تفسير سورة آل عمران

جامع البيان في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن .
لمؤلفه الإيجي محيي الدين . المتوفي سنة 905 هـ
سورة آل عمران
وآياتها مائتان وركوعاتها عشرون

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ الم ﴾ قد مر تفسيرها١، فلا نعيده
١ قد اختلف المفسرون في الحروف المقطعة فكان بعضهم يجعلها أسماء للسور تعرف كل سورة بما افتتحت به منها، وكان بعضهم يجعلها أقساما، وكان بعضهم يجعلها حروفا مأخوذة من صفات الله تعالى يجتمع بها المفتتح الواحد صفات كثيرة، كقول ابن عباس في (كهيعص): إن الكاف من كاف، والهاء من هاد، والياء من حكيم، والعين من عليم، والصاد من صادق، وقال الكلبي: هو كتاب كاف هاد حكيم عالم صادق، ولكل مذهب من هذه المذاهب وجه حسن ونرجو ألا يكون ما أريد بالحروف خارجا منها إن شاء الله.
فإن كانت أسماء للسور فهي أعلام تدل على ما تدل عليه الأسماء من أعيان الأشياء، وتفرق بينها فإذا قال القائل: قرأت (المص) أو قرأت (ص)، أو (ن) دل بذلك على ما قرأ كما تقول: لقيت محمدا، وكلمت عبد الله فهي تدل بالاسمين على العينين، وإن كان قد يقع بعضها مثل (حم)، و(الم) لعدة سور –فإن الفصل قد يقع بأن تقول (حم السجدة) و(الم البقرة) كما يقع الوفاق في الأسماء فتدل بالإضافات وأسماء الأباء والكنى.
وإن كانت أقساما فيجوز أن يكون الله عز وجل أقسم بالحروف المقطعة كلها واقتصر على ذكر بعضها من ذكر جميعها، فقال: (الم) وهو يريد جميع الحروف المقطعة كما يقول القائل: تعلمت (أ ب ت ث) وهو لا يريد تعلم هذه الأربعة الأحرف دون غيرها من الثمانية والعشرين، ولكنه لما طال أن يذكرها كلها اجتزأ بذكر بعضها، ولو قال: تعلمت (حاء طاء صاد) لدل أيضا على حروف المعجم كما دل بالقول الأول، إلا أن الناس يدلون بأوائل الأشياء عليها فيقولون: قرأت (الحمد لله)، يريدون فاتحة الكتاب فيسمونها بأول حرف منها هذا الأكثر وربما دلوا بغير الأول أيضا، أنشد الفراء:
لما رأيت أنها في حطى أخذت منها بقرون شمط
يريد في (أبي جاد)، فدل بحطى كما دل غيره بأبي جاد.
وإنما أقسم الله بحروف المعجم لشرفها، وفضلها، ولأنها مباني كتبه المنزلة بالألسنة المختلفة، ومباني أسمائه الحسنى وصفاته العلى وأصول كلام الأمم بها يتعارفون ويذكرون الله ويوحدون.
وقد أقسم الله في كتابه الفجر، والطور، وبالعصر، وبالتين والزيتون وهما جبلان ينبتان التين والزيتون – يقال لأحدهما: طور زيتا، وللآخر: طور تينا بالسريانية - من الأرض المقدسة، فسماهما بما ينبتان.
وأقسم بالقلم إعظاما لما يسطرون، ووقع القسم بها في أكثر السور على القرآن فقال (الم ذلك الكتاب لا ريب فيه) (البقرة: ١، ٢)، كأنه قال وحروف المعجم لهو الكتاب لا ريب فيه. و(الم الله لا إله إلا هو) أي: وحروف المعجم لهو الله لا إله إلا هو. و(المص كتاب أنزل إليك) (الأعراف: ١، ٢)، أي: وحروف المعجم لهو كتاب أنزل إليك و(يس والقرآن الحكيم) (يس: ١، ٢) [وفي الأصل: ياسين]، و(ص والقرآن ذي الذكر) (ص: ١)، و(ق والقرآن المجيد) (ق: ١)، كله أقسام / مـ تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة. .

﴿ الله لا إله إلا هو ﴾ المتفرد بالألوهية ﴿ الحي ﴾ الذي يصح أن يعلم أو يقدر ﴿ القيّوم ﴾ دائم الحفظ للكائنات.
﴿ نزّل عليك الكتاب ﴾ : القرآن. ﴿ بالحقّ ﴾ : بالصدق، أو بالعدل ؛ وهو حال ﴿ مصدّقا لما بين يديه ﴾ من الكتب أنه من عند الله ﴿ وأنزل التوراة ﴾ على موسى ﴿ والإنجيل ﴾ على عيسى.
﴿ من قبلُ ﴾ من قبل تنزيل القرآن ﴿ هدىً للناس ﴾ في زمانهما ﴿ وأنزل الفرقان ﴾ الفارق بين الحق والباطل، وهو جنس١ الكتب الإلهية عم بعد ما خص ذكر الثلاثة، أو القرآن٢ كرر ذكره بوصفه تعظيما له ﴿ إنّ الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد ﴾ يوم القيامة ﴿ والله عزيز ﴾ غالب لا يغلب ﴿ ذو انتقام ﴾ عقوبة من خالف الرسل.
١ فإن الكتب السماوية كلها فارقة بين الحق والباطل، قيل: فيه إشارة إلى أن للقرآن تنزيلا وإنزالا بخلاف الكتابين فهما إنما نزلا جملة واحدة لا منجما أي: المراد من الفرقان القرآن، وفائدة التكرير وصف القرآن بالإنزال والتنزيل، فإنه أنزل جملة إلى السماء الدنيا ثم منه نزل منجما إلى الأرض بخلاف سائر الكتب فإنه أنزلها جملة على الرسل لا منجما/١٢..
٢ وهو قول قتادة/١٢..
﴿ إنّ١ الله لا يخفى عليه شيء في الأرض٢ ولا في السماء ﴾ قيده بهما، إذ الحس لا يتجاوز عنهما.
١ وصف ذاته الأقدس بالحياة، والقيومية، وإنزال الكتب، وإعداد العذاب للكافر، والعزة والانتقام المتفرع على الألوهية من غير شركة ووصفه أيضا بالعلم فقال: (إن الله لا يخفى)/١٢..
٢ يعني عبر عن العالم بالسماء، والأرض لما أنهما العالم كله في النظر الظاهر/١٢..
﴿ هو١ الذي يصوِّركم في الأرحام كيف يشاء ﴾ من الصور المتنوعة ﴿ لا إله إلا هو العزيز٢ الغالب في الأمور ﴿ الحكيم ﴾ في الأفعال.
١ ولما قدم صفة العلم أتبعه صفة القدرة، والتدبير فقال: (هو الذي) إلخ/١٢ وجيز..
٢ ولما ذكر من الصفات الحسنى ما دل على أنه هو المتفرد بالإلهية، وهو الغالب الحاكم ذكر نتيجته فقال: (لا إله إلا هو العزيز الحكيم)..
﴿ هو الذي أنزل عليك الكتاب ﴾ القرآن ﴿ منه آيات محكمات ﴾١ واضحات الدلالة ﴿ هنّ أمّ الكتاب٢ أصله يرد إليها٣ غيرها، وهن ناسخ القرآن، وحلاله، وحرامه، وحدوده، وفرائضه " ٤ وما يؤمن به، ويعمل به أو قوله :( قل تعالوا ) ( آل عمران : ٢١ )، والآيتان بعدها، وقوله :( وقضى ربك ) ( الإسراء : ٢٣ )، إلى ثلاث آيات بعدها، والآيات كلها في تكاملها كآية٥ واحدة، أو كل واحدة منهن أم الكتاب.
﴿ وأُخر متشابهات ﴾ فيها اشتباه في الدلالة لكثير من الناس إلا للمهرة من العلماء، وبهذا يظهر فضلهم، وهن المنسوخة، والمقدم والمؤخر منه، والأمثال والأقسام، وما يؤمن به ولا يعمل به، أو الحروف التي في أوائل السور٦ ﴿ فأما الذين في قلوبهم زَيغ ﴾ عدول عن الحق، كاليهود، وقالت : الحروف المقطعة بيان مدة أجل هذه الأمة ﴿ فيتّبعون ما تشابه منه ﴾ يتعلقون به لينزلوه على مقاصدهم الفاسدة، وأما المحكم فتركوه لأنه لا نصيب لهم فيه. ﴿ ابتغاء الفتنة ﴾ : الإضلال. ﴿ وابتغاء تأويله ﴾ على ما يشتهونه أو بطلب٧ حقيقته وما يئول أمره إليه. ﴿ وما يعلم تأويله٨ أي ما هو الحق، أو حقيقته. ﴿ إلا الله٩ والرّاسخون١٠ في العلم ﴾ اختلفوا في الوقف على ( الله ) عند أكثر السلف أن تأويل بعض الآيات لا يعلمه أحد إلا الله، ومن القراء من يقف على قوله :( والرّاسخون في العلم )، وهو قول مجاهد وربيع بن أنس، وروى عن ابن عباس أنه قال : أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله. ﴿ يقولون آمنا به ﴾ خبر الراسخون إن جعلته مبتدأ، وإلا فهو استئناف أو حال. ﴿ كلٌّ ﴾ : من المتشابه، والمحكم. ﴿ من عند ربنا وما يذّكّر إلا أولو الألباب ﴾ وما يتعظ بالقرآن ولا يفهمه إلا ذوو العقول السليمة، وفي الحديث١١ حين سئل عن الراسخين :( من برت يمينه وصدق لسانه، واستقام قلبه، ومن عف بطنه وفرجه فذلك من الراسخين في العلم ).
١ قال صاحب الفتح: (والأولى أن يقال: إن المحكم هو الواضح المعنى الظاهر الدلالة إما باعتبار نفسه أو باعتبار غيره، والمتشابه ما لا يتضح معناه أو لا يظهر دلالته لا باعتبار نفسه، ولا باعتبار غيره وإذا عرفت هذا عرفت أن الاختلاف الذي قدمناه ليس كما ينبغي، وذلك لأن أهل كل قول عرفوا المحكم ببعض صفاته وعرفوا المتشابه بما يقابلها ثم نقل تحت قوله تعالى: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به) أقوال العلماء في أن الراسخين في العلم هل يعلمون معنى المتشابهات أم لا؟ إلى أن قال: وأقول هذا الاضطراب الواقع في مقالات أهل العلم أعظم أسبابه اختلاف أقوالهم في تحقيق معنى المحكم والمتشابه، وقد قدمنا ما هو الصواب في تحقيقهما ونزيدك هاهنا إيضاحا وبيانا، فنقول: إن جملة ما يصدق عليه تفسير المتشابه الذي قدمناه – فواتح السور فإنها غير متضحة المعنى، ولا ظاهرة الدلالة لا بالنسبة إلى أنفسها لأنه لا يدري من يعلم بلغة العرب ويعرف عرف الشرع ما معنى الم، المر، حم، طس، طسم ونحوها، لأنه لا يجد بيانها في شيء من كلام العرب، ولا من كلام الشرع فهي غير متضحة المعنى لا باعتبارها نفسها ولا باعتبار أمر آخر يفسرها ويوضحها ومثل ذلك الألفاظ المنقولة عن لغة العجم، والألفاظ العربية التي لا يوجد في لغة العرب ولا في عرف الشرع – ما يوضحها، وهكذا ما استأثر الله به كالروح، وما في قوله: (إن الله عند علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام) إلى آخر الآية (لقمان: ٣٤)، ونحو ذلك وهكذا ما كانت دلالته غير ظاهرة لا باعتبار نفسه ولا باعتبار غيره كورود الشيء محتملا لأمرين احتمالا لا يترجح أحدهما على الآخر باعتبار ذلك الشيء في نفسه، وذلك كالألفاظ المشتركة مع عدم ورود ما بين المراد من معنى ذلك المشترك من الأمور الخارجة وكذلك ورود دليلين متعارضين تعارضا كليّا بحيث لا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر باعتبار نفسه، ولا باعتبار أمر آخر يرجحه، وأما ما كان واضح المعنى باعتبار نفسه بأن يكون معروفا في لغة العرب أو في عرف الشرع أو باعتبار غيره، وذلك كالأمور المجملة التي ورد بيانها في موضع آخر في الكتاب العزيز أو السنة المطهرة والأمور التي تعارضت دلالتها ثم ورد ما يبين راجحها من مرجوحها في موضع آخر من الكتاب والسنة أو سائر المرجحات المعروفة عند أهل الأصول المقبولة عند أهل الإنصاف، فلا شك ولا ريب أن هذه من المحكم لا من المتشابه، ومن زعم أنها من المتشابه فقد اشتبه عليه الصواب فاشدد يديك على هذا فإنك تنجو به من مضائق ومزالق وقعت للناس في هذا المقام حتى صارت كل طائفة تسمى ما دل لما تذهب إليه محكما وما دل على ما يذهب إليه من يخالفها متشابها سيما أهل علم الكلام، ومن أنكر هذا فعليه بمؤلفاتهم/١٢. .
٢ عن سعيد بن جبير: إنما سماهن أم الكتاب لأنهن مكتوبات في جميع الكتب/١٢..
٣ أي: يرجع إليها غيرُها فإن لم يكن مخالفا لها تقبل، وإلا فيحكم ببطلان ما فهمنا منه/١٢ منه..
٤ الأول: قول ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة والضحاك، والسدي وغيرهم، والثاني: رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وسعيد بن جبير/١٢..
٥ يعني القياس أن يقال هن أمهات الكتاب فأفرد على أن الكل بمنزلة آية واحدة أو على تأويل كل واحدة/١٢ منه..
٦ روى عن ابن عباس ومقاتل بن حيان /١٢ منه..
٧ هذا قول مقاتل والسدي/١٢ منه..
٨ ولسنا ممن يزعم أن المتشابه في القرآن لا يعلمه الراسخون في العلم، وهذا غلط من متأوليه على اللغة والمعنى لم ينزل الله شيئا من القرآن إلا لينفع به عباده، ويدل به على معنى أراده. فلو كان المتشابه لا يعلمه غيره للزمنا للطاعن مقال وتعلق علينا بعلة.
وهل يجوز لأحد أن يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف المتشابه، وإذا جاز أن يعرفه مع قول الله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله) - - جاز أن يعرفه الربانيون من صحابته، فقد علم عليّاً التفسير، ودعا لابن عباس فقال: (اللهم علمه التأويل وفقهه في الدين) [أخرجه الحاكم في (المستدرك) (٣/٥٣٦)، وهذا لفظه، وهو في الصحيحين بلفظ: (اللهم فقهه في الدين وعلمه الكتاب)]، وما روى عبد الرزاق عن إسرائيل عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: (كل القرآن أعلم إلا أربعا [في الأصل: ربعا] غسلين وحنانا والأواه والرقيم) – كان هذا من قول ابن عباس في وقت ثم علم ذلك بعد /مـ تأويل مشكل القرآن بتصرف..

٩ وبعض الأحاديث يؤيدهم، وفي قراءة ابن مسعود إن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون، وكذا في قراءة أبي بن كعب/١٢ منه، وهو المتبادر إلى الفهم من سوق كلام الله /١٢ وجيز..
١٠ قال بعض العلماء: التأويل يطلق على المعنيين.
أحدهما: حقيقة الشيء وما يئول إليه أمره كقول الله حكاية عن يوسف: (هذا تأويل رؤياي من قبل) (يوسف: ١٠٠)، وقوله: (يوم يأتي تأويله) (الأعراف: ٣٥).
والثاني: التفسير والبيان فإن أريد به الأول فالوقف على الله، وإن أريد به الثاني فالوقف على قوله: (والراسخون في العلم)/١٢ منه..

١١ ذكره الهيثمي في (المجمع) (٦/٣٢٤) وقال: (رواه الطبراني وعبد الله بن يزيد ضعيف)..
﴿ ربنا لا تُزِغ قلوبنا ﴾ : من مقال الراسخين أي : لا تملها عن الحق إلى اتباع لمتشابه بتأويل غير مراد الله. ﴿ بعد إذ هديتنا ﴾ : إلى الإيمان بالمحكم، والمتشابه. ﴿ وهب لنا من لدنك رحمة ﴾ تثبت بها قلوبنا ﴿ إنك أنت الوهّاب١ : لكل سؤل.
١ أخرج الهروي في ذم الكلام عن الإمام الشافعي قال: حكمي في أهل الكلام حكم عمر في ضبيع [كذا في الأصل، والذي في تفسير القرطبي والقاموس (صبغ) صبيغ] أن يضربوا بالجريد، ويحملوا على الإبل، ويطاف بهم في العشائر والقبائل وينادى عليهم هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على علم الكلام.
وأخرج الدارمي عن عمر بن الخطاب قال: (إنه سيأتيكم ناس يجادلونكم بشبهات القرآن فخنسوهم بالسنن فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله، وأخرج نصر المقدسي في الحجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القرآن هذا ينزع بآية، وهذا ينزع بآية فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان، فقال: (ألهذا خلقتم أم بهذا أمرتم؟، أن تضربوا كتاب الله بعضا ببعض! انظروا ما أمرتم به فاتبعوه وما نهيتم عنه فانتهوا). وأخرج ابن الضريس ونصر المقدسي في الحجة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (نزل القرآن على سبعة أحرف، والمراء في القرآن كفر ما عرفتم فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه)/١٢ در منثور [ذكره الحافظ ابن كثير في (التفسير) (١/٣٤٨) من طريق أبي يعلى الموصلي وقال: (إسناد صحيح ولكن فيه علة بسبب قول الراوي لا أعلمه إلا عن أبي هريرة). .

﴿ ربنا إنك جامع الناس١ ليوم ﴾ : لجزاء يوم أو في يوم. ﴿ لا ريب فيه ﴾ : في وقوعه. ﴿ إن الله لا يخلف الميعاد ﴾.
١ إضافة الجامع إلى الناس إضافة إلى المفعول وليوم متعلق به على حذف المضاف لأن الجمع ليس لليوم نفسه أو للام بمعنى في، والأول أظهر فلا حاجة إلى تقدير/١٢ منه..
﴿ إن١ الذين كفروا ﴾ بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) أو المراد يهود قريظة والنضير.
﴿ لن تُغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا ﴾ أي : لا يدفع عنهم شيئا٢ من عذاب الله أو ما أجزأ عنهم وما كفاهم من رحمة الله شيئا من الإجزاء على أن يكون شيئا مصدرا. ﴿ وأولئك هم وَقود النار ﴾ : حطبها.
١ ولما استعاذوا من الزيغ لخوف الجزاء في القيامة بيّن تعالى حال بعض الزائغين ومآلهم فقال: ﴿إن الذين﴾ الآية/١٢..
٢ ويصح أن يكون مفعولا به؛ لأن معنى أغنى عنه كفاه، فشيئا ثاني مفعوليه كقوله تعالى (وكفى الله المؤمنين القتال) (الأحزاب: ٢٥)، /١٢..
﴿ كدأب آل فرعون ﴾ متعلق بلن تغني أي : لن تغني عنهم كشأن آل فرعون يعني : مثل ما لم تغن عنهم، أو استئناف أي : صنيعهم١ وسنتهم كصنيع آل فرعون.
﴿ والذين من قبلهم ﴾ عطف على آل فرعون. ﴿ كذّبوا بآياتنا ﴾ : حال بإضمار قد أو استئناف، وقيل : الذين من قبلهم مبتدأ وكذبوا خبره ﴿ فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب ﴾ تهويل وتشديد للمؤاخذة.
١ يعني صنيع هؤلاء الكفرة الذين لا يؤمنون بك/١٢..
﴿ قل ﴾ : يا محمد. ﴿ للذين كفروا ستُغلبون ﴾ : في الدنيا. ﴿ وتُحشرون إلى جهنم وبئس المهاد ﴾ جهنم وهو استئناف أو تمام ما يقال لهم لما رجع١ ( رسول الله صلى الله عليه وسلم ) من بدر حذر اليهود أن ينزل عليهم ما نزل على قريش، فقالوا : لا يغرنك أن قتلت أغمارا لا يعرفون القتال ولو قاتلتنا لعرفت الناس فنزلت إلى قوله :( لعبرة لأولي الأبصار )٢، وقيل : الخطاب لقريش.
١ رواه محمد بن إسحاق عن ابن عباس وعن عاصم بن عمر بن قتادة رضي الله عنهم/١٢ منه..
٢ أخرجه ابن إسحاق وابن جرير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس مرفوعا، وفيه عنعنه ابن إسحاق وهو مدلس. وانظر الدر المنثور (٢/١٦)..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢:﴿ قل ﴾ : يا محمد. ﴿ للذين كفروا ستُغلبون ﴾ : في الدنيا. ﴿ وتُحشرون إلى جهنم وبئس المهاد ﴾ جهنم وهو استئناف أو تمام ما يقال لهم لما رجع١ ( رسول الله صلى الله عليه وسلم ) من بدر حذر اليهود أن ينزل عليهم ما نزل على قريش، فقالوا : لا يغرنك أن قتلت أغمارا لا يعرفون القتال ولو قاتلتنا لعرفت الناس فنزلت إلى قوله :( لعبرة لأولي الأبصار )٢، وقيل : الخطاب لقريش.
١ رواه محمد بن إسحاق عن ابن عباس وعن عاصم بن عمر بن قتادة رضي الله عنهم/١٢ منه..
٢ أخرجه ابن إسحاق وابن جرير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس مرفوعا، وفيه عنعنه ابن إسحاق وهو مدلس. وانظر الدر المنثور (٢/١٦)..


﴿ قد كان لكم ﴾ : أيها اليهود وقيل : أيها المشركون والمؤمنون. ﴿ آية في فئتين التقتا ﴾ : يوم بدر. ﴿ فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم١ مِّثليهم ﴾ الجملة٢ حال، وتقاتل خبر لفئة أو صفة لها، والجملة خبرها أي : يرى المشركون يوم بدر المسلمين مثلي عدد المسلمين أو المشركين، ليحصل لهم الرعب، والمسلمون كانوا ثلاث مائة وبضعة عشر، وهم ما بين تسع مائة إلى ألف، وهذا في أول الأمر وأما في حال القتال فكل من المسلمين والكافرين قللوا الآخر كما قال تعالى :( وإذ يريكموهم إذا التقيتم في أعينكم ) ( الأنفال : ٤٣ )، إلخ. لتقدموا٣ عليهم، ويقضي الله أمرا كان مفعولا أو يرى المسلمون الكافرين مثلي عدد المسلمين مع أنهم أكثر ليقوي قلوبهم بوعد الله، وهو قوله :( وإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ) ( الأنفال : ٦٦ ). أو مثلي عدد المشركين ليتوكلوا أو يطلبوا الإعانة من الله، وحين القتال قللهم الله في أعينهم حتى سأل٤ بعض المسلمين بعضهم : هل تراهم سبعين ؟ قال : أراهم مائة. ﴿ رأي العين ﴾ : رؤية ظاهرة معاينة. ﴿ والله يؤيّد بنصره من يشاء ﴾ : نصره ﴿ إنّ في ذلك ﴾ : أي : التقليل والتكثير وغلبة القليل عليهم. ﴿ لعبرة ﴾ : عظة. ﴿ لأولي الأبصار ﴾ : لذوي البصائر.
١ وقراءة نافع في قوله: (ترونهم) بالتاء محمول على الالتفات على ما قدرنا إلا على قول من قال الخطاب في (قد كان لكم) إما للمشركين أو للمؤمنين، فإنه لا يكون من باب الالتفات/١٢ منه [ والالتفات هو تحول الكلام من صيغة إلى أخرى كما في قوله تعالى: إياك نعبد وإياك نستعين بعد قوله: الحمد لله رب العالمين... إلخ، فقد تحول الكلام من صيغة الغائب إلى صيغة المخاطب لغرض بلاغي هو استحضار مقام العبودية، وتجلي الذات الإلهية] د/هنداوي مراجعه..
٢ أي جملة يرونهم/١٢ منه..
٣ أي ليقدموا كل منهما على الآخر/١٢..
٤ السائل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه/١٢..
﴿ زُيِّن١ للناس حب الشهوات ﴾ أي : المشتهيات سماها شهوات مبالغة. ﴿ من النساء والبنين والقناطير ﴾ القناطر٢ المال الكثير. ﴿ المُقنطرة ﴾ ذكرت للتأكيد كبدرة مبدرة أو القنطار ألفا أوقية أو ألف دينار أو ألف ومائتا دينار، وقيل غيرها. ﴿ من الذهب والفضة والخيل ﴾ : عطف على النساء. ﴿ المسوّمة ﴾ : الراعية٣، والمطهمة٤ الحسان أو الغرة والتحجيل وقيل غيرهما. ﴿ والأنعام ﴾ الإبل، والبقر، والغنم. ﴿ والحرث ذلك٥ إشارة إلى ما ذكر. ﴿ متاع الحياة الدنيا ﴾ : وهي فانية. ﴿ والله عنده حُسن المآب ﴾ أي : المرجع والثواب وفيه تزهيد من الدنيا.
١ لما ذكر أنه لا يغني أولادهم ولا أموالهم من الله شيئا فصل الأموال والأولاد وغيرهما مما هو شاغل عن ذكر الله فقال: (زين للناس)/١٢..
٢ رواه الحاكم في مستدركه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه [المستدرك (٢/١٧٨) وأقره الذهبي] والثاني قول أنس وابن عباس والحسن البصري وغيرهم والثالث قول الضحاك من العرب من يقول القنطار ألف ومائتا دينار وعن أبي سعيد الخدري ملء مسك الثور ذهبا/١٢ منه..
٣ كذا فسره ابن عباس وأكثر السلف، والثاني قول مكحول/١٢ منه..
٤ أي: تام الخلق سمينة/١٢..
٥ فإفراده وتذكيره مع أنه للإشارة إلى جميع ما ذكر نظرا إلى المذكور، وقد جوزوا في الضمير الإفراد والتذكير، والتأنيث بالنظر إلى الخبر/١٢ منه..
﴿ قل ﴾ : يا محمد. ﴿ أؤنبّئكم بخير من ذلكم ﴾ أأخبر بخير مما زين للناس ؟ ! ﴿ للذين اتقوا ﴾ : الشرك. ﴿ عند ربهم جنات١ تجري من تحتها ﴾ : من تحت أشجارها. ﴿ الأنهار خالدين فيها أزواج مطهّرة ﴾ : من الحيض وسائر الدنس. ﴿ ورضوان من الله ﴾ : فلا يسخط عليهم أبدا.
﴿ والله بصير بالعباد ﴾ بأعمالهم وأحوالهم، فيعطيهم ما يستحقونه.
١ الظاهر أن (جنات) مبتدأ، و(للذين اتقوا) خبره وقيل: جاز أن يكون للذين متعلقا بخير، وجنات خبر مبتدأ محذوف أي: هو جنات/١٢ منه..
﴿ الذين يقولون ﴾ : مرفوع أو منصوب١ بالمدح. ﴿ ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا ﴾ : بإيماننا لك. ﴿ وقنا عذاب النار ﴾.
١ قيل: جاز أن يكون مجرورا صفة للذين اتقوا وهذا بعيد جدا، وأما جعله صفة للعباد فالبعد من جهة المعنى، حيث خص كونه بصيرا بالعباد المخصوصين/١٢ منه..
﴿ الصابرين ﴾ : على الشرع. ﴿ والصادقين ﴾ : في اللسان. ﴿ والقانتين ﴾. المطيعين الخاضعين. ﴿ والمُنفقين ﴾ : من أموالهم في أموالهم في جهات الخير. ﴿ والمستغفرين١ بالأسحار ﴾ فإنها وقت الإجابة، أو المصلين، قيل : هو الذي يصلي الصبح بالجماعة.
١ عن ابن عباس قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستغفر بالأسحار سبعين مرة)، وعن سعيد الجريري قال: (بلغنا أن داود عليه السلام سأل جبريل أي الليل أفضل؟ قال: يا داود ما أدري إلا أن العرش يهتز في السحر وقد ثبت في الصحيحين، وغيرهما عن جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل الله تبارك وتعالى في كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: هل من سائل فأعطيه، هل من داع فأستجيب له، هل من مستغفر فأغفر له) [ أخرجه البخاري في (التهجد) (١١٤٥)، وفي مواضع أخر من صحيحه، ومسلم في (صلاة المسافرين)] وفي الباب أحاديث، وفيه وفي أمثاله مذهب السلف الإيمان به وإجراؤه على ظاهره، ونفى الكيفية عنه وهو الحق/١٢ فتح..
﴿ شهِد١الله أنه لا إله إلا هو ﴾ :٢ بأن نصب أدلة التوحيد أو بين الله أو حكم الله ﴿ والملائكة وأولو العلم٣ بالإقرار، وهذه مرتبة جليلة للعلماء. ﴿ قائما٤ بالقسط ﴾ : بالعدل في أحكامه، وهو من حال الله. ﴿ لا إله إلا هو ﴾ : كرره تأكيدا، وليبني عليه قوله ﴿ العزيز ﴾ فلا يرام جنابه عظمة. ﴿ الحكيم٥ فلا يصدر عنه شيء إلا على وفق الاستقامة.
١ ولما بيّن أن المتقين القائلون بوحدانية ربهم أتبعهم ما يدل على صدق مقالهم، وأنهم مندرجون في زمرة الشهداء الذين هم الملائكة، والأنبياء، والأولياء فقال: (شهد الله) الآية/١٢ وجيز..
٢ أخرج ابن عدي والطبراني في الأوسط، والبيهقي في شعب الإيمان وضعفه والخطيب في تاريخه وابن النجار عن غالب القطان قال: (أتيت الكوفة فنزلت قريبا من الأعمش، فلما كان ليلة أردت أن أنحدر، فقام فتهجد من الليل فمر بهذه الآية (شهد الله أنه لا إله إلا هو) إلى قوله: (إن الدين عند الله الإسلام) فقال: (وأنا أشهد بما شهد الله به، وأستودع الله هذه الشهادة، وهي لي وديعة عند الله) قالها مرارا، نقل هذه القصة السيوطي في الدر المنثور [٢/٢١] قال (المحشي محمد بن عبد الله الغرنوي): وأنا أشهد مرارا وأنادي بهذه الشهادة على رؤوس الأشهاد جهارا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي وديعة عند الله أشهد أن لا إله إلا هو قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم، ثم أشهد، ثم اشهد إلى يوم أموت ويوم أبعث حيا/١٢..
٣ من الأنبياء والأتقياء بأن أقروا واعترفوا وبينوا أدلة التوحيد وكفى للعالمين هذه المرتبة الجليلة/١٢ وجيز..
٤ نصب قائما على أنه حال من فاعل شهد وجاز لأنه لا لبس نحو رأيت السلطان وعبيده راكبا/١٢ وجيز..
٥ قال المحرر: وأنا على ذلك من الشاهدين/١٢..
﴿ إن الدّين عند الله الإسلام١ جملة مؤكدة للأولى أي : لا دين مقبول عنده سوى الإسلام، وهو اتباع سيد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ﴿ وما اختلف الذين أُوتوا الكتاب ﴾ مطلقا أو اليهود في دين الإسلام بأنه حق أو باطل ﴿ إلا من بعد ما جاءهم العلم٢ : بحقية الإسلام. ﴿ بغيا ﴾ : حسدا. ﴿ بينهم ومن يكفر بآيات الله ﴾ بما أنزله في كتابه ﴿ فإن الله سريع الحساب ﴾ المجازاة.
١ قال بعض المحققين: الإسلام انقياد الرسل وأتباعهم في كل حين حتى ختم بسيد الرسل الذي سد جميع الطرق إلى الله إلا من جهته/١٢..
٢ فإنهم علموا من كتبهم حقيقة الإسلام وقرؤوا فيها نعته صلى الله عليه وسلم فهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم/١٢ منه..
﴿ فإن حاجّوك ﴾ : جادلوك في الدين، والتوحيد. ﴿ فقل أسلمت وجهي لله١ : أخلصت نفسي وعبادتي له. ﴿ ومن اتّبعن٢ : عطف على الضمير المتصل٣ يعني : ديني دين التوحيد الذي ثبت عندكم أيضا وما جئت بشيء بديع حتى تجادلوني. ﴿ وقل للذين أوتوا الكتاب والأميّين ﴾ : الذين لا كتاب لهم من العرب ﴿ أأسلمتم ﴾ لما وضحت الحجة لكم أم أنتم بعد على الكفر ؟ وفي هذا النوع من السؤال تعيير٤ لهم، وقيل : استفهام بمعنى الأمر ﴿ فإن أسلموا فقد اهتدَوا وإن تولّوا ﴾ : أعرضوا. ﴿ فإنما عليك البلاغ ﴾ : وقد بلغت وليس عليك هداهم. ﴿ والله بصير بالعباد ﴾ : وعد ووعيد.
١ أي: انقدت لله بلساني، وعقدي والوجه زيادة كما قال: (كل شيء هالك إلا وجهه) (القصص: ٨٨)، يريد إلا هو، وقوله تعالى: (إنما نطعمكم لوجه الله) (الإنسان: ٩)، أي: لله، قال زيد بن عمرو بن نفيل في الجاهلية:
أسلمت وجهي لمن أسلمت له المزن تحمل عذبا زلالا
و أسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخرا ثقالا
دحاها فلما استوت شدها سواء وأرسى عليها الجبالا.

