تفسير سورة الشورى

معاني القرآن
تفسير سورة سورة الشورى من كتاب معاني القرآن .
لمؤلفه الفراء . المتوفي سنة 207 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم.
قوله عز وجل :﴿ عسق ﴾.
ذكر عن ابن عباس أنه كان يقول : حم سق، ولا يجعل فيها عينا، ويقول : السين كل فرقة تكون، والقاف كل جماعة تكون.
قال الفراء :[ و ] رأيتها في بعض مصاحف ( عبد الله ) «حم سق » كما قال ابن عباس.
وقوله :﴿ كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ ﴾.
﴿ حم عسق ﴾ يقال : إنها أوحيت إلى كل نبي، كما أوحيت إلى محمد صلى الله عليه.
قال ابن عباس : وبها كان على بن أبي طالب يعلم الفتن. وقد قرأ بعضهم :«كذلك يوحَى »، لا يُسَمِّى فاعلَه، ثم ترفع الله العزيز الحكيم يرد الفعل إليه. كما قرأ أبو عبد الرحمن السُّلَمى «وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِكَثِيرٍ منَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلادِهِمْ » ثم قال :( شركاؤهم ) أي زينه لهم شركاؤهم ومثله قول من قرأ :«يُسَبَّحُ له فيها بالغُدُوِّ والآصالِ » ثم تقول :( رجالٌ ) فترفع يريد : يسبِّح له رجال.
وقوله :﴿ لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَها ﴾ وأمّ القرى : مكة ومن حولها من العرب ﴿ وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ ﴾. معناه : وتنذرهم يوم الجمع، ومثله قوله :﴿ إنَّما ذَلِكُمُ الشّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَولياءهُ ﴾ معناه : يخوفكم أولياءه.
وقوله :﴿ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ﴾.
رفع بالاستئناف كقولك : رأيت الناس شقي وسعيد، ولو كان فريقاً في الجنة، وفريقا في السعير كان صوابا، والرفع أجود في العربية.
وقوله :﴿ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْواجاً ﴾.
يقول : جعل لكل شيء من الأنعام زوجا ليَكثروا ولتكثروا.
وقوله :﴿ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ﴾ معنى فيه : أي به، والله أعلم.
وقوله :﴿ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ ﴾، أي فلهذا القرآن ومثله كثير في القرآن، قد ذكرناه، هذا في موضع ذلك، وذلك في موضع هذا، والمعنى : فإلى ذلك فادع. كما تقول [ ١٦٧/ب ] دعوتُ إِلى فلان، ودعوت لفلان.
وقوله :﴿ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ﴾.
ذُكِر : أن الأنصار جمعت للنبي صلى الله عليه وسلم - نفقة يستعين بها على ما ينوبه في أصحابه، فأتوا بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا : أن الله عز وجل قد هدانا بك، وأنت ابن اختنا فاستعِنْ بهذه النفقة على ما ينوبك، فلم يقبلها، وأنزل الله في ذلك : قل لهم لا أسألكم على الرسالة أجراً إلى المودة في قرابتي بكم.
وقال ابن عباس :﴿ لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ﴾ في قرابتي من قريش.
وقوله :﴿ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ ﴾.
ليس بمردود على ﴿ يختم ﴾، فيكون مجزوما، هو مستأنف في موضع رفع، وإن لم تكن فيه واو في الكتاب، وَمثله مما حذفت منه الواو وَهو في موضع رفع قوله :﴿ وَيَدْعُ الإنْسَانُ بِالشَّرِّ ﴾ وَقوله :﴿ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ﴾.
وَقوله :﴿ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ ﴾.
ذَكر العباد، ثم قال :﴿ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ ﴾ كأنه خاطبهم، والعوام يقرءونها بالياء.
حدثنا الفراء قال : حدثني قيس عن رجل قد سماه عن بُكَيْر بن الأخنس عن أبيه قال : قرأت من الليل :﴿ ويعلم ما تفعلون ﴾ فلم أدر أأقول : يفعلون أم تفعلون ؟ فغدوت إِلى عبدالله بن مسعود لأسأله عن ذلك، فأتاه رجل فقال : يا أبا عبد الرحمن، رجلٌ ألمّ بامرأة في شبيبة، ثم تفرقا وَتابا، أيحل له أن يتزوجها ؟
قال، فقال عبد الله رافعا صوته :﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ ﴾.
قال الفراء : وَكذلك قرأها علقمة بن قيس ؛ وإبراهيم ؛ وَيحيى بن وَثاب ؛ وَذكر عن أبى عبد الرحمن السلمي : أنه قرأ كذلك بالتاء.
وقوله :﴿ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُواْ [ وَعَمِلُواْ الصَّالِحاتِ ] ﴾.
يكون الذين في موضع نصب بمعنى : ويجيب الله الذين آمنوا، وقد جاء في التنزيل :﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ﴾، والمعنى، والله أعلم : فأجابهم ربهم، إلاّ أنك إذا قلت : استجاب أدخلت اللام في المفعول به، وإذا قلت : أجاب حذفت اللام، ويكون استجابهم بمعنى : استجاب لهم، كما قال :﴿ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ ﴾ المعنى، والله أعلم : وإذا كالوا لهم أو وزنوا لهم، يُخْسرون ؛ ويكون الذين - في موضع رفع ؛ يجعل الفعل لهم أي : الذين آمنوا يستجيبون لله ؛ ويزيدهم الله على إِجابتهم والتصديق من فضله.
