يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله محمد ﷺ أنه علَّمه
﴿ شَدِيدُ القوى ﴾ وهو جبريل ﷺ، كما قال تعالى :
﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العرش مَكِينٍ ﴾ [ التكوير : ١٩-٢٠ ]. وقال هاهنا :
﴿ ذُو مِرَّةٍ ; ﴾ أي ذو قوة، قاله مجاهد، وقال ابن عباس : ذو منظر حسن، وقال قتادة : ذو خَلْق طويل حسن، ولا منافاة بين القولين فإنه عليه السلام ذو منظر حسن وقوة شديدة، وقد ورد في الحديث الصحيح :
« لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مِرّة سوي »، وقوله تعالى :
﴿ فاستوى ﴾ يعني جبريل عليه السلام
﴿ وَهُوَ بالأفق الأعلى ﴾ يعني جبريل استوى في الأفق الأعلى، قال عكرمة
﴿ الأفق الأعلى ﴾ الذي يأتي منه الصبح، وقال مجاهد : هو مطلع الشمس، قال ابن مسعود :
« إن رسول الله ﷺ لم ير جبريل في صورته إلا مرتين : أما واحدة فإنه سأله أن يراه في صورته فسد الأُفق، وأما الثانية فإنه كان معه حيث صعد، فذلك قوله :﴿ وَهُوَ بالأفق الأعلى ﴾ » وهذه الرؤية لجبريل لم تكن ليلة الإسراء بل قبلها ورسول الله ﷺ في الأرض، فهبط عليه جبريل عليه السلام وتدلى إليه، فاقترب منه وهو على الصورة التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح، ثم رآه بعد ذلك نزلة أُخْرى عند سدرة المنتهى يعني ليلة الإسراء، وكانت هذه الرؤية الأولى في أوائل البعثة بعد ما جاءه جبريل عليه السلام أول مرة، فأوحى الله إليه صدر سورة اقرأ، روى الإمام أحمد، عن عبد الله أنه قال :
« رأى رسول الله ﷺ جبريل في صورته، وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأُفق يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم ».
وقوله تعالى :
﴿ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى ﴾ أي فاقترب جبريل إلى محمد لما هبط عليه إلى الأرض، حتى كان بينه وبين محمد ﷺ
﴿ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ ﴾ أي يقدرهما إذا مدّا، قال مجاهد وقتادة. وقوله
﴿ أَوْ أدنى ﴾ هذه الصبغة تستعمل في اللغة لإثبات المخبر عنه، ونفي ما زاد عليه كقوله تعالى :
﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلك فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ﴾ [ البقرة : ٧٤ ] أي ما هي بألين من الحجارة بل هي مثلها أو تزيد عليها في الشدة والقسوة، وكذا قوله :
﴿ يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ﴾ [ النساء : ٧٧ ]، وقوله :
﴿ وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ﴾ [ الصافات : ١٤٧ ] أي ليسوا أقل منها بل هم مائة ألف حقيقة أو يزيدون عليها، فهذا تحيق للمخبر به لا شك، وهكذا هذه الآية
﴿ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى ﴾ وهذا الذي قلناه من أن هذا المقترب الداني إنما هو جبريل عليه السلام، هو قول عاشئة وابن مسعود وأبي ذر كما سنورد أحاديثهم قريباً إن شاء الله تعالى.