٢ ولا يبعد أن يكون المراد كفاني إسلام أصحابي، فإن أسلمتم فلكم، وإن كفرتم فعليكم، وما عليّ إلا البلاغ، ولهذا قال: (وقل للذين أوتوا الكتاب) الآية/١٢ وجيز..
٣ وجاز للفصل/١٢..
٤ بمعاندتهم وعدم إنصافهم كما إذا أوضحت مسألة على أحد، ثم تقول له: هل فهمت؟! توبيخا له على البلادة/١٢..
﴿ إن الذين يكفرون بآيات الله ﴾ كأهل الكتاب كفروا بنعت محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم. ﴿ ويقتلون النبيّين ﴾ : كبني إسرائيل قتلوا أربعين نبيًّا في ساعة من أول النهار وفعل آباؤهم فعلهم، وذلك لأن الأنبياء على طريقتهم راضون عن فعلهم١. ﴿ بغير حق ﴾ : أي : عندهم أيضا وإنما حملهم على ذلك اتباع الهوى. ﴿ ويقتلون الذين يأمرون بالقسط ﴾ : بالعدل ﴿ من الناس ﴾ : قام٢ مائة وسبعون رجلا من بني إسرائيل أمروا على من قتل الأنبياء بالمعروف فقتلوا في آخر النهار.
﴿ فبشّرهم بعذاب أليم ﴾ اعلم أن من لم يجوز٣ الفاء في خبر إن قال : خبره ( أولئك الذين ) نحو قولك زيد فافهم رجل صالح.
١ الدائرون حول قتل سيد الأنبياء، فكأن الأسباط هم الأسلاف فالبشارة بالعذاب للأسباط؛ ولهذا أورد قبائح أجدادهم بصيغة المضارع لأنها بمنزلة فعل أسباطهم وليتذكروها كأن أفعالهم شاهدة/١٢ وجيز..
٢ هكذا رواه ابن أبي حاتم وابن جرير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم/١٢ منه [ذكره ابن كثير في (التفسير) (١/٣٥٦) من طريق ابن أبي حاتم، وفي سنده ضعف]..
٣ والصحيح جواز دخول الفاء في خبر إن إذا كان اسمها متضمنا معنى الشرط نحو: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم) الآية (الأحقاف: ١٣)، (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات) الآية (البروج: ١٠)، (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله) الآية (محمد: ٣٤)، /١٢ وجيز..
﴿ أولئك الذين حبطت أعمالهم ﴾ : بطلت. ﴿ في الدنيا ﴾ لأنها لم تحقن دماءهم وأموالهم ﴿ والآخرة ﴾ : ما استحقوا ثوابا ﴿ ومالهم من ناصرين ﴾ : ليدفعوا عنهم العذاب.
﴿ ألم تر١ إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ﴾ : كاليهود ومن للتبعيض. ﴿ يُدعون إلى كتاب الله ﴾ : التوراة أو القرآن. ﴿ ليحكم بينهم ﴾ قيل : نزلت في الرجم سألوا محمدا عليه الصلاة والسلام حد المحصن فحكم بالرجم فما صدقوه فطلب التوراة، فلما أتوا بها ستروا آية الرجم بأكفهم، وابن السلام٢ رفع كفهم عنها وقرأها على اليهود فغضبوا وانصرفوا، أو نزلت لما قالوا : كان إبراهيم يهوديا. فلما قيل لهم هلموا التوراة فأبوا، وعن ابن عباس وقتادة أنهم دعوا إلى القرآن فأعرضوا عنه. ﴿ ثم يتولّى فريق منهم ﴾، ثم لاستبعاد توليهم مع العلم. ﴿ وهم مُعرِضون ﴾ قوم عادتهم الإعراض أو معرضون عن كتابهم.
١ ألم تخبر وكذلك أكثر ما في القرآن/١٢..
٢ المشهور أنه: ابن سلام..
﴿ ذلك ﴾ أي : الإعراض. ﴿ بأنهم قالوا لن تمسّنا النار إلا أياما معدودات ﴾ : قلائل، أربعين يوما بعدد أيام عبادة العجل أو سبعة أيام بإزاء كل ألف سنة يوم أي : الإعراض بسبب تسهيلهم عذاب الله ﴿ وغرّهم في دينهم ما كانوا يفترون ﴾ كقولهم :( لن تمسنا النار ) وأن الله وعد يعقوب أن لا يعذب ذريته.
﴿ فكيف ﴾ : يكون حالهم ﴿ إذا جمعناهم ليوم ﴾ : لجزاء يوم. ﴿ لا ريب فيه ﴾ : لا شك في وقوعه مع أنهم كذبوا رسلهم، وقتلوهم، وافتروا.
﴿ ووُفّيت كل نفس ما كسبت ﴾ أي : جزاءه. ﴿ وهم ﴾ أي : كل نفس لأنه في معنى كل إنسان. ﴿ لا يُظلمون ﴾ بنقصان الحسنات وتضعيف السيئات.
﴿ قل١ اللهم ﴾ : يا الله. ﴿ مالك الملك ﴾ : لك الملك كله وهو نداء ثان عند من يجعل الميم مانعا من الوصفية. ﴿ تُؤتي المُلك من تشاء ﴾ : كمحمد وأصحابه أو الملك بمعنى النبوة. ﴿ وتنزع المُلك ممن تشاء ﴾ : أي تنزع منه كاليهود، وصناديد القريش. ﴿ وتُعزّ من تشاء وتُذل من تشاء ﴾ : إذلاله كاليهود والمشركين. ﴿ بيدك الخير ﴾ اكتفى بالخير، لأنه المرغب فيه أو لأن الكلام في الملك والنبوة وهما خير، أو لأن الخير مقضي بالذات إذ ما من شر إلا وفيه أنواع الخير أو لمراعاة الأدب في الخطاب وتقديم الخبر للحصر. ﴿ إنك على كل شيء ﴾ : من الخير والشر. ﴿ قدير ﴾، وهذه الآية إرشاد إلى شكر نعمه، من تخويل الملك والنبوة والعز للمسلمين، والذل لليهود، وقيل : نزلت لما فتح مكة ووعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح ملك فارس والروم وقالت اليهود والمنافقون : هيهات.
١ ولما بين ضلال أهل الكتاب، وحال مآلهم بعد الموت أشار إلى مآلهم في الدنيا بأن لهم الذل وانتزاع ديارهم وملكهم منهم، وعز المسلمين وانتقال ملك أهل الضلال إليهم فقال: (قل اللهم مالك الملك) الآية/١٢ وجيز..
﴿ تُولج١ تدخل أي : بالتعقيب أو بالزيادة والنقص. ﴿ الليل في النهار وتُولج النهار في الليل وتُخرج الحي من الميّت وتُخرج الميّت من الحيّ ﴾ : كالحيوان من النطف والنطف منه، والبيض من الطير وعكسه أو كالمؤمن من الكافر وعكسه. ﴿ وترزق من تشاء بغير حساب ﴾ : فمن قدر على مثل ذلك قدر على كل شيء.
١ ولما ذكر أنه على كل شيء قدير بين ذلك بقوله (تولج) إلخ/١٢..
﴿ لا يتخذ١ المؤمنون الكافرين أولياء ﴾ : نهوا عن موالاتهم بصداقة، أو قرابة أو غيرهما ﴿ من دون المؤمنين ﴾ إشارة إلى أنهم الحقيق٢ بالمحبة. ﴿ ومن يفعل ذلك ﴾ : اتخاذهم أولياء بأن يظهر عليهم أسرار المسلمين. ﴿ فليس من الله ﴾ : من دين الله وولايته.
﴿ في شيء ﴾ : فإن محبتي متعادين لا تجتمعان. ﴿ إلا أن تتقوا٣ منهم تقاة ﴾ أي : إلا أن تخافوا من جهتهم ما يجب أن يتقى فيكون مفعولا به وجاز أن تضمن تتقوا معنى تحذروا فيكون معدى بمن، وتقاة مصدر نهوا عن الموالاة في جميع الأوقات إلا وقت المخافة فإنه جازت المداراة حينئذ باللسان. ﴿ ويحذّركم الله نفسه ﴾ يعني عن عقاب يصدر عن نفسه، وهذا غاية التحذير كما يقال : احذر غضب السلطان نفسه،
﴿ وإلى الله المصير ﴾ فاحذروا كل الحذر.
١ ولما بين أن الخير كله بيده، وهو القادر على كل شيء وهو الرزاق فعلى عبيده أن يتوكلوا في جميع أمورهم على ربهم ولا يتجاوزوا بوجه من الوجوه وحال من الأحوال عن طاعة مولاهم ولا يركنوا إلى أعداء الله – حذر من الركون إليهم فقال: (لا يتخذ المؤمنون) الآية/١٢ وجيز..
٢ في النسخة (ن): الأحقاء..
٣ وتتقوا من باب الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، وهذا الالتفات في غاية الحسن؛ لأنه حين نهاهم عما لا يجوز جعلهم غائبين، ولما حصل الإذن في بعض ذلك واجههم إيذانا بلطف الله، وتشريفا بخطابه إياهم/١٢ وجيز..
﴿ قل إن تُخفوا ما في صدروكم ﴾ : من ولايتهم وغيرها، ﴿ أو تُبدوه ﴾ قيل : إن تخفوا ما في قلوبكم من تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تظهروه بحربه، ﴿ يعلمه الله ﴾ : يحفظه الله حتى يجازيكم ﴿ ويعلم ما في السماوات وما في الأرض ﴾ : فكيف لا يعلم سركم وجهركم ؟ ! ﴿ والله على كل شيء قدير ﴾ فيقدر على عقوبة متخذي الولاية لهم كأنه قال :( يحذركم نفسه ) فإنه متصف بعلم ذاتي محيط١ بجميع الكون وقدرة ذاتية تعم المقدورات.
١ وفي نسخة (ن): يحيط..
﴿ يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تودّ لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ﴾ أي : جزاء ما عملت أو صحائفه، وعامل يوم ( تود ) أي : تتمنى لو أن بينها وبين ذلك اليوم أمدا يوم تجد الخير والشر حاضرين عنده، ولو للتمني وجملة ( لو أن بينها ) كالبيان للتمني أو تقديره : اذكر يوم تجد، وتود حال من فاعل عملت مبتدأ لا عطف على ما عملت وتود خبره، وحينئذ ضمير ( بينه ) لما عملت. ﴿ ويحذّركم الله نفسه ﴾ كرره تأكيدا ليكون على بال منه. ﴿ والله رؤوف بالعباد ﴾ : ومن رأفته بهم حذرهم بنفسه.
﴿ قل إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني ﴾ : نزلت١ حين سجدوا للأصنام٢ زعما منهم أن الباعث لعبادتهم حب الله، وقيل : نزلت لما قالت اليهود : نحن أبناء الله وأحباؤه وقيل : نزلت في وفد نجران لما قالوا نعبد المسيح حبًّا لله. ﴿ يُحْببكم٣ الله ﴾ أي : يرض عنكم ويُثبكم، ﴿ ويغفر لكم ذنوبكم ﴾ : والجزم لجواب الأمر يعني يحصل لكم فوق ما طلبتم٤ كما قيل :( ليس الشأن أن تحِب إنما الشأن أن تحَب ) ﴿ والله غفور رحيم ﴾ : باتباعكم للرسول.
١ منقول عن ابن عباس ذكره البغوي والواحدي وغيرهما/١٢ منه..
٢ في الأصل: الأصنام..
٣ قوله تعالى: (إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) فإن هذا يدل على أنهم إذا اتبعوه أحبهم الله فإنه جزم قوله (يحببكم الله) فجزمه جوابا للأمر وهو في معنى الشرط تقديره: إن تتبعوني يحببكم الله ومعلوم أن جواب الشرط والأمر إنما يكون بعده لا قبله فمحبة الله لهم إنما تكون بعد اتباعهم للرسول، والمنازعون منهم من يقول: ما ثم محبة، بل المراد ثوابا مخلوقا، ومنهم من يقول: بل ثم محبة قديمة أزلية إما الإرادة وإما غيرها والقرآن يدل على قول السلف، وأئمة السنة المخالف للقولين وكذلك قوله: (ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه) (محمد: ٤٧)، فإنه يدل على أن أعمالهم أسخطته فهي سبب لسخطه، وسخطه عليهم بعد العمال لا قبلها وكذلك قوله: (فلما آسفونا انتقمنا منهم) (الزخرف: ٥٥)، وكذلك قوله: (إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم) (الزمر: ٧)، علق الرضى بشكرهم وجعله مجزوما جزاء له وجزاء الشرط لا يكون إلا بعده، وكذلك قوله: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) (البقرة: ٢٢٢)، ويحب المتقين، ويحب المقسطين، و(يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا) (الصف: ٤)، ونحو ذلك فإنه يدل على أن المحبة بسبب هذه الأعمال، وهي جزاء لهذه الأعمال، والمسبب والجزاء إنما يكون بعد العمل والسبب (.....) [ ما بين القوسين رموز غير مفهومة لعلها تشير إلى أنه من كلام شيخ الإسلام كما أوضح في الموضع الذي أشار فيه بعد] شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني قدس الله روحه وسيأتي بعض ما يتعلق بالمحبة في تفسير قوله تعالى ﴿وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين﴾ (آل عمران: ١٤٦)، إن شاء الله تعالى..
٤ فإنهم طلبوا مرتبة المحبية فيحصل لهم مرتبة المحبوبية، ومن أين إلى أين/١٢..
﴿ قل أطيعوا الله والرسول فإن تولّوا ﴾ : عن الطاعة. ﴿ فإن الله لا يحب الكافرين١ : لا يرضى عنهم أتى بالظاهر بدل الضمير٢ دلالة على أن التولي كفر.
١ فيه دلالة على أن التولي كفر، وعلى أن مرتكب السيئات يحوم حول وادي الكفر، ولما أوجب طاعة الرسل وبين أنها الجالب لمحبة الله عقبه ببيان مناقبهم تحريضا على طاعتهم، فقال: (أن الله اصطفى آدم) الآية/١٢..
٢ وذلك لأن أصل السياق أن يقول (فإن تولّوا فإن الله لا يحبهم) فلما قال (إن الله لا يحب الكافرين) بإيقاع الاسم الظاهر (للكافرين) مكان الضمير (هم) علم أن الله تعالى قد سمى المتولي أي المعرض عن طاعة الله ورسوله كافرا. د/هنداوي..
﴿ إن الله اصطفى١ : بالرسالة ﴿ آدم ونوحا ﴾ ونوح أول رسول بعثه لما عبد الناس الأوثان. ﴿ وآل إبراهيم ﴾ منهم سيد البشر عليه الصلاة والسلام ﴿ وآل عمران ﴾ : هو والد٢ مريم أو والد موسى وهارون. ﴿ على العالمين ﴾ : ومن العالمين الملائكة.
١ عام يراد به خاص ولم يصطفهم على محمد (صلى الله عليه وسلم) ولا أممهم على أمته ألا تراه يقول: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) (آل عمران: ١١٠)، وغنما أراد عالمي أزمنتهم هذا كقوله سبحانه: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا) (الحجرات: ١٤)، وإنما قاله فريق من الأعراب، وقوله تعالى: (والشعراء يتبعهم الغاوون) (الشعراء: ٢٢٤)، لم يرد كل الشعراء/١٢..
٢ هذا قول محمد بن إسحاق، والثاني قول قتادة/١٢ منه..
﴿ ذرّية بعضها من بعض ﴾ حال أو بدل من نوح والآلين أي : إنهم ذرية واحدة متشعبة بعضها من بعض. ﴿ والله سميع ﴾ : لأقوال الناس، ﴿ عليم ﴾ بأعمالهم فيصطفي مستقيم القول والعمل.
﴿ إذ قالت ﴾ مفعول لاذكر، قيل : ظرف لسميع وعليم أي : سميع عليم بقول امرأة عمران وبنتها إذ قالت ﴿ امرأة عمران ﴾ : هي أم مريم. ﴿ رب إني نذرت لك ما في بطني ﴾ أوجبت على نفسي أن يكون ما في بطني لك لا أستخدمه، ﴿ محرّرا ﴾ حال أي : معتقا مخلصا للعبادة قيل : كانت لا تحمل فرأت طائرا يُطعم فرخه ؛ فاشتهت الولد ؛ فدعت ؛ فاستجيب دعاؤها، ﴿ فتقبل مني ﴾ : ما نذرت، ﴿ إنك أنت السميع ﴾ : بقولي، ﴿ العليم ﴾ : بنيتي.
﴿ فلما وضعتها ﴾ تأنيث الضمير لأن ما في البطن كان أنثى. ﴿ قالت رب إني وضعتها أنثى ﴾ قالته تحسرا وعذرا مما نذرت فإنها ترجو ذكرا، ولذلك حررته، وأنثى حال عن مفعول وضعت. ﴿ والله أعلم بما وضعت ﴾ : هو قول الله تعظيما لموضوع كان آية للعالمين، وقرئ :( وَضَعتُ ) فيكون من كلامها تسلية لنفسها لعل لله فيها سرا، ﴿ وليس الذّكر كالأنثى ﴾ فيما نذرت لما فيها من الحيض والنفاس وعدم القوة، وقيل : هو قول الله أيضا أي : ليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت، ﴿ وإني سمّيتها١ مريم ﴾ : عطف على إني وضعتها أنثى قيل : معنى المريم في لغتهم العابدة. ﴿ وإني أُعيذها بك ﴾ : أجيرها بحمايتك، ﴿ وذريتها من الشيطان الرجيم٢ : المطرود، في الحديث، ( ما من مولود يولد ؛ إلا مسه الشيطان حين يولد، فيستهل صارخا من مسه إياه، إلا مريم وابنها )٣.
١ أشار بقولها إني سميتها مريم إلى أن تفاءلت باسمها حتى يكون فعلها مطابقا لاسمها/١٢ منه..
٢ وذكرت ذلك لربها تقربا إليه وطلبا لأن يصحبها [تصحفت في الأصل إلى (يصبحها)] حتى يكون فعلها مطابقا لاسمها/١٢..
٣ أخرجه البخاري في (الأنبياء) (٣٤٣١)، وفي غير موضع من صحيحه، ومسلم في (الفضائل) (٢٣٦٦)..
﴿ فتقبّلها ربها ﴾ : رضي بها مكان الذكر. ﴿ بقبول حسن ﴾ : بوجه١ حسن يقبل به النذائر، ﴿ وأنبتها ﴾ : رباها، ﴿ نباتا حسنا ﴾ بشكل مليح، ومعرفة وطاعة بالله وكانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام، ﴿ وكفّلها زكريا ﴾ ؛ لتقتبس منه علما وعملا، وكان٢ زوج خالتها أو زوج٣ أختها وقرئ بتشديد الفاء ونصب زكريا على أن يكون مفعولا ثانيا والفاعل هو الله. ﴿ كلما دخل عليها زكريا المحراب٤ أي الغرفة التي بنى لها في المسجد، ﴿ وجد عندها رزقا ﴾ : فاكهة الصيف في الشتاء وبالعكس، أو صحفا٥ فيها علم والأول أصح، ﴿ قال يا مريم أنّى لك هذا ﴾ : من أين لك في غير أوانه والأبواب مغلقة ؟ ! ﴿ قالت هو من عند الله ﴾، فلا يستبعد قيل : هي كعيسى تكلمت صغيرة، وقيل : لم ترضع ثديا ويأتي رزقها من الجنة، ﴿ إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ﴾ ؛ لكثرته وسعة وجوده، وهو يحتمل أن يكون من كلام الله، أو من كلامها.
١ الظاهر أن يقال فتقبلها قبولا لأنه مصدر فاحتجنا لتصحيح معنى الباء في حمل القبول على الاختصاص المذكور الذي هو ما يقبل به الشيء بجعله معنى المفعول بالواسطة أعني ما يقبل به وهو قريب من الآلة/١٢..
٢ كما ذكره ابن إسحق، وابن جرير، وغيرهما/١٢..
٣ كما ورد في الصحيح [يعني في حديث المعراج، وقوله فيه: (فإذا بيحيى وعيسى وهما ابنا الخالة)]..
٤ أخرج ابن المنذر عن السدي: المحراب: المصلى، وأخرج الطبراني والبيهقي في سننه عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا هذه المذابح) يعني: المحاريب [ أخرجه البيهقي في (الكبرى) (٢/٤٩)، وقال الهيثمي في (المجمع) (٨/٦٠): (رواه الطبراني وفيه عبد الله بن مغراء وثقه ابن حبان وغيره وضعفه ابن المديني في روايته عن الأعمش وليس هذا منها)]، وأخرج ابن أبي شيبه في المصنف عن موسى الجهني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال أمتي بخير ما لم يتخذوا في مساجدهم مذابح كمذابح النصارى)/١٢ در منثور [الدر المنثور (٢/٣٧)]، وفي الفتح: قد رويت في كراهية ذلك آثار كثيرة من الصحابة/١٢..
٥ الأول لمجاهد وعكرمة وقتادة وجم غفير من السلف وروى ابن أبي حاتم عن مجاهد أنه صحفا من علم/١٢..
﴿ هنالك ﴾ في ذلك المكان أو الوقت الذي رأى الأشياء في غير أوانها، وعلم منزلتها، وكرامتها على الله، ﴿ دعا زكريا ربه ﴾ : طمع في الولد من العاقر، ورغب في أن يكون له ولد. ﴿ قال رب هب لي من لدنك ﴾ : من غير أسباب ظاهرة١ ﴿ ذرّية طيبة ﴾ كما وهبتها لأم مريم العجوز العاقر ﴿ إنك سميع الدعاء ﴾ مجيبه.
١ فإن زوجته أيشاع كانت عاقرا عجوزا، وكانت أختها حنة أم مريم كذلك/١٢..
﴿ فنادته الملائكة ﴾ أي : جنس الملائكة فإن المنادي جبريل وحده، ﴿ وهو قائم ﴾ : في الصلاة١ ﴿ يصلي في المحراب أن الله٢ أي : بأن الله، ﴿ يبشّرك بيحيى ﴾ أي : بولد من صلبك اسمه يحيى سمي به لأنه أحياه الله بالإيمان، ﴿ مصدقا بكلمة من الله ﴾ أي : بعيسى سمي بالكلمة لأنه أوجده بخطاب كن دون أب، وهو أول من صدق عيسى، كانا ابني خالة، وكانت أم يحيى تقول لمريم إني أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك، وقيل بكلمة من الله أي : بكتاب الله، ﴿ وسيّدا ﴾ : حليما يفوق في الخلق والكرم والدين، ﴿ وحَصُورا ﴾ : لا يأتي النساء أو الذي لا يولد له أو الذي لا ينزل الماء وقيل والدين، ﴿ وحَصُورا ﴾ : لا يأتي النساء أو الذي لا يولد له أو الذي لا ينزل الماء وقيل حصورا في حبس النفس عن الشهوات٣، وفي الحديث٤ :( كل ابن آدم يلقى الله بذنب إلا يحيى ابن زكريا فإنه كان سيدا وحصورا ) ثم أهوى النبي صلى الله عليه وسلم إلى قذاة من الأرض فأخذها فقال :( كان ذكره مثل هذه القذاة )٥. ﴿ ونبيا ﴾ ناشئا، ﴿ من٦ الصالحين٧ أو كائنا ممن لم يأت ذنبا.
١ خبر بعد خبر، أو صفة لقائم، أو حال/١٢ منه..
٢ ومن قرأ: (إن) بكسر الهمزة فعلى إرادة القول أي: فنادته الملائكة وقالت: (إن الله) أو لأن النداء نوع من القول /١٢ منه..
٣ هذا هو الأرجح لأن الفضيلة لا تتم إلا بحبس النفس عن المعصية مع توفر دواعيها. د/هنداوي..
٤ رواه ابن أبي حاتم بروايات متنوعة، وابن المنذر في تفسيره وقد صح عن كثير من الصحابة أنه لم يأت النساء إما لحبس نفسه عن الشهوات أو لأنه عنين، وقد منعه قاضي عياض في الشفاء بأن العنة عيب ونقيصة لا يليق بالأنبياء وقال: (بل معناه أمه معصوم عن الفواحش)، وقال ابن كثير في الحديث المرفوع إلى النبي عليه الصلاة والسلام: في هذا المعنى نظر، والموقوف إلى الصحابة أقوى إسنادا من المرفوع/١٢ منه.
.

