلا يعنيه استقصاء أحوالهم، فقال: ﴿إِنْ حِسَابُهُمْ﴾؛ أي: ما محاسبتهم على ما تحويه سرائرهم {إِلَّا
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
عَلَى رَبِّي} المطلع عليها ﴿لَوْ تَشْعُرُونَ﴾؛ أي: لو كنتم من أهل الشعور والإدراك لعلمتم ذلك، ولكنكم تجهلون فتقولون ما لا تعلمون حيث عيرتموهم بصنائعهم (١)، قرأ الجمهور: ﴿تَشْعُرُونَ﴾ - بالفوقية -، وقرأ ابن أبي عبلة وابن السميقع والأعرج وأبو زرعة بالتحتية كأنه ترك الخطاب، والتفت إلى الإخبار عنهم.
١١٤ - ولما جعلوا من موانع إيمانهم اتباع هؤلاء الأراذل كانوا كأنهم طلبوا طردهم، فقال: ﴿وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤)﴾ ومبعدهم عن مجلسي؛ أي: وما أنا بطارد من آمن بالله واتبعني وصدق ما جئت به من عند الله تعالى، قال ابن عطاء: وما أنا بمعرض عمن أقبل على ربه،
١١٥ - ثم بين وظيفة الرسول، فقال: ﴿إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥)﴾؛ أي (٢): ما أنا إلا رسول مبعوث لإنذار المكلفين وزجرهم عن الكفر والمعاصي، سواء كانوا من الأعزاء أو الأذلاء، فكيف يليق بي طرد الفقراء لاستتباع الأغنياء، والمعنى أي: إنما بعثت منذرًا ومخوفًا بأس الله وشديد عذابه، فمن أطاعني كان مني وأنا منه، شريفًا كان أو وضيعًا، جليلًا كان أو حقيرًا.
١١٦ - ولما أجابهم بهذا الجواب وأيسوا مما راموا.. لجؤوا إلى التهديد، كما بينه بقوله: ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال قوم نوح له: ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ﴾ عما تدعو إليه من التوحيد، وعما تقول من الطعن في آلهتنا ﴿لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ﴾؛ أي: من المقتولين بالحجارة أقبح قتلة، قالوا ذلك - قاتلهم الله - في أواخر الأمر؛ أي: لنرجمنك بالحجارة ولنقتلنك بها إن لم تترك عيب ديننا وسب آلهتنا.
١١٧ - ولما طال مقامه بين ظهرانيهم يدعوهم إلى الله ليلًا ونهارًا، سرًا وإعلانًا، وكلما كرر عليهم الدعوة صموا آذانهم وصمموا على تكذيبه، وتمادوا في عتوهم واستكبارهم.. استغاث بربه وطلب منه أن يحكم بينه وبينهم، وأن يهلكهم كما أهلك المكذبين من قبلهم لرسولهم، وينجيه والمؤمنين به، كما بينه بقوله: ﴿قَالَ﴾ نوح: يا ﴿رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ﴾؛ أي: أصروا على التكذيب بعدما دعوتهم هذه
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
الأزمنة المتطاولة، ولم يزدهم دعائي إلا فرارًا
١١٨ - ﴿فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا﴾؛ أي: احكم بيني وبينهم حكمًا عدلًا؛ أي: احكم بيننا بما يستحقه كل واحد منا من الفتاحة؛ وهي الحكومة؛ أي: إن قومي كذبوني فيما أتيتهم به من الحق من عندك فاحكم بيني وبينهم حكمًا تهلك به المبطل، وتنتقم منه، وتنصر به الحق وأهله، وجاء في آية أخرى ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠)﴾ قال ابن الشيخ: أراد به الحكم بإنزال العقوبة عليهم؛ لقوله عقبه: ﴿وَنَجِّنِي﴾؛ أي: خلصني ﴿وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: من العذاب، ومن إذاية الكفار، وكان المؤمنون ثمانين من الرجال، وأربعين من النساء.
١١٩ - فلما دعا ربه بهذا الدعاء استجاب له، فقال: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ﴾؛ أي: فأنجينا نوحًا ﴿وَمَنْ مَعَهُ﴾ من المؤمنين حسب دعائه ﴿فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾؛ أي: المملوء بهم، وبكل صنف من الحيوان، وبما لا بد لهم منه من الأمتعة والمأكولات
١٢٠ - ﴿ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ﴾؛ أي: بعد إنجائهم، أو بعد ركوب نوح والمؤمنين على السفينة ﴿الْبَاقِينَ﴾ من قومه من لم يركب السفينة بالطوفان، وفيه تنبيه على أن نوحًا كان مبعوثًا إلى من على وجه الأرض، ولذا قال في قصة الباقين، وفي قصة موسى ﴿ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦)﴾.
والمعنى: أي فأنجينا نوحًا ومن اتبعه على الإيمان بالله وطاعة رسوله، وأغرقنا من كفر به وخالف أمره، وفي قوله ﴿الْمَشْحُونِ﴾ إيماء إلى كثرتهم، وأن الفلك امتلأ بهم وبما صحبهم
١٢١ - ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ الإنجاء والإهلاك، أو إن في ذلك الذي فعل بقوم نوح لاستكبارهم عن قبول الحق واستخفافهم بفقراء المسلمين ﴿لَآيَةً﴾؛ أي: لعبرة لمن بعدهم.
والمعنى: أي إن في إنجاء المؤمنين وإنزال سطوتنا وبأسنا بالكافرين لعبرة وعظة لقومك يا محمد المصدقين منهم والمكذبين على أن سنتنا إنجاء رسلنا وأتباعهم إذا نزلت نقمتنا بالمكذبين من قومهم، وكذلك هي سنتي فيك وفي قومك ﴿وَمَا كَانَ﴾: ﴿كَانَ﴾: زائدة عند سيبويه كما تقدم ﴿أَكْثَرُهُمْ﴾؛ أي: أكثر قوم نوح ﴿مُؤْمِنِينَ﴾ فلم يؤمن من قومه إلا ثمانون من الرجال وأربعون من النساء؛
أي: ومع كل ما حذر به نوح وأنذر لم يؤمن به إلا القليل، وفي هذا إيماء إلى أنه لو كان أكثرهم مؤمنين.. لما عوجلوا بالعقاب، أو المعنى: وما كان أكثر قومك يا محمد وهم قريش مؤمنين، فاصبر على أذاهم كما صبر نوح على أذى قومه.. تظفر كما ظفر
١٢٢ - ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ﴾ يا محمد ﴿لَهُوَ الْعَزِيزُ﴾؛ أي: الغالب على ما أراد من عقوبة الكفار ﴿الرَّحِيمُ﴾ لمن تاب، أو بتأخير العذاب، والمعنى؛ أي (١): وإن ربك يا محمد لهو العزيز في انتقامه ممن كفر به وخالف أمره، الرحيم بالتائب منهم أن يعاقبه بعد توبته.
وفي "التأويلات النجمية": كرر في كل قصة قوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١)﴾ دلالة على أن الله وعظمته اقتضت أن يكون أكرم الخلق مؤمنًا به، مقبولًا له، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ ولا ريب أن أكثر الخلق لئام، والكرام قليلون، كما قال الشاعر:
تُعَيِّرُنَا أَنَّا قَلِيْلٌ عِدَادُنَا فَقُلْتُ لَهَا إِنَّ الْكِرَامَ قَلِيْلُ
قصص هود عليه السلام
١٢٣ - ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣)﴾؛ أي: كذبت قوم هود هودًا وسائر الرسل الذين ذكرهم هود. فعاد اسم قبيلة هود، سميت باسم أبيها الأعلى، وكان من نسل سام بن نوح عليه السلام. وأنث الفعل باعتبار إسناده إلى القبيلة.
١٢٤ - ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ﴾ في النسب، لا في الدين. ظرف للتكذيب ﴿هُودٌ﴾ بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، قال بعضهم (٢): كان اسم هود عابرًا، وسمي هودًا لوقاره وسكوته، عاش مئة وخمسين سنة، أرسل إلى أولاد عاد حين بلغ الأربعين. وفي "المراح": وكان هود تاجرًا جميل الصوت يشبه آدم، وعاش من العمر أربع مئة وأربعًا وستين سنة. انتهى. ﴿أَلَا تَتَّقُونَ﴾ الله سبحانه وتعالى، فتفعلون ما تفعلون
١٢٥ - ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ﴾ من جهته تعالى ﴿أَمِينٌ﴾؛ أي: مشهور بالأمانة بينكم
١٢٦ - ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ تعالى وخافوا عقابه ﴿وأطيعونـ﴾ ـي فيما أمركم به من الحق
١٢٧ - ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ﴾؛ أي:
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
على تبليغ الرسالة وأدائها ﴿مِنْ أَجْرٍ﴾ وجعل ﴿إِنْ أَجْرِيَ﴾؛ أي: ما أجري وثوابي على تبليغ الرسالة إليكم ﴿إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾؛ لأنه هو الذي أرسلني، فكان أجري عليه، وهو بيان لتنزهه عن المطاع الدنية والأغراض الدنيوية.
وقد (١) جاءت هذه المقالات من قوله: ﴿أَلَا تَتَّقُونَ﴾ إلى هنا على لسان نوح وهود وصالح ولوط وشعيب؛ للتنبيه على أن بعثة الأنبياء أسسها الدعاء إلى معرفة الله سبحانه وطاعته فيما يقرب المدعو إلى الثواب ويبعده من العقاب، وأن الأنبياء مجتمعون على ذلك، وإن اختلفوا في تفصيل الأحكام تبعًا لاختلاف الأزمنة والعصور، وأن الأنبياء منزهون عن المطامع الدنيوية، لا يأبهون بها، ولا يجعلونها قبلة أنظارهم ومحط رحالهم.
١٢٨ - ولما فرغ من دعائهم إلى الإيمان.. أتبعه بإنكار بعض ما هم عليه، فقال: ﴿أَتَبْنُونَ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري ﴿بِكُلِّ رِيعٍ﴾ - بكسر الراء وفتحها - جمع ريعة، كذلك؛ أي في كل مكان مرتفع ﴿آيَةً﴾؛ أي: بناء عاليًا متميزًا عن سائر الأبنية تفاخرًا حال كونكم ﴿تَعْبَثُونَ﴾ تلعبون (٢) ببنائه، فإن بناء ما لا ضرورة فيه، وما كان فوق الحاجة، عبث. وقيل: المعنى؛ أي (٣): تبنون بكل مكان مرتفع علامة تعبثون فيها بمن يمر بكم وتسخرون منهم؛ لأنكم تشرفون من ذلك البناء المرتفع على الطريق، فتؤذون المارة وتسخرون منهم. قال الكلبي: إنه عبث العشارين بأموال من يمر بهم، حكاه الماوردي. وقيل: إنهم كانوا يبنون في الأماكن المرتفعة؛ ليعرف بذلك غناهم تفاخرًا.
١٢٩ - ﴿وَتَتَّخِذُونَ﴾؛ أي: وتجعلون لأنفسكم ﴿مَصَانِعَ﴾ وحياضًا عظيمة ومخازن للماء تحت الأرض تجمعون فيها ماء المطر ونحوه ﴿لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ﴾؛ أي: راجين أن تخلدوا في الدنيا؛ أي: عاملين عمل من يرجو ذلك، فلذلك تحكمون بناءها. وقيل: ﴿لعل﴾ هنا للتشبيه؛ أي: كأنكم تخلدون. وقيل: للاستفهام التوبيخي؛
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) المراح.
أي: هل أنتم تخلدون في الدنيا. قال أبو حيان: الظاهر (١) أن ﴿لعل﴾ على بابها من الرجاء وكأنه تعليل للبناء والاتخاذ؛ أي: الحامل لكم على ذلك هو الرجاء للخلود، ولا خلود. وفي قراءة عبد الله ﴿كي تخلدون﴾، وفي حرف أبي: ﴿كأنكم تخلدون﴾، وقرىء ﴿كأنكم خالدون﴾. وقرأ الجمهور ﴿تخلدون﴾ مبنيًا للفاعل، وقتادة مبنيًا للمفعول، وقرأ أبي وعلقمة وأبو العالية مبنيًا للمفعول مشددًا ومخففًا مع ضم التاء.
١٣٠ - ﴿وَإِذَا بَطَشْتُمْ﴾؛ أي: إذا أخذتم بالعقوبة على أحد بأن ضربتم أحدًا بسوط، أو قتلتم بالسيف ﴿بَطَشْتُمْ﴾؛ أي: فعلتم ذلك حالة كونكم ﴿جَبَّارِينَ﴾؛ أي: متسلطين ظالمين بلا رأفة ولا قصد تأديب، ولا نظر في العاقبة، فأما بالحق والعدل فالبطش جائز، والجبار الذي يضرب ويقتل على الغضب، وهو مذموم في وصف البشر.
والحاصل (٢): أنهم أحبوا العُلُوَّ وبقاء العُلُوِّ، والتفرد بالعلوِ، وكل ذلك ينبه على أن من حب الدينار رأس كل خطيئة، وعنوان كل معصية.
والخلاصة: إذا ضربتم.. ضربتم بالسياط ضرب الجبارين، وإذا عاقبتم قتلتم بلا استحقاق؛ أي: إنكم قوم قساة غلاظ الأكباد ذووا جبروت وعتو، فإذا عاقبتم عاقبتم دون شفقة ولا رأفة، وخلاصة ما قال: إن أفعالكم تدل على حب الدنيا، وعلى الكبرياء والتسلط على الناس بجبروت وعسف.
١٣١ - ثم لما وصفهم بهذه الأوصاف القبيحة الدالة على الظلم والعتو والتمر والتجبر.. أمرهم بالتقوى، فقال: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: خافوا عقاب الله سبحانه، واتركوا هذه الأفعال الذميمة من بناء الأبنية العالية، واتخاذ الأمكنة الشريفة، وإسراف المال في الحياض والرياض، والبطش بغير حق ﴿وأطيعونـ﴾ ـي فيما أدعوكم إليه من التوحيد والعدل والإنصاف، وترك الأمل ونحوها، فإنه أنفع لكم وأجدى.
(١) البحر المحيط.
(٢) المراح.
١٣٢ - ثم وصل العظة بما يوجب قبولها بالتنبيه إلى نعم الله التي غمرتهم وفواضله التي عمتهم، وذكرها أولًا مجملة ثم فصلها؛ ليكون ذلك في نفوسهم، فيحتفظوا بها، ويعرفوا عظيم قدرها، فقال: ﴿وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ﴾؛ أي: وخافوا عقاب الله الذي أعطاكم ﴿بِمَا تَعْلَمُونَ﴾ مما لا خفاء فيه عليكم من أنواع النعم الحاصلة لكم، أجملها هود عليه السلام أولًا،
١٣٣ - ثم فصلها بقوله: ﴿أَمَدَّكُمْ﴾ وأنعمكم ﴿بِأَنْعَامٍ﴾ من الإبل والبقر والغنم. وأعاد الفعل للتقرير والتأكيد ﴿وَبَنِينَ﴾ ذكور، ولم يذكر البنات؛ لأنها لا تعد عندهم من النعم، كما في قوله: ما هي بنعم الولد
١٣٤ - ﴿وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤)﴾؛ أي: بساتين وأنهار وأبيار، والمعنى؛ أي (١): واتقوا عقاب الله بطاعتكم إياه فيما أمركم به ونهاكم عنه، فابتعدوا عن اللعب واللهو وظلم الناس والفساد في الأرض، واحذروا سخط من أعطاكم من عنده ما تعلمون من الأنعام والبنين والبساتين والأنهار، تتمتعون بها كما شئتم حتى صرتم مضرب الأمثال في الغنى والثروة والزخرف والزينة، فاجعلوا كفاء هذا عبادة من أنعم بها، وتعظيمه وحده.
١٣٥ - ثم بين السبب في أمرهم بالتقوى، فقال: ﴿إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ﴾ إن لم تقوموا بشكر هذه النعم ﴿عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾؛ أي (٢): شديد عذابه في الدنيا والآخرة، فإن كفران النعمة مستتبع للعذاب، كما أن شكرها مستلزم لزيادتها. ووصف اليوم بالعظم؛ لعظم ما يحل فيه، وهو هبوب الريح الصرصر هاهنا.
والمعنى: أي إني أخاف عليكم إن أصررتم على كفركم، ولم تشكروا هذه النعم عذاب يوم شديد الهول، تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، وترى الناس فيه سكارى حيارى، وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد.
١٣٦ - وبعد أن بلغ الغاية في إنذارهم وتخويفهم وترغيبهم وترهيبهم.. كانت خاتمة مطافه أن قابلوه بالاستخفاف وقلة الاكتراث والاستهانة بما سمعوا، كما أشار إلى ذلك بقوله: ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال قومه في جواب تذكير هود {سَوَاءٌ عَلَيْنَا
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ}؛ أي: وعظك وتذكيرك وتخويفك إيانا من العذاب وعدم وعظك سواء عندنا؛ أي: مستوٍ عندنا، لا نبالي بشيء منه، ولا نلتفت إلى ما تقوله ولا نسمعه.
والمعنى (١): أي هون عليك، وأرح نفسك، فكل هذا تعب ضائع، وجهاد في غير عدو، وضرب في حديد بارد، فإنا لن نرجع عما نحن عليه، وقد حكى الله سبحانه قولهم في سورة هود: ﴿وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾.
وعادل (٢) ﴿أَوَعَظْتَ﴾ بقوله: ﴿أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ﴾ وإن كان قد يعادله: أم لم تعظ، كما قال: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا﴾؛ لأجل الفاصلة، كما عادلت في قوله: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ﴾، ولم يأت التركيب: ﴿أم صمتم﴾، وكثيرًا ما يحسن مع الفواصل ما لا يحسن دونه. وقال الزمخشري: بينهما فرق؛ يعني بين ما جاء في الآية وبين: أم لم تعظ؛ لأن المراد: سواء علينا أفعلت هذا الفعل الذي هو الوعظ أم لم تكن أصلًا من أهله ومباشريه، فهو أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظه من قولك أم لم تعظ.
وقرأ الجمهور: ﴿وعظت﴾ بإظهار الظاء، وروي عن أبي عمرو والكسائي وعاصم إدغام الظاء في التاء، وبالإدغام قرأ ابن محيصن والأعمش، إلا أن الأعمش زاد ضمير المفعول، فقرأ: ﴿أوعظتنا﴾.
١٣٧ - ثم ذكروا السبب في أن الوعظ وعدمه سواء بقولهم: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧)﴾ قرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة (٣): ﴿خُلُقُ﴾ بضمتين، والمعنى عليه: أي ما هذا الذي جئتنا به من الكذب إلا عادة الأولين، كانوا يسطرونه، أو ما هذا الدين الذي نحن عليه إلا دين الأولين من الآباء والأجداد، فنحن سالكون سبيلهم، مقتدون بهم، أو ما هذا الذي نحن عليه من الموت والحياة، والبلاء
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراح.
والعافية، ومن اعتقاد أن لا بعث ولا حساب ولا جزاء إلا عادة قديمة، لم يزل الناس عليها من قديم الدهر.
وقرأ عبد الله وعلقمة والحسن وأبو جعفر وأبو عمرو وابن كثير والكسائي (١): ﴿خَلْق﴾ بفتح الخاء وسكون اللام، والمعنى: أي: ما هذا الذي جئتنا به إلا خلق الأولين؛ أي: اختلاقهم وكذبهم، فأنت على مناهجهم، أو ما خلقنا هذا إلا خلق الأمم الماضية، نحيا كحياتهم، ونموت كمماتهم، ولا بعث ولا معاد، ولا ثواب ولا عقاب، ولا جنة ولا نار. وقرأ أبو قلابة والأصعمي عن نافع بضم الخاء وسكون اللام، وتحتمل هذه القراءة ذينك الاحتمالين اللذين في ﴿خُلُقُ﴾ بضمتين.
١٣٨ - ﴿وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨)﴾ على ما نحن عليه من الأعمال والعادات
١٣٩ - ﴿فَكَذَّبُوهُ﴾؛ أي: كذبوا هودًا، وأصروا على تكذيبه ومخالفة أمره ﴿فَأَهْلَكْنَاهُمْ﴾؛ أي: عادًا بسبب تكذيبهم بريح صرصر عاتية؛ ريح عظيمة ذات برد شديد، كما جاء في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (٦) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (٧)﴾، وقوله: ﴿وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (٥٠)﴾ تلخيصه: أن هودًا أنذر قومه وعظهم، فلم يتعظوا فأهلكوا.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾؛ أي: إن في إهلاكنا عادًا بتكذيبها رسولها ﴿لَآيَةً﴾؛ أي: لعبرة وعظة لقومك - يا محمد - المكذبين بك فيما أتيتهم به من عند ربك ﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ﴾؛ أي: أكثر قوم عاد ﴿مُؤْمِنِينَ﴾ بالله وبرسولهم هود عليه السلام. أو: وما كان أكثر من أهلكنا بالذين يؤمنون في سابق علمنا. أو: وما كان أكثر هؤلاء الذين سمعوا قصتهم من قوم محمد - ﷺ - مؤمنين
١٤٠ - ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ﴾ يا محمد ﴿لَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ الغالب المنتقم الشديد في انتقامه ممن يعمل عمل الجبارين، ولا يقبل موعظة واعظ ونصيحة ناصح. ﴿الرَّحِيمُ﴾ بأوليائه المؤمنين إن تابوا وأصلحوا.
وهذا تهديد لهذه الأمة كيلا يسلكوا مسالكهم (٢). قيل: خير ما أعطي الإنسان عقل يردعه، فإن لم يكن فحياء يمنعه، فإن لم يكن فخوف يقمعه، فإن
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
266
لم يكن فمال يستره، فإن لم يكن فصاعقة تحرقه وتريح منه العباد والبلاد، كالأرض إذا استولى عليها الشوك فلا بد من نسفها وإحراقها بتسليط النار عليها، حتى تعود بيضاء، فعلى العاقل أن يعتبر ويخاف من عقوبة الله سبحانه، ويترك العادات والشهوات والملاهي والتلفازات، ولا يصر على المخالفات والمنهيات، وقد أهلك الله سبحانه قوم عاد مع شدة قوتهم وشوكتهم بأضعف الأشياء وهو الريح، فإنه إذا أراد يجعل الأضعف أقوى كالبعوضة، ففي الريح ضعف للأولياء، وقوة على الأعداء، ولأن للكمل معرفة تامة بشؤون الله تعالى، لم يزالوا مراقبين خائفين، كما أن الجهلاء ما زالوا غافلين آمنين، ولذا قامت عليهم الطامة في كل زمان - قوّانا الله وإياكم بحقائق اليقين، وجعلنا وإياكم من أهل المراقبة في كل حين -.
الإعراب
﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (٨٨) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩)﴾.
﴿رَبِّ﴾: منادى مضاف حذف منه حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب مقول قال إبراهيم. ﴿هَبْ﴾: فعل دعاء، وفاعل مستتر يعود على الله. ﴿لِي﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿حُكْمًا﴾: مفعول به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، على كونها جواب النداء. ﴿وَأَلْحِقْنِي﴾: فعل دعاء وفاعل مستتر، ونون وقاية ومفعول به ﴿بِالصَّالِحِينَ﴾: متعلق به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿هَبْ لِي﴾. ﴿وَاجْعَلْ﴾: فعل دعاء، وفاعل مستتر معطوف على ﴿هَبْ لِي﴾. ﴿لِي﴾: جار ومجرور في محل المفعول الثاني لـ ﴿اجعل﴾. ﴿لِسَانَ صِدْقٍ﴾: مفعول أول لـ ﴿اجعل﴾، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف. ﴿فِي الْآخِرِينَ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿لِسَانَ صِدْقٍ﴾. ﴿وَاجْعَلْنِي﴾: فعل وفاعل مستتر ونون وقاية، ومفعول به أول معطوف على ﴿هَبْ لِي﴾. ﴿مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، صفة لموصوف محذوف وقع مفعولًا ثانيًا لجعل؛ أي: واجعلني
267
وارثًا من ورثة جنة النعيم. ﴿وَاغْفِرْ﴾: فعل وفاعل مستتر معطوف على ﴿هَبْ﴾. ﴿لِأَبِي﴾: متعلق بـ ﴿اغفر﴾. ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه. ﴿كَانَ﴾: فعل ناقص، واسمها مستتر يعود على الأب. ﴿مِنَ الضَّالِّينَ﴾: خبرها، وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل الغفران على كونها مقولًا لـ ﴿قَالَ﴾. ﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لَا﴾: دعائية جازمة. ﴿تُخْزِنِي﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الدعائية، وعلامة جزمه حذف حرف العلة وهي الياء، وفاعله ضمير يعود على الله، و ﴿النون﴾: للوقاية، و ﴿الياء﴾: مفعول به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿هَبْ﴾. ﴿يَوْمَ﴾: منصوب على الظرفية متعلق بتـ ﴿تُخْزِنِي﴾. ﴿يُبْعَثُونَ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾. ﴿يَوْمَ﴾: في محل النصب على الظرفية بدل من ﴿يَوْمَ﴾ الأول. ﴿لَا يَنْفَعُ مَالٌ﴾: فعل وفاعل في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾. ﴿وَلَا بَنُونَ﴾: معطوف على ﴿مَالٌ﴾ مرفوع بالواو؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء، والمستثنى منه محذوف تقديره: يوم لا ينفع مال ولا بنون أحدًا. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل النصب على الاستثناء من المستثنى منه المحذوف المذكور. ﴿أَتَى اللَّهَ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به. ﴿بِقَلْبٍ﴾: متعلق بـ ﴿أَتَى﴾. ﴿سَلِيمٍ﴾: صفة ﴿قلب﴾، والجملة صلة الموصول.
﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣)﴾.
﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ﴾: فعل ونائب فاعل. ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾: متعلق به، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة قوله: ﴿لَا يَنْفَعُ﴾. ﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ﴾: فعل ونائب فاعل أيضًا معطوف على: ﴿لَا يَنْفَعُ مَالٌ﴾. ﴿لِلْغَاوِينَ﴾: متعلق به. ﴿وَقِيلَ﴾: ﴿الواو﴾: حالية، أو عاطفة. ﴿قيل﴾: فعل ماض مغير الصيغة. ﴿لَهُمْ﴾: متعلق به. ﴿أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ﴾ إلى قوله: ﴿فَكُبْكِبُوا فِيهَا﴾: نائب فاعل محكي لـ ﴿قيل﴾، وجملة ﴿قيل﴾ في محل النصب حال من الغاوين، ولكنها بتقدير قد. وإن شئت قلت: ﴿أَيْنَ﴾ اسم استفهام في محل النصب على الظرفية المكانية متعلق
268
بمحذوف خبر مقدم. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿قيل﴾. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿تَعْبُدُونَ﴾ خبره، وجملة ﴿كان﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة. ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من واو ﴿تَعْبُدُونَ﴾؛ أي: حالة كونكم مجاوزين الله في عبادتكم.
فائدة: واختلفت المصاحف في رسم ﴿مَا﴾ في ﴿أَيْنَ مَا﴾ موصولة بـ ﴿أَيْنَ﴾، أو مفصولة عنها، والفصل أظهر هنا، فليست هذه كالتي في قوله: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ﴾ فهي زائدة، وترسم موصولة باتفاق، اهـ "كرخي". ﴿هَلْ﴾: حرف للاستفهام التوبيخي. ﴿يَنْصُرُونَكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿قيل﴾ ﴿أَوْ يَنْتَصِرُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿يَنْصُرُونَكُمْ﴾.
﴿فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٩٨) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (١٠٠) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١)﴾.
﴿فَكُبْكِبُوا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿كبكبوا﴾: فعل ونائب فاعل معطوف على ﴿قيل﴾. ﴿فِيهَا﴾: متعلق به. ﴿هُمْ﴾: تأكيد للضمير المرفوع في ﴿كبكبوا﴾، ليصح العطف عليه. ﴿وَالْغَاوُونَ﴾ معطوف على ﴿الواو﴾ في ﴿كبكبوا﴾، وسوغ العطف عليهما الفصل بالجار والمجرور، وبضمير التوكيد. ﴿وَجُنُودُ﴾: معطوف على ﴿الواو﴾ أيضًا. ﴿إِبْلِيسَ﴾: مضاف إليه مجرور بالفتحة للعلمية والعجمة. ﴿أَجْمَعُونَ﴾: تأكيد للواو في ﴿كبكبوا﴾ وما عطف عليه. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿وَهُمْ﴾: مبتدأ. ﴿فِيهَا﴾: متعلق بـ ﴿يَخْتَصِمُونَ﴾، وجملة ﴿يَخْتَصِمُونَ﴾ خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من واو ﴿قَالُوا﴾. ﴿تَاللَّهِ﴾: جار ومجرور، متعلق بفعل قسم محذوف تقديره: نقسم تالله، وجملة القسم في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿إن﴾: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، تقديره: تالله إنه. ﴿كُنَّا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿لَفِي﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء. ﴿في ضلال﴾: جار ومجرور خبر كان. ﴿مُبِينٍ﴾: صفة
269
﴿ضلال﴾، وجملة كان في محل الرفع خبر ﴿إِن﴾، وجملة ﴿إِن﴾ جواب القسم لا محل لها من الإعراب على كونها مقول ﴿قَالُوا﴾ ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بـ ﴿كُنَّا﴾. ﴿نُسَوِّيكُمْ﴾: فعل مضارع ومفعول به وفاعل مستتر. ﴿بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿نُسَوِّيكُمْ﴾، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿أَضَلَّنَا﴾: فعل ومفعول. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿الْمُجْرِمُونَ﴾: فاعل، والجملة معطوفة على جملة القسم. ﴿فَمَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿ما﴾: نافية، ﴿لَنَا﴾: خبر مقدم. ﴿مِنْ شَافِعِينَ﴾: مبتدأ مؤخر، و ﴿مِن﴾ زائدة، والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿أَضَلَّنَا﴾. ﴿وَلَا صَدِيقٍ﴾: معطوف على ﴿شَافِعِينَ﴾. ﴿حَمِيمٍ﴾: صفة ﴿صَدِيقٍ﴾.
﴿فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢)﴾.
﴿فَلَوْ﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية، ﴿لو﴾: حرف تمن بمعنى نتمنى نائب عن الفعل. ﴿أَنَّ﴾: حرف نصب. ﴿لَنَا﴾: خبر مقدم لـ ﴿أَنَّ﴾ ﴿كَرَّةً﴾: اسمها مؤخر، وجملة ﴿أَنَّ﴾ في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لفعل محذوف دلت عليه ﴿لو﴾ والتقدير: فنتمنى كون كرة لنا إلى الدنيا، ويجوز أن تكون ﴿لو﴾ شرطية، وجملة ﴿أَنَّ﴾ حينئذ في تأويل مصدر مرفوع على كونه فاعلًا لفعل محذوف بعد ﴿لو﴾، تقديره: لو ثبت كون كرة لنا إلى الدنيا، والجملة المحذوفة فعل شرط لـ ﴿لو﴾، وجوابها محذوف تقديره: فلو ثبت كون كرة لنا لفعلنا كيت وكيت، وجملة ﴿لو﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿فَنَكُونَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة سببية إن قلنا: ﴿لو﴾ للتمني. ﴿نكون﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب التمني، واسمها ضمير مستتر فيها. ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾: جار ومجرور في محل النصب خبر ﴿نكون﴾، وجملة ﴿نكون﴾ مع أن المضمرة في تأويل مصدر معطوف على مصدر متقيد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى، تقديره: نتمنى كون كرة لنا إلى الدنيا فكوننا من المؤمنين.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤)﴾
270
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿فِي ذَلِكَ﴾: جار ومجرور خبر مقدم ﴿لَآيَةً﴾: اسمها مؤخر، واللام حرف ابتداء، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾: فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة معطوفة على جملة ﴿إِنَّ﴾ ﴿وَإِنَّ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إن ربك﴾: ناصب واسمه. ﴿لَهُوَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء. ﴿هُوَ﴾: ضمير فصل. ﴿الْعَزِيزُ﴾: خبر ﴿إِنَّ﴾. ﴿الرَّحِيمُ﴾: خبر ثان لها، وجملة ﴿إِنَّ﴾ معطوفة على جملة ﴿إِنَّ﴾ الأولى.
﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨)﴾.
