تفسير سورة الشعراء

الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية
تفسير سورة سورة الشعراء من كتاب الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية المعروف بـالفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية .
لمؤلفه النخجواني . المتوفي سنة 920 هـ

خاتمة سورة الفرقان
عليك ايها المحمدي الملازم لتهذيب الأخلاق عن الرذائل وتطهير الصفات عن ذمائم الأفعال والأطوار وعن القبائح والأسرار وعن الميل والالتفات الى السوى والأغيار من الأمور المنافية المكدرة لصفاء مشرب التوحيد ان تتأمل وتتعمق في مرموزات الآيات العظام المذكورة في هذه السورة سيما في الآيات التي قد وصف بها سبحانه خلص عباده المتحققين بمرتبة العبودية المنكشفين بسعة اسمه الرحمن المظهر لمظاهر عموم الأكوان شهادة وغيبا وتتدبر في إشاراتها حق التدبر والتفكر الى ان يترسخ في قلبك معانيها ترسخا تاما وينتقش في صحيفة سرك وخاطرك فحاويها انتقاشا كاملا الى ان تصير من جملة وجدانياتك وذوقياتك وبعد ما قد صرت ذا وجدان وحال بها وذقت حلاوتها قد فزت بغرفات جنة الرضا ورضوان التسليم فحينئذ يترشح في صدرك من رشحات بحر الوحدة الذاتية وتعرضت أنت لروح الحق واستنشقت من نفحات النفسات الرحمانية المهبة من فناء حضرة الرحموت ومن قبل يمن عالم اللاهوت المصفية عن كدر التعينات الهيولانية والتعلقات الطبيعية فلك ان لا تنظر ولا تلتفت بعد ذلك ابدا الى مقتضيات علائق ناسوتك مطلقا وتجمع همك نحو لوازم لاهوتك لعل الله ينقذك بفضله عن أغلال انانيتك وسلاسل بشريتك بمنه وجوده
[سورة الشعراء]
فاتحة سورة الشعراء
لا يخفى على من تحقق بمقام الرضا والتسليم وفوض امره الى الحكيم العليم وانكشف له ان لا فاعل للافعال الا هو بل لا موجود في الوجود سواه ولا متصرف بالاستقلال والاختيار غيره ان جميع ما جرى في فضاء الوجود غيبا وشهادة ازلا وابدا انما هو مستند اليه سبحانه ومن آثار أوصافه وأسمائه بلا شركة ومظاهرة من احد سواه ومتى تحقق عنده هذه الأمور واتضح لديه هذا المذكور فله ان يترك التصرف مطلقا بحيث لا يحزن عن فقد شيء ولا يفرح عن وجده بل حينئذ لا بد ان يرتفع عنه الارادة والكراهة والوجدان والفقدان والربح والخسران والسرور والخذلان مطلقا بل صار راضيا بجميع ما جرى عليه من القضاء لذلك خاطب سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بما خاطب وعاتبه بما لاح عليه من امارات المحبة المفرطة والارادة الكاملة بإيمان من يدعوهم الى التوحيد من الكفرة المعاندين وعلامات الحزن والكراهة من إصرارهم وتعنتهم على ما هم عليه من الكفر والشقاق فقال متيمنا باسمه الأعلى تبارك وتعالى بِسْمِ اللَّهِ المدبر المصلح لمفاسد عباده بمقتضى ارادته واختياره الرَّحْمنِ عليهم بافاضة الوجود ليتنبهوا بربوبيته ويواظبوا على أداء طاعته وعبادته الرَّحِيمِ لهم يوصلهم الى فضاء وحدته بعد ما أخلصوا التوجه نحوه وأتوا بالأعمال الصالحات طلبا لمرضاته
[الآيات]
طسم يا طالب السعادة والسيادة المؤبدة المخلدة ويا طاهر الطينة والطوية من ادناس الطبيعة البشرية ويا سالم السر والسريرة من العلائق الناسوتية ويا ما حي آثار الرذائل المكدرة لصفاء مشرب التوحيد
تِلْكَ الآيات العظام المذكورة في هذه السورة آياتُ الْكِتابِ اى نبذ من آيات القرآن الْمُبِينِ المبين المظهر لدلائل التوحيد واليقين الموضح للبينات الساطعة والبراهين القاطعة الدالة على حقية دينك القويم انا أنزلناه إليك يا أكمل الرسل تأييدا لأمرك وتعظيما لشأنك فلك ان تبلغها على قاطبة الأنام وعامة المكلفين على الوجه
الذي تلى واوحى إليك بلا التفات منك الى ايمانهم وكفرهم وتصديقهم وتكذيبهم بل ما عليك الا البلاغ وعلينا الحساب الا انك في نفسك ومن فرط محبتك لإيمانهم بك وبدينك وبكتابك
لَعَلَّكَ باخِعٌ مهلك قاتل نَفْسَكَ تحسرا وتحزنا أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ اى لأجل ان لا يكونوا مصدقين لك ولدينك وكتابك مع انا لا نريد ايمانهم وهدايتهم بل قد مضى في لوح قضائنا وثبت في حضرة علمنا المحيط كفرهم وضلالهم وما يبدل القول لدينا ولا يغير حكمنا
بل إِنْ نَشَأْ اى ان تعلقت ارادتنا ومشيئتنا لإيمانهم نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً ملجئة لهم الى الايمان والتصديق فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ اى قد صارت حين نزول الآية أعناقهم التي هي آلات كبرهم وخيلائهم من كمال الإطاعة والانقياد لَها اى للآية الملجئة النازلة خاضِعِينَ منكوسين منكسرين منخفضين بحيث لا يتأتى لهم الاعراض عنها والتكذيب بها أصلا
وَمتى لم تتعلق مشيئتنا لم ننزل آيتنا فلم يؤمنوا بل صاروا مصرين على إصرارهم إذ ما يَأْتِيهِمْ وما ينزل عليهم مِنْ ذِكْرٍ من عظة وتذكير نازل مِنْ قبل الرَّحْمنِ تفضلا عليهم مُحْدَثٍ مستبدع على الأعصار والأزمان لإصلاح ما في نفوس أهلها من المفاسد والضلال إِلَّا كانُوا عَنْهُ اى عن الذكر المحدث والهداية المبدعة مُعْرِضِينَ منصرفين لعدم تعلق مشيئتنا بقبولهم بل ما أرسلناك يا أكمل الرسل إليهم وما امرناك بدعوتهم وتبليغهم الا ليتعظ ويتذكر منهم من وفقناه وسبقت له العناية الازلية من لدنا من خلص عبادنا وقد تعلقت ارادتنا بهدايتهم ورشدهم من اصل فطرتهم واستعدادهم بعد ما بلغت إليهم الذكر والعظة المهذبة لقلوبهم عن رين الكفر وشين الشرك العارض لهم من قبل آبائهم وأسلافهم قد سمعوها سمع قبول ورضا إذ كل ميسر موفق لما خلق له واما المجبولون على فطرة الشقاوة المطبوعون على قلوبهم بغشاوة الغفلة والضلال أمثال هؤلاء الضلال
فَقَدْ كَذَّبُوا بها حين سمعوها ولم يقتصروا على تكذيبها فقط بل قد استهزؤا بها وبك يا أكمل الرسل عتوا واستكبارا فلك ان لا تلتفت إليهم ولا تبالي بهم وبايمانهم فَسَيَأْتِيهِمْ عن قريب أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ اى اخبار ما أنكروا واستهزؤا به عنادا ومكابرة وما يترتب عليها من الجزاء فيظهر حينئذ اهو حق حقيق بان ينقاد ويتبع أم هو باطل واجب التكذيب والانصراف عنه وكيف ينكرون بآياتنا الدالة على كمال قدرتنا أولئك المعرضون المصرون عنادا ومكابرة
أَوَلَمْ يَرَوْا ولم ينظروا ولم يتفكروا حتى يعتبروا مع انهم مجبولون من اهل النظر والاعتبار إِلَى عجائب الْأَرْضِ اليابسة الجامدة كَمْ أَنْبَتْنا وكثيرا أخرجنا من كمال قدرتنا ووفور حكمتنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ اى أجناس كثيرة من النباتات والحيوانات والمعدن وغير ذلك مما لا اطلاع لهم عليه إذ ما يعلم جنود ربك الا هو كَرِيمٍ كلها ذوو الكرامات والبركات وانواع المعارف والخيرات
وبالجملة إِنَّ فِي ذلِكَ اى في إنبات كل من انواع النباتات وإخراج كل من اصناف الحيوانات وأجناس المعادن منها لَآيَةً بينة واضحة قاطعة دالة على ان منبتها ومخرجها متصف بعموم أوصاف الكمال ونعوت الجمال والجلال فاعل بالاختيار والاستقلال بلا مزاحمة الأشباح والأمثال وَهي وان كانت في غاية الوضوح والجلاء لكن ما كانَ أَكْثَرُهُمْ اى اكثر الناس مُؤْمِنِينَ موقنين على الايمان والتوحيد في علم الله ولوح قضائه لذلك لم يؤمنوا بالآيات العظام ولم يستدلوا منها الى وجود الصانع الحكيم العليم العلام القدوس السلام المنزه ذاته عن طريان التقضي والانصرام
وَ
ان كذبوك يا أكمل الرسل بما قد جئت به من الآيات العظام وعاندوا معك في قبولها لا تبال بهم ولا تحزن عليهم إِنَّ رَبَّكَ الذي رباك بأنواع الكرامات لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب المقتدر على انواع البطش والانتقام الرَّحِيمُ الحليم الذي لا يعجل بالعذاب وان استوجبوا بل يمهلهم زمانا لعلهم يتنبهون على ما فرطوا من سوء المعاملة مع الله ورسوله وآياته فيتوبون نادمين خاشعين صاغرين.