٥ ذكره الحافظ ابن كثير في (التفسير) (١/٣٦٢) من طريق ابن أبي حاتم واستغربه، وهو كذلك إذ إن العنة – وهي عدم الميل إلى النساء – صفة نقص وذم منافية لصفات الكمال التي جبل الأنبياء عليها، فضلا عن أنها قادحة في رجولتهم وفحولتهم، وقد ثبت أن سليمان – عليه السلام – طاف على سبعين امرأة وفي رواية: مائة امرأة في ليلة واحدة، وكذا نبيا – صلى الله عليه وسلم – طاف على نسائه التسع في ليلة واحدة. .
٦ فمن للابتداء فإنه كان من أصلاب الأنبياء/١٢..
٧ قال الزجاج: الصالح الذي يؤدي لله ما افترض عليه وللناس حقوقهم/١٢ فتح..
﴿ قال رب١ أنّى يكون لي غلام ﴾ استبعاد من حيث العادة واستعظام أو استفهام عن كيفية حدوثه، ﴿ وقد بلغني الكبر ﴾
﴿ وامرأتي٢ عاقر ﴾ : لا تلد. ﴿ قال ﴾ : أي الملك، ﴿ كذلك الله يفعل ما يشاء ﴾ أي : يفعل ما يشاء من العجائب مثل٣ ذلك الفعل، فكذلك متعلق يفعل وقيل :( كذلك الله٤ ) مبتدأ وخبر و( يفعل ما يشاء ) بيان أو تقديره : الأمر كذلك، و( الله يفعل ) بيان.
١ قيل لما وعده الله تعالى جاءه الشيطان وقال: (إن الصوت الذي سمعت ليس من الله بل من الشيطان) فقال: (رب أنّى يكون لي غلام) دفعا للوسوسة فلذلك طلب الآية/١٢ منه..
٢ أيكون من هذه المرأة أم من امرأة أخرى أو صيرت صغيرا ولودا وهذا قول الحسن رحمه الله لكن قوله: (قال كذلك الله يفعل ما يشاء) مشعر بالوجه الأول كما لا يخفى/١٢ منه..
٣ وهو إيجاد الولد بين الشيخ الفاني والعجوز العاقر/١٢ منه..
٤ أي على نحو هذه الصفة الله/١٢ منه..
﴿ قال رب اجعل لي آية ﴾ علامة أستدل على وجود الولد، فأزيد في العبادة شكرا لك، ﴿ قال ﴾ : الله، ﴿ آيتُك ألا تكلم الناس ﴾ أي : لا تقدر عليه مع أنك سوي صحيح تقدر الحمد والتسبيح، ﴿ ثلاثة أيام إلا رمزا١ : إشارة بنحو يد ورأس وحاجب، والاستثناء متصل جعله من جنس الكلام ؛ لأنه فهم من الرمز ما يفهم من الكلام أو منقطع٢ ﴿ واذكر ربك كثيرا ﴾ : في أيام الحبسة، ﴿ وسبّح بالعشي٣ : آخر النهار. ﴿ والإبكار ﴾ : أول النهار.
١ الرمز تحريك الشفتين أو الحاجبين أو العينين، ولا يكون كتابا/١٢ م..
٢ كذا ذكره ابن جريج، والسدي عن ابن عباس، والحسن وقتادة، والضحاك، وغيرهم/١٢ منه..
٣ أي ما بين زوال الشمس إلى غروبها، فصلاة الظهر والعصر صلاة العشي/١٢ منه..
﴿ وإذ قالت الملائكة ﴾ أي : جبريل وهو من جنس الملك، ﴿ يا مريم إن الله اصطفاك ﴾ اختارك أولا لشرفك١، ﴿ وطهّرك ﴾ : من الأكدار والوساوس، وقيل من الحيض أو من تهمة اليهود ﴿ واصطفاك على نساء العالمين٢ : مطلقا أو على عالمي زمانها.
١ حين تقلبك من أمك وأبيك/١٢ منه..
٢ روى الترمذي وصححه قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله اصطفى من نساء العالمين مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت رسول الله، وآسية امرأة فرعون)، ورواه ابن مردويه أيضا /١٢ منه [ وهو صحيح، انظر صحيح الترمذي (٣٠٥٣) ولفظه: (حسبك من نساء العالمين...]..
﴿ يا مريم اقنُتي١ لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ﴾ أمرت بالخشوع والطاعة وغاية الخضوع والصلاة مع الجماعة، وجماعة الرجال أفضل أو كوني٢ معهم، قيل ركدت٣ في محرابها راكعة وساجدة وقائمة حتى نزل الماء الأصفر في قدميها.
١ عن مجاهد قال: (لما قيل اقنتي لربك) قامت حتى ورمت قدماها/١٢ در منثور..
٢ في عدادهم لا في عداد غيرهم/١٢..
٣ قاله الأوزاعي/١٢..
﴿ ذلك ﴾ : القصص، ﴿ من أنباء الغيب نوحيه إليك ﴾ : من الغيوب التي لا تعرفها إلا بالوحي، ﴿ وما كنت لديهم إذ يُلقون أقلامهم ﴾ : ليعلموا،
﴿ أيُّهم١ يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون ﴾ : في كفالتها وذلك أن أمها يوم ولدتها أتت به سدنة بيت المقدس وقالت :( دونكم هذه النذيرة فإني حررتها ) فتنافس الأحبار فيها لأنها ابنة إمامهم فأقرعوا بالأقلام التي يكتبون بها التوراة عليها ؛ فخرجت القرعة لزكريا فكفلها.
١ لا يمكن تعلق (أيهم يكفل مريم) بيلقون؛ لأنه ليس من الأفعال التي تعلق بالاستفهام، فلابد من تقديره ليكون الاستفهام في موقع مفعوله وهو ليعلموا فإنه لابد أن يكون من أفعال القلوب، ويدل عليه يلقون أقلامهم/١٢ منه..
﴿ إذ قالت الملائكة ﴾ أي : جبريل بدل من إذ يختصمون على أن الاختصام١، والبشارة في زمان متسع أو من إذ قالت، ﴿ يا مريم إن الله يبشّرك بكلمة منه٢ : من الله أي : عيسى، ﴿ اسمه٣ ذكر ضمير الكلمة ؛ لأن المسمى مذكر، ﴿ المسيح٤ معرّب مسيحا بالعبرية أي : المبارك قال بعض السلف لكثرة سياحته سمى به،
أو لأنه ما مسح ذا عاهة إلا برئ، ﴿ عيسى ابن مريم ﴾ نسبه إلى أمه حيث لا أب له، ﴿ وجيها ﴾ : له وجاهة ومكانة ﴿ في الدنيا والآخرة ومن المقرّبين ﴾ نصب وجيها ومن المقربين على الحال من كلمة ؛ لأنها نكرة موصوفة.
١ فإن وقعت الاختصام ظاهر أنه قبل البشارة بمدة فاحتيج في جواز الإبدال إلى أن يعتبر زمان ممتد يقع الاختصام في بعض أجزائه والبشارة في بعض آخر ليصح بالنظر إلى ذلك الزمان أنهما في زمان واحد كما يقال: وقع القتال والصلح في سنة واحدة/١٢ منه..
٢ وفي تفسير أبي السعود في سورة النساء يحكى أن طبيبا حاذقا نصرانيا جاء الرشيد فناظر على ابن الحسين الواقدي ذات يوم فقال له: (إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى جزء من الله)، وتلا هذه الآية في قوله: ﴿وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه﴾ فقرأ له الواقدي: ﴿وسخّر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه﴾ وقال: (إذن يلزم أن يكون جميع تلك الأشياء جزء منه سبحانه؛ فانقطع النصراني وأسلم، وفرح الرشيد فرحا شديدا وأعطى الواقدي صلة فاخرة/١٢ فتح..
٣ الاسم أحد الثلاثة، وهو عيسى، والمسيح لقبه، وابن مريم صفته والمراد من الاسم هذه العلامة التي بها الامتياز، وهي مجموع الثلاثة لا واحد أو كل واحد علامة مميزة، وليس المراد بالاسم هو العلم المقابل للقب، والكنية فافهم/١٢..
٤ أي بولد يكون وجوده بكلمة من الله لا على طريق الأبناء الآخر من مادة، وأب، ومدة/١٢..
﴿ ويكلم الناس ﴾، عطف على وجيها، ﴿ في المهد١ : طفلا وهو آية ﴿ وكهلاً ﴾ بالمرة، وقيل إنه رفع شابا فالمراد٢ كهلا بعد نزوله فهو آية أخرى قيل : في ذكر ( وكهلا ) بشارة لمريم ببقائه أو إشارة إلى أنه لا يصل إلى سن الشيخوخة أو إلى أن كلامه في الحالتين من جنس واحد، ﴿ ومن الصالحين ﴾ أي : في قوله وعمله عطف على وجيها أو على في المهد.
١ الظاهر أن في المهد ظرف لغو ليكلم لا حال، لكن عطف كهلا عليه يدل على أنه حال/١٢..
٢ كذا في الأصل..
﴿ قالت رب أنّى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ﴾ استبعاد عادي ؛ لأنها كانت محررة لله والمحررة لا تتزوج أبدا. ﴿ قال ﴾ : جبريل،
﴿ كذلك١ الله يخلق ما يشاء ﴾ أي يخلق مثل ذلك الأمر، ﴿ إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ﴾ أي : إذا أراد شيئا فإنما يقول له : احدث فيحدث، كان تامة، والمراد تمثيل حصول ما تعلقت به إرادته بلا مهلة بطاعة المأمور المطيع بلا توقف أو القول حقيقي.
١ جاز في إعرابه الأوجه الثلاثة التي مرت في (كذلك الله يفعل ما يشاء) وأختار نصبه بأنه صفة لمفعول مطلق؛ لأنه يتبادر إلى الذهن/١٢ منه..
﴿ ويعلّمه١ الكتاب ﴾ أي : الكتابة أو جنس الكتب المنزلة وهو عطف على يبشرك أو وجيها٢ أو كلام مبتدأ من تمام بشارة مريم، ﴿ والحكمة ﴾ : الفهم أو معاني كلام الله وقد مر، ﴿ والتوراة والإنجيل ﴾ نزلت التوراة على موسى والإنجيل على عيسى، وكان يحفظهما.
١ أخرج ابن المنذر بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال: لما ترعرع عيسى جاءت به أمه إلى الكتاب فدفعته إليه فقال: (قل) بسم، فقال: بسم الله، قال المعلم قل: الرحمن، قال عيسى: الرحيم، فقال المعلم قل أبو جاد، فقال: هو في كتاب الله، فقال عيسى أتدري ما ألف؟ قال: لا قال: آلاء الله، أتدري ما باء قال لا، قال بهاء الله أتدري ما جيم؟ قال، لا قال جلال الله أتدري ما اللام قال لا قال: لا إله إلا الله، فجعل يقرأ على هذا النحو فقال المعلم كيف أعلم من هو أعلم مني؟! قالت: فدعه يقعد مع الصبيان فكان يخبر الصبيان بما تدخر لهم أمهاتهم في بيوتهم هكذا نقل السيوطي في الدر المنثور وصححه [ ٢/٤٦] لكن لا أثق بتصحيحه فالعهدة عليه والله أعلم/١٢ [الخبر ليس بصحيح لانقطاعه]..
٢ التوجيه الآخر في العطف هو الأولى؛ لأن قراءة من قرأ و(نعلمه) بالنون يرد الباقي إلا أن يقدر إن الله يبشرك بعيسى، ويقول نعلمه الكتاب وأما حديث الالتفات فما لا يلتفت إليه فتأمل/١٢ منه..
﴿ ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم ﴾ تقديره ويجعله١ رسولا مخبرا بأني قد جئتكم أو عطف على وجيها أو كهلا٢ وطفلا مضمنا معنى النطق كأنه قال : وناطقا بأني، وتخصيص بني إسرائيل بتخصيص بعثته بهم أو للرد على من قال : إنه ليس مبعوثا إليهم، ﴿ أني أخلق لكم ﴾ أقدر وأصور ﴿ من الطين كهيئة الطير ﴾ : مثل صورته بدل من ( أني قد جئتكم ) أو من آية أو تقديره : هي أني أخلق ﴿ فأنفخ فيه ﴾ أي : في المثل، فالضمير له كاف ﴿ فيكون طيرا بإذن الله ﴾ أي : حيا طيارا بإذن الله، ﴿ وأُبرئ الأكمه ﴾ : من٣ ولد أعمى، وقيل من يبصر نهارا لا ليلا، وقيل بالعكس، ﴿ والأبرص وأُحيي الموتى بإذن الله ﴾ تكرار ( بإذن الله ) لدفع وهم الألوهية فإن الإحياء ليس من فعل البشر، ﴿ وأُنبّئكم بما تأكلون ﴾ : الآن، ﴿ وما تدّخرون في بيوتكم ﴾ : للغد، ﴿ إنّ في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ﴾ : مصدقين للحق.
١ قيل: تقديره وأرسلت رسولا بأني على تقدير القول أي: ويقول أرسلت ليكون عطفا على يعلمه/١٢ منه..
٢ لا يجوز أن يكون معطوفا على المعطوفات المتقدمة؛ لأنها في حكم الغيبة وهذا في حكم التكلم لتعلق قوله: إني قد جئتكم فلم يصح بعث الله عيسى مصدقا أنا، ولكن مصدقا هو فلذلك وجه بوجهين/١٢ منه..
٣ الوجهان الأخيران هما قولان لبعض السلف فأوردناهما /١٢..
﴿ ومصدّقا ﴾ منصوب بفعل١ مقدر أي : وجئتكم مصدقا ﴿ لما بين يدي ﴾ : لكتاب أنزل من قبلي، ﴿ من التوراة ولأحل لكم ﴾ تقديره : وقد جئتكم لأحل، قيل عطف على معنى مصدقا نحو : جئتك معتذرا ولأطيب قلبك٢، ﴿ بعض الذي حُرّم عليكم ﴾، في شرع موسى كالشحوم، ولحوم الإبل، وغيرهما، وفيه دلالة على أن شرعه نسخ بعض شرع موسى، وهو الصحيح من القولين، ﴿ وجئتكم بآية من ربكم ﴾ : حجة على صدقي، ﴿ فاتقوا الله وأطيعون ﴾ : فيما أقول.
١ لا أنه معطوف على رسولا والأحوال قبله لأنه وجب أن يقول لما بين يديه فافهم..
٢ يمكن عطفه على محذوف أي: جئتكم مصدقا لأهديكم ولأحل لكم/١٢ منه..
﴿ إن الله ربي وربكم فاعبدوه ﴾ : لما أظهر المعجزة شرع في الدعوة، وقيل الآية قوله :( إن الله ربي وربكم ) فإنه المجمع عليه بين الأنبياء والفارق بين النبي والساحر، ﴿ هذا صراط مستقيم ﴾ أي : طريق مشهود له بالاستقامة.
﴿ فلما أحس عيسى منهم الكفر ﴾ : تحقق عنده تحقق المحسوسات، ﴿ قال من أنصاري إلى الله ﴾ أي : من يتبعني إلى الله أو إلى بمعنى١ مع وقيل بمعنى في أو اللام أو تقديره : من أنصاري ذاهبا إلى الله أو في الدعوة إلى الله، ﴿ قال الحواريون ﴾ من الحور، وهو البياض الخالص، وحواري الرجل خالصته، وقيل : كانوا قصارين سموا بذلك لبياض أثوابهم، وقيل : ملوكا لا يلبسون إلا البيض، ﴿ نحن أنصار الله ﴾ أي : أنصار دينه، ﴿ آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ﴾.
١ أي: مع الله، والعرب تقول: (الذود إلى الذود إبل) أي: مع الذود أو الذود قطيع من الإبل الثلاث إلى التسع/١٢م..
﴿ ربنا آمنا بما أنزلت واتّبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ﴾ مع أمة٢ محمد صلى الله عليه وسلم وقيل : مع الأنبياء فإنهم شهداء لأتباعهم، وقيل : مع الشاهدين بوحدانيتك.
﴿ ومكروا ﴾ أي : الذين أحس منهم الكفر في قتل عيسى، ﴿ ومكر١ الله ﴾ : جازاهم٢ على مكرهم حين رفع عيسى، وألقى شبهه على أحد، فأخذوه، وقتلوه، ﴿ والله خير الماكرين ﴾ أقواهم وأقدرهم.
١ المكر في العبد حيلة يجلب بها غيره إلى مضرة، ولا يسند إلى الله إلا على سبيل المقابلة ووصف تعالى نفسه بالمكر والكيد كما وصف عبده بهما لكن ليس المكر كالمكر والكيد كالكيد، ولله المثل الأعلى (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) (الشورى: ١١)/١٢..
٢ هذا من باب الجزاء عن الفعل بمثل لفظه، والمعنيان مختلفان نحو قوله الله تعالى: (إنما نحن مستهزؤون الله يستهزئ بهم) (البقرة: ١٤، ١٥) - أي: يجازيهم جزاء الاستهزاء وكذلك (سخر الله منهم) (التوبة: ٧٩)، (ومكروا ومكر الله)، (وجزاء سيئة سيئة مثلها) (الشورى: ٤٠)، هي من المبتدئ سيئة، ومن الله جل وعز جزاء وقوله تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) (البقرة: ١٩٤)، فالعدوان الأول ظلم والثاني: جزاء والجزاء لا يكون ظلما وإن كان لفظه كلفظ الأول، ومنه قول النبي (صلى الله عليه وسلم): (اللهم إن فلانا هجاني وهو يعلم أني لست بشاعر اللهم العنه عدد ما هجاني أو مكان ما هجاني) [ لا يصح، انظر العلل لابن أبي حاتم (٢٢٨٣)]، أي: جازه جزاء الهجاء، وكذلك قوله تعالى (نسوا الله فنسيهم) (التوبة: ٦٧) /١٢ م..
﴿ إذ قال الله ﴾ ظرف لمكر الله، ﴿ يا عيسى إني متوفّيك ﴾ المراد من الوفاة ها هنا النوم١، وعليه الأكثرون أو في الآية تقديم وتأخير تقديره إني رافعك إلي ومتوفّيك يعني بعده أو توفاه الله ثلاث ساعات حين رفعه إليه أو سبع٢ ساعات ثم أحياه أو متوفيك من الدنيا، وليس بوفاة موت أي : قابضك من الأرض وافيا لم ينالوا منك شيئا من توفيت مالي، ﴿ ورافعُك٣إليّ٤ إلى محل كرامتي، ﴿ ومُطهّرك من الذين كفروا ﴾ : من سوء جوارهم، ﴿ وجاعل الذين اتّبعوك ﴾ : هم المسلمون من أمة محمد عليه الصلاة والسلام ومن تبعه من النصارى. أو الحواريون، ﴿ فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ﴾ : بالغلبة والعزة وإلى الآن لم تسمع غلبة٥ اليهود، ﴿ ثم إليّ مرجعكم ﴾ : أيها التابعون والكافرون، ﴿ فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون٦ من أمر عيسى ودينه.
١ صرح بذلك الحسن، وغيره نقله ابن أبي حاتم/١٢..
٢ قال ابن إسحاق: النصارى يزعمون أن الله توفاه سبع ساعات ثم أحياه/١٢ منه والإجماع على أنه حي في السماء ينزل، ويقتل الدجال، ويؤيد الدين/١٢ وجيز..
٣ الرفع النقل من أسفل إلى علو/١٢ وجيز..
٤ قوله: (ورافعك إلي) هذه الآية الشريفة دلت بظاهرها على أن الله تعالى فوق سماواته، وكذلك قوله تعالى: ﴿بل رفعه الله إليه﴾ (النساء: ١٥٨)، وقوله تعالى: (يخافون ربهم من فوقهم) (النحل: ٥٠)، وقوله تعالى: ﴿يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه﴾ (السجدة: ٥)، وقوله تعالى: ﴿أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض﴾ (الملك: ١٦)، وقوله تعالى: ﴿ذي المعارج تعرج الملائكة والروح إليه﴾ (المعارج: ٤)، وقوله تعالى: وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا} (غافر: ٣٦، ٣٧)، يعني: أظن موسى كاذبا في أن إلهه في السماء ولو لم يكن موسى عليه السلام يدعوه إلى إله في السماء لما قال هذا إذا لو كان قال له إن الإله الذي أدعوك إليه ليس في السماء لكان هذا القول من فرعون عبثا، وكان بناؤه القصر جنوبا.
وقال الحافظ شمس الدين بن القيم في إغاثة اللهفان: والأساطين قبله – يعني أساطين الفلاسفة قبل أرسطو – كانوا يقولون بحدوثه يعني: بحدوث العالم، وإثبات الصانع ومباينته للعالم وأنه فوق العالم، وفوق السماوات بذاته كما حكاه أبو الوليد رشيد في كتاب مناهج الأدلة وهو أعلم الناس في زمانه بمقالاتهم، فقال: فيه القول في الجهة وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتونها لله سبحانه حتى نفتها المعتزلة، ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشاعرة كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله إلى أن قال: والشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء وأن منه تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين وأن من السماوات نزلت الكتب وإليها كان الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك ثم ذكر تقرير ذلك بالعقول، وبين بطلان الشبهة التي لأجلها نفتها الجهمية ومن وافقهم إلى أن قال: فقد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل وأن إبطاله إبطال الشرائع، ولم تزل أساطينهم معظمين للرسل والشرائع معترفين بأن ما جاؤوا به طورا آخر وراء طور العقل، وكانوا لا يتكلمون في الإلهيات، ويسلمون باب الكلام إلى الرسل، ويقولون علومنا إنما هي الرياضيات، والطبيعيات وتوابعها إلى آخر ما ذكر.
وقال عثمان بن سعيد الدارمي في النقض على المريسي: وقد اتفقت الكلمة من المسلمين أن الله فوق عرشه فوق سماواته.
وقال الإمام أبو سليمان الخطابي في كتاب شعار الإيمان: إن إنكار الفوقية شيء سرقه المتأخرون من الفلاسفة، وفي ذلك رد لكتاب الله وسنة رسوله انتهى.
وقال الإمام البخاري في كتاب خلق الأفعال: قال ابن المبارك: (لا نقول كما قالت الجهمية إنه في الأرض ها هنا بل على العرش استوى، وقيل له كيف نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه انتهى ذكره شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام الحراني/١٢.
وقال الإمام أبو عبد الرحمن بن حنبل رحمه الله: ما فطر العباد إلا على أن ربهم في السماء/١٢ وقال شاه ولي الله رحمه الله رسالته الذب عن تقي الدين بن تيمية: والحق في هذا المقام أن الله أثبت لنفسه جهة الفوق وأن الأحاديث متظاهرة على ذلك، وقد نقل الترمذي ذلك عن الإمام مالك ونظرائه انتهى/١٢.
قال شيخ الإسلام بن تيمية في الأجوبة المصرية ولهذا تنوع أهل السنة في اسم الجهة فمنهم من يقول: هو في جهة، ومنهم من يقول: لا أطلق لفظ الجهة وربما قال بعضهم: ليس بجهة، وذلك لأن هذا اللفظ بعينه ليس بمنصوص عن الشارع [تحرفت في الأصل إلى: الشارح (بالحاء)] حتى يتفقوا ومعناه محتمل فمن أثبته أراد به أنه فوق العرش ومن نفاه أراد به أنه ليس في نفس الخلق فلفظ الجهة فيه اشتراك وإجمال انتهى/١٢. وسيأتي إيضاح ذلك في سورة يونس تحت قوله تعالى: ﴿ثم استوى على العرش﴾ (يونس: ٣)، إن شاء الله تعالى.
.

