تفسير سورة النّور

الوجيز للواحدي
تفسير سورة سورة النور من كتاب الوجيز في تفسير الكتاب العزيز المعروف بـالوجيز للواحدي .
لمؤلفه الواحدي . المتوفي سنة 468 هـ
مدنية وهي ستون وآيتان

﴿سورة أنزلناها﴾ أَيْ: هذه سُورةٌ أنزلناها ﴿وفرضناها﴾ ألزمنا العمل بما فُرض فيها
﴿الزانية والزاني﴾ إذا كانا حُرَّين بالغين غير محصنين ﴿فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تأخذكم بهما رأفة﴾ رقَّةٌ ورحمةٌ فَتُعطِّلوا الحدود وتخفِّفوا الضَّرب حتَّى لا يُؤلم وقوله: ﴿في دين الله﴾ أَيْ: في حكم الله ﴿وليشهد﴾ وليحضر ﴿عذابهما﴾ جلدهما ﴿طائفة﴾ نفرٌ ﴿من المؤمنين﴾
﴿الزاني لا ينكح إلاَّ زانية﴾ الآية نزلت في قومٍ من فقراء المهاجرين همُّوا أن يتزوَّجوا بغايا كنَّ بالمدينة لِعَيْلَتِهم فأنزل الله تعالى تحريم ذلك لأنهنَّ كنَّ زانياتٍ مشركاتٍ وبيَّن أنَّه لا يتزوَّج بهنَّ إلاَّ زانٍ أو مشركٌ وأنَّ ذلك حرامٌ على المؤمنين
﴿والذين يرمون﴾ بالزِّنا ﴿المحصنات﴾ الحرائر العفائف ﴿ثمَّ لم يأتوا﴾ على ما رموهنَّ به ﴿بأربعة شهداء﴾ أَيْ: يشهدون عليهنَّ بذلك ﴿فاجلدوهم﴾ أَي: الرَّامين ﴿ثمانين جلدة﴾ يعني: كلَّ واحدٍ منهم ﴿ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً﴾ لا تُقبل شهادتهم إذا شهدوا لأنَّهم فسقوا برمي المحصنات إلاَّ أن يرجعوا ويُكذِّبوا أنفسهم ويتركوا القذف فينئذ تُقبل شهادتهم لقوله تعالى:
﴿إلاَّ الذين تابوا من بعد ذلك﴾
﴿والذين يرمون أزواجهم﴾ يقذفوهن بالزِّنا ﴿ولم يكن لهم شهداء إلاَّ أنفسهم﴾ يشهدون على صحَّة ما قالوا إلاَّ هم ﴿فشهادة أحدهم أربع شَهاداتٍ بالله﴾ أربع مرات أنَّه صادقٌ فيما قذفها به يُسقط عنه الحدَّ ثم يقول في الخامسة: لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ فإذا فعل الزَّوج هذا وجب الحدُّ على المرأة ويسقط ذلك عنها بأن تقول: أشهد بالله إنَّه لمن الكاذبين فيما قذفني به أربع مرات وذلك لقوله تعالى:
﴿وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ من الكاذبين﴾
﴿ويدرأ عنها العذاب﴾ أَيْ: يدفع عنها عقوبة الحدِّ والخامسة تقول: عليَّ غضب الله إن كان الصادقين
﴿وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ من الصادقين﴾
﴿ولولا فضل الله عليكم ورحمته﴾ جواب لولا محذوفٌ عل تقدير: لفضحكم بارتكاب الفاحشة ولعاجلكم بالعقوبة ولكنَّه ﴿توابٌ﴾ يقبل التَّوبة ويرحم مَنْ رجع عن السَّيئة ﴿حَكِيمٌ﴾ فيما فرض من الحدود
﴿إنَّ الذين جاؤوا بالإِفك﴾ بالكذب على عائشة رضوان الله عليها وصفوان ﴿عصبة﴾ جماعة ﴿منكم﴾ يعني: حسَّان بن ثابت ومسطحاً وعبد الله ابن أُبيّ المنافق وحمنة بنت جحش ﴿لا تحسبوه﴾ لا تحسبوا ذلك الإفك ﴿شرّاً لكم بل هو خيرٌ لكم﴾ لأنَّ الله تعالى يأجركم على ذلك ويُظهر براءتكم ﴿لكلِّ امرىء منهم مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ﴾ جزاء ما اجترح من الذَّنب ﴿والذي تولَّى كبره﴾ تحمَّل معظمه فبدأ بالخوض فيه وهو عبد الله ابن أبي
