تفسير سورة الحشر

جامع البيان في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة الحشر من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن .
لمؤلفه الإيجي محيي الدين . المتوفي سنة 905 هـ
سورة الحشر مدنية، وهي أربع وعشرون آية وثلاث ركوعات.

بسم الله الرحمن الرحيم :
﴿ سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم ﴾، ﴿ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ﴾ [ الإسراء : ٤٤ ].
﴿ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب ﴾ بني النضير، ﴿ من ديارهم ﴾ لما نقضوا العهد أحل الله بهم بأسه فأجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم الحصينة التي ما طمع بتسخيرها أحد إلى أذرعات من أعمال الشام وهي أرض المحشر، ولذلك قال :﴿ لأول١ الحشر ﴾ أي : لابتداء٢ : الحشر صرح به ابن عباس رضي الله عنهما وكثير من السلف٣، وعن الحسن رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام لبني النضير :" هذا أول الحشر وأنا على٤ الأثر " قيل : هم أول من أجلى من جزيرة العرب فهم أول المحشورين فإن الحشر إخراج جمع من مكان إلى آخر، ﴿ ما ظننتم ﴾ أيها المؤمنون ﴿ أن يخرجوا ﴾ لشدتهم وشدة حصونهم، ﴿ وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ﴾ أي : زعموا أن حصونهم تمنعهم من بأس الله تعالى فحصونهم مبتدأ ومانعتهم خبره، أو حصونهم فاعل مانعتهم، لاعتماده فإنه في الحقيقة خبر المبتدأ وفي هذا النظر٥ دلالة على فرط وثوقهم بحصونهم واعتقادهم أنهم في عزة بسببها، ﴿ فأتاهم الله ﴾ عذابه ﴿ من حيث لم يحتسبوا ﴾ من حيث لم يخطر ببالهم، ﴿ وقذف ﴾ ألقى ﴿ في قلوبهم الرعب يخرجون بيوتهم ﴾ الجملة حال، ﴿ بأيديهم وأيدي المؤمنين ﴾ فإنهم يقلعون الأبواب وما استحسنوه من السقوف ويحملون معهم والباقي يخربه المؤمنون واليهود عرّضت المؤمنين لذلك وكانت السبب فيه فهم خربوا ديارهم بأيدي المؤمنين ﴿ فاعتبوا ﴾ فاتعظوا ﴿ يا أولي الأبصار ﴾ ولا تتبعوا أعمالهم وعقائدهم.
١ اللام متعلق بأخرج وهي لام التوقيت أي عند أول الحشر كأقم الصلاة لدلوك الشمس/١٢..
٢ قد أجمع المفسرون على أن هؤلاء المذكورين في الآية هم بنو النضير ولم يخالف في ذلك إلا الحسن البصري فقال: هم بنو قريضة وهو غلط فإن بني قريظة ما حشروا بل قتلوا بحكم سعد بن معاذ أخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن عائشة قالت: كانت غزوة بني النضير وهم طائفة من اليهود على رأس ستة أشهر من وقعة بدر وكان منزلهم ونخلهم في ناحية المدينة فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على الجلاء على أن لهم ما أقلت الإبل من الأمتعة والأموال إلا الحلقة يعني السلاح فأنزل الله فيهم ﴿سبح لله ما في السماوات﴾ إلى آخر القصة/١٢ الدر المنثور..
٣ رواه ابن جرير وغيره/١٢ وجيز..
٤ والمشهور أن أرض الشام محشر الخلق يجمع الخلق فيها إلى أرض محشر القيامة وقد صرح بذلك ابن عباس- رضي الله عنه- وجم غفير من عظماء السلف/١٢ وجيز..
٥ الذي هو من باب تقديم الخبر على المبتدأ حيث لم يقل أن حصونهم تمنعهم دلالة على فرط وثوقهم بحصونهم فكأنه لا حصن أمنع من حصونهم/١٢..
﴿ ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء ﴾ الخروج من الوطن ﴿ لعذبهم في الدنيا ﴾ أي : لأنزل عليهم بلاء آخر كالقتل والسبي فإنه قد كتب أنه سيعذبهم في الدنيا ﴿ ولهم في الآخرة عذاب النار ﴾ أي هذا لهم حتم لازم على أي حال.
﴿ ذلك بأنهم شاقوا ﴾ عاندوا وخالفوا ﴿ الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب ﴾.