٥ وشردهم الله تعالى أي تشريد ليس لهم مدينة يختصمون بها وهم مفرقون في أقطار تحت قهر اليهود والنصارى/١٢ وجيز..
٦ ثم فصل المحكوم بينهم إلى مؤمن وكافر وذكر جزاء كل منهما فقال: ﴿فأما الذين كفروا﴾ الآية/١٢ وجيز..
﴿ فأما الذين كفروا فأعذّبهم عذابا شديدا في الدنيا ﴾ بالسبي والقتل والجلاء وهو بيان حال الفريقين لا تفصيل الحكم الأخروي ؛ لأنه ينافيه قوله : في الدنيا، ﴿ والآخرة وما لهم من ناصرين ﴾ لا في الدنيا، ولا في الآخرة.
﴿ وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفّيهم أجورهم ﴾ : بلا نقص، ﴿ والله لا يحب الظالمين ﴾ : لا يرحمهم فهو سبحانه لا يظلم.
﴿ ذلك ﴾ : ما سبق من القصص، ﴿ نتلوه عليك من الآيات ﴾ : حال من مفعول نتلو، أو خبر ذلك ونتلوه حال والعامل معنى الإشارة أو خبر بعد خبر، ﴿ والذكر الحكيم ﴾ أي من القرآن المحكم الممنوع عن الباطل أو من اللوح المحفوظ، أو من الذكر المشتمل على الحكم.
﴿ إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم ﴾ : شأنه الغريب كشأنه، ﴿ خلقه من تراب ﴾ أي : خلق قالبه من تراب، والجملة مفسرة للتمثيل، ﴿ ثم قال له كن ﴾ : بشرا، ﴿ فيكون ﴾ حكاية حال ماضية شبه الغريب وهو ما لا أب له بالأغرب وهو ما لا أمّ ولا أب له ليكون أحسم لمادة شبهة الخصم.
﴿ الحق من ربك ﴾ أي : هو الحق أو الحق المذكور من الله، ﴿ فلا تكن من المُمترين ﴾ خطاب للنبي عليه الصلاة والسلام والمراد ثباته ونهي غيره عن الشك.
﴿ فمن حاجّك فيه ﴾ : في عيسى، ﴿ من بعد ما جاءك من العلم ﴾، بأنه عبد الله ورسوله، ﴿ فقل تعالوا ﴾ : هلموا، ﴿ ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ﴾، أنفسنا : رسول الله، وعلي بن أبي طالب عليهما الصلاة والسلام١، والعرب تسمي ابن عم الرجل نفسه، وأبناءنا : الحسن، والحسين، ونساءنا : فاطمة رضي الله عنهم هكذا٢ ذكره السلف، وقيل : معناه يدع كل مني ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه على المباهلة، وقدم الأبناء والنساء على النفس ؛ لأن الرجل يقدمهم على نفسه ويفدي بنفسه لهم، ﴿ ثم نبتهل ﴾ نتضرع في الدعاء أو نتلاعن من الابتهال الالتعان ﴿ فنجعل لعنة الله على الكاذبين ﴾ الفاء على المعنى الأول ألصق، وسبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة في وفد٣ نجران النصارى يحاجون في عيسى يزعم بعضهم أنه وهو الله، وبعضهم أنه ولد الله وبعضهم أنه ثالث ثلاثة، فأنزل الله فيهم صدر هذه السورة إلى بضع وثمانين آية، فخرج٤ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومعه الحسن والحسين وفاطمة وعلي ودعاهم إلى المباهلة فقالوا : دعنا ننظر، فاستشاروا فقال كبيرهم : ما لاعن قوم نبيا قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم، وإني أراهم وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا لأزال، فأتوا وقالوا : يا أبا القاسم قد رأينا ألا نلاعنك، ونتركك على دينك ونرجع على ديننا ونبذل لك الخراج.
١ كذا قال، والأولى أن يقال: علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – كسائر أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن اختصاصه دونهم بالصلاة والسلام عليه، قد يوهم ما عليه من يعتقد نبوته من الشيعة. د/هنداوي..
٢ رواه الحاكم في مستدركه عن بعض الصحابة وقال: صحيح على شرط مسلم وهو المروي عن ابن عباس والبراء وغيرهم من أكثر السلف/١٢ منه..
٣ وفد نجران وهم ستون راكبا وفيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم وعلمائهم/١٢..
٤ رواه ابن مردويه، والبيهقي، والنسائي كل منهم من [كذا بالأصل، و(مِن) تأتي بمعنى (عن) انظر همع الهوامع للسيوطي بتحقيق د/عبد الحميد هنداوي] أحد من الصحابة وروى البخاري، ومسلم [أخرجه البخاري في (المغازي) (٤٣٨٠)، ومسلم في (الفضائل). (٢٤٢٠)]، والترمذي بعض هذا الذي نقلناه وذكره ابن إسحاق في سيرته بتفصيل، وتطويل/١٢ منه..
﴿ إن هذا ﴾ أي : قصص وعيسى ومريم، ﴿ لهُو القصص الحق ﴾ : دون ما ذكروه، ﴿ وما من إله إلا الله ﴾ : ردا على النصارى في تثليثهم، ﴿ وإن الله لهُو العزيز الحكيم ﴾ فلا أحد يساويه في القدرة، والحكمة، فلا إله غيره.
﴿ فإن تولّوا ﴾ عما أوحيت إليك، ﴿ فإن الله عليم بالمفسدين١، وضع المظهر موضع المضمر، دلالة على أن الإعراض من٢ التوحيد والحجج إفساد للدين.
١ فيه دلالة على أن الإعراض عن التوحيد والحجج إفساد الدين، ولما أتم الحجة أمر بندائهم إلى إذعان النتيجة، فقال: ﴿قل يا أهل الكتاب تعالوا﴾ الآية/١٢ وجيز..
٢ كذا في الأصل، وسبق التنبيه عليه آنفا..
﴿ قل يا أهل الكتاب ﴾ : اليهود، والنصارى، ومن جرى مجراهم، ﴿ تعالَوا إلى كلمة سواء ﴾ : مستوية، ﴿ بيننا وبينكم ﴾ : لا يختلف فيها رسول، ولا كتاب، والكلمة تطلق على الجملة وتفسيرها قوله :﴿ ألا نعبد إلا الله ﴾ : نوحده بالعبادة، ﴿ ولا نشرك به شيئا ﴾ : في استحقاق العبادة، ﴿ ولا يتخذ١ بعضنا بعضا أرباباً من دون الله ﴾ : لا٢ يطيع بعضنا بعضا في معصية الله، أو لا نسجد لأحد، قيل : كما اتخذت النصارى عيسى واليهود عزيرا، ﴿ فإن تولّوا ﴾ : عن إجابة التوحيد، ﴿ فقولوا اشهدوا٣ بأنا مسلمون ﴾ : مقرون بالتوحيد دونكم.
١ اختلفوا في معنى اتخاذهم إياهم أربابا بعد الاتفاق على أنه ليس المراد أنه جعلوهم آلهة فقال أكثر المفسرين المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم ثم نقل حديث عدي بن حاتم الذي رواه الترمذي أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: ﴿اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله﴾ قال: (إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه) [وهو حديث حسن، انظر صحيح سنن الترمذي (٢٤٧١)] نقله بلفظ آخر وذكرت هنا لفظ الترمذي، ثم ذكر قول الربيع أنه قال: قلت لأبي العالية كيف كانت الربوبية في بني إسرائيل؟ فقال: إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالف قول الأحبار والرهبان فكانوا يأخذون بأقوالهم، وما كانوا يقبلون حكم الله تعالى قال العلماء: إنما يلزم له تكفير الفاسق بطاعة الشيطان خلاف ما عليه الخوارج؛ لأن الفاسق وإن كان يقبل دعوة الشيطان إلا أنه يلعنه، ويستخف به بخلاف أولئك الأتباع المعظمين قال الإمام فخر الدين الرازي: قد شاهدت من مقلدة الفقهاء قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله في مسائل كانت تلك الآيات مخالفة لمذهبهم فيها فلم يقبلوا تلك الآيات، ولم يلتفتوا إليها، وكانوا ينظرون إليّ كالمتعجب يعني كيف يمكن العمل بظواهر تلك الآيات مع أن الرواية عن سلفنا وردت بخلافها، ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء ساريا في عروق الأكثرين انتهى ما في التفسير للنيسابوري..
٢ كما قال تعالى: ﴿اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله﴾ (التوبة: ٣١) /١٢ منه..
٣ يعني لزمتكم الحجة فوجب عليكم الاعتراف بإسلامنا وهذا كما يقول الغالب للمغلوب اعترف بأني أنا الغالب/١٢ وجيز..
﴿ يا أهل الكتاب لم١ تُحاجّون في إبراهيم ﴾ تنازعت نصارى نجران، وأحبار اليهود في أن كلا منهما ادعوا أن إبراهيم منهم، ﴿ وما أُنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده ﴾، الجملة حالية أي : اليهودية والنصرانية حدثتا بنزولهما على موسى وعيسى، وإبراهيم قبلهما بدهر طويل، فكيف يكون عليهما ؟ ! ! ﴿ أفلا تعقلون ﴾ : فتدعون المحال.
١ و(لم) أصله (لما) حذفت الألف وما استفهامية/١٢..
﴿ هاأنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم ﴾ : ها : حرف تنبيه، وقيل : أصله أأنتم على الاستفهام التعجبي، فقلبت هاء وأنتم مبتدأ خبره هؤلاء، والجملة التي بعده مبينة للأولى، وقيل : هؤلاء بمعنى الذين، وحاججتم صلته، وقيل : هؤلاء نداء أي : أنتم يا هؤلاء الحمقى جادلتم عنادا فيما وجدتموه في كتابكم، ولكم به علم، ﴿ فلِم تُحاجّون فيما ليس لكم به علم ﴾ : ولم يذكر في كتابكم من دين إبراهيم، فإنه ربما يجادل الرجل فيما يعلم عنادا لكن فيما لا يعلم لا يبحث عنه إلا فهما وطلب علم، ﴿ والله يعلم ﴾ : شأنه، ﴿ وأنتم لا تعلمون ﴾.
﴿ ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ﴾، صرح بما دلت عليه الحجة، ﴿ ولكن كان حنيفا ﴾ : مائلا عن الباطل إلى الحق، ﴿ مسلما ﴾ : منقادا لله ﴿ وما كان من المشركين ﴾ تعريض بهم لإشراكهم به عزيراً والمسيح ورد على مشركي قريش في زعمهم أنهم على دين إبراهيم.
﴿ إن أولى١ الناس بإبراهيم ﴾، أقربهم وأحقهم به، ﴿ للذين اتّبعوه ﴾ : على دينه، ﴿ وهذا النبي والذين آمنوا ﴾ : من المهاجرين والأنصار، ومن بعدهم في٢ الحديث :( إن لكل نبي ولاة من النبيين وإن وليي منهم أبي وخليل ربي ) ثم قرأ٣ الآية، ﴿ والله وليّ المؤمنين ﴾ : ينصرهم لإيمانهم برسله.
١ مشتق من الولي وهو القرب/١٢ منه..
٢ رواه الترمذي والبزار وغيرهم/١٢ منه [ وهو صحيح، وانظر صحيح الجامع (٢١٥٨)]..
٣ قال الرازي: الأصول واحد في الجميع وأما الفروع فالمخالفة فيها بين دين محمد ودين إبراهيم عليهما السلام قليلة جدا/١٢ وجيز..
﴿ ودّت طائفة من أهل الكتاب ﴾أي : اليهود حين دعوا بعض الصحابة إلى اليهودية ﴿ لو يضلّونكم ﴾ لو بمعنى أن، ﴿ وما يضلون إلا أنفسهم ﴾، فإن المؤمنين لا يقبلون قولهم، ويحصل لهم إثم ﴿ وما يشعرون ﴾ اختصاص ضرره بهم.
﴿ يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله ﴾ : من التوراة والإنجيل أو القرآن، ﴿ وأنتم تشهدون ﴾ : صدقها.
﴿ يا أهل الكتاب لم تلبِسون الحق بالباطل ﴾ : تخلطونه بما تخترعونه حتى لا يميز بينهما، أو لم تجعلونه ملتبسا بسبب خلط الباطل الذي تكتبون في خلاله أو تخلطون الإيمان بعيسى بالكفر بمحمد، ﴿ وتكتمون الحق ﴾ : نعت محمد عليه الصلاة والسلام، ﴿ وأنتم تعلمون ﴾ : عالمون بحقية ما تكتمون.
﴿ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ ﴾، أوله سمي وجها لأنه أول ما يواجهه الناظر، ﴿ واكفُروا آخره لعلهم ﴾ أي : المؤمنين ﴿ يرجعون ﴾ : عن الإسلام، أطلع الله نبيه على مكيدة اليهود، فإنهم اشتوروا أن يظهروا الإيمان أول النهار، ويصلوا مع المسلمين صلاة الصبح فإذا جاء آخر النهار ارتدوا ؛ ليقول المسلمون : ما رجعهم إلى دينهم إلا اطلاع نقيصة في ديننا ولعلهم يرجعون عن الإسلام.
﴿ ولا تؤمنوا إلا لمن تبِع دينكم ﴾ : لا تعترفوا، ولا تظهروا التصديق إلا لأشياعكم، ﴿ قل إن الهدى هدى الله ﴾ : يهدي من يشاء، ﴿ أن يؤتَى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجّوكم١ عند ربكم ﴾، متعلق بلا تؤمنوا أي : لا تعترفوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من العلم، والمعجزات، ولا بأن يغالبوكم بالحجة يوم القيامة إلا لأشياعكم٢، ولا تفشوه لا إلى المسلمين ولا إلى المشركين يعني : إن علمكم بذلك حاصل، لكن لا تظهروه وأوثر في العطف كلمة ( أو ليفيد العموم مثل :( ولا تطع منهم آثما أو كفورا ) ( الإنسان : ٢٤ )، وقوله :( إن الهدى هدى الله ) جملة معترضة دالة على أن كيدهم لا طائل تحته، وقيل : قد تم الكلام عنه عند قوله :( إلا لمن تبِع دينكم )، والمعنى على الوجهين الأولين الآتيين ولا تؤمنوا هذا الإيمان الظاهر، وهو إيمانكم وجه النهار إلا لمن تبع دينكم قبل ذلك ثم أسلم لعلهم٣ يرجعون، فإن رجوعهم أرجى عندكم، وأشجى لحلوق المسلمين حينئذ، ففي موقع ( أنْ ) يؤتى ثلاثة أوجه :
الأول : أن يتعلق بفعل مضمر على حذف اللام أي وقل فعلتم ما فعلتم من الكيد لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ولما يترتب من غلبتهم بالحجة يوم القيامة، أي : لم يكن لكم داع إلى هذا الكيد سوى الحسد، ووجه العدول عن الواو إلى حينئذ الإشارة إلى أن كلا من الأمرين مستقل بكونه سببا للحسد.
الثاني : أن يكون الخبر إن الهدى وهدى الله بدل من الهدى وحين أو بمعنى إلى أن يعني حتى يحاجوكم فيدحضوا حجتكم.
الثالث : أن ينتصب بفعل مضمر تقديره٤ قل إن الهدى هدى الله ولا تنكروا أن يؤتي أحد أو يكون لأحد وسيلة غلبة عليكم عند الله، ويدل على هذا المضمر لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ؛ لأن معناه حينئذ لا تقروا بحقية دين لأحد إلا لمن هو على دينكم فإنه لا دين سواه يماثله، وهذا إنكار لأن يؤتي أحد مثل دينهم، وقد بسطت الكلام هنالك فاستفده، ﴿ قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع ﴾ فضله ﴿ عليم ﴾ : بكل شيء.
١ قال الواحدي: وهذه الآية من مشكلات القرآن وأصعبه تفسيرا وإعرابا ولقد تدبرت أقوال أهل التفسير والمعاني في هذه الآية فلم أجد قولا يطرد في الآية من أولها إلى آخرها مع بيان المعنى وصحة النظم/١٢ فتح..
٢ قال بعض المفسرين: معناه لا تظهروا ما بأيديكم من العلم إلا لأتباعكم لا إلى المسلمين ليساووكم فيه ويحاجوكم به عند الله وعلى هذا (أن يوتي) علة للنهى كأنه قيل: لا تظهروا سركم وما عندكم؛ لأن يكون لكم المزية والغلبة في الدنيا والآخرة وقوله: (قل إن الهدى هدى الله) معترضة دالة على أن من يعلمه ويفضله فهو الهادي وهو الذي هدى المسلمين وفضلهم/١٢..
٣ وحقيقة المعنى أنه لم يكن لكم باعث على هذا الكيد سوى علمكم بأن الإيتاء والمحاجة المذكورين كائنان ألبتة/١٢..
٤ هو من جملة مقول الطائفة، وحاصله أظهروا الإيمان بدين المسلمين لكن كونوا على دينكم واستمروا عليه ولا تبدّلوا دينكم فقيل: (قل إن الهدى هدى الله فلا تنكروا أن يؤتى)..
﴿ يختص برحمته من يشاء ﴾ : لحكمته، ﴿ والله ذو الفضل العظيم ﴾ هذا كله رد وإبطال لزعمهم الفاسد.
﴿ ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤدّه إليك ﴾، كعبد الله بن سلام أودعه رجل ألفا ومائتي أوقية من ذهب، فأداه، ﴿ منهم من إن تأمنه بدينار لا يؤدّه إليك ﴾، كفنحاص بن عازوراء أودع دينارا فجحده، ﴿ إلا ما دمت عليه قائما ﴾ : إلا مدة دوامك قائما على رأسه مبالغا بالتقاضي أو الترافع، ﴿ ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأمّيين سبيل ﴾ أي : ترك الأداء بسبب أنهم قالوا : ليس علينا في شأن العرب ذم وعتاب، وأحل الله أموالهم لنا ﴿ ويقولون على الله الكذب ﴾ : اخترعوا، واختلقوا، وليس في التوراة شيء مما قالوا، ﴿ وهم يعلمون ﴾ : إنهم كاذبون.
﴿ بلى ﴾ أي : بلى عليهم فيهم سبيل، وقوله :﴿ من أوفى ﴾ إلى آخره استئناف، ﴿ بعهده ﴾ أي بعهد الله الذي عهد١ إليه في التوراة من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن وأداء الأمانة أو بعهد٢ نفسه، ﴿ واتقى ﴾ أي : الكفر والخيانة، ﴿ فإن الله يحب المتقين ﴾ أي : يحبه فإنه متق، وقيل : بلى بمعنى لكن.
١ أي: بعهد عهد أي: عهد كان فعلى هذا ضمير بعهده راجع إلى من/١٢..
٢ وفى بعهده فالله يحبه فإن من عهده مع الله أن لا يشرك به شيئا..
﴿ إن الذين يشترون١ بعهد الله ﴾ : يستبدلون بما عاهدوا من الإيمان برسله، ﴿ وأيمانهم ﴾، وبما حلفوا من قولهم : والله لنؤمنن به، ولننصرنه، ﴿ ثمناً قليلا ﴾ : من الدنيا رشوة في تحريف التوراة، وتبديل نعت محمد عليه الصلاة والسلام، ﴿ أولئك لا خلاق ﴾ : لا نصيب، ﴿ لهم في الآخرة ولا يكلّمهم الله ﴾ : بما يسرهم، ﴿ ولا ينظر إليهم ﴾ : نظر رحمة ﴿ يوم القيامة ولا يزكّيهم ﴾ : ولا يثنى عليهم أو لا يطهرهم من الذنوب،
﴿ ولهم عذاب أليم ﴾ فعلى هذه الآية في اليهود أو نزلت٢ في ترافع بين صحابي ويهودي في أرض فتوجه الحلف على اليهودي، أو في رجل أقام سلعة في سوق فحلف لقد أعطى بها ما لم يعطه ليوقع فيها أحدا من المسلمين٣.
١ واعلم أن هذه الآية دالة على تعظيم أمر الوفاء بالعهد؛ وذلك لأن الطاعات محصورة في أمرين: التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله، فالوفاء بالعهد مشتمل عليهما معا؛ لأن ذلك سبب لمنفعة الخلق فهو شفقة على خلق الله، ولما أمر الله به كان الوفاء به تعظيما لأمر الله؛ فثبت أن هذه العبارة مشتملة على جميع أنواع الطاعات، والوفاء بالعهد كما يمكن في حق الغير يمكن أيضا في حق النفس، لأن الوافي بعهد النفس هو الآتي بالطاعة والتارك للمحرمات؛ لأن عند ذلك تفوز النفس بالثواب وتبعد عن العقاب/١٢ كبير..
٢ رواه البخاري عن العوام وابن أبي حاتم عن عبد الله بن أبي أوفى/١٢ [أخرجه البخاري في (الأيمان والنذور) (٦٦٧٦)، وفي مواضع كثيرة من صحيحه، وكذا أخرجه مسلم في (الأيمان) عن ابن مسعود] وليس عن أبي أوفى..
٣ أخرجه البخاري في (الشهادات) (٢٦٧٥)، وفي غير موضع من صحيحه عن ابن أبي أوفى..
﴿ وإن منهم ﴾ : من اليهود، والنصارى، ﴿ لفريقا يلوون ألسنتهم١ بالكتاب ﴾ يميلونها عن المنزل إلى المحرف ويفتلونها عنه، فالباء للاستعانة أو الظرفية، والمضاف محذوف أي : بقراءة الكتاب ﴿ لتحسَبُوه ﴾، أيها المؤمنون، وضمير المفعول لما حصل باللي وهو المحرف، ﴿ من الكتاب ﴾ : التوراة، ﴿ وما هو من الكتاب ﴾ : التوراة، ﴿ ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ﴾ : تأكيد لقوله وما هو من الكتاب، وتشنيع عليهم ﴿ ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ﴾ : أنهم كاذبون.
١ قال الإمام الرازي في التفسير الكبير: كيف يمكن إدخال التحريف في التوراة مع شهرتها العظيمة بين الناس؟ والجواب لعله صدر هذا العمل عن نفر قليل يجوز عليهم التواطؤ على التحريف، ثم إنهم عرضوا ذلك المحرف على بعض العوام وعلى هذا التقدير يكون هذا التحريف ممكنا والأصوب عندي في تفسير الآية وجه آخر، وهو أن الآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كان يحتاج فيها إلى تدقيق النظر، وتأمل القلب، والقوم كانوا يوردون عليها الأسئلة المشوشة والاعتراضات المظلمة فكانت تصير تلك الدلائل مشتبهة على السامعين، واليهود كانوا يقولون: مراد الله من هذه الآيات ما ذكرناه لا ما ذكرتم، فكان هذا هو المراد بالتحريف، وبلىّ الألسنة وهذا مثل ما أن المحق في زماننا إذا استدل بآية من كتاب الله تعالى فالمبطل يورد عليه الأسئلة والشبهات، ويقول: ليس مراد الله ما ذكرت فكذا في هذه الصورة، انتهى بلفظه/١٢..
﴿ ما كان لبشر ﴾ : ما ينبغي له، وما يتأتى منه، ﴿ أن يؤتيه الله الكتاب والحكم ﴾ : الحكمة أو إمضاء الحكم من الله، ﴿ والنبوّة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ﴾، رد على اليهود حين قالوا : أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم ؟ فقال صلى الله عليه وسلم معاذ الله ما بذلك بعثني ؛ فنزلت١، أورد على النصارى حيث قالوا : إن عيسى أمرهم أن يتخذوه ربا فنزلت، ﴿ ولكن٢ : يقول٣، ﴿ كونوا ربّانيين ﴾ :٤ حكماء، وحلماء وعلماء، أو فقهاء، أو من يرب٥ علمه بعمله أو منسوب٦ إلى الرب بزيادة الألف والنون ﴿ إنما كنتم تُعلِّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون٧ : أي : بسبب كونكم معلمين الكتاب٨ ودارسين له.
١ أخرجه البيهقي في (دلائل النبوة) (٥/٣٨٤)، وفي سنده محمد بن إسحاق وقد صرح بالسماع..
٢ والمعنى: ما استقام لبشر أن يؤتيه الله الكتاب، ثم يترتب عليه أن يقول للناس كونوا عبادًا لي، ولا أن يأمرهم باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا فالخطاب في (ولا يأمركم) التفات/١٢..
٣ لما كان يقول تذكيرا وإعادة ليقول المذكور ينبغي أن يكون بالنصب/١٢..
٤ دلت الآية على أن العلم والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانيًّا فمن اشتغل بالتعلم والتعليم لا لهذا المقصود ضاع سعيه، وخاب عمله، وكان مثله مثل من غرس شجرة حسناء مونقة بمنظرها، ولا منفعة بثمرها، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (نعوذ بالله من علم لا ينفع وقلب لا يخشع) /١٢ تفسير كبير [أخرجه مسلم في (الذكر والدعاء) (٥/٥٦٩) ط الشعب]..
٥ وقيل: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره/١٢..
٦ وهو شديد التمسك بدين الله وطاعته؛ لأن الشيء إنما ينسب إلى من اشتهر أو ما اشتهر به سيما وزيادة الألف والنون تؤذن بمبالغة زائدة هذا قول طاوس [ في الأصل: طاؤس] والحسن البصري وقتادة/١٢ منه..
٧ وفي هذه الآية أعظم باعث لمن علم على أن يعمل وأن من أعظم العمل بالعلم تعليمه، والإخلاص لله سبحانه، والدراسة مذاكرة العلم والفقه فدلت الآية على أن العلم والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانيا فمن اشتغل بها لا لهذا المقصود فقد ضاع عمله وخاب سعيه، وحاصل الكلام أن العلم والتعليم والدراسة توجب على صاحبها كونه ربانيا، والسبب لا محالة مغاير [في الأصل: مغائر] للمسبب فهذا يقتضي أن يكون كونه ربانيا أمرا مغايرا لكونه عالمًا ومعلما ومواظبا على الدراسة وما ذاك إلا أن يكون بحيث يكون تعلمه لله، وتعليمه ودراسته لله، وبالجملة أن يكون الداعي له إلى جميع الأفعال طلب مرضات الله، والصارف له عن كل الأفعال الهرب عن عقاب الله، وإذا ثبت أن الرسول يأمر الخلق بهذا المعنى ثبت أنه يمتنع منه أن يأمر [كذا العبارة في الأصل] الخلق بعبادته وحاصل الحرف شيء واحد وهو أن الرسول هو الذي يكون منتهى جهده وجده صرف الأرواح والقلوب عن الخلق إلى الحق فمثل هذا الإنسان كيف يمكن أن يصرف عقول الخلق عن طاعة الحق إلى طاعة نفسه وعند هذا يظهر أنه يمتنع في أحد من الأنبياء صلوات الله عليهم أن يأمر غيره بعبادته/١٢ تفسير كبير..
٨ أي حافظين قارئين له، وجاز أن يكون معناه يدرسون على الناس والأول أولى فافهم/١٢.
.

﴿ ولا يأمركم ﴾ : بقراءة النصب عطف على ( ثم يقول )، ولا لتأكيد معنى النفي، وبالرفع استئناف، وقيل حال، ﴿ أن تتّخذوا الملائكة والنبيّين أربابا ﴾ : كما فعلت النصارى، ﴿ أيأمركم ﴾، استفهام تعجب، والضمير للبشر، ﴿ بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ﴾ : منقادون لله.
﴿ وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين ﴾ : كل١ نبي بعثه من لدن آدم، ﴿ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ ﴾، أي رسول كان واللام لتوطئة القسم، وما شرطية، وقوله :﴿ لتُؤمنُنّ به ولتنصُرنّه ﴾، جواب القسم والشرط أو موصولة٢ أي : للذي آتيتكموه، وقرئ بكسر اللام وحينئذ ما مصدرية أي : لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب، ثم مجيء مصدق أخذ الله الميثاق لتؤمنن به أو المراد من النبيين أنبياء بني إسرائيل، والمراد من رسول مصدق محمد عليه الصلاة والسلام، أو النبيين عام كما تقدم، لكن المراد من رسول محمد عليه الصلاة والسلام كما صح٣ عن علي، وابن عباس رضي الله عنهم ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمننّ به، ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمّته ﴿ قال أأقررتم ﴾ : بالإيمان والنصر، ﴿ وأخذتم على ذلك إصري ﴾ : عهدي، ﴿ قالوا أقررنا قال ﴾ : الله، ﴿ فاشهدوا ﴾ : ليشهد بعضكم على بعض بالإقرار أو قال الله تعالى للملائكة :( اشهدوا ) ﴿ وأنا معكم من الشاهدين ﴾ على إقراركم وتشاهدكم.
١ وإذا كان هذا حكم الأنبياء كان الأمم به أولى وقيل: إضافة الميثاق إلى النبيين إضافة إلى الفاعل أي أخذ الله الميثاق الذي وثقه الأنبياء على أممهم وقيل: المراد ما يعمهم والأمم لكن استغنى بذكرهم عن ذكر الأمم/١٢ منه..
٢ الموصولة مبتدأ ولتؤمنن به ساد مسد جواب القسم وخبر المبتدأ، وقدرنا الضمير في آتيتكم لامتناع خلو الصلة عن العائد، وأما على تقدير الشرط فهي مفعوله/١٢ منه..
٣ رواه عبد الرزاق عن ابن طاوس [في الأصل: ابن طاؤس] عن أبيه مثل قول علي، وابن عباس/١٢ منه..
﴿ فمن تولّى ﴾ : أعرض، ﴿ بعد ذلك ﴾ : الميثاق، ﴿ فأولئك هم الفاسقون ﴾ : الخارجون عن الإيمان.
﴿ أفغير دين الله يبغون ﴾، عطف جملة على جملة، والهمزة توسطت للإنكار، وقدم المفعول ؛ لأنه المقصود بالإنكار قيل : نزلت في أهل الكتاب حين اختصموا فزعم كل فريق أنه على دين إبراهيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم – ( كل منكم بريء من دينه ) فقالوا : لا نرضى بقضائك ﴿ وله أسلم ﴾ : انقاد، ﴿ من في السماوات والأرض طوعا ﴾ : الملائكة والمسلمون، ﴿ وكرها ﴾ : الكفرة حين البأس١ أو لأنهم مسخرون تحت حكمه وسلطانه أو خوف السيف والسبي أو المراد٢ منه الأسير يجاء به في السلاسل٣ قيل هذا يوم الميثاق حين قال لهم :( ألست بربكم ) ( الأعراف : ١٧٢ )، فقال بعضهم :( بلى ) ( الأعراف : ١٧٢ ) كرها، ونصبهما على الحال أي : طائعين، ومكرهين، ﴿ وإليه يُرجعون٤ وعيد لهم أي : أيبغون غير دين الله مع أن المرجع إليه.
١ قال تعالى: (فلم يك ينفعهم إيمانهم) (غافر: ٥٨)/١٢..
٢ وعلى هذا المعنى الرابع نقل الطبراني حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [انظر تخريجه في الهامش الذي بعده] ثم اعلم أن المراد بمن في السماوات والأرض عموم الخلائق، وعلى التفسيرين المتوسطين لا يبقى عمومه فافهم/١٢ منه..
٣ يقادون به إلى الجنة وهم كارهون هكذا ورد في الحديث/١٢ منه [ذكره الهيثمي في (المجمع) (٦/٣٢٦) وقال: (رواه الطبراني وفيه محمد بن محصن العكاشي وهو متروك)]..
٤ من قرأ بالياء المنقوطة من تحت فظاهر، ومن قرأ بالتاء فلأن الباغين هم المتولون والراجعين جميع الناس فناسب الخطاب/١٢ منه..
﴿ قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ﴾ : من الصحف والوحي، ﴿ والأسباط ﴾ : هم بطون بني إسرائيل المتشعبة من أولاد إسرائيل، ﴿ وما أوتي موسى وعيسى والنبيّون من ربهم ﴾ : أمر للرسول أن يخبر عن نفسه ومتابعيه أو أن يتكلم عن نفسه على طريقة الملوك تعظيما له، ﴿ لا نُفرّق بين أحد منهم ﴾ : بالتصديق، ﴿ ونحن له ﴾ : لله، ﴿ مسلمون ﴾ : منقادون مخلصون.
﴿ ومن يبتغ غير الإسلام ﴾ : غير الانقياد، والتوحيد، ﴿ دينا فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ﴾ بإبطال فطرته السليمة.
﴿ كيف يهدي الله ﴾، استفهام إنكار ﴿ قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا ﴾ عطف١ على ما في إيمانهم من معنى الفعل ؛ لأن معناه بعد أن آمنوا، ﴿ أن الرسول حق وجاءهم البينات ﴾ البراهين على صدق ما جاء به الرسول ﴿ والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ : الذين وضعوا الكفر موضع الإيمان.
١ وقيل: حال بتقدير قد من فاعل كفروا، وليس عطفا على كفروا؛ لأن الظاهر تقييد المعطوف بما قيد به المعطوف عليه، وشهادتهم هذه لم يكن بعد إيمانهم بل معه أو قبله/١٢..
﴿ أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس١ أجمعين ﴾ أي : يوم القيامة.
١ قيل: المراد بالناس المؤمنون، أو العموم فإن الكافر يلعن كل كافر حتى نفسه يوم القيامة كما ورد في الحديث، وقيل: الكافر في الدنيا يلعن منكر الحق فهو يلعن نفسه لكن لا يعرف/١٢..
﴿ خالدين فيها ﴾ : في اللعنة، ﴿ لا يُخفّف عنهم العذاب ولا هم يُنظرون ﴾ : لا يمهلون أو لا ينتظرون ليعتذروا أو لا ينظر نظر رحمة إليهم.
﴿ إلا الذين تابوا من بعد ذلك ﴾ : الارتداد، ﴿ وأصلحوا ﴾ : ما أفسدوا أو دخلوا في الصلاح، ﴿ فإن الله غفور ﴾ : لذنبهم، ﴿ رحيم ﴾ : فيقبل توبتهم، الآية في رجل من الأنصار١ آمن ثم ارتد ثم ندم فأرسل إلى قومه أن سلوا هل لي من توبة ؟ فنزلت فرجع وأسلم، وقيل : في اليهود آمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام قبل مبعثه ثم كفروا لما بعث.
١ كما رواه النسائي، وابن حبان، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد/١٢ وجيز [أخرجه النسائي في (السنن) (٤٠٦٨)، وفي (التفسير)، وابن حبان (١٨٢٨)، والحاكم (١٤٢/٢) وصححه وأقره الذهبي، وغيرهما، وانظر صحيح النسائي (٣٧٩٢)]..
﴿ إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تُقبل توبتهم ﴾ ؛ لأن توبتهم حين إشرافهم على الموت، ﴿ وأولئك هم الضالون ﴾ نزلت في اليهود كفروا بعيسى عليه السلام بعد ما آمنوا بموسى، ثم ازدادوا كفرا بمحمد عليه الصلاة والسلام، أو في اليهود والنصارى.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن قوما أسلموا ثم ارتدوا، ثم أسلموا ثم ارتدوا فأرسلوا إلى قومهم يسألون فنزلت :
﴿ إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يُقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ﴾ : نصب على التمييز، ﴿ ولو افتدى به ﴾ أي : لا يقبل منهم ذلك بوجه من الوجوه من التصدق وغيره ولو كان بوجه الافتداء١، وقيل : الواو مقحمة، ﴿ أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين ﴾ في رفع العذاب، وفي الحديث ( يقال للرجل يوم القيامة : أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به ؟ يقول : نعم، فيقال له : قد أردت منك شيئا أهون من ذلك وأقل فأبيت، فيرد على النار )٢.
١ الذي ليس فيه منة نحو: (أعطوا السائل ولو جاء على فرس) و(ردوا السائل ولو بظلف محرق) [الحديث الأول ضعيف، كما في ضعيف الجامع (١٠٤٣)، والضعيفة (١٣٧٨)، والثاني صحيح، كما في صحيح الجامع (٣٥٠٢)] كأن هذه الأشياء مما كان لا ينبغي أن يؤتى به، لأن السائل إذا كان على فرس مشعر غناه فلا يناسب أن يعطى فقوله: (لو) على سبيل الفرض لأنه لا يمكنه أن يأتي بملء الأرض ذهبا وهذا أحسن التوجيهات، بل هو المتحتم/١٢ وجيز..
٢ أخرجه البخاري في (الأنبياء) (٣٣٣٤)، وفي غير موضع من صحيحه، ومسلم في (صفة القيامة والجنة والنار) (٥/٦٧١) ط الشعب..
﴿ لن١ تنالوا البر ﴾ الجنة، أو التقوى، أو كمال الخير، ﴿ حتى تُنفقوا مما تحبون ﴾ أي : بعضه، والمراد منه أداء الزكاة أو صدقة السنة، ويدل على الثاني أن كثيرا من الصحابة تصدقوا بأراضيهم، وأعتقوا جواريهم حين نزلت، أو المعنى : لن تنالوا البر حتى تنفقوا وأنتم أصحاء أشحاء، ﴿ وما تُنفقوا من شيء فإن الله به عليم ﴾ فيجازى بحسبه.
١ ولما أخبر أنه لا يقبل ممن مات على الكفر ملء الأرض ذهبا على سبيل الفرض حض المؤمنين على الصدقة النافعة فقال: ﴿لن تنالوا البر﴾/١٢ وجيز..
﴿ كلّ١ الطعام٢ أي : المطعومات، ﴿ كان حِلاًّ لبني إسرائيل ﴾ أي : حلالا لهم، ﴿ إلا ما حرّم ﴾، وهو لحمان الإبل، وألبانها، أو العروق ﴿ إسرائيل ﴾ : وهو يعقوب، ﴿ على نفسه ﴾ لنذر : نذر في مرض لئن عافاه الله لا يأكل أحب الطعام والشراب ولحم٣ الإبل ولبنه أحب إليه، أو نذر لا يأكل العروق لأن وجعه عرق النسإ٤، أو العروق تضره فاتبعه بنوه في إخراج العروق من اللحوم ﴿ من قبل أن تُنزّل التوراة ﴾ جاز أن يتعلق بحرم أو بحلا٥ نزلت ردّا على اليهود حين طعنوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت تزعم أنك على ملة إبراهيم، وكان حراما عليه أشياء من لحم، ولبن الإبل أو العروق وأنت تحلله فنزلت إن كل المطعومات حلال على الخلائق قبل نزول التوراة، وبشؤم ذنوبهم حرم في التوراة ما حرم ﴿ قل ﴾ : يا محمد، ﴿ فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ﴾ إن لحم ولبن الإبل أو العروق حرام على الأنبياء كلهم فلما قال لهم بهتوا.
١ ولما بيّن أن نيل البر بإنفاق الحبوب من المال ذكر أن إسرائيل حرّم على نفسه للتقرب إلى الله أحب الطعام إليه فقال: (كل الطعام) الآية/١٢ وجيز..
٢ أي الذي كان مباحا لإبراهيم عليه السلام فإن الميتة والخنزير ما كانا مباحين لأحد كما قاله القفال/١٢ وجيز..
٣ على ذلك حديث رواه الإمام أحمد والترمذي، وقال حديث حسن/١٢ وجيز [بل هو صحيح، وانظر صحيح سنن الترمذي (٢٤٩٢)، والصحيحة (١٨٧٢)]..
٤ كذا في الأصل مهموزا، والذي نص عليه في مختار الصحاح مادة (نسا) أنه مقصور..
٥ أما تعلقه بحرم فهو خلاف الأولى فإن بين بني إسرائيل ونزول التوراة مدة مديدة فيكون من توضيح الواضحات/١٢ وجيز..
﴿ فمن افترى ﴾ : ابتدع، ﴿ على الله الكذب ﴾ بأن حرّم لحم ولبن الإبل عليهم، ﴿ من بعد ذلك ﴾ : ما علم أن التحريم إنما كان من جهة يعقوب ﴿ فأولئك هم الظالمون ﴾ أو الآية رد على اليهود حيث زعموا أن كل ما هو حرام عليهم كان حراما على الخلائق قبلهم لا أن الله حرّم عليهم بشؤم ظلمهم.
﴿ قل صدق الله ﴾ : في جميع ما أخبر، وكذبتم أنتم، ﴿ فاتّبعوا ملة إبراهيم حنيفا ﴾ : مائلا عن الباطل، وهي ملة الإسلام التي في الأصل ملّته أو مثل ملته، ﴿ وما كان من المشركين ﴾ : تعريض على اليهود.
﴿ إن أول بيت١ وُضع ﴾ أي : أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض قبل خلق الأرض بألفي عام، أو بيت بناه ملائكة هم سكان الأرض قبل آدم عليه السلام أو بناه آدم أو أول بيت وضع لعبادة الله، وكانت البيوت قبله، وهو قول٢ علي رضي الله عنه، قيل سبب نزوله أن اليهود قالوا : قبلتنا أفضل وأقدم فأنزل الله، ﴿ للناس للذي ببكة ﴾ أي : للبيت الذي ببكة وهي لغة في مكة أو مكة من الفج إلى التنعيم، وبكة من البيت على البطحاء، أو هي البيت والمسجد، وما وراءه مكة أو موضع البيت، ﴿ مباركا ﴾ : كثير الخير حال من ضمير الظرف، ﴿ وهدى للعالمين ﴾ فإنه قبلتهم ومتعبدهم.
١ ولما أمر باتباع ملة إبراهيم ومن ملته حج بيت الله تعالى أخذ في ابتداء أمره إلى منتهاه فقال: ﴿إن أول بيت﴾ الآية/١٢ وجيز..
٢ رواه ابن أبي حاتم، وصح الرواية عنه/١٢..
﴿ فيه آيات بينات ﴾ كل جبار قصده بسوء كأصحاب الفيل قهره، ﴿ مقام إبراهيم ﴾ أي من جملتها أو بدل من الآيات بدل البعض وأثر قدميه في المقام آية بينة، ﴿ ومن دخله ﴾ أي : مكة، ﴿ كان آمنا ﴾ : من القتل، والغارة ما دام فيه لكن لا يطعم ولا يسقى حتى يخرج فيؤخذ بذنبه، أو من دخله معظمًا١ له أمن يوم القيامة من العذاب قيل : جملة شرطية عطف على مقام من حيث المعنى أي أمْنُ من دخله من جملتها.
﴿ ولله على الناس حجّ البيت ﴾ أي : قصده على وجه مخصوص، ﴿ من استطاع إليه سبيلا ﴾ كل مأتى إلى الشيء فهو سبيله، وهو بدل من الناس مخصص له والاستطاعة ألا يكون عاجزا بنفسه يقدر على الركوب بلا مشقة شديدة وله راحلة وزاد رواح ورجوع فاضل عن نفقة من يلزم عليه نفقته وكسوته، ثم إن٢ اليهود حين أمروا بالحج قالوا : ما وجب علينا فنزل قوله :﴿ ومن كفر ﴾ أي : جحد فرضيّته، ﴿ فإن الله غني عن العالمين ﴾ أي : من وجد ما يحج به، ولم يحج حتى مات فهو كفر٣ به وقيل : وضع كفر موضع لم يحج تغليظا.
١ هو قول بعض من الصحابة روى البيهقي قال عليه الصلاة والسلام (من دخل البيت دخل في حسنة، وخرج من سيئة، وخرج مغفورا له) فعلى هذا ضمير من دخله للبيت/١٢ منه [الحديث ضعيف، انظر ضعيف الجامع (٥٥٨٤) والضعيفة (١٩١٧)]..
٢ كذا قاله ابن عباس، ومجاهد، وغير واحد من السلف/١٢ منه..
٣ هكذا نقله أبو بكر بن مردويه عن علي، وروى الترمذي عن غيره من الصحابة، وروى أبو بكر الإسماعيلي الحافظ عن عمر بن الخطاب مثل هذا المعنى/١٢ منه [ولفظ كلام عمر: من أطاق الحج فلم يحج فسواء عليه مات يهوديا أو نصرانيا) وصحح سنده ابن كثير في التفسير (١/٣٨٧)]..
﴿ قل١ يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله ﴾ : النقلية، والعقلية الدالة على صدق القرآن، ومن أنزل عليه، ﴿ والله ﴾، الواو للحال، ﴿ شهيد على ما تعملون ﴾، فلا ينفعكم التحريف، والكتمان.
١ ولما فرغ من بيان البيت، والحج أهل الكتاب لا يحجون – أعرض عن خطابهم إيذانا بشدة الغضب عليهم، فقال مخاطبا لرسوله: ﴿قل يا أهل الكتاب﴾ الآية/١٢ وجيز..
﴿ قل يا أهل الكتاب لِم تصدّون عن سبيل الله ﴾ : عن دينه، وكانوا يحتالون لصدهم عن الإسلام، ﴿ من آمن ﴾، مفعول تصدون، ﴿ تبغونها عِوجا ﴾ : حال من فاعل تصدون أي : طالبين لسبيل الله اعوجاجا بتلبيسكم على الناس وتغييركم صفة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وتحريشكم بين المؤمنين، وهو متعد إلى مفعوليه بلا واسطة، ﴿ وأنتم شهداء ﴾ أن الصد عن الإسلام ضلال، وكتمان أمر محمد غواية، ﴿ وما الله بغافل عما تعملون ﴾، ولما كان إنكارهم للقرآن مجاهرة منهم قال :( والله شهيد )، ولكن الصد عن الإسلام والتحريف من أسرارهم قال :( وما الله بغافل ).
﴿ يا أيها الذين١ آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردّوكم بعد إيمانكم كافرين ﴾ : ثاني مفعولي يرد فإنه بمعنى التصيير،
نزلت إلى قوله ( لعلكم تهتدون ) في الأوس والخزرج حين ذكرهم اليهود الحروب وعداوات الجاهلية ؛ ليفتتنوا ويعودوا٢ لمثل ما فيهم من الجاهلية.
١ ناداهم بوصف الإيمان تنبيها على تباين ما بينهم/١٢..
نزلت إلى قوله ( لعلكم تهتدون ) في الأوس والخزرج حين ذكرهم اليهود الحروب وعداوات الجاهلية ؛ ليفتتنوا ويعودوا٢ لمثل ما فيهم من الجاهلية.
﴿ وكيف تكفرون وأنتم تُتلى عليكم آيات الله ﴾ : القرآن، وغيره، ﴿ وفيكم رسوله١ : الزاهر الباهر السراج الظاهر عليه الصلاة والسلام، ﴿ ومن يعتصم بالله ﴾ : يلتجئ إليه ويتمسك بدينه، ويؤمن به، ﴿ فقد هُدي إلى صراط مستقيم ﴾ طريق واضح لا اعوجاج له.
١ وقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قال يوما لأصحابه (أي المؤمنين أعجب إليكم إيمانا قالوا: الملائكة قال: (وكيف لا يؤمنون وهم عند ربهم) قالوا: فالأنبياء قال: فكيف لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟ قالوا فنحن قال وكيف لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ قالوا فمن؟ قال: (قوم يجيئون من بعدكم يجدون صحفا يؤمنون بما فيها)/١٢ وجيز ومنه [صحيح، وله شواهد]..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠٠:﴿ يا أيها الذين١ آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردّوكم بعد إيمانكم كافرين ﴾ : ثاني مفعولي يرد فإنه بمعنى التصيير،
نزلت إلى قوله ( لعلكم تهتدون ) في الأوس والخزرج حين ذكرهم اليهود الحروب وعداوات الجاهلية ؛ ليفتتنوا ويعودوا٢ لمثل ما فيهم من الجاهلية.
١ ناداهم بوصف الإيمان تنبيها على تباين ما بينهم/١٢..