﴿لولا﴾ هلاَّ ﴿إذ سمعتموه﴾ يعني: الإِفك ﴿ظنَّ المؤمنون والمؤمنات﴾ رجع من الخطاب إلى الخبر والمعنى: ظننتم أيُّها المؤمنون بالذين هم كأنفسهم ﴿خيراً﴾ والمؤمنون كلُّهم كالنَّفس الواحدة وقلتم: ﴿هذا إفك مبين﴾ كذبٌ ظاهرٌ
﴿لولا جاؤوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فأولئك عند الله هم الكاذبون﴾
﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا والآخرة لمسكم﴾ لأصابكم ﴿في ما أفضتم﴾ خضتم ﴿فيه﴾ من الإفك ﴿عذاب عظيم﴾
﴿إذ تلقونه بألسنتكم﴾ تأخذونه ويرويه بعضكم عن بعض ﴿وتحسبونه هيناً﴾ وتظنُّونه سهلاً وهو كبيرٌ عند الله سبحانه
﴿ولولا﴾ هلاَّ ﴿إذ سمعتموه﴾ سمعتم هذا الكذب ﴿قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سبحانك﴾ تعجُّباً من هذا الكتاب ﴿هذا بهتان﴾ كذبٌ نتحيَّر من عظمه والمعنى: هلا أنكرتموه وصنتم ألسنتكم عن الخوض فيه؟
﴿يعظكم الله أن تعودوا﴾ كراهة أن تعودوا لمثل هذا الإِفك أبداً
﴿إنَّ الذين يحبون أن تشيع الفاحشة﴾ يفشوَ الزِّنا ﴿في الذين آمنوا لهم عذاب أليمٌ﴾ وهم المنافقون كانوا يشيعون هذا الكذب ويطلبون العيب للمؤمنين وأن يكثر فيهم الزنا
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون﴾
﴿ولولا فضل الله عليكم ورحمته﴾ لعجَّل لكم الذي تستحقُّونه من العقوبة
﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا﴾ ما صلح وطهر من هذا الذَّنب أحد ﴿منكم﴾ يعني: من الذين خاضوا فيه ﴿ولكنَّ الله يزكي مَنْ يشاء﴾ يُطهِّر مَنْ يشاء من الإِثم والذَّنب بالرَّحمة والمغفرة
﴿ولا يأتل﴾ ولا يحلف ﴿أولو الفضل منكم والسعة﴾ يعني أبا بكر الصديق رضي الله عنه ﴿أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سبيل الله﴾ يعني: مسطحاً وكان مسكيناً مهاجراً وكان ابن خالة أبي بكر وكان قد حلف أن لا ينفق عليه ولا يُؤتيه شيئاً ﴿وليعفوا وليصفحوا﴾ عنهم لخوضهم في حديث عائشة ﴿ألا تحبون أن يغفر الله لكم﴾ فلمَّا نزلت هذه الآية قال أبو بكر الصديق بلى أنا أحبُّ أن يغفر الله لي ورَجَع إلى مسطح بنفقته التي كان ينفق عليه
﴿إنَّ الذين يرمون المحصنات الغافلات﴾ عن الفواحش كغفلة عائشة رضي الله عنها عمَّا قذفت به ﴿لعنوا﴾ عُذِّبوا ﴿في الدنيا﴾ بالجلد ﴿و﴾ في ﴿الآخرة﴾ بالنار
﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كانوا يعملون﴾ وقوله:
﴿يوفيهم الله دينهم الحق﴾ أي: جزاءهم الواجب ﴿وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ المبين﴾ لأنَّه قد بيَّن لهم حقيقة ما كان بعدهم به في الدُّنيا
﴿الخبيثات﴾ من القول وقيل: من النِّساء ﴿للخبيثين﴾ من الرِّجال ﴿والخبيثون﴾ من النَّاس ﴿للخبيثات﴾ من القول وقيل: من النِّساء ﴿والطيبات﴾ من القول وقيل: من النِّساء ﴿للطيبين﴾ من النَّاس ﴿والطيبون﴾ من النَّاس ﴿للطيبات﴾ من القول وقيل: من النَّاس ﴿أولئك﴾ يعني: عائشة وصفوان ﴿مبرَّؤون مما يقولون﴾ يقوله أهل الخبث والقاذفون
