﴿ بسم الله ﴾ الذي له أوصاف الكمال ﴿ الرحمان ﴾ الذي وسع كل شيء رحمة وعلماً ﴿ الرحيم ﴾ الذي فصل الكتاب تفصيلاً وبينه غاية البيان.
ﰡ
تنبيه : حكم الله تعالى على هذه السورة بأشياء أولها : كونها تنزيلاً والمراد المنزل والتعبير عن المفعول بالمصدر مجاز مشهور كقولك هذا بناء الأمير أي : مبنيه وهذا الدرهم ضرب السلطان أي : مضروبه ومعنى كونها منزلة أن الله تعالى كتبها في اللوح المحفوظ وأمر جبريل عليه السلام أن يحفظ الكلمات ثم ينزل بها على محمد صلى الله عليه وسلم ويؤديها إليه، فلما حصل تفهم هذه الكلمات بواسطة جبريل عليه السلام سمي لذلك تنزيلاً.
وثانيها : كون ذلك التنزيل من الرحمان الرحيم، وذلك يدل على أن ذلك التنزيل نعمة عظيمة من الله تعالى لأن الفعل المقرون بالصفة لابد وأن يكون مناسباً لتلك الصفة، فكونه تعالى رحماناً رحيماً صفتان دالتان على كمال الرحمة والتنزيل المضاف إلى هاتين الصفتين لا بد وأن يكون دالاً على أعظم وجوه الرحمة والنعمة، والأمر كذلك لأن الخلق في هذا العالم كالمرضى والمحتاجين والقرآن مشتمل على كل ما يحتاج إليه المرضى من الأدوية وعلى ما يحتاج إليه الأصحاء من الأغذية، فكان أعظم النعم من الله تعالى على أهل هذا العالم إنزال القرآن عليه.
وثالثها : كونه كتاباً وهذا الاسم مشتق من الكتب وهو الجمع، فسمي كتاباً لأنه جمع فيه علوم الأولين والآخرين.
ورابعها : قوله تعالى ﴿ فصلت آياته ﴾ أي : ميزت وجعلت تفاصيل في معان مختلفة فبعضها وصف ذات الله تعالى وصفات التنزيه والتقديس وشرح كمال قدرته وعلمه وحكمته ورحمته وعجائب أحوال خلقه من السماوات والكواكب وتعاقب الليل والنهار وعجائب أحوال النبات والحيوان والإنسان، وبعضها في المواعظ والنصائح، وبعضها في تهذيب الأخلاق ورياضة النفس، وبعضها في قصص الأنبياء عليهم السلام وتواريخ الماضين وبالجملة فمن أنصف علم أنه ليس في بدء الخلق كتاب اجتمع فيه من العلوم المختلفة مثل ما في القرآن.
وخامسها : قوله تعالى :﴿ قرآناً ﴾ وقد مر توجيه هذا الاسم.
وسادسها : قوله تعالى :﴿ عربياً ﴾ أي : إنما نزل بلغة العرب ويؤيده قوله تعالى ﴿ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ﴾ ( إبراهيم : ٤ ).
وسابعها : قوله تعالى :﴿ لقوم يعلمون ﴾ أي : جعلناه قرآناً لأجل أنا أنزلناه على قوم عرب بلغتهم ليفهموا منه المراد.
واحتج القائلون بخلق القرآن بهذه الآية من وجوه أولها : أنه تعالى وصف القرآن بكونه منزلاً وتنزيلاً والمنزل والتنزيل مشعر بالتغيير من حال إلى حال فوجب أن يكون مخلوقاً، ثانيها : أن التنزيل مصدر هو المفعول المطلق باتفاق النحويين، ثالثها : أن المراد بالكتاب إما الكتاب وهو المصدر الذي هو المفعول المطلق وإما المكتوب الذي هو المفعول، رابعها : أن قوله تعالى :﴿ فصلت آياته ﴾ يدل على أن متصرفاً تصرف فيه بالتفصيل وذلك لا يليق بالقديم، خامسها : إنما سمي قرآناً لأنه قرن بعض أجزائه ببعض وذلك يدل على كونه مفعول فاعل ومجعول جاعل، سادسها : وصفه بكونه عربياً وإنما صحت هذه النسبة لأن هذه الألفاظ إنما دلت على هذه المعاني بحسب وضع العرب واصطلاحاتهم وما حصل بجعل جاعل وفعل فاعل فلا بد وأن يكون محدثاً ومخلوقاً. وأجاب أهل السنة بأن كل هذه الوجوه المذكورة عائدة إلى اللغات وإلى الحروف والكلمات وهي حادثة، وذهب قوم إلى أن في القرآن من سائر اللغات كالاستبرق والسجل فإنهما فارسيان والمشكاة فإنها حبشية والقسطاس فإنه من لغة الروم وهذا فاسد لقوله تعالى :﴿ قرآناً عربياً ﴾ وقوله تعالى :﴿ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ﴾ ( إبراهيم : ٤ ).
ولما قطع حجتهم وأزال علتهم تسبب عن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :﴿ فاستقيموا إليه ﴾ أي : غير معوجين أصلاً على نوع شرك بشفيع ولا غيره، وعدى بإلى لتضمنه معنى توجهوا والمعنى : وجهوا استقامتكم إليه بطاعته ولا تميلوا عن سبيله ﴿ واستغفروه ﴾ أي : اطلبوا منه غفران ذنوبكم وهو محوها عيناً وأثراً حتى لا تعاقبوا عليها ولا تعاتبوا بالندم عليها والإقلاع عنها حالاً ومآلاً، ثم هدد على ذلك فقال :﴿ وويل ﴾ كلمة عذاب أو واد في جهنم ﴿ للمشركين ﴾ أي : من فرط جهالتهم واستخفافهم بالله تعالى.
إني لعمرك ما بابي بذي غلق | على الصديق ولا أجري بممنون |
ولما ذكر كفرهم بالبعث وغيره عطف على تكفرون قوله تعالى :﴿ وتجعلون ﴾ أي : مع هذا الكفر ﴿ له أنداداً ﴾ من الخشب المنجور ومن الحجر المنحوت شركاء في المعبودية ولما بكَّتهم على قبح معتقدهم عظَّم ذلك بتعظيم شأنه سبحانه فقال تعالى :﴿ ذلك ﴾ أي : الإله العظيم ﴿ رب العالمين ﴾ أي : موجدهم ومربيهم وذلك يدل قطعاً على جميع ما له من صفات الكمال.
