تفسير سورة الحج

فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن
تفسير سورة سورة الحج من كتاب فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن .
لمؤلفه زكريا الأنصاري . المتوفي سنة 926 هـ

قوله تعالى :﴿ يوم ترونها تذهل كلّ مرضعة عمّا أرضعت ﴾ [ الحج : ٢ ].
إن قلتَ : كيف جمع هنا، وأفرد بعدُ في قوله :﴿ وترى الناس سكارى ﴾ ؟ [ الحج : ٢ ]
قلتُ : لأن الرؤية الأولى متعلّقة بالزلزلة، وكلّ الناس يرونها.
والثانية متعلّقة بكون الناس سُكارى، فلا بدّ من جعل كل واحد رآيا باقيهم.
قوله تعالى :﴿ كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها... ﴾ الآية [ الحج : ٢٢ ].
قال ذلك : هنا بذكر " من غمّ " وفي السجدة( ١ ) بدونه، موافقة لما قبلها. إذْ ما هنا تقدَّمه قوله تعالى ﴿ قُطّعت لهم ثياب من نار ﴾( ٢ ) الآية [ الحج : ١٩ ]. وما هناك لم يتقدّمه إلا قوله :﴿ فمأواهم النار ﴾ [ السجدة : ٢٠ ].
قوله تعالى :﴿ وذوقوا عذاب الحريق ﴾ [ الحج : ٢٢ ]. تقديره : وقيل لهم ذوقوا، كما في السجدة، وخصّ ما هنا بالحذف لطول الكلام، وما في السجدة بالذّكر لقصره، وموافقة لذكر القول قبله كقوله ﴿ أم يقولون افتراه ﴾ [ يونس : ٣٨ ] وقوله :﴿ وقالوا أئذا ضللنا ﴾ [ السجدة : ١٠ ] و﴿ قل يتوفاكم ﴾ [ السجدة : ١١ ].
١ - في السجدة ﴿كلّما أرادوا أن يخرجوا منها أُعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم تكذّبون﴾ آية (٢٠)..
٢ - إنما ذكر في الحج ﴿من غم﴾ لأن سياق الآيات يقتضيه، فالغمّ هو الكرب العظيم، الذي يأخذ بالأنفاس، فمن كانت ثيابه من نار، والحميم يصبّ من فوق رأسه، وله مقامع من حديد، كيف لا يكون في كرب وشدّة ؟ بخلاف آيات السجدة، فإنها لم تتحدث إلا عن مصير الكفار..
قوله تعالى :﴿ إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار... ﴾ الآية [ الحج : ٢٣ ].
كرّره لأنه لما ذكر حكم أحد الخصمين، وهو ﴿ فالذين كفروا قطّعت لهم ثياب من نار ﴾ لم يكن بدّ من ذكر حكم الخصم الآخر، لمقارنته له، وإن تقدّم ذكره.
قوله تعالى :﴿ فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ﴾ [ الحج : ٢٨ ].
كرّره لأن الأول مرتّب على ذبح بهيمة الأنعام، الشاملة للبُدْن، والبقر، والغنم، والثاني مرتَّب على ذبح البُدن خاصة، وإن وافقه في حكم ذبح الآخرين.
قوله تعالى :﴿ أُذن للذين يقاتَلون بأنهم ظُلموا... ﴾ [ الحج : ٣٩ ]. أي أُذن للذين يريدون أن يقاتلوا في القتال.
قوله تعالى :﴿ الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربّنا الله... ﴾ [ الحج : ٤٠ ]. الاستثناء فيه منقطع بمعنى لكن أُخرجوا بقولهم ربُّنا الله، أو هو من باب تأكيد المدح بما يشبه الذّم، كقول الشاعر :
ولا عيبَ فيهم غير أنّ سيوفهم بهنّ فلولٌ من قِرَاعِ الكتائب
أي إن كان فيهم عيب فهو هذا، وهذا ليس بعيب، فلا عيب فيهم.
قوله تعالى :﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهُدِّمت صوامع وبِيع ﴾ الآية [ الحج : ٤٠ ].
فإن قلتَ : أيّ مِنّة على المؤمنين، في حفظ " الصّوامع " و " البِيَع " و " الصلوات " أي الكنائس عن الهدم، حتى امتنّ عليهم بذلك ؟   !
قلتُ : المِنّة عليهم فيها أن الصّوامع، والبيع، في حِرسهم وحفظهم، لأن أهلها محترمون. أو المراد لهدّمت صوامع وبيع في زمن عيسى عليه السلام، وكنائس في زمن موسى عليه السلام، ومساجد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فالامتنان على أهل الأديان الثلاثة، لا على المؤمنين خاصّة( ١ ).
١ - معنى الآية: أنه لولا ما شرعه الله من الجهاد، وقتال أعداء الله، لاستولى أهل الشرك على أهل الأديان، وتعطّلت الشعائر الدينية، فهُدّمت معابد الرهبان، وكنائس النصارى، ومعابد اليهود، ومساجد المسلمين، ولاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة، فهدموا مواضع عبادتهم، ولكن الله تعالى حكيم، ولذلك شرع الجهاد، لدفع شرّ هؤلاء الكفار الفجّار، وإنما وصف المساجد بقوله ﴿ومساجد يُذكر فيها اسم الله كثيرا﴾. تعظيما وتشريفا، لأنها أماكن العبادة الحقة. ا ﻫ وانظر كتابنا صفوة التفاسير ٢/٢٩٢..