﴿يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تستأنسوا﴾ تستأذنوا ﴿وتسلموا على أهلها﴾ وهو أن يقول: السَّلام عليكم أَأَدخلُ
﴿فإن لم تجدوا فيها﴾ في البيوت ﴿أحداً﴾ يأذن لكم في دخولها ﴿فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لكم ارجعوا﴾ انصرفوا ﴿فارجعوا﴾ ولا تقفوا على أبوابهم ﴿هو﴾ أي: الرُّجوع ﴿أزكى لكم﴾ أطهر لكم وأصلح فلمَّا نزلت هذا الآية قيل: يا رسول الله أفرأيت الخانات والمساكن في الطَّريق ليس فيها ساكن؟ فأنزل الله سبحانه
﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مسكونة﴾ بغير استئذانٍ ﴿فيها متاع﴾ منفعةٌ ﴿لكم﴾ في قضاء حاجةٍ أو نزولٍ وغيره
﴿قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم﴾ يكفُّوها عن النَّظر إلى ما لا يحلُّ ﴿ويحفظوا فروجهم﴾ عن مَنْ لا يحلُّ وقيل: يستروها حتى لا تظهر وقوله:
﴿ولا يبدين زينتهن﴾ يعني: الخلخالين والقُرطين والقلائد والدَّماليج ونحوها ممَّا يخفى ﴿إلاَّ ما ظهر منها﴾ وهو الثِّياب والكحل والخاتم والخضاب والسِّوار فلا يجوز للمرأة أن تظهر إلاَّ وجهها ويديها إلى نصف الذِّراع ﴿وليضربن بخمرهنَّ﴾ وليلقين مقانعهنَّ ﴿على جيوبهن﴾ ليسترون بذلك شعورهنَّ وقرطهنَّ وأعناقهنَّ ﴿ولا يبدين زينتهن﴾ يعن: الزينة الخفيَّة لا الظَّاهرة ﴿إلاَّ لبعولتهن﴾ أزواجهنَّ وقوله: ﴿أو نسائهنَّ﴾ يعني: النِّساء المؤمنات فلا يحلُّ لامرأةٍ مسلمةٍ أن تتجرَّد بين يدي امرأةٍ مشركةٍ إلاَّ إذا كانت المشركة مملوكةً لها وهو قوله: ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أولي الإربة من الرجال﴾ يعني: الذين يتَّبعون النِّساء يخدمونهنَّ ليصيبوا شيئاً ولا حاجة لهم فيهنَّ كالخصيِّ والخنثى والشَّيخ الهَرِم والأحمق العنِّين ﴿أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النساء﴾ لم يقووا عليها ﴿وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زينتهنَّ﴾ أَيْ: لا يضربن بإحدى الرِّجلين على الأخرى ليصيب الخلخالُ الخلخالَ فيعلم أنَّ عليها خلخالين فإنَّ ذلك يحرِّك من الشَّهوة ﴿وتوبوا إلى الله جميعاً﴾ راجعوا طاعة الله سبحانه فيما أمركم ونهاكم عنه من الآداب المذكورة في هذه السُّورة
﴿وأنكحوا الأيامى منكم﴾ الذين لا أزواج لهم من الرِّجال والنِّساء ﴿والصالحين من عبادكم﴾ عبيدكم ﴿وإمائكم﴾ جورابكم ﴿إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ هذا وعدٌ من الله تعالى بالغنى على النِّكاح وإعلامٌ أنَّه سببٌ لنفي الفقر