﴿ ما قطعتم ﴾ ما منصوب بقطعتم أي : أيّ شيء ﴿ من لينة ﴾ هي نوع خاص من النخل أجودها في ألوان التمر أو سوى العجوة والبرنى أو جميع أنواع، ﴿ أو تركتموها قائمة على أصولها ﴾، فائدة هذا القيد أنه يعلم منه أنهم كانوا يستأصلون ما يقطعون من أصوله وبنيانه ولا يخلون ساقها ﴿ فبإذن١ الله ﴾ بأمره ورضائه. نزلت لما حاصرهم وأمر عليه الصلاة والسلام بقطع نخيلهم إرغاما لقلوبهم، قالوا إنك تنهى عن الفساد ثم تفسد في الأرض فحاك ذاك في صدور المؤمنين، ﴿ وليخزي الفاسقين ﴾ علة لمحذوف أي : أذن لهم في قطع بعض وإبقاء بعض ليخزيهم على فسقهم بمزيد حسرتهم وغيظهم.
١ في البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير وقطع وهي البويرة ولها يقول حسان رضي الله عنه:
لهان على سراة بني لؤي حريق بالبويرة مستطير
فأنزل الله ﴿ما قطعتم من لينة﴾/١٢ فتح..

﴿ وما أفاء ﴾ ما منصوب بأفاء أي : الذي رده ﴿ الله على رسوله منهم ﴾ من ملك اليهود من الأموال، ﴿ فما أوجفتم ﴾ ما نافية أي ما أجريتم ﴿ عليه ﴾ على تحصيله، ﴿ من خيل ولا ركاب١ والركاب ما يركب الإبل، يعني إنما مشيتم على أرجلكم لقربهم منكم ولا تعبتم بالسفر والقتال، ﴿ ولكن الله يسلط رسله٢ على من يشاء والله على كل شيء قدير ﴾ فلا تطمعوا أن يكون مال الفيء كمال الغنيمة أربعة أخماسها لكم بل ما هو لكم من الغنيمة هو من الفيء للنبي صلى الله عليه وسلم ولذلك ما أعطى الأنصار منه إلا ثلاثة نفر منهم.
١ والآية إن نزلت قبل فتحهم كانت مخبرة بغيب وإن كانت بعد حصول الأموال كان ذلك بيانا لما يستقبل/١٢ وجيز..
٢ أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عمر بن الخطاب قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ومما لم يوجف عليه المسلمين بخيل ولا ركاب وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله/١٢ فتح..
﴿ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ﴾ جميع البلدان الذي يفتح، ﴿ فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ﴾ جملة ما أفاء الله بيان للجملة السابقة، ولذلك لم يعطف، كأنه لما قيل : ما خول الله برسوله من أموال بني النضير شيء لم يحصلوه بالقتال، فلا يقسم قسمة الغنائم. قيل : كيف يقسم ؟ قيل :﴿ ما أفاء الله ﴾ الآية. فعلم أن مال الفيء، وهو مال أخذ من الكفار من غير قتال، ولا إيجاف خيل وركاب ليس للجنود فيه نصيب، بل هو مختص للرسول، ولذي القربى، والثلاثة الباقية١. وعلم من الحديث أنه ينقسم بخمسة ؛ أربعة أخماس لخاصة النبي- صلى الله عليه وسلم، والخمس الباقية ينقسم على هؤلاء الخمسة، وبيان المصارف قد مرّ في سورة الأنفال فلا نعيده، ﴿ كي لا يكون ﴾ الفيء ﴿ دولة ﴾ ما يتداول ﴿ بين الأغنياء منكم ﴾ فلا يصيب الفقراء كأيام الجاهلية. ﴿ وما آتاكم الرسول ﴾ أي : ما أمر به ﴿ فخذوه ﴾ تمسكوا به، ﴿ وما نهاكم عنه ﴾ عن إتيانه ﴿ فانتهوا ﴾ عنه أو ما أعطاكم من المال فاقبلوا وما نهاكم على أخذه فانتهوا. ﴿ واتقوا الله إن الله شديد العقاب٢ لمن خالف.
١ نصدق أن المجموع لهؤلاء الخمسة لا نصيب للغزاة فيه فإن مطمح نظرهم أن يكون الفيء كالغنيمة فتكون أربعة أخماس لهم والخمس لهؤلاء الخمسة فبين الله لهم أن المجموع لهؤلاء الخمسة فتأمل/١٢ منه..