﴿ يا أيها الذين١ آمنوا اتقوا الله حق تُقاته ﴾، أصله وقاة فقلبت الواو تاء كتؤدة وتخمة، وهو أن يطاع ولا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر٢ فلا يُنسى، وكثير من السلف قالوا : هذه الآية نسوخة بقوله تعالى :( فاتقوا الله ما استطعتم ) ( التغابن : ١٦ )، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : إنها لم تنسخ لكن حق تقاته أن يجاهد في سبيله حق جهاده، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم، وأبنائهم، ﴿ ولا تموتُنّ إلا وأنتم مسلمون ﴾ أي لا تكونن على حال سوى الإسلام، إذا أدرككم الموت فهو في الحقيقة أمر بدوام الإسلام.
١ ولما حذّرهم من إضلال أعدائهم أمرهم بجامع الطاعات التي بالحقيقة هي الترهيب إذ التقوى إشارة إلى التخويف من عذاب الله ثم أردف الرهبة بالرغبة وهي قوله (واذكروا نعمة الله) وأعقب الأمر بالتقوى بنهي هو من تمام الاعتصام فقال (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) الآية/١٢ وجيز. .
٢ هكذا رواه الحاكم، وابن أبي حاتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم/١٢ وجيز [أخرجه الحاكم (٢/٢٩٤) مرفوعا، وموقوفا عن ابن مسعود، والموقوف أصح، كما قال ابن كثير في (التفسير) (١/٣٨٩)]..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠٠:﴿ يا أيها الذين١ آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردّوكم بعد إيمانكم كافرين ﴾ : ثاني مفعولي يرد فإنه بمعنى التصيير،
نزلت إلى قوله ( لعلكم تهتدون ) في الأوس والخزرج حين ذكرهم اليهود الحروب وعداوات الجاهلية ؛ ليفتتنوا ويعودوا٢ لمثل ما فيهم من الجاهلية.
١ ناداهم بوصف الإيمان تنبيها على تباين ما بينهم/١٢..


﴿ واعتصِموا ﴾ : واستمسكوا، ﴿ بحبل الله جميعا ﴾ أي : بدين الله أو بالجماعة أو بعهد الله أو بالقرآن، ﴿ ولا تفرّقوا ﴾ أمرهم أن يكونوا على الحق مجتمعين ثم نهاهم عن التفرقة كما افترق أهل الكتاب، ﴿ واذكروا نعمة الله عليكم ﴾ : التي من جملتها الإسلام والتألف، ﴿ إذ كنتم ﴾ : أيها الأوس والخزرج ﴿ أعداء ﴾ : وقع بينكم القتال والخوف، ﴿ فألّف بين قلوبكم ﴾ : بالإسلام، ﴿ فأصبحتم بنعمته إخوانا ﴾ : متحابين، ﴿ وكنتم ﴾ : في الجاهلية ﴿ على شفا حفرة من النار ﴾ : مشفين١ على الوقوع في جهنم لكفركم٢ وشفا بمعنى الطرف، ﴿ فأنقذكم ﴾ : أنجاكم ﴿ منها ﴾ : بالإسلام، والضمير للشفا، أو للحفرة أو للنار، ﴿ كذلك ﴾ : مثل ذلك التبيين، ﴿ يُبيّن الله لكم آياته لعلكم تهتدون ﴾ إرادة ثباتكم على الهدى.
١ أي مشرفين/١٢..
٢ لو أدرككم الموت في تلك الحالة لوقعتم فيها/١٢..
﴿ ولتكن منكم ﴾، من التبعيض ؛ لأن الأمر بالمعروف من فروض الكفايات وللمتصدي له شروط قال الضحاك : هم الصحابة، والمجاهدون، والعلماء، والخطاب للجميع ؛ لأنه لو تركوه أثموا جميعا أو للتبيين كما ورد ( من رأى منكم مُنكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان )١ ﴿ أمّة ﴾ : جماعة، ﴿ يدعون ﴾ : الناس، ﴿ إلى الخير ﴾ : اتباع٢ القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله، ﴿ ويأمرون٣ بالمعروف وينهَون عن المنكر ﴾، عطف الخاص على العام لشرفه٤ ؛ لأن الخير أعم، ﴿ وأولئك هم المُفلحون ﴾ المخصوصون بكمال الفلاح.
١ أخرجه مسلم في (الإيمان)..
٢ الدعاء إلى الخير عام فيما فيه صلاح ديني أو دنيوي، فعطف الأمر بالمعروف عليه للإيذان بشرفه كقوله: ﴿حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى﴾ (البقرة: ٢٣٨)، والأمر بالمعروف من فروض الكفايات فالخطاب عام، والمطلوب التصدي من بعض من له قابلية فلو ترك الكل أثموا وقيل من للتبعيض، وفي صحيح مسلم (من رأى منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) [سبق تخريجه في الصفحة السابقة]، وعدم الاستطاعة لتقصيره في حق التقوى فصدق أنه أضعف الإيمان/١٢ وجيز..
٣ وفي الآية دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجوبه ثابت بالكتاب والسنة وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة وأصل عظيم من أصولها وركن مشيد من أركانها؛ وبه يكمل نظامها، ويرتفع سنامها/١٢ فتح..
٤ فإن الدعاء إلى الخير عام فيه صلاح ديني أو دنيوي فعطف الأمر بالمعروف عليه للإيذان بشرفه كقوله: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) (البقرة: ٢٣٨)/١٢..
﴿ ولا تكونوا كالذين١ تفرّقوا٢ واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ﴾ : الحجج المبينة للحق كالأمم السابقة، ﴿ وأولئك لهم عذاب عظيم ﴾ : وعيد لهم وتهديد للتشبه بهم.
١ منهم اليهود والنصارى فقد تفرق كل منهما فرقا، واختلف كل منهما باستخراج التأويلات الزائغة وكتم الآيات النافعة وتحريفها لما أخلدوا إليه من حطام الدنيا قيل: النهي عن التفرق مختص بالمسائل الأصولية، وأما المسائل الفروعية الاجتهادية فالاختلاف فيها جائز، وما زال الصحابة فمن بعدهم مختلفين، وفيه نظر فإنه مازال في تلك العصور المنكر للاختلاف موجودا وتخصيص بعض المسائل بجواز الاختلاف فيها دون البعض الآخر ليس بصواب، فالمسائل الشرعية متساوية الأقدام في انتسابها إلى الشرع، وقد وردت آيات وأحاديث كثيرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي الأمر بالكون في الجماعة، والنهي عن الفرقة/١٢..
٢ بسبب استخراج التأويلات الفاسدة من تلك النصوص، ثم اختلفوا بأن حاول كل واحد منهم نصرة قوله ومذهبه، وتفرقوا بأبدانهم بأن صار كل واحد من أولئك الأحبار رئيسا في بلد، ثم اختلفوا بأن صار كل واحد منهم يدعي أنه على الحق وأن صاحبه على الباطل وأقول: إنك إذا أنصفت علمت أن أكثر علماء هذا الزمان صاروا موصوفين بهذه الصفة فنسأل الله الرحمة والعفو/١٢ كبير..
﴿ يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه ﴾ : تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود١ وجوه أهل البدعة أو المؤمنين والكافرين أو المخلصين والمنافقين، قيل : البياض والسواد كنايتان عن بهجة السرور وكآبة الحزن، والأصح أنهما علامتان حقيقيتان، والظرف لمتعلق لهم أو نصب بإضمار اذكر ﴿ فأما الذين اسودّت وجوههم ﴾ فيقال لهم :﴿ أكفرتم بعد إيمانكم ﴾ يوم الميثاق أو هم المرتدون أو هم المنافقون تكلموا بالإيمان أو هم أهل الكتاب، والهمزة للتوبيخ، ﴿ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ﴾ : بسبب كفركم.
١ من فسر سواد الوجوه بسواد وجوه أهل البدعة، فالمراد الخوارج المرتدون كما نقل الترمذي وابن ماجة والإمام أحمد في مسنده أن أبا أمامة رأى رؤوسا من الخوارج منصوبة على درج دمشق فقال: (هذا كلاب النار شر قتلى تحت أديم السماء خير قتلى من قتلوه) ثم قرأ (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) الآية، ثم قال: (لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا أو أربعا حتى عد سبعا ما حدثتكموه /١٢ منه [وهو حديث حسن صحيح، انظر صحيح سنن الترمذي (٢٣٩٨)، وصحيح سنن ابن ماجة]..
﴿ وأما الذين ابيضّت وجوههم ففي رحمة الله ﴾ : جنته عبر عنها بالرحمة وإشارة إلى أنه لا ينالها من ينالها إلا برحمته، ﴿ هم فيها خالدون ﴾ أخر ذكرهم ليكون أول الكلام وآخره صفة المؤمنين.
﴿ تلك آيات الله ﴾ : حججه، ﴿ نتلوها عليك ﴾ : يا محمد ﴿ بالحق ﴾ : متلبسة به لا شبهة فيها، ﴿ وما الله يريد ظُلما للعالمين١ ؛ لأنه حكم عدل لا يجري في ملكه إلا ما يشاء فلا يحتاج إلى ظلم لأحد فلهذا قال :﴿ ولله٢ ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله تُرجع الأمور ﴾.
١ أي: لا يريد شيئا من الظلم على أحد من العالمين فإن التنكير للتقليل بقرينة المقام والجمع المعرف في سياق النفي لعموم النفي لا لنفي العموم بقرينة المقام أيضا/١٢ منه..
٢ ملكا وخلقا وعبيدا حتى يسألوه، ويعبدوه ولا يعبدوا غيره/١٢ فتح..
﴿ ولله١ ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله تُرجع الأمور ﴾ فيجازي بما وعد وأوعد وأما بحث إنه على الظلم قادر لكن لا يظلم كما دل عليه القرآن والأحاديث أو ليس بقادر ؛ لأنه محال في حقه – فقد أفردناه في رسالة.
١ ملكا وخلقا وعبيدا حتى يسألوه، ويعبدوه ولا يعبدوا غيره/١٢ فتح..
﴿ كنتم خير أمّة ﴾ أي : فيما مضى بين الأمم في اللوح المحفوظ أو في علم الله تعالى، ﴿ أُخرجت ﴾ : أظهرت ﴿ للناس ﴾ : يعني هم خير الناس للناس وأنفع الناس للناس، والأصح أنه عام وأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) خير الأمم كلهم، ﴿ تأمرون بالمعروف ﴾ استئناف بيّن به خيريتهم، ﴿ وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ﴾ أخر الإيمان إشعارا بأن أمرهم ونهيهم للإيمان بالله وإظهار دينه، ﴿ ولو آمن أهل الكتاب ﴾ : بمحمد، ﴿ لكان ﴾ : الإيمان، ﴿ خيرا١ لهم منهم٢ المؤمنون ﴾ : كعبد الله بن سلام، ﴿ وأكثرُهم الفاسقون ﴾ : المتمردون. روي أن اليهود قالت –مع عصابة من الصحابة– نحن أفضل، وديننا خير، فنزلت ( كنتم خير أمة } إلخ.
١ لأنهم لو آمنوا لكان لهم مع الرياسة وحظوظ الدنيا التي آثروها، النجاة من العذاب المقيم والفوز بالنعيم المؤبد/١٢. ولا يضرب عليهم الذلة/١٢. .
٢ هذه الجملة والتي بعدها أعنى (لن يضروكم) واقع على سبيل الاستطراد/١٢ منه..
﴿ لن يضرّوكم إلا أذى ﴾ : ضررا يسيرا قيل : قصدت اليهود عبد الله بن سلام وأصحابه فنزلت :﴿ وإن يُقاتلوكم يولّوكم الأدبار ﴾ : ينهزموا، ولا يضروكم بالقتل، ﴿ ثم لا يُنصرون ﴾ : ثم لا يكون لهم النصر أبدا.
﴿ ضُربت عليهم الذّلة ﴾ ألزمهم الله المذلة والصغار، ﴿ أين ما ثُقفوا ﴾ : أينما وجدوا وكانوا، ﴿ إلا بحبل١ من الله وحبل من الناس ﴾ أي : ضربت عليهم الذلة في كل حال إلا معتصمين بذمة الله، وعهده، وأمان المسلمين وعهدهم، وهو عقد الذمة، وضرب الجزية والمعاهدة والمهادنة أي : لا عز لهم٢ قط إلا هذه الحالة الواحدة٣ ﴿ وباءوا بغضب من الله ﴾ : رجعوا به مستوجبين، ﴿ وضُربت عليهم المسكنة ﴾ : الجزية أو الفقر والتذلل كضرب القبة، ﴿ ذلك ﴾ أي : ضرب المسكنة، والذلة، والبوء بالغضب، ﴿ بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ﴾ : بسبب كفرهم بآية الرجم، وأمثالها، وقتل الأنبياء بسبب الحسد وهم يعلموا أنه غير حق، ﴿ ذلك ﴾ أي : الكفر، والقتل، وقيل : هذا أيضا إشارة إلى المشار إليه بذلك الأول أي : الصغار والهوان له سببان ﴿ بما٤ عصوا وكانوا يعتدون ﴾ : بسبب عصيانهم واعتدائهم في٥ حدود الله فإن الإصرار٦ والمداومة على الذنوب يفضي إلى الكفر ومقت الله تعالى.
١ قوله: (بحبل من الله) في محل النصب على الحال/١٢..
٢ لما كان استقامة معنى المفرغ عند التحقيق راجعة إلى تقدير النفي أشرنا إليه بقولنا: لا عز لهم إلخ/١٢ منه..
٣ هكذا قاله ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك، والحسن، والسدي، وغيرهم فيكون الحبلان واحدا من باب (الله ورسوله أحق أن يرضوه) (التوبة: ٦٢)/١٢..
٤ جعل علة الكفر وقتل الأنبياء هي المعصية، وذلك لأنهم لما توغلوا في المعاصي والذنوب فكانت ظلمات المعاصي تتزايد حالا فحالا ونور الإيمان يضعف حالا فحالا، ولم يزل كذلك إلى أن بطل نور الإيمان، وفضلت ظلمة الكفر، وإليه الإشارة بقوله: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) (المطففين: ١٤)، فقوله: (ذلك بما عصوا) إشارة إلى علة العلة ولهذا المعنى قال أرباب المعاني: من ابتلي بترك الآداب وقع في ترك السنن، ومن ابتلي بترك السنن وقع في ترك الفريضة، ومن ابتلي بترك الفريضة وقع في استحقار الشريعة، ومن ابتلي بذلك وقع في الكفر/١٢ كبير..
٥ ذكره محمد بن إسحاق وغيره، ورواه العوفي عن ابن إسحاق/١٢..
٦ قوله: فإن الإصرار والمداومة مرتب على كلا التفسيرين فافهم/١٢..
﴿ ليسوا سواء ﴾ : نزلت في اليهود حين قالت : ما آمن بمحمد إلا شرارنا، وأرادوا به عبد الله بن سلام وأصحابه١ أي : ليس أهل الكتاب على حد مستو. ﴿ من أهل الكتاب أمّة ﴾، استئناف بيّن نفي الاستواء، ﴿ قائمة ﴾ : على الحق مستقيمة، وقيل : قائمة في الصلاة ﴿ يتلون٢ آيات الله ﴾ : يقرؤون القرآن، أو يتبعونها ﴿ آناء الليل ﴾ : ساعاته، ﴿ وهم يسجدون ﴾ يصلون التهجد أو العشاء٣ فإن أهل الكتب لا يصلونها.
١ ذكره الهيثمي في (المجمع) (٣٢٧/٦)، وقال: (رواه الطبراني ورجاله ثقات)..
٢ عبر بقوله: (يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون) عن التهجد والعشاء/١٢..
٣ في مسند الإمام أحمد عن ابن مسعود أنه عليه الصلاة والسلام أخّر صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة، فقال: أما إنه ليس من أهل هذه الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم، ثم قرأ (ليسوا سواء من أهل الكتاب)/١٢ [أخرجه أحمد والنسائي والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني بسند حسن عن ابن مسعود مرفوعا كما في الدر المنثور للسيوطي (٢/١١٦)]..
﴿ يؤمنون١ بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويُسارعون في الخيرات ﴾، وصفهم بما ليس في اليهود إلا نقيضه كإلحاد في صفاته ووصفهم اليوم الآخر بخلاف صفته، وهم مداهنون في الحق متباطئون عن الخير، ﴿ وأولئك من الصالحين ﴾ : ممن صلحت أحوالهم عند الله، فاستحقوا رضاه.
١ قوله: يتلون ويؤمنون صفتان لأمة/١٢..
﴿ وما يفعلوا من خير فلن يُكفروه ﴾ : لا يضيع عند الله، ولا ينقص ثوابه، ولتضمنه معنى الحرمان عدى إلى مفعولين، ﴿ والله عليم بالمتقين ﴾ لم يقل عليهم بهم إشعارا بأنهم موصوفون بالتقوى أيضا.
﴿ إن الذين كفروا لن تُغني ﴾ : لن تدفع ﴿ عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله ﴾ : من عذابه، ﴿ شيئا وأولئك أصحاب النار ﴾ : ملازموها، ﴿ هم فيها خالدون ﴾.
﴿ مثل ما يُنفقون ﴾ : مثل ما ينفق الكفار، وقيل : نفقة اليهود على علمائهم، ﴿ في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صرّ١ : برد شديد، أو سموم٢ حارة { أصابت حرث ﴾ : زرع، ﴿ قوم ظلموا أنفسهم ﴾ : بالكفر والمعاصي، ﴿ فأهلكته ﴾ : فلم ينتفعوا بحرثهم لدى احتياجهم إليه، فكذا أعمال الكفار، وتقديره : مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح، أو مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح ليطابق المثلان، ﴿ وما ظلمهم الله ﴾، بأن فعل بهم ما ليسوا أهلا له، ﴿ ولكن أنفسهم٣ يظلمون ﴾ لأنهم ارتكبوا ما استحقوا العقوبة.
١ قال الزمخشري: الصر: الريح الباردة ففيه إشكال لأنه يلزم أن يقال ريح فيها ريح باردة وتوجيهه أنه نعت وصف به البرد للمبالغة كبرد بارد أو هو مصدر في الأصل بمعنى البرد فجيء به على أصله أو من باب التجريد انتزع من الريح الباردة ريحا مبالغة في بردها/١٢ منه..
٢ هذا قول ابن عباس، ومجاهد، قيل: هذا يرجع إلى الأول فإن البرد الشديد فيها نارية تحرق الثمار والزروع/١٢..
٣ تقديم المفعول لرعاية الفاصلة لا للاختصاص أي: ما ظلمناهم، ولكن ظلموا أنفسهم/١٢ منه..
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتّخذوا بِطانة ﴾ بطانة الرجل خاصة أهله الذي يطلعه على أسراره، ﴿ من دونكم ﴾ : من دون المسلمين، متعلق بلا تتخذوا أو صفة بطانة أي لا تتخذوا أولياء أصفياء من غير أهل ملتكم، ﴿ لا يألونكم١ خبالا ﴾ : لا يقصرون في الفساد، وخبالا مفعول ثان لتضمين معنى المنع، والجملة مستأنفة أو صفة بطانة، وكذا٢ الجملتان بعده، ﴿ ودّوا٣ ما عنتّم ﴾ : تمنوا شدة ضرركم، ﴿ قد بدت البغضاء ﴾ : ظهرت علامة العداوة، ﴿ من أفواههم ﴾ : فلتات٤ كلامهم، ﴿ وما تُخفي صدورهم ﴾ : من البغضاء ﴿ أكبر ﴾ أكثر مما بدا، ﴿ قد بيّنا لكم الآيات ﴾ : الدالة على صلاح أحوالكم، ﴿ إن كنتم تعقلون ﴾ : ما بيّن لكم، نزلت في مواصلة اليهود لما بينهم من القرابة٥ أو في مصافاة المنافقين
١ إلا في الأمر قصر ثم لتضمين معنى المنع عدى إلى مفعولين كما يقال لا آلوك نصحا، والخبال الفساد/١٢ منه..
٢ أعني ودوا، وقد بدت تحتمل كل منهما أن تكون صفة، ومستأنفة للتعليل عن نهي اتخاذهم بطانة/١٢ منه..
٣ ما مصدرية أي ودوا عنتكم، والعنت شدة الضرر/١٢..
٤ يقال: كان الأمر فلتة بلا تدبر وتفكر/١٢ صراح..
٥ يعني الآية نزلت في منع مواصلة المؤمنين اليهود مطلقا بلقائهم المنافقين من اليهود/١٢ منه..
﴿ ها أنتم أولاء تُحبّونهم ولا يحبونكم ﴾ أي أنتم أولاء الخاطئون في موالاتهم، والجملة بعده بيان خطئهم أو أولاء نداء أو بمعنى الذين كما مر، ﴿ وتؤمنون بالكتاب كله ﴾ أي : بجنس الكتاب حال١ من مفعول لا يحبون أي : لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم أيضا، وهم لا يؤمنون بكتابكم، فأنتم أحق بالبغضاء لهم منهم لكم، ﴿ وإذا لقوكم قالوا آمنا ﴾ : نفاقا، ﴿ وإذا خَلوا ﴾ : خلا بعضهم مع بعض، ﴿ عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ ﴾ : أي : من أجله تأسفا حيث لم يجدوا سبيلا إلى الغلبة عليكم، وهذا يدل أن الآية للمنافقين، ﴿ قل ﴾ : يا محمد، ﴿ موتوا بغيظكم ﴾ : دعاء عليهم بدوام غيظهم وزيادته بتضاعف٢ أهل الإسلام حتى يموتوا به، ﴿ إن الله عليم بذات٣ الصدور ﴾ : بما فيها من خير وشر، فيجازيكم، وهو يحتمل أن يكون من المقول.
١ وجاز العطف على تحبونهم، ففيه التنبيه على موقع الخطأ أيضا على معنى ها أنتم هؤلاء تؤمنون بالكتاب كله، وهم لا يؤمنون بشيء من الكتاب لأن إيمانهم، كلا إيمان فأين جامع المحبة/١٢ منه..
٢ وقوتهم وعزهم، وذل اليهود وخزيهم/١٢..
٣ ذات هاهنا تأنيث بمعنى صاحبة الصدور/١٢ فتح..
﴿ إن تمسَسْكم حسنة ﴾ : خير ومنفعة، ﴿ تسُؤهم ﴾ : تحزنهم، ﴿ وإن تُصبكم سيئة ﴾ : ضر وشدة، ﴿ يفرحوا بها ﴾، فهم في نهاية العداوة معكم، ﴿ وإن تصبروا ﴾ : على أذاهم، ﴿ وتتقوا ﴾ موالاتهم أو ما حرم الله، ﴿ لا يضركم١ كيدهم شيئا٢ : كنتم في كنف الله، فلا يضركم كيدهم، وضمة الراء في لا يضر كضمة مد للاتباع ؛ لأنه جزاء شرط مضارع مضاعف، فجاز فيه أربعة أوجه، وقرئ لا يضركم بكسر الضاد من ضاره بمعنى ضره ﴿ إن الله بما يعملون محيط ﴾ : علمه فيجازيهم بما هم أهله.
١ يعني لا يضركم فعل مضارع وقع جزاء، وجزاء الشرط في غير المضاعف مجزوم وفي مشدد المضاعف مفتوح، فلا بد أن يقال ضمة الراء لاتباع الضاد كضمة مد/١٢ منه..
٢ معنى الآية أن كل من صبر على أداء أوامر الله تعالى، وألقى كل ما نهى الله عنه كان في حفظ الله فلا يضره كيد الكافرين ولا حيل المحتالين وتحقيق الكلام في ذلك هو أنه سبحانه إنما خلق الخلق للعبودية، كما قال: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (الذاريات: ٥٦) فمن وفى بعهد العبودية في ذلك فالله سبحانه أكرم من أن لا يفي بعهد الربوبية في حفظه عن الآفات والمخافات وإليه الإشارة بقوله (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) (الطلاق: ٢، ٣) إشارة إلى أنه يوصل إليه كل ما يسره، وقال بعض الحكماء: إذا أردت أن تكبت من يحسدك فاجتهد في اكتساب الفضائل/١٢. .
﴿ وإذ غدوت ﴾ أي : واذكر إذ غدوت ﴿ من أهلك ﴾ : منزل عائشة رضي الله عنها ﴿ تُبوّئ المؤمنين ﴾ : تسوي وتهيئ لهم، ﴿ مقاعد للقتال ﴾ : مواقف وأماكن له، ﴿ والله سميع ﴾ لأقوالكم ﴿ عليم ﴾ : بضمائركم وأحوالكم، هذه وقعة أُحد، وقيل١ يوم الأحزاب.
١ رواه ابن جرير عن الحسن البصري، وهو غريب فإن ما بعده قريب من آخر السورة في وقعة أحد فلا يعول على هذا القول/١٢..
﴿ إذ همّت طائفتان منكم ﴾، بدل من إذ غدوت أو متعلق بسميع عليم، وهما بنو حارثة، وبنو سلمة، ﴿ أن تفشلا ﴾ : تجبنا وتضعفا، فإنهم هموا بالانصراف عن الحرب، لكن عصمهم الله، ﴿ والله وليُّهما ﴾ : ناصرهما فعصمهم عن اتباع الخطرة أو قبالهما١ تفشلان، ﴿ وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ : لا على العَدد والعُدد.
١ كذا بالأصل وفي الكشاف (١/٢١٥) (فما لهما)..
﴿ ولقد نصركم الله ببدرٍ ﴾ تذكير بقصة إفادتهم التوكل، وهو موضع بين المكة١، والمدينة، ﴿ وأنتم أذلة ﴾ : بقلة العدد والسلاح، ﴿ فاتقوا الله ﴾ : في الثبات، ﴿ لعلكم تشكرون ﴾ عاقبته بمزيد من الإنعام، وقيل معناه اتقوني فإنه شكر نعمتي.
١ كذا في الأصل..
﴿ إذ تقول للمؤمنين ﴾ ظرف لنصركم، وهو في بدر، أو بدل ثان من إذ غدوت، وهو في أحد، وقالوا : لم يحصل الإمداد يوم أحد لا بخمسة آلاف ولا بثلاثة، لأن المسلمين لم يصبروا بل فروا، ﴿ ألن يكفيكم أن يمدّكم ﴾، هو فاعل يكفيكم، ﴿ ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين ﴾ : للنصر.
﴿ بلى ﴾ : إيجاب لما بعد لن، أي : بلى يكفيكم، ثم وعد لهم الزيادة بشرط الصبر والتقوى فقال :﴿ إن تصبِروا ﴾ : على العدو، ﴿ وتتقوا ﴾ : مخالفتي، ﴿ ويأتوكم من فورهم هذا ﴾ : من غضبهم فإنهم رجعوا لحرب يوم أحد من غضبهم ليوم بدر، أو من ساعتهم، والمعنى إن يأتوكم في الحال، ﴿ يُمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة ﴾ في حال إتيانهم لا يتأخر نزولهم عن إتيانهم، ﴿ مسوّمين١ : معلمين بسيما الصوف الأبيض أو بالعهن الأحمر في نواصي خيولهم أو بالعمائم البيض، أو السود أو الصفر٢ أو بسيما القتال أنزل الله الملائكة يوم بدر ألفا كما قال :( فاستجاب لكم أني مُمدّكم بألف ) ( الأنفال : ٩ )، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم٣ خمسة آلاف.
١ مسومين من السومة، وهي العلامة وفي تعيينها خلاف والله أعلم بالصحيح من ذلك/١٢ وجيز..
٢ الأول قول علي بن أبي طالب رواه بن أبي حاتم، الثاني لأبي هريرة، الثالث لابن عباس، والرابع رواه ابن مردويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ذكره الهيثمي في (المجمع) (٦/٣٢٧) وقال: (رواه الطبراني وفيه عبد القدوس بن حبيب وهو متروك)]، والخامس رواه ابن مردويه عن الزبير [أخرجه أبو نعيم وابن عساكر عن عباد بن عبد الله بن الزبير بلاغا كما في الدر المنثور (٢/١٢٥)]، السادس لعكرمة وقتادة/١٢ منه..
٣ فلا منافاة كما صرح بذلك قتادة وغيره، وقوله هاهنا مردفين مشعر بذلك إذ معناه يردفهم غيرهم، ويتبعهم آخرين/١٢..
﴿ وما جعله الله ﴾ أي : الإمداد، ﴿ إلا بشرى ﴾ : بشارة، ﴿ لكم ﴾ : بالنصر، ﴿ ولتطمئن ﴾ : ولتسكن، ﴿ قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله ﴾ : لا من عدة وعدد، ﴿ العزيز ﴾ : الذي لا يغالب في قضائه ﴿ الحكيم ﴾ : في أفعاله.
﴿ ليقطع طرفا ﴾أي : لقد نصركم الله ببدر ليهلك طائفة، أو يهدم ركنا من أركان الشرك، أو متعلق بقوله ( وما النصر إلا من عند الله ) ﴿ من الذين كفروا أو يكبِتهم١ : يخزيهم٢ وأو للتنويع، ﴿ فينقلِبوا خائبين ﴾ : منقطعي الآمال.
١ وأصل الكبت في اللغة صرع الشيء على وجهه، والمراد منه القتل، والهزيمة، والإهلاك، واللعن، والخزي/١٢ فتح..
٢ يعني نصرتكم في بدر لأنواع من الفوائد: إهلاك بعض، وإذلال بعض بالهزيمة، وتوبة بعض بالإيمان، وتعذيب بعض بالأسر فيمكن أن يقال ليس لك من الأمر شيء نزل لأحد هذا الوجهين المذكورين، ويكون اعتراضا بين المعطوف والمعطوف عليه، ثم ذكر بقية الأقسام، لكن فيه تكلف/١٢ منه..
﴿ ليس لك من الأمر شيء ﴾ بل الأمر كله إلى الله، نزلت حين١ قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلعن فيه على قوم قتلوا سبعين رجلا من قراء الصحابة بعثوا ليعلموا الناس، أو نزلت٢ يوم أُحد حين شج في رأسه الأشرف، ويقول ( كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيّهم ؟ ! ) ﴿ أو يتوب عليهم أو يعذّبهم ﴾، عطف على الأمر بإضمار أن أي : ليس لك من أمرهم شيء أو من التوبة عليهم أو تعذيبهم، أو على شيء أي ليس لك من أمرهم شيء، أو التوبة أو تعذيبهم أو بمعنى إلا أن أي : ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب عليهم فتفرح بحالهم أو يعذبهم فتتشفى منهم، أو عطف على أو يكبتهم، ( ليس لك من الأمر شيء ) اعتراض وقع في البين، وأنت تعلم أن هذا توجيه لو يلائمه. سبب النزول يلائم اللفظ والمعنى، ﴿ فإنهم ظالمون ﴾ : استحقوا التعذيب.
١ رواه البخاري، والنسائي بروايات متعددة /١٢ منه [أخرجه البخاري في (التفسير) (٤٥٦٠)، وفي مواضع أخر من صحيحه، ومسلم في (المساجد)]..
٢ رواه البخاري، وأحمد عن أنس/١٢ وجيز [هذا يوهم أن الحديث أخرجه البخاري، وليس كذلك وإنما ذكره معلقا في المغازي (٧/٤٢٢-فتح)، ووصله مسلم في (الجهاد) (١٧٩١)]..
﴿ ولله ما في السماوات وما في الأرض ﴾ : خلقا وملكا فالأمر له لا لغيره، ﴿ يغفر لمن يشاء ﴾ : غفرانه، ﴿ ويُعذّب من يشاء ﴾ : تعذيبه، ﴿ والله غفور رحيم ﴾ : فلا تبادر إلى اللعن، والدعاء عليهم.
﴿ يا أيها الذين١ آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة٢، أي : لا تزيدوا زيادات مكررة فإنهم إذا بلغ الدين محله زادوا في الأجل ؛ فاستغرقوا بالشيء الحقير مال المديون، ﴿ واتقوا الله لعلكم تُفلحون ﴾ : راجين الفلاح.
١ ولما نهى عن اتخاذ بطانة من دون المؤمنين، واستطرد لما بينا ذكر بعض المحاربات، والمؤمنون في أول الإسلام ذوو إعسار والكفار من اليهود وغيره ذوو أيسار، وأكثر مخالطتهم للمديون ومعاملتهم بالربا نهي عن التقدم للمخالطة، والمساهلة للمعاملة، وبين أن ما في السماوات والأرض ملك له لا يجوز التصرف في شيء من ذلك إلا بالإذن وأكل الربا تصرف في ماله بغير إذنه نهي عنه، فقال: ﴿يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا﴾/١٢ وجيز..
٢ لزيادة التوبيخ والتنبيه على أنهم على هذه الطريقة الرديئة التي يستقبحها من له أدنى مروءة، وليس لتقييد [في الأصل، للتقييد، بلامين] النهي وقوله: (أضعافا) حال، ومضاعفة صفة لها/١٢ وجيز..
﴿ واتقوا النار التي أُعدّت للكافرين ﴾ : بالتحرز عن متابعتهم، وفيه تنبيه على أن النار بالذات للكافر وبالعرض للعاصي.
﴿ وسارعوا ﴾ : بادروا ﴿ إلى مغفرة من ربكم ﴾ : أعمال توجب المغفرة، كالإسلام، والتوبة، وأداء الفرائض، ﴿ وجنة عرضها السماوات والأرض ﴾ أي : عرضها١ كعرضهما قيل فيه تنبيه على اتساع طولها كما قال تعالى :( بطائنها من إستبرق ) ( الرحمن : ٥٤ ) أي : فما ظنك بالظهائر ؟ ! وقيل عرضها كطولها ؛ لأنها قبة تحت العرش، ﴿ أُعدّت ﴾ : هيئت، ﴿ للمتقين ﴾، فالجنة بالذات للمتقين، وبالعرض لفساق المؤمنين٢.
١ كما في سورة الحديد ﴿وجنة عرضها كعرض السماء والأرض﴾ (الحديد: ٢١) قال الزجاج: لا يراد عرض ولا طول يقول العرب: بلاد عريضة أي: واسعة أو فيه إشارة إلى أن طولها كعرضها لأن الكرة كذلك، وقيل هو من عرضة المتاع للبيع نحو، ﴿وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا﴾ (الكهف: ١٠٠) كما عرضت الدنيا بسمواتها وأرضها على أهل الدنيا، وكل هذه التمحلات لما أشكل عليهم أن جنة عرضها السماوات والأرض كيف تسعها السماء! ولا إشكال، فإن الجنة في الكرسي، والسماوات في جنبه كحلقة في فلاة/١٢ وجيز..
٢ كما يقال القصر معد للسلطان وفيه غير السلطان بالتبع، وبهذا يندفع كلام الزمخشري أن في هذه الآيات بيانا قاطعا أن المؤمنين على ثلاث طبقات: متقين، وتائبين، ومصرين وأن الجنة للأولين دون الأخير ومن خالف في ذلك فقد كابر عقله، وعاند ربه/١٢ منه..
﴿ الذين يُنفقون ﴾، صفة مادحة لهم، ﴿ في السراء والضراء ﴾ : في اليسر والعسر أو المراد جميع الأحوال، لأنه لا يخلو الإنسان منهما، ﴿ والكاظمين الغيظ ﴾ : الكافين عن إمضائه مع القدرة عليه، ﴿ والعافين عن الناس ﴾ : التاركين عقوبة من استحقها، ﴿ والله يحب المحسنين ﴾ : إشارة إلى أن هؤلاء في مقام الإحسان.
﴿ والذين إذا فعلوا فاحشة ﴾ : قبيحة بالغة في القبح، نزلت١ حين قال المؤمنون :( كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا ؛ لأنهم إذا أذنبوا ذنبا أصبحت كفارة ذنوبهم مكتوبة على عتبة أبوابهم ؛ أو نزلت في رجل قبل امرأة وعانقها ثم ندم، وقيل الفاحشة الزنا والكبائر، ﴿ أو ظلموا أنفسهم ﴾ : بالصغائر وما دون الزنا، ﴿ ذكروا الله ﴾ : أي : وعيده، أو ذكروه باللسان :﴿ فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ﴾، استفهام بمعنى النفي معترض بين المعطوف والمعطوف عليه دال على سعة رحمته، ﴿ ولم يصرّوا على ما فعلوا ﴾ : لم يقيموا على ذنوبهم، بل أقروا واستغفروا وفي الحديث٢ ( ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة )، ﴿ وهم يعلمون ﴾ : أنها معصية أو أن الإصرار ضار أو أن الله يملك مغفرة الذنوب، أو أنهم إن استغفروا غفر لهم.
١ نقلهما محبي السنة، ووافقه الواحدي في الثاني/١٢ منه..
٢ الذي رواه الترمذي وأبو داود وغيرهما/١٢ [وهو ضعيف، انظر ضعيف الجامع (٥٠٠٦)، وضعيف أبي داود].
.