﴿كَذَّبَتْ﴾: فعل ماض. ﴿قَوْمُ نُوحٍ﴾: فاعل ومضاف إليه. ﴿الْمُرْسَلِينَ﴾: مفعول به، والجملة مستأنفة. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بـ ﴿كَذَّبَتْ﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض. ﴿لَهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿قَالَ﴾. ﴿أَخُوهُمْ﴾: فاعل ومضاف إليه مرفوع بالواو. ﴿نُوحٌ﴾: بدل من ﴿أَخُوهُمْ﴾، أو عطف بيان منه، وجملة ﴿قَالَ﴾ في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿أَلَا تَتَّقُونَ﴾ إلى قوله: ﴿قَالُوا﴾: مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿أَلَا﴾: أداة عرض. ﴿تَتَّقُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه. ﴿لَكُمْ﴾ جار ومجرور حال من ﴿رَسُولٌ﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، ﴿رَسُولٌ﴾: خبر ﴿إن﴾. ﴿أَمِينٌ﴾: صفة ﴿رَسُولٌ﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها معللة لعرضه عليهم الجنوح إلى التقوى. ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أني رسول لكم، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم.. فأقول لكم. ﴿اتقوا﴾: فعل وفاعل: ﴿اللَّهَ﴾: مفعول به، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَأَطِيعُونِ﴾: فعل أمر وفاعل ونون وقاية، وياء المتكلم المحذوفة للفاصلة اجتزاء عنها بكسرة نون الوقاية في محل النصب مفعول به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة.
271
﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٠٩) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠)﴾.
﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ﴾ الواو: عاطفة. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿أَسْأَلُكُمْ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على ﴿نُوحٌ﴾ ومفعول أول ﴿عَلَيْهِ﴾: جار ومجرور، متعلق بمحذوف حال من ﴿أَجْرٍ﴾. ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿أَجْرٍ﴾: مفعول ثان لسأل، والجملة في محل النصب. مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِن﴾: نافية. ﴿أَجْرِيَ﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر. ﴿عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة. ﴿اتقوا الله﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة. ﴿وَأَطِيعُونِ﴾: فعل وفاعل ونون وقاية ومفعول به محذوف، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾.
تنبيه: وقد صدرت القصص الخمس بالأمر بالتقوى؛ للدلالة على اتفاق الأديان السماوية على وجوب معرفة الحق واتباعه، وكررت الجملة نفسها تأكيدًا لهذه الغاية السامية كما مر.
﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥)﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿أَنُؤْمِنُ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري. ﴿نؤمن﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على قوم ﴿نُوحٌ﴾. ﴿لَكَ﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَاتَّبَعَكَ﴾: ﴿الواو﴾: حالية. ﴿اتبعك﴾: فعل ومفعول به. ﴿الْأَرْذَلُونَ﴾: فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب حال من كاف ﴿لَكَ﴾، ولكنها على تقدير قد. ﴿قَالَ﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على ﴿نُوحٌ﴾، والجملة مستأنفة. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿مَا﴾: استفهامية في محل الرفع مبتدأ. ﴿عِلْمِي﴾: خبرها ومضاف إليه. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿عِلْمِي﴾، ويحتمل كون ﴿مَا﴾ نافية. ﴿عِلْمِي﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿بِمَا﴾: متعلق به، والخبر محذوف تقديره: وما
272
علمي بما كانوا يعملون حاصل، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَعْمَلُونَ﴾ خبره، وجملة كان صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة. ﴿إن﴾: نافية. ﴿حِسَابُهُمْ﴾: مبتدأ. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿عَلَى رَبِّي﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب قول ﴿قَالَ﴾. ﴿لَوْ﴾: حرف امتناع وشرط. ﴿تَشْعُرُونَ﴾: فعل وفاعل، ومفعول ﴿تَشْعُرُونَ﴾ محذوف، تقديره: ذلك، وجواب ﴿لَوْ﴾ محذوف، تقديره: ما عيرتموهم وما نسبتم إليهم شيئًا من نقص، وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَا﴾: حجازية. ﴿أَنَا﴾: اسمها. ﴿بِطَارِدِ﴾ ﴿الباء﴾: زائدة، ﴿طارد المؤمنين﴾: خبرها مجرور لفظًا منصوب محلًا. ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾: مضاف إليه، والجملة معطوفة على ما قبلها على كونها مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إن﴾: نافية. ﴿أَنَا﴾: مبتدأ. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿نَذِيرٌ﴾: خبر. ﴿مُبِينٌ﴾: صفة له، والجملة معطوفة على ما قبلها.
﴿قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦)﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿لَئِنْ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿لَمْ﴾: حرف جزم. ﴿تَنْتَهِ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، والجملة في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها. ﴿يَا نُوحُ﴾: منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ على كونها معترضة. ﴿لَتَكُونَنَّ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم مؤكدة للأولى، كررت لتدل على أن ما بعدها جواب القسم لا جواب الشرط. ﴿تكونن﴾: فعل مضارع ناقص في محل الرفع؛ لتجرده عن الناصب والجازم مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، واسمها ضمير يعود على ﴿نُوحُ﴾. ﴿مِنَ الْمَرْجُومِينَ﴾: جار ومجرور خبر ﴿تكونن﴾، وجملة ﴿تكونن﴾ جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم المحذوف في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، وجواب الشرط محذوف جريًا على القاعدة المشهورة المذكورة في قول ابن مالك:
273
تقديره: إن لم تنته يا نوح تكن من المرجومين، وجملة الشرط في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ على كونها معترضة بين القسم وجوابه.
﴿قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿نُوحُ﴾، والجملة مستأنفة. ﴿رَبِّ﴾: منادى مضاف حذف منه حرف النداء، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِنَّ قَوْمِي﴾: ناصب واسمه ومضاف إليه. ﴿كَذَّبُونِ﴾: فعل ماض وفاعل ونون وقاية، وياء المتكلم المحذوفة للفاصلة اجتزاء عنها بكسرة نون الوقاية في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جواب النداء. ﴿فَافْتَحْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة تفريعية؛ لكون ما قبلها علة لما بعدها. ﴿افتح﴾: فعل دعاء، وفاعل مستتر يعود على الله. ﴿بَيْنِي﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿افتح﴾. ﴿وَبَيْنَهُمْ﴾: معطوف على ﴿بَيْنِي﴾. ﴿فَتْحًا﴾: مفعول مطلق، أو مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿إِن﴾ على كونها مقول ﴿قَالَ﴾ عطف فعلية على اسمية. ﴿وَنَجِّنِي﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿نَجِّنِي﴾: فعل دعاء وفاعل ونون وقاية ومفعول به، معطوف على ﴿فَافْتَحْ﴾. ﴿وَمَنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل النصب معطوف على ياء المتكلم، أو مفعول معه. ﴿مَعِيَ﴾: ظرف ومضاف إليه صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة. ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾: جار ومجرور حال من الضمير المستكن في الصلة. ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية، ﴿أنجيناه﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة مستأنفة. ﴿وَمَنْ﴾: اسم موصول في محل النصب معطوف على ضمير المفعول، أو مفعول معه. ﴿مَعَهُ﴾: ظرف ومضاف إليه صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة. ﴿فِي الْفُلْكِ﴾: متعلق بـ ﴿أنجيناه﴾، أو متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الظرف. ﴿الْمَشْحُونِ﴾: صفة لـ ﴿الْفُلْكِ﴾.
﴿ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢)﴾.
274
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ. ﴿أَغْرَقْنَا﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿أنجينا﴾. ﴿بَعْدُ﴾: في محل النصب على الظرفية الزمانية مبني على الضم؛ لانقطاعه عن الإضافة لفظًا لا معنى، والمراد: بعد إنجائهم ﴿الْبَاقِينَ﴾: مفعول ﴿أَغْرَقْنَا﴾. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿فِي ذَلِكَ﴾: خبرها مقدم. ﴿لَآيَةً﴾: اسمها مؤخر، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾: فعل ناقص واسمه وخبره، معطوف على جملة ﴿إن﴾. ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ﴾: ناصب واسمه. ﴿لَهُوَ﴾: ضمير فصل، و ﴿اللام﴾: حرف ابتداء. ﴿الْعَزِيزُ﴾: خبره. ﴿الرَّحِيمُ﴾: خبر ثان لها، والجملة معطوفة على جملة ﴿إن﴾ الأولى.
﴿كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٢٧)﴾.
﴿كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة مستأنفة مسوقة للشروع في القصة الرابعة. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بـ ﴿كَذَّبَتْ﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض. ﴿لَهُمْ﴾: متعلق به. ﴿أَخُوهُمْ﴾: فاعل ومضاف إليه. ﴿هُودٌ﴾: بدل من ﴿أَخُوهُمْ﴾، أو عطف بيان له، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿أَلَا﴾: أداة عرض. ﴿تَتَّقُونَ﴾: فعل وفاعل، والمفعول محذوف تقديره: تتقون الله، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه. ﴿لَكُمْ﴾: حال من ﴿رَسُولٌ﴾. ﴿رَسُولٌ﴾: خبر ﴿إن﴾. ﴿أَمِينٌ﴾: صفة له، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قال﴾ على كونها معللة لعرضه عليهم التقوى. ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة كما تقدم. ﴿اتقوا الله﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَأَطِيعُونِ﴾: فعل وفاعل ونون وقاية ومفعول محذوف معطوف على ﴿اتقوا الله﴾. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿مَا﴾: نافية. ﴿أَسْأَلُكُمْ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول أول، والجملة معطوفة على
275
جملة ﴿إن﴾. ﴿عَلَيْهِ﴾: حال. ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿أَجْرٍ﴾: مفعول ثان لسأل. ﴿إن﴾: نافية. ﴿أَجْرِيَ﴾: مبتدأ. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١)﴾.
﴿أَتَبْنُونَ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التوبيخي. ﴿تبنون﴾: فعل وفاعل. ﴿بِكُلِّ رِيعٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تبنون﴾. ﴿آيَةً﴾: مفعول به، والجملة الاستفهامية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿تَعْبَثُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿تبنون﴾. ﴿وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿تبنون﴾. ﴿لَعَلَّكُمْ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿تَخْلُدُونَ﴾: في محل الرفع خبر ﴿لعل﴾، وجملة ﴿لعل﴾ في محل النصب حال من فاعل ﴿تَخْلُدُونَ﴾؛ أي: حالة كونكم راجين ومؤملين أن تخلدوا في الدنيا. ﴿وَإِذَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿بَطَشْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها. ﴿بَطَشْتُمْ﴾: فعل وفاعل جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، والظرف متعلق بالجواب. ﴿جَبَّارِينَ﴾: حال من فاعل ﴿بَطَشْتُمْ﴾، وجملة ﴿إذا﴾ معطوفة على جملة قوله: ﴿أَتَبْنُونَ﴾. ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم ما قلت لكم، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم.. فأقول لكم اتقوا الله ﴿اتقوا الله﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. ﴿وَأَطِيعُونِ﴾: فعل وفاعل ونون وقاية ومفعول محذوف معطوف على ﴿اتقوا الله﴾.
﴿وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (١٣٦)﴾.
﴿وَاتَّقُوا الَّذِي﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾.
276
﴿أَمَدَّكُمْ﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على الموصول، ومفعول به صلة الموصول. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَمَدَّكُمْ﴾، وجملة ﴿تَعْلَمُونَ﴾ صلة ﴿مَا﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: تعلمونه. ﴿أَمَدَّكُمْ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة بدل من جملة ﴿أَمَدَّكُمْ﴾ الأولى بدل بعض من كل؛ لأنها أخص من الأولى باعتبار متعلقيهما، فتكون داخلة في الأولى لأن ﴿ما تعلمون﴾: يشمل الأنعام وغيرها. وقيل: هي مفسرة للجملة الأولى، فلا محل لها من الإعراب، وشرط إبدال الجملة من الجملة أن تكون الثانية أوفى من الأولى بتأدية المعنى المراد، ولذلك لا يقع البدل المطابق في الجمل، وإنما يقع بدل البعض من الكل. ﴿بِأَنْعَامٍ﴾: متعلق بـ ﴿أَمَدَّكُمْ﴾. ﴿وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾: معطوفة على ﴿أنعام﴾. ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه. ﴿أَخَافُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على ﴿هُودٌ﴾. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَخَافُ﴾. ﴿عَذَابَ﴾: مفعول به. ﴿يَوْمٍ﴾: مضاف إليه. ﴿عَظِيمٍ﴾: صفة ﴿يَوْمٍ﴾، وجملة ﴿أَخَافُ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها على كونها مقول ﴿قال﴾. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿سَوَاءٌ﴾: خبر مقدم لمبتدأ متصيد من الجملة التي بعدها من غير سابك لإصلاح المعنى. ﴿عَلَيْنَا﴾: متعلق بـ ﴿سَوَاءٌ﴾؛ لأنه بمعنى مستو، والهمزة للاستفهام. ﴿أَوَعَظْتَ﴾: فعل وفاعل. ﴿أَمْ﴾: حرف معادل لهمزة التسوية عاطف. ﴿لمْ﴾: حرف جزم. ﴿تَكُنْ﴾: فعل مضارع ناقص مجزوم بـ ﴿لمْ﴾، واسمها ضمير يعود، على ﴿هُودٌ﴾. ﴿مِنَ الْوَاعِظِينَ﴾: خبر ﴿تَكُنْ﴾، وجملة ﴿تَكُنْ﴾ معطوفة على جملة وعظت، وجملة وعظت في تأويل مصدر من غير سابك لإصلاح المعنى مرفوع على الابتداء، والتقدير: وعظك إيانا وعدمه سواء علينا في عدم مبالاتنا لوعظك، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾.
﴿إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠)﴾.
﴿إن﴾: نافية. ﴿هَذَا﴾: مبتدأ. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿خُلُقُ الْأَوَّلِينَ﴾:
277
خبر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿وَمَا نَحْنُ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَا﴾: حجازية. ﴿نَحْنُ﴾: في محل الرفع اسمها. ﴿بِمُعَذَّبِينَ﴾: خبرها، و ﴿الباء﴾: زائدة، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. ﴿فَكَذَّبُوهُ﴾: ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفريع، ﴿كذبوه﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة معطوفة مفرعة على جملة ﴿قَالُوا﴾. ﴿فَأَهْلَكْنَاهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة تفريعية، ﴿أهلكناهم﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف مفرع على ﴿كذبوه﴾. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿فِي ذَلِكَ﴾: خبرها مقدم على اسمها ﴿لَآيَةً﴾: اسمها مؤخر عن خبرها. و ﴿اللام﴾ حرف ابتداء، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾: فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة معطوفة على جملة ﴿إن﴾. ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ﴾: ناصب واسمه ﴿لَهُوَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء. ﴿هو﴾: ضمير فصل. ﴿الْعَزِيزُ﴾: خبر ﴿إِنَّ﴾. ﴿الرَّحِيمُ﴾: خبر ثان لها، وجملة ﴿إنَّ﴾ معطوفة على جملة ﴿إنَّ﴾ الأولى.
التصريف ومفردات اللغة
﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣)﴾ الحكم: هو العلم بالخبر والعمل به. واللحوق بالصالحين يراد به التوفيق للأعمال التي توصل إلى الانتظام في زمرة الكاملين المنزهين عن كبائر الذنوب وصغائرها.
﴿لِسَانَ صِدْقٍ﴾؛ أي: ذكرًا جميلًا بين الناس، بتوفيقي إلى الطريق الحسنة حتى يقتدي بي الناس من بعدي، وهذا هو الحياة الثانية، كما قال:
وَاحْذِفْ لَدَى اجْتِمَاعِ شَرْطٍ وَقَسَمْ جَوَابَ مَا أَخَّرْتَ فَهْوَ مُلْتَزَمْ
قَدْ مَاتَ قَوْمٌ وَهُمْ فِيْ النَّاسِ أَحْيَاءُ
﴿مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ﴾؛ أي: من الذين يستمتعون بالجنة وسعادتها، فيكون ذلك غنيمة لهم، كما يستمتع الناس بالميراث في الدنيا.
﴿وَلَا تُخْزِنِي﴾ من أخزى يخزي إخزاء أصله من الخزي بمعنى الهوان والذل، وقيّد عدم الإخزاء بيوم البعث؛ لأن الدنيا مظهر اسم الستار كما مر.
278
﴿مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ والقلب السليم: هو البعيد عن الكفر والنفاق وسائر الأخلاق الذميمة.
﴿أزلفت﴾؛ أي: قرّبت الجنة ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾ عن الكفر والمعاصي بحيث يشاهدونها من الموقف ﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ﴾؛ أي: جعلت بارزة؛ أي: ظاهرة ﴿لِلْغَاوِينَ﴾؛ أي: الضالين عن طريق الهدى.
﴿أَوْ يَنْتَصِرُونَ﴾ وباب افتعل هاهنا مطاوع فعل، قال في "كشف الأسرار" النصر: المعونة على دفع الشر والسوء عن غيره، والانتصار أن يدفع عن نفسه.
﴿فَكُبْكِبُوا فِيهَا﴾ والكبكبة: تكرير الكب؛ وهو الإلقاء على الوجه بتكرير معناه، كأن من ألقي في النار ينكب مرة بعد أخرى حتى يستقر في قعرها، اهـ "بيضاوي". وفي "روح البيان": الكبكبة: تدهور الشيء في هوة؛ وهو تكرير الكب، وهو الطرح والإلقاء منكوسًا، وجعل تكرير اللفظ دليلًا على تكرير المعنى، كرر عين الكبّ بنقله إلى باب التفعيل، فأصل كبكبوا كبّبوا، فاستثقل اجتماع الباءات، فأبدلت الثانية كافًا، كما في زحزح، فإن أصله زحح من زحّه يزحّه؛ أي: نحا عن موضعه، ثم نقل إلى باب التفعيل، فقيل: زححه، فأبدلت الحاء الثانية زايًا، فقيل: زحزحه؛ أي: باعده، اهـ.
﴿الْغَاوُونَ﴾: اسم فاعل من غوى يغوى غواية إذا ضل عن طريق الهدى.
﴿يَخْتَصِمُونَ﴾؛ أي: يخاصمون من معهم من الأصنام والشياطين. فافتعل هنا بمعنى فاعل الذي للمشاركة.
﴿إِلَّا الْمُجْرِمُونَ﴾ من الإجرام؛ وهو الإشراك، وأصل الجرم: قطع الثمرة عن الشجرة، والجرامة رديء الثمر، وأجرم إذا صار ذا جرم، نحو أثمر وألبن، واستعير ذلك لكل اكتساب مكروه، ولا يكاد يقال في عامة كلامهم للكسب المحمود.
﴿مِنْ شَافِعِينَ﴾: جمع شافع من الشفاعة؛ وهو طلب الخير من الغير للغير.
﴿وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١)﴾: من الصداقة، والصداقة: أن يفرح الشخص
279
لفرحك، ويحزن لحزنك، والعداوة على الضد من ذلك. والحميم: هو الذي يهمّه ما أهمّك؛ من الاحتمام؛ وهو الاهتمام، أو من الحامة؛ وهي الخاصة؛ وهو الصديق المشفق. والنفي هنا يحتمل نفي الصديق من أصله، أو نفي صفته فقط، والصديق يحتمل أن يكون مفردًا، وأن يكون مستعملًا في الجمع، كما يستعمل العدو فيه، كما يقال: هم صديق، وهم عدو، اهـ "كشاف". وفي "البيضاوي": جمع الشافع، ووحد الصديق لكثرة الشفعاء في العادة، وقلة الصديق، ولأن الصديق الواحد يسعى أكثر مما يسعى الشفعاء، أو لإطلاق الصديق على الجمع كالعدو؛ لأنه في الأصل مصدر كالحنين والصهيل، اهـ.
﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ﴾: تأنيث الفعل المسند إلى القوم باعتبار معناه، وهو الأمة والجماعة، وتذكير الضمير العائد إليه في قوله: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ﴾ باعتبار لفظه. وفي "البيضاوي": القوم مؤنث، ولذلك يصغر على قويمة". وفي "المصباح": "القوم يذكر ويؤنث، فيقال: قام القوم، وقامت القوم، وكذلك كل اسم جمع لا واحد له من لفظه، نحو رهط ونفر"، اهـ. فقوله: مؤنث؛ أي: على الأغلب، لا أنه ذهب إلى أنه جمع قائم، والأصل تأنيثه، اهـ "شهاب".
﴿أَخُوهُمْ﴾؛ أي: أخوة نسب، كما يقال: يا أخا العرب، ويا أخا تميم، يريدون: يا من هو واحد منهم، قال الحماسي:
لاَ يَسْأَلُوْنَ أَخَاهُمْ حِيْنَ يَنْدُبُهُمْ فِيْ النَّائِبَاتِ عَلَى مَا قَالَ بُرْهَانَا
﴿الْأَرْذَلُونَ﴾: جمع الأرذل، والرذالة الخسة والدناءة، والرذال: المرغوب عنه لرداءته، يعنون أن لا عبرة لاتباعهم لك؛ إذ ليس لهم رزانة عقل وإصابة رأي، قد كان ذلك منهم في بادىء الرأي، وقد استرذلوهم لاتضاع نسبهم، وقلة حظوظهم من الدنيا.
﴿لَوْ تَشْعُرُونَ﴾: وهو من الباب الأول، وأما الشعر بمعنى النظم فهو من الباب الخامس.
﴿وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤)﴾: من الطرد، وهو الإزعاج والإبعاد على سبيل
280
الاستخفاف.
﴿مِنَ الْمَرْجُومِينَ﴾؛ أي: من المقتولين رجمًا بالحجارة، قال الراغب في "المفردات": الرجام الحجارة، والرجم الرمي بالرجام، يقال: رجم فهو مرجوم، قال تعالى: ﴿لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ﴾؛ أي: المقتولين أقبح قتلة، انتهى.
﴿فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ﴾؛ أي: أحكم بيننا، والفتح هنا من الفتاحة بمعنى الحكومة، والفتّاح الحاكم، سمي بذلك لفتحه مغاليق الأمور، ، كما سمي فيصلًا لفصله بين الخصومات. وفي "القاموس": الفُتاحة - بالضم والكسر - ويقال: بينهما فتاحات؛ أي: خصومات.
﴿الْمَشْحُونِ﴾؛ أي: المملوء بهم وبكل ما معهم، ومنه الشحناء؛ وهي عداوة امتلأت منها النفوس.
﴿بِكُلِّ رِيعٍ﴾ الريع - بكسر الراء وفتحها -: جمع ريعة؛ وهو في اللغة المكان المرتفع، وقال أبو عبيدة: هو الطريق اهـ. "سمين". وقيل: هو الجبل. اهـ "مصباح" وفي "القاموس": والرِيع - بالكسر والفتح - المرتفع من الأرض، أو كل فجّ، أو كل طريق، أو الطريق المنفرج في الجبل، والجبل المرتفع، الواحدة بهاء، وبالكسر: الصومعة، وبرج الحمام، والتل العالي، وبالفتح: فضل كل شيء كريع العجين والدقيق والبذر. اهـ.
﴿آيَةً﴾ الآية: العلم يهتدي به المارة، وكان بناؤها للعبث واللهو؛ لأنهم كانوا يهتدون بالنجوم في أسفارهم، فلا يحتاجون إليها. وقيل: المراد بها القصور المشيدة، ترفعون بناءها وتجتمعون فيها، فتعبثون بمن يمر بكم.
﴿تَعْبَثُونَ﴾ في "المصباح": عبث عبثًا - من باب تعب - إذا لعب وعمل ما لا فائدة فيه فهو عابث.
﴿مَصَانِعَ﴾: جمع مَصنعَةُ - بفتح الميم مع فتح النون، أو ضمها -؛ وهي الحوض أو البركة، فقوله: ﴿مَصَانِعَ﴾؛ أي: حيضانًا وبُركًا تجمعون فيها الماء، فهي من قبيل الصهاريج. اهـ، شيخنا وفي "المختار": المَصنُعَة - بفتح الميم وضم
281
النون، أو فتحها - كالحوض يجمع فيه ماء المطر، والمصانع الحصون. اهـ. وفي "القاموس"، وشرحه "التاج": المَصنَعة والمَصنُعة - بفتح الميم وفتح النون وضمها -: ما يجمع فيه ماء المطر كالحوض، والجمع المصانع، والمصانع أيضًا القرى والحصون والقصور، والمصنعة أيضًا الدعوة للأكل، يقال: كنا في مصنعة فلان، وموضع يعزل النحل بعيدًا عن البيوت، وجميع هذه المعاني صالحة للتفسير بها. وقيل: ﴿مَصَانِعَ﴾؛ أي: قصورًا مشيدة وحصونًا منيعة، أو مآخذ الماء تحت الأرض، كما في "الصحاح" و"القاموس".
﴿وَإِذَا بَطَشْتُمْ﴾ البطش: السطوة والأخذ بعنف، وتناول الشيء بصولة أو قهرٍ أو غلبة.
﴿جَبَّارِينَ﴾ والجبَّار: الذي يضرب ويقتل على الغضب، والجبّار أيضًا المتسلط العاتي بلا رأفة ولا شفقة.
﴿وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ﴾ والإمداد: اتباع الثاني بما قبله شيئًا بعد شيء على انتظام، وأكثر ما جاء الإمداد في المحبوب، والمدّ في المكروه، وأما قوله: ﴿وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ﴾ فهو من مددت الدواة أمدها، لا من القبيل المذكور. اهـ "روح".
﴿سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ﴾ والوعظ: زجر يقترن بتخويف، وكلام يلين القلب بذكر الوعد والوعيد، وقال الخليل: هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب، والعظة والموعظة الاسم.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التقديم في قوله: ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣)﴾ فقد استوعب الحكم أولًا، ثم طلب الإلحاق بالصالحين، والسر فيه دقيق جدًّا، ذلك أن القوة النظرية مقدمة على القوة العملية؛ لأنه يمكنه أن يعلم الحق وإن لم يعمل
282
به، وعكسه غير ممكن؛ لأن العلم صفة الروح، والعمل صفة البدن، وكما أن الروح أشرف من البدن كذلك العلم أفضل من الإصلاح.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ﴾ إذ المراد باللسان الثناء الحسن والقبول العام، وذكر اللسان مجاز علاقته السببية؛ لأنه سبب ذلك الثناء، فهو من إطلاق السبب وإرادة المسبب. وقيل: هو مجاز من إطلاق الجزء على الكل؛ لأن الدعوة باللسان.
ومنها: إضافة الموصوف إلى الصفة في لسان صدق؛ أي: اللسان الصادق، والثناء الحسن، وإضافة المحل إلى الحال فيه في قوله: ﴿مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ﴾؛ أي: الجنة التي هي محل النعيم الدائم.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ﴾ حيث استعار الورثة لمستحقي الجنة، شبَّه الجنة التي استحقها العامل بعد فناء عمله بالميراث الذي استحقه الوارث بعد فناء مورثه، فأطلق عليها اسم الميراث، وعلى استحقاقها اسم الوراثة، وعلى العامل اسم الوارث. اهـ "روح".
ومنها: المقابلة البديعة في قوله: ﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (٩١)﴾ فإنه مقابل قوله في السعداء: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠)﴾.
ومنها: إضافة ما للكل إلى الجزء؛ لكونه رئيسه في قوله: ﴿بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ أضاف السلامة إلى القلب؛ لأن الجوارح تابعة للقلب، فتسلم بسلامته، وتفسد بفساده.
ومنها: التعبير بصيغة الماضي عما في المستقبل في قوله: ﴿أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾، وفي قوله: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠)﴾، وقوله: ﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (٩١)﴾، وقوله: ﴿وَقِيلَ لَهُمْ﴾، وقوله: ﴿فَكُبْكِبُوا فِيهَا﴾، وقوله: ﴿قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (٩٦)﴾؛ للدلالة على تحقق الوقوع وتقرره.
ومنها: التعبير بصيغة المضارع في قوله: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (٨٨)﴾ للدلالة على استمرار انتفاء النفع ودوامه حسبما يقتضيه مقام التهويل والتفظيع.
283
ومنها: قوة اللفظ لقوة المعنى في قوله: ﴿فَكُبْكِبُوا فِيهَا﴾ وهذا مما انفرد في التنبيه إليه ابن جنّي في كتاب "الخصائص"، فإن الكبكبة تكرير الكب، جعل التكرير في اللفظ دليلًا على التكرير في المعنى، كأنه إذا ألقي في جهنم ينكب مرة بعد أخرى، حتى يستقر في قعرها، وليست الزيادة في اللفظ دالة على قوة المعنى بصورة مطردة، بل إن المدار في ذلك على الذوق، خذ لك مثالًا زيادة التصغير، فهي زيادة نقص، فرجيل أنقص من رجل في المعنى، ولكنه أكثر حروفًا منه.
ومنها: التعبير بصيغة المضارع في قوله: ﴿إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٩٨)﴾ لاستحضار الصورة الماضية.
ومنها: الإيضاح في قوله: ﴿وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١)﴾؛ وهو أن يذكر المتكلم كلامًا في ظاهره لبس، ثم يوضحه في بقية كلامه، فإن الصديق الموصوف بصفة حميم هو الذي يفوق القرابة، ويربو عليه، وهو أن يكون حميمًا، فالحميم من الاحتمام؛ وهو الاهتمام؛ أي: صديق يهمه أمرنا ويهمنا أمره.
ومنها: التكرير في قوله: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ للتأكيد والتقرير في النفوس مع كونه علق كل واحد منهما بسبب؛ وهو الأمانة في الأول، وقطع الطمع في الثاني، ونظيره قولك لولدك: ألا تتقي الله في عقوقي وقد ربيتك صغيرًا، ألا تتقي في عقوقي وقد علمتك كبيرًا.
ومنها: إطلاق الكل وإرادة البعض في قوله: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥)﴾ حيث عبّر بالمرسلين عن نوح عليه السلام، وكذا فيما بعده من الأنبياء، وإنما ذكره بصيغة الجمع تعظيمًا له، وتنبيهًا على أن من كذب رسولًا فقد كذب جميع المرسلين.
ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ﴾.
ومنها الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا﴾؛ أي: احكم بيننا وبينهم بحكمك العادل، استعار الفتّاح للحاكم، والفتح للحكم؛ لأنه
284
يفتح المنغلق من الأمر، ففيه استعارة تصريحية تبعية.
ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ﴾ ومحل التوبيخ هو الجملة الحالية؛ أي: تعبثون.
ومنها: إعادة الفعل لزيادة التقرير في قوله: ﴿أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (١٣٣)﴾ بعد قوله: ﴿أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ﴾ فإن التفصيل بعد الإجمال، والتفسير بعد الإبهام أدخل في ذلك، وأوقع في النفس. اهـ "أبو السعود".
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
285
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٤٥) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (١٥٢) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦٤) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (١٦٦) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥) كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٨٠) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١)...﴾ الآيات، مناسبة هذه القصة لما
286
قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما قص على رسوله - ﷺ - قصص عاد وهود.. قصّ أيضًا قصص ثمود وصالح، وقد (١) كانوا عربًا مثلهم، يسكنون مدينة الحجر الذي بين وادي القرى والشام، ومساكنهم معروفة، تتردد عليها قريش في رحلة الصيف وهم ذاهبون إلى بلاد الشام، دعاهم صالح إلى عبادة الله وحده، وأن يطيعوه فيما بلغهم من رسالة ربهم، فأبوا وكذبوا بعد أن أتى لهم بالآيات المصدقة لرسالته فأخذهم العذاب، وزلزلت بهم الأرض، ولم تبق منهم ديارًا ولا نافخ نار.
التفسير وأوجه القراءة
١٤١ - قصص صالح عليه السلام: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ﴾ أنث (٢) اعتبارًا بمعنى القبيلة، أو الجماعة، أو الأمة، وهو اسم جدهم الأعلى، وهو ثمود بن عبيد بن عوص بن عاد بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام.
﴿الْمُرْسَلِينَ﴾ يعني: صالحًا ومن قبله من المرسلين، أو إياه وحده، والجمع باعتبار أن تكذيب واحد من الرسل في حكم تكذيب الجميع؛ لاتفاقهم على التوحيد وأصول الشرائع.
١٤٢ - ثم بيّن الوقت الممتد للتكذيب المستمر، فقال: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ﴾ النسبي، لا الديني، فإن الأنبياء محفوظون قبل النبوة، معصومون بعدها، وفائدة كونه منهم أن تعرف أمانته ولغته، فيؤدّي ذلك إلى فهم ما جاء به وتصديقه ﴿صَالِحٌ﴾ بن عبيد بن آسف بن كاشح بن حاذر بن ثمود، وعاش صالح من العمر مئتين وثمانين سنة، وبينه وبين هود مئة سنة ﴿أَلَا تَتَّقُونَ﴾ يا قوم عقاب الله سبحانه بامتثال ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه
١٤٣ - ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ﴾ من عند الله ﴿أَمِينٌ﴾ في جميع ما أرسلت به إليكم
١٤٤ - ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾؛ أي: عقاب الله سبحانه في مخالفتي؛ لأني رسول الله إليكم ﴿وَأَطِيعُونِ﴾ ي فيما أمرتكم به ونهيتكم عنه؛ لأني أمين على ما أرسلت به إليكم؛ أي: فإن شهرتي فيما بينكم بالأمانة موجبة لتقوى الله، وإطاعتي فيما أدعوكم إليه
١٤٥ - ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ﴾؛ أي: على نصحي لكم وتبليغ ما
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
أرسلت به إليكم ﴿مِنْ أَجْرٍ﴾؛ أي: أجرًا وجعلا ﴿إِنْ أَجْرِيَ﴾؛ أي: ما أجر تبليغي وثواب دعوتي ﴿إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ فإنه الذي أرسلني، فالأجر عليه، بل هو الآجر لعباده الخلّص.