ثم أشار سبحانه الى تعداد المكذبين الضالين عن طريق التوحيد التائهين في تيه الغفلة والغرور فقال وَاذكر يا أكمل الرسل للمنصرفين عنك وعن آياتك عنادا قصة أخيك موسى الكليم عليه صلوات الرحمن مع فرعون وملائه وقت إِذْ نادى رَبُّكَ عبده مُوسى واوحى اليه بعد ما قد ظهر الفساد في الأرض من استيلاء فرعون وملائه على بنى إسرائيل واستعبادهم وقتل أبنائهم واستحياء نسائهم عدوانا وظلما حيث قال سبحانه أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ اى لك الإتيان بالدعوة والرسالة يا موسى على القوم الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية الموضوعة بين العباد لبقاء الإنصاف والانتصاف بينهم
يعنى قَوْمَ فِرْعَوْنَ الطاغي الباغي الذي قد ظهر على عباد الله بأنواع الجور والفساد فقل لهم أولا بعد ما ذهبت إليهم على سبيل التنبيه أَلا يَتَّقُونَ اما يحذرون عن قهر الله أولئك المفسدون المسرفون المكابرون المتجاوزون عن مقتضى العقل والنقل
وبعد ما ناداه سبحانه بما ناداه قالَ موسى ملتجأ الى الله مناجيا له رَبِّ يا من رباني بأنواع اللطف والكرم إِنِّي من شدة ضعفى وانفرادي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ولا يقبلون منى دعوتي ولا يلتفتون الى وَبذلك يَضِيقُ صَدْرِي ويكل خاطري عن تبليغ ما أمرتني وَبعد ما قد ضاق صدري وكل خاطري لا يَنْطَلِقُ ولا يجرى حينئذ لِسانِي على تبيينه وتفهيمه مع ان في لساني لكنة جبلية وبالجملة انا وحدي لا اطيق بحمل أعباء الرسالة وتبليغها إليهم واجعل لي يا رب ظهيرا لي يعينني في شأنى هذا وأخي اولى بي بالمظاهرة والمعاونة إياي فَأَرْسِلْ حسب فضلك وجودك حامل وحيك جبريل عليه السلام إِلى هارُونَ أخي وأمره ان يشرك في امرى حتى نذهب كلا الأخوين الى فرعون ونبلغ رسالتك إياه
وَلا سيما لَهُمْ اى لقوم فرعون عَلَيَّ ذَنْبٌ عظيم وهو انى قد قتلت منهم قبطيا فيما مضى فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ بقصاصه
قالَ سبحانه في جوابه على سبيل الردع والمنع كَلَّا اى ارتدع يا موسى عن الخوف منهم وانزجر عنه بعد ما أيدناك واصطفيناك للرسالة ولا تبال بهم وبكثرتهم وشوكتهم إذ لا يسع لهم ان يقتلوك وان أردت ان نشرك أخيك معك في أمرك هذا فنشركه فأرسل سبحانه جبرائيل عليه السلام الى هارون بالوحي واشركه مع أخيه وأمرهما بتبليغ الرسالة الى فرعون بقوله فَاذْهَبا بِآياتِنا الدالة على عظمة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا وبلغا ما أمرتكما بتبليغه بلا خوف منهم وبلا مبالاة لهم إِنَّا حاضرون مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ما جرى بينكم حافظون مراقبون لكما عما قصدوا من المقت والأذاة
ْتِيا فِرْعَوْنَ
مجترئين بلا مبالاة له وبشأنه وأعوانه قُولا
بلا دهشة وخوف من سطوته واستيلائه نَّا
اى كل واحد مناسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
إليك ايها الطاغي نبلغك من عنده سبحانه
أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا قومنا بَنِي إِسْرائِيلَ وخل سبيلهم حتى يذهبوا بنا الى ارض الشأم سالمين مخلصين عن ظلمك وجورك فقبلا من الله امره سبحانه فذهبا الى فرعون وملائه فقالا لهم ما قالا على الوجه المذكور بلا مبالاة لهم وبعد ما بلغا الرسالة على وجهها
قالَ فرعون في جوابهما مخاطبا لموسى إذ هو اصل
في الرسالة معاتبا عليه متهكما موبخا أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا زمانا يا موسى حين كنت وَلِيداً لا متعهد لك سوانا وَلَبِثْتَ فِينا بعد ما كبرت الى حيث قد مضى مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ قيل قد لبث فيهم ثلاثين سنة ثم خرج الى مدين عشر سنين ثم عاد إليهم يدعوهم الى التوحيد ثلاثين سنة ثم بقي بعد غرقهم خمسين سنة
وَبعد ما ربيناك بأنواع التربية والكرامة قد فَعَلْتَ من سوء صنيعك فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ بان قتلت نفسا بلا جريمة صدرت منها موجبة لقتلها بل قد قتلتها ظلما وعدوانا وَبالجملة ما أَنْتَ يا موسى الا مِنَ الْكافِرِينَ لنعمنا وحقوق كرمنا كفرا قد سقط به لياقتك للرسالة والهداية فالآن جئت تدعى الرسالة والإرشاد الى الهداية ايها الكافر الضال
قالَ موسى في جوابه معترفا بما صدر عنه في أوان جهله وغفلته قد فَعَلْتُها اى الفعلة المذكورة المذمومة إِذاً اى حينئذ وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ في تلك الحالة ومن الجاهلين بعواقب الأمور ومن الغافلين عما ترتب عليه من الأوزار والآصار
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ وبعد ما فررت منكم لأجلها قد وصلت الى خدمة مرشد رشيد ومرب منبه نبيه يرشدني ويربيني بأنواع الفضائل والكرامات فَوَهَبَ لِي رَبِّي من شرف صحبته وحسن تربيته حُكْماً اى حكمة متقنة كاملة بالغة وَجَعَلَنِي حسب فضله وطوله مِنَ الْمُرْسَلِينَ فأرسلني إليكم لأدعوكم الى توحيد رب العالمين ثم شرع موسى في جواب ما قد من عليه فرعون من حقوق النعمة والتربية فقال
وَتِلْكَ النعمة التي قد عددت أنت ايها الطاغي الباغي نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ ليست تبرعا منك الى حتى أكون ممنونا بها منك بل ما هي الا أَنْ عَبَّدْتَ أنت زمانا طويلا قومي بَنِي إِسْرائِيلَ بك لها صاغرين مهانين مظلومين بأنواع الظلم والهوان وبالجملة ما انا ممنون منك حقيقة بل منهم لأنهم هم متسببون لتربيتك وحضانتك بي وبعد ما جرى بينهم ما جرى
قالَ فِرْعَوْنُ مستكبرا مستفهما على سبيل الإنكار والاستبعاد وَما رَبُّ الْعالَمِينَ اى ما هو وما ماهيته وحقيقته ولأي شيء تدعونا اليه عبر عنه لعنه الله سبحانه بما من غاية إنكاره واستحقاره إذ لفظة ما هي موضوعة للنكارة والإبهام
قالَ موسى في جوابه منبها له بناء على ظهوره سبحانه في الأكوان والآفاق هو رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وموجدهما ومظهرهما من كتم العدم وَكذا موجد ما حدث بَيْنَهُمَا من الكوائن والفواسد إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ اى من ذوى الإيقان والعرفان بحقائق المحدثات المبدعة بإبداع الله إياها من كتم العدم بلا سبق مادة وزمان بل بمجرد امتداد اظلال أسمائه وصفاته الذاتية على مرايا الاعدام بمقتضى التجليات الحبية المنتشئة من الذات الاحدية والا فلا يمكن تعريفه بإيراد الأجناس والفصول إذ هو سبحانه منزه عن الاشتراك والامتياز إذ الواحد من كل الوجوه المستقل بوجوب الوجود والتحقق مع امتناع غيره مطلقا لا يمكن ان يقومه جنس ويميزه فصل حتى يركب له حد او رسم وبعد ما سمع فرعون من موسى ما سمع
قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ من ملائه واشرافه متهكما بجوابه حسب بطره وخيلائه وترفعه بنفسه أَلا تَسْتَمِعُونَ جوابه ايها العقلاء قد سألته عن حقيقته وذاته فأجاب بعدّ أفعاله وآثاره المترتبة على أوصافه وأسمائه التي هي من عوارض ذاته وبعد ما سمع موسى بجوابه حسب تشنيعهم واستبعادهم أراد ان يزيد ايضا على تنبيههم فأجاب بظهوره سبحانه في الأنفس رجاء ان يتنبهوا حيث
قالَ هو رَبُّكُمْ مظهركم ومربيكم بأنواع التربية والكرامة وَايضا رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ الأقدمين وبعد ما سمع فرعون كلامه ثانيا
قالَ حينئذ جازما عازما
إِنَّ رَسُولَكُمُ سماه رسولا تهكما واستهزاء الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لإرشادكم وإصلاحكم لَمَجْنُونٌ لا يتكلم بالمقابلة بل يتفوه كيف ما اتفق بلا تأمل وتدرب بأسلوب الكلام إذ قد سألته عن حقيقة شيء ما أجاب عنه بل أجاب عن أشياء لا أسألها وبعد ما لم يتنبهوا بالتنبيهات المذكورة بل ما زادوا منها الا خبالا غب خبال وإنكارا فوق انكار وبالغوا فيه الى حيث نسبوه الى الخبط والجنون وبعد ما قد عتوا عتوا كبيرا
قالَ موسى كلاما جمليا كليا مشتملا على عموم الأمور المنبهة بما هو له سبحانه رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما اى هو بذاته مشرق الشمس ومديرها كل يوم بمدار مخصوص ومغيبها كذلك تتميما وتدبيرا لمصالح عباده وجميع حوائجهم المتعلقة بمعاشهم على الوجه الأحكم الأبلغ الأعدل بلا فوت شيء منها إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ وتطرحون عقولكم الى التأمل والنظر في عجائب مصنوعاته وغرائب مخترعاته في كيفية تدبيراته في ابدائه وإنشائه وابقائه وافنائه وكذا في جميع الأمور المتعلقة بألوهيته وربوبيته وان اجتهدتم وسعيتم حق السعى والجهد في شأنه لاهتديتم الى وحدة ذاته ووجوب وجوده واستقلاله بالتصرف في مظاهره ومصنوعاته فحينئذ لم يبق لكم شائبة شك في ذاته سبحانه حتى تحتاجو الى السؤال والكشف عن جنابه وبعد ما جهلهم موسى وشدد عليهم وسفههم
قالَ فرعون مغاضبا مستكبرا مستعليا مهددا مقسما بعزته وجلاله قائلا فو عزتي وعظمتي لَئِنِ اتَّخَذْتَ وأخذت وعبدت يا موسى إِلهَاً غَيْرِي بمقتضى زعمك لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ المعهودين عندك من انهم لا مخلص لهم عن سجنى حتى الموت فيه فانه قد كان يطرح المخالفين في هوة عميقة حتى يموتوا فيها وبعد ما سمع موسى تهديده وعتوه