2427
وروى مسلم في
« صحيحه » عن ابن عباس أنه قال :
« رأى محد ربه بفؤاده مرتين » فجعل هذه إحداهما، وجاء في حديث الإسراء :
« ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى » ولهذا قد تكلم كثير من الناس في متن هذه الرواية، فإن صح فهو محمول على وقت آخر وقصة أُخْرَى، لا أنها تفسير لهذه الآية، فإن هذه كانت ورسول الله ﷺ في الأرض لا ليلة الإسراء، ولهذا قال بعده :
﴿ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى * عِندَ سِدْرَةِ المنتهى ﴾ فهذه هي ليلة الإسراء والأولى كانت في الأرض، وقال ابن جرير، قال عبد الله بن مسعود في هذه الآية :
﴿ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى ﴾ قال : قال رسول الله ﷺ :
« رأيت جبريل له ستمائة جناح » وروى البخاري، عن الشيباني قال : سألت زراً عن قوله :
﴿ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى * فأوحى إلى عَبْدِهِ مَآ أوحى ﴾ قال : حدثنا عبد الله أن محمداً ﷺ رأى جبريل له ستمائة جناح. فعلى ما ذكرناه يكون قوله :
﴿ فأوحى إلى عَبْدِهِ مَآ أوحى ﴾ معناه فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد ما أوحى، أو فأوحى الله إلى عبده محمد ما أوحى بواسطة جبريل؛ وكلا المعنيين صحيح، وقوله تعلى :
﴿ مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى * أَفَتُمَارُونَهُ على مَا يرى ﴾ قال مسلم، عن أبي العالية، عن ابن عباس
﴿ مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى ﴾،
﴿ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى ﴾ قال : رآه بفؤاده مرتين، وقد خالفه ابن مسعود وغيره، ومن روى عنه بالبصر فقد أغرب، وقول البغوي في
« تفسيره » : وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه وهو قول أنَس والحسن وعكرمة فيه نظر، والله أعلم.
وروى الترمذي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال : رأى محمد ربه، قلت : أليس الله يقول :
﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار ﴾ [ الأنعام : ١٠٣ ] قال : ويحك ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره، وقد رأى ربه مرتين. وقال أيضاً : لقي ابن عباس كعباً بعرفة فسأله عن شيء فكبّر حتى جاوبته الجبال، فقال ابن عباس : إنا بنو هاشم، فقال كعب : إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى، فكلم موسى مرتين، ورآه محمد مرتين، وقال مسروق : دخلت على عائشة فقلت : هل رأى محمد ربه؟ فقالت : لقد تكلمت بشيء وقف له شعري، فقلت : رويداً، ثم قرأت :
﴿ لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى ﴾، فقالت : أين يذهب بك؟ إنما هو جبريل، من أخبرك أن محمداً رأى ربه، أو كتم شيئاً مما أمر به، أو يعلم الخمس التي قال الله تعالى :
2428
« ﴿ إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة وَيُنَزِّلُ الغيث ﴾ [ لقمان : ٣٤ ] فقد أعظم على الله الفرية، ولكنه رأى جبريل؛ لم يره في صورته إلا مرتين؛ مرة عند سدرة المنتهى، ومرة في أجياد، وله ستمائة جناح قد سد الأفق » وروى النسائي، عن ابن عباس قال : أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم، و الكلام لموسى، والرؤية لمحمد عليهم السلام؟ وفي
« صحيح مسلم »، عن أبي ذر قال :
« سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هل رأيت ربك؟ فقال :» نورٌ أنّى أراه
« » ؟ وفي رواية :
« رأيت نوراً »، وروى ابن أبي حاتم، عن عباد بن منصور قال : سألت عكرمة عن قوله :
﴿ مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى ﴾ فقال عكرمة : تريد أن أخبرك أنه قد رآه؟ قلت : نعم، قال : قد رآه، ثم قد رآه، قال : فسألت عنه الحسن، فقال : قد رأى جلاله وعظمته ورداءه
«. فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال، قال رسول الله ﷺ :» رأيت ربي عزّ وجلّ
«، فإنه حديث إسناده على شرط الصحيح، لكنه مختصرب من حديث المنام، كما رواه أحمد عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال :» أتاني ربي الليلة في أحسن صورة أحسبه يعني في النوم فقال : يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال، قلت : لا، فوضع ييده بين كتفيَّ حتى وجدت بردها بين ثدييَّ أو قال نحري فعلمت ما في السماوات وما في الأرض، ثم قال : يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال، قلت : نعم، يختصمون في الكفارات والدرجات، قال : وما الكفارات؟ قال، قلت : المكمث في المساجد بعد الصلوات، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإبلاغ الوضوء في المكاره، من فعل ذلك عاش بخير ومات بخير وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه. وقال : قل يا محمد إذا صليت : اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك : فتنة أن تقبضني إليك غير مفتون، وقال : والدرجات، بذل الطعام وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام
«.