والمعنى: أي (١) كذبت ثمود أخاهم صالحًا حين قال لهم: ألا تتقون عقاب الله على معصيتكم إياه، وخلافكم أمره بطاعتكم أمر المفسدين في الأرض، إني لكم رسول من عند الله، أرسلني إليكم بتحذيركم عقوبته، أمين على رسالته التي أرسلها معي إليكم فاتقوه وأطيعوني، وما أسألكم على نصحي وإنذاري جزاء ولا ثوابًا، ما جزائي إلَّا على رب السموات والأرض وما بينهما.
١٤٦ - ثم خاطب قومه واعظًا لهم، ومحذّرًا نقم الله أن تحل بهم، ومذكرًا بأنعمه عليهم فيما آتاهم من الأرزاق الدارّة، والجنات والعيون، والزروع والثمرات، والأمن من المحذورات، فقال: ﴿أَتُتْرَكُونَ﴾ الاستفهام (٢) فيه للإنكار والتوبيخ؛ أي: أتظنون أن تتركوا ﴿فِي﴾؛ أي: في النعم التي أعطاكم الله سبحانه ﴿مَا هَاهُنَا﴾؛ أي: في هذه الدار الدنيا حالة كونكم ﴿آمِنِينَ﴾ من الموت والعذاب، باقين في الدنيا، وأن لا دار للمجازاة؛ أي: لا تظنوا ذلك فإنكم لا تتركون فيها، ولا بد من المجازاة؛ أي: لا ينبغي لكم أن تعتقدوا أنكم تتقلبون في النعم التي في دياركم هذه آمنين من الزوال والعذاب، فلا تطمعوا في ذلك.
١٤٧ - ثم فسّر ذلك المكان بقوله: ﴿فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾؛ أي: أتتركون في بساتين يانعة وأنهار جارية
١٤٨ - ﴿وَزُرُوعٍ﴾ زاهرة ﴿وَنَخْلٍ﴾ ناضرة ﴿طَلْعُهَا هَضِيمٌ﴾؛ أي: لطيف ليّن في جسمه، والطلع ثمر النخل في أول ما يطلع، وبعده يسمى خلالًا، ثم بلحًا، ثم بسرًا، ثم رطبًا، ثم تمرًا. وأفرد النخل مع دخولها في أشجار الجنات؛ لفضلها على سائر الأشجار، وقد خلقت من فضلة طينة آدم عليه السلام ولكن لا أصل له.
والمعنى: أي لا تظنوا أنكم تتركون في دياركم آمنين متمتعين بالجنات
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
والعيون والزروع والثمار اليانعة، وأن لا دار للجزاء على العمل، بل عليكم أن تتذكروا أن ما أنتم فيه من نعم وأمن من عدو لن يدوم، وأنكم عائدون إلى ربكم مجازون على أعمالكم خيرها وشرها.
١٤٩ - وقوله: ﴿وَتَنْحِتُونَ﴾ معطوف (١) على ﴿تتركون﴾ فهو في حيّز الاستفهام التوبيخي، ومحل التوبيخ الحال؛ وهي قوله: ﴿فَارِهِينَ﴾؛ أي: وهل تنحتون وتبرون ﴿مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا﴾ ومساكن حاله كونكم ﴿فَارِهِينَ﴾ بالألف؛ أي: ماهرين وحاذقين في نحتها وبرايتها. وقرىء ﴿فرهين﴾ بلا ألف، كما سيأتي لاحقًا؛ أي: فرحين مرحين بطرين. فهو على الأول من ﴿فَرُه﴾ بالضم فراهة إذا مهر في العمل وحذق، وعلى الثاني من ﴿فره﴾ بالكسر فرهًا إذا فرح ومرح.
وفي "الكرخي" في سورة الأعراف: وإنما كانوا ينحتون بيوتًا في الجبال لطول أعمارهم، فإن السقوف والأبنية كانت تبلى قبل فناء أعمارهم. وفي "الخطيب" في سورة هود: وكان الواحد منهم يعيش ثلاث مئة سنة إلى ألف سنة، وكذا كان قوم هود. اهـ.
واعلم: أن (٢) ظاهر هذه الآيات يدل على أن الغالب على قوم هود هو اللذات الخيالية؛ وهو طلب الاستعلاء والبقاء والتفرد والتجبر، والغالب على قوم صالح هو اللذات الحسية؛ وهو طلب المأكول والمشروب والمساكن الطيبة، وكل هذه اللذات من لذات أهل الدنيا الغافلين، وفوقها لذات أهل العقبى المتيقظين؛ وهي اللذات القلبية من المعارف والعلوم، وما يوصل إليها من التواضع والوقار والتجرد والاصطبار
١٥٠ - ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾؛ أي: خافوا عقابه في مخالفتي ﴿وَأَطِيعُونِ﴾ ـي فيما أمرتكم به.
والمعنى (٣): أي وهل تتخذون تلك البيوت المنحوتة في الجبال أشرًا وبطرًا من غير حاجة إلى سكناها مع الجدّ والاهتمام في بنائها، فاتقوا الله، وأقبلوا على
(١) الفتوحات.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
ما يعود عليكم نفعه في الدنيا والآخرة من عبادة ربكم الذي خلقكم ورزقكم وتسبيحه بكرة وأصيلا.
وقرأ الجمهور (١): ﴿وَتَنْحِتُونَ﴾ بالتاء للخطاب، وكسر الحاء، وقرأ أبو حيوة وعيسى والحسن بفتح الحاء، وعن الحسن بألف بعد الحاء إشباعًا، وعن عبد الرحمن بن محمد عن أبيه ﴿ينحتون﴾ بالياء من أسفل وكسر الحاء، وعن أبي حيوة والحسن أيضًا ﴿ينحتون﴾ بالياء من أسفل وفتح الحاء، وقرأ عبد الله وابن عباس وزيد بن علي والكوفيون وابن عامر ﴿فَارِهِينَ﴾ بألف، وباقي السبعة بغير ألف، وقرأ مجاهد: ﴿متفرهين﴾ اسم فاعل من تفرّه، والمعنى: نشطين مهتمين.
١٥١ - وقوله: ﴿وَلَا تُطِيعُوا﴾ خطاب لجمهور قومه ﴿أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ﴾ وهم كبراؤهم ورؤساؤهم في الكفر والإضلال، وكان (٢) مقتضى الظاهر أن يقال: ولا تطيعوا المسرفين، بلا إقحام ﴿أَمْرَ﴾ فإن الطاعة إنما تكون للأمر - على صيغة الفاعل - كما أن الامتثال إنما يكون للأمر - على صيغة المصدر - فشبّه الامتثال بالطاعة من حيث إن كل واحد منهما يفضي إلى وجود المأمور به، فأطلق اسم المشبّه به وهو الطاعة، وأريد الامتثال؛ أي: لا تمتثلوا أمر المجاوزين للحد بالإشراك والإضلال. وقيل يعني التسعة الذين عقروا الناقة. وفي "النسفي": جعل الأمر مطاعًا على المجاز الإسنادي، والمراد الآمر، فكأنه قال: ولا تطيعوا المسرفين فيما أمروا به. أو المعنى (٣): ولا تطيعوا وتتبعوا المستكثرين من لذات الدنيا وشهواتها، بل اكتفوا واقتصروا منها بقدر الكفاف.
١٥٢ - ثم وصف المسرفين بقوله: ﴿الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: في أرض الحجر بالكفر والظلم، وهو وصف موضح لإسرافهم ﴿وَلَا يُصْلِحُونَ﴾ بالإيمان والعدل عطف على ﴿يُفْسِدُونَ﴾ لبيان خلو إفسادهم عن مخالطة الإصلاح؛ أي:
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
(٣) المراح.
المراد بهذه الجملة بيان أن فسادهم خالص، ليس معه شيء من الصلاح، فإن حال بعض المفسدين مخلوطة ببعض الصلاح.
والمعنى: أي ولا تطيعوا أمر رؤسائكم الذين تمادوا في معصية ربكم، واجترؤوا على سخطه، وهم الرهط التسعة الذين كانوا يفسدون في الأرض ولا يصلحون؛ وهو المذكورون في قوله: ﴿وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (٤٨)﴾؛ أي: يسعون في أرض الله بمعاصيه، ولا يصلحون أنفسهم بالعمل بطاعته.
وخلاصة هذا: لا تطيعوا رؤساءَكم وكبراءَكم الدعاة إلى الشرك والكفر ومخالفة الحق.
١٥٣ - ولما عجزوا عن الطعن في شيء مما دعاهم إليه.. عدلوا إلى التخييل إلى عقول الضعفاء والعامة ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال قومه في جواب مقاله ﴿إِنَّمَا أَنْتَ﴾ يا صالح؛ أي: ما أنت إلا ﴿مِنَ الْمُسَحَّرِينَ﴾؛ أي: من الذين سحروا كثيرًا، حتى غلب على عقولهم؛ أي: من المسحورين مرة بعد أخرى حتى اختل عقله، واضطرب رأيه، فلا يقبل لك قول، ولا يسمع لك نصح. فبناء التفعيل لتكثير الفعل، أو: إلّا من البشر الذين لهم السحر والرئة، يأكلون كما نأكل، ويشربون كما نشرب، كما قال الفراء،
١٥٤ - فيكون قوله: ﴿مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا﴾؛ أي: مماثل لنا، تأكل كما نأكل، وتشرب كما نشرب تأكيدًا له. والمعنى (١): أنت بشر مثلنا، ولست بملك، فلا نؤمن بك ﴿فَأْتِ بِآيَةٍ﴾؛ أي: بعلامة تدل على صدقك ﴿إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ في دعواك أنك رسول إلينا.
فإن قلت (٢): لم قال هنا ﴿مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا﴾ بلا واو، وفي قصة شعيب: ﴿وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ﴾ بواو، فما الفرق بين الموضعين؟
قلت: ما هنا بدل مما قبله، وثَمَّ معطوف على ما قبله، وخص ما هنا بالبدل؛ لأن صالحًا قلل في الخطاب، فقلّلوا في الجواب، وأكثر شعيب في
(١) المراغي.
(٢) فتح الرحمن.
الخطاب فأكثروا في الجواب.
والمعنى: أي إنك بشر مثلنا، فكيف أوحي إليك دوننا، كما حكي عنهم في آية أخرى: ﴿أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦)﴾.
روي: أن (١) صالحًا عليه السلام قال لهم: أي آية تريدون؟ قالوا: نريد ناقة عشراء - الحامل في عشرة أشهر - تخرج من هذه الصخرة، فتلد سقبا، فأخذ صالح يتفكر، فقال له جبريل: صل ركعتين وسل ربك الناقة، ففعل، فخرجت الناقة وبركت بين أيديهم، ونتجت سقبًا مثلها في العظم. وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -: رأينا مبركها فإذا هو ستون ذراعًا في ستين ذراعًا.
١٥٥ - فـ ﴿قَالَ﴾ لهم صالح: ﴿هَذِهِ﴾ البهيمة التي خرجت من الصخرة ﴿نَاقَةٌ﴾ دالة على نبوتي، أخرجها ربي من الصخرة كما اقترحتم ﴿لَهَا شِرْبٌ﴾؛ أي: حظ ونصيب من الماء، تشرب منه يومًا كالسقي للحظ من السقي ﴿وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾؛ أي: ولكم نصيب وحظ من الماء، تشربون منه يومًا، فاقتصروا على شربكم، ولا تزاحموا على شربها، بل تشربون من لبنها فإن فيه كفاية لكم. قال قتادة: إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله، ولا تشرب في يومهم ماء.
وقرأ الجمهور: ﴿شِرْبُ﴾ في الموضعين بكسر الشين، وقرأ ابن أبي عبلة بالضم فيهما.
١٥٦ - ﴿وَلَا تَمَسُّوهَا﴾؛ أي: ولا تمسوا هذه الناقة ﴿بِسُوءٍ﴾؛ أي: بضرر كضرب وعقر ﴿فَيَأْخُذَكُمْ﴾؛ أي: فيحل بكم ﴿عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾؛ أي: شديد عذابه، فعظم اليوم بالنسبة إلى عظم ما حل فيه، وهو هاهنا صيحة جبريل.
١٥٧ - ثم حكى عنهم أنهم خالفوا أمر نبيهم، فقال: ﴿فَعَقَرُوهَا﴾؛ أي: قتلوها بطعنة السهم وضربة السيف. وأسند (٢) العقر إلى كلهم مع أن العاقر بعضهم
(١) المراح.
(٢) روح البيان.
لرضاهم به، ولذلك أخذوا جميعًا؛ أي: عقروها بعد أن مكث بين أظهرهم حينًا من الدهر، ترد الماء وتأكل المرعى.
روي (١): أن مسطعًا ألجأها إلى مضيق، فرماها بسهم، فسقطت، ثم ضربها قدار بالسيف في ساقيها. وكان قدار هذا قصيرًا دميمًا وابن زنا، اهـ شيخنا. قال مقاتل: فخرج في أبدانهم خراج مثل الحمص، فكان في اليوم الأول أحمر، ثم صار في الغد أصفر، ثم صار في الثالث أسود، وكان عقر الناقة يوم الأربعاء، وهلاكهم يوم الأحد، انفقعت فيه تلك الجراحات، وصاح عليهم جبريل صيحة، فماتوا بالأمرين، وكان ذلك ضحوة؛ أي: فعقروها وقتلوا مثل هذه الآية العظيمة ﴿فَأَصْبَحُوا﴾؛ أي: صاروا ﴿نَادِمِينَ﴾ ومتحسرين على عقرها، وقتلها ندم الخائفين من العذاب العاجل، أو ندم التائبين عند معاينة العذاب، فلذلك لم ينفعهم الندم كفرعون حين ألجمه الغرق
١٥٨ - ﴿فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ﴾ الموعود على عقرها؛ أي: أهلكهم واستأصلهم، وهو صيحة جبريل عليه السلام.
فإن قلت (٢): كيف أخذهم العذاب بعدما ندموا على جنايتهم، وقد قال - ﷺ -: "الندم توبة"؟
قلتُ: ندمهم كان عند معاينة العذاب، وهي ليست وقت التوبة، كما قال تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ الآية، وقيل: كان ندمهم ندم خوف من العذاب العاجل، لا ندم توبة فلم ينفعهم.
والمعنى: أي (٣) فعقروا الناقة فندموا على ما فعلوا حين علموا أن العذاب نازل بهم؛ إذ أنظرهم ثلاثة أيام، وفي كل يوم منها تظهر مقدمات نزوله كما مر، فندموا حيث لا ينفع الندم، فأخذهم العذاب، وزلزلت أرضهم زلزالًا شديدًا وجاءت صيحة عظيمة. اقتلعت منها قلوبهم، ونزل بهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، فأصبحوا في ديارهم جاثمين.
(١) المراح.
(٢) فتح الرحمن.
(٣) المراغي.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ العذاب النازل بثمود ﴿لَآيَةً﴾؛ أي: لعبرة لمن بعدهم ﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ﴾؛ أي: أكثر قوم ثمود، أو أكثر الذين سمعوا هذه القصة منك وهم قريش ومن دان دينهم ﴿مُؤْمِنِينَ﴾ بالله وبرسوله الذي أرسل إليهم
١٥٩ - ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ﴾ يا محمد ﴿لَهُوَ الْعَزِيزُ﴾؛ أي: الغالب على ما أراد من الانتقام من قوم ثمود بسبب تكذيبهم، فاستأصلهم، فليحذر المخالفون لأمره، حتى لا يقعوا فيما وقعت فيه الأمم السالفة المكذبة ﴿الرَّحِيمُ﴾ بهم حيث لا يعاجلهم بالعذاب، وكانت (١) الناقة علامة لنبوة صالح عليه السلام، فلما أهلكوها، ولم يعظموها صاروا نادمين حيث لا ينفعهم الندم، والقرآن علامة لنبوة محمد - ﷺ -، فمن رفضه، ولم يعمل بما فيه، ولم يعظمه يصير نادمًا غدًا، ويصيبه العذاب، ومن جملة ما فيه الأمر بالاعتبار، فعليك بالامتثال ما ساعدت العقول والأبصار، وإياك ومجرد القال، فالفعل شاهد على حقيقة الحال.
قصص لوط عليه السلام
١٦٠ - ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ﴾؛ أي: جماعته وأمته يعني أهل سدوم وما يتبعها من القرى ﴿الْمُرْسَلِينَ﴾؛ أي: لوطًا وإبراهيم ومن تقدمهما من الرسل، أو المراد بالمرسلين نفس لوط، وإنما جمعه اعتبارًا بأن من كذب رسولًا واحدًا فقد كذب جميع الرسل؛ لاتفاقهم في دعوة التوحيد وأصول العقائد
١٦١ - ﴿إِذْ قَالَ﴾ ظرف للتكذيبـ ﴿لَهُمْ أَخُوهُمْ﴾ في البلد والسكنى، لا في الدين، ولا في النسب؛ لأنه ابن أخي إبراهيم الخليل عليهما السلام، وهما من بلاد الشرق من أرض بابل، فكان لوط أجنبيًا عنهم، مجاورًا لهم في قريتهم، وهو لوط بن هاران أخي إبراهيم، أو عم إبراهيم على الخلاف، إذ روى أنه هاجر مع عمه إبراهيم إلى أرض الشام، فأنزله إبراهيم الأردن، فأرسله الله تعالى إلى أهل سدوم وما والاها، وقوله: ﴿لُوطٌ﴾ بن هاران بن تارخ بدل من ﴿أخوهم﴾، أو عطف بيان له ﴿أَلَا تَتَّقُونَ﴾؛ أي: ألا تخافون عقاب الله تعالى على الشرك والمعاصي
١٦٢ - ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ﴾؛ أي: مرسل من جانب
(١) روح البيان.
الحق ﴿أَمِينٌ﴾؛ أي: مشهور بالأمانة، ثقة عند كل أحد
١٦٣ - ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾؛ أي: خافوا عقابه على مخالفتي ﴿وَأَطِيعُونِ﴾ ـي فيما أمرتكم به ونهيتكم عنه، فإن قول المؤتمن معتمد
١٦٤ - ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ﴾؛ أي: على التعليم والتبليغ ﴿مِنْ أَجْرٍ﴾؛ أي: جعلًا ومكافأة دنيوية، فإن ذلك تهمة لمن يبلغ عن الله تعالى ﴿إِنْ أَجْرِيَ﴾؛ أي: ما ثوابي على التبليغ ﴿إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾؛ أي: مِن رَبِّ العالمين وخالقهم ومصلحهم، بل ليس متعلق الطلب إلا إياه تعالى.
١٦٥ - وبعد أن نصحهم بما سلف ذكره.. وبّخهم على قبيح ما ابتدعوه بقوله، فقال: ﴿أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ والاستفهام (١) فيه للإنكار والتوبيخ، وعبر عن الفاحشة بالإتيان، كما عبر به عن الحلال في قوله: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ﴾ والذكران جمع الذكر ضد الأنثى، و ﴿مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ حال من فاعل ﴿تأتون﴾، والمراد به الناكحون من الحيوان، فالمعنى عليه: أتأتون من بين من عداكم من العالمين الذكران وتجامعونهم وتعملون ما لا يشارككم فيه غيركم، يعني أنه منكر منكم ولا عذر لكم فيه، ويجوز أن يكون ﴿مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ حالًا من ﴿الذُّكْرَانَ﴾، والمراد به الناس، فالمعنى عليه: أتأتون الذكران من أولاد آدم مع كثرة الإناث فيهم، كأنهم قد أعوزنكم؛ أي: أفقرنكم وأعدمنكم، روي أن هذا العمل الخبيث علمهم إياه إبليس اللعين.
والمعنى: أتجامعون أدبار الرجال من أولاد آدم مع كون النساء أليق بالاستمتاع
١٦٦ - ﴿وَتَذَرُونَ﴾؛ أي: وتتركون ﴿مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ﴾؛ أي: ما خلق ربكم لأجل استمتاعكم به حال كونه ﴿مِنْ أَزْوَاجِكُمْ﴾ وحلائلكم. و ﴿من﴾ لبيان الجنس إن أريد بما جنس الإناث، وللتبعيض إن أريد به العضو المباح منهن، وهو القبل تعريضًا بأنهم كانوا يفعلون بنسائهم أيضًا، فتكون الآية دليلًا على حرمة أدبار الزوجات والمملوكات، وفي الحديث: "من أتى امرأة في دبرها فهو بريء مما أنزل على محمد، ولا ينظر الله إليه"، والمعنى؛ أي: وتتركون إناثًا أباحها لكم ربكم هي أزواجكم لأجل استمتاعكم، أو وتتركون فروجًا أحل لكم ربكم حال كونها بعض أزواجكم ﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ﴾؛ أي: معتدون مجاوزون الحلال إلى
(١) روح البيان.
الحرام، أو متجاوزون الحد في جميع المعاصي بإتيانكم هذه الفاحشة، أو متجاوزون عن حد الشهوة حيث زدتم هذه الفاحشة على سائر الحيوانات.
أي: بل أنتم قوم أحقاء بأن توصفوا بالعدوان وتجاوز الحدود التي تسيغها العقول، وتبيحها الشرائع بارتكابكم هذا الجرم الذي لم يخطر ببال.
١٦٧ - ولما اتضح لهم وجه الحق، وانقطعت حجتهم لجؤوا إلى التهديد، واستعمال القوة، كما بينه بقوله: ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال قوم لوط مهددين له والله ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ﴾ وتنزجر ﴿يَا لُوطُ﴾ عن تقبيح أمرنا، وإنكارك علينا ﴿لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ﴾؛ أي: من المعهودين بالنفي والإخراج من قريتنا على عنف، ورغم أنف، وسوء حال.
والمعنى: أي لئن لم تنته عما أنت عليه من إنكارك ما تنكره من أمرنا وعملنا لننفينك من قريتنا، وليكونن شأننا معك شأن من أخرجناهم من قبلك بالعنف والعسف، واحتباس الأموال، كما هو شأن الظلمة إذا أجلوا بعض من يبغضونهم صادروا أملاكهم.
١٦٨ - ﴿قَالَ﴾ لوط عليه السلام معلنًا لهم بأن إبعاده لا يمنعه من الإنكار عليهم ﴿إِنِّي لِعَمَلِكُمْ﴾ الخبيث، يعني: إتيان الرجال ﴿مِنَ الْقَالِينَ﴾؛ أي (١): من المبغضين له أشد البغض - كأنه يقلي الفؤاد والكبد لشدته؛ أي: ينضح - لا أقف عن إنكار عليه بالإيعاذ. وهو اسم فاعل من القلي وهو البغض الشديد، وهو متعلق بمحذوف؛ أي: لقال من القالين، ومبغض من المبغضين. وذلك المحذوف وهو قال خبر ﴿إن﴾، و ﴿مِنَ الْقَالِينَ﴾ صفته. وقوله: ﴿لِعَمَلِكُمْ﴾: متعلق بالخبر المحذوف، ولو جعل ﴿مِنَ الْقَالِينَ﴾ خبر ﴿إن﴾.. لعمل القالين ﴿لِعَمَلِكُمْ﴾ فيفضي إلى تقديم الصلة على الموصول، ولكنه يتوسع في المجرورات ما لا يتوسع في غيرها. وإنما قال: ﴿مِنَ الْقَالِينَ﴾ دون قالٍ إيماء إلى أنه من القوم الذين لو سمعوا بما تفعلون لأبغضوه، كما يقال: فلان من العلماء، فإنه أشد مدحًا من قولك: فلان عالم، إذ الأول تدل على أنه في عداد زمرة
(١) روح البيان.
العلماء المعروفين بمساهمته لهم في العلم.
أي: إني (١) بريء مما تعملون مبغض له لا أحبه، ولا أرضاه، ولا يضيرني تهديدكم ولا وعيدكم. وإني لراغب في الخلاص من سوء جواركم. ولعله عليه السلام أراد إظهار الكراهة في مساكنتهم، والرغبة في الخلاص من سوء جوارهم،
١٦٩ - ولذلك أعرض عن محاورتهم، وتوجه إلى الله سبحانه أن ينجيه من أعمال السوء هو وأهله، قال: ﴿رَبِّ﴾؛ أي: يا ربي، ويا مالك أمري ﴿نَجِّنِي﴾؛ أي: خلصني أنا ﴿وَأَهْلِي﴾؛ أي: وأهل بيتي ﴿مِمَّا يَعْمَلُونَ﴾؛ أي: من شؤم عملهم الخبيث، وعذابه، وأبعدني من عذابك الدنيوي والأخروي، أو من عقوبة عملهم التي ستصيبهم.
١٧٠ - فأجاب الله سبحانه دعاءه، وأغاثه بعد أن استغاثه، حيث قال: ﴿فَنَجَّيْنَاهُ﴾؛ أي: نجينا لوطًا ﴿وَأَهْلَهُ﴾؛ أي: أهل بيته بنتيه. قيل: وامرأته المؤمنة، ومن تابعه على دينه وأجاب دعوته كلهم ﴿أَجْمَعِينَ﴾ بإخراجهم من بينهم وقت مشارفة حلول العذاب بهم.
١٧١ - ﴿إِلَّا عَجُوزًا﴾ هي (٢) امرأة لوط المنافقة اسمها والهة، استثنيت من أهله، فلا يضره كونها كافرة؛ لأن لها شركة في الأهلية بحق الزوج. ﴿فِي الْغَابِرِينَ﴾؛ أي: إلا عجوزًا مقدرًا كونها من الباقين في العذاب؛ لأنها كانت راضية بفعل قومه، وقد أصابها الحجر في الطريق فأهلكها.
وذكر أن امرأة لوط حين سمعت الرجفة التفتت وحدها فمسخت حجرًا، وذلك الحجر في رأس كل شهر يحيض، كذا في كتاب "التعريف والأعلام" للسهيلي. قال في "المفردات": الغابر: الماكث بعد مضي من معه. قال تعالى: ﴿إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (١٧١)﴾ يعني: فيمن طال أعمارهم. وقيل: فيمن بقي، ولم يسر مع لوط، وقيل: فيمن بقي في العذاب.
والمعنى: أي فنجيناه (٣) وأهله جميعًا مما حل بأهل القرية من العذاب، فأمرناه بالخروج منها قبل أن ينزل بهم العذاب، إلا عجوزًا قد بقيت ولم تخرج
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
معه، وهي امرأته، كما جاء في سورة هود. ﴿إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ﴾ وكانت عجوز سوء لم تتبع لوطًا في الدين، ولم تخرج معه.
والخلاصة: فنجيناه وأهله من العذاب بإخراجهم من بينهم ليلًا عند حلول العذاب بهم إلا عجوزًا قدر الله سبحانه بقاءها لسوء أفعالها، وقبح طويتها، ولما لها من ضلع في استحسان أفعالهم.
١٧٢ - ﴿ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢)﴾؛ أي: أهلكناهم أشد الإهلاك وأفظعه، بقلب بلدتهم؛ أي: أهلكناهم بالخسف والحصب.
١٧٣ - ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على الخارجين من بلادهم والكائنين مسافرين وقت الائتفاك والقلب. ﴿مَطَرًا﴾؛ أي: غير معتاد. وهو الحجارة فأهلكتهم. ﴿فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ﴾؛ أي: بئس (١) مطر من أنذر فلم يؤمن، لم يرد بالمنذرين قومًا بأعيانهم، فإن شرط أفعال المدح والذم أن يكون فاعلهما معرفًا بلام الجنس، أو يكون مضافًا إلى المعرف به، أو مضمرًا مميزًا بنكرة، والمخصوص بالذم محذوف وجوبًا؛ وهو مطرهم؛ أي: فبئس مطر جنس المنذرين بعذاب الله، فلم يقبلوا الإنذار، والمخصوص بالذم مطر قوم لوط بالحجارة.
والخلاصة: أي (٢) ثم أهلكنا المؤخرين عن لوط، فأمطرنا عليهم حجارة من السماء. قال وهب بن منبه: أنزل الله عليهم الكبريت والنار، وبئس المطر هذا، وما أشد وطأته، وما أقسى وقعه، فقد أحدث بأرضهم زلزالًا جعل عاليها سافلها.
١٧٤ - ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ الذي فعل بقوم لوط ﴿لَآيَةً﴾؛ أي: لعبرة لمن بعدهم، فليجتنبوا عن قبيح فعلهم، كيلا ينزل بهم ما نزل بقوم لوط من العذاب، أو لدلالة واضحة على شدة بأس الله سبحانه، وعظيم انتقامه من أعدائه. ﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ﴾؛ أي: أكثر قوم لوط بل أقلهم، أو ما كان أكثر من تلوت عليهم هذه القصة ﴿مُؤْمِنِينَ﴾ فإن أكثر الخلق لئام؛ وهم الكفار، وكرامهم قليل؛ وهم
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
المؤمنون.
١٧٥ - ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ﴾ يا محمد ﴿لَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ بقهر الأعداء ﴿الرَّحِيمُ﴾ بنصرة الأولياء، أو (١) لا يعذب قبل التنبيه والإرشاد. وتعذيبه أهل العذاب من كمال رحمته على أهل الثواب. ألا ترى أن قطع اليد المتآكلة سبب لسلامة البدن كله. فالعالَم بمنزلة الجسد، وأهل الفساد بمنزلة اليد المتآكلة، وراحة أهل الصلاح في إزالة أهل الفساد. ولو لم يكن في العزة والقهر فائدة.. لما وضعت الحدود. وقد قيل: إقامة الحدود خير من خصب الزمان.
قال إدريس عليه السلام: من سكن موضعًا ليس فيه سلطان قاهر، وقاض عادل، وطبيب عالم، وسوق قائمة، ونهر جار.. فقد ضيع نفسه وأهله وماله وولده، فعلى العاقل أن يحترز عن الشهوات، ويهاجر عن العادات، ويجاهد نفسه من طريق اللطف والقهر في جميع الحالات.
إيضاح لهذه القصة بما كتبه الباحثون (٢)
كتبت مجلة السياسة الأسبوعية فصلًا قالت فيه: روت الكتب المنزلة أن الله سبحانه أهلك مدينتي سدوم وعمورة، وثلاث مدن أخرى بجوارهما بأن أمطر عليهم نارًا وكبريتًا من السماء، فلم ينج من سكانها سوى إبراهيم الخليل وأهل بيته، ولوط وابنتيه، ولم يكن إبراهيم من أهل تلك المدن، بل نزح إليها من الشمال طلبًا للكلأ والمرعى بحسب عادة القبائل الرحل في ذلك الزمن.
وكان كثير من المؤرخين يرى أن هذه القصة خرافية، وبعضهم يقول: إنها قصة واقعية، كما تشهد بذلك آثار البلاد المجاورة للبحر الميت (بحيرة لوط).
وقد قام الدكتور أولبرابط بمباحث واسعة في وادي نهر الأردن، وعلى سواحل البحر الميت، حيث يظن أن سذوم وعمورة والثلاثة المدن الأخرى كانت فيها، فاستبان له أن هذه القصة حقيقية بجميع تفاصيلها، وعلم أن إبراهيم عليه السلام انحدر حوالي القرن التاسع عشر قبل الميلاد من بلاد ما بين النهرين إلى
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
299
فلسطين، ومعه أهل بيته، وابن أخيه لوط وأهله، ومعهما أنعام كثيرة، فحدث نزاع وشجار بين الرعاة، فرأى لوط حفظًا للسلام أن يفترق عن إبراهيم، واختار منطقة وادي الأردن التي كانت فيها سذوم وعمورة، وأقام بسذوم، واختار إبراهيم المرتفعات التي في الشمال، وضرب خيامه هنالك.
وكشف الدكتور آثارًا تدل على صدق هذه القصة؛ إذ وجد هناك آثار حصن قديم يعلو سطح البحر بنحو خمس مئة قدم، وبجواره المذبح هو حجارة منصوبة على شكل أعمدة، يرجح أن الوثنيين في ذلك الزمن كانوا يقدمون عليها قرابينهم، ويرجح أن البحر الميت طغى على الخمس التي كانت في منطقة الأردن. اهـ.