قالَ له مستفهما على سبيل التعجيز والغلبة أَتفعل أنت ما هددتنى به وَلَوْ جِئْتُكَ ايها الطاغي المتجبر بِشَيْءٍ مُبِينٍ وبمعجزة عظيمة ظاهرة الدلالة على صدقى في دعواي
قالَ فرعون مستحيا من الناس مستبعدا نفسه عن العجز والافحام فَأْتِ بِهِ اى بالذي ادعيت من المعجزة إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في الدعوى
فَأَلْقى موسى أولا عَصاهُ على الفور فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ظاهر ثعبانيته عظيم بحيث لا يشتبه على احد امره وصولته
وَبعد إلقاء العصا قد نَزَعَ يَدَهُ ثانيا وأخرجها من جيبه ليثبت مدعاه بشاهدين فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ محيرة مفرقة للابصار من غاية شعاعها ولمعانها سيما لِلنَّاظِرِينَ إليها مدهشة لقلوبهم الى حيث قد تاهوا وتحيروا من شعشعتها فلما رآهما فرعون
قالَ بعد ما اوجس في نفسه خيفة لِلْمَلَإِ الذين يجلسون حَوْلَهُ مستغربا من امره مستعجبا من شأنه إِنَّ هذا المدعى لَساحِرٌ عَلِيمٌ ماهر في علم السحر بالغ نهايته
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ المألوفة ووطنكم الموروث بِسِحْرِهِ هذا وبكماله فيه فَماذا تَأْمُرُونَ في امره ايها الأشراف والأعيان. انظر ايها المتأمل الناظر الى كمال قدرة الله وسطوع حجته البالغة كيف تأثر منها فرعون المتكبر المتجبر الطاغي مع كمال عتوه واستعلائه الى حيث قد اضطر الى المشورة مع الناس في امر موسى ودفعه مع انه كان في فرط عتوه واستعلائه وعزته قد ادعى الألوهية لنفسه وبعد ما سمع الأشراف قوله
قالُوا له مقتضى شأنك وجلالك أن لا تسارع الى قتلهما لئلا تنسب الى العجز والإلزام منهما ومن حجتهما بل أَرْجِهْ واحبس موسى وَأَخاهُ هارون وأخر قتلهما زمانا وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ المحروسة شرطا حاشِرِينَ جامعين حاصرين وأمرهم حتى
يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ مبالغ في السحر عَلِيمٍ فائق في علمه متناه فيه بالغ نهايته فبعث شرطا الى الأقطار بعد ما قد وكل عليهما وكلاء يحبسونهما
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ المهرة في فن السحر لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ اى لوقت قد عين لجمعهم في يوم الزينة وهو وقت الضحى
وَقِيلَ لِلنَّاسِ اى نودي عليهم في الطرق والسكك هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لموعد يوم معلوم حتى تشاهدوا حال موسى وهارون وغلبة السحرة عليهما وابطال ما أتيا به من السحر
لَعَلَّنا بأجمعنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ إياهما فخرج فرعون الى الموعد واجتمع الناس فيه واحضروا موسى وهارون
فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ الموعد قالُوا لِفِرْعَوْنَ مؤملين طالبين الجعل منه أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ المبطلين ما جاءوا به من السحر
قالَ لهم فرعون نَعَمْ ان غلبتم أنتم لكم من الأجر أقصى ما املتم وطلبتم وَمع ذلك إِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ اى المصاحبين معى فلكم الترقي في المراتب والمناصب والزيادة في الانعام والإحسان في كل حين وأوان يوما فيوما وبعد ما قد رضوا بما وعدوا جاءوا بمقابلة موسى واشتغلوا بمعارضته
قالَ لَهُمْ اى للسحرة مُوسى على سبيل الجرأة وعدم المبالاة بهم وسحرهم أَلْقُوا ايها الطغاة المعارضون المتعارضون بأكاذيب السحر والشعبذة مع آيات الله ومعجزاته عنادا ومكابرة ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ من الأباطيل الزائغة الزائلة
فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ التي قد احتالوا فيها بأنواع الحيل وَقالُوا حين القائها مقسما بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ وبسطوته وجلاله إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ المقصورون على النصر والغلبة على موسى وأخيه هارون ولما رأى موسى من أباطيلهم ما رأى
فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ على الفور بالهام الله إياه فَإِذا هِيَ ثعبان مبين أخذت تَلْقَفُ تبتلع وتلتقم عموم ما يَأْفِكُونَ ويحتالون فيه ويخيلونه حيات تسعى بتمويهاتهم وتزويراتهم وبعد ما قد شاهد السحرة من عصا موسى ما شاهدوا من الأمر العظيم المعجز الذي لا يتأتى للساحر مثله تيقنوا انها ما هي سحر وشعبذة بل امر سماوي الهى لا يكتنه لميته ولا كيفيته
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ على الفور بلا تردد وتأمل ساجِدِينَ متذللين واضعين جباههم على تراب المذلة استحياء من مقابلة أباطيلهم الزائغة معه
قالُوا حين سقطوا ساجدين قد آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ
رَبِّ مُوسى وَهارُونَ وقد صدقنا الآن بأنهما رسولان من الحق بالحق لترويج الحق واذعنا الآن ان لا معبود يعبد بالحق ويستحق للعبادة سواه ولا اله غيره وبعد ما قد رأى فرعون منهم ما رأى
قالَ مهددا متوعدا إياهم قد آمَنْتُمْ لَهُ اى لموسى ولإلهه بعينه قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ انا بتصديقه وإيمانه فقد لاح لدى ووضح عندي إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ومعلمكم الَّذِي قد عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ واتفقتم معه في الخلوة لتفضحونا على رؤس الملأ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ايها المفسدون انا اقدر على الانتقام والتعذيب أم رب موسى لَأُقَطِّعَنَّ البتة اليوم أولا أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ متبادلتين وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ بعد ذلك على رؤس الاشهاد أَجْمَعِينَ بجمعكم هذا ليعتبر من حالكم من كان في قلبه خلافنا ونفاقنا وبعد ما سمعوا منه تهديده ووعيده
قالُوا منقطعين نحو الحق متشوقين بلقياه لا ضَيْرَ ولا ضر يلحق بنا من قتلك وإهلاكك إيانا ايها المتجبر الطاغي بل ما قتلك الا عين مصلحتنا ومرمانا إِنَّا بالموت الصوري والهلاك المجازى إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ صائرون راجعون متصلون واصلون بعد ارتفاع انانيتنا الباطلة من البين واضمحلال هويتنا العاطلة عن العين
إِنَّا نَطْمَعُ من سعة رحمة الله ومن وفور لطفه وإحسانه بعد ما خرجنا عن كسوة ناسوتنا أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا التي قد صدرت عنا أوان جهلنا وغفلتنا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ اى لان كنا أول المؤمنين الموقنين بتوحيده اليوم
وَبعد ما قد قضى اللعين عليهم ما قضى وجرى على أولئك المظلومين المقبولين
ما جرى قد اقام فيهم موسى زمانا يدعوهم الى التوحيد دائما مستمرا وما زادوا الا عتوا وعنادا وادي عتوهم وعنادهم الى ان قصدوا مقته وهلاكه وقتل من معه من المؤمنين لذلك قد أَوْحَيْنا إِلى مُوسى بعد ما صمموا العزم لإهلاكه وقلنا له أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي يعنى سر ليلا يا موسى مع من تبعك من عبادي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ حتى يتبعكم ويعقبكم فرعون وجنوده فاسرى موسى مع المؤمنين امتثالا للأمر الوجوبي فاطلع فرعون وقومه على أسراء موسى ومن معه
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ شرطا فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ جامعين لجنوده ليتبعوهم وامر لشرطه بان قالوا للجيش ترغيبا لهم وتحريكا لحميتهم وتطميعا
إِنَّ هؤُلاءِ الفارين لَشِرْذِمَةٌ اى لطائفة وجماعة قَلِيلُونَ بالنسبة إلينا مع انهم ستمائة وسبعون الفا وقوم فرعون من كثرتهم لا يعد ولا يحصى
وَقد لزم علينا ان نتبعهم ونستأصلهم إِنَّهُمْ قوم عدو لَنا لَغائِظُونَ بنا يفعلون افعالا تغيظنا وتحرك غيظنا دائما فلنا ان نقلع عرقهم عن وجه الأرض
وَإِنَّا وان كنا أقوياء أشداء على عموم الأعداء لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ دائما عن كيدهم ومكرهم وافسادهم بأنواع الفسادات من قطع الطريق والالتجاء بالأعادي والمظاهرة معهم فلا بد لذوي الحزم والعزم من الضبط والاحتياط في عموم الأحوال وبالجملة
فَأَخْرَجْناهُمْ بعد ما تعلق ارادتنا باهلاكهم وإغراقهم بهذه الدواعي والبواعث المهيجة لنفوسهم الى الخروج والاقتفاء اثر أعدائهم مِنْ جَنَّاتٍ متنزهات بهية فيها فواكه شهية وَعُيُونٍ اى منابع وينابيع تجرى منها في خلال جناتهم الأنهار لنزيد صفاء ونضارة وبهجة وبهاء
وَكُنُوزٍ من الذهب والفضة مدفونة وغير مدفونة وَمَقامٍ كَرِيمٍ هو المنازل الحسنة والقصور المرتفعة الموضوعة فيها الأرائك العالية والسرر الرفيعة والبسط المفروشة من الحرير وغيرها
كَذلِكَ يعنى قد اخرجناهم إخراجا كذلك باحداث بواعث الخروج في نفوسهم وازعاجهم الى ان خرجوا مضطرين وَبعد ما اخرجناهم كذلك عما اخرجناهم قد أَوْرَثْناها اى عموم ما سمعت من المذكورات بَنِي إِسْرائِيلَ انعاما لهم وامتنانا عليهم بما صبروا بظلمهم وبأنواع اذياتهم طول عمرهم وبعد ما اجتمع الجيش من أطراف المدائن وازدحموا على باب فرعون خرجوا خلفهم مسرعين
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ وقت طلوع الشمس من المشرق
فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ اى تقاربا الى ان رأى كل من الجمعين صاحبه قالَ أَصْحابُ مُوسى مشتكيا اليه مأيوسا من الحياة بعد ما رأوا من خلفهم جيشا لا يعد ولا يحصى وعن امامهم البحر الذي لا يمكن العبور عنه إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ملحقون يلحقنا العدو الآن وبعد غرقنا في البحر
قالَ موسى ردعا لهم وازالة لرعبهم كَلَّا اى ارتدعوا عن هذا ولا تخافوا عن ادراكهم إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ ويلهمني الى طريق النجاة والخلاص إذ قد وعدني ربي اليوم بالخلاص والنجاة فان وعده سبحانه حق ولا يخلف فصبر الى ان قرب العدو ووصل موسى على شاطئ البحر مضطرا مضطربا مرعوبا وبعد ما رأينا كليمنا كذلك
فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى بان قلنا له أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فضرب على الفور فَانْفَلَقَ البحر اى قلزم او النيل وافترق فرقا فرقا وانقطع قطعا قطعا كثيرة فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ بعد انفلاقه وانقطاعه كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ كالجبل الشامخ المرتفع نحو السماء الثابت في مقره بلا حركة وجرى وذهاب وانفرج بين الفلق فرجا وسيعة فسيحة فدخل على الفور موسى باذن منا وقومه تبعا له في تلك الشعوب والفرج كل سبط بشعب
وَبعد ما دخلوا في شعاب البحر المنفلق أَزْلَفْنا
وقربنا ثَمَّ الْآخَرِينَ اى قربنا فرعون وقومه هناك يعنى قد وصلوا على شاطئ البحر متعاقبة فرأوهم في شعاب البحر المنفلق على العبور فاقتحموا على الفور أثرهم طامعين النجاة والعبور مثلهم
وَقد أَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ حيث حفظنا البحر على انفلاقه وعدم جريه الى ان عبروا سالمين من تلك الفرج ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ اى فرعون وقومه جميعا بعد ما دخلوا مغترين مغرورين في تلك الفرج باطباق البحر واجرائه واعدام انفلاقه وافتراقه واتصاله على الوجه الذي قد كان عليه قبل الانفلاق حسب وضعه الأصلي وبالجملة
إِنَّ فِي ذلِكَ الإنجاء والإغراق على الوجه المذكور لَآيَةً عظيمة دالة على كمال قدرة الله ومتانة حكمته بالنسبة الى ذوى الأبصار والنهى واولى العبر والاعتبار من الأبرار الأخيار المشمرين أذيال الهمم والاهتمام نحو التفكر والتدبر في آثار أوصاف الفاعل المختار وَلكن ما كانَ أَكْثَرُهُمْ اى اكثر الناس المجبولين على فطرة الاستدلال والاعتبار مُؤْمِنِينَ بالله موقنين بتوحيده وبأسمائه الكاملة وأوصافه الشاملة حتى يتأملوا في آثار صفاته ليتمكن لهم الاستدلال بها على ذاته
وَبالجملة إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب على امره القادر المقتدر على اجراء أحكامه وإنفاذ قضائه الرَّحِيمُ المشفق لخلص عباده الموفقين من عنده للوصول الى مبدئهم ومعادهم
وَاتْلُ يا أكمل الرسل عَلَيْهِمْ اى على مكذبي قريش ومعانديهم نَبَأَ إِبْراهِيمَ اى قصة جدك ابراهيم الخليل صلوات الرحمن عليه وسلامه مع قومه وقت
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ سائلا لهم عن حقيقة ما يعبدون من الآلهة ليريهم ان الأصنام لا تستحق ولا تليق للعبادة والانقياد ما تَعْبُدُونَ ولأي شيء تنقادون وتطيعون ايها المكلفون العابدون
قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ اى تدوم عكوفنا إياها واطاعتنا لها
قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ ويجيبون دعوتكم إِذْ تَدْعُونَ إليهم في السراء والضراء
أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ ويثيبون جزاء إطاعتكم وعبادتكم أَوْ يَضُرُّونَ لكم ان أعرضتم وانصرفتم عن عبادتهم
قالُوا مستغربين عن مسئولاته نحن لا نرجو منهم أمثال هذه الصفات إذ هم جمادات لا يتأتى منهم افعال ذوى الحياة والشعور بَلْ قد وَجَدْنا آباءَنا وأسلافنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ اى يعبدون لها ويعكفون عليها خاشعين متذللين ونحن على آثارهم نعبدهم ونتذلل لهم تقليدا لآبائنا
قالَ لهم ابراهيم على سبيل النصيحة والتذكير أَفَرَأَيْتُمْ وعلمتم ان ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ من دون الله
أَنْتُمْ في مدة اعماركم وَكذا آباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ في مدة اعمارهم ايضا وفيما مضى عليهم من الزمان لا يليق بالالوهية ولا يستحق للاطاعة والانقياد إذ الإله المستحق بالعبودية لا بد وان يتصف بالصفات الكاملة الفاضلة التي هي مبادي لآثار كثيرة وان يكون ذا نفع وضر وثواب وعقاب حتى يعبد له وهؤلاء معطلون عن أوصاف الألوهية مطلقا بل
فَإِنَّهُمْ اى الالهة الباطلة عَدُوٌّ لِي نسب عداوتهم لنفسه أولا امحاضا للنصح والتوجه إليهم والتذلل نحوهم يجلب عذاب الله ونكاله فهم وعبادتهم من اسباب غضب الله وقهره فلكم ان لا تتوجهوا نحوهم ولا تعبدوا إياهم ولا تتخذوا غير الله سبحانه الها كما انى ما أتوجه وما اعبد إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ إذ هو المستحق للالوهية والربوبية ذاتا ووصفا وكيف لا اعبد الها واحدا أحدا حيا قيوما قادرا مقتدرا مع انه سبحانه هو
الَّذِي خَلَقَنِي اى أوجدني وأظهرني من كتم العدم حسب جوده فَهُوَ يَهْدِينِ الى توحيده واستقلاله في الوجود والتصرف بمقتضى لطفه
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي إذا
افتقرت الى الغذاء وَيَسْقِينِ حين احتياجى الى الماء
وَكذا إِذا مَرِضْتُ من اختلاف الأمزجة وتداخل الاغذية فَهُوَ يَشْفِينِ باعتدالها واستقامتها
وَالَّذِي يُمِيتُنِي حين حلول اجلى وانقضاء مدة حياتي في النشأة الاولى ثُمَّ يُحْيِينِ في النشأة الاخرى للعرض والجزاء
وَالَّذِي أَطْمَعُ وأرجو من سعة رحمته وجوده أَنْ يَغْفِرَ لِي ويمحو عنى جميع خَطِيئَتِي التي قد صدرت عنى في نشأة الاختبار ويعفو زلتى التي قد عرضت على فيها يَوْمَ الدِّينِ والجزاء ثم ناجى مع الله بقوله
رَبِّ يا من رباني بلطفك وهداني الى صراط توحيدك هَبْ لِي حُكْماً يقينا علميا وعينيا حتى استحق ان تفيض على اليقين الحقي الذي قد صرت بفيضانه مستحقا لمرتبة الخلة والخلافة وَبالجملة أَلْحِقْنِي بعد ما وهبت لي من حكمك وأحكامك ومعارفك ما قدرت لي في حضرة علمك ولوح قضائك بِالصَّالِحِينَ المرضيين عندك المقبولين في حضرتك
وَاجْعَلْ لِي بفضلك وجودك لِسانَ صِدْقٍ اى لسانا يتكلم بالصدق في عموم حكمك وأحكامك ومعارفك وتوحيدك وفي جميع أوامرك ونواهيك بحيث يدوم اثر صدقى في أقوالي وأفعالي وأحوالي وفي عموم اطوارى واخلاقى فِي الْآخِرِينَ اللاحقين من عبادك المخلفين لي من بعدي لذلك ما من دين من الأديان الا وله صلوات الرحمن عليه وسلامه فيه اقوال وافعال واخلاق وسنن وآداب منسوبة اليه مسلمة منه معمولة بمتابعته
وَبالجملة اجْعَلْنِي بسعة رحمتك ووفور إحسانك وعطيتك بي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ اى من الذين يرثون من فضلك وجودك مرتبة الرضا والتسليم إذ لا نعمة أجل منها وأتم عند المنقطعين نحوك والمتشوقين بلقياك
وَاغْفِرْ لِأَبِي واعف عن زلته وذنوبه ان سبقت عنايتك له في حضرة علمك وسابق قضائك إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ التائهين في تيه الغفلة والغرور
وَبالجملة لا تُخْزِنِي ولا تخجلنى من قبل نفسي وابى يَوْمَ يُبْعَثُونَ اى الأموات ويحشرون من قبورهم نحو العرصات لعرض الأحوال وجزاء الأعمال ان خيرا فخير وان شرا فشر واحسن الى يا ربي
يَوْمَ لا يَنْفَعُ فيه مالٌ ولا يفيد صاحبه ويخلص من العذاب او يخفف العذاب لأجله وَلا بَنُونَ يظاهرون لآبائهم وينقذونهم من عذاب الله وذلك يوم لا مخلص فيه لاحد من عذاب الله من ذوى المعاصي والآثام
إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ المطلع على سرائر العباد وضمائرهم بِقَلْبٍ سَلِيمٍ خال عن الميل الى الهوى ومزخرفات الدنيا خالص عن رعونات العجب والرياء مخلص في التوجه نحو المولى بلا طلب الثواب منه والعطاء والجزاء بل لمحض الرضاء والامتثال بما امره الله ونهى راضيا في كل الأحوال بما جرى عليه من نفوذ القضاء
وَفي تلك الحالة التي قد أتوا كذلك أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ وقربت لِلْمُتَّقِينَ الذين يتقون ويحذرون عن محارم الله استحياء منه وطلبا لمرضاته بحيث يرونها ويسرعون إليها تشوقا وتحننا ويتفطنون انهم يدخلون فيها خالدين مؤبدين
وَكذا قد بُرِّزَتِ وأظهرت الْجَحِيمُ المسعرة لِلْغاوِينَ الذين يضلون عن طريق الحق في النشأة الاولى بالميل الى الهوى وبالركون الى مستلذات الدنيا والاعراض عن ارشاد الأنبياء والأولياء والمصاحبة مع اهل البدع والآراء الفاسدة والأهواء الباطلة المضلة عن صراط الله الأعدل واتخاذ الآلهة الباطلة بمقتضى اهويتهم الفاسدة
وَقِيلَ لَهُمْ حين ظهرت الجحيم عليهم ويتفطرون انهم مسوقون نحوها صاغرين مهانين أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ يعنى اين الآلهة الباطلة التي قد كنتم عبدتم لها
مِنْ دُونِ اللَّهِ المتوحد بالالوهية والربوبية معتقدين انها شفعاؤكم ينقذونكم عن عذاب الله هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ اليوم بان يدفعوا عنكم العذاب أَوْ يَنْتَصِرُونَ