ولما هيأ الأرض لما يراد منها ذكر ما أودعها، وهو النوع الثاني : بقوله تعالى :﴿ وبارك فيها ﴾ أي : بما خلق من البحار والأنهار والأشجار والثمار وغير ذلك، وقال ابن عباس : يريد شق الأنهار وخلق الجبال وخلق الأشجار والنار وخلق أصناف الحيوانات وكل ما يحتاج إليه من الحيوانات. النوع الثالث : قوله تعالى :﴿ وقدر فيها أقواتها ﴾ أي : أقوات أهلها بأن عيّن لكل نوع ما يصلحه ويغني به، وقال محمد بن كعب : قدر الأقوات قبل أن يخلق الخلق والأبدان أي : أقواتاً تنشأ منها بأن خص حدوث كل قوت بقطر من أقطارها، فأضاف القوت إلى الأرض لكونه متولداً من تلك الأرض حادثاً فيها لأن النحاة قالوا : يكفي في جنس الإضافة أدنى سبب، فالشيء يضاف إلى فاعله تارة وإلى محله أخرى، أي : قدر الأقوات التي يختص حدوثها بها وذلك لأنه تعالى جعل كل بلدة معدة لنوع من الأشياء المطلوبة حتى أن أهل هذه البلدة يحتاجون إلى الأشياء المتولدة في تلك البلدة وبالعكس، فصار هذا المعنى سبباً لرغبة الناس في التجارات واكتساب الأموال لتنتظم عمارة الأرض كلها باحتياج بعضهم إلى بعض، فكان جميع ما تقدم من إبداعها وإيداعها ما ذكر من متاعها دفعة واحدة على مقدار لا يتعداه ومنهاج بديع دبره في الأزل وارتضاه وقدره فأمضاه لا ينقص عن حاجة المحتاجين أصلاً، وإنما ينقص توصلهم أو توصل بعضهم إليه فلا يجد له حينئذ ما يكفيه، وفي الأرض أضعاف كفايته.
ثم ذكر فذلكة خلق الأرض وما فيها. فقال تعالى :﴿ في أربعة أيام ﴾ أي : مع اليومين الماضيين كقولك بنيت بيتي في يوم وأكملته في يومين أي : بالأول، وقال أبو البقاء : في تمام أربعة أيام ولولا هذا التقدير لكانت ثمانية، يومان في الأول وهو قوله تعالى ﴿ خلق الأرض في يومين ﴾ ويومان في الآخر وهو قوله تعالى :﴿ فقضاهن سبع سماوات في يومين ﴾ وأربعة في الوسط وهو قوله تعالى :﴿ في أربعة أيام ﴾، فإن قيل : إنه تعالى ذكر خلق الأرض في يومين فلو ذكر أنه خلق هذه الأنواع الثلاثة الباقية في يومين آخرين كان أبعد عن الشبهة وعن الغلط فلم ترك التصريح بذكر الكلام المجمل ؟ أجيب : بأن قوله تعالى في :﴿ أربعة أيام ﴾ ﴿ سواء ﴾ أي : استوت الأربعة استواء لا يزيد ولا ينقص فيه فائدة زائدة على ما إذا قال خلقت هذه الثلاثة في يومين لأنه لو قال تعالى خلقت هذه الأشياء في يومين لا يفيد هذا الكلام كون اليومين مستغرقين بتلك الأعمال لأنه قد يقال عملت هذا العمل في يومين مع أن اليومين ما كانا مستغرقين بذلك العمل بخلافه لما ذكر خلق الأرض وخلق هذه الأشياء، ثم قال :﴿ في أربعة أيام سواء ﴾ دل على أن هذه الأيام الأربعة صارت مستغرقة في تلك الأعمال من غير زيادة ولا نقصان.
ولم يفعل تعالى ذلك في أقل من لمح البصر مع تمام القدرة عليه لأن هذا أدل على الاختيار وأدخل في الابتلاء والاختبار ليضل به كثيراً ويهدي به كثيراً فيكون أعظم لأجورهم لأنه أدل على تسليمهم، وجعل مدة خلقها ضعف مدة خلق السماوات مع كونها أصغر من السماوات دلالة على أنها هي المقصودة بالذات لما فيها من الثقلين الإنس والجن، فزادت لما فيها من كثرة المنافع وتباين أصناف الأعراض والجواهر لأن ذلك أدخل في المنة على سكانها والاعتناء بشأنهم وشأنها وزادت أيضاً لما فيها من الابتلاء بالمعاصي والمجاهدات والمجادلات والمعالجات كل ذلك دلالة على أن المدة ما هي لأجل القدرة بل لأجل التنبيه على ما في القدرة من المقدور وعجائب الأمور.
قال البقاعي : ولعل تخصيص السماء بقصر المدة دون العكس لإجراء أمرها على ما نتعارفه من أن بناء السقف أخف من بناء البيت، تنبيهاً على أنه بنى أمر دارنا هذه على الأسباب تعليماً للتأني وتدريباً للسكينة والبعد عن العجلة، وقوله تعالى :﴿ للسائلين ﴾ فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه متعلق بسواء بمعنى مستويات للسائلين، ثانيها : أنه متعلق بقدر أي : قدر فيها أقواتها لأجل الطالبين لها المحتاجين المقتاتين، ثالثها : أنه متعلق بمحذوف، كأنه قيل : هذا الحصر لأجل من سأل في كم خلقت الأرض وما فيها.
أجيب : بأن المشهور أنه تعالى خلق الأرض أولاً ثم خلق بعدها السماوات ثم بعد خلق السماء دحا الأرض ومدها حينئذ فلا تناقض، قال الرازي : وهذا الجواب مشكل لأن الله تعالى خلق الأرض في يومين، ثم إنه في اليوم الثالث جعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها، وهذه الأحوال لا يمكن إدخالها في الوجود إلا بعد أن صارت الأرض منبسطة، ثم إنه تعالى قال بعد ذلك ثم استوى إلى السماء فهذا يقتضي أن الله تعالى خلق السماء بعد خلق الأرض وبعد أن جعلها مدحوة وحينئذ يعود السؤال ثم قال : والمختار عندي أن يقال : خلق السماء مقدم على خلق الأرض وتأويل الآية أن يقال الخلق ليس عبارة عن التكوين والإيجاد والدليل عليه قوله تعالى :﴿ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ﴾ ( آل عمران : ٥٩ ) فلو كان الخلق عبارة عن الإيجاد والتكوين لصار تقدير الآية أوجده من تراب ثم قال له كن فيكون وهذا محال، فثبت أن الخلق ليس عبارة عن الإيجاد والتكوين بل عبارة عن التقدير، والتقدير في حق الله تعالى هو : كلمته بأن سيوجده، وإذا ثبت هذا فنقول قوله تعالى :﴿ خلق الأرض في يومين ﴾ : معناه : أنه قضى بحدوثها في يومين وقضاء الله تعالى أنه سيحدث كذا في مدة كذا لا يقتضي حدوث ذلك الشيء في الحال فقضاء الله تعالى بحدوث الأرض في يومين قد تقدم على إحداث السماء حينئذ يزول السؤال. ﴿ فقال لها ﴾ أي : السماء عقب الاستواء ﴿ وللأرض ائتيا ﴾ أي : تعاليا وأقبلا منقادتين وقوله تعالى :﴿ طوعاً أو كرهاً ﴾ مصدران في موضع الحال أي : طائعتين أو كارهتين ﴿ قالتا أتينا ﴾ أي : نحن وما فينا وما بيننا ﴿ طائعين ﴾ أي : أتينا على الطوع لا على الكره، والغرض تصوير أثر قدرته في المقدورات لا غير من غير أن يحقق شيئاً من الخطاب والجواب، ونحو ذلك قول القائل : قال الجدار للوتد لم تشقني قال الوتد سل من يدقني، فإن قيل : هلا قال طائعتين على اللفظ أو طائعات على المعنى لأنهما سماوات وأرضون ؟ أجيب : بأنه لما جعلهن مخاطبات ومجيبات ووصفهن بالطوع والكره قال : طائعين في موضع طائعات نحو قوله ساجدين.