﴿ أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها ﴾، أي : من تحت غرفها وأشجارها ﴿ الأنهار خالدين فيها ﴾، خبر للذين إذا فعلوا إن جعلته مبتدأ، وإلا فجملة مستأنفة مبينة لما قبلها، ﴿ ونعم أجر العاملين ﴾ أي : ذلك، يعني المغفرة والجنات، وكم فرق بين القبيلتين فصل آيتهم بالمحبة والإحسان، وفصل آية هؤلاء بالعمل والأجر.
﴿ قد خلت١ من قبلكم سنن ﴾ أي : وقائع سنها الله في الأمم الماضية، وقيل معنى السنن الأمم، ﴿ فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ﴾ : فتعتبروا ولا تحزنوا على ما وقع عليكم يوم أحد، فإني آخذهم أشد الأخذ عاقبة الأمر، لما فرغ عن حديث الربا الذي هو حرب مع الله كما قال الله – استأنف حديث الجهاد الأكبر الذي كان الكلام فيه.
١ قد استطرد لما بينا آية الربا الذي هو حرب مع الله كما قال تعالى: ﴿فأذنوا بحرب من الله ورسوله﴾ في سورة البقرة، ثم رجع إلى حكاية الحروب فقال: ﴿قد خلت﴾/١٢ وجيز..
﴿ هذا بيان للناس ﴾ أي : القرآن، وقيل إشارة إلى مفهوم قد خلت، أو فانظروا أي : القرآن بيان الأمور للناس عامة، ﴿ وهدىً وموعظة للمتقين ﴾ أي زيادة بصيرة، وزاجر لهم خاصة.
﴿ ولا تهِنوا ولا تحزنوا ﴾ : لا تضعفوا عن الحرب بسبب غلبة الكفار يوم أحد، ولا تحزنوا على ما وقع عليكم، ﴿ وأنتم١ الأعْلَون ﴾، والحال إنكم الأعلى والغالب في الدنيا والآخرة، والعاقبة لكم، والخسار لهم، ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ متعلق بلا تهنوا أي : لا تهنوا إن صح إيمانكم ؛ فإن الإيمان يورث قوة القلب، ويمكن أن يتعلق بأنتم الأعلون أي : غلبتكم، ونصرتكم متحققة إن كنتم مؤمنين، أي : إن كان إيمانكم متحققا فالنصرة متحققة.
١ فانظر إلى خطاب هذه الأمة خوطبوا كما خاطب موسى عليه الصلاة والسلام إذ قال: ﴿لا تخف إنك أنت الأعلى﴾ (طه: ٦٨) بل في هذا مزيد اعتناء قال: ﴿ولا تحزنوا﴾ أخرج ابن جرير وغيره عن ابن جريج قال: انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب يوم أحد فسألوا ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وما فعل فلان؟ فنعى بعضهم لبعض وتحدثوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل فكانوا في هم وحزن، فبينما هم كذلك علا خالد بن الوليد بخيل المشركين فوقهم على الجبل، وكانوا على إحدى جنبتي المشركين، وهم أسفل من الشعب فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم فرحوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا قوة لنا إلا بك، وليس أحد يعبدك بهذا البلد غير هؤلاء فلا تهلكهم)، فثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا فرموا خيل المشركين حتى هزمهم الله، وعلا المسلمون الجبل فذلك قوله: ﴿وأنتم الأعلون﴾/١٢ فتح [أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريج معضلا، كما في الدر المنثور للسيوطي (٢/١٤٠)]. .
﴿ إن يمسسكم قرحٌ ﴾ : جراح وكسر يوم أحد، ﴿ فقد مسّ القوم ﴾ : المشركين، ﴿ قرحٌ مثله ﴾ : يوم بدر، ولم يجبنوا فأنتم أحق ألا تهنوا، ﴿ وتلك الأيام ﴾ أي : أيام الدنيا وأيام الغلبة، ﴿ نُداولها بين الناس ﴾ : نصرفها بينهم نديل لهؤلاء تارة، وتارة لهؤلاء، وهو خبر لتلك، والأيام صفتها، ﴿ وليعلم الله الذين آمنوا ﴾ : علم رؤية ومشاهدة أي : ليتميزوا عن المنافقين، وهو عطف على علة محذوفة أي : نداولها ليكون كذا، وكذا، أو ليعلم الله إشارة إلى تعدّد العلة أو تقديره : وليعلم الله الذين آمنوا فعلنا ذلك، ﴿ ويتّخذ منكم شُهداء ﴾، وليكرم قوما بالشهادة في سبيله، ﴿ والله لا يحب الظالمين ﴾ : يعني : غلبتهم لا لمحبتهم بل لما ذكرنا.
﴿ وليُمحّص الله الذين آمنوا ﴾ أي : ليطهرهم من الذنوب بما يقع عليهم من قتل وجرح، وجملة ( والله لا يحب الظالمين ) معترضة، ﴿ ويمحَق الكافرين ﴾ : يهلكهم فإنهم إذا ظفروا بغوا فهو سبب هلاكهم أو مغلوبية المؤمنين لتطهيرهم، ومغلوبية الكفار لإهلاكهم في الدارين، والمحق نقص الشيء قليلاً قليلاً.
﴿ أم حسبتم ﴾ : بل أحسبتم ﴿ أن تدخلُوا الجنة ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ﴾ أي : لا تحصل الجنة لكم حتى يرى الله منكم المجاهدين، ويبتليكم بالشدائد، أو معناه لا تحصل لكم والحال أنكم لما تجاهدوا كما يقال : ما علم الله في فلان خيرا، أي : ما فيه خير، ﴿ ويعلم الصابرين ﴾ : ويرى الصابرين على القتال، أو نصبه بإضمار أن، والواو بمعنى الجمع.
﴿ ولقد كنتم تمنّوْن الموت ﴾ أي : الشهادة أو الحرب فإنها من أسباب الموت، ﴿ من قبل أن تلقَوه ﴾ : تشاهدوا وتعرفوا شدته، ﴿ فقد رأيتُموه وأنتم تنظرون ﴾ : رأيتموه معاينين له حين قتل من قتل من إخوانكم فأنتم تمنيتم غلبة الكفار لأنكم تمنيتم الشهادة أو إذا طلبتم لقاء العدو فاصبروا١.
١ وذلك أن طائفة منهم لم يحضروا غزوة بدر، وفاز في بدر من في الحرب بما فاز به من كرامة الدنيا والآخرة، فتمنوا لقاء العدو، وليكون لهم يوم كيوم بدر وهم الذين حرضوا على الخروج لأحد، فلما كان حرب أحد وشاع أن محمدا قد قتل انقلبوا فارين فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عباد الله فرجعوا، واستعذروا بأن جاءنا خبر قتلك فرعبت قلوبنا فنزلت الآية تلومهم على ما صدر عنهم مع ما قرروا في أنفسهم من تمني الموت (وما محمد إلا رسول) الآية/١٢ وجيز..
﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ﴾ : بالموت، أو القتل، فيخلو محمد صلى الله عليه وسلم أيضا ﴿ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ﴾ : عن الدين، ورجعتم إلى دينكم الأول وذلك لما شاع يوم أحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل قال المنافقون للمؤمنين : الحقوا بدينكم الأول فنزلت١ ﴿ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ﴾ : بل يضر نفسه، ﴿ وسيجزي الله الشاكرين ﴾ : على نعمة الإسلام.
١ رواه البيهقي/١٢..
﴿ وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله ﴾ أي : محال أن يموت أحد إلا بقدر الله، ﴿ كتاباً مُؤجّلا ﴾ أي كتب الموت كتابا مؤقتا لا يتقدم ولا يتأخر فالتأخير عن القتال والإقدام عليه لا يزيد ولا ينقص في العمر، ﴿ ومن يُرد ثواب الدنيا ﴾ أي : من عمله، ﴿ نُؤته منها ﴾ إن أردنا، قيل هذا تعريض بمن شغلتهم الغنائم يوم أحد، وتركوا المركز الذي وقفهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ ومن يُرد ثواب الآخرة ﴾ : كمن ثبت حتى قتل، ﴿ نُؤته منها ﴾ أي : من ثوابها، ﴿ وسنجزي الشاكرين١ : الذين لم تشغلهم زينة الدنيا.
١ أخبر الله تعالى في هذه الآية أن من طلب الدنيا لا بد أن يصل إلى بعض مقصوده ومن طلب الآخرة فكذلك، وتقريره قوله عليه السلام ﴿إنما الأعمال بالنيات﴾ إلى آخر الحديث [أخرجه البخاري في (بدء الوحي) (ح١)، وفي مواضع أخر من صحيحه، والفظ له، ومسلم في (الإمارة) (٤/٥٧١) ط الشعب] واعلم أن هذه الآية وإن وردت في الجهاد خاصة لكنها عامة في جميع الأعمال، وذلك لأن المؤثر في جلب الثواب المقصود والدواعي لا ظواهر الأعمال، فإن من وضع الجبهة على الأرض في صلاة الظهر والشمس قدامه فإن قصد بذلك السجود عبادة الله تعالى كان ذلك من أعظم دعائم الإسلام، وإن قصد به عبادة الشمس كان ذلك من أعظم دعائم الكفر، وروى أبو هريرة عنه عليه السلام (أن الله تعالى يقول يوم القيامة لمقاتل في سبيل الله في ماذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت فيقول تعالى: كذبت بل أردت أن يقال فلان محارب وقد قيل ذلك ثم إن الله تعالى يأمر به إلى النار)/١٢ كبير للرازي [والحديث أخرجه مسلم في (الإمارة) (٥/٥٦٨) ط الشعب]. .
﴿ وكأيّن ﴾ أصله أيّ دخلت الكاف عليها، وصارت بمعنى كم، وأثبتت النون في الخط، وهي تنوين، عليها، وصارت بمعنى كم، وأثبتت النون في الخط، وهي تنوين، ومعناه كم، ﴿ من نبيّ قاتل معه ربّيون كثير ﴾ أي : جموع١ كثيرة منسوب إلى الربة وهي الجماعة أو علماء كثير، وفاعل قاتل ربيون٢ أو ضمير للنبي ومعه ربيون حال عنه، ﴿ فما وَهَنوا ﴾ : ما فتروا ﴿ لِما أصابهم في سبيل الله ﴾ : من قتل بعضهم أو من قتل نبيهم٣، ﴿ وما ضعُفُوا ﴾ : عن العدو، ﴿ وما استكانُوا ﴾٤ : ما تخشعوا وما ذلوا لعدوهم ﴿ والله يحب٥ الصابرين ﴾ : فينصرهم في الدين.
١ فسر بذلك ابن عباس ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والحسن وقتادة، والسدي، وجماعة أخرى/١٢..
٢ من ربانيون، والكسر والحذف من تغييرات النسب/١٢..
٣ قال قتادة والربيع ومحمد بن إسحاق والسدي: ما أصابهم من قتل نبيهم/١٢..
٤ أصل استكن من السكون؛ لأن الخاضع يكن لصاحبه ليفعل به ما يريد والألف من إشباع الفتحة، ومن استكون من الكون؛ لأنه يطلب من نفسه أن تكون لمن يخضع له/١٢..
٥ والمعنى أن من صبر على تحمل الشدائد في طريق الله ولم يظهر الجزع والعجز والهلع – فإن الله يحبه، ومحبة الله للعبد ثابتة بالكتاب والسنة وكرر في مواضع من كتابه أثبتها له رسوله وشهد به سلف أمته، فليس لمن يؤمن بكتاب الله ويصدق رسوله أن ينكر أو يستبعد ذلك، نعم لمن يتبع الفلسفة أن يفسر ذلك برأيه ثم يحتمل التمحل في ذلك، أو فينفيه برأسه كقولهم: المحبة مناسبة بين المحب والمحبوب، ومناسبة الرب للخلق نقص، فيقال المناسبة لفظ مجمل فإن أراد بها التوالد والقرابة فيقال هذا نسب فلان ويناسبه إذا كان بينهما قرابة مستندة إلى الولادة، والله سبحانه منزه عن ذلك أو يراد بها المماثلة فيقال: هذا يناسب هذا أي يماثله، والله سبحانه أحد صمد لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد أو يراد بها موافقة في معنى من المعاني وضدها المخالفة والمناسبة بهذا الاعتبار ثابتة فإن أولياء الله يوافقونه فيما يأمر فيفعلونه، وفيما يحبه فيحبونه، وفيما هي عنه فيتركونه، وفيما يبغضه فيبغضونه، والله وتر يحب الوتر [صح ذلك عنه مرفوعا – صلى الله عليه وسلم – انظر صحيح الجامع (١٨٢٩)] جميل يحب الجمال [صح ذلك عنه مرفوعا – صلى الله عليه وسلم – أخرجه مسلم في (الإيمان)] عليم يحب العلم نظيف يحب النظافة [ورد ذلك في حديث ضعيف، انظر ضعيف الجامع (١٥٩٦)] محسن يحب المحسنين مقسط يحب المقسطين إلى غير ذلك من المعاني، بل هو سبحانه يفرح بتوبة التائب أعظم من فرح الفاقد لراحلته عليها طعامه، وشرابه في الأرض المهلكة إذا وجدها بعد اليأس، فالله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته كما ثبت ذلك في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم [أخرجه البخاري في (الدعوات) (٦٣٠٨)، ومسلم في (التوبة) (٢٧٤٤)] فإذا أريد بالمناسبة هذا وأمثاله فهذه المناسبة حق، وهي من صفات الكمال كما تقدم الإشارة إليه فإن من يحب صفات الكمال أكمل ممن لا فرق عنده بين صفات النقص والكمال ولا يحب صفات الكمال وإذا قدر موجودان أحدهما يحب العلم والصدق والعدل والإحسان ونحو ذلك والآخر لا فرق عنده بين هذه الأمور وبين الجهل والكذب والظلم ونحو ذلك لا يحب هذا، ولا يبغض هذا كان الذي يحب تلك الأمور أكمل من هذا فدل على أن هذه من صفات الكمال والموجود إما ألا يكون له علم كالجماد فالذي يعلم أكمل منه والعالم إما أن يحب المحمود ويبغض المذموم، وإما ألا يحبهما، وإما أن يحبهما ومعلوم أن الذي يحب المحمود ويبغض المذموم أكمل ممن لا يحبهما أو يبغضهما وأصل هذه المسألة هي الفرق بين محبة الله ورضائه وغضبه وسخطه وإرادته كما هو مذهب السلف، ومن ذهب إلى أنه لا فرق بينهما فقوله مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها فإنهم متفقون على أنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن وأنه لا يكون شيء إلا بمشيئته ومجمعون على أنه لا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر وأن الكفار يبيتون ما لا يرضى من القول، والذين نفوا محبته بنوها على هذا الأصل الفاسد هكذا قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية في بعض رسائله/١٢. .
﴿ وما كان قولهم ﴾، مع أنهم ثابتون ربانيون مصابون ﴿ إلا أن قالوا ﴾ اسم كان ﴿ ربنا اغفر لنا ذُنوبنا وإسرافنا في أمرنا ﴾ : صغائرنا، وكبائرنا، ﴿ وثبّت أقدامنا ﴾ : بحولك وقوتك، ﴿ وانصرُنا على القوم الكافرين ﴾.
﴿ فآتاهم الله ثواب الدنيا ﴾ : النصر، والعافية، والغنيمة، ﴿ وحُسن ثواب الآخرة والله يحبّ المحسنين ﴾.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ :١ اليهود، والمنافقين حين قالوا يوم أحد : ارجعوا إلى دين آبائكم ﴿ يردّوكم على أعقابكم ﴾ : يرجعوكم إلى الشرك، ﴿ فتنقلِبوا خاسرين ﴾ : مغبونين في الدارين.
١ وذلك حين حسبوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل/١٢..
﴿ بل الله مولاكم ﴾ : ناصركم، ﴿ وهو خير الناصرين ﴾ : فلا تستنصروهم.
﴿ سنُلقي في قلوب الذين كفروا الرُّعب ﴾ لما ارتحل المشركون عن أُحد عزموا في أثناء الطريق الرجوع لاستئصال المسلمين، فألقى الله الرعب في قلوبهم فلم يقدروا على الرجوع ﴿ بما أشركوا بالله ﴾ : بسبب إشراكهم، ﴿ ما لم يُنزّل به سلطاناً ﴾ أي : أشركوا شيئا لم ينزل الله بإشراكه حجة ودليلا ﴿ ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين ﴾ أي : النار، وضع الظاهر موضع المضمر تغليظا وتعليلا.
﴿ ولقد صدقكم الله وعده ﴾ : بالنصر والظفر بشرط الصبر والتقوى ﴿ إذ تحُسّونهم ﴾ : تقتلون المشركين أول الأمر يوم أحد١ ﴿ بإذنه ﴾ : بقضاء الله، ﴿ حتى إذا فشلتم ﴾ : جبنتم، ﴿ وتنازعتم في الأمر ﴾ أراد اختلاف الرماة حين انهزام المشركين قال بعضهم ندع مكاننا للغنيمة، وقال بعضهم : نترك الغنيمة، ولا نخالف نبي الله ﴿ وعصيتم ﴾ : الرسول بترك المركز، ﴿ من بعد ما أراكم ﴾ : الله ﴿ ما تحبّون ﴾ : من الغنيمة، وجواب إذا محذوف وهو امتحنكم أو منعكم نصره، ﴿ منكم من يريد الدنيا ﴾ : وهم من ترك المركز للغنيمة، ﴿ ومنكم من يريد الآخرة ﴾ : وهم الثابتون عند المركز، ﴿ ثم صرفكم عنهم ﴾ : كفكم عنهم، وردكم بالهزيمة ﴿ ليبتليكم ﴾ : يمتحن ثباتكم، ﴿ ولقد عفا عنكم ﴾ : مخالفة الرسول لندمكم، أو عفا عنكم فلم يستأصلكم، ﴿ والله ذو فضل على المؤمنين ﴾.
١ قد يستدل بهذه الآية على أن قوله: (إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم) (آل عمران: ١٢٤) الآية كان يوم أحد، وهو الوعد بالنصر، لكن بشرط الصبر والثبات والطاعة/١٢..
﴿ إذ تُصعِدون ﴾ : تبعدون في الهزيمة متعلق بعفا عنكم، أو بصرفكم، أو ليبتليكم. ﴿ ولا تلوُون ﴾ : لا تقفون، ولا تقيمون، ﴿ على أحد ﴾ : ولا يلتفت بعض إلى بعض، ﴿ والرسول يدعوكم في أُخراكم ﴾ أي : في جماعتكم الأخرى أي المتأخرة١ يقول :( إليّ عباد الله فأنا رسول الله من يكر فله الجنة )٢ ﴿ فأثابكم غمّا بغمٍّ ﴾ : جازاكم عن فشلكم غما متصلا بغم غم الذنب وظن قتل نبيكم والخوف وظفر المشركين٣ وقيل غمًّا بسبب غم أذقتموه رسول الله بمخالفته، ﴿ لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ﴾ : من الغنيمة٤، والظفر بعدوكم، ﴿ ولا ﴾ : على، ﴿ ما أصابكم ﴾ : من القتل والجرح وقيل معناه لتتمرنوا على الصبر في الشدائد ؛ فلا تحزنوا فيم بعد على نفع فائت وضر لاحق، وقيل لا في لكيلا زائدة، ﴿ والله خبير بما تعملون ﴾ : عالم بأعمالكم وقصدكم.
١ الأول منقول عن كثير من السلف رواه ابن مردويه عن عمر بن الخطاب وابن عباس وابن أبي حاتم عن قتادة/١٢..
٢ سبق تخريجه والتنبيه على ضعفه..
٣ على الوجه الأول الظرف أعنى بغم مستقر وعلى الثاني متعلق بأثابكم/١٢..
٤ هكذا فسره ابن عباس، وعبد الرحمن بن عوف، والحسن، وقتادة، والسدي/١٢..
﴿ ثم أنزل عليكم من بعد الغمّ أَمَنة نعاسا ﴾ : أمنة١ مفعول، ونعاسا٢ بدل منه، وهذا كما قال الزبير : لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف علينا أرسل٣ الله علينا النوم فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره، والله لا أسمع قول معتب بن قشير إلا كالحلم لو كان لنا من الأمر شيء٤ ما قتلنا ها هنا، وعن٥ ابن مسعود : النعاس في القتال من الله، وفي الصلاة من الشيطان، ﴿ يغشى ﴾ : النعاس ﴿ طائفةً منكم ﴾، وهم المؤمنون حقا ؛ ﴿ وطائفة قد أهمّتهم أنفسهم ﴾ ما بهم إلا همّ أنفسهم وطلب خلاصها، وهم المنافقون، ﴿ يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ﴾ : نصب غير الحق بالمصدر٦ أي يظنون غير الظن الحق، وظن الجاهلية بدله أو هو مفعول مطلق، وغير الحق مصدر لمضمون الجملة أي يظنون ظن الجاهلية يقولون قولا غير الحق، وهو أنهم يظنون أنه ما بقي من أمر محمد صلى الله عليه وسلم شيء، ﴿ يقولون٧ هل لنا من الأمر من شيء ﴾ أي : هل لنا من النصر والغلبة شيء، ونصيب قط ؟ وهذا إنكار منهم، ﴿ قل ﴾ : يا محمد، ﴿ إن الأمر كله لله ﴾ : النصر والظفر والقضاء والقدر، ﴿ يُخفون في أنفسهم ﴾ : من النفاق استئناف، أو حال من فاعل يقولون، ﴿ ما لا يُبدون لك يقولون٨، بدل٩ من يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك أو استئناف أي إذا خلا بعضهم إلى بعض يقولون :﴿ لو كان لنا من الأمر شيء ﴾ أي : لو كنا على الحق، ﴿ ما قُتلنا ها هنا ﴾ : لما قتل منا في هذه المعركة، ﴿ قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كُتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ﴾ أي : لخرج الذين قدر القتل عليهم إلى مصارعهم فلم يستطيعوا الإقامة في المدينة ﴿ وليبتلي الله ما في صدوركم ﴾، ليمتحن، ويظهر سرائركم من الإخلاص وعدمه، وهو عطف على محذوف أي برز لنفاذ القضاء وليبتلي، أو علة فعل محذوف أي : فعلنا ذلك، ﴿ وليُمحّص ما في قلوبكم ﴾ : يكشفه، ويميزه أو يطهره، ويخلصه من الوساوس ﴿ والله عليم بذات الصدور ﴾ : بضمائرها.
١ على أن النعاس الأمنة أو نعاسا مفعول، وأمنة حال مقدم/١٢..
٢ الحديث الذي ذكرنا في شرح الآية يدل على أن النعاس بعد الهزيمة حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلموا أنه لم يُصب والكفار على الرجوع/١٢..
٣ رواه ابن إسحاق بن يسار، وابن أبي حاتم/١٢..
٤ رواه الطبراني/١٢..
٥ رواه ابن أبي حاتم/١٢..
٦ على طريق النوعية دون التأكيد/١٢..
٧ استفهام إنكاري/١٢..
٨ في أنفسهم ما لا يبدون لك/١٢..
٩ إذ لو قالوا ذلك مع المؤمنين مجاهرة لما كانوا منافقين، ولا يمكن أن يكون بدلا من يخفون إلخ/١٢..
﴿ إن الذين تولّوا منكم ﴾ : أيها المؤمنون، ﴿ يوم التقى الجمعان١ : في أُحد، ﴿ إنما استزلّهم٢ الشيطان ببعض ما كسبوا ﴾ أي : انهزم من الهزم لأجل استزلال الشيطان إياهم ببعض الذنوب، وإيقاعهم فيه يعني اقترفوا ذنوبا لم يستحقوا معها التأييد الإلهي، وتقوية القلب فلذا فرّوا أو لأجل أنه حملهم على الذلة التي هي الفرار بسبب ذنب هو بمخالفة الرسول أعني ترك المركز أو بشؤم ذنوب تقدمت لهم فإن المعاصي يجر يجر بعضها بعضا كالطاعة، ﴿ ولقد عفا الله عنهم ﴾ تلك الخطيئة، ﴿ إن الله غفور ﴾ : للذنوب، ﴿ حليم ﴾ : لا يعاجل بعقوبة العصاة.
١ المسلمون، والكافرون/١٢..
٢ استزلّهم: طلب منهم الزلل، وإذا قلت استزله بكذا جاز أن يكون الزلل المحرض عليه هو ما دخل عليه الباء وجاز أن يكون غيره، والمعنيان اللذان في الشرح بناء على ذلك/١٢ منه..
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ أي : المنافقين، ﴿ وقالوا لإخوانهم ﴾ : لأجل أصحابهم وفيهم، ﴿ إذا ضربوا١ : سافروا أي قالوا لأجل الأحوال العارضة للإخوان إذا ضربوا بمعنى حين كانوا يضربون، ﴿ في الأرض ﴾ : للتجارة وغيرها فماتوا في تلك السفر :﴿ أو كانوا غُزّى ﴾، فقتلوا جمع غاز ﴿ لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قُتلوا ﴾، مقول قالوا، ﴿ ليجعل٢ الله ذلك حسرة في قلوبهم ﴾ أي : لا تكونوا مثلهم في ذلك الاعتقاد ليجعل ذلك الاعتقاد حسرة في قلوبهم خاصة دون قلوبكم أو معناه قالوا ذلك واعتقدوا ليجعل، وحينئذ اللام لام العاقبة كقولهم :( لدوا للموت وابنوا للخراب ) ﴿ والله يُحيي ويُميت ﴾ أي : المؤثر فيهما هو الله لا الإقامة والسفر، ﴿ والله بما تعملون بصير ﴾، فلا تكونوا أيها المؤمنون كالكفار.
١ حاصل ما قررنا أن إذا ضربوا ظرف لما يحصل للإخوان أي: الأحوال العارضة لهم في زمان مفرهم لا ظرف قالوا حتى يلزم أن قالوا ماض وإذا ضربوا مستقبل فلا يصح، وكان ما ذكره الشارح أولى مما ذكره الزمخشري فانظر فتأمل/١٢..
٢ فاللام متعلق بلا تكونوا أو بقالوا وعلى الأول ذلك إشارة إلى ما دل عليه قولهم من الاعتقاد/١٢..
﴿ ولئن قُتلتم في سبيل الله أو مُتُّم ﴾ أي : في سبيله، ﴿ لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون ﴾، جواب القسم١ ساد مسد الجزاء أي لو وقع القتل أو الموت فما تنالون من المغفرة بالموت خير مما يجمعون من حطام الدنيا الفانية.
١ إشارة إلى أن اللام في (ولئن قتلتم) هي الموطئة للقسم، وكذا اللام في (ولئن متم)/١٢ منه..
﴿ ولئن مُتّم أو قُتلتم لإلى الله تُحشرون ﴾ لا إلى غيره، فلا رجاء ولا خوف إلا منه.
﴿ فبما رحمة من الله لِنت لهم ﴾، ما مزيدة للتأكيد أي : برحمة وإحسان منه سهلت أخلاقك يا محمد لهم، ﴿ ولو كنت فظا ﴾ : سيء الخلق، ﴿ غليظ القلب ﴾ : قاسيه، ﴿ لانفضّوا ﴾ : تفرقوا، ﴿ من حولك فاعف عنهم ﴾ فيما يختص بك، ﴿ واستغفر لهم ﴾ : فيما لله، ﴿ وشاورهم في الأمر ﴾ : فيما تصح المشاورة فيه تطييبا لقلوبهم، ﴿ فإذا عزمت ﴾ : وجزمت على أمر بعد الشورى، ﴿ فتوكل على١ الله ﴾ : فيه، ﴿ إن الله يحب المتوكلين ﴾ : فينصرهم، ويهديهم.
١ وفيه إشارة إلى أن التوكل ليس هو إهمال التدبير بالكلية وإلا لكان الأمر بالمشاورة منافيا للأمر بالتوكل، بل مراعاة الأسباب الظاهرة مع تفويض الأمر إلى الله والاعتماد عليه بالقلب/١٢ فتح..
﴿ إن ينصركم الله فلا غالب لكم ﴾ : فلا أحد يغلبكم، ﴿ وإن يخذلكم ﴾ : بغلبة العدو ﴿ فمن١ ذا الذي ينصركم من بعده ﴾ : من بعد الخذلان، أو من٢ بعد الله، ﴿ وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾، فليخصوه بالتوكل٣ عليه لما علموا ألا ناصر سواه.
١ ومن علم أنه لا ناصر له إلا الله سبحانه وأن من نصره الله لا غالب له ومن خذله لا ناصر له فوض أمره إليه، وتوكل عليه ولم يشتغل بغيره/١٢..
٢ رواه العوفي عن ابن عباس، وكذا قال الضحاك/١٢..
٣ وقد وردت في صفة التوكل أحاديث كثيرة صحيحة، وقد عد النبي المتوكل من سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب، كما في مسلم/١٢ فتح [وهو أيضا في البخاري أخرجه في (الطب) (٥٧٠٥)، ومسلم في (الإيمان)]..
﴿ وما كان لنبيّ أن يغُلّ ﴾ :١ ما ينبغي لنبي أن يخون في الغنيمة، نزلت فيما قال المنافقون٢ يوم بدر حين فقد قطيفة حمراء لعل رسول الله أخذها، أو في ظن الرماة٣ يوم أحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعطيهم الغنيمة، ولهذا اشتغلوا بالغنيمة، وتركوا المركز أو معناه ما كان لنبي أن يكتم شيئا من الوحي٤ وقرئ على البناء للمفعول أي ينسب إلى الخيانة، أو يخونه أمته فقيل نزلت٥ يوم بدر، وقد غل بعض أصحابه ﴿ ومن يغلُل يأت بما غلّ يوم القيامة ﴾ : حاملا٦ له على عنقه، وقد٧ ورد أن الحجر ليرمى به في جهنم فيهوي سبعين خريفا ما يبلغ قعرها٨، ويؤتى بالغلول فيقذف معه، ثم يقال لمن غل ائت به فلذلك قوله ( ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة )، ﴿ ثم تُوفّى كل نفس ما كسبت ﴾ : جزاؤه وإذا كان كل كاسب مجزيا بعمله فالغال لعظم ذنبه بذلك أولى، ﴿ وهم لا يُظلمون ﴾ : بنقص الثواب، وازدياد العقاب.
١ ولما أمر نبيه بالعفو في سوء أدبهم، والاستغفار في ذنوبهم بين في إفراد إساءة الأدب والذنب (وما كان لنبي أن يغل) الآية/١٢ وجيز..
٢ نقله الترمذي وأبو داود عن عبد الواحد بن زياد، وابن مردويه عن ابن عباس، وابن أبي حاتم وابن جرير عنه أيضا/١٢ وجيز [وهو حديث صحيح، انظر صحيح سنن الترمذي (٢٤٠٧)، والصحيحة (٢٧٨٨)]..
٣ رواه العوفي عن ابن عباس، وكذا قال الضحاك/١٢..
٤ هذا قول محمد بن إسحاق/١٢ منه..
٥ رواه ابن جرير عن قتادة والربيع/١٢ منه..
٦ والأحاديث التي تدل على هذا توجد في الكتب الستة، وغيرها/١٢ منه..
٧ رواه ابن مردويه/١٢ منه..
٨ أخرجه مسلم في (الزهد)..
﴿ أفمن اتّبع رضوان الله ﴾ : بطاعته، ﴿ كمن باء ﴾ : رجع، ﴿ بسخطٍ من الله ﴾ : بمخالفة شرعه، ﴿ ومأواه جهنم وبئس المصير ﴾ : جهنم.
﴿ هم درجات عند الله ﴾ : أي أهل الخير وأهل١ الشر درجات أي كدرجات٢ في التفاوت أو ذو درجات، ﴿ والله بصير بما تعملون ﴾، فيجازيهم على حسب الأعمال.
١ وفي الوجيز: هذا بعيد جدا أي إرجاع الضمير لأهل الخير والشر جميعا إذ لا يقال أن للكافر درجة عند الله تعالى فإن الدرجة ما يتوسل به إلى مكان علو وما سمعناه يستعمل إلا فيمن له شرف ومكان عال حسن، بل الضمير لمن اتبع فإنه هو المحدث عنه أي هم ذوو درجات، وفي تلك العبارة مبالغة لا تخفى/١٢..
٢ فيكون التشبيه بحذف الأداة/١٢ منه..
﴿ لقد منّ١ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ﴾ : من جنسهم لا من ملك وغيره ليفهموا كلامه، ويتمكنوا من مجالسته والانتفاع به، ﴿ يتلو عليهم آياته ﴾ أي : القرآن، {
ويُزكّيهم } : من دنس الشرك والجهل، ﴿ ويُعلّمهم الكتاب ﴾ : القرآن، ﴿ والحكمة ﴾ : السنة، ﴿ وإن كانوا من قبل ﴾، إن هي المخففة أي : إن الشأن كانوا قبل بعثته، ﴿ لفي ضلال مبين ﴾ : ظاهر.
١ ولما بيّن فضل المؤمنين، وأنهم هم الواصلون إلى رضوانه تعالى، ولهم الدرجات العلى من فضل الله تعالى، ومنه مَنُّه عليهم ببعث أشرف خلق الله تعالى منهم فيهم، فقال: (لقد منّ الله) الآية/١٢ وجيز..
﴿ أولمّا أصابتكم مصيبة١ يوم أُحد من قتل سبعين منكم، ﴿ قد أصبتم مث ليها ﴾ : يوم بدر من قتل سبعين، وأسر سبعين، ﴿ قلتم٢ أنّى هذا ﴾ : القتل والهزيمة، ونحن مسلمون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فينا، والهمزة متخللة بين المعطوف والمعطوف عليه، وهو ما سبق من٣ قصة أحد للتقرير والتقريع٤ وقلتم جواب لما فإنه بمعنى حين يستعمل استعمال الشرط مضاف إلى الجملة بعده، وناصبه ما وقع موقع الجزاء، وأنى خبر هذا وقع مقول القول، وقد أصبتم صفة لمصيبة، ﴿ قل هو من عند أنفسكم ﴾ : من مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بترك المركز أو فيما صنعتم من أخذكم٥ الفداء يوم بدر، ﴿ إن الله على كل شيء قدير ﴾ : من النصر، ومنعه.
١ ولما من على المؤمنين ببعثة رسول عالم مظهر صلى الله عليه وسلم فربما يذهب وهم واهم إلى أن خذلان المؤمنين في بعض الأحيان لماذا؟ فقال: (أو لما أصابتكم) الآية/١٢..
٢ أي كيف أصابنا هذا الكسر، والقتل، ونحن نقاتل أعداء الله تعالى؟ فأنى سؤال عن الحال على سبيل التعجب، ولا يناسب أن يكون أنى بمعنى أين ومتى لأن الاستفهام لم يقع هنا من المكان، والزمان/١٢ وجيز..
٣ من قوله (لقد صدقكم الله وعده) إلى قوله (لفي ضلال مبين) لأن الكل يتعلق بقصة أحد من غير تخلل أجنبي/١٢ منه..
٤ أي الحمل على الإقرار والتقريع على مضمون المعطوف/١٢ منه..
٥ فإن المسلمين اجتمع رأيهم على أخذ الفداء فأخذوا الفداء قبل أن يأذن اله لهم كما سيجيء، رواه ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب، وابن جرير عن علي بن أبي طالب، والترمذي، والنسائي عن محمد بن سيرين/١٢ منه..
﴿ وما أصابكم يوم التقى الجمعان ﴾ : جمع المسلمين، والمشركين يوم أحد، ﴿ فبإذن الله ﴾ : فهو بقضائه، وقدره، ﴿ وليعلم ﴾، عطف على بإذن الله، ﴿ المؤمنين وليعلم الذين نافقوا ﴾ أي : ليتميز المؤمنون من المنافقين ويظهر إيمان هؤلاء، وكفر هؤلاء.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٦٦:﴿ وما أصابكم يوم التقى الجمعان ﴾ : جمع المسلمين، والمشركين يوم أحد، ﴿ فبإذن الله ﴾ : فهو بقضائه، وقدره، ﴿ وليعلم ﴾، عطف على بإذن الله، ﴿ المؤمنين وليعلم الذين نافقوا ﴾ أي : ليتميز المؤمنون من المنافقين ويظهر إيمان هؤلاء، وكفر هؤلاء.