فيدفعون العذاب عن أنفسهم وبعد ما قد جرى عليهم ما جرى من التقريع والتوبيخ
فَكُبْكِبُوا فِيها اى ادخلوا في النار قسرا وقهرا هُمْ اى آلهتهم المضلة المغوية وَالْغاوُونَ اى العبدة الضالون
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ مصاحبون معهم ملازمون إياهم من القوى البهيمية الشهوية والغضبية التي هي من اعونة النفوس الامارة أَجْمَعُونَ إذ كل منهم سبب تام لإضلالهم وبعد ما دخلوا في النار بأجمعهم صاغرين مهانين
قالُوا اى الداخلون في النار تابعا ومتبوعا وَالحال انه هُمْ فِيها اى في النار يَخْتَصِمُونَ اى يتخاصم بعضهم بعضا حيث قال العابدون لمعبوداتهم مقسمين مغلظين تحسرا وتحزنا
تَاللَّهِ إِنْ اى انه قد كُنَّا باتخاذكم ايها المضلون المبطلون آلهة من دون الله وعبدناكم كعبادته سبحانه لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ظاهر لا يشتبه على ذي مسكة ضلالنا وكيف لا يكون ضلالا ظاهرا
إِذْ نُسَوِّيكُمْ مع كونكم من ادنى الأشياء وارذلها نرجحكم ونفضلكم بِرَبِّ الْعالَمِينَ الذي هو احد صمد فرد وتر ليس كمثله شيء وليس له كفو لإضلال أبين من هذا وأعظم
وَبالجملة ما أَضَلَّنا واوقعنا في هذا الضلال المبين إِلَّا الْمُجْرِمُونَ الذين قد اقتدينا بهم من رؤسائنا وكذا من تقليدات آبائنا الذين مضوا قبلنا على هذا
فَما لَنا بعد ما قد وقعنا في النار صاغرين مِنْ شافِعِينَ يشفعون لنا ينقذون منها
وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ اى ذي قرابة وصداقة تكفى صداقته وحمايته لإنقاذنا ونجاتنا وانما قالوه تحسرا وتحزنا وبعد ما قد قنطوا عن الشفاعة والحماية تمنوا الرجعة والإعادة المستحيلة وقالوا
فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً رجعة وعودة الى الدنيا مرة بعد اخرى وكرة بعد الاولى فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بالله الموحدين له لا نشرك به شيأ من مظاهره ومصنوعاته
إِنَّ فِي ذلِكَ اى فيما ذكر من نبأ ابراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه لَآيَةً عظيمة دالة على توحيد الحق وعلو شأنه وسمو برهانه وعظة وتذكيرا للمتذكرين المعتبرين من أخلاقه وأطواره صلوات الرحمن عليه وكمال علمه ودعوته وانصافه في محاورته وارخائه العنان الى من قصد مجادلته ومعارضته وإظهاره الحق على ابلغ وجه وآكده عاريا عن جميع الرعونات والخرافات الواقعة بين اصحاب المناظرات والمجادلات وَلكن ما كانَ أَكْثَرُهُمْ اى اكثر الناس مُؤْمِنِينَ بتوحيد الله وخلة خليله وصفوة أخلاقه وحسن خصاله
وَإِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب على انتقام من خرج عن رق عبوديته الرَّحِيمُ لمن وفق عليها وجبل لأجلها ثم قال سبحانه مخبرا عن المكذبين
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ لان تكذيب نوح والإنكار على إرساله يستلزم تكذيب مطلق الإرسال فيستلزم تكذيبه تكذيب جميع الرسل الذين مضوا قبله بل من سيأتى بعده من الرسل ايضا لاتحاد المرسل والمرسل به وذلك وقت
إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ حين لاح عليهم امارات الكفر والفسوق والخروج عن مقتضى الحدود الإلهية الموضوعة على العدالة المعنوية والقسط الحقيقي أَلا تَتَّقُونَ وتحذرون عن محارم الله ايها المكلفون المسرفون
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ من قبل الحق أَمِينٌ بينكم أرشدكم الى ما يعنيكم وينفعكم واجنبكم عما يضركم وما لا يعنيكم بل يؤذيكم ويغويكم
فَاتَّقُوا اللَّهَ القادر المقتدر على انواع الانتقام وَأَطِيعُونِ في عموم ما جئت به من قبل ربي
وَاعلموا انى ما أَسْئَلُكُمْ ولا اطلب منكم عَلَيْهِ اى على إرشادي وتكميلى واصلاحى لكم ما أفسدتم على انفسكم من الأخلاق والأعمال مِنْ أَجْرٍ جعل ومال كما يسأل المتشيخة خذلهم الله عن مريديهم ومحبيهم إِنْ أَجْرِيَ وما جعلى إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ فانه سبحانه قد أرسلني إليكم وأمرني بتبليغ ما اوحى الىّ إليكم
فَاتَّقُوا اللَّهَ حق تقاته واحذروا من بطشه وانتقامه وَأَطِيعُونِ في جميع ما جئت به من عنده من الأوامر والنواهي المصلحة لمفاسد أحوالكم حتى تستقيموا وتعتدلوا في النشأة الاولى وتفوزوا بما قد وعد لكم ربكم في النشأة الاخرى
قالُوا في جوابه مستكبرين مستهزئين أَنُؤْمِنُ لَكَ ونتبعك نحن مع شرفنا وثروتنا وَالحال انه قد اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ منا الأقلّون مالا الأنزلون جاها ورتبة ومن هذا ظهر ان مناط الأمر عندهم على الحطام الدنياوية والمفاخرة بها واظهار الجاه والثروة بسببها ومتابعتهم انما هي لحصولها لا لأغراض دينية ومصلحة اخروية مصفية ببواطنهم عن العلائق المادية والشواغل الهيولانية العائقة عن الوصول الى مقر التوحيد لذلك
قالَ نوح متكأ الى الله مفوضا امره اليه وَما عِلْمِي وادراكى محيطا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ويؤملون في نفوسهم من اى غرض وسبب يؤمنون بي ويمتثلون بأمري إذ مالي اطلاع على ضمائرهم وسرائرهم بل بظواهرهم
إِنْ حِسابُهُمْ وما امر بواطنهم وأسرارهم إِلَّا عَلى رَبِّي المطلع على خفايا الأمور ومغيباتها لَوْ تَشْعُرُونَ وتدركون أنتم وتعقلون ما أبث لكم من الكلام لفهمتم ما هو الحق منه ولكنكم أنتم قوم تجهلون لذلك تقولون ما لا تعلمون ولا تفهمون
وَبعد ما سمعتم مقالتي هذه فاعلموا انى ما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ونافيهم من عندي بسبب ميلكم الى واستدعاكم طردهم وتوقيفكم الايمان بي على تبعيدهم وبالجملة
إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ من قبل الحق مُبِينٌ ظاهر الحجج واضح البينات والمعجزات بالنسبة الى عموم المكلفين سواء كانوا اغنياء او فقراء إذ الايمان والتوحيد والتدين والإخلاص انما هي من افعال القلوب لا مدخل للأمور الخارجية فيها التي هي الغناء والثروة والفقر والرذالة فمن وفقه الحق على التوحيد وسبقت له العناية في سابق القضاء فهو مؤمن سواء كان فقيرا او غنيا ومن سبق عليه الغضب الإلهي وكتب في لوح القضاء من الأشقياء فهو كافر ناف للصانع مشرك له سواء كان غنيا او فقيرا وبعد ما سمعوا من عدم مبالاته بهم وبشأنهم وعدم رعاية جانبهم وغبطتهم
قالُوا من فرط عتوهم واستكبارهم مقسما والله لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ عن دعوتك وادعائك هذا ولم تترك هذياناتك التي قد جئت بها من تلقاء نفسك افتراء ومراء لَتَكُونَنَّ باصرارك عليها مِنَ الْمَرْجُومِينَ المقتولين زجرا وقهرا فارجع الى حالك وتب من هذياناتك حتى لا نقتلك بأقبح الوجوه وبعد ما قنط نوح عن ايمانهم وايس عن توحيدهم وعرفانهم
قالَ مشتكيا الى الله ملجأ نحوه رَبِّ يا من رباني بأنواع الكرامة ووفقني على الهداية والتوحيد إِنَّ قَوْمِي الذين قد بعثتني إليهم لأهديهم الى دينك وطريق توحيدك كَذَّبُونِ بجميع ما جئت به من عندك تكذيبا شديدا وسفهونى تسفيها بليغا بل قد قصدوا مقتى وقتلى باشد العذاب وأقبح العقاب وبالجملة ما بقي بيني وبينهم ائتلاف وارتباط
فَافْتَحْ فاحكم أنت يا رب حسب عدلك وقضائك بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً حكما مبرما منجزا لوعدك الذي وعدتني به بعد ما كذبون وانزل عليهم العذاب الموعود من عندك وَبعد إنزال العذاب عليهم نَجِّنِي منه بلطفك وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ المصدقين بدينك ونبيك الممتثلين بأوامرك المجتنبين عن نواهيك بفضلك وطولك وبعد افراطهم وإصرارهم المتجاوز عن الحد في الاعراض عن الله والانصراف عن دينه وتكذيب نبيه وإيذائهم إياه والى من آمن له من المؤمنين قد انزل الله عليهم الطوفان الموعود
فَأَنْجَيْناهُ اى نوحا وَمَنْ مَعَهُ من متابعيه ومصدقيه حيث أدخلناهم فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ المملو منهم ومن كل شيء زوجين اثنين
ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ اى بعد انجائنا وادخالنا نوحا ومن معه في الفلك أغرقنا الباقين من قومه بحيث لم
يبق منهم احد على وجه الأرض سوى اصحاب السفينة
إِنَّ فِي ذلِكَ الإنجاء والإغراق لَآيَةً عظيمة دالة على كمال قدرتنا وشدة سطوتنا وعلو شأننا وبسطتنا وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ اى اكثر الناس مُؤْمِنِينَ بوحدة وجودنا وكمال قدرتنا وعزتنا ومتانة حكمنا وحكمتنا
وَإِنَّ رَبَّكَ الذي وفقك يا أكمل الرسل على الايمان والتوحيد وكشف لك سرسريان وحدته الذاتية على هياكل المظاهر لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب القاهر في نفسه القهار للاغيار بحيث لم يكن احد في فضاء الوجود سواه ولا اله يعبد له ويرجع في الخطوب والمهمات نحوه الا هو ليس كمثله شيء وهو السميع العليم الرَّحِيمُ لخلص عباده ممن جذبته العناية الازلية نحو بابه ويسر له الوصول الى جنابه. رب اجعلنا من المنجذبين إليك المنكشفين بوحدة ذاتك. ثم قال سبحانه مخبرا عن احوال المكذبين ايضا قد
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ جميعه على الوجه الذي ذكر في تكذيب نوح عليه السلام وانما أنث باعتبار القبيلة وعاد اسم أبيهم اذكر وقت.
إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ حين رأى منهم ما هو امارات الكفر والفسوق وعلامات الخروج عن مقتضى العدالة والاستقامة الموضوعة بينهم بوضع الهى أَلا تَتَّقُونَ من بأس الله ايها المفرطون المسرفون ولا تحذرون عن حلول قهره وانتقامه ايها الجاهلون
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ مرسل إليكم من عنده لا بلغكم ما أرسلت به من قبل الحق من الأوامر والنواهي المصلحة لأحوالكم المبعدة عن غضب الله إياكم وقهره
فَاتَّقُوا اللَّهَ الغالب القادر المقتدر على انواع الانتقامات وَأَطِيعُونِ فيما أمرت لكم بوحي الله والهامه من الأمور المهذبة لأخلاقكم
وَاعلموا انى ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ ومن جملة تربيته إرسال الرسل على المنحرفين عن سبيل الاستقامة المنصرفين عن طريق توحيده
أَتَبْنُونَ وتعمرون ايها المسرفون المستكبرون بِكُلِّ رِيعٍ تلال مرتفعة من الأرض آيَةً وعلامة تستدلون بها على سلوككم نحو مقاصدكم ومناهجكم مع ان النجوم الزاهرات انما ظهرت لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر وبالجملة أنتم بوضع هذه الآيات والعلامات تَعْبَثُونَ وترتكبون فعلا عبثا لا فائدة لكم فيها أصلا
وَايضا من جملة كبركم وخيلائكم تَتَّخِذُونَ مَصانِعَ اى منابع الماء والقوانيت او قصورا عاليات وابنية شامخات مجصصة مشيدة لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وتأملون الخلود في دار الابتلاء والغرور لذلك تحكمون بناءكم وتشيدونها
وَمن غاية استكباركم وتجبركم إِذا بَطَشْتُمْ وأخذتم أحدا بجريمة صدرت عنه بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ متجبرين متكبرين خارجين عن مقتضى الحد الإلهي الموضوع للتأديب والتعزير
فَاتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور ان لا يأخذكم على أمثال هذه الجرائم والعدوان على عباده وَأَطِيعُونِ في نصحى وتذكيري لتنجوا من سخط الله وغضبه
وَبالجملة اتَّقُوا الله القادر العليم الحكيم الَّذِي أَمَدَّكُمْ ونصركم بِما تَعْلَمُونَ من انواع النعم واصناف الكرم الفائضة عليكم ثم فصل بعضا منها تنصيصا فقال قد
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ تستمدون بها اكلا وحملا وركوبا وَبَنِينَ تظاهرون بهم وتفاخرون بنسبهم وسببهم
وَجَنَّاتٍ متنزهات ملتفة بأنواع الأشجار والكروم وَعُيُونٍ جاريات تجرى بين جناتكم من انهار المياه الصافيات وبالجملة
إِنِّي من غاية عطفي ومرحمتى قد أَخافُ عَلَيْكُمْ من شدة تعنتكم واستكباركم عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ اى نزول عذاب الله وانواع عقوباته فيه ثم لما سمعوا منه ما سمعوا من العظة والتذكير والنصيحة على طريق المبالغة
قالُوا من نهاية استكبارهم واستنكافهم وشدة انكارهم سَواءٌ عَلَيْنا يا هود أَوَعَظْتَ
بما وعظت أَمْ لَمْ تَكُنْ أنت مِنَ الْواعِظِينَ المذكرين إذ نحن ما نسمع منك خرافاتك ولا نمتثل بها ولا نترك لأجلها وأجلك اخلاق أسلافنا التي قد كانوا عليها
إِنْ هذا وما كنا عليه من الأخلاق والشيم ما هي إِلَّا خُلُقُ آبائنا الْأَوَّلِينَ وعادتهم المستمرة وسننهم السنية الموروثة لنا منهم
وَبالجملة ما نَحْنُ ولا أسلافنا الذين قد مضوا عليها بِمُعَذَّبِينَ بعد انقراضنا عن هذه النشأة كما زعمت إذ لا اعادة ولا رجوع ولا عود ولا نشور لنا من قبورنا بعد ما متنا وكنا ترابا وعظاما بالية وبالجملة لم يقبلوا منه دعوته مطلقا ولم يصدقوا قوله أصلا
فَكَذَّبُوهُ تكذيبا شديدا وصاروا بسبب تكذيبهم إياه وانكارهم عليه مستحقين لقهرنا وغضبنا فَأَهْلَكْناهُمْ من كمال غيرتنا واستأصلناهم بمقتضى قدرتنا وحميتنا إِنَّ فِي ذلِكَ الإهلاك والاستئصال لَآيَةً دالة على استقلالنا واستيلائنا بالسلطنة القاهرة على عموم مظاهرنا ومربوباتنا وَلكن ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ بنا وبأسمائنا واوصافنا الكاملة الشاملة آثارها لعموم المظاهر والمصنوعات
وَإِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب المستقل بالتصرف في آثار أوصافه وأسمائه بلا مشاركة له في الوجود والإيجاد الرَّحِيمُ بتجلياته اللطفية الجمالية في اظهار الكائنات المشهودة في الأنفس والآفاق حسب إمداده واعانته. ثم قال سبحانه مخبرا عن المكذبين المهلكين ايضا
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ
إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ المصلح لأحوالهم حين لاح عليهم علامات الاعراض عن الله والانحراف عن جادة توحيده أَلا تَتَّقُونَ عن قهر الله فتخرجون عن مقتضى حدوده
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ من عنده سبحانه انبهكم على ما يصلح حالكم واجنبكم عما يفسدكم
فَاتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور واحذروا من قهره وصولته وغضبه وجلاله وَأَطِيعُونِ فيما انصح لكم وأذكركم به
وَاعلموا انى ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ اى على تذكيري وإرشادي إياكم مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ وهو سبحانه قد اختارني للبعثة والرسالة واصطفاني لجمل وحيه فأرجو انا من فضله وسعة جوده ان يفيض على من معارفه وحقائقه الى حيث قد اضمحل هويتى الباطلة العاطلة في هوية الحق وتلاشى تعيناتى بالفناء فيه أَتُتْرَكُونَ وتبقون فِي ما اى في انواع النعم واصناف الإحسان والكرم وتستمرون هاهُنا اى في هذه النشأة كذلك آمِنِينَ بلا فترة وانتقال وتحويل مترفهين
فِي جَنَّاتٍ اى حدائق ذات بهجة وَعُيُونٍ جاريات فيها
وَزُرُوعٍ كثيرة من أطرافها وَلا سيما في نَخْلٍ لطيف طَلْعُها هَضِيمٌ إذ هو ينكسر وينهضم بسهولة ويستحيل دما بسرعة
وَمن شدة بطركم ونهاية حرصكم واملكم تَنْحِتُونَ اى تنقبون وتثقبون مِنَ الْجِبالِ المتحجرة بُيُوتاً ومخازن تدخرون وتخزنون أمتعتكم فيها صونا لها من انواع الحادثات بطرين فارِهِينَ متنعمين
فَاتَّقُوا اللَّهَ المحول للأحوال حتى لا يبدل يسركم الى العسر وتنعيمكم الى التنقيم وَأَطِيعُونِ في نصحى وتذكيري
وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ في الإغراء على المعاصي والتغرير فيها يعنى
الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بأنواع الفسادات ومن جملتها افسادكم واغراؤكم الى ما يضركم ويغويكم وَبالجملة هم لا يُصْلِحُونَ مفاسد احد أصلا وبعد ما سمعوا من صالح ما سمعوا من النصيحة والإرشاد وانواع الصلاح والسداد
قالُوا من فرط تعنتهم وعنادهم وكمال توغلهم في بحر الغفلة والغرور إِنَّما أَنْتَ يا صالح مِنَ الْمُسَحَّرِينَ المختلين المحتبطين عقولهم بالسحر لذلك قد تخيلت انك رسول مرسل من
قبل الحق هاد الى طريقه مع انك
ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا بلا رجحان لك علينا ولم يعهد إرسال البشر الى البشر من عند الله وبعد ما قد عيروه وشنعوا عليه قصدوا تعجيزه فأمروه بإتيان البرهان على صدقه فقالوا متهكمين فَأْتِ يا صالح بِآيَةٍ معجزة دالة على صدقك في دعواك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
قالَ صالح معجزتي الدالة على حقية دعوتي ورسالتي هذِهِ ناقَةٌ مخرجة من الصخرة بإخراج الله بعد ما اقترحتمونى بإخراجها فدعوت الله القادر المقتدر على اختراع الأمور المستبدعة وتضرعت نحوه فقبل دعائي فأخرجها بقدرته التامة على الوجه المقترح واعلموا ايها المتهكمون في بحر الغفلة والغرور انه لَها اى الناقة شِرْبٌ الى يوم قد عين الله لشربها من بئركم هذا وَلَكُمْ ايضا شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ معين فعليكم ان لا تتجاوزوا من شربكم الى شربها ولا تضروا بها
وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ من ضرب وذب وظمأ وجوع فإنكم ان تمسوها بسوء فَيَأْخُذَكُمْ وينزل عليكم عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ وصف به لعظم ما فيه من العذاب. ثم لما أوصاهم بحفظها وحضانتها وبالغ في شأنها لم يقبلوا منه ولم يبالوا بقوله فاتفقوا على عقرها
فَعَقَرُوها بعد ما اجمع الكل فَأَصْبَحُوا بعد ما عقروها وصاروا نادِمِينَ خائفين من نزول العذاب لا تائبين آئبين عما فعلوا من ترك المأمور وارتكاب المنهي وبعد ما استحقوا العذاب بصنيعهم هذا
فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ الموعود المعهود من قبل الحق فنزل عليهم فاهلكهم بالمرة بحيث لم يبق منهم احد على وجه الأرض إِنَّ فِي ذلِكَ الابتلاء والإنزال والإهلاك لَآيَةً عظيمة مثبتة لكمال قدرة الله وقهره بمقتضى صفاته الجلالية وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ بقهره وجلاله
وَإِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب القاهر على أعدائه حسب غضبه وجلاله الرَّحِيمُ المشفق على أوليائه بمقتضى لطفه وجماله ثم قال سبحانه مخبرا ايضا قد
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ مثل ما كذب السابقون وذلك وقت
إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ حين شاعت بينهم الفعلة القبيحة والديدنة الذميمة الشنيعة الى حيث يباهون بها ولا يخفونها أَلا تَتَّقُونَ من غضب الله ايها المسرفون المفرطون اتقوا الله الغالب الغيور واحذروا من سخطه
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ من قبله أَمِينٌ يؤمنكم من مكر الله وحلول غضبه وعذابه لو قبلتم منى قولي
فَاتَّقُوا اللَّهَ حق تقاته وَأَطِيعُونِ في عموم ما جئت لكم من عنده
وَاعلموا انى ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ اى على تبليغى ونصحى مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ وما جزائي إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ فانه المتكفل لأجور عباده حسب أعمالهم ونياتهم فيها
أَتَأْتُونَ وتجامعون ايها المسرفون المفرطون الذُّكْرانَ الذكور الأمارد وتخصون أنتم بهذه الفعلة القبيحة الشنيعة مع انه ما سبق مثلها مِنَ الْعالَمِينَ يعنى الذين مضوا من بنى نوعكم