تنبيه : جمع الأمر لهما في الإخبار لا يدل على جمعه في الزمان بل قد يكون القول لهما متعاقباً، فإن قيل : إن الله تعالى أمر السماء والأرض فأطاعتا كما أن الله تعالى أنطق الجبال مع داود عليه السلام فقال تعالى :﴿ يا جبال أوّبي معه والطير ﴾ ( سبأ : ١٠ ) وأنطق الأيدي والأرجل فقال تعالى :﴿ يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ﴾ ( النور : ٢٤ ) وقوله تعالى :﴿ وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء ﴾ ( فصلت : ٢١ ) وإذا كان كذلك فكيف يستبعد أن يخلق الله تعالى في ذات السماوات والأرض حياة وعقلاً ثم يوجه الأمر والتكليف عليهما ؟.
ووجه هذا بوجوه ؛ الأول : أن الأصل حمل اللفظ على ظاهره إلا أن يمنع منه مانع وههنا لا مانع، الثاني : أنه تعالى جمعها جمع العقلاء فقال تعالى :﴿ قالتا آتينا طائعين ﴾ الثالث : قوله تعالى :﴿ إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ﴾ ( الأحزاب : ٧٢ ) وهذا يدل على كونها عارفة بالله تعالى عالمة بتوجه تكليف الله تعالى، وأجاب الرازي عن هذا : بأن المراد من قوله تعالى :﴿ ائتيا طوعاً أو كرهاً ﴾ الاتيان إلى الوجود والحدوث والحصول وعلى هذا التقدير، فحال توجه هذا الأمر كانت السماوات والأرض معدومة إذ لو كانت موجودة لم يجز، فثبت أن حال توجه هذا الأمر كانت السماوات والأرض معدومة وإذا كانت معدومة لم تكن عارفة ولا فاهمة للخطاب فلم يجز توجه الأمر إليها.
فإن قيل : روى مجاهد وطاوس عن ابن عباس أنه قال : قال الله للسماوات والأرض : أخرجا ما فيكما من المنافع لمصالح العباد أما أنت يا سماء فاطلعي شمسك وقمرك ونجومك، وأنت يا أرض فشقي أنهارك وأخرجي ثمارك ونباتك وقال لهما : افعلا ما أمرتكما طوعاً وإلا ألجأتكما إلى ذلك حتى تفعلاه، وعلى هذا لا يكون المراد من قوله ﴿ أتينا طائعين ﴾ حدوثهما في ذاتهما. بل يصير المراد من هذا الأمر أن يظهر ما كان مودعاً فيهما ؟ أجيب : بأن هذا لم يثبت لأنه تعالى قال :﴿ فقضاهن سبع سماوات ﴾.
تنبيه : الضمير للسماء على المعنى كما قال تعالى :﴿ طائعين ﴾ ونحوه ﴿ أعجاز نخل خاوية ﴾ ( الحاقة : ٧ ) ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً مفسراً بسبع سماوات، وسبع سماوات حال على الأول، وتمييز على الثاني، وقوله تعالى :﴿ في يومين ﴾ قال أهل الأثر : إن الله تعالى خلق الأرض يوم الأحد والاثنين وخلق سائر ما في الأرض يوم الثلاثاء والأربعاء وخلق السماوات وما فيها في يوم الخميس والجمعة وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة فخلق آدم عليه السلام وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة، ولذلك لم يقل هنا سواء ووافق هذا آيات خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وعن ابن عباس رضي الله عنه :«أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن خلق السماوات والأرض فقال : خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال وما فيهن من المنافع يوم الثلاثاء، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمعايش والعمران والخراب فهذه أربعة، وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة إلى ثلاث ساعات بقين منه فخلق في أول ساعة من هذه الثلاثة الآجال حتى يموت من مات، وفي الثانية ألقى الآفة على كل شيء مما ينتفع به، وفي الثالثة خلق آدم فأسكنه الجنة وأمر إبليس بالسجود له وأخرجه منها في آخر ساعة قالت اليهود : ثم ماذا يا محمد ؟ قال : ثم استوى على العرش قالوا : قد أصبت لو أتممت قالوا : ثم استراح، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً فنزل ﴿ ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسّنا من لغوب ( ٣٨ ) فاصبر على ما يقولون ﴾ ( ق : ٣٨ ٣٩ )، فإن قيل : اليوم عبارة عن النهار والليل وذلك إنما يحصل بطلوع الشمس وغروبها وقبل حدوث السماوات والشمس والقمر كيف يعقل حصول اليوم ؟.
أجيب : بأن معناه أنه مضى من المدة ما لو حصل هناك فلك وشمس لكان المقدار مقدار اليوم كما مر، وقضاء الشيء إتمامه والفراغ منه قال ابن جرير : وإنما سمي الجمعة لأن الله تعالى جمع فيه خلق آدم وخلق السماوات والأرض أي : فرغ من ذلك وأتمه ﴿ فأوحى ﴾ أي : ألقى بطريق خفي وحكم بثبوت قوي ﴿ في كل سماء أمرها ﴾ أي : الأمر الذي دبرها ودبر منافعها به على نظام محكم لا يختل وزمام مبرم لا ينحل، وقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما : خلق في كل سماء خلقها من الملائكة وما فيها من البحار وجبال البرد وما لا يعلمه إلا الله تعالى. وقال السدي : يعني خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها ولله في كل سماء بيت تحج إليه وتطوف به الملائكة كل واحد منها مقابل للكعبة بحيث لو وقعت منه حصاة لوقعت على الكعبة.
ولما عم خص التي تلينا إشارة إلى تشريفنا فقال تعالى صارفاً القول إلى مظهر العظمة تنبيهاً على ما في هذه الآية من العظم ﴿ وزينا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ السماء الدنيا ﴾ أي : القربى إليكم لأجلكم ﴿ بمصابيح ﴾ وهي النيرات التي خلقها الله في السماوات وخص كل واحدة بضوء معين وسير معين وطبيعة معينة لا يعلمها إلا الله تعالى ولا ينافي كون الدنيا مزينة بذلك أن تكون النجوم في غيرها مما هو أعلى منها لأن السياق دل على أنها زينة.