٢ عن أبي رافع إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه أمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه". أخرجه أبوا داود والترمذي وقال: هذا حديث حسن/١٢ فتح. [وصححه الشيخ الألباني في "صحيح الجامع"].
﴿ للفقراء المهاجرين ﴾ بدل من المساكين، أو من لذي القربى، وما عطف عليه ﴿ الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم ﴾ فإن كفار مكة أخذوا أموالهم ﴿ يبتغون فضلا من الله ورضوانا ﴾ جملة حالية ﴿ وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ﴾ في دعوى الإيمان.
﴿ والذين تبوءوا الدار والإيمان ﴾ جعلوا الإيمان مستقرا لهم كما جعلوا المدينة كذلك أي : لزموا المدينة والإيمان، وتمكنوا فيهما١ والتعريف في الدار ؛ للتنويه، كأنها الدار التي تستحق أن يسمى دارا، ﴿ من قبلهم ﴾ من قبل هجرتهم، وهم الأنصار، ﴿ يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم ﴾ في أنفسهم ﴿ حاجة ﴾ كحسد وغيظ ﴿ ما أوتوا ﴾ أي لا يجدون من مال أعطى المهاجرون في أنفسهم حقدا وغرضا، فإنه قد قسم مال بني النضير بين المهاجرين دون الأنصار، ﴿ ويؤثرون ﴾ يقدمون المهاجرين ﴿ على أنفسهم ﴾ فيما عندهم من الأموال ﴿ ولو كان بهم خصاصة ﴾ حاجة إلى ما عندهم نزلت حين أطلق رجل من الأنصار برجل، قال عليه الصلاة والسلام في شأنه :" رحم الله من يضيفه الليلة إلى بيته "، ولم يكن في بيته سوى قوت صبيانه، فنومهم وأطعمه قوتهم، فبات هو وعياله جائعين. فقال عليه الصلاة والسلام :" ضحك٢ الله من فلان " ٣. ﴿ ومن يوق شح نفسه ﴾ من سلم من الحرص الشديد الذي يحمله على ارتكاب المحارم ﴿ فأولئك هم المفلحون ﴾.
١ على ما ذكرناه تبوءوا الإيمان من الاستعارة المكنية وقيل: هو من قبيل علفتها تبنا وماء باردا أي تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان /١٢ منه..
٢ أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما/١٢ فتح.
٣ قال شيخ الإسلام أبو العباس في بعض فتاواه: وقول القائل: إن الضحك خفة روح ليس بصحيح وأن ذلك قد يقارنه ثم قول القائل خفة الروح إن أراد به وصفا مذموما فهذا يكون لما لا ينبغي أن يضحك منه وإلا فالضحك في موضعه المناسب له صفة مدح وكمال وإذا قدر حيان أحدهما يضحك مما يضحك منه والآخر لا يضحك قط كان الأول أكمل من الثاني ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم:" ينظر إليكم أذلين قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب فقال له أبو رزين العقيلي: يا رسول الله أو يضحك الرب؟! قال:"نعم" قال لن نعدم من رب يضحك خيرا، فجعل الأعرابي العاقل بصحة فطرته ضحكه دليلا على إحسانه وإنعامه، فدل على أن هذا الوصف مقرون بالإحسان المحمود وأنه من صفات الكمال، والشخص العبوس الذي لا يضحك قط هو مذموم بذلك، وقد قيل في اليوم الشديد العذاب: إنه يوما [كذا بالأصل] عبوسا قمطريرا. وقد روى أن الملائكة قالت لآدم: حياك الله وبياك، أي: أضحكك، والإنسان حيوان ناطق ضاحك وما تميز به الإنسان عن البهيمة صفة كمال فكما أن النطق صفة كمال فكذلك الضحك صفة كمال فمن يتكلم أكمل ممن لا يتكلم، ومن يضحك أكمل ممن لا يضحك وإذا كان الضحك فينا مستلزم لشيء من النقص، فالله تعالى منزه عن ذلك، وذلك النقص مختص لا عام فليس حقيقة الضحك مطلقا مقرونة بالنقص كما أن ذواتنا وصفاتنا مقرونة بالنقص ووجودنا مقرون بالنقص، ولا يلزم أن لا يكون الرب موجودا وأن لا يكون له ذات ومن هنا زلت القرامطة الغلاة كصاحب الأقاليد وأمثاله فأرادوا أن ينفوا عنه كل ما يعلم بالقلب أو ينطق به اللسان من نفي وإثبات فقالوا: لا نقول موجود ولا لا موجود ولا موصوف ولا لا موصوف مما في ذلك على زعمهم من التشبيه؛ وهذا يستلزم أن يكون ممتنعا وهو مقتض للتشبيه بالممتنع والتشبيه للممتنع عن الله أن يشارك المخلوقات في شيء من خصائصها، أو أن يكون مماثلا لها في شيء من صفاته كالحياة والعلم والقدرة فإنه وإن وصف به فلا تماثل صفة الخالق صفة المخلوق كالحدث والموت والفناء والإمكان/١٢..