وبعض علماء الجيولوجيا - طبقات الأرض - يؤكدون أن هذا البحر يغمر اليوم بلادًا كانت آهلة بالسكان. وفي التوراة: إن إبراهيم كان ذات يوم جالسًا بباب خيمته في حر النهار إذ أقبل إليه ثلاثة من الملائكة فاستقبلهم بترحاب عظيم وصنع لهم وليمة، واحتفى بهم، وفي أثناء الطعام علم أنهم ذاهبون إلى سذوم، وكان أهل هذه المدينة مشهورين بشرورهم، وانغماسهم في شهواتهم البهيمية، ولا سيما المحرمة منها، فلما وصلوا إلى سذوم ساروا توًا إلى منزل لوط ابن أخي إبراهيم ليبيتوا عنده، وعلم أهل سذوم بقدومهم، فأرادوا أن يرتكبوا بهم موبقًا، ولكن لوطًا دافع عنهم، وعرض أن يزوجهم - من بنات قومه - لينقذهم، فأبى أهل سذوم إلا أن يرتكبوا بهم الفحشاء، وقد تمكن الضيوف من الفرار، وأقنعوا لوطًا وأهل بيته بالفرار، وحين أشرقت الشمس على الأرض دخل لوط - صوعر - فأمطر الرب على سذوم وعمورة كبريتًا ونارًا من السماء، وقلب تلك المدن، وجميع سكانها، ونظرت امرأة لوط إلى الوراء، فصارت عمود ملح. (اختنقت بالغازات الكثيرة التي التهبت؛ إما بحدوث زلزلة، أو بسقوط صاعقة من الجو).
وفي التاريخ ما يدل على حدوث انقلابات جيولوجية شبيهة بحادثة سذوم وعمورة، فقد يثور بركان، ويتدفق حممه على البلاد المجاورة، فيغمرها ويهلك
300
أهلها، وقد تغور بلاد واسعة، فيطمو عليها البحر، وتزول هي وما فوقها من نبات وحيوان وإنسان. وقد تنشق الأرض فتبتلع مدنًا بأسرها.
والخلاصة (١): أن هذه المدن كانت قاعدة لملوك جبارين، وكانت ذات غناء وغياض غنية، بوفرة مائها وخيراتها، وشمل أهلها الفساد، ورتعوا في شهواتهم البهيمية، ولم يبق فيها بر إلا لوط وأهله، فانتقم الله منهم فأمطر عليهم نارًا وكبريتًا من السماء، فألهب البراكين النارية التي فيها، فعجلت دمارهم وخسفت الأرض بهم، وظهرت البحيرة على ما نراه الآن.
قصص شعيب عليه السلام
١٧٦ - ﴿كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦)﴾؛ أي: شعيبًا ومن قبله عليهم السلام، أو الجمع للتعظيم، أو لأن من كذب رسولًا فكأنما كذب الجميع، كما مر مرارًا. والأيكة (٢): الغيضة التي تنبت ناعم الشجر، كالسدر والأراك، وهي غيضة بقرب مدين يسكنها طائفة من الناس، فبعث الله إليهم شعيبًا بعد بعثه إلى مدين، ولكن لما كان أخا مدين في النسب.. قال تعالى: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا﴾،
١٧٧ - ولما كان أجنبيًا من أصحاب الأيكة.. قال: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ﴾ ولم يقل: أخوهم شعيب، وهو شعيب بن ثويب بن مدين بن إبراهيم عليه السلام، أو هو ابن ميكيك بن يشجر بن مدين بن إبراهيم الخليل، وأم ميكيك بنت لوط.
ووقع لفظ الأيكة في القرآن في أربع مواضع (٣)، في الحجر، وفي ق، وهنا، وفي ص، والأولان بأل وبالجر لا غير، والآخران يقرآن بأل وبالجر (٤)، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر في هذه السورة، وفي ص خاصة ﴿ليكة﴾ بلام واحدة وفتح التاء، وهو غير منصرف للعلمية والتأنيث، واللام جزء الكلمة، وهو اسم البلدة لأصحاب الحجر. وقال أبو عبيدة: إن ليكة اسم للقرية التي كانوا عليها، والأيكة اسم للبلاد كلها، كمكة وبكة. وقرأ باقي السبعة ﴿لْئَيْكَةِ﴾ بلام
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) الفتوحات.
(٤) المراح والبحر المحيط.
التعريف. والمعنى: أي: كذب أصحاب شجر ملتف بقرب مدين شعيبًا، وجملة المرسلين.
﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ﴾ نبيهم ﴿شُعَيْبٌ﴾ عليه السلام، ظرف للتكذيب، كما مر نظائره ﴿أَلَا تَتَّقُونَ﴾ الله الذي تفضل عليكم بنعمه
١٧٨ - ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ﴾ من عند الله، فهو أمرني أن أقول لكم ذلك. ﴿أَمِينٌ﴾ لا خيانة عندي.
١٧٩ - ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ المحسن إليكم بهذه الغيضة وغيرها. ﴿وأطيعونـ﴾ ـي فيما أمرتكم به؛ لما ثبت من نصحي لكم.
١٨٠ - ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ﴾؛ أي: على دعائي لكم إلى الإيمان بالله تعالى، أو على أداء الرسالة والتبليغ، والتعليم المدلول عليه بقوله رسول ﴿مِنْ أَجْرٍ﴾؛ أي: أجرًا وجعلًا ﴿إِنْ أَجْرِيَ﴾؛ أي: ما ثواب تبليغي ﴿إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾؛ أي: المحسن إلى الخلائق كلهم، فإني لا أرجو أحدًا سواه، فإن الفيض وحسن التربية منه تعالى على الكل، خصوصًا على من كان مأمورًا بأمر من جانبه.
١٨١ - وبعد أن نصحهم بتلك النصائح.. وعظهم بعظة أخرى، فنهاهم عن نقيصة كانت شائعة بينهم؛ وهي التطفيف في الكيل والميزان، فقال: ﴿أَوْفُوا الْكَيْلَ﴾؛ أي: أتموا الكيل لمن أراده وعامل به. ﴿وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ﴾؛ أي: من الناقصين حقوق الناس بالتطفيف، يقال: أخسرت الكيل والوزن؛ أي: نقصته؛ أي: إذا بعتم للناس فكيلوا لهم الكيل كاملًا، ولا تبخسوهم حقهم فتعطوه ناقصًا، وإذا اشتريتم فخذوا كما لو كان البيع لكم.
وخلاصة ذلك: خذوا كما تعطون، وأعطوا كما تأخذون.
١٨٢ - ﴿وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ﴾؛ أي: بالميزان ﴿الْمُسْتَقِيمِ﴾؛ أي: السوي العدل.
وقد جاء في سورة المطففين مثل هذا مع التحذير منه، فقال: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥)﴾.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص (١): ﴿القسطاس﴾ - بكسر القاف - والباقون
(١) المراح.
بالضم،
١٨٣ - ثم عمم النهي عن البخس في كل حق، فقال: ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾؛ أي: ولا تنقصوا الناس حقوقهم في كيل، أو وزن، أو غيرهما، كالمزروعات والمعدودات، كأخذ بيض كبير وإعطاء بيض صغير، وإعطاء رغيف صغير وأخذ رغيف كبير. وهكذا يقال: بخس حقه إذا نقصه إياه؛ وهو تعميم بعد تخصيص. قال في "كشف الأسرار": ذكر بأعم الألفاظ يخاطب به القافلة، والوزان، والنخاس، والمحصي، والصيرفي. انتهى. أي: ولا تنقصوا (١) شيئًا من حقوق الناس، أي حق كان، كنقص العد، والزرع، ودفع الزيف مكان الجيد، والغصب، والسرقة والتصرف بغير إذن صاحبه، ونحو ذلك.
ثم نهاهم عن جرم أعظم شأنًا، وأشد خطرًا؛ وهو الفساد في الأرض بجميع ضروبه وأشكاله، فقال: ﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: ولا تعتدوا على الناس في الأرض حالة كونكم ﴿مُفْسِدِينَ﴾؛ أي: قاصدين الإفساد والظلم بالقتل، والغارة، وقطع الطريق، والسلب والنهب، والغصب، ونحوها. كإهلاك الزرع والنسل، والدعاء إلى عبادة غير الله، فإنهم كانوا يفعلون ذلك.
والعثي (٢): أشد الفساد فيما لا يدرك حسًا. وقوله: ﴿مُفْسِدِينَ﴾ حال مقيدة؛ أي: لا تعتدوا حال إفسادكم، وإنما قيده به وإن غلب العثي في الفساد؛ لأنه قد يكون منه ما ليس بفساد، كمقابلة الظالم المعتدي بفعله، ومنه ما يتضمن صلاحًا راجحًا، كقتل الخضر الغلام، وخرقه السفينة.
١٨٤ - وبعد أن نهاهم عن ذلك خوفهم سطوة الجبار الذي خلقهم، وخلق من قبلهم ممن كانوا أشد منهم بطشًا وعتوًا، فقال: ﴿وَاتَّقُوا﴾ الله ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ يا أصحاب الأيكة ﴿و﴾ خلق ﴿الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ﴾؛ أي: الخلائق الماضين الذين كانوا على خلقة عظيمة، وطبيعة غليظة، كقوم هود وقوم لوط. والجبلة: الخليقة، قاله مجاهد وغيره. يعني الأمم المتقدمة؛ أي: وخافوا بأس الذي خلقكم من العدم للإصلاح في الأرض، وخلق من قبلكم ممن كانوا أشد منكم قوة، وأكثر أموالًا،
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
وأولادًا، كقوم هود الذين قالوا من أشد منا قوة؟ فأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وقرأ الجمهور (١): ﴿وَالْجِبِلَّةَ﴾ بكسر الجيم والباء وشد اللام. وقرأ أبو حصين والأعمش والحسن بخلاف عنه، والأعرج وشيبة بضمهما وتشديد اللام وتشديد اللام في القراءَتين في بناءَين للمبالغة. وقرأ السلمي: ﴿والجبلة﴾: بكسر الجيم وسكون الياء، وفي نسخة عنه بفتح الجيم وسكون الباء، وهي من جبلوا على كذا؛ أي: خلقوا.
١٨٥ - ﴿قَالُوا﴾؛ أي: أصحاب الأيكة ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ﴾؛ أي: ما أنت يا شعيب إلا رجل من المسحورين؛ أي: ممن سحر عقله مرة بعد أخرى، فصار كلامه جزافًا لا يعبر عن حقيقة، ولا يصيب هدف الحق، أو من المجوفين مثلنا ولست بملك.
١٨٦ - ﴿وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا﴾؛ أي: مماثل لنا تأكل وتشرب كما نفعل، فلا مزية لك علينا، فما وجه تخصيصك بالرسالة، وإرسالك رسولًا إلينا.
وإدخال ﴿الواو﴾ (٢) بين الجملتين هنا؛ للدلالة على أن كلًّا من التسحير والبشرية مناف للرسالة مبالغة في التكذيب، بخلاف قصة ثمود، فإنه ترك ﴿الواو﴾ هناك؛ لأنه لم يقصد إلا معنى واحد هو التسحير، وقد مر توجيهه بوجه آخر نقلًا عن شيخ الإِسلام.
ثم أكدوا هذا الإنكار بقولهم: ﴿وَإِنْ﴾؛ أي: وإن الشأن ﴿نَظُنُّكَ﴾؛ أي: نعتقد كونك ﴿لَمِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ في دعوى النبوة، فـ ﴿إن﴾: مخففة من الثقيلة واسمها محذوف؛ أي: وإنا لنظنك ممن يتعمد الكذب فيما يقول، ولم يرسلك الله نبيًا إلينا. وقيل (٣): ﴿إن﴾: نافية، واللام بمعنى إلا؛ أي: ما نظنك إلا من الكاذبين، والأول أولى.
١٨٧ - ثم إن شعيبًا كان هددهم بالعذاب إن استمروا على التكذيب، فقالوا: ﴿فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ﴾؛ أي: أي: قطعًا من السحاب {إِنْ كُنْتَ مِنَ
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
الصَّادِقِينَ} في دعواك النبوة؛ أي: فإن كنت صادقًا في دعواك الرسالة، فأنزل علينا من السحاب قطعًا يكون فيها العذاب لنا.
وقرأ حفص (١): ﴿كِسَفًا﴾ بفتح السين، والباقون بالسكون. وهذا شبيه بما قالته قريش لنبينا محمد - ﷺ - فيما حكى الله عنهم بقوله: ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (٩٠)﴾ إلى أن قالوا: ﴿أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا﴾، وقوله: ﴿وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٣٢)﴾.
١٨٨ - وإنما طلبوا ذلك لتصميمهم على التكذيب واستبعادهم وقوعه، فعند ذلك فوض شعيب عليه السلام أمرهم إلى الله فـ ﴿قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٨٨)﴾ من تطفيف الكيل والميزان، فيجازيكم به، فإن شاء عجل لكم العذاب، وإن شاء أخره إلى أجل معلوم، وليس العذاب إليّ، وما علي إلا الدعوة والتبليغ، وأنا مأمور به، فلم أنذركم من تلقاء نفسي، ولا أدعي القدرة على عذابكم، وأمره إلى الله تعالى، فينزله في وقته المقدر له لا محالة.
١٨٩ - ﴿فَكَذَّبُوهُ﴾؛ أي: فأصروا على تكذيبه بعد وضوح الحجة، وانتفاء الشبهة. ﴿فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ﴾ والسحابة التي أقامها الله سبحانه فوق رؤوسهم حتى أظلتهم، فأمطرت عليهم نارًا فهلكوا، وقد أصابهم الله سبحانه بما اقترحوا؛ لأنهم إن أرادوا بالكسف القطعة من السحاب فظاهر، وإن أرادوا بها القطعة من السماء.. فقد نزل عليهم العذاب من جهتها.
وفي إضافة العذاب إلى يوم الظلة (٢)، لا إلى الظلة نفسها إيذان بأن لهم يومًا آخر غير هذا اليوم، كالأيام السبعة مع لياليها التي سلط الله فيها عليهم الحرارة الشديدة، وكان ذلك من علامة أنهم يؤخذون بجنس النار؛ أي: في (٣) تلك الإضافة إعلام بأن لهم عذابًا آخر غير عذاب السحاب، كما روي أن الله
(١) المراح.
(٢) روح البيان.
(٣) المراح.
سبحانه فتح عليهم بابًا من أبواب جهنم، وأرسل عليهم هدة وحرًا شديدًا مع سكون الريح سبعة أيام بلياليها، فأخذ بأنفاسهم فدخلوا بيوتهم، فلم ينفعهم ظل ولا ماء، فأنضجهم الحر، فخرجوا هربًا، فأرسل الله تعالى سحابة فأظلتهم، فوجدوا لها بردًا وروحًا وريحًا طيبة، فنادى بعضهم بعضًا، فلما اجتمعوا تحت السحابة.. ألهبها الله عليهم نارًا، ورجفت بهم الأرض، فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلي فصاروا رمادًا.
﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: إن عذاب يوم الظلة ﴿كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾؛ أي: شديد هوله وعذابه، فعظم اليوم لعظم العذاب الواقع فيه وشدته، قال قتادة: إن شعيبًا أرسل إلى أمتين؛ أصحاب مدين، ثم أصحاب الأيكة، فأهلكت مدين بالصيحة والرجفة، وأصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلة.
والمعنى: أي (١) وهكذا دأبوا على التكذيب، فجازاهم بجنس ما طلبوا من إسقاط الكسف من السماء، فجعل عقوبتهم أن أصابهم حر عظيم أخذ بأنفاسهم لم ينفعهم فيه ظل ولا ماء ولا شراب، فاضطروا أن يخرجوا إلى البرية، فأظلتهم سحابة وجدوا لها بردًا ونسيمًا، فاجتمعوا كلهم تحتها، فأمطرتهم شواظًا من نار فاحترقوا.
١٩٠ - ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ المذكور من قصة قوم شعيب ﴿لَآيَةً﴾؛ أي: لدلالة واضحة على صدق الرسل، أو المعنى: أي: إن في ذلك الإنجاء لكل رسول ومن أطاعه، والعذاب لكل من عصاه في كل العصور لدلالة واضحة على صدق الرسل. ﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ﴾؛ أي (٢): أكثر أصحاب الأيكة، بل كلهم؛ إذ لم ينقل إيمان أحد منهم بخلاف أصحاب مدين، فإن جماعة منهم آمنوا. ﴿مُؤْمِنِينَ﴾ بالله سبحانه، وبرسوله شعيب عليه السلام، أو (٣) وما كان أكثر قومك يا محمد بمؤمنين مع أنك قد أتيتهم بما لا يكون معه شك من الدليل والبرهان، لو لم يكن
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
لهم معرفة بك من قبل، فكيف وهم عارفون بأنك كنت قبل الرسالة أصدقهم لهجة، وأعظمهم أمانة، وأغزرهم عقلًا، وأبعدهم عن كل ذي دنس.
١٩١ - ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ﴾ يا محمد ﴿لَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ الغالب القادر على كل شيء. ومن عزته نصر أنبيائه على أعدائه. ﴿الرَّحِيمُ﴾ بالإمهال، فلا يعاجل العقوبة لمن استحقها.
وهذا آخر (١) القصص السبع التي ذكرها الله سبحانه تسلية لرسوله - ﷺ -، وتهديدًا للمكذبين له. وكل قصة من هذه القصص ذكر مستقل متجدد النزول، قد أتاهم من الله تعالى وما كان أكثرهم مؤمنين بعدما سمعوها على التفصيل قصة بعد قصة، بأن لا يعتبروا بما في كل واحدة منها من الدواعي إلى الإيمان، والزواجر عن الكفر والطغيان، وبأن لا يتأملوا في شأن الآيات الكريمة الناطقة بتلك القصص على ما هي عليه، مع علمهم بأنه - ﷺ - لم يسمع شيئًا منها من أحد أصلًا، وصاروا كأنهم لم يسمعوا شيئًا يزجرهم عن الكفر والضلال واستمروا على ذلك.
تتمة: وقد كرر (٢) سبحانه في هذه السورة في أول كل قصة وآخرها ما كرر تقريرًا لمعانيها في الصدور؛ ليكون أبلغ في الوعظ والزجر، ولأن كل قصة منها كتنزيل برأسه. وفيها من الاعتبار مثل ما في غيرها، فكانت جديرة بأن تفتتح بما افتتحت به صاحبتها، وأن تختتم بما اختتمت به.
تنبيه: جاءت (٣) هذه القصص السبع مختصرة هنا، وفيها البرهان الساطع على أن القرآن جاء من عالم الغيب، فإن النتائج التي حصل عليها النبي - ﷺ -، ولم يكن حين نزولها ذا شوكة ولا ذا قوة، وأن ما أصيب به من التكذيب والأذى وكانت عاقبته الفتح والنصر المبين نموذج لما حدث للأنبياء السالفين قبله.
(١) المراح.
(٢) النسفي.
(٣) المراغي.
307
فائدة: فإن قلت (١): لم لا يجوز أن يقال: إن العذاب النازل بعاد وثمود، وقوم لوط وغيرهم.. لم يكن لكفرهم، وعنادهم، بل كان كذلك بسبب اقترانات الكواكب، واتصالاتها على ما اتفق عليه أهل النجوم، ومع قيام هذا الاحتمال لم يحصل الاعتبار بهذه القصص. وأيضًا أن الله تعالى قد ينزل العذاب محنة للمكلفين، وابتلاء لهم، وقد ابتلى المؤمنون بأنواع البليات، فلا يكون نزول العذاب على هؤلاء الأقوام دليلًا على كونهم مبطلين مؤاخذين بذلك؟
قلت: إطراد نزول العذاب على تكذيب الأمم بعد إنذار الرسل به واقتراحهم لهم استهزاء، وعدم مبالاة به يدفع أن يقال: إنه كان بسبب اتصالات فلكية، أو كان ابتلاء لهم، لا مؤاخذة على تكذيبهم؛ لأن الابتلاء لا يطرد.
الإعراب
﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤)﴾.
﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١)﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة مستأنفة، ولم ينون ﴿ثَمُودُ﴾؛ لمنعه من الصرف بالعلمية والتأنيث المعنوي. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى، متعلق بـ ﴿كَذَّبَتْ﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض. ﴿لَهُمْ﴾: متعلق به. ﴿أَخُوهُمْ﴾: فاعل ومضاف إليه، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿صَالِحٌ﴾: بدل من ﴿أَخُوهُمْ﴾، أو عطف بيان له. ﴿أَلَا﴾: أداة عرض. ﴿تَتَّقُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه. ﴿لَكُمْ﴾: حال من ﴿رَسُولٌ﴾. و ﴿رَسُولٌ﴾: خبر ﴿إن﴾. ﴿أَمِينٌ﴾: صفة ﴿رَسُولٌ﴾، وجملة ﴿إن﴾: في محل النصب مقول ﴿قال﴾. ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أني رسول الله، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم.. فأقول لكم اتقوا الله. ﴿اتقوا الله﴾: فعل وفاعل ومفعول،
(١) روح البيان.
308
والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَأَطِيعُونِ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿أطيعون﴾: فعل أمر وفاعل ونون وقاية، وياء المتكلم المحذوفة للفاصلة في محل النصب مفعول به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿اتقوا الله﴾.
﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٤٥) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠)﴾.
﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿أَسْأَلُكُمْ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول أول. ﴿عَلَيْهِ﴾: حال من ﴿أَجْرٍ﴾، و ﴿مِنْ﴾: زائدة، و ﴿أَجْرٍ﴾: مفعول ثان لسأل، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة إن على كونها مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِن﴾: نافية. ﴿أَجْرِيَ﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَتُتْرَكُونَ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري التوبيخي، ﴿تتركون﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿فِي﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تتركون﴾. ﴿مَا هَاهُنَا﴾: ﴿ها﴾: حرف تنبيه، ﴿هنا﴾: اسم إشارة للمكان القريب في محل النصب على الظرفية المكانية، والظرف صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة. ﴿آمِنِينَ﴾: حال من ﴿الواو﴾ في ﴿تتركون﴾. ﴿فِي جَنَّاتٍ﴾: بدل من قوله: ﴿فِي مَا هَاهُنَا﴾ بإعادة الجار. ﴿وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ﴾: معطوفات على ﴿جَنَّاتٍ﴾. ﴿طَلْعُهَا هَضِيمٌ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل الجر صفة لـ ﴿نخل﴾. ﴿وَتَنْحِتُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿تتركون﴾، فهو في حيز الاستفهام الإنكاري التوبيخي. ﴿مِنَ الْجِبَالِ﴾: متعلق بـ ﴿تنحتون﴾. ﴿بُيُوتًا﴾: مفعول به. ﴿فَارِهِينَ﴾ حال من واو ﴿تنحتون﴾. ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم ما ذكرته لكم، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم.. فأقول لكم: اتقوا الله. ﴿اتقوا الله﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في النصب مقول لجواب إذا
309
المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَأَطِيعُونِ﴾: فعل وفاعل ومفعول محذوف ونون وقاية معطوف على ﴿اتقوا الله﴾.
﴿وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (١٥٢) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣)﴾.
﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لَا﴾: ناهية جازمة. ﴿تُطِيعُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية، والجملة معطوفة على جملة وأطيعوا الله، أو الجملة في محل النصب حال من فاعل أطيعوا. ﴿أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول للجمع المذكر في محل الجر صفة لـ ﴿الْمُسْرِفِينَ﴾. ﴿يُفْسِدُونَ﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق به. ﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يُصْلِحُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿يُفْسِدُونَ﴾. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر، أو حرف كاف ومكفوف. ﴿أَنْتَ﴾: مبتدأ. ﴿مِنَ الْمُسَحَّرِينَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾.
﴿مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤)﴾.
﴿مَا﴾: نافية. ﴿أَنْتَ﴾: مبتدأ. ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر. ﴿بَشَرٌ﴾: خبر. ﴿مِثْلُنَا﴾: صفة لـ ﴿بَشَرٌ﴾، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿فَأْتِ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما قلنا لك، وأردت بيان ما هو اللازم لك.. فنقول لك أئت. ﴿ائت﴾: فعل أمر مبني على حذف حرف العلة. ﴿بِآيَةٍ﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿كُنْتَ﴾: فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها. ﴿مِنَ الصَّادِقِينَ﴾: خبر كان، وجواب ﴿إن﴾ الشرطية معلوم مما قبلها تقديره: إن كنت من الصادقين فات بآية، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾.
310
﴿قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على صالح، والجملة مستأنفة. ﴿هَذِهِ﴾ مبتدأ. ﴿نَاقَةٌ﴾: خبر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿لَهَا﴾: خبر مقدم. ﴿شِرْبٌ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة صفة لـ ﴿نَاقَةٌ﴾. ﴿وَلَكُمْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لَكُمْ﴾: خبر مقدم. ﴿شِرْبُ يَوْمٍ﴾: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه. ﴿مَعْلُومٍ﴾: صفة ﴿يَوْمٍ﴾ والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿هَذِهِ نَاقَةٌ﴾ فكأنه قال: هذه ناقة لها، شرب، وأنتم أقوام لكم شرب يوم معلوم. ﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لَا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَمَسُّوهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول به مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية. ﴿بِسُوءٍ﴾: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة ﴿هَذِهِ نَاقَةٌ﴾. ﴿فَيَأْخُذَكُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة سببية، ﴿يأخذكم﴾: فعل ومفعول به منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب النهي. ﴿عَذَابُ يَوْمٍ﴾: فاعل ومضاف إليه. ﴿عَظِيمٍ﴾: صفة ﴿يَوْمٍ﴾، والجملة الفعلية في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى تقديره: لا يكن مسكم إياها بسوء فأخذ عذاب يوم عظيم إياكم. ﴿فَعَقَرُوهَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿عقروها﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على جملة ﴿قَالَ﴾. ﴿فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ﴾: فعل ناقص واسمه، وخبره معطوف على ﴿فَعَقَرُوهَا﴾. ﴿فَأَخَذَهُمُ﴾: فعل ومفعول به. ﴿الْعَذَابُ﴾: فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿أصبحوا﴾. ﴿فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩)﴾ تقدم إعراب هذه الجمل مرارًا فراجعه.
﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣)﴾.
﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة مستأنفة مسوقة
311
لبيان قصة قوم لوط. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى متعلق بـ ﴿كَذَّبَتْ﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض. ﴿لَهُمْ﴾: متعلق به. ﴿أَخُوهُمْ﴾: فاعل. ﴿لُوطٌ﴾: بدل منه، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿أَلَا﴾: حرف عرض. ﴿تَتَّقُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه. ﴿لَكُمْ﴾: حال. ﴿رَسُولٌ﴾: خبره. ﴿أَمِينٌ﴾: صفة ﴿رَسُولٌ﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة، ﴿اتقوا الله﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَأَطِيعُونِ﴾: فعل وفاعل ومفعول به محذوف معطوف على ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾.
﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦٤) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (١٦٦)﴾.
﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَا﴾: نافية ﴿أَسْأَلُكُمْ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به. ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿إن﴾ على كونها مقول ﴿قَالَ﴾؛ ﴿مِنْ أَجْرٍ﴾ متعلقًا به. ﴿إن﴾: نافية. ﴿أَجْرِيَ﴾: مبتدأ. ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر. ﴿عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَتَأْتُونَ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري، ﴿تأتون﴾: فعل وفاعل. ﴿الذُّكْرَانَ﴾ مفعول به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿مِنَ الْعَالَمِينَ﴾: حال من ﴿الذُّكْرَانَ﴾. ﴿وَتَذَرُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿تأتون﴾. ﴿مَا﴾: اسم موصوف في محل النصب مفعول به. ﴿خَلَقَ﴾: فعل ماض. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق به. ﴿رَبُّكُمْ﴾: فاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: ما خلقه. ﴿مِنْ أَزْوَاجِكُمْ﴾: حال من ﴿مَا﴾، أو من العائد المحذوف. ﴿بَلْ﴾: حرف للإضراب الانتقالي. ﴿أَنْتُمْ قَوْمٌ﴾: مبتدأ وخبر. ﴿عَادُونَ﴾: صفة ﴿قَوْمٌ﴾، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣)﴾
312
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿لَئِنْ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿لَمْ﴾: حرف جزم. ﴿تَنْتَهِ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، والجملة في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها، وجواب ﴿إن﴾ الشرطية محذوف دل عليه جواب القسم تقديره: إن لم تنته تكن من المخرجين، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ على كونها معترضة بين القسم وجوابه. ﴿يَا لُوطُ﴾: منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ على كونها معترضة. ﴿لَتَكُونَنَّ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم مؤكدة للأول. ﴿تكونن﴾: فعل مضارع ناقص في محل الرفع مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد، واسمها ضمير مستتر يعود على ﴿لوط﴾ ﴿مِنَ الْمُخْرَجِينَ﴾: خبرها، وجملة ﴿تكونن﴾ جواب القسم، وجملة القسم في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة. ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه. ﴿لِعَمَلِكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿الْقَالِينَ﴾. ﴿مِنَ الْقَالِينَ﴾: خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿رَبِّ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿نَجِّنِي﴾: فعل دعاء وفاعل مستتر ونون وقاية ومفعول به. ﴿وَأَهْلِي﴾: معطوف على ياء المتكلم، أو مفعول معه، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جواب النداء. ﴿مِمَّا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿نَجِّنِي﴾، وجملة ﴿يَعْمَلُونَ﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾، والعائد محذوف تقديره: مما يعملونه. ﴿فَنَجَّيْنَاهُ﴾: ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفريع، ﴿نجيناه﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿قَالَ﴾. ﴿وَأَهْلَهُ﴾: معطوف على هاء المفعول، أو مفعول معه. ﴿أَجْمَعِينَ﴾: توكيد لـ ﴿أهله﴾. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء. ﴿عَجُوزًا﴾: مستثنى. ﴿فِي الْغَابِرِينَ﴾: صفة لـ ﴿عَجُوزًا﴾. كأنه قيل: إلا عجوزًا غابرة. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف. ﴿دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿نجيناه﴾. ﴿وَأَمْطَرْنَا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿دَمَّرْنَا﴾. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿أمطرنا﴾. ﴿مَطَرًا﴾: مفعول به. ﴿فَسَاءَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، أو استئنافية، ﴿ساء﴾: فعل ماض من أفعال الذم، ﴿مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ﴾: فاعل ومضاف إليه، والجملة معطوفة على ﴿أمطرنا﴾، أو مستأنفة، والمخصوص بالذم
313
محذوف تقديره: مطرهم، والجمل في قوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥)﴾. تقدم إعرابها فراجعه إن شئت.
﴿كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٨٠)﴾.
﴿كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان قصة قوم شعيب. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بـ ﴿كَذَّبَ﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض. ﴿لَهُمْ﴾: متعلق به. ﴿شُعَيْبٌ﴾: فاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿أَلَا﴾: أداة عرض. ﴿تَتَّقُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه. ﴿لَكُمْ﴾: حال من ﴿رَسُولٌ﴾، و ﴿رَسُولٌ﴾: خبره. ﴿أَمِينٌ﴾: صفة ﴿رَسُولٌ﴾، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة. ﴿اتقوا الله﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَأَطِيعُونِ﴾: فعل وفاعل ومفعول محذوف معطوف على ﴿اتقوا الله﴾. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿أَسْأَلُكُمْ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول. ﴿عَلَيْهِ﴾: حال من ﴿أَجْرٍ﴾. ﴿مِنْ أَجْرٍ﴾: مفعول ثان، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إن﴾: نافية. ﴿أَجْرِيَ﴾: مبتدأ. ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر. ﴿عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥)﴾.
﴿أَوْفُوا الْكَيْلَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَكُونُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿مِنَ الْمُخْسِرِينَ﴾: خبره، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿أَوْفُوا﴾. ﴿وَزِنُوا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿زنوا﴾ فعل وفاعل معطوف على
314
﴿أَوْفُوا﴾. ﴿بِالْقِسْطَاسِ﴾: متعلق بـ ﴿زنوا﴾. ﴿الْمُسْتَقِيمِ﴾: صفة لـ ﴿القسطاس﴾. ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به أول مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية. ﴿أَشْيَاءَهُمْ﴾: مفعول ثان، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿أَوْفُوا﴾. ﴿وَلَا تَعْثَوْا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَوْفُوا﴾. ﴿مُفْسِدِينَ﴾: حال مؤكدة لمعنى عاملها. ﴿وَاتَّقُوا الَّذِي﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿أَوْفُوا﴾. ﴿خَلَقَكُمْ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به ﴿وَالْجِبِلَّةَ﴾: معطوفة على الكاف. ﴿الْأَوَّلِينَ﴾: صفة لـ ﴿جبلة﴾، وجملة ﴿خَلَقَكُمْ﴾: صلة الموصول. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر. ﴿أَنْتَ﴾: مبتدأ. ﴿مِنَ الْمُسَحَّرِينَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾.