وقوله تعالى :﴿ وحفظاً ﴾ في نصبه وجهان ؛ أحدهما : أنه منصوب على المصدر بفعل مقدر أي : وحفظناها بالثواقب من الكواكب حفظاً، والثاني : أنه مفعول من أجله على المعنى فإن التقدير : وخلقنا الكواكب زينة وحفظاً قال أبو حيان : وهو تكلف وعدول عن السهل البين، والمعنى : وحفظناها من الشياطين الذين يسترقون السمع بالشهب أو من الآفات ﴿ ذلك ﴾ أي : الأمر الرفيع والشأن البديع ﴿ تقدير العزيز ﴾ أي : الذي لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء، ﴿ العليم ﴾ أي : المحيط علماً بكل شيء فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة والعليم إشارة إلى كمال العلم.
كما حكى الله تعالى عن الشيطان ﴿ لآتينّهم من بين أيديهم ومن خلفهم ﴾ ( الأعراف : ١٧ ) أي : لآتينهم من كل جهة، عن الحسن : أنذروهم من وقائع الله تعالى فيمن قبلهم من الأمم وعذاب الآخرة لأنهم إذا حذروهم ذلك فقد جاؤوهم بالوعظ من جهة الزمن الماضي وما جرى فيه على الكفار ومن جهة المستقبل وما سيجري عليهم، وأتوهم مقبلين عليهم ومدبرين عنهم، وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار الذال عند الجيم وأدغمها الباقون. ﴿ أن ﴾ أي : بأن ﴿ لا تعبدوا إلا الله ﴾ أي : الذي له صفات الكمال جميعاً ﴿ قالوا ﴾ أي : الكفار لرسلهم ﴿ لو شاء ربنا ﴾ الذي ربانا أحسن تربية أن يرسل إلينا رسولاً ﴿ لأنزل ﴾ إلينا ﴿ ملائكة ﴾ فأرسلهم إلينا بما يريده منا لكنه لم يرسل ملائكة فلم يشأ أن يرسل رسولاً ﴿ فإنا بما ﴾ أي : بسبب ما ﴿ أرسلتم به ﴾ أي : على زعمكم بأنكم رسل ﴿ كافرون ﴾ إذ أنتم بشر مثلنا لا فضل لكم علينا.
روي :«أن أبا جهل قال في ملأ قريش : التبس علينا أمر محمد فلو التمستم لنا رجلاً عالماً بالسحر والشعر والكهانة وكلمه ثم أتانا ببيان من أمره، فقال عتبة بن ربيعة : والله لقد علمت الشعر والسحر والكهانة وعلمت من ذلك علماً وما يخفى علي، فأتاه فقال له : يا محمد أنت خير أم هاشم، أنت خير أم عبد المطلب، أنت خير أم عبد الله، فلم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا ؟ فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك اللواء فكنت رئيسنا، وإن كنت أردت الباء زوجناك عشر نسوة تختارهن من أي بنات قريش شئت، وإن كنت تريد المال جمعنا لك ما تستعين به على ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت فلما فرغ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرغت ؟ قال : نعم قال : فاسمع ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم تعوذ ثم قرأ بسم الله الرحمان الرحيم ﴿ حم تنزيل من الرحمان الرحيم كتاب فصلت آياته ﴾ إلى أن بلغ قوله تعالى ﴿ فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ﴾ فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم إلا ما سكت، ثم رجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش فلما احتبس عنهم قالوا : ما نرى عتبة إلا قد صبأ فانطلقوا إليه وقالوا : يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك قد صبأت إلى محمد وأعجبك طعامه، فإن كان بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد فغضب عتبة وأقسم لا يكلم محمداً أبداً، وقال : والله لقد علمتم أني من أكثر قريش مالاً ولكني أتيته وقصصت عليه القصة وجاءني بشيء والله ما هو شعر ولا كهانة ولا سحر وقرأ السورة إلى قوله تعالى ﴿ فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ﴾ فأمسكت بفيه وناشدته الرحم حتى سكت، ولقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب فخفت أن ينزل عليكم العذاب ».
وفي رواية لمحمد بن كعب أنه قال : إني سمعت قرآناً والله ما سمعت بمثله قط ما هو شعر ولا سحر ولا كهانة يا معشر قريش أطيعوني، خلوا بينكم وبين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه والله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظفر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وأنتم أسعد الناس به، قالوا : سحرك والله يا أبا لوليد بلسانه قال : هذا رأي لكم فاصنعوا ما بدا لكم.
وعن عبد الله بن عباس أنه قال : الرياح ثمان : أربع منها عذاب : وهي العاصفة والصرصر والعقيم والقاصف، وأربع منها رحمة : وهي المبشرات والناشرات والمرسلات والذاريات، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله تعالى ما أرسل على عاد من الريح إلا قدر خاتمي، وفعلنا ذلك بهم ﴿ لنذيقهم عذاب الخزي ﴾ أي : الذل والهوان ﴿ في الحياة الدنيا ﴾ كما استكبروا في الأرض بغير الحق فيذبلوا عند من تعظموا عليه في الدار التي اغتروا بها فتعظموا فيها، فإن ذلك أدل على القدرة عند من تقيد بالوهم ﴿ ولعذاب الآخرة ﴾ أي : الذي أعد للمتكبرين في الآخرة بغير الحق ﴿ أخزى ﴾ أي : أشد إهانة، وهو في الأصل صفة المعذب، وإنما وصف به العذاب على الإسناد المجازي للمبالغة ﴿ وهم لا ينصرون ﴾ أي : لا يوجد ولا يتجدد لهم نصر أبداً بوجه من الوجوه.
فإن قيل : أليس معنى هديته حصلت فيه الهدى والدليل عليه قولك : هديته فاهتدى، وبمعنى تحصيل البغية وحصولها كما تقول ردعته فارتدع، فكيف ساغ استعماله في الدلالة المجردة ؟ أجيب : بأنه لما مكنهم وأزاح عللهم ولم يبق لهم عذراً ولا علة فكأنه حصل البغية فيهم بتحصيل ما يوجبها ويقتضيها.
﴿ فأخذتهم صاعقة العذاب ﴾ أي : بسبب ذلك أخذ قهر وهوان ﴿ الهون ﴾ أي : ذي الهوان وهو الذي يهينهم ﴿ بما كانوا ﴾ أي : دائماً ﴿ يكسبون ﴾ أي : من شركهم وتكذيبهم صالحاً عليه السلام.
وجاء في الحديث الصحيح «أن الله تعالى رفع عن هذه الأمة هذه الأنواع » ؟ أجيب : بأنهم لما عرفوا كونهم مشاركين لعاد وثمود في الكفر عرفوا كونهم مشاركين لعاد وثمود في استحقاق مثل تلك الصاعقة، وأن السبب الموجب للعذاب واحد وربما يكون العذاب النازل من جنس ذلك العذاب وإن كان أقل درجة وهذا القدر يكفي في التخويف.