﴿وليستعفف﴾ وليعفَّ عن الحرام مَنْ لا يقدر على تزوُّج امرأةٍ بأن لا يملك المهر والنًّفقة ﴿حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ﴾ يطلبون ﴿الكتاب﴾ المكاتبة ﴿مما ملكت أيمانكم﴾ من عبيدكم وهو أن يطلب من مولاه أن يبيعه منه بمالٍ معلومٍ يُؤدِّيه إليه في مدَّةٍ معلومةٍ فإذا أدَّى ذلك عتق ﴿فكاتبوهم﴾ فأعطوهم ما يطلبون من الكتابة ﴿إن علمتم فيهم خيراً﴾ اكتساباً للمال يقدرون على أداء مال الكتابة ﴿وآتوهم من مال الله الذي آتاكم﴾ يعني: حطُّوا عنهم من المال الذي كاتبتموهم عليه ويستحبُّ ذلك للسيِّد وهو أن يحطَّ عنه ربع المال وقيل: المراد بهذا أن يُؤتوا سهمهم من الزَّكاة ﴿ولا تكرهوا فتياتكم﴾ إماءكم ﴿على البغاء﴾ الزِّنا نزلت في عبد الله ابن أُبيِّ وكانت له جوارٍ يكرههنَّ على الزِّنا ويأخذ منهنَّ أجراً معلوماً ﴿إن أردن تحصناً﴾ قيل: إنَّ هذا راجعٌ إلى قوله: ﴿وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ﴾ إن أردن تحصُّناً وقيل: إنْ بمعنى: إذ والمعنى: لا تكرهوهنَّ على الزِّنا إذ أردن التًّعفُّف عنه ﴿لتبتغوا عرض الحياة الدنيا﴾ يعني: ما يؤخذ من أجورهنَّ ﴿ومن يكرههنَّ﴾ على الزِّنا ﴿فإنَّ الله من بعد إكراههنَّ﴾ لهنَّ ﴿غفور رحيم﴾ والوزر على المُكْرِه
﴿ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات﴾ يعني: القرآن ﴿ومثلاً﴾ وخبراً وعبرةً ﴿من الذين خَلَوا﴾ مضوا ﴿من قبلكم﴾ يعني: ما ذكر من قصص القرون الماضية
﴿الله نور السماوات والأرض﴾ أَيْ: بنوره وهداه يهتدي من في السماوات والأرض ثمَّ ضرب مثلاً لذلك النُّور الذي يقذفه في قلب المؤمن حتى يهتدي به فقال: ﴿مثل نوره كمشكاة﴾ وهي الكوَّة غير النَّافذة والمراد بها ها هنا الذي وسط القنديل كالكوَّة يُوضع فيها الذُّبالة وهو قوله: ﴿فيها مصباح﴾ يعني: السِّراج ﴿المصباح في زجاجة﴾ لأنَّ النُّور في الزُّجاج وضوء النَّار أبين منه في كلِّ شيءٍ ﴿الزجاجة كأنها كوكب﴾ لبياضه وصفائه ﴿دريّ﴾ منسوبٌ إلى أنه كالدر ﴿يوقد﴾ أي: الزُّجاجة والمعنى للمصباح ولكنه حذف المضاف مَنْ قرأ بالياء أراد: يُوقد المصباح ﴿من شجرة﴾ أَيْ: من زيت شجرةٍ ﴿مباركة زيتونة لا شرقية﴾ ليست ممَّا يطلع عليها الشَّمس في وقت شروقها فقط ﴿ولا غربية﴾ أو عند الغروب والمعنى: ليس يسترها عن الشَّمس في وقتٍ من النَّهار شيءٌ فهو أنضر لها وأجود لزيتها ﴿يكاد زيتها يضيء﴾ لصفائه دون السراج وهو قوله: ﴿وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ﴾ يعني: نور السراج ونور الزيت ثم قال عزَّ مِنْ قائلٍ: ﴿يهدي الله لنوره مَنْ يشاء﴾ الآية
﴿في بيوت﴾ أَي: المصباح يوقد فِي بُيُوتٍ يعني: المساجد ﴿أَذِنَ اللَّهُ أَنْ ترفع﴾ تبنى وقوله تعالى:
﴿تتقلب فيه القلوب﴾ بين الطَّمع في النَّجاة والحذر من الهلاك ﴿والأبصار﴾ تنقلب في أي ناحية نؤخذ بهم أذات اليمين أم ذات الشِّمال؟ ومن أيِّ جهةٍ يُؤتون كُتبهم من جهة اليمين أم من جهة الشِّمال؟
﴿ليجزيهم الله أحسن﴾ بأحسن ﴿ما عملوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ ما لم يستحقُّوه بأعمالهم ثمَّ ضرب مثلاً لأعمال الكافرين فقال:
﴿والذين كفروا أعمالهم كسراب﴾ وهو يا يرى في الفلوات عند شدَّة الحرِّ كأنَّه ماءٌ ﴿بقيعة﴾ جمع قاعٍ وهو المنبسط من الأرض ﴿يحسبه الظمآن﴾ يظنُّه العطشان ﴿ماءً حتى إذا جاءه﴾ جاء موضعه ﴿لم يجده شيئاً﴾ كذلك الكافر يحسب أنَّ عمله مُغنٍ عنه أو نافعه شيئاً فإذا أتاه الموت واحتاج إلى عمله لم يجد عمله أغنى عنه شيئاً ﴿ووجد الله عنده﴾ ووجد الله بالمرصاد عند ذلك ﴿فوفَّاه حسابه﴾ تحمَّل جزاء عمله
﴿أو كظلمات﴾ وهذا مثلٌ آخرُ ضربه الله لأعمال الكافر ﴿في بحر لجيٍّ﴾ وهو البعيد القعر الكثير الماء ﴿يغشاه﴾ يعلوه ﴿موجٌ﴾ وهو ما ارتفع من الماء ﴿من فوقه موج﴾ متراكمٌ بعضه على بعض ﴿مِن﴾ فوق الموج ﴿سحاب﴾ وهذه كلُّها ﴿ظلمات بعضها فوق بعض﴾ ظلمة السَّحاب وظلمة الموج وظلمة البحر ﴿إذا أخرج﴾ النَّاظر ﴿يده﴾ بين هذه الظُّلمات ﴿لم يكد يراها﴾ لم يرها لشدَّة الظُّلمة وأراد بالظُّلمات أعمال الكفار وبالبحر اللُّجيِّ قلبه وبالموج فوق الموج ما يغشى قلبه من الجهل والشَّكِّ والحيرة وبالسَّحاب الرِّين والختم على قلبه ثمَّ قال: ﴿وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا له من نور﴾ أَيْ: مَنْ لم يهده الله للإِسلام لم يهتد
﴿ألم تر أنَّ الله يسبح له﴾ يصلّي له ﴿من السماوات والأرض﴾ المطيع يُسبِّح له والعاصي يذلُّ أيضاً بخلق الله تعالى إيَّاه على ما يشاء على أنَّ الله بريءٌ من السُّوء ﴿والطير صافات﴾ أجنحتهنَّ في الهواء تسبِّح الله ﴿كلٌّ قد علم صلاته﴾ وهي لبني آدم ﴿وتسبيحه﴾ وهو عامٌّ لغيرهم من الخلق
﴿ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير﴾
﴿ألم تر أنَّ الله يزجي﴾ يسوق ﴿سحاباً﴾ إلى حيث يريد ﴿ثمَّ يؤلف بينه﴾ يجمع بين قطع ذلك السَّحاب ﴿ثم يجعله ركاماً﴾ بعضه فوق بعض ﴿فترى الودق﴾ المطر ﴿يخرج من خلاله﴾ فُرَجِه ﴿وينزل من السماء من جبالٍ﴾ في السَّماء ﴿من بَردٍ فيصيب﴾ بذلك البرد ﴿مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سنا برقه﴾ ضوء برق السَّحاب ﴿يذهب بالأبصار﴾ من شدَّة توقُّده
﴿يقلب الله الليل والنهار﴾ يُصرِّفهما في اختلافهما وتعاقبهما ﴿إن في ذلك﴾ الذي ذكرت من هذه الأشياء ﴿لعبرة لأولي الأبصار﴾ لذوي العقول
﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ﴾ أَيْ: من نطفةٍ ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي على بطنه﴾ كالحيًّات والحيتان ﴿ومنهم من يمشي على رجلين﴾ كالإنس والجنِّ والطَّير ﴿ومنهم من يمشي على أربع﴾ كالبقر والجمال وغيرهما
﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
﴿ويقولون آمنا بالله﴾ يعني: المنافقين ﴿ثمَّ يتولى﴾ يعرض عن قبول حكم الرَّسول ﷺ ﴿فريق منهم من بعد ذلك﴾ الإقرار ﴿وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾
﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ﴾ إلى كتاب الله ﴿ورسوله ليحكم بينهم﴾ نزلت في بشر المنافق وخصمه اليهوديّ كان اليهوديُّ يجرُّه إلى رسول الله ﷺ ليحكم بينهما وجعل المنافق يجرُّه إلى كعب بن الأشرف وهذا إذا كان الحقُّ على المنافقين أعرضوا عن حكم رسول الله ﷺ لأنَّه كان لا يقبل الرُّشا وإن كان لهم الحقُّ على غيرهم أسرعوا إلى حكمه وهو قوله تعالى:
﴿وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ﴾ مُطيعين منقادين قال الله تعالى:
﴿أفي قلوبهم مرض﴾ فجاء بلفظ التَّوبيخ ليكون أبلغ في ذمِّهم ﴿أم ارتابوا﴾ شكُّوا ﴿أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ﴾ أي: يظلم ﴿بل أولئك هم الظالمون﴾ لأنفسهم بكفرهم ونفاقهم
﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾
﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فأولئك هم الفائزون﴾
﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ﴾ وذلك أنَّ المنافقين حلفوا أنَّهم يخرجون إلى حيث يأمرهم الرسول ﷺ للغزو والجهاد فقال الله تعالى: ﴿قل لا تقسموا طاعة معروفة﴾ خيرٌ وأمثلُ من يمينٍ تحنثون فيها
﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فإنما عليه ما حمَّل﴾ من تبليغ الرِّسالة ﴿وعليكم ما حملتم﴾ من طاعته الآية
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ليستخلفنَّهم في الأرض﴾ ليورثنَّهم أرض الكفَّار من العرب والعجم ﴿كما استخلف الذين من قبلهم﴾ يعني: بني إسرائيل ﴿وليمكنَّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم﴾ حتى يتمكَّنوا منه من غير خوفٍ ﴿وليبدلنَّهم من بعد خوفهم﴾ من العدوِّ ﴿أمناً﴾ لا يخافون معه العدوَّ ﴿ومن كفر﴾ بهذه النِّعمة فعصى الله ورسوله وسفك الدِّماء ﴿فأولئك هم الفاسقون﴾ فكان أوَّل مَنْ كفر بهذه النِّعمة بعد ما أنجز الله وعده الذين قتلوا عثمان بن عفان رضي الله عنه فعادوا في الخوف وظهر الشر والخلاف
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ ترحمون﴾
﴿لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ ومأواهم النار ولبئس المصير﴾
﴿يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم﴾ من العبيد والإماء ﴿والذين لم يبلغوا الحلم منكم﴾ من الأحرار ﴿ثلاث مرَّات﴾ ثمَّ بيَّنهنَّ فقال: ﴿من قبل صلاة الفجر﴾ وهو حين يخرج الإنسان من ثياب النَّوم ﴿وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة﴾ للقائلة ﴿ومن بعد صلاة العشاء﴾ الآخرة ﴿ثلاث عورات لكم﴾ يعني: هذه الأوقات لأنَّها أوقات التَّجرُّد وظهور العورة ﴿ليس عليكم ولا عليهم جناح﴾ ألا يستأذنوا بعد هذه الأوقات ﴿طوافون﴾ أَيْ: هم طَوَّافُونَ ﴿عَلَيْكُمْ﴾ يريد أنَّهم خدمكم فلا بأس عليهم أن يدخلوا في غير هذه الأوقات الثَّلاثة بغير إذنٍ وهذه الآية منسوخةٌ عند قومٍ وعند قومٍ لم تُنسخ ويجب العمل بها