﴿وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (١٨٦)﴾.
﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: نافية. ﴿أَنْتَ﴾: مبتدأ. ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر. ﴿بَشَرٌ﴾: خبر المبتدأ. ﴿مِثْلُنَا﴾: صفة ﴿بَشَرٌ﴾، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿إِنَّمَا أَنْتَ﴾ على كونها مقولًا لـ ﴿قَالُوا﴾. ﴿وَإِنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إن﴾: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن؛ أي: إنه ﴿نَظُنُّكَ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول أول. ﴿لَمِنَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء. ﴿من الكاذبين﴾: في محل المفعول الثاني لظن، وجملة ظنّ في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ المخففة، وجملة ﴿إن﴾ المخففة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿إِنَّمَا أَنْتَ﴾ على كونها مقولًا لـ ﴿قَالُوا﴾.
﴿فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩)﴾
﴿فَأَسْقِطْ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر وتقديره: إذا سمعت يا شعيب ما قلنا لك، وأردت إثبات نبوتك. فنقول لك أسقط. ﴿أسقط﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على شعيب. ﴿عَلَيْنَا﴾: متعلق به. ﴿كِسَفًا﴾: مفعول به. ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾: صفة لـ ﴿كِسَفًا﴾، والجملة الفعلية في
315
محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿كُنْتَ﴾: فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها. ﴿مِنَ الصَّادِقِينَ﴾: خبر كان، وجواب ﴿إن﴾ الشرطية معلوم مما قبله تقديره: إن كنت من الصادقين فأسقط علينا، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة. ﴿رَبِّي أَعْلَمُ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿بِمَا﴾: بـ ﴿أَعْلَمُ﴾، وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة. ﴿فَكَذَّبُوهُ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿كذبوه﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿قَالُوا﴾. ﴿فَأَخَذَهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿أخذهم﴾: فعل ومفعول به. ﴿عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ﴾: فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿كذبوه﴾. ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص، واسمه ضمير مستتر يعود على ﴿عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ﴾. ﴿عَذَابَ يَوْمٍ﴾ خبر ومضاف إليه. ﴿عَظِيمٍ﴾ صفة لـ ﴿يَوْمٍ﴾. وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، وقوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١)﴾ تقدم إعرابه مرارًا فلا عود ولا إعادة، والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَنَخْلٍ﴾ النخل والنخيل: شجر التمر المعروف، له ساق مستقيم طويل ذو عقد، واحدته نخلة ونخيلة. وفي "المصباح" ما ملخصه: النخل: اسم جمع، الواحدة نخلة، وكل اسم جمع كذلك يؤنث ويذكر، وأما النخيل بالياء فمؤنثة اتفاقًا. اهـ.
﴿طَلْعُهَا﴾: هو ثمرها في أول ما يطلع، وبعده يسمى خلالًا، ثم بلحًا، ثم بسرًا، ثم رطبًا، ثم تمرًا. وفي "البيضاوي": طلعها: وهو ما يطلع منها كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو، وتشبيهه بنصل السيف من حيث الهيئة والشكل. وفي "المختار": ويقال للطلع ﴿هَضِيمٌ﴾ ما لم يخرج؛ لدخول بعضه في بعض، من قولهم: كشح هضيم. وفي "القاموس" و"التاج": الطلع: المقدار، تقول:
316
الجيش طلع ألف، ومن النخل شيء يخرج كأنه نعلان مطبقان، والحمل بينهما منضود، والطرف محدد، أو ما يبدو من ثمرته في أول ظهورها، والهضيم: النضيح الرخص اللين اللطيف.
وفي "أبي السعود": والهضيم: اللطيف اللين للطف الثمر، أو لأن النخل أنثى وطلع الإناث ألطف؛ وهو ما يطلع منها كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو، أو مدل متكسر من كثرة الحمل، وإفراد النخل؛ لفضله على سائر أشجار الجنات، أو لأن المراد به غيرها من الأشجار. اهـ.
﴿وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ﴾ يقال: نحته ينحته - من باب ضرب - نحتًا ونحاتة، والنحت: النجر والبري، والنحاتة البراية، والمنحت ما ينحت به.
﴿فَارِهِينَ﴾ قال الراغب: معنى قراءة من قرأ: ﴿فَارِهِينَ﴾ - بالألف - حاذقين؛ أي: ماهرين في العمل، من الفراهة؛ وهي النشاط، فإن الحاذق يعمل بنشاط وطيب قلب. ومن قرأ: ﴿فرهين﴾ جعله بمعنى مرحين أشرين بطرين، فهو على الأول من فره بالضم، وعلى الثاني من فره بالكسر.
﴿شِرْبٌ﴾ - بالكسر - الحظ والنصيب من الماء، كالسقي من السقي. قال الفراء: الشرب: الحظ من الماء. قال النحاس: فأما المصدر فيقال فيه: شرب شربًا وشُربًا، وأكثرها المضموم، والشرب بفتح الشين جمع شارب. والمراد هنا الشِرب بالكسر.
﴿فَعَقَرُوهَا﴾ يقال: عقرت البعير: نحرته، وأصل العقر ضرب الساق بالسيف، كما في "كشف الأسرار" والمعنى هنا؛ أي: رموها بسهم، ثم قتلوها، كما مر في مبحث التفسير.
﴿نَادِمِينَ﴾: اسم فاعل من ندم من باب فرح، والندم والندامة التحسر من تغير رأي في أمر فائت.
﴿أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ﴾ والذكران والذكور جمع الذكر ضد الأنثى من كل حيوان، وجعل الذكر كناية عن العضو المخصوص، كما في "المفردات".
317
﴿وَتَذَرُونَ﴾؛ أي: تتركون، يقال: فلان يذر الشيء؛ أي: يقذفه لقلة إعداده به، ولم يستعمل ماضيه.
﴿مِنَ الْقَالِينَ﴾: من المبغضين، جمع قال، اسم فاعل من قليته أقليه قلى: وقلاء، والقلى أشد البغض؛ وهو مما يجب كسر عين مضارعه؛ لوجود داعي الكسر، وهو كون لامه ياء، كما هو مقرر في محله. وفي "المصباح": قليت الرجل أقليه - من باب رمى - قلى بالكسر والقصر، وقد يمد إذا أبغضه، ومن باب تعب لغة. وعبارة "القاموس": قلاه - كـ: رماه ورضيه - قلى وقلا وقليه أبغضه وكرهه غاية الكراهة فتركه، أو قلاه في الهجر وقليه في البغض.
﴿إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (١٧١)﴾ قال الراغب: سميت العجوز عجوزًا لعجزها عن كثير من الأمور. قال في "المفردات": الغابر: الماكث بعد مضي من معه. قال في "الكشاف": ومعنى الغابرين في العذاب والهلاك: غير الناجين. وفي "المصباح": غبر غبورا - من باب قعد - بقي، وقد يستعمل فيما مضى أيضًا فيكون من الأضداد. وقال الزبيدي: غبر غبورًا مكث، وفي لغة بالمهملة للماضي، وبالمعجمة للباقي. وغُبَّر الشيء - وزان سكر - بقيته. وفي "القاموس": غبر غبورًا مكث وذهب، ضدٌّ، وهو غابر من غُبَّر كرُكَّع، وغُبر الشيء - بالضم - بقيته، اهـ.
﴿ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢)﴾ والتدمير: إدخال الهلاك على الشيء، والدمار: الهلاك على وجهه عجيب هائل.
﴿الْأَيْكَةِ﴾ في اللغة: الشجرة الكثيفة، وجمعها أيك. قال في "القاموس": أيك يأيك - من باب تعب - أيكًا، واستأيك الشجر التف وصار أيكة، والأيك: الشجر الكثيف الملتف، الواحدة أيكة، فتطلق الأيكة على الواحدة من الأيك، وعلى غيضة شجر ملتفة قرب مدين. قالوا: وكان شجرهم الدوم، وهي قرية شعيب سميت باسم بانيها مدين بن إبراهيم، بينها وبين مصر مسير ثمانية أيام.
﴿وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ﴾ يقال: خسرته وأخسرته: نقصته.
318
﴿وَزِنُوا﴾: أمر من وزن يزن وزنًا وزنة، والوزن معرفة قدر الشيء.
﴿بِالْقِسْطَاسِ﴾ قال في "القاموس": القُسطاس بكسر القاف وضمّها، وقد قرىء بهما الميزان، أو أقوم الموازين، فإن كان من القسط وهو العدل، وجعلت العين مكررة فوزنه فعلاس، وإلا فهو رباعي. وقيل: هو بالرومية العدل.
﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: ولا تفسدوا، يقال: عثا في الأرض وعثي فيها، وذلك نحو قطع الطريق والغارة، وإهلاك الزروع. وفي "المختار" عثا في الأرض أفسد، وبابه سما، وعثي بالكسر عثوًا أيضًا، وعثى بفتحتين بوزن فتى. قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ قلت: قال الأزهري: القراء كلهم متفقون على فتح الثاء دل على أن القرآن نزل باللغة الثانية. وفي "القاموس": عثى كسعى ورمى ورضي. اهـ.
﴿الجبلة﴾ - بكسر الجيم والباء وتشديد اللام المفتوحة -: الخلق المتحد الغليظ، وفي "القاموس": الجبلة والجبلة والجبلة والجبلة وهي التي قرىء بها الوجه وما استقبلك منه، والخلقة والطبيعة، والأصل والقوة وصلابة الأرض. والجبل - بفتح الجيم مع سكون الباء -: مصدر جبله الله على كذا؛ أي: طبعه وخلقه، واسم الطبيعة جبلة. ويقال: جبل فلان على كذا؛ أي: خلق، والمراد أنهم كانوا على خلقة عظيمة.
﴿كِسَفًا﴾: جمع كسفة، مثل سدر وسدرة، كقطعة وقطع وزنًا ومعنًى. وقال الجوهري: الكسفة: القطعة من الشيء، يقال أعطني كسفة من ثوبك؛ أي: قطعة، ويقال: الكسف والكسفة واحد. وقال الأخفش: من قرأ ﴿كسفًا من السماء﴾ جعله واحدًا، ومن قرأ ﴿كسفًا﴾ جعله جمعًا.
﴿يَوْمِ الظُّلَّةِ﴾ والظلة: السحابة التي استظلوا بها، والمظلة الضيَّقة وما يستظل به من الحر أو البرد، وما أظله كالشجر، والجمع ظلل وظلال. ويوم الظلة اشتهر بعذابهم، فقد وقفت فوقهم سحابة أظلتهم بعد حر شديد أصابهم، فأمطرت عليهم نارًا فاحترقوا.
319
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: إطلاق الجمع على المفرد في قوله: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١)﴾ للتعظيم؛ لأن المراد بالمرسلين صالح.
ومنها: الاستفهام الإنكاري التوبيخي في قوله: ﴿أَتُتْرَكُونَ﴾.
ومنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١)﴾؛ لأن الأمر لا يطاع وإنما هو صاحبه؛ أي: ولا تطيعوا المسرفين في أمرهم.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَلَا تُطِيعُوا﴾؛ أي: ولا تمتثلوا، حيث شبه الامتثال الذي للأمر على صيغة المصدر بالطاعة التي للأمر على صيغة اسم الفاعل، من حيث إن كلًّا منهما يفضي إلى وجود المأمور به، فأطلق اسم المشبه به؛ وهو الطاعة على المشبه؛ وهو الامتثال، فاشتق من الطاعة بمعنى الامتثال لا تطيعوا بمعنى لا تمتثلوا، على طريقة الاستعارة التصريحية التبعيَّة.
ومنها: الطباق بين ﴿يُفْسِدُونَ﴾ و ﴿يُصْلِحُونَ﴾.
ومنها: الإرداف في قوله: ﴿وَلَا يُصْلِحُونَ﴾ فقد كان يكفي أن يقول: ﴿الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ ولكنه لما كان قوله: ﴿يُفْسِدُونَ﴾ لا ينفي صلاحهم أحيانًا أردفه بقوله: ﴿وَلَا يُصْلِحُونَ﴾؛ لبيان كمال إفسادهم وإسرافهم فيها.
ومنها: الحصر في قوله: ﴿مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا﴾.
ومنها: التنوين في قوله: ﴿هَذِهِ نَاقَةٌ﴾ للتعظيم والتفخيم.
ومنها: الاستفهام الإنكاري التوبيخي في قوله: ﴿أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (١٦٥)﴾.
ومنها: الجناس غير التام في قوله: ﴿قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (١٦٨)﴾ الأول
320
من القول، والثاني من قلى إذا أبغض.
ومنها: إطلاق ما للبعض على الكل في قوله: ﴿فَعَقَرُوهَا﴾ لرضاهم به واتفاقهم عليه.
ومنها: الإبهام في قوله: ﴿وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ﴾ فإن فيه الإبهام بقوله: ﴿مَا خَلَقَ لَكُمْ﴾ وقد أراد به أقبالهن، وفي ذلك مراعاة للحشمة والتصون.
ومنها: العدول عن الجملة الفعلية إلى الصفة في قوله: ﴿لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ﴾، وقوله: ﴿مِنَ الْقَالِينَ﴾ وكثيرًا ما ورد في القرآن خصوصًا في هذه السورة العدول عن التعبير بالفعل إلى التعبير بالصفة المشتقة، ثم جعل الموصوف بها واحدًا من جمع، كقول فرعون: ﴿لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾ وأمثاله كثيرة في القرآن، والسر في ذلك أن التعبير بالفعل إنما يفهم وقوعه خاصة، وأما التعبير بالصفة ثم جعل الموصوف بها واحدًا من جمع، فإنه يفهم أمرًا زائدًا على وقوعه، وهو الصفة المذكورة كالسمة للموصوف ثابتة العلوق به، كأنها لقب، وكأنه من طائفة صارت من هذا النوع المخصوص المشهور ببعض السمات الرديئة.
ومنها: الإطناب في قول: ﴿أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١)﴾؛ لأن وفاء الكيل هو في نفسه نهي عن الخسران، وفائدته زيادة التحذير من العدوان.
ومنها: توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات مثل ﴿يُفْسِدُونَ﴾ ﴿يُصْلِحُونَ﴾ ﴿الْأَرْذَلُونَ﴾.
ومنها: التأكيد في قوله: ﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾؛ لأن الإفساد نفس العثي، فهي حال مؤكدة لعاملها. فائدتها: إخراج ما ليس من العثي والعدوان بفساد كمقابلة الظالم المعتدي بفعله، وكقتل الخضر الغلام وخرقه السفينة، كما مر في مبحث التفسير.
321
ومنها: التكرير في هذه القصص السبع، فإنه كرر في أول كل قصة، وفي آخرها ما كرر مما أشرنا إليه؛ لأن في التكرير تقريرًا للمعاني في الأنفس، وترسيخًا لها في الصدور، وربما اشتبه على أكثر الناس بالإطناب مرة وبالتطويل مرة أخرى.
والتكرير ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: التكرير في اللفظ والمعنى، كقولك لمن تستدعيه: أسرع أسرع.
والثاني: التكرير في المعنى دون اللفظ، كقولك: أطعني ولا تعص أوامري، فإن الأمر بالطاعة نهي عن المعصية، وعلى كل حال ليس في القرآن مكرر لا فائدة فيه.
ونعود إلى الآيات فنقول: إنما كرر القرآن هذه الآيات في أول كل قصة وآخرها؛ لأن هذه القصص قرعت بها آذان أصابها وقر، وقلوب غلف، فلم يكن بد من مراجعتها بالترديد والتكرير، لعل ذلك يفتح مغالقها، ويجلو ما صدأها من رين.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
322
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (٢٠٩) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (٢١٠) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٩٢)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما اختتم هذا القصص (١)، وبين ما دار بين الأنبياء وأقوامهم من الحجاج والجدل، وذكر أنه قد أهلك المكذبين وكان النصر في العاقبة لرسله المتقين، فإن سنته في كل صراع بين الحق والباطل أن تدول دولة الباطل وينتصر الحق وإن طال الزمن ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ﴾
(١) المراغي.
323
وفي ذلك سلوة لرسوله، وعدة له بأنه مهما أوذي من قومه ولقي منهم من الشدائد، فإن الفلج والفوز له. ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (٦٢)﴾.. أردف هذا ببيان أن هذا القرآن الذي جاء بذلك القصص وحي من الله سبحانه أنزله على عبده ورسوله محمد - ﷺ - بواسطة جبريل عليه السلام بلسان عربي مبين؛ لينذر به العصاة ويبشر به عباده المتقين، وأن ذكره في الكتب المتقدمة المأثورة عن الأنبياء الذين بشروه.
قوله تعالى: ﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما (١) بالغ في تسلية رسوله - ﷺ -، وأقام الحجة على نبوته، ثم أورد سؤال المنكرين وأجاب عنه.. أردف ذلك بأمره بعبادته وحده، وإنذار العشيرة الأقربين، ومعاملة المؤمنين بالرفق، ثم ختم هذه الأوامر بالتوكل عليه تعالى وحده، فإنه هو العليم بكل شؤونه وأحواله.
قوله تعالى: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (٢٢١)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أبان امتناع تنزل الشياطين بالقرآن، وأثبت أنه تنزيل من رب العالمين.. أعقب هذا ببيان استحالة تنزلهم على رسول الله - ﷺ -، فإنها لا تنزل إلا على كل كذاب فاجر، ورسول الله صادق أمين، ثم ذكر أن الكذابين يلقون السمع إلى الشياطين فيتلقون وحيهم، وهو تخيلات لا تطابق الحق والواقع، وبعدئذ ذكر أن محمدًا - ﷺ - ليس بشاعر؛ لأن الشعراء يهيمون في كل واد من أودية القول من مدح وهجو، وتشبيب ومجون بحسب الهوى والمنفعة، فأقوالهم لا تترجم عن حقيقة، وليس بينها وبين الصدق نسب، ومحمد - ﷺ - لا يقول إلا الصدق، فأنى له أن يكون شاعرًا.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (٢٠٥)...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي جهم قال: رؤي النبي - ﷺ - كأنه متحير،
(١) المراغي.
324
فسألوه عن ذلك، فقال: "ولمَ! ورأيت عدوي يكون من أمتي بعدي" فنزلت: ﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦)﴾ فطابت نفسه.
قوله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤)﴾ أخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: لما نزلت ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤)﴾ بدأ النبي - ﷺ - بأهل بيته وفصيلته، فشق ذلك على المسلمين، فأنزل الله سبحانه: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥)﴾.
قوله تعالى: ﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (٢٢٤)﴾ سبب نزوله ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال: تهاجى رجلان على عهد رسول الله - ﷺ -، أحدهما من الأنصار والآخر من قوم أخرين، وكان مع كل واحد منهما غواة من قومه؛ وهم السفهاء، فأنزل الله عز وجل: ﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (٢٢٤)..﴾ الآيات. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة نحوه. وأخرج عن عروة قال: لما نزلت ﴿وَالشُّعَرَاءُ﴾ إلى قوله: ﴿مَا لَا يَفْعَلُونَ..﴾ قال عبد الله بن رواحة: قد علم الله إني منهم، فأنزل الله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا...﴾ إلى آخر السورة.
وأخرج (١) ابن جرير والحاكم عن أبي حسن البراد قال: لما نزلت ﴿وَالشُّعَرَاءُ...﴾ الآية.. جاء عبد الله بن رواحة وكعب بن مالك وحسان بن ثابت، قالوا يا رسول الله: والله لقد أنزل الله هذه الآية، وهو يعلم أنا شعراء هلكنا، فأنزل الله ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا...﴾ الآية، فدعاهم رسول الله - ﷺ -، فتلاها عليهم.
التفسير وأوجه القراءة
١٩٢ - والضمير في قوله: ﴿وَإِنَّهُ﴾ راجع إلى القرآن، وإن لم يجر له ذكر للعلم به؛ أي: إن هذا القرآن ﴿لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾؛ أي (٢): لمنزل من خالق المخلوقين، فليس بشعر، ولا كهانة، ولا أساطير الأولين، ولا غير ذلك مما قالوه فيه، بل
(١) لباب النقول.
(٢) المراح.
هو من عند الله سبحانه، وكأنه عاد أيضًا إلى ما افتتح به السورة من إعراض المشركين عما يأتيهم من الذكر؛ ليتناسب المفتتح والمختتم. ذكره أبو حيان.
وصيغة التكثير (١): تدل على أن نزوله كان بالدفعات في مدة ثلاث وعشرين سنة، وهو مصدر بمعنى المفعول، سمي به مبالغة، وفي وصفه تعالى بربوبية العالمين إيذان بأن تنزيله من أحكام تربيته تعالى ورأفته للكل.
والمعنى: إن هذا القرآن الذي من جملته ما ذكر من القصص السبع لمنزل من جهته تعالى، وإلا لما قدرت على الإخبار، وثبت به صدقك في دعوى الرسالة؛ لأن الإخبار من مثله لا يكون إلا بطريق الوحي.
١٩٣ - ﴿نَزَلَ بِهِ﴾ ﴿الباء﴾: إما للتعدية؛ أي: أنزله ﴿الرُّوحُ الْأَمِينُ﴾؛ أي: جبريل عليه السلام، أو للملابسة؛ أي: نزل الروح الأمين حالة كونه ملابسًا بهذا القرآن.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم (٢): ﴿نَزَلَ بِهِ﴾ مخففًا ﴿الرُّوحُ الْأَمِينُ﴾ بالرفع. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ﴿نزل به﴾: مشددة الزاي. ﴿الرُّوحُ الْأَمِينُ﴾ بالنصب، والفاعل هو الله سبحانه على هذه القراءة. وقد اختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد. وقرىء (٣): ﴿نزل﴾ مشددًا مبنيًا للمفعول، والفاعل هو الله تعالى، ويكون الروح على هذه القراءة مرفوعًا على النيابة.
والمراد بالروح الأمين جبريل عليه السلام، سمي أمينًا؛ لأنه أمين على وحيه تعالى، وموصله إلى أنبيائه، وروحًا لكونه سببًا لحياة قلوب المكلفين بنور المعرفة والطاعة، حيث إن الوحي الذي فيه الحياة من موت الجهالة يجري على يده، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ وفي
(١) روح البيان.
(٢) زاد المسير.
(٣) الشوكاني.
"كشف الأسرار" سمي جبريل روحًا؛ لأن جسمه روح لطيف روحاني. وكذا الملائكة روحانيون خلقوا من الروح؛ وهو الهواء.
قال بعضهم (١): لا شك أن للملائكة أجسامًا لطيفة، وللطافة نشأتهم غلب عليهم حكم الروح، فسموا أرواحًا. ولجبريل مزيد اختصاص بهذا المعنى؛ إذ هو من سائر الملائكة كالرسول عليه السلام من أفراد أمته.
واعلم: أن القرآن كلام الله وصفته القائمة به، فكساه الألفاظ بالحروف العربية، ونزله على جبريل، وجعله أمينًا عليه؛ لئلا يتصرف في حقائقه،
١٩٤ - ثم نزل به جبريل كما هو على قلب محمد - ﷺ -، كما قال سبحانه: ﴿عَلَى قَلْبِكَ﴾؛ أي (٢): نزل به الروح الأمين، وتلاه على قلبك يا محمد حتى وعيته بقلبك، فخص القلب بالذكر؛ لأنه محل الوعي والحفظ والتثبيت، ومعدن الوحي والإلهام، وليس شيء في وجود الإنسان يليق بالخطاب والفيض غيره، وهو - ﷺ - مختص بهذه الرتبة العلية، والكرامة السنية من بين سائر الأنبياء، فإن كتبهم منزلة في الألواح والصحائف جملة واحدة على صورتهم، لا على قلوبهم، كما في "التأويلات النجمية".
قال في "كشف الأسرار": الوحي إذا نزل بالمصطفى - ﷺ - نزل بقلبه أولًا، كما هو ظاهر الآية؛ لشدة تعطشه إلى الوحي، ولاستغراقه به، ثم انصرف من قلبه إلى فهمه وسمعه، وهذا تنزل من العلو إلى السفل، وهو رتبة الخواص، فأما العوام فإنهم يسمعون أولًا فيتنزل الوحي على سمعهم أولًا، ثم على فهمهم، ثم على قلبهم، وهذا ترق من السفل إلى العلو، فشتان ما بينهما.
وفي "الفتاوى الزينية": سئل عن الوحي الأمين جبريل عليه السلام كم نزل على النبي - ﷺ -؟ أجاب نزل عليه أربعة وعشرين ألف مرة، وعلى سائر الأنبياء لم ينزل أكثر من ثلاثة آلاف مرة. انتهى.
قلتُ: وهذا مما لا نقل فيه ويجب الوقف عنه.
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
﴿لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾؛ أي: من المخوفين مما يؤدي إلى عذاب الله من فعل أو ترك، وهو متعلق بـ ﴿نَزَلَ بِهِ﴾، مبين لحكمة الإنزال والمصلحة منه، وهذا من جنس ما يذكر فيه أحد طرفي الشيء، ويحذف الطرف الآخر لدلالة المذكور على المحذوف، وذلك أنه أنزله ليكون من المبشرين والمنذرين.
قال بعضهم: الإنذار أصل، وقدم لأنه من باب التخلية بالخاء المعجمة، فاكتفى بذكره في بعض المواضع من القرآن.
١٩٥ - ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥)﴾ متعلق أيضًا بـ ﴿نَزَلَ﴾ وتأخيره للاعتناء بأمر الإنذار. واللسان بمعنى اللغة؛ لأنه آلة التلفظ بها؛ أي: نزل به بلسان عربي ظاهر المعنى، واضح المدلول؛ لئلا يبقى لهم عذر ما؛ أي: لئلا يقولوا: ما نصنع بما لا نفهمه.
فالآية صريحة في أن القرآن إنما أنزل عليه عربيًا، لا كما زعمت الباطنية من أنه تعالى أنزله على قلبه غير موصوف بلغة ولسان، ثم إنه - ﷺ - أداه بلسانه العربي المبين من غير أن ينزل كذلك. وهذا فاسد مخالف للنص والإجماع، ولو كان الأمر كما قالوا.. لم يبق الفرق بين القرآن والحديث.
وفي الآية: تشريف للغة العرب على غيرها، حيث أنزل القرآن بها، لا بغيرها وقد سماها مبينًا. ولذلك اختار هذه اللغة لأهل الجنة، واختار لغة العجم لأهل النار. قال سفيان: بلغنا أن الناس يتكلمون يوم القيامة قبل أن يدخلوا الجنة بالسريانية، فإذا دخلوا الجنة تكلموا بالعربية.
فإن قلت: كيف (١) يكون القرآن عربيًا مبينًا مع ما فيه من سائر اللغات أيضًا على ما قالوا كالفارسية؛ وهو ﴿سِجِّيلٍ﴾ والرومية؛ وهو ﴿فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ﴾ والأرمينية؛ وهو ﴿فِي جِيدِهَا﴾ والسريانية؛ وهو ﴿وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ﴾ والحبشية؛ وهو ﴿كِفْلَيْنِ﴾؟
قلتُ: لما كانت العرب يستعملون هذه اللغات، ويعرفونها فيما بينهم صارت بمنزلة العربية. قال الفقيه أبو الليث: اعلم بأن العربية لها فضل على سائر
(١) روح البيان.
328
الألسنة، فمن تعلمها أو علم غيره فهو مأجور؛ لأن الله تعالى أنزل القرآن بلغة العرب. واعلم أن الفارسية شعبة من لسان العجم المقابل للسان العرب. ولها فضل على سائر لغات العجم. وروي أن النبي - ﷺ - تكلم بها، ولذلك اختيرت في الترجمة عن التكبير في الصلاة لمن لا يعرف التكبير بالعربية.
وقال الزمخشري: ﴿بِلِسَانٍ﴾؛ إما (١) أن يتعلق بـ ﴿الْمُنْذِرِينَ﴾، فيكون المعنى: لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان؛ وهم خمسة: هود، وصالح، وشعيب، وإسماعيل، ومحمد - ﷺ -، وإما أن يتعلق بـ ﴿نَزَلَ﴾ فيكون المعنى: نزله باللسان العربي المبين لتنذر به؛ لأنه لو نزله باللسان الأعجمي.. لتجافوا عنه أصلًا، وقالوا: ما نصنع بما لا نفهمه فيتعذر الإنذار به، وفي هذا الوجه أن تنزيله بالعربية التي هي لسانك ولسان قومك تنزيل له على قلبك؛ لأنك تفهمه، ويفهمه قومك. ولو كان عجميًا.. لكان نازلًا على سمعك دون قلبك؛ لأنك تسمع أجراس حروف لا تفهم معانيها ولا تعيها. انتهى.
ومعنى الآية: أي (٢) وإن هذا القرآن الذي تقدم ذكره في قوله: ﴿وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ﴾ أنزله الله سبحانه إليك، وجاء به جبريل عليه السلام، فتلاه عليك حتى وعيته بقلبك لتنذر به قومك بلسان عربي بيِّن واضح؛ ليكون قاطعًا للعذر مقيمًا للحجة، دليلًا إلى المحجة، هاديًا إلى الرشاد، مصلحًا لأحوال العباد.
وفي قوله: ﴿عَلَى قَلْبِكَ﴾ إيماء إلى أن ذلك المنزل محفوظ، وأن الرسول متمكن منه إلى أن القلب هو المخاطب في الحقيقة؛ لأنه موضع التمييز، والعقل والاختيار، وسائر الأعضاء مسخرة له، يرشد إلى ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ وقوله - ﷺ -: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" أخرجاه في "الصحيحين" ولأن القلب إذا غشي عليه، وقطع سائر الأعضاء.. لم يحصل له
(١) الكشاف.
(٢) المراغي.
329
شعور بالألم، وإذا أفاق القلب شعر بجميع ما ينزل بالأعضاء من الآفات.
وفي قوله: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥)﴾ تقريع لمشركي قريش بأن الذي حملهم على التكذيب هو الاستكبار، والعناد، لا عدم الفهم؛ لأنه نزل بلغتهم، فلا عذر لهم في الإعراض عنه.
١٩٦ - ﴿وَإِنَّهُ﴾؛ أي: وإن ذكر القرآن لا عينه. والمراد بذكره: الإخبار بأنه ينزل على محمد، وبأنه من عند الله، وأنه صدق وحق، فهذا الإخبار موجود في كتب الأولين. ﴿لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ﴾: واحدها زبور، بمعنى كتاب، مثل رسل ورسول؛ أي: لفي الكتب المتقدمة، يعني أن الله تعالى أخبر في كتبهم عن القرآن وإنزاله على النبي المبعوث في آخر الزمان.
وقيل: إن الضمير في ﴿إنه﴾ هو يعود إلى رسول الله - ﷺ -. قاله مقاتل. وقرأ (١) الأعمش: ﴿لَفِي زُبْرِ﴾ بتسكين الباء للتخفيف، والأصل الضم، كما قالوا في ﴿رُسُل﴾ بضمتين ﴿رُسْل﴾ بسكون السين. والمعنى (٢): أي: وإن ذكر هذا القرآن، والتنويه بشأنه لفي كتب الأولين المأثورة عن أنبيائهم الذين بشروا به في قديم الدهر وحديثه، وقد أخذ عليهم الميثاق بذلك، وبه بشر عيسى بقوله: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾.
١٩٧ - والهمزة في قوله: ﴿أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٩٧)﴾؛ لإنكار (٣) النفي، وإنكاره إثبات، فهي للتقرير داخلة على محذوف، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، و ﴿لَهُمْ﴾ حال من ﴿آيَةً﴾، والضمير راجع إلى مشركي قريش، و ﴿آيَةً﴾ خبر للكون قدم على اسمه الذي هو قوله: ﴿أَنْ يَعْلَمَهُ...﴾ إلخ، للاعتناء بالمقدم، والتنويه بالمؤخر، والتقدير: أغفل أهل مكة عن القرآن، ولم يكن لهم آية دالة على أنه تنزيل من رب العالمين، وأنه في زبر الأولين أن يعرفه علماء بني إسرائيل بنعوته المذكورة في كتبهم، ويعرفوا من أنزل عليه؟ أي: قد
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
330
كان علمهم بذلك آية على صحة القرآن، وحقية الرسول، وكان علماؤهم خمسة: أسد وأسيد وابن يامين وثعلبة وعبد الله بن سلام، فهؤلاء الخمسة من علماء اليهود، وقد أسلموا وحسن إسلامهم. قال ابن عباس - رضي الله عنهما - بعث أهل مكة إلى اليهود بالمدينة، فسألوهم عن محمد - ﷺ -، فقالوا: إن هذا لزمانه، وإنا لنجد نعته في التوراة، فكان آية على صدقه - ﷺ -.