تنبيه : في كيفية تلك الشهادة ثلاثة أقوال ؛ أولها : أن الله تعالى يخلق الفهم والقدرة والنطق فيها فتشهد كما يشهد الرجل على ما يعرفه، ثانيها : أنه تعالى يخلق في تلك الأعضاء الأصوات والحروف الدالة على تلك المعاني، ثالثها : أن يظهر في تلك الأعضاء أحوالاً تدل على صدور تلك الأعمال من ذلك الإنسان وتلك الأمارات تسمى شهادات كما يقال يشهد هذا العالم بتغيرات أحواله على حدوثه.
فإن قيل : ما السبب في تخصيص هذه الأعضاء الثلاثة بالذكر مع أن الحواس خمسة وهي السمع والبصر والشم والذوق واللمس ؟ أجيب : بأن الذوق داخل في اللمس من بعض الوجوه لأن إدراك الذوق إنما يتأتى بأن تصير جلدة اللسان مماسة لجرم الطعام، وكذلك الشم لا يتأتى حتى يصير جلدة الأنف مماسة لجرم المشموم فكانا داخلين في جنس اللمس، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : المراد من شهادة الجلود شهادة الفروج وهو من باب الكنايات كما قال تعالى :﴿ لا تواعدوهن سراً ﴾ ( البقرة : ٢٣٥ ) وأراد النكاح وقال تعالى :﴿ أو جاء أحد منكم من الغائط ﴾ ( النساء : ٤٣ ) والمراد قضاء الحاجة وقال صلى الله عليه وسلم :«أول ما يتكلم من الآدمي فخذه وكفه » وعلى هذا التقدير تكون الآية وعيداً شديداً في إتيان الزنا لأن مقدمة الزنا إنما تحصل بالفخذ، وقال مقاتل : تنطق جوارحهم بما كتمت الأنفس من عملهم وعن أنس بن مالك قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال :«هل تدرون مم أضحك ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم، قال : من مخاطبة العبد ربه فيقول يا رب ألم تجرني من الظلم فيقول : بلى قال فيقول فإني لا أجيز اليوم على نفسي إلا شاهداً مني قال فيقول : كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً وبالكرام الكاتبين عليك شهوداً قال فيختم على فيه ويقال لأركانه انطقي فتنطق بأعماله ثم يخلي بينه وبين الكلام فيقول بعداً لَكُنَّ وسحقاً فعنكنَّ كنت أناضل ».
تنبيه : اختلف في قوله تعالى :﴿ وهو خلقكم ﴾ الآية فقيل : هو من كلام الجلود وقيل : هو من كلام الله تعالى كالذي بعده وموقعه تقريب ما قبله بأن القادر على إنشائكم ابتداءً وعلى إعادتكم بعد الموت أحياءً قادر على إنطاق جلودكم وأعضائكم.
روي عن ابن مسعود قال :«كنت مستتراً بأستار الكعبة فدخل ثلاثة نفر، ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم، فقال أحدهم : أترون الله يسمع ما نقول فقال الآخر : يسمع إن جهرنا، وقال الآخر : إن كان يسمع إذا جهرنا يسمع إذا أخفينا فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى ﴿ وما كنتم تستترون ﴾ الآية قيل : الثقفي عبد ياليل وختناه القرشيان ربيعة وصفوان بن أمية.
ولما كان الصباح محل رجاء للإفراج فكان شر الإتراح ما كان فيه، قال تعالى ﴿ فأصبحتم ﴾ أي : بسبب ما أعطيتموه من النعم لتستنقذوا أنفسكم به من الهلاك، كان سبب هلاككم ﴿ من الخاسرين ﴾ أي : العريقين في الخسارة المحكوم بخسارتهم في جميع ذلك اليوم.
قال المحققون : الظن قسمان أحدهما : حسن، والآخر : فاسد، فالحسن، أن يظن بالله تعالى الرحمة والفضل والإحسان قال صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى :«أنا عند ظن عبدي بي ». وقال صلى الله عليه وسلم :«لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله ».
والظن الفاسد أن يظن أن الله تعالى يعزب عن علمه بعض هذه الأحوال. وقال قتادة : الظن نوعان : منجي ومردي، فالمنجي : قوله :﴿ إني ظننت أني ملاق حسابيه ﴾ ( الحاقة : ٢٠ ) وقوله تعالى :﴿ الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون ﴾ ( البقرة : ٤٦ ) والمردي : هو قوله تعالى :﴿ وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرادكم ﴾.
وروي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إذا أراد الله بعبد شراً قيض له قبل موته شيطاناً فلا يرى حسناً إلا قبحه عنده ولا قبيحاً إلا حسنه عنده ». وعن عائشة : إذا أراد الله بالوالي خيراً قيض له وزير صدق إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه، وإن أراد غير ذلك جعل له وزير سوء إن نسي لم يذكره وإن ذكر لم يعنه، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله تعالى ».
تنبيه : في الآية دلالة على أنه تعالى يريد الكفر من الكافرين لأنه تعالى قيض لهم قرناء سوء فزينوا لهم الباطل، وهذا يدل على أنه تعالى أراد منهم الكفر ولكن لا يرضاه كما قال تعالى :﴿ ولا يرضى لعباده الكفر ﴾ ( الزمر : ٧ ). ﴿ وحق ﴾ أي : وجب وثبت ﴿ عليهم القول ﴾ أي : كلمة العذاب، وقرأ أبو عمرو في الوصل بكسر الهاء والميم، وحمزة والكسائي بضم الهاء والميم، والباقون بكسر الهاء وضم الميم وقوله تعالى :﴿ في أمم ﴾ محله نصب على الحال من الضمير في عليهم أي : حق عليهم القول كائنين في جملة أمم كثيرة، وفي بمعنى مع ﴿ قد خلت ﴾ أي : لم تتعظ أمة منهم بالأخرى ﴿ من قبلهم ﴾ أي : في الزمان ﴿ من الجن والأنس ﴾ قد عملوا مثل أعمالهم، وقوله تعالى :﴿ إنهم ﴾ أي : جميع المذكورين منهم وممن قبلهم ﴿ كانوا خاسرين ﴾ تعليل لاستحقاقهم العذاب.