﴿ والذين جاءوا من بعدهم ﴾ المراد التابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين، ﴿ يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا ﴾ في الدين ﴿ الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا ﴾ حقدا ﴿ للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم ﴾ واعلم أن للفقراء لا يمكن أن يكون بدلا من الله وللرسول ؛ لأن الرسول أيضا لا يسمى فقيرا، فهو بدل من لذوي القربى وما بعده، ومن لم يشترط في ذوي القربى الفقر، يقول : إن للفقراء ليس للقيد، بل بيانا للواقع من حال المهاجرين، وإثباتا لمزيد اختصاصهم، وأن قوله :﴿ والذين تبوءوا الدار ﴾ عطف على الفقراء، لا على المهاجرين، سيما وقد ثبت فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل الخلفاء رضي الله عنهم من بعده أنهم يعطون الأغنياء من ذوي القربى وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قرأ هذه الآية إلى قوله :﴿ رءوف رحيم ﴾ قال : استوعبت هذه المسلمين، وليس أحد إلا له حق، وقد خطر بخاطري أن الله تعالى سمى جميع المهاجرين والأنصار والتابعين فقراء، وإن كانوا أغنياء ؛ لأنه لو كان المراد فقراءهم ؛ لناسب أن يقول لفقراء المهاجرين بطريقة الإضافة. وعن بعض المفسرين أن قوله :﴿ للفقراء ﴾ ليس بدلا بل تقديره أعجبوا١ لهم فإن السياق في مدحهم، فإنه لما أمر بإتباع الرسول عجب الناس إتباع هؤلاء، والذي يؤيده قوله :﴿ ألم تر إلى الذين نافقوا ﴾ مصدرا بقوله :﴿ ألم تر ﴾ وهي كلمة للتعجب، فإن ذكرهم جاء مقابلا لذكر أضدادهم.
١ العجب مستعمل بلام كقوله: عجبت لمولود وليس له أب/١٢ منه..
﴿ ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب ﴾ هم بنو قريظة والنضير ﴿ لئن أخرجتم ﴾ من المدينة ﴿ لنخرجن معكم ﴾ نوافقكم ونرافقكم ﴿ ولا نطيع فيكم ﴾ في إخلاف ما وعدناكم في قتالكم ﴿ أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون ﴾.
﴿ لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ﴾ وقد وقع كذلك فإن ابن أبي وأصحابه عاهدوهم على ذلك ثم أخلفوهم ﴿ ولئن نصروهم ﴾ على الفرض١ ﴿ ليولن الأدبار ﴾ لينهزمون ﴿ ثم لا ينصرون ﴾ بعد ولا ينفعهم نفاقهم. قيل : معناه لينهزمن اليهود، ثم لا ينفعهم نصرة المنافقين.
١ قوله: على الفرض، إشارة إلى أن قوله:﴿ولئن نصروهم﴾ بعد ﴿ولئن قوتلوا لا ينصرونهم﴾ لا منافاة /١٢ منه..
﴿ لأنتم أشد رهبة ﴾ مرهوبية مصدر فعل المجهول ؛ لأنهم مرهوب منهم لا راهبون ﴿ في صدورهم من الله ﴾ لأن نفاقهم من خوفكم، ولو خافوا من الله لتركوا النفاق ﴿ ذلك بأنهم قوم لا يفقهون ﴾ فإنه لو كان لهم دراية، لعلموا أن الله هو الحقيق بأن يخشى.