وقرأ الجمهور: ﴿أَوَلَمْ يَكُنْ﴾ بالياء من تحت، ﴿آيَةً﴾: بالنصب، وهي قراءة واضحة الإعراب، توسط خبر ﴿يَكُنْ﴾، و ﴿أَنْ يَعْلَمَهُ﴾ هو الاسم، كما مر. قال الزجاج: والمعنى عليه: أو لم يكن لهم علم علماء بني إسرائيل أن محمدًا - ﷺ - نبي حق، علامة ودلالة على نبوته؛ لأن العلماء الذين آمنوا من بني إسرائيل كانوا يخبرون بوجود ذِكره في كتبهم.
وقرأ ابن عامر والجحدري: ﴿تكن﴾ بالتاء من فوق، ﴿آيَةً﴾ - بالرفع - على أنها اسم كان، وخبرها ﴿أَنْ يَعْلَمَهُ﴾. ويجوز أن تكون تامة. وفي قراءة ابن عامر نظر؛ لأن جعل النكرة اسمًا، والمعرفة خبرًا غير سائغ، وإن ورد شاذًا كقول الشاعر:
فَلاَ يَكُ مَوْقِفٌ مِنْكِ الْوَدَاعَا
وقول الآخر:
وَكَانَ مِزَاجُهَا عَسَلٌ وَمَاءُ
وأحسن ما يقال في توجيه هذه القراءة: أن يقال: إن ﴿يَكُنْ﴾ تامة. وقرأ ابن عباس: ﴿تكن﴾ بالتاء من فوق، ﴿آيَةً﴾: بالنصب، كقراءة من قرأ: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ﴾ بتاء التأنيث، ﴿فتنتَهم﴾: بالنصب ﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾ وقرأ الجحدري (١): ﴿أن تعلمه﴾: بتاء التأنيث، كما قال الشاعر:
قَالَتْ بَنُو عَامِرٍ خَالُوا بِنِيَ أَسَدِ يَا بُؤْسَ لِلْجَهْلِ ضِرَارًا لأَقْوَامِ
(١) البحر المحيط.
331
وكتب في المصحف ﴿علموا﴾ بواو بين الميم والألف. قيل على لغة من يميل ألف علموا إلى الواو، كما كتبوا الصلوة والزكوة والربوا على تلك اللغة.
والمعنى: أي (١) أغفل أهل مكة عن الإيمان، وليس بكاف لهم شهادة على صدقه أن العلماء من بني إسرائيل نصوا على أن مواضع من التوراة والإنجيل فيها ذكر الرسول - ﷺ - بصفته ونعته، وقد كان مشركوا قريش يذهبون إليهم ويتعرفون منهم هذا الخبر.
١٩٨ - وبعد أن أثبت بالدليلين السالفين نبوة محمد - ﷺ -.. ذكر أن هؤلاء المشركين لا تنفعهم الدلائل ولا تجديهم البراهين، فقال: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ﴾؛ أي: نزلنا هذا القرآن، كما هو بنظمه المعجب المعجز ﴿عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ﴾ الذين لا يقدرون على التكلم بالعربية، جمع أعجمي بالتخفيف، ولذا جمع جمع السلامة، ولو كان جمع أعجم لما جمع بالواو والنون؛ لأن مؤنث أعجم عجماء، وأفعل فعلاء لا يجمع جمع السلامة.
١٩٩ - ﴿فَقَرَأَهُ﴾؛ أي: فقرأ ذلك الأعجمي القرآن ﴿عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على مشركي مكة قراءة صحيحة خارقة للعادات ﴿مَا كَانُوا﴾؛ أي: ما كان أهل مكة ﴿بِهِ﴾؛ أي: بهذا القرآن ﴿مُؤْمِنِينَ﴾ مع انضمام إعجاز القراءة من الرجل الأعجمي للكلام العربي إلى إعجاز القرآن المقروء لفرط عنادهم، وشدة شكيمتهم في المكابرة.
وقيل المعنى (٢): ولو نزلناه على بعض الأعجمين بلغة العجم، فقرأه عليهم بلغته.. لم يؤمنوا به، وقالوا: ما نفقه هذا ولا نفهمه، ومثل هذا قوله: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾ ويقال: رجل أعجمي، ورجل أعجم إذا كان غير فصيح اللسان وإن كان عربيًا، ورجل عجمي إذا كان أصله من العجم وإن كان فصيحًا. إلا أن الفراء أجاز أن يقال: رجل عجمي بمعنى أعجمي. والأعجمي هو الذي لا يفصح ولا يحسن العربية وإن كان عربيًا في النسب.
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
وقرأ الحسن: ﴿على بعض الأعجميين﴾، وكذلك قرأ الجحدري. قال أبو الفتح بن جني أصل الأعجمين: الأعجميين، ثم حذفت ياء النسب للتخفيف، كما قالوا: الأشعرون؛ أي: الأشعريون بحذف ياء النسبة، ولولا هذا التقدير لم يجز أن يجمع جمع السلامة؛ لأن مؤنثه عجماء.
وحاصل المعنى: أي إنا أنزلنا هذا القرآن على رجل عربي بلسان عربي مبين، فسمعوه، وفهموه، وعرفوا فصاحته، وأنه معجز لا يعارض بكلام مثله، وبشرت به الكتب السالفة، ومع هذا لم يؤمنوا به، بل جحدوه وسموه تارة شعرًا وأخرى كهانة، فلو أنا نزلنا على بعض الأعجمين الذي لا يحسن العربية، فقرأه عليهم لكفروا به أيضًا، ولتمحلوا لجحودهن عذرًا، وقالوا له: لا نفقه ما يقول. وفي هذا تسلية من الله سبحانه وتعالى لرسوله محمد - ﷺ - على ما حصل من قومه؛ لئلا يشتد حزنه بإدبارهم عنه وإعراضهم عن الاستماعه له.
والخلاصة (١): أنا لو نزلناه على بعض الأعجمين، لا عليك فإنك رجل منهم، ويقولون لك: ما أنت إلا بشر مثلنا، وهلا نزل به ملك، فقرأه ذلك الأعجم عليهم، ولم يكن لهم علة يدفعون بها أنه حق، وأنه منزل من عندنا.. ما كانوا به مصدقين، فخفض من حرصك على إيمانهم به، فإنهم لا يؤمنون به على كل حال.
٢٠٠ - ثم أكد هذا الإنكار أشد تأكيد، فقال: ﴿كَذَلِكَ﴾؛ أي: كما أدخلنا التكذيب بهذا القرآن بقراءة الأعجم عليهم؛ أي: على كفار مكة لو فرض ﴿سَلَكْنَاهُ﴾؛ أي: أدخلنا التكذيب بهذا القرآن ﴿فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ﴾؛ أي: في قلوب المشركين من كفار مكة بقراءتك عليهم؛ أي (٢): سلكنا التكذيب وأدخلناه في قلوبهم، وقررناه فيها، فكيفما فعل بهم، وعلى أي وجه دبر أمرهم، فلا سبيل إلى أن يتغيروا عما هم عليه من الكفر به والتكذيب له، كما قال: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧)﴾ وفي ذلك
(١) المراغي.
(٢) النسفي.
إيماء إلى أن ذلك التكذيب صار متمكنًا في قلوبهم أشد التمكن، وصار كالشيء الجبلي لا يمكن تغييره.
وقيل المعنى: ﴿كَذَلِكَ﴾؛ أي: مثل ذلك السلك البديع ﴿سَلَكْنَاهُ﴾؛ أي: أدخلنا القرآن ﴿فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ﴾؛ أي: في قلوب مشركي مكة فعرفوا معانيه وإعجازه.
وعبارة "الجمل" هنا قوله: ﴿كَذَلِكَ﴾ معمول لـ ﴿سَلَكْنَاهُ﴾. والضمير في ﴿سَلَكْنَاهُ﴾ للقرآن، ولكنه على حذف مضاف؛ أي: سلكنا تكذيبه؛ أي: التكذيب به بقراءة النبي مثل إدخالنا التكذيب به في قلوبهم بقراءة الأعجمي. وفي أن الأعجمي لم يقرأه ولم ينزل عليه. قلنا: إن الجملة الشرطية؛ وهي قوله: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ..﴾ إلخ لا تستلزم الوقوع، اهـ شيخنا.
٢٠١ - فقوله: ﴿لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ استئناف مسوق لبيان عنادهم؛ أي: فهم مع ذلك السلك المذكور لا يؤمنون بهذا القرآن. ﴿حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ الملجيء إلى الإيمان به حين لا ينفعهم الإيمان؛ أي: إنهم لا يتأثرون بالأمور الداعية إلى الإيمان، بل يستمرون على ما هم عليه حتى يعاينوا العذاب حين لا ينفع الظالمين معذرتهم، ولهم اللعنة، ولهم سوء الدار؛ أي: لا يؤمنون إلى هذه الغاية، وهي مشاهدتهم العذاب الأليم.
٢٠٢ - ﴿فَيَأْتِيَهُمْ﴾؛ أي: فيأتي هؤلاء المكذبين بهذا القرآن العذاب الأليم ﴿بَغْتَةً﴾؛ أي: فجأة في الدنيا والآخرة، فهو معطوف على ﴿يَرَوُا﴾ ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾؛ أي: والحال أنهم لا يعلمون قبل بمجيئه حتى يفجأهم.
وقرأ الحسن (١): ﴿فتأتيهم﴾: بالتاء الفوقية؛ أي: الساعة. وقرأ ﴿بغتة﴾ بفتح الغين. وعبارة "الجمل" هنا قوله: ﴿حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ مقدم من تأخير. وأصل الكلام: حتى يأتيهم العذاب بغتة وهم لا يشعرون، فيرونه فيقولون هل نحن منظرون؛ أي: مؤخرون عن الإهلاك، ولو طرفة عين لنؤمن، فيقال لهم:
(١) البحر المحيط.
لا، أي: لا تأخير ولا إمهال، اهـ شيخنا.
وقال الزمخشري: فإن قلت (١): ما معنى التعقيب في قوله: ﴿فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً﴾؟
قلت: ليس المعنى يراد برؤية العذاب ومفاجأته، وسؤال النظرة فيه الوجود، وإنما ترتبها في الشدة، كأنه قيل: لا يؤمنون بالقرآن حتى تكون رؤيتهم العذاب، فما هو أشد منها؟ وهو لحوقه بهم مفاجأة، فما هو أشد منه، وهو سؤالهم النظرة. ونظير ذلك أن تقول: إن أسأت مقتك الصالحون، فمقتك الله سبحانه، فإنك لا تقصد بهذا الترتيب أن مقت الله يوجد عقيب مقت الصالحين، وإنما قصدك إلى ترتيب شدة الأمر على المسيء، وأنه يحصل له بسبب الإساءة مقت الصالحين، فما هو اْشد من مقتهم وهو مقت الله انتهى، فوجب أن لا تكون الفاء للترتيب الزماني، بل للترتيب الرتبي.
٢٠٣ - ثم بين أنهم يتمنون التاخير حينئذ ليتداركوا ما فات ﴿فَيَقُولُوا﴾؛ أي: كل أمة معذبة على وجه الحسرة والأسف. والتمني للإمهال ليتداركوا ما فرطوا فيه ﴿هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ﴾ أي: مؤخرون إلى حين لنؤمن ونصدق، وهو استفهام طمع في المحال. وهو إمهالهم بعد مجيء العذاب، وهم في الآخرة يعلمون أن لا ملجأ لهم، لكنهم يذكرون ذلك استرواحًا.
٢٠٤ - ولما أوعدهم النبي - ﷺ - بالعذاب قالوا: إلى متى توعدنا به، ومتى هذا العذاب؟ كما قال: ﴿أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ﴾ (٢) والهمزة فيه للاستفهام التوبيخي التهكمي بهم، حيث استعجلوا ما فيه ضررهم، وحتف أنفسهم، داخلة على محذوف يقتضيه المقام والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أيكون حالهم كما ذكر من طلب الإنظار عند نزول العذاب الأليم، وبينهما من التنافي ما لا يخفى على أحد، أو أيغفلون عن ذلك مع تحققه وتقرره، فيستعجلون... إلخ.
وإنما قدم الجار والمجرور للإيذان بأن مصب الإنكار والتوبيخ كون
(١) الكشاف.
(٢) أبو السعود.
المستعجل به عذابه تعالى مع ما فيه من رعاية الفواصل؛ أي: كيف (١) يستعجلون بعذابنا بنحو قولهم تارة: أمطر علينا حجارة من السماء، وأخرى فائتنا بما تعدنا. وقد تبين لهم كيف أخذنا للأمم الماضية، والقرون الخالية، والأقوام العاتية.
٢٠٥ - ثم أبان أن طول العمر لا يغني عنهم شيئًا، وأن العذاب واقع لا محالة، فقال: ﴿أَفَرَأَيْتَ﴾ معطوف على ﴿فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣)﴾ وما بينهما اعتراض للتوبيخ. والهمزة مقدمة على الفاء، والأصل: فأرأيت بمعنى فأخبرني. والخطاب لكل من يصلح له كائنًا من كان. ولما كانت الرؤية من أقوى أسباب الإخبار بالشيء وأشهرها.. شاع استعمال أرأيت في معنى أخبرني. فالمعنى (٢): أخبرني يا من يصلح للخطاب.
﴿إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ﴾: إن جعلنا مشركي مكة متمتعين منتفعين ﴿سِنِينَ﴾ كثيرة مع طيب العيش، ولم نهلكهم
٢٠٦ - ﴿ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦)﴾ من العذاب
٢٠٧ - ﴿مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧)﴾؛ أي: لم يغن عنهم شيئًا، ولم ينفعهم تمتعهم المتطاول في رفع العذاب وتخفيفه. فـ ﴿مَا﴾ في ﴿مَا أَغْنَى﴾: نافية، ومفعول ﴿أَغْنَى﴾ محذوف، وفاعله ﴿مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾؛ أو أي شيء أغنى عنهم كونهم ممتعين ذلك التمتيع المؤبد على أن ﴿ما﴾ في ﴿ما﴾ كانوا مصدرية، أو ما كانوا يمتعون به من متاع الحياة الدنيا على أنها موصولة حذف عائدها، فـ ﴿مَا﴾ في ﴿مَا أَغْنَى﴾ مفعول مقدم لـ ﴿أَغْنَى﴾، والاستفهام للنفي. ﴿مَا كَانُوا﴾ هو الفاعل. وهذا المعنى أولى من الأول؛ لكونه أوفق بصورة الإخبار، وأدل على انتفاء الإعناء على أبلغ وجه، وآكده كأن كل من شأنه الخطاب قد كلف بأن يخبر بأن تمتيعهم ما أفادهم، وأي شيء أغنى عنهم فلم يقدر أن يخبر بشيء من ذلك أصلًا. وقرىء ﴿يُمَتَّعُونَ﴾ اسكان الميم وتخفيف التاء، من أمتع الله زيدًا بكذا.
والمعنى: أي (٣) إن استعجالهم بالعذاب إنما كان لاعتقادهم أنه غير كائن
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) النسفي.
ولا لاحق بهم، وأنهم ممتعون باعمار طوال في سلامة وأمن، فقال تعالى: ﴿أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ﴾ أشرًا وبطرًا واستهزاءً واتكالًا على الأمل الطويل.
ثم قال: هو أن الأمر كما يعتقدون من تمتيعهم وتعميرهم، فإذا لحقهم الوعيد بعد ذلك ما ينفعهم حينئذ ما مضى من طولى أعمارهم، وطيب معايشهم؛ أي: هل (١) الأمر كما يعتقدون من عيشهم في النعيم، فأخبرني أن متعناهم في الدنيا برغد العيش، وصافي الحياة، ثم جاءهم بعد تلك السنين المتطاولة ما كانوا يوعدون به من العذاب، فهل ما كانوا فيه من النعيم يدفع عنهم شيئًا منه، أو يخففه عنهم.
والخلاصة: أن طول التمتع ليس بدافع شيئًا من عذاب الله سبحانه، وكأنهم لم يمتعوا بنعيم قط، كما قال تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (٤٦)﴾، وقال: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ﴾ يُعَمرَ، وقال: ﴿وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (١١)﴾.
وعن ميمون بن مهران أنه لقي الحسن البصري في الطواف بالكعبة وكان يتمنى لقاءه، فقال: عظني، فلم يزده على تلاوة هذه الآية، فقال: ميمون لقد وعظت فأبلغت.
وروي أن عمر بن عبد العزيز كان يقرأ هذه الآية كل صباح إذا جلس على سريره تذكرًا واتعاظًا. وقال يحيى بن معاذ: أشد الناس غفلة من اغتر بحياته الفانية، والتذ بموداته الواهية، وسكن إلى مألوفاته.
كان الرشيد حبس رجلًا، فقال الرجل للموكل عليه: قل لأمير المؤمنين كل يوم مضى من نعمتك ينقص من محنتي، والأمر قريب، والموعد الصراط، والحاكم الله، فخر الرشيد مغشيًا عليه، ثم أفاق وأمر بإطلاقه.
٢٠٨ - ثم بين سبحانه أنه لا يهلك قرية إلا بعد الإنذار، وإقامة الحجة عليها،
(١) المراغي.
فقال: ﴿وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ﴾؛ أي: وما أهلكنا قرية من القرى المهلكة ﴿إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ﴾؛ أي: إلا بعد إرسالنا إليهم رسلًا ينذرونهم بأسًا، ويخوفونهم عذابنا على كفرهم.
وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف تركت الواو من الجملة بعد ﴿إِلَّا﴾ هنا، ولم تترك منها في قوله: ﴿وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (٤)﴾؟
قلتُ: الأصل ترك ﴿الواو﴾؛ لأن الجملة صفة لـ ﴿قَرْيَةٍ﴾، وما هنا فقد جاء على الأصل فلا اعتراض. وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف، كما في قوله: ﴿سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾. اهـ "سمين".
قال في "كشف الأسرار": جمع منذرين؛ لأن المراد بهم النبي وأتباعه المظاهرون له.
٢٠٩ - قوله: ﴿ذِكْرَى﴾: إما مفعول لأجله لـ ﴿مُنْذِرُونَ﴾؛ أي: تنذرهم لأجل التذكير والموعظة لهم، وإلزام الحجة لهم، وتنبيهًا إلى ما فيه النجاة من عذابنا، أو مفعول مطلق منصوب بـ ﴿مُنْذِرُونَ﴾؛ لأن التذكرة بمعنى الإنذار؛ أي: يذكرون ذكرى. قال النحاس: وهذا قول صحيح؛ لأن معنى ﴿إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ﴾: إلا لها مذكرون، أو منصوب بفعل مقدر هو صفة لـ ﴿مُنْذِرُونَ﴾؛ أي: إلا لها منذرون يذكرونهم ذكرى. وقيل: غير ذلك.
﴿وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ في إهلاكهم، فتهلك قومًا غير ظالمين وقبل الإنذار؛ لأنهم جحدوا نعمتنا، وعبدوا غيرنا بعد الإنذار إليهم، ومتابعة الحجج، ومواصلة المواعيد، ونحو الآية قوله: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾، وقوله: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا﴾
والتعبير (١) عن ذلك بنفي الظالمية مع أن إهلاكهم قبل الإنذار ليس بظلم أصلًا على ما تقرر من قاعدة أهل السنة؛ لبيان كمال نزاهته عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه من الظلم.
(١) روح البيان.
٢١٠ - ولما كان المشركون يقولون: إن محمدًا كاهن، وما يتنزل عليه من نوع ما تتنزل به الشياطين. أكذبهم سبحانه بقوله: ﴿وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ﴾؛ أي: بهذا القرآن ﴿الشَّيَاطِينُ﴾ وهذا رد لما زعمه الكفرة في القرآن أنه من قبيل ما يلقيه الشياطين على الكهنة من أخبار السماء، بل نزل به الروح الأمين
٢١١ - ﴿وَمَا يَنْبَغِي﴾؛ أي: وما ينبغي التنزل به، ولا يمكن ﴿لَهُمْ﴾؛ أي: للشياطين؛ أي: وما يصح، وما يستقيم لهم أن ينزلوا بالقرآن من السماء ﴿وَمَا يَسْتَطِيعُونَ﴾؛ أي: وما يقدرون على ذلك أصلًا.
٢١٢ - ثم إنه تعالى ذكر سبب ذلك، فقال: ﴿إِنَّهُمْ﴾؛ أي: إن الشياطين بعد مبعث الرسول وقبله ﴿عَنِ السَّمْعِ﴾ لما يوحي به إلى الأنبياء ﴿لَمَعْزُولُونَ﴾؛ أي: لممنوعون حفظًا للوحي عن التخليط قبل نزول الملك به. أما ما لا تعلق له بالوحي من الأخبار المغيبات فقد يستمعون قبل مبعث النبي - ﷺ -، وأما بعد بعثته فقد انسد باب السماء على الشياطين، وانقطع نزول الشياطين على الكهنة؛ أي: إن الشياطين لممنوعون عن الاستماع للوحي، كيف لا، ونفوسهم خبيثة ظلمانية شريرة، غير مستعدة إلا لقبول ما لا خير فيه أصلًا من فنون الشرور.
والمعنى: أي (١) وما نزلت الشياطين بالقرآن ليكون كهانة، أو شعرًا أو سحرًا. وما ينبغي لهم أن ينزلوا به، وما يستطيعون ذلك وإن عالجوه بكل وسيلة، وإنهم عن سمع الملائكة لمحجوبون بالشهب.
والخلاصة: أن الشياطين لا تنزل به لوجوه ثلاثة:
١ - أنه ليس من مبتغاهم؛ إذ من سجاياهم الإضلال والإفساد، والقرآن فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو هدى ونور وبرهان مبين، فبينه وبين مقاصد الشياطين منافاة عظيمة.
٢. أنه لو انبغى لهم ما استطاعوا حمله وتأديته، كما قال: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾.
(١) المراغي.
٣ - أنهم لو انبغى واستطاعوا حمله وتأديته.. لما وصلوا إلى ذلك؛ لأنهم بمعزل عن استماع القرآن حال نزوله؛ لئلا يخلطوا الوحي.
وقرأ الحسن (١) وابن السميقع والأعمش: ﴿وما تنزلت به الشياطون﴾ - بالواو والنون - إجراءً له مجرى جمع السلامة. قال النحاس: وهذا غلط عند جميع النحويين. قال: وسمعت علي بن سليمان يقول: سمعت محمد بن يزيد يقول: هذا من غلط العلماء، وإنما يكون بشبهة؛ لما رأى الحسن في آخره ياء ونونًا، وهو في موضع رفع.. اشتبه عليه بالجمع السالم، فغلط.
٢١٣ - ثم لما قرر سبحانه حقية القرآن، وأنه منزل من عنده.. أمر نبيه - ﷺ - بدعاء الله وحده، فقال: ﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ الفاء فيه للإفصاح؛ أي: إذا عرفت يا محمد حال الكفار، وأردت بيان ما هو اللازم لك من الأوامر والنواهي.. فأقول لك: لا تعبد مع الله سبحانه إلهًا غيره. ﴿فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ﴾ على إشراكه، الخطاب (٢) للنبي - ﷺ -، والمراد به غيره؛ لأنه معصوم من ذلك.
قال ابن عباس: يحذر به غيره، يقول: أنت أكرم الخلق عليّ، ولو اتخذت إلهًا غيري لعذبتك، فكيف بغيرك من العباد، وذلك من شأن الحكيم إذا أراد أن يؤكد الخطاب لأحد وجهه إلى الرؤساء في الظاهر.
وقيل: خوطب به النبي - ﷺ - مع استحالة وقوع المنهي عنه (٣)؛ لأنه معصوم، تهييجًا لعزيمته، وحثًا على ازدياد الإخلاص، ولطفًا بسائر المكلفين ببيان أن الإشراك من القبيح والسوء بحيث ينهى عنه من لا يمكن صدوره منه، فكيف بمن عداه، وأن من كان أكرم الخلق عليه إذا عذب على تقدير اتخاذ إله آخر، فغيره أولى.
وحاصل ما في هذه الآيات: أنَّ الله سبحانه أمر نبيه بأربعة أوامر ونواه (٤):
(١) الشوكاني.
(٢) الخازن.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
١ - ﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣)﴾؛ أي: أخلص العبادة لله وحده، ولا تشرك به سواه، فإن من أشرك به فقد عصاه، ومن عصاه فقد استحق عقابه. وفي هذا حث لرسوله على ازدياد الإخلاص. وبيان أن الإشراك قبيح بحيث ينهى عنه من لا يمكن صدوره منه، فيكون الوعيد لغيره أزجر، وله أقبل. وبعد أن بدأ بالرسول وتوعده إن دعا مع الله إلهًا آخر.. أمره بدعوة الأقرب فالأقرب؛ لأنه إذا تشدد على نفسه أولًا،
٢١٤ - ثم ثنى بالأقرب فالأقرب.. كان قوله لسواهم أنفع، وتأثيره أنجع، فقال:
٢ - ﴿وَأَنْذِرْ﴾؛ أي: خوف العذاب الذي يستتبعه الشرك والمعاصي ﴿عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾؛ أي: الجماعة الذين كانوا أقرب الناس إليك في النسب، فأقرب الناس إليه بنو هاشم، ثم بنو المطلب، ثم سائر بطون قريش على ترتيب الأقرب فالأقرب؛ أي: وخوف الأقربين من عشيرتك وأهلك بأس الله سبحانه، وشديد عقابه لمن كفر به وأشرك به سواه.
وإنما أمره بإنذار الأقربين؛ لأن الاهتمام بشأنهم أهم، فالبداية بهم في الإنذار أولى، كما أن البداية بهم في البر والصلة وغيرهما أولى. وهذه النذارة الخاصة جزء من النذارة العامة التي بعث بها النبي - ﷺ - كما قال: ﴿لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ وقال: ﴿لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا﴾.
روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله - ﷺ - قريشًا وعم وخص، فقال: "يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضرًا ولا نفعًا، يا معشر بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضرًا ولا نفعًا، يا معشر بني قصي أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضرًا ولا نفعًا، يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضرًا ولا نفعًا، يا معشر بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرًا ولا نفعًا، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لك ضرًا ولا نفعًا، ألا إن لكم رحمًا وسأبلها ببلالها، أصلكم في الدنيا، ولا أغني عنكم من الله شيئًا". وهذا الحديث منه - ﷺ - بيان للعشيرة الأقربين.
وفي الحديث والآية (١): دليل على أن القرب في الأنساب لا ينفع مع البعد في الأسباب، وعلى جواز صلة المؤمن والكافر، وإرشاده ونصحه بدليل قوله: "إن لكم رحمًا سأبلها ببلالها".
وروى مسلم قوله - ﷺ -: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار".
٢١٥ - وبعد أن أمره بإنذار المشركين من قومه.. أمره بالرفق بالمؤمنين، فقال:
٣ - ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ﴾؛ أي: أن جانبك وحالك وتواضع ﴿لِمَنِ اتَّبَعَكَ﴾، واقتدى بك ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ بالله سبحانه وبك، وترفق بهم وتجاوز عنهم، فإن ذلك أجدى لك، وأجلب لقلوبهم، وأكسب لمحبتهم، وأفضى إلى معونتك والإخلاص لك. و ﴿مِنَ﴾ للتبيين؛ لأن (من أَتبع) أعم ممن اتسع لدين، أو قرابة، أو نسب، أو للتبعيض، على أن المراد بالمؤمنين المشارفون للإيمان والمصدقون باللسان.
فإن قلتَ: لِمَ قال: ﴿لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، ولم يقل: واخفض جناحك للمؤمنين، فما النكتة في هذا العدول؟
قلتُ: النكتة في هذا العدول إلى هذا الأسلوب إخراج المؤمن الغير المتابع؛ لأن كل متابع مؤمن، وليس كل مؤمن متابعًا، ولئلا يغتر المؤمن بدعوى الإيمان وهو بمعزل عن حقيقته التي لا تحصل إلا بالمتابعة. انتهى من "التأويلات النجمية".
يقال: خفض جناحه إذا ألانه، وفيه استعارة تصريحية، كما سيأتي في مبحث البلاغة. والمعنى: أن جناحك، وتواضع لمن اتبعك من المؤمنين، وأظهر لهم المحبة والكرامة، وتجاوز عما يبدو منهم من التقصير، واحتمل منهم سوء الأحوال، وعاشرهم بجميل الأخلاق، وتحمل عنهم كلهم، فإن حرموك فأعطهم، وإن ظلموك فتجاوز عنهم، وإن قصروا في حقي فاعف عنهم واستغفر لهم.
(١) المراغي.
٢١٦ - ﴿فَإِنْ عَصَوْكَ﴾؛ أي خالفوا أمرك: ولم يتبعوك؛ أي: فإن خرجت عشيرتك عن الطاعة وخالفوك، ولم يتبعوك ﴿فَقُلْ﴾ لهم ﴿إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾؛ أي: من عملكم، أو من الذي تعملونه؛ أي: فإني بريء من عبادتكم لغير الله تعالى، ولا تبرأ منهم، وقيل لهم قولًا معروفًا بالنصح والعظة لعلهم يرجعون إلى طاعتك، وقبول الدعوة منك.
وهذا (١) يدل على أن المراد بالمؤمنين المشارفون للإيمان المصدقون باللسان؛ لأن المؤمنين الخلص لا يعصونه ولا يخالفونه. والمعنى: أي: فإن (٢) عصاك من أنذرتهم من العشيرة فلا ضير عليك، وقد أديت ما أمرت به، ولا عليك إثم مما يعملون، وقيل لهم: إني بريء منكم ومن دعائكم مع الله إلهًا آخر، وإنكم ستجزون بجرمكم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
والخلاصة: فبعد الإنذار من آمن منهم فتواضع له، ومن خالفك فتبرأ منه ومن عمله، وقيل له: ﴿إِنِّي بَرِيءٌ...﴾ هو إلخ،
٢١٧ - ثم بين له ما يعتمد عليه عند عصيانهم له، فقال:
٤ - ﴿وَتَوَكَّلْ﴾ في جميع حالاتك ﴿عَلَى الْعَزِيزِ﴾ الذي لا يذل من والاه، ولا يعز من عاداه، فهو يقدر على قهر أعدائه ﴿الرَّحِيمِ﴾ الذي يرحم من توكل عليه، وفوض أمره إليه بالظفر والنصرة، فهو ينصر أولياءه، ولا تتوكل على الغير، فإن الله تعالى هو الكافي لشر الأعداء لا الغير، والتوكل على الله تعالى في جميع الأمور، والإعراض عما سواه ليس إلا من خواص الكمل. جعلنا الله سبحانه وإياكم من الملحقين بهم. والتوكل: عبارة عن تفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره، ويقدر على نفعه وضره، وهو الله سبحانه وتعالى العزيز الرحيم.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر وشيبة (٣): ﴿فتوكل﴾ - بالفاء - على الإبدال من جواب الشرط. وقرأ باقي السبعة: ﴿وَتَوَكل﴾ - بالواو - على العطف على
(١) الشوكاني
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
﴿وَأَنْذِرْ﴾؛
٢١٨ - ثم أتبع به قوله: ﴿الَّذِي يَرَاكَ...﴾ إلخ؛ لأنه كالسبب لتلك الرحمة؛ أي: توكل على من يراك ﴿حِينَ تَقُومُ﴾ من نومك إلى التهجد والصلاة وحدك في جوف الليل، في قول أكثر المفسرين، فإن المعروف من القيام في العرف الشرعي إحياء الليل بالصلاة.
وقال مجاهد: حين تقوم حيثما كنت.
٢١٩ - ﴿و﴾ يرى ﴿تَقَلُّبَكَ﴾ وتنقلك في أركان الصلاة بالقيام والركوع والاعتدال والسجود والجلوس ﴿فِي السَّاجِدِينَ﴾؛ أي: مع المصلين جماعة إذا كنت إمامًا لهم؛ أي: ويراك إذا صليت جماعة راكعًا وساجدًا وقائمًا. كذا قال أكثر المفسرين. وعن مقاتل أنه سأل أبا حنيفة - رحمه الله - هل تجد الصلاة في الجماعة في القرآن؟ فتلا هذه الآية.
وقيل (١): يراك منتقلًا في أصلاب المؤمنين، وأرحام المؤمنات من لدن آدم وحواء إلى عبد الله وآمنة، فجميع أصول سيدنا محمد - ﷺ - رجالًا ونساء مؤمنون، فلا يدخلهم الشرك ما دام النور المحمدي في الذكر والأنثى، فإذا انتقل منه لمن بعده.. أمكن أن يعبد غير الله، وآزر ما عبد الأصنام إلا بعد انتقال النور منه لإبراهيم. وأما قبل انتقاله فلم يعبد غير الله تعالى، كذا قالوا، ولكن لا أصل له والله أعلم.