وقال البيضاوي : هو كقولك في هذه الدار دار سرور يعني بالدار عينها على أن المقصود هو الصفة قال ابن عادل : في هذا نظر إذ الظاهر وهو معنى صحيح منقول أن في النار داراً تسمى دار الخلد والنار محيطة بها وهذا أولى، وقوله تعالى :﴿ جزاءً ﴾ منصوب بالمصدر الذي قبله وهو ﴿ جزاء أعداء الله ﴾ والمصدر ينصب بمثله كقوله تعالى :﴿ فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفوراً ﴾ ( الإسراء : ٦٣ ) ﴿ بما كانوا بآياتنا ﴾ أي : على ما لنا من العظمة ﴿ يجحدون ﴾ أي : يلغون في القراءة وسماه جحداً لأنهم لما علموا أن القرآن بالغ إلى حد الإعجاز خافوا من أنه لو سمعه الناس لآمنوا فاستخرجوا تلك الطريقة الفاسدة، وذلك يدل على أنهم علموا كونه معجزاً وأنهم جحدوا حسداً.
سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن الاستقامة فقال : أن لا تشرك بالله شيئاً، وقال عمر رضي الله عنه، الاستقامة : أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعلب. وقال عثمان رضي الله عنه : أخلصوا العمل لله، وقال علي رضي الله عنه : أدوا الفرائض، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : استقاموا على أمر الله تعالى بطاعته واجتنبوا معصيته، وقال مجاهد وعكرمة : استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى لحقوا بالله، وقال قتادة : كان الحسن إذا تلا هذه الآية قال : اللهم ربنا ارزقنا الاستقامة، وقال سفيان بن عبد الله الثقفي : قلت : يا رسول الله أخبرني بأمر أعتصم به قال :«قل ربي الله ثم استقم فقلت : ما أخوف ما تخاف علي، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه فقال : هذا ». قال أبو حيان : قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه.
﴿ تتنزل عليهم الملائكة ﴾ قال ابن عباس : عند الموت وقال قتادة : إذا قاموا من قبورهم، وقال وكيع بن الجراح : البشرى : تكون في ثلاثة مواطن عند الموت وفي القبر وعند البعث وهي ﴿ ألا تخافوا ﴾ قال مجاهد : لا تخافوا مما تقدمون عليه من أمر الآخرة ﴿ ولا تحزنوا ﴾ على ما خلفتم من أهل وولد فإنا نخلفكم في ذلك كله، وقال عطاء بن أبي رباح : لا تخافوا من ذنوبكم ولا تحزنوا فإني أغفرها لكم، والخوف غم يلحق لتوقع المكروه، والحزن يلحق لوقوعه من فوات نافع أو حصول ضار، والمعنى أن الله تعالى كتب لكم الأمن من كل غم فلن تذوقوه أبداً.
تنبيه : يجوز في أن : أن تكون المخففة أو المفسرة أو الناصبة، ولا ناهية على الوجهين الأولين، ونافية على الثالث ﴿ وأبشروا ﴾ أي : املؤوا صدوركم سروراً يظهر أثره على بشرتكم بتهلل الوجه ويعم سائر الجسد ﴿ بالجنة التي كنتم ﴾ أي : كوناً عظيماً على ألسنة الرسل عليهم السلام ﴿ توعدون ﴾ أي : يتجدد لكم ذلك كل حين بالكتب والرسل.
تنبيه : فيما ذكر دلالة على أن المؤمن عند الموت وفي القبر وعند البعث يكون فارغاً من الأهوال والفزع الشديد.
فإن قيل : البشارة عبارة عن الخبر الأول بحصول المنافع فأما إذا أخبر الشخص بحصول المنفعة ثم أخبر ثانياً بحصولها كان الإخبار الثاني إخباراً ولا يكون بشارة والمؤمن قد يسمع بشارات الخير فإذا سمع المؤمن هذا الخبر من الملائكة وجب أن يكون هذا إخباراً ولا يكون بشارة فما السبب في تسمية هذا الخبر بشارة ؟ أجيب : بأن المؤمن قد يسمع بشارات الخير ولم يعلم بأن له الجنة فيكون ذلك بشارة، أما إذا علم أنه من أهل الجنة بإخبار نبي فإنه إذا سمع هذا الكلام من الملائكة فإنه يكون إخباراً.
قال السدي : تقول الملائكة عليهم السلام : نحن الحفظة الذين كنا معكم في الدنيا ونحن أولياؤكم في الآخرة. أي : لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة ﴿ ولكم فيها ﴾ أي : في الآخرة أي : في الجنة وقبل دخولها في جميع أوقات المحشر ﴿ ما تشتهي ﴾ ولو على أدنى وجوه الشهوات، كما يرشد إليه حذف المفعول ﴿ أنفسكم ﴾ من اللذائذ لأجل ما منعتموها من الشهوات في الدنيا ﴿ ولكم فيها ﴾ أي : في الآخرة ﴿ ما تدعون ﴾ أي : تتمنون من الدعاء بمعنى الطلب وهو أعم من القول.
ولما كان من وحُوسب عُذِّب فلا يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله تعالى، أشار إلى ذلك بقوله تعالى :﴿ من ﴾ أي : كائن ذلك النزل من ﴿ غفور ﴾ له صفة المحو للذنوب عيناً وأثراً على غاية لا يمكن وصفها ﴿ رحيم ﴾ أي : بالغ الرحمة وهو الله تعالى.
تنبيه : في لا الثانية وجهان : أحدهما : أنها زائدة للتأكيد كقوله تعالى :﴿ ولا الظل ولا الحرور ﴾ ( فاطر : ٢١ ) لأن الاستواء لا يكتفي بواحد، الثاني : أنها مؤسسة غير مؤكدة، إذ المراد بالحسنة والسيئة الجنس، إذ لا تستوي الحسنات في أنفسها فإنها متفاوتة ولا تستوي السيئات أيضاً فرب واحدة أعظم من أخرى وهو مأخوذ من كلام الزمخشري ﴿ ادفع ﴾ كل ما يمكن أن يضرك من نفسك ومن الناس ﴿ بالتي ﴾ أي : بالخصال والأحوال التي ﴿ هي أحسن ﴾ على قدر الإمكان من الأعمال الصالحات والعفو عن المسيء حسن والإحسان إليه أحسن منه.
﴿ فإذا الذي بينك وبينه عداوة ﴾ عظيمة فاجأته حال كونه ﴿ كأنه ولي ﴾ أي : قريب فاعل ما يفعله القريب ﴿ حميم ﴾ أي : في غاية القرب لا يدع مهماً إلا قضاه وسهله ويسره وشفى علله وقرب بعيده وأزال درنه كما يزيل الماء الحار الوسخ، وقيل : نزلت في أبي سفيان بن حرب وكان عدواً مؤذياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وصار ولياً مصافياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما ثبت أنه تعالى المنفرد بالخلق قال سبحانه :﴿ لا تسجدوا للشمس ﴾ التي هي من أعظم أوثانكم وأعاد النافي تأكيداً فقال :﴿ ولا للقمر ﴾ فإنهما دالان على وجود الإله مخلوقان مسخران فلا ينبغي السجود لهما لأن السجود عبارة عن نهاية التعظيم وهو لا يليق إلا بالذي أوجدهما من العدم كما قال تعالى :﴿ واسجدوا لله ﴾ أي : الذي له كل كمال من غير شائبة نقص.