وقوله تعالى كم ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى * عِندَ سِدْرَةِ المنتهى * عِندَهَا جَنَّةُ المأوى ﴾ هذه هي المرة الثانية التي رأى رسول الله ﷺ فيها جبريل على صورته التي خلقه الله عليها وكانت ليلة الإسراء، روى الإِمام أحمد، عن عامر قال :» أتى مسروق عائشة فقال : يا أُم المؤمنين هل رأى محمد ﷺ ربه عزّ وجلّ؟ قالت : سبحان الله لقد وقفَّ شعري لما قلت! أين أنت من ثلاث، من حدثكهن فقد كذب؟ من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت :
﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار ﴾ [ الأنعام : ١٠٣ ]،
﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ﴾ [ الشورى : ٥١ ]، ومن أخبرك أنه يعلم ما في غد، ومن أخبرك أن محمداً قد كتم فقد كذب، ثم قرأت
﴿ إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة وَيُنَزِّلُ الغيث وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام ﴾ [ لقمان : ٣٤ ] الآية، ومن أخبرك أن محمداً قد كتم فقد كذب، ثم قرأت
﴿ ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ﴾ [ المائدة : ٦٧ ] ؛ ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين «
2429
، وروى الإمام أحمد أيضاً عن مسروق قال :
« كنت عند عائشة فقلت أليس الله يقول ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ بالأفق المبين ﴾ [ التكوير : ٢٣ ]، ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى ﴾ فقالت : أنا أول هذه الأمة سألت رسول الله ﷺ عنها فقال :» إنما ذاك جبريل
« لم يره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين، رآه منهبطاً من السماء إلى الأرض ساداً عظم خلقه ما بين السماء والأرض ».
وقال مجاهد في قوله :
﴿ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى ﴾ قال : رأى رسول الله ﷺ جبريل في صورته مرتين، وقوله تعالى :
﴿ إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى ﴾ قد تقدم في أحاديث الإسراء أنه غشيتها الملائكة مثل الغربان، وغشيها نور الرب، وغشيها ألوان ما أدري ما هي. روى الإمام أحمد، عن عبد الله بن مسعود قال :
« لما أسري برسول الله ﷺ انتهى به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السابعة إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها، ﴿ إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى ﴾ قال : فراش من ذهب، قال : وأعطي رسول الله ﷺ ثلاثاً : أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لا يشرك بالله شيئاً من أمته المقحمات » وعن مجاهد قال :
« كان أغصان السدرة لؤلؤاً وياقوتاً وزبرجداً، فرآها محمد ﷺ ورأى ربه بقلبه، وقاتل ابن زيد : قيل يا رسول الله أي شيء رأتي يغشى تلك السدرة؟ قال :» رأيت يغشاها فراش من ذهب، ورأيت على كل ورقة من ورقها ملكاً قائماً يسبح الله عزّ وجلّ
« » وقوله تعالى :
﴿ مَا زَاغَ البصر ﴾ قال ابن عباس : ما ذهب يميناً ولا شمالاً،
﴿ وَمَا طغى ﴾ ما جاوز ما أمر به، ولا سأل فوق ما أعطي، وما أحسن ما قال الناظم :
رأى جنة المأوى وما فوقها ولو | رأى غير ما قد رآه لتاها |
وقوله تعالى :
﴿ لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى ﴾ كقوله :
﴿ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ ﴾ [ الإسراء : ١ ] أي الدالة على قدرتنا وعظمتنا.