﴿ وقيل لهم ﴾ أي : لعبد الله بن أبيّ وأصحابه لما انصرفوا في أثناء الطريق، عطف على نافقوا أو كلام مبتدأ، ﴿ تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا ﴾ : عنا القوم بتكثيركم سوادنا، وقيل تخيير بين المقاتلة للآخرة أو للدفع عن الأنفس والأموال، ﴿ قالوا لو نعلم قتالا لاتّبعناكم ﴾، لكن لا يكون اليوم قتال، ونافقوا في هذا أيضا، لأنهم ظنوا القتال ورجعوا وقيل معناه لو نعلم أن ما ترتكبونه قتال لاتبعناكم، لكن هو إلقاء الأنفس إلى التهلكة، ﴿ هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان ﴾، لانخزالهم وكلامهم، ﴿ يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ﴾ : من كلمة الإيمان، وقولهم لو نعلم قتالا على التوجيه الأول، ﴿ والله أعلم بما يكتمون ﴾ : من النفاق.
﴿ الذين ﴾، بدل من فاعل يكتمون أو نصب أو رفع على الذم، ﴿ قالوا لإخوانهم ﴾ أي : لأجل أقاربهم المقتولين يوم أحد أو قالوا لإخوانهم من المنافقين، ﴿ وقعدوا ﴾ أي : والحال أنهم قعدوا عن الحرب، ﴿ لو أطاعونا ﴾ أي : شهداء أحد في الانصراف، ﴿ ما قُتلوا ﴾ : كما لم نقتل، ﴿ قل فادرءوا ﴾ : ادفعوا ﴿ عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ﴾ : إنكم تقدرون دفع القتل عمن كتب عليه.
﴿ ولا تحسبنّ الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتا ﴾، نزل١ في شهداء أحد أو في شهداء بدر أو في سبعين من الصحابة قتلوا في بئر معونة حين أرسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجد، ﴿ بل ﴾ : هم، ﴿ أحياء عند ربهم ﴾ : في دار كرامته، ﴿ يُرزقون ﴾ : من الجنة حيث شاءوا، فإن أرواحهم في أجواف طيور خضر٢.
١ الأول روى الحاكم في مستدركه، وأبو داود عن ابن عباس [وكذا أحمد بسند صحيح، انظر صحيح الجامع (٥٢٠٥)]، وكذا قال قتادة والربيع والضحاك، والثاني قول مقاتل، ومجاهد، والثالث روى ابن جرير عن أنس بن مالك/١٢ منه..
٢ ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش/١٢ منه..
﴿ فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألاّ خوفٌ عليهم ﴾ : لوقوع محذور، ﴿ ولا هم يحزنون١ : لفوات محبوب وألا خوف بدل اشتمال من الذين يستبشرون بعدم الخوف والحزن على الذين خلفهم من المؤمنين بشرهم الله بذلك أو يسرون٢ بلحوق من لحقهم عن إخوانهم على ما مضوا عليه من جهادهم ليشركوهم فيما هم فيه من الكرامة قال السدي : يؤتى الشهيد بكتاب فيه يقدم عليك فلان يوم كذا وفلان يوم كذا وفلان يوم كذا، فيسر بذلك كما تسرون بقدوم الغائب، وقال : بعضهم لما قتلوا ورأوا الكرامة قالوا : يا ليت إخواننا٣ يعلمون ما عرفناه، فباشروا القتال بالرغبة، فأخبر الله نبيه بأمرهم، ثم الله أخبرهم بأني قد أخبرت بأمركم نبيكم، فاستبشروا بذلك فذلك قوله :( ويستبشرون بالذين لم يلحقوا ) إلى آخره.
١ أخرج أحمد، وأبو يعلى، والبيهقي في الأسماء والصفات عن نعيم بن حماد أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الشهداء أفضل؟ قال (الذين إن يلقوا في الصف لا يلفتون وجوههم حتى يقتلوا أولئك ينطلقون في الغرف العالية من الجنة، ويضحك إليهم ربهم إلى وإذا ضحك ربك إلى عبد في الدنيا فلا حساب عليه/١٢ در منثور [أخرجه أحمد (٢٨٧/٥) بسند رجاله ثقات خلا إسماعيل بن عياش وهو صدوق في روايته عن أهل بلده، وهذا منها].
قوله صلى الله عليه وسلم (ويضحك إليهم ربهم).. إلخ ضحك الرب عز وجل من صفاته، وقد جاء ذكر الضحك في الأحاديث الصحيحة الثابتة يجب الإيمان به قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية قدس الله سره في بعض فتاواه: وقول القائل: إن الضحك خفة روح ليس بصحيح، وإن كان ذلك قد يقارنه، ثم قول القائل خفة الروح أراد به وصفا مذموما فهذا يكون لما لا ينبغي أن يضحك منه، وإلا فالضحك في موضعه المناسب له صفة مدح وكمال وإذا قدر حيان أحدهما يضحك مما يضحك منه، والآخر لا يضحك قط كان الأول أكمل من الثاني، ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ينظر إليكم أذلين قنطين، فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب) فقال له أبو رزين العقيلي، يا رسول الله أو يضحك الرب قال: (نعم)، قال: لن نعدم من رب يضحك خيرا، فجعل الأعرابي العقل بصحة فطرته ضحكه دليل على إحسانه وإنعامه فدل على أن هذا الوصف مقرون بالإحسان المحمود وأنه من صفات الكمال، والشخص العبوس الذي لا يضحك قط هو مذموم بذلك وقد قيل في اليوم الشديد العذاب (يوما عبوسا قمطريرا) (الإنسان: ١٠)، وقد روي أن الملائكة قالت لآدم حياك الله وبياك أي: أضحك والإنسان حيوان ناطق ضاحك، وما تميز به الإنسان عن البهيمة صفة كمال فكما النطق صفة كمال فكذلك الضحك صفة كمال، فمن يتكلم أكمل ممن لا يتكلم، ومن يضحك أكمل ممن لا يضحك، وإذا كان الضحك فينا مستلزما لشيء من النقص، فالله تعالى منزه عن ذلك، وذلك النقص مختص لا عام فليس حقيقة الضحك مطلقا مقرونة بالنقص كما أن ذواتنا وصفاتنا مقرونة بالنقص، ووجودنا مقرون بالنقص، ولا يلزم ألا يكون الرب موجودا وألا يكون له ذات ومن هنا ضلت القرامطة الغلاة أصحاب الأقاليد وأمثاله، فأرادوا أن ينفوا عنه كل ما يعلم بالقلب أو ينطق به اللسان من نفي وإثبات، فقالوا: لا نقول موجود ولا لا موجود، ولا موصوف ولا لا موصوف لما في ذلك على زعمهم من التشبيه وهذا يستلزم أن يكون ممتنعا، وهو مقتض للتشبيه بالممتنع، والتشبيه الممتنع عن الله أن يشارك المخلوقات في شيء من خصائصها أو أن يكون مماثلا لها في شيء من صفاته كالحياة والعلم والقدرة فإنه وإن وصف به فلا تماثل في صفة الخالق صفة المخلوق كالحدث والموت والفناء والإمكان انتهى. .