واختلف في عود الضمير في قوله تعالى :﴿ الذي خلقهن ﴾ على أوجه ؛ أولاها : عوده للآيات الأربع كما جرى عليه الجلال المحلي، وقيل : يرجع لليل والنهار والشمس والقمر، قال الزمخشري : لأن حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى والإناث، يقال : الأقلام بريتها وبريتهن، وناقشه أبو حيان من حيث إنه لم يفرق بين جمع القلة والكثرة في ذلك لأن الأفصح في جمع القلة أن يعامل معاملة الإناث وفي جمع الكثرة أن يعامل معاملة الأنثى، والأفصح أن يقال : الأجذاع كسرتهن والجذوع كسرتها، وأجاب بعضهم : بأن الزمخشري ليس في مقام بيان الفصيح من الأفصح بل في مقام كيف يجيء الضمير ضمير إناث بعد تقدم ثلاثة أشياء مذكرات وواحد مؤنث والقاعدة تغليب المذكر على المؤنث، وقال البغوي : إنما قال خلقهن بالتأنيث لأنه أجراها على طريق جمع التكسير ولم يجر على طريق التغليب للمذكر على المؤنث.
ولما ظهر أن الكل عبيده وكان السيد لا يرضى بإشراك عبده عبداً آخر في عبادة سيده قال تعالى :﴿ إن كنتم إياه ﴾ أي : خاصة بغاية الرسوخ ﴿ تعبدون ﴾ كما هو صريح قولكم في الدعاء في وقت الشدائد لاسيما في البحر، وفي الآية إشارة إلى الحث على صيانة الآدميين على أن يقع منهم سجود لغيره رفعاً لمقامهم عن أن يكونوا ساجدين لمخلوق بعد أن كانوا مسجوداً لهم، فإنه تعالى أمر الملائكة عليهم السلام الذين هم من أشرف خلقه بالسجود لآدم عليه السلام وهم في ظهره فتكبر إبليس فأبَّد لعنته إلى يوم القيامة.
تنبيه : اختلف في مكان السجدة فقيل : هو عند قوله تعالى :﴿ إياه تعبدون ﴾ وهو قول ابن مسعود والحسن رضي الله عنهما حكاه الرافعي عن أبي حنيفة وأحمد رضي الله تعالى عنهما لأنه ذكر السجدة قبيله، والصحيح عند الشافعي رضي الله تعالى عنه عند قوله تعالى ﴿ لا يسأمون ﴾ وهو قول ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب وقتادة وحكاه الزمخشري عن أبي حنيفة رضي الله عنه لأن عنده تم الكلام.
وهو خلاف وصفها بالاهتزاز والربو، كما قال تعالى :﴿ فإذا أنزلنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ عليها الماء ﴾ من الغمام أو غيره ﴿ اهتزت ﴾ أي : تحركت حركة عظيمة كثيرة سريعة فكان كمن يعالج ذلك بنفسه ﴿ وربت ﴾ أي : تشققت فارتفع ترابها وخرج منها النبات وسما في الجو مغطياً لوجهها وتشعبت عروقه وغلظت سوقه فصار يمنع سلوكها على ما كانت فيه من السهولة وتزخرفت بذلك النبات كأنها بمنزلة المختال في زيه بعدما كانت قبل ذلك كالذليل الكاسف البال في الأطمار الرثة، وقرأ السوسي : ترى الأرض في الوصل بالإمالة بخلاف منه، والباقون بالفتح، وفي الوقف أمال محضة أبو عمرو وحمزة والكسائي، وورش بين بين، والباقون بالفتح، ثم استدل بذلك على القدرة على البعث فقال تعالى :﴿ إن الذي أحياها ﴾ أي : بما أخرج من نباتها بعد أن كانت ميتة ﴿ لمحيي الموتى ﴾ كما فعل بالنبات من غير فرق ﴿ إنه على كل شيء قدير ﴾ فهو قادر على إحياء الأرض بعد موتها وعلى إحياء هذه الأجساد بعد موتها لأن الممكنات بالنسبة إلى القدرة متساوية فالقادر قدرة تامة على شيء منها قادر على غيره.
فائدة : أم في الرسم مقطوعة وقوله تعالى :﴿ اعملوا ما شئتم ﴾ أي : فقد علمتم مصير المسيء والمحسن تهديد فمن أراد شيئاً من الجزاءين فليعمل أعمله فإنه ملاقيه، وقوله تعالى ﴿ إنه بما تعملون ﴾ أي : في كل وقت ﴿ بصير ﴾ أي : عالم بأعمالكم فيه، وعيد بالمجازاة.
وقوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم :﴿ قل هو ﴾ أي : هذا القرآن ﴿ للذين آمنوا ﴾ أي : أردنا وقوع الإيمان منهم ﴿ هدى ﴾ أي : بيان لكل مطلوب ﴿ وشفاء ﴾ أي : لما في صدورهم من داء الكفر والهوى وقيل : من الأوجاع والأسقام متعلق كما قال الرازي بقولهم :﴿ وقالوا قلوبنا في أكِنّة مما تدعونا إليه ﴾ ( فصلت : ٥ ) الآية كأنه تعالى يقول هذا الكلام أرسلته إليكم بلغتكم لا بلغة أجنبية عنكم، فلا يمكنكم أن تقولوا قلوبنا في أكنة منه بسبب جهلنا هذه اللغة فكل من أعطاه الله تعالى طبعاً مائلاً إلى الحق وقلباً داعياً إلى الصدق فإن هذا القرآن يكون في حقه هدى وشفاء، وأما من غرق في بحر الخذلان وشغف بمتابعة الشيطان فهو في ظلمة وعمى كما قال تعالى :﴿ والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر ﴾ أي : ثقل فلا يسمعون سماعاً ينفعهم ﴿ وهو عليهم عمى ﴾ فلا يبصرون الداعي حق الإبصار، ثم قال الرازي : وكل من أنصف علم أن التفسير على هذا الوجه الذي ذكرناه أولى مما ذكروه، أي : أنه متعلق بما قبله لأن السورة تصير بذلك من أولها إلى آخرها كلاماً واحداً منتظماً مسوقاً لغرض واحد انتهى.
ولما بين بهذا بعدهم عن عليائه وطردهم عن فنائه قال تعالى :﴿ أولئك ﴾ أي : البعداء البغضاء مثالهم مثال من ﴿ ينادون ﴾ أي : يناديهم من يريد نداءهم غير الله تعالى ﴿ من مكان بعيد ﴾ أي : هم كالمنادي من مكان بعيد لا يسمع ولا يفهم ما ينادى به.