2430
يقول تعالى مقرعاً للمشركين في عبادتهم الأصنام والأوثان، واتخاذهم لها البيوت مضاهاة للكعبة التي بناها خليل الرحمن،
﴿ أَفَرَأَيْتُمُ اللات ﴾ ؟ وكانت اللات صخرة بيضاء منقوشة، عليها بيت بالطائف، له أستار وسدنة، يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش، قال ابن جرير : وكانوا قد اشتقوا اسمها من اسم الله فقالوا : اللات يعنون مؤنثة منه، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً، وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله :
﴿ اللات والعزى ﴾ قال : كان اللات رجلاً يلت السويق سويق الحاج. قال ابن جرير : وكذا العزى من العزيز وكانت الشجرة عليها بناء وأستار بنخلة وهي بين مكة والطائف كانت قريش يعظمونها كما قال أبو سفيان يوم أحد :
« لنا العزى ولا عزى لكم، فقال رسول الله ﷺ :» قولوا الله مولانا ولا مولى لكم
« »، وروى البخاري، عن أبي هريرة قال، قال رسول الله ﷺ :
« من حلف فقال في حلفه واللات والعزى فليقل لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه : تعالى أُقامرك فليتصدق »، فهذا محمول على من سبق لسانه في ذلك كما كانت ألسنتهم قد اعتادته من زمن الجاهلية، كما قال النسائي، وأما مناة فكانت بالمشلل بين مكة والمدينة، وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظمونها ويهلون منها للحج إلى الكعبة، وإنما أفرد هذه بالذكر لأنها أشهر من غيرها، قال ابن إسحاق : كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهي بيوت تعظمها، كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجاب تطوف بها كطوافها بها وتنحر عندها، فكانت لقريش ولبني كنانة ( العزى ) بنخلة، وكان سدنتها وحجابها ( بني شيبان ) من سليم حلفاء بن هاشم، قلت : بعث إليها رسول الله ﷺ خالد بن الوليد فهدمها وجعل يقول :
يا عز كفرانك لا سبحانك | إني رأيت الله قد أهانك |
ولهذا قال تعالى :
﴿ أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى * وَمَنَاةَ الثالثة الأخرى ﴾ ؟ ثم قال تعالى :
﴿ أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى ﴾ ؟ أي أتجعلون له ولداً وتجعلون ولده أنثى، وتختارون لأنفسكم الذكر، فلو اقتسمتم أنتم ومخلوق مثلكم هذه القسمة لكانت
﴿ قِسْمَةٌ ضيزى ﴾ أي جوراً باطلة، فكيف تقاسمون ربكم هذه القسمة، التي لو كانت بين المخلوقين كانت جوراً وسفهاً.
ثم قال تعالى منكراً عليهم فيما ابتدعوه وأحدثوه من عبادة الأصنام وتسميتها آلهة
﴿ إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم ﴾ أي من تلقاء أنفسكم
﴿ مَّآ أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ ﴾ أي من حجة
﴿ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَمَا تَهْوَى الأنفس ﴾ أي ليس له مستند إلا حسن ظنهم بآبائهم، الذين سلكوا هذا المسلك الباطل قبلهم، وإلا حظ نفوسهم وتعظيم آبائهم الأقدمين،
﴿ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهدى ﴾ أي ولقد أرسل الله إليهم الرسل، بالحق المنير والحجة القاطعة، ومع هذا ما اتبعوا ما جاءهم به ولا انقادوا له، ثم قال تعالى :
﴿ أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تمنى ﴾ أي ليس كل من تمنى خيراً حصل له،
2431
﴿ لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ولا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكتاب ﴾ [ النساء : ١٢٣ ] ولا كل من ود شيئاً يحصل له، كما روى :
« إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى فإنه لا يدري ما يكتب له من أمنيته » وقوله :
﴿ فَلِلَّهِ الآخرة والأولى ﴾ أي إنما الأمر كله لله، مالك الدنيا والآخرة والمتصرف فيهما، وقوله تعالى :
﴿ وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي السماوات لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَآءُ ويرضى ﴾، كقوله :
﴿ مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾ [ البقرة : ٢٥٥ ]،
﴿ وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ﴾ [ سبأ : ٢٣ ] فإذا كان هذا في حق الملائكة المقربين، فكيف ترجون - أيها الجاهلون - شفاعة هذه الأصنام والأنداد عند الله؟ وهو تعالى لم يشرع عبادتها ولا أذن فيها؟