وَتبالغون أنتم فيها بحيث تَذَرُونَ وتتركون ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ لإتيانكم وحرثكم مِنْ أَزْواجِكُمْ ونسائكم ليترتب عليها حكمة التناسل وإبقاء النوع بَلْ أَنْتُمْ بسوء صنيعكم وقبح فعلتكم هذه قَوْمٌ عادُونَ متجاوزون من حدود الله ومقتضى حكمه وحكمته وبعد ما سمعوا منه تشنيعه على ابلغ الوجه واشنعه
قالُوا من شدة شكيمتهم وضغينتهم معه لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ ولم تنزجر عن تشنيعنا وتقبيح فعلنا ونهينا عنه لَتَكُونَنَّ أنت بجراءتك علينا مِنَ الْمُخْرَجِينَ من قريتنا على أقبح وجه وأسوئه وبعد ما سمع لوط عليه السلام منهم ما سمع من الغلظة والتشديد في التهديد
قالَ مستوحشا منهم مستنكرا عليهم إِنِّي لِعَمَلِكُمْ هذا مِنَ الْقالِينَ المبغضين غاية البغض بحيث اكره
مساكنكم وجواركم مطلقا وأريد الخروج من بينكم ولا أبالي من تهديدكم على بالإخراج والاجلاء ثم توجه نحو الحق وناجى معه مبغضا عليهم مشتكيا الى ربه بقوله رَبِ
يا من رباني بأنواع الطهارة والنظافة الصورية نَجِّنِي بفضلك وجودك وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ من العذاب الموعود النازل عليهم بشؤم عملهم هذا وبعد ما قد أصروا وبالغوا في الإصرار أنزلنا العذاب عليهم بعد ما استحقوا لإنزاله
فَنَجَّيْناهُ اى لوطا وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ من اصابة العذاب المنزل على قومه
إِلَّا عَجُوزاً من اهله وهي امرأته قد بقيت فِي الْغابِرِينَ الهالكين لميلها إليهم ومحبتها لهم
ثُمَّ دَمَّرْنَا وأهلكنا الْآخَرِينَ عن آخرهم
وَذلك بان قد أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً لم يعهد مثله إذ هو حجارة مهلكة لكل من أصاب فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ مطرهم هذا
إِنَّ فِي ذلِكَ الأمطار والإهلاك لَآيَةً عظيمة على علو شأننا وسطوع حجتنا وبرهاننا وَلكن ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ بآياتنا العظام لذلك قد لحقهم ما لحقهم
وَإِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل لَهُوَ الْعَزِيزُ المتعزز برداء العظمة والكبرياء المتفرد بالوجود والبقاء لا موجود سواه ولا اله الا هو الرَّحِيمُ المتجلى بالتجليات الحبية حسب الأسماء والصفات الذاتية من الأعيان والأكوان المنعكسة من الأسماء والصفات قال سبحانه
كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ
إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ حين رأى منهم امارات الميل والانحراف عن القسطاس المستقيم الموضوع من لدن حكيم عليم المنبئ عن الاعتدال المعنوي أَلا تَتَّقُونَ وتحذرون عن بطش الله ايها المتجاوزون عن حدوده
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ من عنده سبحانه أَمِينٌ مبلغ إليكم أمانته
فَاتَّقُوا اللَّهَ حق تقاته ولا تنقصوا المكيال والميزان وَأَطِيعُونِ فيما أرسلت به
وَلا تخافوا عن أخذ الجعل والرشى إذ انا ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ ان شاء يعطيني جزاء إرشادي وإبلاغي ويوصلني الى منتهى املى ومرادى وعليكم ايها المكلفون المنحرفون عن جادة العدالة الإلهية إيفاء الكيل
أَوْفُوا الْكَيْلَ إيفاء تاما كاملا وَلا تَكُونُوا بتطفيفه وتنقيصه مِنَ الْمُخْسِرِينَ الناقصين حقوق عباد الله حتى لا يخسركم من رحمته
وَزِنُوا وقت وزنكم بغيركم من عباد الله بِالْقِسْطاسِ والميزان الْمُسْتَقِيمِ العدل السوى بحيث لا يميل ولا ينحرف الى جانب أصلا
وَعليكم ايضا ان لا تَبْخَسُوا ولا تنقصوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ ولا تكسروا سلعهم ولا تنقصوا من أسعارها وَبالجملة لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ ولا تتمشوا عليها بالظلم مُفْسِدِينَ بأنواع الفسادات
وَكيف تفسدون فيها وتظلمون من عليها اتَّقُوا الله القادر المقتدر الَّذِي خَلَقَكُمْ وأظهركم من كتم العدم وَكذا قد خلق وأوجد أمثالكم الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ وذوى الخلقة من المتقدمين من اسلافكم وغيرهم ايضا وبعد ما سمعوا منه ما سمعوا من الحكم والتذكيرات
قالُوا متهكمين مستهزئين إِنَّما أَنْتَ يا شعيب مِنَ الْمُسَحَّرِينَ المجنونين الذين قد ضاعت عقولهم بالسحر والافتتان
وَكيف تكون أنت من المرسلين مع انك ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ومن اين يتيسر لبشر أن يكون مرسلا من رب العالمين وَبالجملة إِنْ نَظُنُّكَ في دعواك الرسالة لَمِنَ الْكاذِبِينَ المفترين والا
فَأَسْقِطْ بدعائك عَلَيْنا كِسَفاً قطعا مِنَ السَّماءِ اى من بعض اقطاعها لتهلكنا بها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في أمرك هذا ورسالتك هذه وبعد ما ايس شعيب عليه السلام عن ايمانهم
قالَ لهم مشتكيا الى الله رَبِّي أَعْلَمُ بعلمه الحضوري بِما تَعْمَلُونَ أنتم
من انواع الفسادات وبمقدار ما تستحقون عليها من العذاب والجزاء وبالجملة
فَكَذَّبُوهُ تكذيبا شديدا وأنكروا عليه إنكارا بليغا ولم يقبلوا قوله فاستحقوا العذاب فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ على الوجه الذي اقترحوا منه بان قد شدد الله عليهم الحر حيث اضطروا الى الاستظلال وذلك يوم قد غلت المياه في الأنهار فأظلتهم السحابة بغتة فازدحموا تحتها مستظلين بها فأمطر الله عليهم نارا فاحترقوا بالمرة إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ لعظم جرمهم وعذابهم فيه
إِنَّ فِي ذلِكَ الأخذ والإنزال والاظلال لَآيَةً عظيمة دالة على كمال قهرنا إياهم وزجرنا وانتقامنا عنهم وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ بقهرنا وغضبنا ومقتضيات اوصافنا الجلالية
وَإِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب على عموم المرادات والمقدورات من الثواب والعقاب والانعام والانتقام الرَّحِيمُ على من وفقهم الى مقتضى ما رضى عنهم ويسر لهم الامتثال بما أمرهم ونهاهم هذا آخر القصص السبع المذكورة لتسلية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الدالة على ان المكذبين للرسل مأخوذون بأنواع العذاب مستهلكون بأصناف العقاب والنكال انما ذكر سبحانه ليعتبر منها المعتبرون من المؤمنين ويتفطن المكذبون ما سيلحقهم من العذاب لو أصروا على ما هم عليه من التكذيب والعناد
وَإِنَّهُ اى القرآن لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ كالكتب السالفة قد
نَزَلَ بِهِ بالتخفيف الرُّوحُ الْأَمِينُ كما نزل بسائر الكتب الماضية وهو جبريل عليه السلام سمى به لأمانته على الوحى الإلهي حيث أوصله الى من اليه انزل على وجهه بلا تغيير وتبديل أصلا دائما وانما نزل به
عَلى قَلْبِكَ يا أكمل الرسل لِتَكُونَ أنت ايضا كسائر الرسل مِنَ الْمُنْذِرِينَ لتنذر اهل الغفلة والغرور من قومك كما انذروا لذلك قد أنزله سبحانه
بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ظاهر الدلالة واضح الفحوى مناسبا بلغة من أرسلت إليهم ولو أنزله على لغة العجم كالكتب السابقة لقالت العرب ما نفهم معناه ولا نعرف فحواه ومقتضاه
وَإِنَّهُ اى إنزال القرآن عليك يا أكمل الرسل عربيا لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ مثبتا مزبورا في كتبهم مع نعتك ايضا وحليتك وجميع اوصافك وأسمائك
أَينكرون صدق القرآن وصحة نزوله من عند العليم العلام على محمد ﷺ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ ولم يكف آيَةً ودليلا تدل على صدقه وحقيته وصحة نزوله من عند الله أَنْ يَعْلَمَهُ ويعرفه ويروى أوصافه عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ وأحبارهم يخبرون به ويقرؤن في كتبهم اسمه واسم من انزل اليه ونعته وحليته
وَلَوْ نَزَّلْناهُ اى القرآن عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ
فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ بلسانهم وعلى لغتهم ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ حينئذ البتة معللين بانا لا نفهم معناه ولا نعرف فحواه فكيف عملنا به وامتثلنا بما فيه
كَذلِكَ اى مثل ما قررنا القرآن وأدخلناه في قلوب المؤمنين سَلَكْناهُ وأدخلناه ايضا فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ان المؤمنين قد آمنوا به وامتثلوا بما فيه لصفاء طينتهم والمجرمون
لا يُؤْمِنُونَ بِهِ عنادا ومكابرة لخبث طينتهم حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ المؤلم الملجئ لهم الى الايمان فآمنوا به لكن في وقت لا ينفعهم ايمانهم
فَيَأْتِيَهُمْ العذاب الموعود لهم حينئذ من قبل الحق بَغْتَةً بلا تقديم مقدمة وسبق امارة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ نزوله فَيَقُولُوا بعد ما نزل عليهم ووقعوا فيه متحسرين متحننين هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ ممهلون زمانا حتى نتدارك ما قد فوتنا على أنفسنا من الايمان بالله وتصديق كتبه ورسله قيل لهم حينئذ من قبل الحق
أَيستمهلون ويستنظرون أولئك المصرون المسرفون فَبِعَذابِنا هذا قد كانوا يَسْتَعْجِلُونَ فيما مضى مستهزئين متهكمين
قائلين لرسلنا فأتنا بما تعدنا الآية وأمطر علينا حجارة الآية وأسقط علينا كسفا الآية وأمثال ذلك من الآيات وحين نزل عليكم العذاب الموعود تستنظرون وتستمهلون
أَفَرَأَيْتَ وعلمت ايها الرائي الخبير والمعتبر البصير إِنْ امهلناهم في الدنيا زمانا طويلا بان مَتَّعْناهُمْ فيها سِنِينَ تمتيعا بليغا ورفعناهم فيها ترفيها بديعا
ثُمَّ جاءَهُمْ ونزل عليهم بعد زمان طويل ما كانُوا يُوعَدُونَ من العذاب البتة وبالجملة
ما أَغْنى عَنْهُمْ ولم يدفع طول مكثهم فيها شيأ من العذاب ولم يخفف عذابهم أصلا ما كانُوا يُمَتَّعُونَ اى تمتيعهم زمانا طويلا فإذا لا فرق بين إمهالهم وبين تعجيل العذاب عليهم وَمن سنتنا المستمرة وعادتنا القديمة انا ما أَهْلَكْنا مِنْ اهل قَرْيَةٍ من القرى القديمة الهالكة إِلَّا قد أرسلنا أولا لَها أنبياء ورسلاهم مُنْذِرُونَ يخوفون عماهم عليه من الأمور المستجلبة للعذاب المستوجبة له وانما أرسلنا إليهم من أرسلنا وانذرناهم عما انذرناهم أولا ليكون