﴿ لا يقاتلونكم ﴾ اليهود ﴿ جميعا ﴾ مجتمعين ﴿ إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر ﴾ لا يبرزون لقتالكم لفرط خشيتهم منكم وإن كانوا مجتمعين ﴿ بأسهم ﴾ شدتهم في الحرب ﴿ بينهم شديد ﴾ يعني إذا حارب بعضهم بعضا فيشتد بأسهم لكن إن قاتلوكم لم يبق لهم تلك الشدة ﴿ تحسبهم جميعا ﴾ متفقين ﴿ وقلوبهم شتى ﴾ متفرقة وأصل الحرب الاتفاق ﴿ ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ﴾ فإن العقل هو الداعي إلى الإتحاد والاتفاق، وعن بعض١ تحسبهم أي : اليهود والمنافقين.
١ هو قول إبراهيم النخعي/١٢..
﴿ كمثل الذين من قبلهم قريبا ﴾ أي : مثل اليهود كمثل الذين استقروا من قبلهم في زمان قريب، وهم أهل بدر أو يهود بني قينقاع١، فقد أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلهم ﴿ ذاقوا وبال أمرهم ﴾ سوء عاقبة كفرهم في الدنيا ﴿ ولهم ﴾ في الآخرة ﴿ عذاب أليم ﴾.
١ فقد أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بني النضير بزمان قريب من المدينة فكانوا أمثالهم صرح بذلك ابن عباس رضي الله عنهما/١٢ وجيز..
﴿ كمثل الشيطان ﴾ أي : مثل المنافقين في إغراء اليهود كمثل الشيطان﴿ إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك ﴾ تبرأ عنه في العاقبة، كما فعل براهب١ حمله على الفجور٢، ثم على سجوده، ثم تبرأ منه. وكما قال يوم بدر :﴿ لا غالب لكم اليوم من الناس، وإني جار لكم ﴾ إلى قوله :﴿ إني بريء منكم ﴾[ الأنفال : ٤٨ ]﴿ إني أخاف الله رب العالمين ﴾.
١ عن علي بن أبي طالب إن رجلا كان يتعبد في صومعة، ، وأن امرأة كان لها إخوة فعرض لها شيء فأتوه بها فزينت له نفسه فوقع عليها فحملت، فجاءه الشيطان فقال: اقتلها فإنهم إن ظهروا عليك افتضحت فقتلها ودفنها فجاءوه وأخذوه فذهبوا به فبينما هم يمشون إذ جاءه الشيطان فقال: إني أنا الذي زينت لك فاسجد لي سجدة أنجيك فسجد له، فذلك قوله:﴿كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر﴾ الآية أخرجه أحمد في الزهد والبخاري في تاريخه والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم/١٢ فتح. [وأخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر كما في "الدر منثور" (٦/٢٩٥)].
٢ واسمه برصيصا قصته مشهورة ذكرها البغوي وأوردها السيوطي في الدر المنثور عن علي وابن مسعود وابن عباس وقولهم: عن أبي أمامة مرفوعا وعزاه إلى البيهقي/١٢ كمالين..
﴿ فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين١.
١ ولما انقضى في هذه السورة أحوال اليهود والمنافقين وسيرتهم وعظ المؤمنين فإن الموعظة بعد ذكر عيوب الأعداء أنفع فقال: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله/١٢ وجيز..
﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد١ انظروا ما ادخرتم ليوم القيامة، ﴿ واتقوا الله ﴾ تكرير للتأكيد، ﴿ إن الله خبير بما تعملون ﴾.
١ عبر عنه بالغد لأنه كائن قريب قيل كأن الدنيا والآخرة نهاران يوم وغد وتنكيره لتعظيمه وإبهام أمره كأنه قال: لغد لا يعرف كنهه لعظمه/١٢ وجيز..
﴿ ولا تكونوا كالذين نسوا الله ﴾ نسوا حقه ﴿ فأنساهم ﴾ الله ﴿ أنفسهم ﴾ حقّ أنفسهم فلم يفعلوا ما ينفعهم ﴿ أولئك هم الفاسقون ﴾ الكاملون في الفسق.
﴿ لا يستوي أصحاب النار ﴾ الذين نسوا الله فلم يتقوا ﴿ وأصحاب الجنة ﴾ الذين عرفوا حق الله فاتقوا﴿ أصحاب الجنة هم الفائزون١.