وقيل (٢): المراد بقوله: ﴿يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ﴾ قيامك إلى التهجد. وقوله: ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾ يريد ترددك في تصفح أحوال المجتهدين في العبادة وتقلب بصرك فيهم، كذا قال مجاهد.
ومعنى الآية: أي (٣) وفوض جميع أمورك إلى القادر على دفع الضر عنك، والانتقام من أعدائك الذين يريدون السوء بك، الرحيم إذ نصرك عليهم برحمته، وهو الذي يراك حين تقوم للصلاة بالناس، ويرى تنقلك من حال كالجلوس إلى حال كالقيام فيما بين المصلين إذا كنت إمامًا لهم. وفي الخبر: "أعبد الله كأنك
(١) المراح.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
وعبر عن المصلين بالساجدين؛ لأن العبد أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد،
٢٢٠ - ثم أكد ما سلف بقوله: ﴿إِنَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿هُوَ السَّمِيعُ﴾ لأقوال عباده فيسمع ما تقول ﴿الْعَلِيمُ﴾ بحركاتهم وسكناتهم وبسرهم ونجواهم، فيعلم ما تنويه وتعمله، كما قال سبحانه في آية أخرى: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾.
وقصارى ذلك: أنه هو القادر على نفعكم وضركم، فهو الذي يجب أن تتوكلوا عليه، وهو الذي يكفيكم ما أهمكم.
٢٢١ - ولما قال (١) المشركون: لم لا يجوز أن يقال: إن الشياطين تنزل بالقرآن على محمد - ﷺ -، كما أنهم ينزلون بالكهانة على الكهنة، وبالشعر على الشعراء.. فرق الله سبحانه وتعالى بين محمد - ﷺ - وبين الكهنة والشعراء، فقال: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُم﴾ وأخبركم أيها المشركون ﴿عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ﴾ بتقدير همزة الاستفهام قبل حرف الجر، وبحذف إحدى التاءين من ﴿تَنَزَّلُ﴾؛ أي: هل أخبركم أيها المشركون جواب على من تتنزل الشياطين؟
٢٢٢ - أقول لكم في جوابه ﴿تَنَزَّلُ﴾ الشياطين ﴿عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ﴾؛ أي: كثير الإفك والكذب ﴿أَثِيمٍ﴾؛ أي: كثير الإثم والمعاصي، وهو اسم للأفعال المبطئة عن الثواب؛ أي: تتنزل (٢) الشياطين على المتصفين بالإفك والإثم الكثير من الكهنة والمتنبئة كمسيلمة الكذاب، وسطيح، وطليحة؛ لأنهم من جنس الشياطين، وبشهم مناسبة بالكذب والافتراء والإضلال. فإن مسيلمة من المتنبئة، وسطيح وطليحة من الكهنة - جمع كاهن؛ وهو الذي يخبر عن الأمور المستقبلة، والعرات الذي يخبر عن الأمور الماضية. اهـ شيخنا.
وحيث كانت ساحة رسول الله - ﷺ - منزهة عن هذه الأوصاف استحال تنزلهم عليه.
٢٢٣ - وجملة قوله: ﴿يُلْقُونَ السَّمْعَ﴾ في محل الجر على أنها صفة لـ ﴿كُلِّ أَفَّاكٍ﴾
(١) المراح.
(٢) روح البيان.
345
أَثِيمٍ}؛ لكونه في معنى الجمع؛ أي: يلقى الأفاكون الإذن إلى الشياطين، فيتلقون منهم أوهامًا وأمارات لنقصان علمهم، فيضمون إليها بحسب تخيلاتهم الباطلة خرافات لا يطابق أكثرها الواقع ﴿وَأَكْثَرُهُمْ﴾؛ أي: أكثر الأفاكين؛ أي: كلهم ﴿كَاذِبُونَ﴾ فيما قالوه من الأقاويل، وليس محمد كذلك، فإنه صادق في جميع ما أخبر به من المغيبات، والأكثر هنا: بمعنى الكل، كما أن البعض يأتي بمعنى الكل في قوله تعالى: ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾؛ أي: كله. والأظهر (١) أن الأكثرية باعتبار أقوالهم على معنى أن هؤلاء قلما يصدقون فيما يحكون عن الجني. والمعنى: وأكثر أقوالهم كاذبة، لا باعتبار ذواتهم حتى يلزم من نسبة الكذب إلى أكثرهم كون اْقلهم صادقًا على الإطلاق. اهـ "أبو السعود".
وقيل: الضمير في ﴿يُلْقُونَ﴾ عائد إلى ﴿الشَّيَاطِينُ﴾، والجملة (٢) في محل النصب حال من الضمير المستتر في ﴿تَنَزَّلُ﴾ العائد إلى ﴿الشَّيَاطِينُ﴾؛ أي: تنزل الشياطين على كل أفاك أثيم حالة كون الشياطين ملقين السميع؛ أي: ما يسمعونه من الملأ الأعلى إلى الكهان. ويجوز أن يكون المعنى: أن الشياطين يلقون السمع؛ أي: ينصتون إلى الملأ الأعلى؛ ليسترقوا منهم شيئًا من المغيبات، ويكون المراد بالسمع على الوجه الأول المسموع، وعلى الوجه الثاني نفس حاسة السمع.
ويجوز أن تكون جملة: ﴿وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ﴾ راجعة إلى ﴿الشَّيَاطِينُ﴾؛ أي: وأكثر الشياطين كاذبون فيما يلقونه إلى الكهنة مما يسمعونه من الملأ الأعلى، فإنهم يضمون إلى ذلك من عند أنفسهم كثيرًا من الكذب، كما جاء في الحديث: "تلك الكلمة الصادقة الكلمة التي يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه، ويزيد معها أكثر من مئة كذبة". والكهنة أيضًا يفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم.
فإن قلت: كيف يصح على الوجه الأول وصف الأفاكين بأن أكثرهم كاذبون
(١) أبو السعود.
(٢) الشوكاني
346
بعدما وصفوا جميعًا بالإفك؟
قلتُ: يجاب عنه بأن المراد بالأفاك الذي يكثر الكذب، لا الذي لا ينطق إلا بالكذب. فالمراد بقوله: ﴿وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ﴾ أنه قل من يصدق منهم فيما يحكي عن الشياطين، وقد سبق الجواب عنه بوجه آخر.
وقال شيخ الإِسلام: فإن قلت (١): كيف قال: ﴿وَأَكْثَرُهُمْ﴾ بعدما حكم بأن كل أفاك أثيم؛ أي: فاجر؟
قلتُ: الضمير في ﴿أَكْثَرُهُمْ﴾ لـ ﴿الشَّيَاطِينُ﴾، لا للأفاكين، ولو سلم فالأفاكون هم الذين يكثرون الكذب، لا أنهم الذين لا ينطقون إلا بالكذب. انتهى.
وقال في "كشف الأسرار": استثني منهم بذكر الأكثر سطيحًا وشقًا وسواد بن قارب الذين كانوا يلهجون بذكر رسول الله وتصديقه، ويشهدون له بالنبوة، ويدعون الناس إليه. انتهى.
والغرض الذي سيق لأجله هذا الكلام (٢): رد ما كان يزعمه المشركون من كون النبي - ﷺ - من جملة من يلقي إليه الشياطين السمع من الكهنة ببيان أن الأغلب على الكهنة الكذب، ولم يظهر من أحوال محمد - ﷺ - إلا الصدق، فكيف يكون كما زعموا، ثم إن هؤلاء الكهنة يعظمون الشياطين، وهذا النبي المرسل - ﷺ - من عند الله سبحانه برسالته إلى الناس يذمهم ويلعنهم، ويأمر بالتعوذ منهم.
وحاصل معنى الآيات: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (٢٢١)﴾؛ أي: هل أخبركم خبرًا جليًا نافعًا في الدين، عظيم الجدوى في الدنيا، تعلمون به الفارق بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن ببيان جواب سؤال ﴿عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ﴾،
ثم أشار إلى الجواب عن هذا السؤال بوجهين:
١ - ﴿تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢)﴾، أي: هي تنزل على كل كذاب فاجر من
(١) فتح الرحمن.
(٢) الشوكاني.
347
الكهنة، نحو شق بن رهم وسطيح بن ربيعة. قال في "حياة الحيوان": هما كاهنان، فكان شق نصفَ إنسان، له يد واحدة ورجل واحدة، وعين واحدة، وكان سطيح لـ له عظم ولا بنان، إنما كان يطوى كالحصير، لم يدرك أيام بعثة النبي - ﷺ -، وكان في زمن ملك كسرى؛ وهو ساسان. انتهى.
٢ - ﴿يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ﴾؛ أي: يلقي الأفاكون سمعهم إلى الشياطين، ويصغون إليهم أشد إصغاء، فيتلقون منهم ما يتلقون، وهؤلاء قلما يصدقون في أقوالهم، بل هم في أكثرها كاذبون. وهذا رد على من زعم من المشركين أن ما جاء به الرسول ليس بحق، وأنه شيء أتاه به رئي من الجن، فنزه الله سبحانه رسوله - ﷺ - عن قولهم وافترائهم، ونبه إلى أن ما جاء به إنما هو من عند الله، وأنه تنزيله ووحيه نزل به ملك كريم، وأنه ليس من قبل الشياطين.
والخلاصة: أن هناك فارقًا بين محمد - ﷺ - والكهنة، ومحمد - ﷺ - لا يكذب فيما يخبر عن ربه، وما عرف منه إلا الصدق، والكهنة كذابون فيما يقولون، وقلما عرف منهم الصدق في أخبارهم.
٢٢٤ - ولما كان بعض المشركين يقول: إن النبي - ﷺ - شاعر.. بيّن سبحانه حال الشعراء، ومنافاة ما هم عليه لما عليه النبي - ﷺ -، فقال: ﴿وَالشُّعَرَاءُ﴾؛ أي: شعراء الكفار الذين يهجون رسول الله - ﷺ - وأصحابه، ويعيبون الإِسلام، ويطعنون فيه منهم عبد الله بن الزبعري وهبيرة بن أبي وهب ومسافع بن عبد مناف وأبو عزة عمرو بن عبد الله وأمية بن أبي الصلت وأبو سفيان بن حرب الأموي ﴿يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ﴾؛ أي: يتبعهم سفهاء العرب، حيث كانوا (١) يحفظون هجاءهم للمسلمين، وينشدونه في المجالس والمجامع، ويضحكون منه؛ أي: إن القرآن ليس بشعر، ولا محمد بشاعر؛ لأن الشعراء يتبعهم الضالون الحائدون عن السنن القويم، والسفهاء المائلون إلى الفساد الذي يجر إلى الهلاك، وأتباع محمد ليسوا كذلك، بل هم الراشدون المراجيح الرزان والساجدون الراكعون الباكون
(١) روح البيان.
348
الزاهدون.
وكان (١) الشعراء يتكلمون بالكذب والباطل، ويقولون: نحن نقول مثل ما قال محمد، وقالوا: الشعر، واجتمع إليهم غواة قومهم يستمعون أشعارهم حين يهجون محمدًا - ﷺ - أصحابه، وكانون يروون عنهم قولهم، فذلك قوله: ﴿يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ﴾ فهم الرواة الذين يروون هجاء المسلمين. وقيل: ﴿الْغَاوُونَ﴾ هم الشياطين. وقيل: هم السفهاء الضالون.
والشعراء (٢) عام يدخل فيه كل شاعر، والمذموم من يهجو ويمدح شهوة محرمة، ويقذف المحصنات، ويقول الزور وما لا يسوغ شرعًا. واعلم أن الشعر في نفسه ينقسم إلى أقسام، فقد يبلغ ما لا خير فيه منه إلى قسم الحرام، وقد يبلغ ما فيه خير منه إلى قسم الواجب.
قال في "الكواشي": لا شك أن الشعر كلام حسنه كحسنه، وقبيحه كقبيحه، ولا بأس به إذا كان توحيدًا، أو علمًا ينتفع به، أو حثًا على مكارم الأخلاق من جهاد وعبادة وحفظ فرج وغض بصر وصلة رحم وشبهه، أو مدحًا للنبي - ﷺ - والصالحين بما هو الحق، انتهى.
وقد وردت أحاديث في ذمه وذم الاستكثار منه، ووردت أحاديث أخر في إباحته وتجويزه:
فمنها: ما روى مسلم عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال: ردفت رسول الله - ﷺ - يومًا، فقال: "هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء"؟ قلت: نعم. قال: "هيه". فانشدته بيتًا، فقال: "هيه"، ثم أنشدته بيتًا آخر، فقال: "هيه"، حتى أنشدته مئة بيت. وفي هذا دليل على العناية بحفظ الأشعار إذا تضمنت الحكم والمعاني المستحسنة شرعًا وطبعًا. وإنما استكثر النبي - ﷺ - من شعر أمية؛ لأنه كان حكيمًا، ألا ترى قوله - ﷺ -: "لقد كاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم" حين سمع قوله:
(١) الخازن.
(٢) البحر المحيط.
349
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلُ وَكَلُّ نَعِيْمٍ لاَ مَحَالَةَ زَائِلُ
والكلام في تحقيق ذلك يطول.
وقال الإِمام المرزوقي شارح "الحماسة": تأخر الشعراء عن البلغاء؛ لتأخر المنظوم عند العرب؛ لأن ملوكهم قبل الإِسلام وبعده يتبجحون بالخطابة، ويعدونها أكمل أسباب الرياسة، ويعدون الشعر دناءة؛ لأن الشعر كان مكسبة وتجارة، وفيه وصف اللئيم عند الطمع بصفة الكريم، والكريم عند تأخر صلته بوصف اللئيم، ومما يدل على شرف النثر أن الإعجاز وقع في النثر دون النظم؛ لأن زمن النبي - ﷺ - زمن الفصاحة.
وقرأ عيسى بن عمر (١): ﴿وَالشُّعَرَاءُ﴾ بالنصب على الاشتغال، والجمهور بالرفع على الابتداء والخبر، وقرأ نافع وشيبة والحسن بخلاف عنه، والسلمي ﴿يَتَّبِعُهُمُ﴾ بسكون التاء مخففًا من تبع الثلاثي وقرأ باقي السبعة مشددًا. والوجهان حسنان. يقال: تبعت واتبعت مثل حقرت واحتقرت. وسكن العينَ الحسنُ، وعبد الوارث عن أبي عمرو. وروى هارون نصبها عن بعضهم، وهو مشكل. ذكره أبو حيان.
٢٢٥ - ثم بين تلك الغواية بأمرين، فقال:
١ - ﴿أَلَمْ تَر﴾ يا من (٢) شأنه الرؤية؛ أي: قد رأيت وعلمت. والاستفهام فيه للتقرير، والخطاب لكل من تتأتى منه الرؤية ﴿أَنَّهُمْ﴾؛ أي: أن الشعراء ﴿فِي كُلِّ وَادٍ﴾؛ أي: في كل فن من فنون الكذب، وفي كل شعب من شعاب الزور، وفي كل نوع من أنواع المدح أو الذم، والهجاء والشتم، والفحش واللعن، والافتراء والدعاوى، والتكبر والمفاخر، والتحاسد والعب، والإراءة وإظهار الفضل، والدناءة والخسة، والطمع والتَّكَدِّي، والذلة والمهانة، وأصناف الأخلاق الرذيلة، والطعن في الإنساب والأعراض، وغير ذلك من الآفات التي هي من توابع الشعر ﴿يَهِيمُونَ﴾ يقال: هام على وجهه - من باب باع - هيمانًا، بفتحتين،
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
إذا ذهب من العشق أو غيره، كما في "المختار"؛ أي: يذهبون على وجوههم لا يهتدون إلى سبيل معين، بل يتحيرون في أودية القيل والقال، والوهم والخيال، والغي والضلال، فتارة يمزقون الأعراض بالهجاء، وتارة يأتون من المجون بكل ما يمجه السمع ويستقبحه العقل، وتارة يخوضون في بحر السفاهة والوقاحة، ويذمون الحق ويمدحون الباطل، ويرغبون في فعل المحرمات، ويدعون الناس إلى فعل المنكرات، كما تسمعه في أشعارهم من مدح الخمر والزنا واللواط ونحو هذه الرذائل الملعونة.
والمعنى: أي (١) ألم تعلم أن الشعراء يسلكون الطرق المختلفة من الكلام، فقد يمدحون الشيء حينًا بعد أن ذموه، أو يعظمونه بعد أن احتقروه، والعكس بالعكس، وذلك دليل على أنهم لا يقصدون إظهار الحق، ولا تحري الصدق، لكن محمدًا - ﷺ - جبلته الصدق، ولا يقول إلا الحق، وقد بقي على طريق واحد؛ وهو الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، والترغيب في الآخرة والإعراض عن الدنيا.
٢٢٦ - وثاني الأمرين: ذكره بقوله: ﴿وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ﴾ في أشعارهم عند التصلف والدعاوى ﴿مَا لَا يَفْعَلُونَ﴾ من الأفاعيل، فهم يرغبون في الجود ويرغبون عنه، وينفرون عن البخل ويصرون عليه، ويقدحون في الناس لأدنى الأسباب، ويرتكبون الفواحش، وذلك تمام الغواية. ومحمد - ﷺ - على خلاف ذلك؛ لأنه منزه عن كل ذلك، متصف بمحاسن الأوصاف ومكارم الأخلاق، مستقر على المنهاج القويم، مستمر على الصراط المستقيم، فقد بدأ بنفسه إذ قال له ربه: ﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣)﴾ ثم بالأقرب فالأقرب، فقال: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤)﴾ فليست حاله حال الشعراء.
٢٢٧ - ولما وصف الشعراء بهذه الأوصاف الذميمة استثنى منهم من اتصف بأمور أربعة:
١ - الإيمان.
(١) المراغي.
351
٢ - والعمل الصالح.
٣ - وكثرة قول الشعر في توحيد الله والنبوة ودعوة الخلق إلى الحق.
٤ - وأن لا يهجو أحدًا إلا انتصارًا ممن يهجوه اتباعًا لقوله سبحانه: ﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ كما كان يفعل عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن مالك وكعب بن زهير حين كانوا يهجون المشركين منافحة عن رسول الله - ﷺ -.
وقد روي أن رسول الله - ﷺ - قال لكعب بن مالك: "أهجهم فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من رشق النبل"، وكان يقول لحسان بن ثابت: "قل وروح القدس معك" وفي رواية: "أهجهم وجبريل معك"، وإلى هذا أشار بقوله
سبحانه: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله. استثناء للشعراء المسلمين. ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ بامتثال الأوامر واجتناب النواهي. ﴿وَذَكَرُوا اللَّهَ﴾ ذكرًا ﴿كَثِيرًا﴾ في أشعارهم بأن كان أكثر أشعارهم في التوحيد والثناء على الله، والحث على طاعته، والحكمة والموعظة، والزهد في الدنيا والترغيب في الآخرة، أو بأن لم يشغلهم الشعر عن ذكر الله سبحانه، ولم يجعلوه همهم وعادتهم، قال أبو يزيد: الذكر الكثير ليس بالعدد والغفلة، لكنه بالحضور.
﴿وَانْتَصَرُوا﴾؛ أي: انتقموا ممن هجاهم بالهجو ﴿مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا﴾؛ أي: من بعدما ظلمهم الكفار بالهجو؛ أي: ردوا هجاء من هجا رسول الله - ﷺ - والمسلمين. وأحق الخلق بالهجو من كذب رسول الله - ﷺ - وهجاه، كما وقع ذلك الانتصار من شعراء رسول الله - ﷺ -، فإنهم كانوا يهجون من هجاه ويحمون عنه، ويذبون عن عرضه، ويكافحون شعراء المشركين وينافحونهم. ويدخل في هذا من انتصر بشعره لأهل السنة وكافح أهل البدعة، وزيف ما يقوله شعراؤهم من مدح بدعتهم، وهجو السنة المطهرة، كما يقع ذلك كثيرًا من شعراء الرافضة ونحوهم، فإن الانتصار للحق بالشعر وتزييف الباطل به من أعظم المجاهدة، وفاعله من المجاهدين في سبيل الله، المنتصرين لدينه، القائمين بما أمر الله بالقيام به.
وروى ابن جرير عن محمد بن إسحاق أنه لما نزلت هذه الآية.. جاء
352
حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك إلى رسول الله - ﷺ - وهم يبكون، قالوا: قد علم الله حين أنزل هذه أنا شعراء، فتلا النبي - ﷺ -: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ قال: أنتم ﴿وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا﴾ قال: أنتم ﴿وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا﴾: قال أنتم؛ أي بالرد على المشركين، ثم قال النبي - ﷺ -: "انتصروا ولا تقولوا إلا حقًا، ولا تذكروا الآباء والأمهات". فقال حسان لأبي سفيان بن حرب:
هَجَوْتَ مُحَمَّدًا فَأَجَبْتُ عَنْهُ وَعِنْدَ اللهِ فِيْ ذَاكَ الْجَزَاءُ
وَإِنَّ أبِيْ وَوَالِدَهُ وَعِرْضِيْ لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ
أتَشْتُمُهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ
لِسَانِي صَارِمٌ لَا عَيْبَ فِيْهِ وَبَحْرِيْ لَا تُكَدَّرُهُ الدِّلَاءُ
وقال كعب: يا رسول الله إن الله قد أنزل في الشعر ما قد علمت، فكيف ترى فيه؟ فقال النبي - ﷺ -: "إن المؤمن يجاهد بنفسه وسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل" وقال كعب:
جَاءَتْ سَخِيْنَةُ كَيْ تُغَالِبَ رَبَّهَا وَلَيُغْلَبَنَّ مُغَالِبُ الْغَلَّابِ
فقال النبي - ﷺ -: "لقد مدحك الله يا كعب في قولك هذا".
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي - ﷺ - دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة يمشي بيديه؛ وهو يقول:
خَلُّوا بَنِيْ الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيْلِهِ الْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَنْزِيْلِهِ
ضَرْبًا يُزِيْلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيْلِهِ وَيُذْهِلُ الْخَلِيْلَ عَنْ خَلِيْلِهِ
فقال عمر: يا ابن رواحة بين يدي رسول الله - ﷺ - وفي حرم الله تقول الشعر؟ فقال رسول الله - ﷺ -: "خَلِّ عُنْفَهُ يا عمر، فَلَهِيَ أسرع فيهم من نضح النبل". أخرجه الترمذي والنسائي.
353

فصل في مدح الشعر (١)


روى البخاري عن أبيّ بن كعب أن رسول الله - ﷺ - قال "إن من الشعر لحكمة". وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: جاء أعرابي إلى النبي - ﷺ -، فجعل يتكلم بكلام، فقال: "إن من البيان سحرًا، وإن من الشعر حكمًا" أخرجه أبو داود.
وروى مسلم عن عمرو بن الثريد عن أبيه، قال: ردفت وراء النبي - ﷺ - يومًا: "هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟ " قلت نعم. قال: "هيه"، فأنشدته بيتًا. الحديث كما مر آنفًا.
وعن جابر بن سمرة قال: جالست النبي - ﷺ - أكثر من مئة مرة، فكان أصحابه يتناشدون الشعر، ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية وهو ساكت، وربما تبسم معهم. أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح.
وقالت عائشة - رضي الله عنها -: الشعر كلام: فمنه حسن، ومنه قبيح، فخذ منه الحسن، ودع منه القبيح. وقال الشعبي: كان أبو بكر يقول الشعر، وكان عمر يقول الشعر، وكان علي أشعر منهما. وروي عن ابن عباس أنه كان ينشد الشعر، ويستنشده في المسجد، فيروى أنه دعا عمر بن ربيعة المخزومي، فاستنشده القصيدة التي قالها، فقال:
أَمِنْ آلِ نُعْمَى أَنْتَ غَادٍ فَمُبْكِرُ غَدَاةَ غَدٍ أَمْ رَائِحٌ فَمُهَجِّرُ
فأنشده القصيدة إلى آخرها، وهي قريب من تسعين بيتًا، ثم إن ابن عباس أعاد القصيدة جميعها، وكان حفظها بمرة واحدة.
وبعد أن (٢) ذكر الله سبحانه من الدلائل العقلية، وأخبار الأنبياء المتقدمين ما يزيل الحزن عن قلب رسول الله - ﷺ -، ثم بين الدلائل على صدق نبوته، ثم
(١) الخازن.
(٢) المراغي.
354
أرشد إلى الفارق بينه وبين الكهنة، وبينه وبين الشعراء.. ختم (١) السورة بالتهديد العظيم والوعيد الشديد للكافرين، فقال: ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أنفسهم بالشعر المنهي عنه وغيره، وأعرضوا عن تدبر هذه الآيات كفرًا بها وعنادًا، فهو عام لكل ظالم، والسين للتأكيد. ﴿أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾؛ أي: أي مرجع يرجعون إلى الله تعالى بعد الموت، وأي معاد يعودون إليه، إنهم ليصيرون إلى نار لا يطفأ سعيرها، ولا يسكن لهيبها؛ أي: ينقلبون انقلاب سوء، ويرجعون رجوع شر؛ لأن مصيرهم إلى النار.
فإن (٢) في قوله: ﴿سَيَعْلَمُ﴾ تهويلًا عظيمًا، وتهديدًا شديدًا، وكذا في إطلاق ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾، وإبهام ﴿أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾. وخصص بعضهم هذه الآية بالشعراء، ولا وجه لذلك، فإن الاعتبار بعموم اللفظ.
وقوله: ﴿أَيَّ مُنْقَلَبٍ﴾ صفة لمصدر محذوف؛ أي: ينقلبون منقلبًا أي منقلب، وقدم لتضمنه معنى الاستفهام، ولا يعمل فيه ﴿سَيَعْلَمُ﴾؛ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، بل هو معلق عن العمل فيه.
والمعنى (٣)؛ أي وسيعلم الذين ظلموا أنفسهم بالشرك وهَجْوِ رسول الله وأصحابه، وبالإعراض عن تدبر هذه الآيات أنهم ينقلبون كمال انقلاب؛ لأن مصيرهم إلى النار؛ وهو أقبح مصير، ومرجعهم إلى العذاب؛ وهو شر مرجع، فالمنقلب الانتقال إلى ضد ما هو فيه، والمرجع هو العود من حال هو فيها إلى حال كان عليها، فصار كل مرجع منقلبًا، وليس كل منقلب مرجعًا.
وقرأ ابن عباس والحسن وابن أرقم عنه (٤): ﴿أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ بالفاء مكان القاف، والتاء مكان الباء، من الإنقلاب بالنون والتاء الفوقية. والمعنى على هذه القراءة: أن الظالمين يطمعون في الانفلات من عذاب الله تعالى، والانفكاك منه، ولا يقدرون على ذلك؛ أي: وسيعلم الظالمون أن ليس لهم وجه من وجوه
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراح.
(٤) البحر المحيط والشوكاني.
355
إلانفلات والفرار، فإنهم يطمعون أولًا أن ينفلتوا من عذاب الله سبحانه فينجوا منه. وقرأ الباقون بالقاف والباء الموحدة من الانقلاب بالنون والقاف والموحدة.
الإعراب
﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤)﴾.
﴿وَإِنَّهُ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه. ﴿لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾: خبره ومضاف إليه، والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير حقيقة تلك القصص، وتأكيد نبوة محمد - ﷺ -، فإن إخباره عن الأمم المتقدمة؛ وهو الأمي الذي لا يكتب ولا يقرأ لا يكون إلا عن طريق الوحي. ﴿نَزَلَ﴾: فعل ماض. ﴿بِهِ﴾: متعلق بمحذوف حال من الروح؛ أي: متلبسًا به، فالباء للملابسة. ﴿الرُّوحُ﴾: فاعل. ﴿الْأَمِينُ﴾: صفة له، والجملة في محل الرفع صفة لـ ﴿تَنْزِيلُ﴾ أو حال منه. ﴿عَلَى قَلْبِكَ﴾: متعلق بـ ﴿نَزَلَ﴾. ﴿لِتَكُونَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل وعاقبة، ﴿تَكُونَ﴾: فعل مضارع ناقص منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، واسمها ضمير يعود على محمد. ﴿مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾: خبرها، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لكونك من ﴿الْمُنْذِرِينَ﴾، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿نَزَلَ﴾.
﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩)﴾.
﴿بِلِسَانٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿الْمُنْذِرِينَ﴾؛ لأنه اسم فاعل؛ أي: لتكون من جملة الذين أنذروا بهذا اللسان العربي؛ وهم هود وصالح وإسماعيل وشعيب ومحمد عليهم الصلاة والسلام، أو بدل من الجار والمجرور في قوله: ﴿بِهِ﴾ بإعادة العامل؛ أي: نزل بلسان عربي؛ أي: باللغة العربية. ﴿عَرَبِيٍّ﴾: صفة أولى لـ ﴿لسَانٍ﴾. ﴿مُبِينٍ﴾: صفة ثانية له، أو صفة لـ ﴿عَرَبِيٍّ﴾. ﴿وَإِنَّهُ﴾: ناصب واسمه.
356
﴿لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه خبر إن، وجملة ﴿إِنَّهُ﴾ معطوفة على جملة ﴿إن﴾ الأولى. ﴿أَوَلَمْ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التوبيخي المضمن للتقرير داخلة على محذوف، و ﴿الواو﴾ عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أغفل أهل مكة عن هذا القرآن، ولم يكن علم علماء بني إسرائيل إياه آية لهم على حقيقته، ﴿لم﴾ حرف نفي وقلب وجزم ﴿يَكُنْ﴾ مضارع ناقص مجزوم بـ ﴿لم﴾ وجملة ﴿يَكُنْ﴾ معطوفة على الجملة المحذوفة، والجملة المحذوفة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. ﴿لَهُمْ﴾ متعلقان بمحذوف حال؛ لأنه كان في الأصل صفة لآية وتقدم عليها ﴿آيَةً﴾ خبر ﴿يَكُنْ﴾. ﴿أَنْ يَعْلَمَهُ﴾ في تأويل مصدر اسم ﴿يَكُنْ﴾ ﴿عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾: فاعل ومضاف إليه. ﴿وَلَوْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لَوْ﴾: شرطية. ﴿نَزَّلْنَاهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول به. ﴿عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿نَزَّلْنَاهُ﴾، والجملة فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿فَقَرَأَهُ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿قَرَأَهُ﴾: فعل ومفعول به، وفاعل مستتر معطوف على ﴿نَزَّلْنَاهُ﴾. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق بقرأ. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿مُؤْمِنِينَ﴾. و ﴿مُؤْمِنِينَ﴾: خبر كان، وجملة كان جواب ﴿لَوْ﴾ الشرطية لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية معطوفة على جملة قوله: ﴿أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً﴾.
﴿كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣)﴾
﴿كَذَلِكَ﴾: صفة لمصدر محذوف. ﴿سَلَكْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول به. ﴿فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق به، والتقدير: سلكناه في قلوب المجرمين سلكًا كائنًا مثل ذلك السلك البديع، والجملة مستأنفة. ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿يُؤْمِنُونَ﴾، والجملة مستأنفة، أو حال من الهاء في ﴿سَلَكْنَاهُ﴾، أو من ﴿الْمُجْرِمِينَ﴾. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية. ﴿يَرَوُا﴾: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد ﴿حَتَّى﴾. ﴿الْعَذَابَ﴾: مفعول يه. ﴿الْأَلِيمَ﴾: صفة له، والجملة في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾ بمعنى إلى،
357
تقديره: إلى رؤيتهم العذاب الأليم، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿فَيَأْتِيَهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿يَأْتِيَهُمْ﴾: فعل ومفعول معطوف على ﴿يَرَوُا﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿الْعَذَابَ﴾. ﴿بَغْتَةً﴾: حال من فاعل يأتي، ولكنه في تأويل مشتق؛ أي: حالة كونه باغتًا. ﴿وَهُمْ﴾: ﴿الواو﴾: حالية. ﴿هُمْ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿لَا يَشْعُرُونَ﴾: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من مفعول ﴿يَأْتِيَهُمْ﴾. ﴿فَيَقُولُوا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿يَقُولُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿يَأْتِيَهُمْ﴾. ﴿هَلْ﴾: حرف استفهام للاستفهام الاستبعادي المضمن للتحسر. ﴿نَحْنُ مُنْظَرُونَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول ﴿يَقُولُوا﴾.