2432
يخبر تعالى أنه مالك السماوات والأرض، وأنه الغني عما سواه، الحاكم في خلقه بالعدل، وخلق الخلق بالحق
﴿ لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى ﴾ أي يجازي كلاً بعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، ثم فسر المحسنين بأنهم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، أي لا يتعاطون المحرمات الكبائر، وإن وقع بعض الصغائر فإنه يغفر لهم ويستر عليهم كما قال في الآية الأُخْرى :
﴿ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً ﴾ [ النساء : ٣١ ]، وقال هاهنا :
﴿ الذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش إِلاَّ اللمم ﴾، وهذا استثناء منقطع لأن اللمم من صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال، عن ابن عباس قال : ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي ﷺ : قال :
« إن الله تعالى كتب على أبن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنَّفْس تمنّى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه » وقال عبد الرحمن بن نافع : سألت أبا هريرة عن قوله الله :
﴿ إِلاَّ اللمم ﴾، قال : القُبْلة، والغمزة، والنظرة، والمباشرة، فإذا مس الختان الختان، فقد وجب الغسل وهو الزنا، وقال ابن عباس :
﴿ إِلاَّ اللمم ﴾ إلا ما سلف، وكذا قال زيد بن أسلم، وروى ابن جرير، عن مجاهد أنه قال في هذه الآية :
﴿ إِلاَّ اللمم ﴾ قال : الذي يلم بالذنب ثم يدعه، قال الشاعر :
إن تغفر اللهم تغفرجماً | وأيّ عبد لك ما ألما؟ |
وعن الحسن في قوله الله تعالى :
﴿ الذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش إِلاَّ اللمم ﴾ قال : اللمم من الزنان، أو السرقة، أو شرب الخمر ثم لا يعود، وروى ابن جرير، عن عطاء، عن ابن عباس :
﴿ إِلاَّ اللمم ﴾ يلم بها في الحين. قلت : الزنا؟ قال : الزنا ثم يتوب. وعنه قال : اللمم الذي يلم المرأة، وقال السدي، قال أبو صالح : سئلت عن اللمم، فقلت : هو الرجل يصيب الذنب ثم يتوب، وأخبرت بذلك ابن عباس فقال : لقد أعانك عليها ملك كريم.
وقوله تعالى :
﴿ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المغفرة ﴾ أي رحمته وسعت كل شيء، ومغفرته تسع الذنوب كلها لمن تاب منها، كقوله تعالى :
﴿ قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم ﴾ [ الزمر : ٥٣ ]، وقوله تعالى :
﴿ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض ﴾ أي هو مصير بكم، عليم بأحوالكم وأفعالكم حين أنشأ أباكم آدم من الأرض، واستخرج ذريته من صلبه أمثال الذر، ثم قسمهم فريقين : فريقاً للجنة، وفريقاً للسعير، وكذا قوله :
﴿ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ﴾ قد كتب الملك الذي يوكل به رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد.
2434
وقوله تعالى :
﴿ فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ ﴾ أي تمدحوها وتشكروها وتمنوا بأعمالكم
﴿ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى ﴾، كما قال تعالى :
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ ﴾ [ النساء : ٤٩ ] الآية. روى مسلم في
« صحيحه »، عن محمد بن عمرو بن عطاء قال :
« سميت ابنتي برة، فقالت لي زينب بنت أبي سلمة : إن رسول الله ﷺ نهى عن هذا الاسم، وسميت برة، فقال رسول الله ﷺ :» لا تزكوا أنفسكم إن الله أعلم بأهل البر منكم
«، فقالوا : بما نسميها؟ قال :» سموها زينب
« » وقد ثبت أيضاً، عن أبي بكرة قال : مدح رجل رجلاً عند النبي ﷺ فقال رسول الله ﷺ :
« ويلك قطعت عنق صاحبك مراراً إذا كان أحدكم مادحاً صاحبه لا حالة فليقل أحسب فلاناً والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحداً، أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك » وروى الإمام أحمد، عن همام بن الحارث قال :
« جاء رجل إلى عثمان فأثنى عليه في وجهه، قال : فجعل المقداد بن الأسود يحثو في وجهه التراب، ويقول : أمرنا رسول الله ﷺ إذا لقينا المداحين أن نحثو في وجوههم التراب ».