٢ هو قول محمد ابن إسحاق، وهذا الذي نقلنا عن السدي يوافقه/١٢..
٣ في الصحيحين عن أنس في قصة أصحاب بئر معونة نزل فيهم قرآن قرأناه زمانا حتى رفع أن بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا [أخرجه البخاري في (المغازي) (٤٠٩٠، ٤٠٩١)، وفي غير موضع من صحيحه، وحده دون مسلم] وفيما نقله محمد بن جرير أنه لنسخت، ورفعت وأنزل الله ﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله﴾ الآية/١٢ منه..
﴿ يستبشرون ﴾، كرره تأكيدا، وليتعلق به قوله :﴿ بنعمةٍ من الله ﴾، ثوابا لأعمالهم، ﴿ وفضل ﴾ : زيادة عليها، ﴿ وأن الله لا يُضيع أجر المؤمنين ﴾، عطف على نعمة أي : استبشروا لما عاينوا من وفاء الموعود.
﴿ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ ﴾ : الجرح، وهو صفة للمؤمنين أو نصب على المدح، ﴿ للذين أحسنوا منهم ﴾ : بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن للتبيين، وهو أي للذين خبر قدم على مبتدئه، والجملة استئنافية أو الذين استجابوا مبتدأ وجملة للذين أحسنوا إلخ خبره، ﴿ واتقوا ﴾ : مخالفته، ﴿ أجر عظيم ﴾، بدل من الذين.
﴿ الذين قال لهم الناس ﴾ : رسول المشركين، ﴿ إن الناس ﴾، أي : المشركين، ﴿ قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم ﴾، ذلك القول، ﴿ إيماناً ﴾ يقينا وتصديقا، ﴿ وقالوا حسبُنا الله ﴾ : محسبنا وكافينا، ﴿ ونعم الوكيل ﴾ : الموكول إليه هو.
﴿ فانقلبوا بنعمة من الله ﴾، سلامة بدن، ﴿ وفضل ﴾ : ربح مال، ﴿ لم يمسسهم سوء ﴾ : قتل وجرح، ﴿ واتّبعوا رضوان الله ﴾ : في طاعة رسوله، ﴿ والله ذو فضل عظيم ﴾، أنعم عليهم بإنعامات جمة دينية ودنيوية نزلت آية ( الذين استجابوا ) إلخ فيمن بقي من غزوة أحد فإنهم أطاعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جراحاتهم في الخروج عقب المشركين فإنهم إذا رجعوا من أحد ندموا في أثناء الطريق، وقالوا : نرجع ونستأصلهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع١ من كان معه في أحد فلما سمع المشركون بخروجهم ألقى الرعب فيهم فأرسلوا أحدا يخوف المسلمين منهم، والمسلمون يقولون : حسبنا الله ونعم الوكيل، ورجعوا فرجع المسلمون بعافية وربح وهو أن٢ عيرا مرّت فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم وربح فيها مالا وقسم بين أصحابه٣ أو نزلت فيمن خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام القابل من غزوة أحد حين خرج المشركون من مكة وألقى الله الرعب فيهم في أثناء الطريق، وندموا من الخروج وأرسلوا أحدا يخوف المسلمين في المدينة، وهم متأهبون للقتال قائلون حسبنا الله ونعم الوكيل، ورجعوا من الطريق فرجع المسلمون بسلامة وربح في تجارة من سوق٤ بدر ورضا من الله.
١ ولم يأذن في الخروج معه أحدا غيرهم حتى بلغ حمراء الأسد أو بني أبي عتبة، شك سفيان/١٢..
٢ بمر الظهران/١٢..
٣ رضي الله عنهم هذا هو المنقول الثابت الذي صححه ابن كثير في تفسيره والبغوي أيضا، وهو قول جميع قدماء المفسرين والمؤرخين فالآية جميعها في غزوة حمراء الأسد المتصلة بغزوة أحد، لا أن بعض الآية، وهو ﴿الذين استجابوا﴾ إلى قوله ﴿أجر عظيم﴾ في تلك الغزوة وباقيتها وهو الذين (قال لهم الناس) إلى آخر الآية في غزوة بدر الصغرى التي نذكرها كما قال الرازي وغيره من المتأخرين، فلا تعتمد على الرازي والزمخشري وغيرهما/١٢ منه وجيز..
٤ وهو المسمى بغزوة بدر الصغرى، فإن المسلمين انتظروا المشركين في البدر فلم يأتوا فرجع المسلمون من بدر بتجارة وربح ورضا من الله قال الشيخ المحدث الناقد أبو الفداء عماد الدين بن كثير: الصحيح أن الآية في غزوة حمراء الأسد لا في بدر الصغرى/١٢ منه..
﴿ إنما ذلكم الشيطان ﴾ أي : قائل إن الناس قد جمعوا لكم شيطان يصدكم عن سبيل الله، مبتدأ، وخبر، ﴿ يُخوّف أولياءه ﴾ : يخوفكم أولياءه بإيهامكم أنهم ذوو قوة وبأس، ﴿ فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ﴾ : مصدقين موقنين.
﴿ ولا يحزنك الذين يُسارعون في الكفر ﴾ أي : لا تهتم، ولا تبال بمن يبادر إلى العناد وكسر١ الإسلام، وهم كفار قريش أو المنافقون أو هم اليهود، ﴿ إنهم لن يضرّوا الله شيئا ﴾ أي : دين الله، وشيئا مصدر أو مفعول، ﴿ يريد الله ألا يجعل لهم حظًّا في الآخرة ﴾ : نصيبا من الثواب فيها ﴿ ولهم عذاب عظيم ﴾، مع حرمان الثواب.
١ بهذا التقرير دفع ما يقال من شأن الرسول أن يحزن بكسر الإسلام فكيف يؤمر بعدم الحزن/١٢ منه..
﴿ إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان ﴾ : استبدلوا هذا بهذا ﴿ لن١ يضرّوا الله شيئا ﴾، ولكن يضرون أنفسهم، ﴿ ولهم عذاب أليم ﴾.
١ ومن هذا علم أن حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لله تعالى/١٢ وجيز..
﴿ ولا يحسبن الذين كفروا أنما نُملي لهم خير لأنفسهم ﴾، ما مصدرية، وإن مع ما في حيزه مفعول، وفي قراءة :( ولا تحسبن ) بالتاء تقديره لا تحسبن يا محمد حال الذين كفروا أن الإملاء أي : الإمهال خبر بحذف مضاف أو إنما نملي بدل من المفعول، واستغنى به عن المفعول الثاني ﴿ إنما نُملي لهم ليزدادوا إثما ﴾، استئناف بما هو علة الحكم قبلها، وما كافة، ﴿ ولهم عذاب مهين ﴾ نزلت في مشركي مكة، أو في قريظة والنضير.
﴿ ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه ﴾ : يا معشر المسلمين من التباسكم بالمنافقين أو يا معشر المؤمنين والمنافقين من الالتباس والاختلاط ﴿ حتى يميز الخبيث من الطيب ﴾ ؛ المنافق من المخلص بالوحي أو بتكاليف لا تذعن لها إلا الخلص كما ميز يوم أحد، ﴿ وما كان الله ليُطلعكم على الغيب ﴾ فتعرفوا قلوب المخلصين والمنافقين، ﴿ ولكن الله يجتبي من١ رسله من يشاء ﴾، فيخبره ببعض المغيبات نزلت حيث قال المشركون : إن كان محمد صادقا فليخبرنا بمن يؤمن به، ومن يكفر أو لما قال عليه الصلاة والسلام :( عرضت على أمتي وأعلمت من يؤمن لي ومن يكفر بي ) قال المنافقون : إنه يزعم عرفان المؤمن من الكافر، ونحن معه ولا يعرفنا، ﴿ فآمنوا بالله ورُسله ﴾ : بصفة الإخلاص، ﴿ وإن تؤمنوا ﴾ : حق الإيمان، ﴿ وتتّقوا فلكم أجر عظيم ﴾.
١ من بيانية، أو تبعيضية/١٢ منه..
﴿ ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم ﴾، بقراءة التاء تقديره ولا تحسبن بخل الذين بحذف مضاف، وكذا بقراءة الياء إن كان الفاعل ضمير الرسول وأما إذا كان الذين يبخلون فاعله فتقديره ولا يحسبن البخلاء بخلهم١ هو خيرا لهم نزلت في مانعي الزكاة٢ وقيل في أهل الكتاب٣ بخلوا بما في أيديهم من الكتب المنزلة، ﴿ بل هو ﴾ أي : البخل، ﴿ شرّ لهم سيُطوّقون ما بخلوا به يوم القيامة ﴾ يجعل ماله الذي لم يؤد زكاته حية يطوق في عنقه تنهشه من فرقه إلى قدمه، أو يجعل طوقا من نار، ﴿ ولله ميراث السماوات والأرض ﴾ : يفنى الملاك، وتبقى الأملاك بلا مالك إلا الله، فلا تبخلوا، ﴿ والله بما تعملون ﴾ : من المنع، والإعطاء٤، ﴿ خبير ﴾، فيجازيكم.
١ عند الزمخشري جاز حذف أحد مفعولي باب علمت عند ظهور القرينة وهاهنا كذلك على أن الفاعل لما اشتمل على ذكر البخل صار هذا في حكم إيجاد الفاعل، والمفعولين/١٢ منه..
٢ ففي البخاري ومسلم أنه عليه السلام قرأ بعد أن أوعدهم/١٢ [أخرجه البخاري في (التفسير) (٤٥٦٥)، وفي غير موضع من صحيحه دون مسلم]..
٣ رواه ابن جرير عن ابن عباس، والأول أصح/١٢ منه..
٤ قال الرازي في التفسير الكبير: إن الإنفاق الواجب أقسام كثيرة منها إنفاقه على نفسه وعلى أقاربه الذين يلزمه مؤنتهم، ومنها ما يتصل بأبواب الزكاة ومنها ما إذا احتاجه المسلمون إلى دفع عدو يقصد قتلهم ومالهم فهاهنا يجب عليهم إنفاق الأموال على من يدفعه عنهم؛ لأن ذلك يجري مجرى دفع الضرر عن النفس، ومنها إذا صار أحد من المسلمين مضطرا فإنه يجب عليه أن يدفع إليه مقدار ما يستبقي به رمقه فكل هذه الإنفاقات من الواجبات، وتركه يكون من باب البخل، والله أعلم/١٢..
﴿ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ١ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ﴾، قالت اليهود لما نزلت :( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ) ( البقرة : ٢٤٥، الحديد : ١١ ) أو لما دعاهم أبو بكر إلى الإسلام قالوا : إن الله إلينا لفقير ونحن عنه أغنياء، ولولا ذلك ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم، ﴿ سنكتُب ما قالوا ﴾ : في صحيفة أعمالهم أو سنحفظه ولا نهمله، ﴿ وقتلهُم الأنبياء بغير حق ﴾ : بحسد وعناد قرنه به لأنهما كجنس٢ واحد في العظم، ﴿ ونقول ذوقوا عذاب الحريق ﴾ المحرق أي : ننتقم منهم بأن نقول لهم ذلك.
١ لا يخلو من أن يقولوه عن اعتقاد، أو عن استهزاء بالقرآن وأيهما كان فالكلمة عظيمة/١٢ منه..
٢ وبأن هذا ليس بأول ما ركبوه من العظام، بل هم أصلاء في الكفر، والكفر منهم ميراث، ورثوه من أجدادهم/١٢..
﴿ ذلك ﴾ أي : العذاب، ﴿ بما قدّمت أيديكم ﴾ : بسبب ذنوب صدرت من أنفسكم، وهو من جملة المقول معهم، ﴿ وأن الله ليس بظلاّم للعبيد١، عطف على ما قدمت أي : عدلنا يقتضي تعذيبكم، وصيغة المبالغة لكثرة العبيد فإنها جمع محلى باللام.
١ وفيه إشارة ظاهرة بأنه لو عفى عن تلك الجرائم العظام التي هي الكفر وأشد الظلم على أفضل الخلائق لكان الله تعالى كثير الظلم، والعجب كل العجب أن في الآيات القرآنية أكثر من عشرة وعشرين أن تنقيص الحسنات وتضعيف السيئات وتعذيب المحسن والإحسان مع المسيء في القيامة ظلم من الله تعالى، وهو تعالى بفضله وإحسانه لا يظلم مثقال ذرة وحرم على نفسه الظلم، وصرح بذلك علماء الخلف وعظماء السلف، وليس في كتب اللغة التي عندنا تفسير الظلم إلا بوضع الشيء في غير موضعه اللائق ومع هذا كله فضلاؤنا المتأخرون فسّروا الظلم بالتصرف في ملك الغير بغير إذنه قالوا: الظلم على الله محال، وما فطنوا بالفسادات الواردة على ذلك، وقد بينا في رسالة مفردة/١٢ وجيز للمصنف..
﴿ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ ﴾ أي : حتى يأتي بتلك المعجزة الخاصة، وهي أن من تصدق بصدقة من أمته فتقبلت منه تنزل نار من السماء تأكلها كما كانت لأنبياء بني إسرائيل ﴿ قل ﴾ : يا محمد تكذيبا لهم، وإلزاما ؛ ﴿ قد جاءكم رُسل من قبلي بالبينات ﴾ : المعجزات، ﴿ وبالذي قلتم ﴾ : تلك المعجزة الخاصة التي تطلبون مني، ﴿ فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين ﴾ : أنكم تتبعون من جاء بتلك المعجزة، ثم قال مسليا لرسوله صلى الله عليه وسلم﴿ فإن كذّبوك ﴾.
﴿ فإن كذّبوك ﴾ : فليس ببدع منهم، ﴿ فقد كُذّب رُسل من قبلك جاءوا بالبينات والزُّبُر ﴾ : الكتب المقصورة على الحكم وعلى المواعظ، ﴿ والكتاب المنير ﴾ : الواضح المعنى المتضمن للشرائع والأحكام.
﴿ كل نفس ذائقة الموت ﴾ : وعد للمصدق، ووعيد للمكذب، ﴿ وإنما تُوفّون أجوركم يوم القيامة ﴾ : تعطون تاما جزاء أعمالكم ﴿ فمن زُحزح ﴾ : جنب، وبعد، ﴿ عن النار وأُدخل الجنة فقد فاز ﴾ : ظفر بالبغية، ﴿ وما الحياة الدنيا ﴾ أي : زخارفها، ﴿ إلا متاع الغرور ﴾ : كمتاع يدلس به على المستام١ فيغر ويشتريه فمن اغتر بها وآثرها فهو مغرور.
١ المشترى/١٢..
﴿ لتُبلونّ ﴾ أي : والله لتختبرن، ﴿ في أموالكم ﴾ : بإهلاكه، والأمر بالإنفاق، ﴿ وأنفسكم ﴾ : بالجهاد والقتل، والأمراض، والحقوق كالصلاة، والحج، ﴿ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى١ كَثِيرًا ﴾، من هجاء الرسول، والطعن، وتشبيب النساء أمرهم بالصبر قبل الوقوع ليوطنوا أنفسهم عليه، ﴿ وإن تصبروا ﴾ على الأذى، ﴿ وتتّقوا ﴾ : الله، ﴿ فإن ذلك ﴾ : أي الصبر، والتقوى، ﴿ من عزم الأمور ﴾ : معزوماتها٢ أي : التي يجب العزم عليها أو مما عزم الله وأمر وبالغ فيه قال عطاء : من حقيقة الإيمان.
١ من الطعن وتشبيب النساء، والتشبيب هو ذكر أوصاف الجمال، وكان يفعل ذلك كعب بن الأشرف بنساء المؤمنين/١٢ فتح..
٢ يعني أن العزم مصدر بمعنى المفعول أي المعزوم عليه، والفاعل هو العبد أي: يجب عليه أن يعزم على ذلك، والله تعالى أراد وقطع وفرض أن يكون ذلك ويحصل قال الإمام المرزوقي: حقيقة العزم توطين النفس، وعقد التغلب ولذلك لم يجز على الله/١٢..
﴿ وإذ أخذ الله ﴾ أي : اذكره، ﴿ ميثاق الذين أوتوا الكتاب ﴾ :١ بلسان أنبيائهم، ﴿ لتُبيّنُنّه للناس ﴾ : حكاية لمخاطبتهم أي : والله لتبينن الكتاب بجملته لهم، ﴿ ولا تكتمونه فنبذوه ﴾ أي : الميثاق، ﴿ وراء ظهورهم ﴾ : هو مثل٢ في ترك الاعتداد والاعتبار٣، ﴿ واشتروا به ثمناً قليلاً ﴾ أخذوا بدله قليلا من حطام الدنيا، ﴿ فبئس ما يشترون٤ : يختارون.
١ والظاهر أن المراد بأهل الكتاب كل من آتاه الله علم شيء من الكتاب أيّ كتاب كان كما يفيده التعريف الجنسي في الكتاب قال الحسن وقتادة: إن الآية عامة لكل عالم وكذا قال محمد بن كعب، ويدل على ذلك قول أبي هريرة: لولا ما أخذه الله على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء ثم تلا هذه الآية/١٢ فتح..
٢ ونقيضه: جعله نصب عينيه، وألقاه بين عينيه/١٢ منه..
٣ اعلم أن ظاهر هذه الآية وإن كان مختصا باليهود والنصارى فإنه لا يبعد أيضا دخول المسلمين فيه لأنهم أهل القرآن وهو أشرف الكتب/١٢ كبير. قال قتادة: هذا ميثاق أخذه الله تعالى على أهل العلم فمن علم شيئا فليعلمه وإياكم وكتمان العلم فإنه هلكة، وقال أبو هريرة: لولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء ثم تلا هذه الآية/١٢ معالم، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من سُئل علما يعلمه فكتمه ألجم بلجام من نار) أخرجه الترمذي/١٢ فتح [صحيح، أخرجه أحمد وأصحاب السنن الأربعة والحاكم من حديث أبي هريرة مرفوعا، وانظر صحيح الجامع (٦٢٨٤)]. .
٤ معناه أنهم أخفوا الحق ليتوسلوا به إلى وجدان شيء من الدنيا، فكل من لم يبين الحق للناس وكتم شيئا منه لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة وتطييب لقلوبهم أو لجر منفعة أو لتقية وخوف، أو لبخل بالعلم دخل تحت هذا الوعيد/١٢ تفسير كبير..
﴿ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا ١تَحْسَبَنَّهُمْ ﴾ : تأكيد للأول، ﴿ بمفازاة٢ : منجاة، ﴿ من العذاب ﴾ أي : فائزين بالنجاة منه، ومن قرأ بالياء ففاعله الذين، ومفعوله الأول متصل بالتأكيد٣ ولا حذف، ﴿ ولهم عذاب أليم ﴾ بكفرهم، وكتمانهم آيات الكتاب، وقد صح٤ أن مروان أرسل أحدا إلى ابن عباس رضي الله عنهما وقال : لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعين، فقال ابن عباس رضي الله عنهما : مالكم وهذه إنما نزلت في أهل الكتاب، وسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء وأخبروه بغير الواقع، فظنوا أن قد استحمدوا٥ إليه بما أخبروه، وفرحوا بكتمانهم أو نزلت٦ في قوم تخلّفوا عن الغزو، ثم اعتذروا وحلفوا واستحمدوا وقيل في المنافقين يفرحون بنفاقهم، ويستحمدون إلى المسلمين بالإيمان.
١ والفاء للإشعار بأن أفعالهم المذكورة علة لمنع الحسبان والنهي عنه قال الزجاج: العرب تعيد إذا طالت القصة في حسبت وما أشبهها إعلاما بأن الذي جرى متصل بالأول وتوكيد تقول لا تظنن زيدا إذا جاءك وكلمك بكذا أو كذا فلا تظنه صادقا/١٢ منه..
٢ بمعنى فائزين ثاني مفعولي تحسبن/١٢..
٣ يعني: جعل التأكيد وهو لا تحسبن هو الفعل والفاعل إذ ليس المذكور سابقا إلا الفعل والفاعل، فالضمير المنصوب المتصل بالتأكيد هو المفعول الأول، ولا حذف وهو أولى مما قاله الزمخشري/١٢..
٤ روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف/١٢ منه [أخرجه البخاري في (التفسير) (٤٥٦٨)، ومسلم في (صفات المنافقين) (٥/٦٤٨)]..
٥ أي: طلبوا الحمد متوسلين إليه بذلك/١٢، أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم..
٦ رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري/١٢ [أخرجه البخاري في (التفسير) (٤٥٦٣)، ومسلم في (صفات المنافقين) (٥/٦٤٨) ط الشعب]..
﴿ ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير ﴾ : فلا يعجز عن الانتقام.
﴿ إن في خلق السماوات والأرض ﴾، هذه في ارتفاعها واتساعها مع ما فيها من الكواكب المختلفة، وهذه في انخفاضها، وكثافتها، وما فيها من البحار، والجبال، والأشجار، والأنهار، والزروع، والثمار، ﴿ واختلاف الليل والنهار ﴾ تعاقبهما، وتقارضهما الطول والقصر فتارة يطول هذا أو يقصر ذلك، ثم يعتدلان، ثم يطول الذي كان قصيرا، ويقصر الذي كان طويلا، وكل ذلك تقدير العزيز العليم، ﴿ لآياتٍ لأولي الألباب ﴾ : دلالات على الوجود، والوحدة والعلم، والقدرة لذوي العقول الخالصة، وقد ورد :( ويل لمن قرأها١ ولم يتفكر فيها ).
١ رواه ابن مردويه وابن حبان في صحيحه/١٢..
﴿ الذين يذكُرون الله ﴾، وصف لأولي الألباب، ﴿ قياما وقعودا١ وعلى جُنوبهم ﴾ : يصلون قائمين فإن لم يستطيعوا فقعودا، فإن لم يستطيعوا فعلى جنب، أو المراد مداومة الذكر لأن الإنسان قلما يخلو عن إحدى هذه الحالات ﴿ ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ﴾ وما أبدع فيهما استدلالا قائلين : ربنا ما خلقت٢ هذا } أي : الخلق، ﴿ باطلا ﴾ أي : خلقا عبثا بل خلقته لحكم عظيمة، ﴿ سبحانك ﴾ : أنزه تنزيها لك من خلق العبث، ﴿ فقنا عذاب النار ﴾ : علمنا أنك منزه عن خلق العبث، بل ليجزي الذين أساءوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى فقنا عذاب النار بحولك.
١ قوله قياما مصدر بمعنى الفاعل، وقعودا يحتمل أن يكون مع قاعد ومحل على جنوبهم نصب على الحال عطف على ما قبله/١٢ أي على قياما وقعودا/١٢..
٢ هذا إشارة إلى الخلق في خلق السماوات على أن المراد به المخلوق أو إشارة إلى السماوات والأرض لأنهما في معنى المخلوق، وباطلا صفة مصدر محذوف كما أشرنا إليه وقيل حال من هذا/١٢ منه..
﴿ ربنا إنك من تُدخل النار ﴾ للخلود فيها فإنه الخزي كما قال تعالى ( يوم لا يخزي الله النبي ) ( التحريم : ٨ )١ إلخ، ﴿ فقد أخزيته٢، أهنته غاية الإهانة، وفيه إشعار بأن العذاب الروحاني أفظع، ﴿ وما للظالمين من أنصار٣ : ينصرونهم في الخروج من النار، وضع الظاهر موضع المضمر ليعلم أن سبب الخلود ظلمهم، وهذا دليل على أن المراد بالدخول هاهنا الخلود لأن للداخلين من المؤمنين أنصارا.
١ يعني هذه الآية تدل على أن الإخزاء لا يكون للمؤمنين، ولا شك أن بعض المؤمنين بشؤم ذنوبهم يدخلون النار مدة أرادها الله فعلم أن المراد من الدخول هنا الخلود كما قال أنس وقتادة وسعيد بن المسيب/١٢ منه..
٢ العار والتخزية يبلغ من ابن آدم في القيامة بين يدي الله ما يتمنى العبد أن يؤمر به إلى النار، روى الحافظ أبو يعلى الموصلي أنه قال عليه السلام/١٢ منه..
٣ قيل: النصرة هي الدفع بطريق الغلبة والشفاعة بطريق المسألة فنفي الناصر لا يدل على نفي الشفيع قال تعالى: (لا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون) (البقرة: ١٢٣)/١٢ قلت: وإن سلم فالمتبادر من نفي الناصر في مثل هذا الموقع عدم الخلاص لهم بوجه من الوجوه، تأمل منصفا/١٢..
﴿ ربنا إنا سمعنا مُناديا ﴾ أي : محمدا عليه الصلاة والسلام أو القرآن، ﴿ ينادي للإيمان ﴾، والنداء يعدى١ بإلى، واللام لتضمنه معنى الانتهاء والاختصاص ﴿ أن آمنوا٢ بربكم ﴾ أي : بأن آمنوا، ﴿ فآمنا ربنا فاغفر لنا ذُنوبنا ﴾ : كبائرنا، ﴿ وكفّر عنا سيئاتنا ﴾ : صغائرنا بقبول الطاعات ﴿ وتوفّنا مع الأبرار ﴾ : معدودين في زمرة الصالحين.
١ يعني أن في الدعاء إلى الشيء والنداء له والهداية إليه اختصاصا للفعل به وانتهاء إليه فسواء عبرت باللام التي للاختصاص أو بإلى التي للانتهاء الغاية حصل المقصود/١٢..
٢ فإن مصدرية، وجاز أن يكون مفسرة بمعنى أي/١٢..
﴿ ربنا وآتنا ما وعدتنا على رُسلك ﴾ أي : على ألسنتهم أو على تصديق رسلك من الثواب فعلى الحقيقة استعاذة من سوء العاقبة مخافة ألا يكونوا من الموعودين، ﴿ ولا تُخزِنا يوم القيامة ﴾ : لا تفضحنا على رؤوس الأشهاد، ﴿ إنك لا تُخلف١ الميعاد ﴾ البعث بعد الموت.
١ قد صح عن ابن عباس أن الميعاد البعث بعد الموت وعدم خلف الميعاد بإثابة المطيع، وعقاب العاصي/١٢..
﴿ فاستجاب لهم ربهم ﴾ : يعدى بنفسه وباللام ﴿ أنّي ﴾ أي : بأني، ﴿ لا أُضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى ﴾ : بيان١ عامل، ﴿ بعضكم من بعض ﴾ : في الدين أو كلكم من آدم أو لأن الذكر من الأنثى، والأنثى من الذكر قالت٢ أم سلمة : يا رسول الله لا نسمع الله تعالى ذكر النساء في الهجرة بشيء فأنزل الله تعالى ( فاستجاب لهم ) إلخ. ﴿ فالذين هاجروا ﴾ : تفصيل للأعمال، ﴿ وأُخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا ﴾ : الكفار، ﴿ وقُتلوا ﴾ : في الجهاد، ﴿ لأكفّرن ﴾ : لأمحون، ﴿ عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾ : تحت أشجارها، ﴿ ثوابا٣ من عند الله ﴾ أي : لأثيبنهم ثوابا من عند الله العظيم، ﴿ والله عنده حُسن الثواب ﴾ : على الطاعات.
١ يعني أن مِنْ بيانية فالمراد بالعامل الشخص العامل ليعم الذكر والأنثى/١٢..
٢ رواه الحاكم في مستدركه، وقال: صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجه/١٢ منه [وهو كما قال وأخرجه أيضا الترمذي والطبراني وغيرهما، وانظر صحيح سنن الترمذي (٢٤٢٠)]..
٣ يعني أن ثوابا مصدر مؤكد فإن قوله لأكفرن عنهم ولأدخلنهم في معنى لأثيبنكم لا أن تقدر عامله كما يظهر من كلامنا بادي الرأي/١٢..
﴿ لا يغُرّنك تقلّب الذين كفروا في البلاد ﴾ : من السعة والتبسط في المكاسب والمزارع والمتاجر قال بعض المؤمنين : أعداء الله فيما نرى من الخير، ونحن في الجهد نزلت فالخطاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد غيره.
﴿ متاع قليل ﴾ أي : ذلك التقلب متاع قليل لقلة مدته وفي جنب ما أعد الله للمؤمنين، ﴿ ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد ﴾ : ما مهدوا لأنفسهم، أو الفراش جهنم.
﴿ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾ : هو ما يعد للنازل، ونصبه على الحال من جنات، والعامل الظرف ؛ ﴿ وما عند الله خيرٌ للأبرار ﴾ : مما يتقلب فيه الفجار في الدنيا.
﴿ وإن من أهل الكتاب لَمن يؤمن بالله ﴾، دخلت اللام على اسم إن للفصل بالظرف نزلت١ لما توفي النجاشي، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى كما يصلي على الجنائز فقال المنافقون : تصلي على علج٢ مات بأرض الحبشة أو في ابن سلام وأصحابه، أو في جمع من الحبشة والروم أسلموا أو في مؤمني أهل الكتاب كلهم، ﴿ وما أُنزل إليكم ﴾ : القرآن ﴿ وما أُنزل إليهم ﴾ : من كتبهم، ﴿ خاشعين لله ﴾، حال من فاعل يؤمن، ﴿ لا يشترون ﴾، حال آخر، ﴿ بآيات الله ثمنا قليلا ﴾ : لا يأخذونه بدلها كما يفعله المحرفون ﴿ أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب ﴾، فالأجل الموعود سريع الوصول إليهم.
١ رواه ابن مردويه وابن جرير عن قتادة وروى ابن أبي حاتم عن أنس بن مالك/١٢ منه [حسن، أخرجه النسائي في (التفسير)]..
٢ العلج الكافر الضخم/١٢..
﴿ يا أيها الذين آمنوا اصبروا ﴾ : على دينكم وعلى أمر الله أو على البلاء، ﴿ وصابروا ﴾ : على عدوكم، ﴿ ورابطوا ﴾ أنفسكم في مكان العبادة أي داوموا أو أبدانكم١ وخيولكم في الثغور أو المراد انتظار الصلاة بعد٢ الصلاة، ﴿ واتقوا الله ﴾ : في جميع الأمور وفيما بينه وبينكم، ﴿ لعلكم تُفلحون ﴾ لكي تفلحوا في الدنيا، والآخرة.
والحمد لله رب العالمين أكمل الحمد وأتمه.
١ هذا قول مقاتل والسدي وغيرهما/١٢ منه..
٢ هكذا قال ابن عباس وسهل بن حبيب ومحمد بن كعب وغيرهم، وفي مسلم والنسائي (ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات، إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)/١٢ وجيز [أخرجه مسلم في (الطهارة)]..
Icon