وقوله :﴿ خَلْقُ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِن دَابَّةٍ ﴾.
أراد : وما بث في الأرض دون السماء، بذلك جاء في التفسير ؛ ومثله مما ثنى ومعناه واحد قوله :﴿ يَخْرُجُ مِنْهُما الُّلؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ﴾ وإنما يخرج من الملح دون العذب.
وقوله :﴿ وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ ﴾ ويعلَمَ الذين مردودة على الجزم ؛ إلا أنه صُرف ؛ والجزم إِذا صُرف عنه معطوفُه نصب كقول الشاعر :
فإن يهلِك أبو قابوسَ يَهلِك ربيعُ الناسِ والبلدُ الحرامُ
ونُمسكَ بعده بذناب عَيْسٍ أجبِّ الظهرِ ليس له سَنام
والرفع جائز في المنصوب على الصرف.
وقد قرأ بذلك قوم فرفعوا :﴿ وَيَعْلَمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ ﴾ ومثله مما استؤنف فرفع قوله :﴿ ثم يتوبُ اللّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِك على من يشاء ﴾ في براءة ؛ ولو جزم ويعلمُ - جازم كان مصيباً.
وقوله :﴿ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كبير الإِثْمِ ﴾.
قرأه يحيى بن وثاب «كبير » : وفسر عن ابن عباس : أن كبير الإثم هو الشرك ؛ فهذا موافق لمن قرأ : كبير [ الإثم ] بالتوحيد ؛ وقرأ العوام :﴿ كَبَائرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ ﴾. فيجعلون كبائر كأنه شيء عام، وهو في الأصل واحد ؛ وكأني أستحبّ لمن قرأ : كبائر أن خفض الفواحش ؛ لتكون الكبائر مضافة إلى مجموع إذا كانت جمعاً ؛ قال : وما سمعت أحداً من القراء خفض الفواحش.
وقوله :﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ ﴾.
نزلت خاصة في أبى بكر الصديق ( رحمه الله )، وذلك : أن رجلا من الأنصار وقع به عند رسول الله فسبّه، فلم يردد عليه أبو بكر ؛ ولم يَنْهَ رسول الله صلى الله عليه الأنصاري ؛ فأقبل عليه أبو بكر فرد عليه، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - كالمغضب واتبعه أبو بكر فقال : يا رسول الله، ما صنعتَ بي أشدّ علي مما صنع بي : سبّني فلم تَنْهَهُ، ورددتُ عليه فقمت كالمغضب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : كان الملك يرد عليه إذا سكتَّ، فلما رددتَ عليه رجع الملك، فوثبتُ معه ؛ فنزلت هذه الآية. وفسرها شريك عن الأعمش عن إبراهيم في قوله :﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ ﴾، قالوا : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم للفساق فيجترئوا عليهم.
وقوله :﴿ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ [ ١٦٨/ب ] فَأُوْلَئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ ﴾. نزلت أيضاً في أبى بكر.
وقوله :﴿ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ ﴾.
قال بعضهم : يُخفونه من الذل الذي بهم، وقال بعضهم : نظروا إلى النار بقلوبهم، وَلم يروها بأعينهم لأنهم يحشرون عمياً.
وقوله :﴿ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ ﴾.
وإنما ذكر قبلهم الإنسان مفرداً، والإنسان يكون واحداً، وفي معنى جمع فردّ الهاء والميم على التأويل، ومثل قوله :﴿ وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفاً ﴾ يراد به : كل الناس، ولذلك جاز فيه الاستثناء وهو موحّد في اللفظ كقول الله ﴿ إنَّ الإنسانَ لَفي خُسْرٍ إلا الذين آمنوا ﴾، ومثله :﴿ وَكَمْ مِّنْ مَلَكٍ في السّماواتِ ﴾ ثم قال :﴿ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ ﴾ وإنما ذكر ملكا ؛ لأنه في تأويل جمع.
وقوله :﴿ يَهَبُ لِمَن يشاء إِناثاً ﴾.
محضاً لا ذكور فيهن، ويهب لمن يشاء الذكور محضاً لا إناث فيهم، أو يزوجهم يقول : يجعل بعضهم بنين، ويجعل بعضهم بنات ذلك التزويج في هذا الموضع. والعرب تقول : له بنون شِطْرة إذا كان نصفهم ذكوراً، ونصفهم إناثاً، ومعنى هذا - والله أعلم - كمعنى ما في كتاب الله.
وقوله :﴿ وَما كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً ﴾.
كما كان النبي صلى الله عليه يرى في منامه، ويُلْهمَهُ، أو من وراء حجاب، كما كلّم موسى من وراء حجاب، أو يرسل رسُولا ملكا [ من ملائكته ] فيوحي بإذنه، ويكلم النبي بما يشاء الله [ وذلك في قوله :«أو يرسلَُ رسولا » الرفع والنصب أجود.
قال الفراء : رفع نافع المدينيّ، ونصبت العوام ] ومن رفع «يرسل » قال :«فيوحى » مجزومة الياء.
وقوله :﴿ ما كُنتَ تَدْرِي ما الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمانُ وَلكن جَعَلْناهُ نُوراً ﴾.
يعني التنزيل، وقال بعضهم : أراد القرآن والإيمان، وجاز أن يقول : جعلناه لاثنين ؛ لأن الفعل في كثرة أسمائه يضبطه الفعل، ألا ترى أنك تقول : إقبالك وَإِدبارك يغمني، وهما اثنان فهذا من ذلك.
Icon