ذِكْرى اى تذكرة وعظة منا إياهم حتى لا ينسبوننا الى الظلم ولا يجادلون معنا وقت حلول العذاب عليهم وَايضا قد ظهر عندهم انا ما كُنَّا ظالِمِينَ بتعذيبهم بأنواع العذاب وبعد ما نسب المشركون المكابرون تنزيل القرآن المعجز إليك يا أكمل الرسل بالشياطين وطعنوا فيه بانه ما يلقى الشيطان الى الكهنة والرهابين رد الله عليهم بقوله
وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ اى بالقرآن الفرقان المعجز لفظا ومعنى المبنى على الهداية المحضة ظاهرا وباطنا الشَّياطِينُ الضالون المضلون إذ لا يتأتى منهم الهداية أصلا
وَما يَنْبَغِي وما يصح لَهُمْ الإتيان بالهداية والرشد وَما يَسْتَطِيعُونَ وما يقدرون عليها إذ الهداية والإرشاد انما هي من طيب النفس وطهارة الفطرة وزكاء الفطنة وصفاء الجبلة وهم ليسوا كذلك بل هم مجبولون على الخباثة في اصل الخلقة واما استماعهم وسماعهم من الملائكة أمثال هذا ايضا فلا يتأتى منهم ولا يمكنهم من رداءة فطرتهم وفطنتهم وخباثة جبلتهم وطينتهم
إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لكلام الملائكة لَمَعْزُولُونَ لان الاستماع منهم مشروط بالمناسبة لهم في التجرد عن العلائق مطلقا وصفاء الفطرة عن إكدار الطبيعة رأسا إذ قبول الفيض انما هو عند هبوب نسمات النفسات الرحمانية والتعرض والاشتياق منها ومن نفحاتها على الدوام وظاهر ان نفوسهم الخبيثة ليست بهذه المثابة والقرآن الفرقان محتو على حقائق ومعارف ومكاشفات ومشاهدات لا يمكن صدورها الا ممن هو منبع جميع الكمالات ومنشأ عموم الخيرات والمطلع على جميع السرائر والخفيات والقادر المقتدر على عموم المرادات والمقدورات فكيف يليق بكمال القرآن ان ينسب الى الشيطان تعالى شأن القرآن عما ينسب اليه الظالمون علوا كبيرا. ثم أشار سبحانه الى تحريك سلسلة اشواق المحبين وتهييج اخلاص الموحدين المخلصين المنقطعين نحو الحق الساعين بافناء هوياتهم الباطلة في طريق توحيده الباذلين مهجهم في مسلك الفناء ليفوزوا بشرف البقاء واللقاء فقال مخاطبا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم ناهيا له عن التوجه والالتفات نحو الغير مطلقا
فَلا تَدْعُ ايها الداعي للخلق الى الحق بالحق على الحق مَعَ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المستقل بالالوهية والربوبية إِلهاً آخَرَ من مظاهره ومصنوعاته إذ الكل في حيطة أوصافه وأسمائه لا وجود لها لذاتها بل انما هي عكوس واظلال للأسماء والصفات الإلهية فَتَكُونَ أنت بجمعيتك وكمالك لو دعوت واتخذت الها آخر لقد صرت أنت البتة مِنَ الْمُعَذَّبِينَ بأنواع التعذيبات الصورية والمعنوية العقلية والحسية الجسمانية والروحانية انما خاطب سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بهذا
الخطاب الهائل وعاتبه بهذا العتاب الهائب ليتنبه المؤمنون ويتفطنوا بكمال غيرة الله المتفرد المتوحد القهار للاغيار مطلقا
وَبعد ما قد ظهر عندك يا أكمل الرسل غوائل الشرك بالله ولاح دونك ما يترتب عليه من القهر الإلهي وغضبه أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ وقرابتك سيما الْأَقْرَبِينَ منهم واهتم بشأنهم أشد اهتماما حتى تنقذهم من الشرك المستجلب لانواع الغضب والعذاب من قبل الحق
وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ وآمن لك منهم اى لين جانبك نحوهم وابسط موانستك معهم ومصاحبتك إياهم حتى صار كلهم مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الموحدين الناجين من عذاب الله وسخطه
فَإِنْ عَصَوْكَ وانصرفوا عنك واعرضوا عن موانستك بعد ما قد لنت لهم وواسيت معهم ولم يقبلوا منك دعوتك وإنذارك فَقُلْ مستبرأ منهم مستنزها نفسك عنهم وعن أعمالهم إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ يعنى منكم ومن عملكم الذي أنتم تعملونه مصرين مستكبرين
وَان عادوك وعاندوا معك الى ان قصدوا مقتك تَوَكَّلْ في دفعهم ورفع مؤنتهم عَلَى الْعَزِيزِ الغالب لقهر الأعداء القادر المقتدر على غضبهم وانتقامهم بأنواع البلاء والعناء الرَّحِيمِ على الأولياء ينصرهم على أعاديهم ويدفع عنهم شرورهم وكيف لا يرحمك يا أكمل الرسل ولا يكفيك ولا يكف عنك مؤنة أعدائك
الَّذِي يَراكَ
اى القيوم القادر الذي يشهدك ويشاهدك حِينَ تَقُومُ
من منامك خلال الليالى طلبا لمرضاته ورفعا لحاجاتك نحوه
وَايضا يشاهد تَقَلُّبَكَ وترددك جوف الليل فِي تفقد احوال المؤمنين السَّاجِدِينَ المتذللين نحو الحق الواضعين جباههم على تراب المذلة والانكسار شوقا اليه وتحننا نحوه من افراط المودة ومن شدة اشتعال نار العشق والمحبة الإلهية المطفئة لنيران الاهوية الفاسدة والآراء الباطلة وكيف لا يتذللون اليه سبحانه ولا يتمنون نحوه
إِنَّهُ بذاته هُوَ السَّمِيعُ لمناجاتهم وعرض حاجاتهم الْعَلِيمُ لمقاصدهم وطيب أغراضهم وخلوص نياتهم وإخلاصهم في أعمالهم وبعد ما رد سبحانه قول من قال ان القرآن منزل من قبل الشياطين لا من الملائكة واثبت ان انزاله منه سبحانه وإيصاله من الروح الأمين على الرسول الأمين إذ المناسبة بينهما مرعية والمشاكلة مثبتة مرضية أراد ان يشير سبحانه الى ان تنزيل الشياطين وتسويلهم انما هو لأوليائهم الذين قد كملت نسبتهم إليهم وصحت مناسبتهم معهم فقال
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ وأخبركم ايها المسرفون المردودون في امر القرآن واعجازه وانزاله من قبل الحق القادحون فيه بنسبته الى تنزيل الشياطين او الى الشعر الذي من جملة وساوسهم وتخييلاتهم ايضا مع ان القرآن الفرقان مشتمل على معارف وحقائق ورموزات وشهودات لا يسع الإتيان بها والتعبير عنها الا لمن هو علام الغيوب مطلع على سرائر ارباب الكشف والشهود وأبين لكم عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ للاضلال والوسوسة والتحريف عن طريق الحق والتغرير بالأباطيل
تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ مبالغ في الإفك والافتراء أَثِيمٍ مغمور في الإثم والعصيان وانواع الفسوق والطغيان لتحقق مناسبته مع الشياطين الذين
يُلْقُونَ السَّمْعَ للملائكة ويصغون منهم بعض المغيبات ويخبرون بها لا على وجهها إذ ليس غرضهم من الإصغاء الا الإفساد والرد لا الإصلاح والقبول وَلذلك قد كان أَكْثَرُهُمْ هم كاذِبُونَ فيما يسمعون ويلقون إذ هم يحرفون ويزيفون ما سمعوا ترويجا لما هم عليه من الفساد والإفساد وتغريرا لأوليائهم بأنواع التغريرات
وَمن جملة اولياء الشياطين المنتسبين إليهم بالنسبة الكاملة الكاذبة الشُّعَراءُ المذبذبون بين الأنام بأكاذيب الكلام واباطيله لذلك يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ الضالون من جنود الشياطين المتبعون لهم لترويج أباطيلهم الزائغة
أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ ومن تابعهم من الغواة فِي كُلِّ وادٍ من اودية الضلال والطغيان يَهِيمُونَ ويترددون حيارى سكارى تائهين بلا ثبات ولا قرار مترددين في معاشهم ومعادهم
وَأَنَّهُمْ من غاية غفلتهم وسكرتهم في امور معاشهم يَقُولُونَ بأفواههم ويخبرون بألسنتهم تلقفا ما لا يَفْعَلُونَ ولا يتصفون به من الأخلاق والحكم والمواعظ والرموز والإشارات التي قد صدرت عنهم هفوة وهم لا يمتثلون بها أصلا
إِلَّا الشعراء الحكماء الَّذِينَ آمَنُوا بتوحيد الله واتصفوا بالحكمة المعتدلة المودعة في قلوبهم الظاهرة آثارها من ألسنتهم ومضوا على مقتضى الاعتدال المعنوي الذي قد جبلهم الحق عليه بلا تلعثم منهم وتزلزل عن مقتضى فطرتهم الاصلية وفطنتهم الجبلية وَمع ذلك قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ من الأعمال المصلحة لمفاسدهم المهذبة لأخلاقهم وأطوارهم وَمن اجلة أخلاقهم انهم قد ذَكَرُوا اللَّهَ المستوي على صراط العدالة والاستقامة في اشعارهم وقصائدهم كَثِيراً في عموم أوقاتهم وحالاتهم بل اكثر اشعارهم انما هو لإثبات توحيد الحق وتبيين معارفه وحقائقه وكذا لإظهار رموز ارباب الكشف والعيان والتذكيرات المتعلقة بترك المألوفات وقطع التعلقات المنافية لصفاء مشرب التوحيد وبعض اشعارهم متعلق بردع اهل الهواء والآراء الفاسدة وهتك محارمهم واعراضهم وتعداد مقابحهم ورذائلهم وَذلك بأنهم قد انْتَصَرُوا باشعارهم هذه مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا من أيدي الجهلة وألسنة الكفرة المتعنتين المستكبرين على ارباب المحبة والولاء من المنقطعين نحو الحق السالكين سبيل توحيده وَبالجملة سَيَعْلَمُ الظلمة المفسدون والكفرة المستهزءون المسرفون الَّذِينَ ظَلَمُوا على اهل الحق وآذوهم بالسنان واللسان وانواع القدح والطعنان ونسبوهم الى الإلحاد والعناد ورموهم بأنواع الفسوق والفساد مع انهم هم على صرافة التوحيد متمكنون ومن امارات الكثرة والتقليد متنزهون وسيعلمون أولئك المردة الرامون المفرطون المسرفون أَيَّ مُنْقَلَبٍ واى مرجع ومآب يَنْقَلِبُونَ ويرجعون أيدخلون في حفر النيران والخذلان وهم منكوسون أم الى روضة الرضا وجنة التسليم وهم مسرورون ألا ان اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
خاتمة سورة الشعراء
عليك ايها السالك المراقب لاعتدال الأطوار والأخلاق والأعمال وجميع الشئون والأحوال المتعلقة بنشأتى الدنيا والعقبى ان تراجع ذوقك ووجدانك في جميع ما جرى عليك من الأحوال وتتأمل فيه حق التأمل الى ان تطلع على مبدئه ومنشأه ثم تتفكر في صدوره هل هو على مقتضى الاعتدال والقسط الإلهي صدر ما صدر أم على مقتضى الهوى الغالب الذي من جنود الامارة المستمدة من إغواء الشيطان واغرائه فان وجدته على مقتضى القسط والهدى الإلهي والعدل الجبلي السوى فطوبى لك وان وجدته على مقتضى الهوى فعليك ان تعالجه وتلازم في إصلاحه واستقامته بالرياضات القالعة لعرق الأماني والآمال والمرادات المتعلقة بمستلذات الدنيا الفانية عن أصلها وتواظب على أشق الطاعات واتعب العبادات عن صوم الأيام ومشى الاقدام ومشق الأقلام وانقطاع صحبة الأنام والخروج من بين العوام والاعتزال نحو الجبال والآجام والعكوف في مطاوى الكهوف وخلال الخلوات والاشتغال بالميل والصلوات المقربة نحو الحق حتى تعتدل اوصافك واخلاقك وتستقيم افعالك واحوالك فحينئذ قد انكشف لك باب التوحيد وانفلق عليك وسد دونك مداخل الرياء
Icon