﴿وإذا بلغ الأطفال منكم﴾ من أحراركم ﴿الحلم فليستأذنوا﴾ في كلِّ وقتٍ ﴿كما استأذن الذين من قبلهم﴾ يعني: الكبار من الأحرار
﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا﴾ يعني: العجائز اللاتي أيسن من البعولة ﴿فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن﴾ جلابيبهنَّ ﴿غير متبرجات بزينة﴾ غير مُظهراتٍ زينتهنَّ وهو أن لا تريد بوضع الجلباب أن تُري زينتها ﴿وأن يستعففن﴾ فلا يضعن الجلباب ﴿خيرٌ لهن﴾
﴿ليس على الأعمى حرج﴾ الآية كان المسلمون يخرجون للغزو ويدفعون مفاتيح بيوتهنَّ إلى الزَّمنى الذين لا يخرجون ويقولون لهم: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما فيها فكانوا يتوفون ذلك حتى نزلت هذه الآية وقوله: ﴿ولا على أنفسكم﴾ أراد: ولا عليكم أنفسكم ﴿أن تأكلوا من بيوتكم﴾ أَيْ: بيوت أولادكم فجعل بيوت أولادهم بيوتهم لأنَّ ولد الرَّجل من كسبه ومالَه كمالِه وقوله: ﴿أو ما ملكتم مفاتحه﴾ يريد: الزَّمنى الذين كانوا يخزنون للغزاة ﴿ليس عليكم جناح أن تأكلوا﴾ من منازل هؤلاءٍ إذا دخلتموها وإن لم يحضروا ولم يعلموا من غير أن يحملوا وهذه رخصةٌ من الله تعالى لطفاً بعباده ورغبة بهم عن دناءة الأخلاق وضيق النَّظر وقوله: ﴿أَوْ صديقكم﴾ يجوز للرَّجل أن يدخل بيت صديقه فيتحرَّم بطعامه من غير استئذانٍ بهذه الآية وقوله: ﴿أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً﴾ يقول: لا جناح عليكم إن اجتمعتم في الأكل أو أكلتم فرادى وإن اختلفتم فكان فيكم الزَّهيد والرغيب والعليل والصَّحيح وذلك أنَّ المسلمين تركوا مؤاكلة المرضى والزَّمنى بعد نزول قوله تعالى: ﴿ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل﴾ فقالوا: إنَّهم لا يستوفون من الأكل فلا تحلُّ لنا مؤاكلتهم فنزلت الرُّخصة في هذه الآية ﴿فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم﴾ فليسلِّم بعضكم على بعض وقيل: إذا دخلتم بيوتاً خالية فليقل الدَّاخل: السَّلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وقوله تعالى:
﴿وإذا كانوا معه على أمر جامع﴾ يجمعهم في حربٍ حضرت أو صلاةٍ في جمعةٍ أو تشاورٍ في أمرٍ ﴿لم يذهبوا﴾ لم يتفرقوا عن النبيِّ ﷺ ﴿حتى يستأذنوه﴾ نزلت في حفر الخندق كان المنافقون ينصرفون بغير امر رسول الله ﷺ وقوله:
﴿اتَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ أَيْ: لا تقولوا إذا دعوتموه: يا محمد كما يقول أحدكم لصاحبه ولكن قولوا: يا رسول الله يا نبيَّ الله ﴿قد يعلم الله الذين يتسللون﴾ يخرجون في خُفيةٍ من بين النَّاس ﴿لواذاً﴾ يستتر بغيره فيخرج مُختفياً ﴿فليحذر الذين يخالفون عن أمره﴾ أَيْ: يخافون أمر الرسول ﷺ وينصرمن بغير إذنه ﴿أن تصيبهم فتنة﴾ بلية يظهر نفاقهم ﴿أو يصيبهم عذاب أليم﴾ عاجلٌ في الدُّنيا
﴿ألا إنَّ لله ما في السماوات والأرض﴾ عبيداً وملكاً وخلقاً
Icon