١ قالوا: لأن فرضنا بعثا وقيامة فمنزلتنا أعظم/١٢ وجيز..
﴿ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل ﴾ وخطبناه بالأمر والنهي وفهمناه الحكم والمثل ﴿ لرأيته خاشعا متصدعا ﴾ متشققا ﴿ من خشية الله وتلك الأمثال ﴾ التي في القرآن ﴿ نضربها للناس لعلهم يتفكرون ﴾ والمراد توبيخ الإنسان على عدم تخشعه وقلة تدبره وعدم الاتعاظ بالقرآن.
﴿ هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب ﴾ ما غاب عنا ﴿ والشهادة ﴾ وما حضر ﴿ هو الرحمن الرحيم ﴾.
﴿ هو الله الذي لا إله١ إلا هو الملك القدوس ﴾ الطاهر البليغ في النزاهة عن كل النقصان ﴿ السلام ﴾ ذو السلامة من كل نقص ﴿ المؤمن ﴾ واهب الأمن أم المصدق للمؤمنين والكافرين في وعدهم ووعيدهم ﴿ المهيمن ﴾ الرقيب المطلع على السرائر، ﴿ العزيز الجبار٢ العظيم أو الذي جبر خلقه على مراده أو جبر حالهم وأصلحها، ﴿ المتكبر٣ الذي تكبر عن كل نقص وأصل الكبرياء الامتناع، ﴿ سبحان الله عما يشركون ﴾.
١ كرره لأن التوحيد هو المقصود الأصلي/١٢ وجيز..
٢ فيه وجوه أحدهما أنه فعال من جبر إذا أغنى الفقير وأصلح الكسير. قال الأزهري وهو جابر كل كسير وفقير، وهو جابر دينه الذي ارتضاه. قال العجاج:
قد جبر الدين الإله فجبر ***...
والثاني أن يكون الجبار من جبره على، إذا أكرهه على ما أراده. قال السدي: إنه الذي يقهر الناس ويجبرهم على ما أراده. الثالث: قال ابن الأنباري: الجبار في صفة الله الذي لا ينال الرابع قال ابن عباس: الجبار هو الملك العظيم هذا ما في الكبير. وقال الحافظ العلامة شمس الدين ابن القيم رحمه الله في النونية.
وكذاك الجبار من أوصافه *** والجبر في أوصافه قسمان:
جبر الضعيف وكل قلب قد غدا *** ذا كسرة فالجبر منه دان
والثاني: جبر القهر بالعز الذي *** لا ينبغي لسواه من إنسان
وله مسمى ثالث وهو العلو *** فليس يدنو منه من إنسان
من قولهم جبارة للنخلة *** العليا التي فاقت لكل بنان.

٣ واعلم أن المتكبر في حق الخلق اسم ذم لأن المتكبر هو الذي يظهر من نفسه الكبر وذلك نقص في حق الخلق لأنه ليس له كبر ولا علو بل ليس معه إلا الحقارة والذلة والمسكنة، فإذا أظهر العلو كان كاذبا فكان ذلك مذموما في حقه أما الحق سبحانه فله جميع أنواع العلو والكبرياء فإذا أظهره فقد أرشد العباد إلى تعريف جلاله وعلوه؛ فكان ذلك في غاية المدح في حقه سبحانه، ولهذا السبب لما ذكر هذا الاسم قال:﴿سبحان الله عما يشركون﴾. كأنه قيل: إن المخلوقين قد يتكبرون ويدعون مشاركة الله في هذا الوصف لكن الله سبحانه منزه عن التكبر الذي هو حاصل الخلق/١٢ كبير..
﴿ هو الله الخالق ﴾ المقدر، ﴿ البارئ ﴾ المبرز الموجب لما قدر، ﴿ المصور ﴾ الممثل للمخلوقات الموجود لصورها، ﴿ له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض ﴾ بلسان قاله أو حاله ﴿ وهو العزيز الحكيم ﴾ وفي مسند الإمام أحمد والترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" من قال حين يصبح ثلاث مرات : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قرأ الثلاث الآيات من آخر سورة الحشر، وكّل الله به سبعين ألف ملك، يصلّون عليه حتى يمسي، فإن مات ذلك اليوم مات شهيدا، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة ".
Icon