﴿فَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦)﴾
﴿أَفَبِعَذَابِنَا﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التوبيخي والتهكمي والإنكاري داخلة على محذوف يقتضيه المقام، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف. ﴿بِعَذَابِنَا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَسْتَعْجِلُونَ﴾. ﴿يَسْتَعْجِلُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أيكون حالهم كما ذكر من طلب الإنظار عند نزول العذاب الأليم فيستعجلون بعذابنا، والجملة المحذوفة مستأنفة، هكذا قدره بعض المعربين، ولكنه لا يخلو من إيهام، فالأولى أن يقدر: أيغفلون عن ذلك مع تحققه وتقرره فيستعجلون بعذابنا، وقدم الجار والمجرور لأمرين: لفظي؛ وهو مراعاة الفواصل، ومعنوي؛ وهو الإيذان بأن مصب الإنكار والتوبيخ كون المستعجل به العذاب. ﴿أَفَرَأَيْتَ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الاستخباري، و ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿رَأَيْتَ﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَيَقُولُوا﴾، وما بينهما اعتراض، و ﴿رَأَيْتَ﴾: بمعنى أخبرني، فتتعدى إلى مفعولين: أحدهما مفرد والآخر جملة استفهامية غالبًا. ﴿إِنْ﴾: حرف شرط. ﴿مَتَّعْنَاهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها. ﴿سِنِينَ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿مَتَّعْنَاهُمْ﴾، وجواب الشرط محذوف يقدر من معنى المفعول الثاني لـ ﴿رَأَيْتَ﴾ تقديره: إن متعناهم سنين لم يغن عنهم تمتعهم، أي: لم ينفعهم، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية جملة معترضة لا
358
محل لها من الإعراب. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف. ﴿جَاءَهُمْ﴾: فعل ومفعول به. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل الرفع فاعل، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الشرط. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿يُوعَدُونَ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب خبر كان، وجملة كان صلة ﴿مَا﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: ما كانوا يوعدون، ومفعول ﴿أرَأَيْتَ﴾ الأول محذوف معلوم من فاعل ﴿جاء﴾ لأن ﴿أرأيت﴾ و ﴿جاء﴾ تنازعًا في قوله: ﴿مَا كَانُوا يُوعَدُونَ﴾ والتقدير: إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون أفرأيته؛ أي: ذلك الموعود.
﴿مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾
﴿مَا﴾: اسم استفهام للاستفهام الإنكاري في محل النصب مفعول مقدم لـ ﴿أَغْنَى﴾. ﴿أَغْنَى﴾: فعل ماض. ﴿عَنْهُمْ﴾: متعلق به. ﴿مَا﴾: مصدرية، أو موصولة. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿يُمَتَّعُونَ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب خبر كان، وجملة كان صلة ﴿مَا﴾ المصدرية، أو الموصولة، والمصدر المؤول من ﴿مَا﴾ المصدرية في محل الرفع فاعل ﴿أَغْنَى﴾: تقديره: ما أغنى عنهم تمتعهم، أو ﴿مَا﴾ الموصولة في محل الرفع فاعل ﴿أَغْنَى﴾؛ أي: ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون به، وجملة ﴿أَغْنَى﴾ في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿أرأيت﴾: لأنها جملة استفهامية، وهذا كله مفهوم مما تقدم في سورة الأنعام مبسوطًا في قوله: ﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ...﴾ إلخ. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿أَهْلَكْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿مِنْ قَرْيَةٍ﴾: مفعول به لـ ﴿أَهْلَكْنَا﴾. و ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿لَهَا﴾: خبر مقدم. ﴿مُنْذِرُونَ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب صفة لـ ﴿قَرْيَةٍ﴾، أو حال منها، وسوغ مجيء الحال منها سبق النفي. ﴿ذِكْرَى﴾: مفعول لأجله لـ ﴿مُنْذِرُونَ﴾ ومنصوب به، أي: ينذرونهم؛ لأجل تذكير العواقب والموعظة، أو مصدر معنوي لـ ﴿الْمُنْذِرِينَ﴾ منصوب به؛ أي: أي إلا لها مذكرون ذكرى، وأعربها الكسائي حالًا؛ أي: حال كونهم مذكرين لها. ﴿وَمَا﴾:
359
﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿كُنَّا ظَالِمِينَ﴾: فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَمَا أَهْلَكْنَا﴾.
﴿ومَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (٢١٠) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ﴾
﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿تَنَزَّلَتْ﴾: فعل ماض. ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿تَنَزَّلَتْ﴾. ﴿الشَّيَاطِينُ﴾: فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿وَمَا أَهْلَكْنَا﴾ ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿يَنْبَغِي﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير مستتر يعود على القرآن. ﴿لَهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿يَنْبَغِي﴾، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿يَسْتَطِيعُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿تَنَزَّلَتْ﴾. ﴿إِنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه. ﴿عَنِ السَّمْعِ﴾: متعلق بـ ﴿لمَعْزُولُونَ﴾، ﴿لَمَعْزُولُونَ﴾ و ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿معزولون﴾: خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل عدم استطاعتهم. ﴿فَلَا﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أحوال الكفار، وأردت بيان ما هو اللازم لك.. فأقول لا تدع. ﴿لَا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَدْعُ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، وفاعله ضمير يعود على محمد. ﴿مَعَ اللَّهِ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من ﴿إِلَهًا﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿إِلَهًا﴾: مفعول به. ﴿آخَرَ﴾ صفة ﴿إِلَهًا﴾، وجملة ﴿تَدْعُ﴾ في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿فَتَكُونَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة سببية، ﴿تَكُونَ﴾: فعل مضارع منصوب بن مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب النهي، واسمها ضمير يعود على محمد. ﴿مِنَ الْمُعَذَّبِينَ﴾: خبرها، وجملة ﴿تَكُونَ﴾ مع أن المضمرة في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى، تقديره: لا يكن دعاؤك إلهًا آخر فكونك من المعذبين.
﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾
﴿وَأَنْذِرْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد معطوف على قوله:
360
﴿فَلَا تَدْعُ﴾. ﴿عَشِيرَتَكَ﴾: مفعول. ﴿الْأَقْرَبِينَ﴾: صفة لـ ﴿عَشِيرَتَكَ﴾. ﴿وَاخْفِضْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر معطوف عليه أيضًا. ﴿جَنَاحَكَ﴾: مفعول به. ﴿لِمَنِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿اخفض﴾. ﴿اتَّبَعَكَ﴾: فعل ومفعول به، وفاعل مستتر يعود على ﴿مَنْ﴾ الموصولة، والجملة صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة. ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ حال من الضمير المستتر في ﴿اتَّبَعَكَ﴾
﴿فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠)﴾
﴿فَإِنْ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا امتثلت ما أمرتك به، وأردت بيان ما هو اللازم لك إذا خالفوك.. فأقول لك: إن عصوك. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿عَصَوْكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها. ﴿فَقُل﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة الجواب، ﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿إِنِّي بَرِيءٌ﴾: ناصب واسمه وخبره. ﴿مِمَّا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿بَرِيءٌ﴾، وجملة ﴿إِن﴾ في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿تَعْمَلُونَ﴾: فعل وفاعل صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: مما تعملونه. ﴿وَتَوَكَّلْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿توكل﴾: فعل أفعل، وفاعل مستتر يعود على محمد معطوف على الجواب؛ أي: على جملة ﴿فَقُلْ﴾. ﴿عَلَى الْعَزِيزِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿وَتَوَكَّلْ﴾. ﴿الرَّحِيمِ﴾: صفة لـ ﴿الْعَزِيزِ﴾. ﴿الَّذِي﴾: صفة ثانية لـ ﴿الْعَزِيزِ﴾. ﴿يَرَاكَ﴾: فعل ومفعول به، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة صلة الموصول. ﴿حِينَ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿يَرَاكَ﴾. ﴿تَقُومُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿حِينَ﴾، ﴿وَتَقَلُّبَكَ﴾: معطوف على الكاف في ﴿يَرَاكَ﴾. ﴿فِي السَّاجِدِينَ﴾: حال من كاف ﴿تَقَلُّبَكَ﴾، و ﴿فِي﴾ بمعنى مع؛ أي: حالة كونك مصليًا مع الجماعة. ﴿إِنَّهُ﴾
361
ناصب واسمه. هُوَ: ضمير فصل. ﴿السَّمِيعُ﴾: خبره. ﴿الْعَلِيمُ﴾: خبر ثان له، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ﴾
﴿هَلْ﴾: حرف استفهام. ﴿أُنَبِّئُكُمْ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، أو على محمد إن قدرنا القول، و ﴿الكاف﴾: في محل النصب مفعول أول. ﴿عَلَى﴾: حرف جر. ﴿مَنْ﴾: اسم استفهام في محل الجر بـ ﴿عَلَى﴾، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿تَنَزَّلُ﴾، وإنما قدم؛ لأن له صدر الكلام، وهو معلق ما قبله من التنبئة عن العمل فيما بعده. ﴿تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ﴾: فعل وفاعل، وجملة ﴿تَنَزَّلُ﴾ في محل النصب ساد مسد المفعول الثاني والثالث إن جعل ﴿أُنَبِّئُكُمْ﴾ متعديًا لثلاثة، ومسد الثاني فقط إن جعل متعديًا لإثنين. ﴿تَنَزَّلُ﴾: فعل مضارع، وهو على حذف إحدى التاءَين، وفاعله ضمير يعود على ﴿الشَّيَاطِينُ﴾. ﴿عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تَنَزَّلُ﴾. ﴿أَثِيمٍ﴾: صفة ﴿أَفَّاكٍ﴾، والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لبيان المستفهم عنه. ﴿يُلْقُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿السَّمْعَ﴾ هو: مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ﴿الشَّيَاطِينُ﴾، إن قلنا: إن ﴿الواو﴾ في ﴿يُلْقُونَ﴾ يعود على ﴿الشَّيَاطِينُ﴾، أو الجملة مستأنفة، أو صفة لـ ﴿كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾، إن قلنا: إن ﴿الواو﴾ تعود على ﴿أَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ﴾. ﴿وَأَكْثَرُهُمْ﴾ ﴿الواو﴾: حالية. ﴿أَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ﴾ هو: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من واو ﴿يُلْقُونَ﴾
﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧)﴾
﴿وَالشُّعَرَاءُ﴾: مبتدأ. ﴿يَتَّبِعُهُمُ﴾: فعل ومفعول به. ﴿الْغَاوُونَ﴾: فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة. ﴿أَلَمْ تَرَ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التقريري، ﴿لَمْ﴾: حرف جزم. ﴿تَرَ﴾: فعل مضارع
362
مجزوم بـ ﴿لم﴾، وفاعله ضمير مستتر يعود على محمد، والجملة الفعلية جملة مفسرة لما قبلها، لا محل لها من الإعراب ﴿أَنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه. ﴿فِي كُلِّ وَادٍ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَهِيمُونَ﴾، وجملة ﴿يَهِيمُونَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿أَنَّ﴾، وجملة ﴿أن﴾ من اسمها وخبرها في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ﴿تَرَ﴾ تقديره: ألم تر هيامهم في كل واحد، وفن من فنون القيل والقال. ﴿وَأَنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿يَقُولُونَ﴾: في محل الرفع خبر ﴿أن﴾، وجملة ﴿أن﴾ معطوفة على جملة ﴿أن﴾ الأولى. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿يَقُولُونَ﴾، ﴿لَا﴾: نافية، وجملة ﴿يَفْعَلُونَ﴾ صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: يفعلونه. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء. ﴿الَّذِينَ﴾: مسستثنى من ﴿وَالشُّعَرَاءُ﴾ المذمومين. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿آمَنُوا﴾. ﴿وَذَكَرُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿آمَنُوا﴾. ﴿كَثِيرًا﴾: منصوب على المفعولية المطلقة؛ لأنه صفة لمصدر محذوف؛ أي: ذكرًا كثيرًا، أو منصوب على الظرفية الزمانية؛ لأنه صفة لظرف محذوف؛ أي: وقتًا كثيرًا. ﴿وَانْتَصَرُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿آمَنُوا﴾. ﴿مِنْ بَعْدِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿وَانْتَصَرُوا﴾. ﴿مَا﴾: مصدرية. ﴿ظُلِمُوا﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه؛ أي: من بعد ظلمهم. ﴿وَسَيَعْلَمُ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، والسين حرف استقبال. ﴿يعلم الذين﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿ظَلَمُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿أَيَّ مُنْقَلَبٍ﴾: منصوب على المفعولية المطلقة بـ ﴿يَنْقَلِبُونَ﴾؛ أي: ينقلبون أي انقلاب؛ لأن أيًّا تعرب بحسب ما تضاف إليه، وقد علقت ﴿يعلم﴾ عن العمل فيما بعدها، والناصب لـ ﴿أَيَّ﴾ ﴿يَنْقَلِبُونَ﴾، كما بينا، وقدم عليه لتضمنه معنى الاستفهام. وأسماء الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها للزومها الصدارة. قال النحاس: وحقيقة القول في ذلك أن الاستفهام معنى، وما قبله معنى آخر، فلو عمل فيه لدخل بعض المعاني في بعض" اهـ ﴿يَنْقَلِبُونَ﴾: فعل وفاعل، وجملة ﴿يَنْقَلِبُونَ﴾ في محل النصب ساد مسد مفعولي ﴿يَعْلَمُ﴾.
363
التصريف ومفردات اللغة
﴿لَتَنْزِيلُ﴾: مصدر نزل المضعف، بمعنى اسم المفعول، سمي به مبالغة، وصيغة التفعيل فيه تدل على أن نزوله كان بالدفعات في مدة ثلاث وعشرين سنة، كما مر في مبحث التفسير.
﴿الْأَمِينُ﴾: صفة مشبهة من أمن فهو أمن من باب فعل المكسور اللازم إذا اتصف بالأمانة. والأمانة ضد الخيانة؛ لأنه أمين على وحيه تعالى وموصله إلى من شاء من عباده.
﴿عَلَى قَلْبِكَ﴾ أي: على روحك؛ لأنه المدرك والمكلف دون الجسد. وفي " الفتوحات": إن أريد بالقلب الروح فظاهر، وإن أريد به العضو فتخصيصه؛ لأن المعاني الروحانية إنما تنزل أولًا على الروح، ثم تنتقل منه إلى القلب لما بينهما من التعلق، ثم تصعد منه إلى الدماغ، فتنتعش بها المتخيلة.
وفي "الكرخي" قوله: ﴿عَلَى قَلْبِكَ﴾ خصه بالذكر، وهو إنما أنزل عليه ليؤكد أن ذلك المنزل محفوظ، والرسول متمكن من قلبه، لا يجوز عليه التغير، ولأن القلب هو المخاطب حقيقة؛ لأنه موضع التميز والاختيار.
والقلب في الأصل لحمة صنوبرية الشكل؛ أي: التي شكلها كشكل الصنوبر، وهو شجر ينبت في البرية دقيق أحد الطرفين غليظ الآخر مع نوع استدارة كقمع السكر، فهذه اللحمة على شكله، فهي دقيقة أحد الطرفين غليظة الآخر مع نوع استدارة كقمع السكر، كما يشاهد ذلك في قلب الدجاجة وغيرها، لكن هنا بمعنى اللطيفة الربانية التي تسمى روحًا ونفسًا، لا بمعنى اللحمة الصنوبرية، اهـ. من "البيجوري على السلم" في المنطق.
﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ في الأصل الجارحة المعروفة، ولكن المراد بها هنا معنى اللغة؛ لأنها آلة التلفظ بها. ﴿وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ﴾: جمع زبور بمعنى الكتاب، مثل رسل ورسول؛ أي: لفي الكتب المتقدمة.
﴿عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ﴾ قال صاحب "التحرير": الأعجمين جمع أعجمي،
364
ولولا هذا التقدير لم يجز أن يجمع جمع سلامة. قلت: وكان سبب منع جمعه أنه من باب أفعل فعلاء، كأحمر حمراء، والبصريون لا يجيزون جمعه جمع سلامة إلا ضرورة، وقد جعله ابن عطية جمع أعجم، فقال: الأعجمون جمع أعجم، وهو الذي لا يفصح وإن كان عربي النسب، يقال له: أعجم، والأعجمي هو الذي نسبه في العجم، وإن كان فصيح اللسان. وقال الزمخشري: الأعجم الذي لا يفصح، وفي لسانه عجمة أو استعجام، والأعجمي مثله، إلا أن فيه زيادة بياء النسب توكيدًا، اهـ من "السمين".
﴿سَلَكْنَاهُ﴾؛ أي: أدخلنا تكذيب القرآن، أو معرفة معانيه وإعجازه.
﴿هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ﴾: اسم مفعول من الإنظار، والإنظار: التأخير والإمهال؛ أي: هل نحن مؤخرون لنؤمن ونصدق.
﴿يَسْتَعْجِلُونَ﴾ الاستعجال: طلب عجلة العذاب. ﴿مَا كَانُوا يُوعَدُونَ﴾ من الإيعاد. والإيعاد: التخويف بالعذاب. ﴿ذِكْرَى﴾ أي: تذكرة وعبرة وموعظة لغيرهم. ﴿وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ﴾ يقال: تنزل إذا نزل في مهلة.
﴿وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ﴾؛ أي: وما يصح وما يستقيم، وما يتيسر لهم أن ينزلوا بالقرآن من السماء. ﴿وَمَا يَسْتَطِيعُونَ﴾؛ أي: وما يقدرون على ذلك. ﴿إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ﴾؛ أي: عن استماع الوحي أصلًا من أول الأمر، أو عن استماع خبر السماء. ﴿لَمَعْزُولُونَ﴾؛ أي: لممنوعون بالشهب بعد أن كانوا ممكنين من استماع خبر السماء لا الوحي.
﴿عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ العشيرة: أهل الرجل الذي يتكثر بهم؛ أي: يصيرون له بمنزلة العدد الكامل، وذلك أن العشيرة هو العدد الكامل، فصارت العشيرة اسمًا لكل جماعة من أقارب الرجل يتكثر بهم، والعشير: المعاشر قريبًا كان أو مقارنًا، كذا في "المفردات".
﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ﴾ والخفض ضد الرفع والدعة، والسير اللين. ﴿عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ﴾ مضارع تنزل من باب تفعل، أصله: تتنزل، حذفت منه إحدى التائين.
365
﴿عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾؛ أي: كثير الإفك والكذب. قال الراغب: الإفك: كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه. ﴿أَثِيمٍ﴾؛ أي: كثير الإثم، وهو اسم للأفعال المبطئة عن الثواب.
﴿يُلْقُونَ السَّمْعَ﴾، أصله: يلقيون السمع، من ألقى الرباعي استثقلت الضمة على الياء، ثم نقلت إلى ما قبلها، فالتقى ساكنان الياء والواو، ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين؛ لأنها جزء كلمة، وحذفها أولى من حذف كلمة مستقلة.
﴿وَالشُّعَرَاءُ﴾: جمع شاعر، كعلماء جمع عالم قال: في "المفردات": شعرت: أصبت الشعر، ومنه استعير شعرت كذا؛ أي: علمته في الدقة كإصابة الشعر. قيل: وسمي الشاعر شاعرًا لفطنته ودقة معرفته، فالشعر في الأصل اسم للعلم الدقيق في قولهم ليت شعري، وصار في التعارف اسمًا للموزون المقفى من الكلام على تفاعيل أجزاء العروضيين، والشاعر: المختص بصناعته.
﴿يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ﴾: جمع غاو، كقاضون جمع قاض، وهم الضالون المائلون عن السنن القويم. ﴿فِي كُلِّ وَادٍ﴾ قال الراغب: أصل الوادي الموضع الذي يسيل فيه الماء، ومنه سمي المنفرج بين الجبلين واديًا، ويستعار للطريقة كالمذهب والأسلوب، فيقال: فلان في واد غير واديك.
﴿يَهِيمُونَ﴾؛ أي: يسيرون سير البهائم حائرين، لا يهتدون إلى شيء، يقال: هام على وجهه من باب باع يهيم هيمًا وهيومًا وهيامًا وهيمانًا وتهيامًا إذا ذهب وهو لا يدري أين يتوجه؛ أي: يذهبون على وجوههم لا يهتدون إلى سبيل معين، بل يتحيرون في أودية القيل والقال، يعني أساليب الكلام من المدح والهجاء والجدل والغزل وغير ذلك من الأنواع؛ أي: في كل نوع من الكلام يغلون. قال في "الوسيط": فالوادي مثل لفنون الكلام، وهيمانهم فيه قولهم على الجهل بما يقولون من لغو وباطل وغلو في مدح أو ذم، اهـ.
﴿وَانْتَصَرُوا﴾ الانتصار: الانتقام ممن ظلمك.. ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾: الانحراف عن العدالة، والعدول عن الحق البخاري مجرى النقطة من الدائرة. ﴿أَيَّ مُنْقَلَبٍ﴾ والمنقلب: المرجع؛ وهو مصدر ميمي بمعنى الانقلاب؛
366
أي: الرجوع.
فائدة: والظلمة ثلاثة أقسام: الظالم الأعظم: وهو الذي لا يدخل تحت شريعة الله، وإياه قصد بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾.
والأوسط هو الذي لا يلزم حكم السلطان، والأصغر هو الذي يتعطل عن المكاسب والأعمال، فيأخذ منافع الناس، ولا يعطيهم منفعته.
ومن فضيلة العدالة أن الجور الذي هو ضدها لا يثبت إلا بها، فلو أن لصوصًا تشارطوا فيما بينهم شرطًا فلم يراعوا العدالة فيه، ولم ينتظم أمرهم، فعلى العاقل أن يصيخ إلى الوعيد والتهديد الأكيد، فيرجع عن الظلم والجور، وان كان عادلًا فنعوذ بالله من الحور بعد الكور. والله المعين لكل سألك، والمنجي في المسالك من المهالك. اهـ "روح".
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التأكيد بمؤكدات ثلاث؛ بإن وباللام واسمية الجملة، في قوله: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾؛ لأن الكلام مع المتشككين في صحة القرآن، فناسب تأكيده بأنواع من المؤكدات.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿بِلِسَانٍ﴾ ففيه إطلاق آلة الشيء؛ لأن اللسان هنا بمعنى اللغة؛ لأنه آلة التلفظ بها.
ومنها: الاكتفاء في قوله: ﴿لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾؛ أي: والمبشرين، وهو ذكر أحد المتقابلين وحذف الآخر لدلالة المذكور على المحذوف، واختير ذكر الإنذار وحذف مقابله دون العكس؛ لأن باب التخلية بالخاء المعجمة مقدم على باب التحلية بالحاء المهملة.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦)﴾؛ أي: وإن
367
ذكر القرآن لا عينه.
ومنها: الاستفهام التقريري في قوله: ﴿أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٩٧)﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ﴾.
ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: ﴿أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤)﴾.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ﴾ من إطلاق المحل وإرادة الحال؛ أي: أهلها.
ومنها: بيان كمال نزاهته بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره منه من الظلم في قوله: ﴿وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾؛ إذ هلاكهم قبل الإنذار ليس بظلم أصلًا.
ومنها: التهييج والإلهاب في قوله: ﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ الخطاب للرسول بطريق التهييج لزيادة إخلاصه وتقواه.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾؛ لأنه مستعار من خفض الطائر جناحه إذا أراد أن ينحط. فشبه التواضع ولين الأطراف والجوانب عند مصاحبة الأقارب والأجانب بخفض الطائر جناحه؛ أي: كسره عند إرادة الانحطاط، فأطلق على المشبه اسم الخفض بطريق الاستعارة التصريحية، فاشتق منه خفض بمعنى: ألان على طريقة التبعية.
ومنها: صيغتا المبالغة في قوله: ﴿عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾؛ لأن فعالاً وفعيلًا من صيغ المبالغة؛ أي: كثير الكذب، كثير الفجور.
ومنها: الطباق بين ﴿يَقُولُونَ﴾ و ﴿يَفْعَلُونَ﴾، وبين ﴿وَانْتَصَرُوا﴾ و ﴿ظُلِمُوا﴾.
ومنها: الاستعارة التمثيلية البديعة في قوله: ﴿فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ﴾ شبه جولانهم في أفانين القول بطريق المدح والذم والتشبب وأنواع الشعر، وضلالهم عن سنن الهدى بهيام الهائم في الصحراء الذي هام في مقصده، وخبط في طريقه، ولا يقصد موضعًا معينًا، فهو لا يدري أين يذهب. وهذا من ألطف
368
الاستعارات ومن أرشقها وأبدعها.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾.
ومنها: مراعاة الفواصل؛ لأنها تزيد في جمال الكلام ورونقه مثل ﴿يَهِيمُونَ﴾ - ﴿يَنْقَلِبُونَ﴾ - ﴿يَقُولُونَ﴾ - ﴿مَا لَا يَفْعَلُونَ﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
وحكي أن عمر بن عبد العزيز كان إذا أصبح أمسك بلحيته، ثم قرأ قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧)﴾ ثم بكى وهو ينشد:
نَهَارُكَ يَا مَغْرُورُ سَهْوٌ وَغَفْلَةٌ وَلَيْلُكَ نَوْمٌ والرَّدَى لَكَ لَازِمُ
تُسَرُّ بما يَفْنَى وَتَفْرَحُ بِالمُنَى كَمَا سُرَّ بِاللَّذَّاتِ فِيْ النَوْمِ حالِمُ
وَتَسْعَى إِلَى مَا سَوْفَ تَكْرَهُ غِبَّهُ كَذَلِكَ في الدُّنْيَا تَعِيْشُ الْبَهَائِمُ
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
369
خلاصة ما حوته هذه السورة
١ - مقدمة في تسلية الرسول - ﷺ - على إعراض قومه عن الدين، وبيان أنهم ليسوا ببدع في الأمم، وأنه - ﷺ - ليس بأول الرسل الذين كذبوا، وأن الله قادر على إنزال القوارع التي تلجئهم إلى الإيمان، ولكن جرت سنته أن يجعل الإيمان في القلوب اختياريًا لا اضطراريًا.
٢ - الاستدلال بخلق النبات، وأطواره المختلفة، وأشكاله المنوعة على وجود الإله ووحدانيته.
٣ - قصص الأنبياء مع أممهم؛ لما فيه من العبرة لأولىك المكذبين.
٤ - إثبات أن القرآن وحي من رب العالمين، لا كلام تنزل به الشياطين.
٥ - بيان أن محمدًا - ﷺ - ليس بكاهن ولا بشاعر.
٦ - التهديد والوعيد لمن يعبد مع الله سواه من الأصنام والأوثان، ويكذب بالرسول والنور الذي أنزل معه (١).
والله أعلم
* * *
(١) إلى هنا تم تفسير سورة الشعراء، فللَّه الحمد والشكر حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا يوافي نعمه ويكافىء مزيده، في تاريخ ٢٤/ ٣/ ١٤١٣ من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية.
370
سورة النمل
سورة النمل مكية، قال القرطبي (١): وهي مكية كلها في قول الجميع. وأخرج ابن الضريسي والنحاس وابن مردويه، والبيهقي في "الدلائل" عن ابن عباس قال: أنزلت سورة النمل بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله.
وهي أربعة وتسعون آية، وقيل: ثلاث وتسعون آية، وألف مئة وتسع وأربعون كلمة، وأربعة آلاف وسبع مئة وسبع وستون حرفًا.
الناسخ والمنسوخ: جميع السورة (٢) محكم غير آية واحدة؛ وهي قوله تعالى: ﴿وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ﴾... الآية (٢٧) نسخت بآية السيف، وقد اشتملت هذه السورة على خمس قصص؛ الأولى: قصة موسى مع فرعون، الثانية: قصة النمل، الثالثة: قصة بلقيس، الرابعة: قصة صالح مع قومه، الخامسة: قصة لوط مع قومه، وما بقي منها حكم ومواعظ.
التسمية: وأمَّا تسميتها بسورة النمل فلذكر النمل فيها.
المناسبة: ومناسبتها لِمَا قبلها من وجوه (٣):
أولًا - أنها كالتتمة لها؛ إذ جاء فيها زيادة على ما تقدم من قصص الأنبياء قصص داود وسليمان.
ثانيًا - أن فيها تفصيلًا وبسطًا لبعض القصص السالفة كقصص لوط وموسى عليهما السلام.
ثالثًا - أن كلتيهما قد اشتمل على نعت القرآن، وأنه منزل من عند الله.
(١) القرطبي.
(٢) الناسخ والمنسوخ.
(٣) المراغي.
371
رابعًا - تسلية رسوله - ﷺ - على ما يلقاه من أذى قومه وعنتهم وإصرارهم على الكفر به والإعراض عنه.
وقال أبو حيان: مناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها واضحة (١)؛ لأنه قال في السابقة: ﴿وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ﴾ وقبله: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، وقال هنا: ﴿طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ﴾؛ أي: الذي هو تنزيل رب العالمين.
والله أعلم
* * *
(١) البحر المحييط.
372

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (١) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٨) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (١٢) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (٢٤) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (٢٥) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ
373
الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (٢٨) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١)}
المناسبة
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (١) أن المؤمنين يزيدهم القرآن هدى وبشرى؛ إذ هم به يستمسكون ويؤدون ما شرع من الأحكام على أتم الوجوه.. أردف هذا ببيان أن من لا يؤمن بالآخرة يتمادى في غيه، ويعرض عن القرآن أشد الإعراض، ومن ثم تراه حائرًا مترددًا في ضلاله فهو في عذاب شديد في دنياه؛ لتبلبله وقلقه واضطراب نفسه، وفي الآخرة له أشد الخسران؛ لما يلحقه من النكال والوبال والحرمان من الثواب والنعيم الذي يتمتع به المؤمنون.
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦)﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما وصف القرآن بأنه هدى وبشرى للمؤمنين، وأن من أعرض عنه كان له الخسران المبين.. أردف بذكر حال المنزل عليه وهو الرسول - ﷺ - مخاطبًا له.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر قصص موسى عليه السلام تقريرًا لما قبله ببيان أنه تلقاه من لدن حكيم عليم.. أردفه قصص داود وسليمان عليهما السلام، وذكر أنه آتى كلًّا منهما طائفة من علوم الدين والدنيا، فعلم داود صنعة الدروع ولبوس الحرب، وعلم سليمان منطق الطير، ثم بين أن سليمان طلب من ربه أن يوفقه إلى شكر نعمه عليه وعلى والديه، وأن يمكنه من العمل الصالح وأن يدخله جنات النعيم.
(١) المراغي.
374
قوله تعالى: ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه، لما ذكر في (١) سابق الآيات أنه سخر لسليمان الجن والإنس والطير، وجعلهم جنودًا له.. ذكر هنا أنه احتاج إلى جندي من جنوده؛ وهو الهدهد، فبحث عنه فلم يجده، فتوعده بالعذاب أو القتل إلا إذا أبدى له عذرًا يبرئه، فحضر بعد قليل وقص عليه خبر مملكة باليمن من أغنى الممالك وأقواها، تحكمها امرأة هي بلقيس ملكة سبأ، ووصف له ما لها من جلال الملك وأبهته، وأنها وقومها يعبدون الشمس لا خالق الشمس العلم بكلِّ شيء في السموات والأرض، والعليم بما نخفي وما نعلن، والعليم بالسر والنجوى، وهو رب العرش العظيم.
قوله تعالى: ﴿قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٢٧)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر أن الهدهد أبدى المعاذير لتبرئة نفسه.. أردف ذلك بإجابة سليمان عن مقالة الهدهد، ثم أمره بتبليغ كتاب منه إلى ملكة سبأ، والتنس جانبًا ليستمع ما يدور من الحديث بينها وبين خاصَّتها.
قوله تعالى: ﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه، لما ذكر فيما سلف أن الهدهد حينما ألقى الكتاب أحضرت بطانتها وأولي الرأي لديها، وقرأت عليهم نص الكتاب.. بين هنا أنها طلبت إليهم إبداء آرائهم فيما عرض عليهم من هذا الخطب المدلهم والحادث الجلل حتى ينجلي لهم صواب الرأي فيما تعمل ويعملون؛ لأنها لا تريد أن تشيد بالأمر وحدها، فقلبوا وجوه الرأي واشتد الحوار بينهم، وكانت خاتمة المطاف أن قالوا: الرأي لَدَيْنَا القتال، فإنا قوم أولو بأس ونجدةٍ، والأمر مفوض إليك فافعلي ما بدا لك، وقالت: إني أرى أن عاقبة الحرب الدمار والخراب وصيرورة العزيز ذليلًا، وإني أرى أن نهاديه ونرسل إليه بهدية، ثم ننظر ماذا يكون رده عَلَّه
(١) المراغي.
375
Icon