2435
يقول تعالى ذاماً لمن تولى عن طاعة الله
﴿ فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى * ولكن كَذَّبَ وتولى ﴾ [ القيامة : ٣١-٣٢ ]،
﴿ وأعطى قَلِيلاً وأكدى ﴾ قال ابن عباس : أطاع قليلاً ثم قطعه، قال عكرمة : كمثل القوم إذا كانوا يحفرون بئراً فيجدون في أثناء الحفر صخرة تمنعهم من تمام العمل، فيقولون : أكدينا ويتركون العمل، وقوله تعالى :
﴿ أَعِندَهُ عِلْمُ الغيب فَهُوَ يرى ﴾ أي أعند هذا الذي أمسك يده خشية الإنفاق، وقطع معروفه، أعنده علم الغيب أنه سينفد ما في يده حتى أمسك عن معروفه فهو يرى ذلك عياناً؟ أي ليس الأمر كذلك، وإنما أمسك عن الصدقة والبر والصلة بخلاً وشحاً وهلعاً، ولهذا جاء ي الحديث :
« أنفق بلالاً، ولا تخش من ذي العرش إقلالاً »، وقد قال الله تعالى :
﴿ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرازقين ﴾ [ سبأ : ٣٩ ]، وقوله تعالى :
﴿ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ موسى * وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى ﴾ ؟ أي بلّغ جميع ما أمر به، قال ابن عباس :
﴿ وفى ﴾ لله بالبلاغ، وقال سعيد بن جبير :
﴿ وفى ﴾ ما أمر به، وقال قتادة :
﴿ وفى ﴾ طاعة الله وأدى رسالته إلى خلقه، وهذا القول هو اختيار ابن جرير وهو يشمل الذي قبله، ويشهد له قوله تعالى :
﴿ وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ﴾ [ البقرة : ١٢٤ ] فقام بجميع الأوامر، وترك جميع النواهي، وبلغ الرسالة على التمام والكمال، فاستحق بهذا أن يكون للناس إماماً يقتدى به. قال الله تعالى :
﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين ﴾ [ النحل : ١٢٣ ]. روى ابن حاتم، عن أبي أمامة قال :
« تلا رسول الله ﷺ هذه الآية ﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى ﴾ قال :» أتدري ما وفّى
«؟ قلت : الله ورسوله أعلم، قال :» وفّى عمل يومه بأربع ركعات من أول النهار
« » وعن سهل بن معاذ بن أنَس، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :
« ألا أخبركم لم سمى الله تعالى إبراهيم خليله الذي وفَى؟ إنه كان يقول كلما أصبح وأمسى :﴿ فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ﴾ » [ الروم : ١٧ ] حتى ختم الآية.
ثم شرع تعالى يبيّن ما كان أوحاه في صحف إبراهيم وموسى فقال :
﴿ أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى ﴾ أي كل نفس ظلمت نفسها بكفر أو شيء من الذنوب، فإنما عليها وزرها لا يحمله عنها أحد، كما قال :
﴿ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قربى ﴾ [ فاطر : ١٨ ]،
﴿ وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى ﴾ أي كما لا يحمل عليه وزر غيره، كذلك لا يحصل من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه، ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعي رحمه الله، أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى، لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم، ولهذا لم يندب إليه رسول الله ﷺ أمته ولا حثهم عليه، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، فأما الدعاء والصدقة فذاك مجمع على وصولهما ومنصوص من الشارع عليهما، وأما الحديث الذي رواه مسلم في
« صحيحه » عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ :
2436
« إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : من ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده، أو علم ينتفع به » فهذه الثلاثة في الحقيقة هي من سعيه وكده وعمله، كما جاء في الحديث :
« إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده كسبه »، والصدقة الجارية كالوقف ونحوه هي من آثار عمله ووقفه، وقد قال تعالى :
﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ ﴾ [ يس : ١٢ ] الآية، والعلم الذي نشره في الناس فاقتدى به الناس بعده هو ايضاً من سعيه وعمله، وثبت في الصحيح :
« من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً »، وقوله تعالى :
﴿ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى ﴾ أي يوم القيامة، كقوله تعالى :
﴿ وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمؤمنون ﴾ [ التوبة : ١٠٥ ]، فيجزيكم عليه أتم الجزاء إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وهكذا قال هاهنا
﴿ ثُمَّ يُجْزَاهُ الجزآء الأوفى ﴾ أي الأوفر.
2437