أحدهما قوله تعالى :﴿ وما تخرج من ثمرات ﴾ أي : في وقت من الأوقات، وقرأ نافع وابن عامر وحفص بألف بعد الراء جمعاً، والباقون بغير ألف إفراداً وقوله تعالى :﴿ من أكمامها ﴾ جمع كم وكمامة، قال البقاعي تبعاً للزمخشري : بالكسر فيهما وهو وعاء الطلع وكل ما غطى على وجه الإحاطة شيئاً من شأنه أن يخرج فهو كم، وقال الراغب : الكم ما يغطي البدن من القميص وما يغطي الثمرة وجمعه أكمام وهذا يدل على أنه مضموم الكاف أو جعله مشتركاً بين كم القميص وكم الثمرة، ولا خلاف في كم القميص أنه بالضم فيجوز أن يكون في وعاء الثمرة لغتان دون كم القميص جمعاً بين القولين.
والمثال الثاني قوله تعالى :﴿ وما تحمل من أنثى ﴾ حملاً ناقصاً أو تاماً، وأكد النفي بإعادة النافي ليشهد كل على حياله ﴿ ولا تضع ﴾ حملاً حياً أو ميتاً ﴿ إلا ﴾ حال كونه متلبساً ﴿ بعمله ﴾ ولا علم لأحد غيره بذلك، ومن ادعى علماً به فليخبر بأن ثمرة الحديقة الفلانية والبستان الفلاني والبلد الفلاني تخرج في الوقت الفلاني أو لا تخرج العام شيئاً، والمرأة الفلانية تحمل في الوقت الفلاني وتضع في وقت كذا أو لا تحمل العام شيئاً، ومن المعلوم أنه لا يحيط بهذا علماً إلا الله تعالى.
فإن قيل : قد يقول الرجل الصالح من أصحاب الكشوف قولاً فيصيب فيه وكذلك الكهان والمنجمون ؟ أجيب : بأن أصحاب الكشوف إذا قالوا قولاً فهو من إلهام الله تعالى واطلاعه إياهم عليه فكان من علمه الذي يرد إليه، وأما الكهان والمنجمون فلا يمكنهم القطع والجزم في شيء مما يقولونه البتة وإنما غايتهم ادعاء ظن ضعيف قلما يصيب، وعلم الله تعالى هو العلم اليقين المقطوع به الذي لا يشاركه فيه أحد جل ربنا وعلا ﴿ ويوم يناديهم ﴾ أي : المشركين بعد بعثهم من القبور للفصل بينهم في سائر الأمور ﴿ أين شركائي ﴾ أي : الذين زعمتم أنهم يشفعون لكم في هذا اليوم ويحمونكم من العقاب واللوم ﴿ قالوا ﴾ أي : المشركون ﴿ آذناك ﴾ أي : أعلمناك ﴿ ما منا ﴾ وأكدوا النفي بإدخال الجار في المبتدأ ﴿ من شهيد ﴾ أي : يشهد أن لك شريكاً وذلك لما رأوا العذاب تبرؤوا من الأصنام وقيل : معناه ما منا أحد يشاهدهم لأنهم ضلوا عنهم وضلت عنهم آلهتهم فلا يبصرونها في ساعة التوبيخ، وقيل : هذا كلام الأصنام كأن الله تعالى يحييها وأنها تقول ما منا من شهيد أي : أحد يشهد بصحة ما أضافوا إلينا من الشركة.
تنبيه : في قوله تعالى ﴿ يؤوس قنوط ﴾ مبالغة من وجهين ؛ أحدهما : من طريق فعول، والثاني : من طريق التكرار واليأس من صفة القلب، والقنوط أن تظهر آثار اليأس في الوجه والأحوال الظاهرة.
النوع الثاني : من كلامه الفاسد قوله :﴿ وما أظن الساعة ﴾ أي : القيامة ﴿ قائمة ﴾ أي : ثابتاً قيامها فقطع الرجاء منها سواء عبر عن ذلك بلسان قاله أو بلسان حاله لكونه يفعل أفعال الشاك فيها، النوع الثالث : من كلامه الفاسد قوله ﴿ ولئن ﴾ اللام لام القسم ﴿ رجعت ﴾ أي : على سبيل الفرض أي : أن هذا الكافر يقول لست على يقين من البعث وإن كان الأمر على ذلك ورددت ﴿ إلى ربي ﴾ أي : الذي أحسن إلي بهذا الخير الذي أنا فيه ﴿ إن لي عنده للحسنى ﴾ أي : الحالة الحسنى من الكرامة وهي الجنة، فكما أعطاني في الدنيا سيعطيني في الآخرة، ولما حكى الله تعالى عنهم هذه الأقوال الثلاثة الفاسدة قال تعالى شأنه :﴿ فلننبئن ﴾ أي : فلنخبرن ﴿ الذين كفروا ﴾ أي : ستروا ما دلت عليه العقول وصرائح النقول ﴿ بما عملوا ﴾ لا ندع منه كثيراً ولا قليلاً صغيراً ولا كبيراً فيرون عياناً ضد ما ظنوه من الدنيا من أن لهم الحسنى ﴿ وقدمنا إلى ما علموا من عمل فجعلنا هباء منثوراً ﴾ ( الفرقان : ٢٣ ) وقال ابن عباس رضي الله عنهما : لنوقفهم على مساوي أعمالهم ﴿ ولنذيقهم ﴾ أي : بعد إقامة الحجة عليهم بموازين القسط الوافية كمثاقيل الذر ﴿ من عذاب غليظ ﴾ أي : شديد لا يدع جهة من أجسامهم إلا أحاط بها.
تنبيه : قال النووي في تهذيبه : قال أهل اللغة : الآفاق النواحي، الواحد أفق بضم الهمزة والفاء، وأفق بإسكان الفاء.
ولما كان التقدير ولا نزال نكرر عليهم هذه الدلائل عطف عليه ﴿ حتى يتبين لهم ﴾ غاية البيان بنفسه من غير إعمال فكر ﴿ أنه ﴾ أي : القرآن ﴿ الحق ﴾ أي : الكامل في الحقبة الذي يطابق الواقع المنزل من الله تعالى بالبعث والحساب والعقاب فيعاقبون على كفرهم به وبالجائي به، وقيل : الضمير في أنه لدين الإسلام، وقيل : لمحمد صلى الله عليه وسلم ﴿ أولم يكف بربك ﴾ أي : المحسن إليك بهذا البيان المعجز للإنس والجان شهادة بأن القرآن من عند الرحمان.
تنبيه : الباء زائدة للتأكيد كأنه قيل : أو لم تحصل الكفاية به ولا تكاد تزاد في الفاعل إلا مع كفى وقوله تعالى :﴿ أنه على كل شيء شهيد ﴾ بدل من ربك، والمعنى : أولم يكفهم في صدقك أن ربك لا يغيب عنه شيء ما وقد شهد لك فيه بالإعجاز لجميع الخلق بكل ما تضمنته آياته ونطقت به كلماته، ففيه أعظم بشارة بتمام الدين وظهوره على المعتدين.