قوله تعالى :﴿ وكُذّب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير ﴾ [ الحج : ٤٤ ].
إنما لم يقل :«وبنوا إسرائيل » في قوم موسى، عطفا على " قوم نوح " ؟   !
لأن قوم موسى لم يكذّبوه، بل غيرهم وهم القِبْط، أو الإبهام في بناء الفعل للمفعول، للتفخيم والتعظيم، أي وكُذِّب موسى أيضا مع وضوح آياته، وعِظم معجزاته، فما ظنّك بغيره( ١ ) ؟
١ - لم تكن معجزة موسى عليه السلام معجزة واحدة، بل كانت كثيرة وشهيرة، فقد أيّده الله باليد، والعصا، وانغلاق البحر إلى مسالك وطرقات لنجاة بني إسرائيل، وبالطوفان، والجراد، والقُمّل، والضفادع، والدم، الذي أصاب قوم فرعون، ومع كل هذه الآيات والخوارق والمعجزات، كذّبه الأشقياء الفُجّار..
قوله تعالى :﴿ فكأيّن من قرية أهلكناها وهي ظالمة... ﴾ [ الحج : ٤٥ ].
قال ذلك هنا، وقال بعدُ :﴿ وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ﴾ [ الحج : ٤٨ ] موافقة لما قبلهما، إذ ما هنا تقدّمه معنى الإهلاك بقوله ﴿ فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم ﴾ [ الرعد : ٣٢ ] أي أهلكتهم.
وما بعدُ تقدّمه ﴿ ويستعجلونك بالعذاب ﴾ [ الحج : ٤٧ ] وهو يدلّ على أن العذاب لم يأتهم في الوقت، فحسُن ذكر الإهلاك في الأول، والإملاء –أي التأخير- في الثاني.
قوله تعالى :﴿ فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصّدور ﴾ [ الحج : ٤٦ ].
إن قلتَ : ما فائدة ذلك، مع أن القلوب لا تكون إلا في الصدور ؟   !
قلتُ : فائدته المبالغة في التأكيد، كما في قوله تعالى :﴿ يقولون بأفواههم ﴾ [ آل عمران : ١٦٧ ].
أو القلب هنا بمعنى العقل، كما قيل به في قوله تعالى :﴿ إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب ﴾ [ ق : ٣٧ ] أي عقل، ففائدة التقييد، الاحتراز عن القول الضعيف، بأن العقل في الدماغ( ١ ).
١ - القول الأول هو الأظهر، أنه للتأكيد ونفي توهّم المجاز، فكأنه يقول: ليس العمى على الحقيقة عمى البصر، وإنما العمى عمى البصيرة، من كان أعمى القلب فإنه لا يعتبر، ولا يتذكّر، ولا يتدبر..
قوله تعالى :﴿ وما أرسلناك من قبلك من رسول ولا نبي... ﴾ الآية [ الحج : ٥٢ ].
الرسول : إنسان أُوحي إليه بشرع وأُمر بتبليغه.
والنبيّ : إنسان أوحي إليه بشرع، وإن لم يؤمر بتبليغه، فهو أعمّ من الرسول( ١ ).
١ - كل رسول نبي ولا عكس، فالنبيّ أعمّ من الرسول..
قوله تعالى :﴿ ذلك بأن الله هو الحقّ وأن ما يدعون من دونه هو الباطل... ﴾ الآية [ الحج : ٦٢ ].
قاله هنا بتأكيده ب " هو " وقاله في لقمان( ١ ) بدونه، لموافقة كلّ منهما ما قبله، وما بعده، لأن ما هنا تقدّمه تأكيدات، بعضُها ب " أنّ " وبعضها باللام، وبعضها بهما، بخلافة ثَمّ، ولهذا قال هنا :﴿ وإن الله لهو الغني الحميد ﴾ [ الحج : ٦٤ ] وقال ثَمّ :﴿ وأنّ ما يدعون من دونه هو الباطل وأنّ الله هو العليّ الكبير ﴾.
١ - في لقمان ﴿ذلك بأن الله هو الحق وأنّ ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العليّ الكبير﴾ آية (٣٠) فقد وردت بدون "هو" في لقمان، بخلاف آية الحج، فإنها وقعت بين عشر آيات، كلّ آية مؤكدة مرة أو مرتين فناسبها التأكيد بقوله ﴿هو الباطل﴾..
قوله تعالى :﴿ وما جعل عليكم في الدين من حرج... ﴾ [ الحج : ٧٨ ].
إن قلتَ : كيف لا حرج فيه مع أن في قطع يد بسرقة ربع دينار، ورجم محصن بزنى مرّة، ووجوب صوم شهرين متتابعين، بإفساد يوم من رمضان بوطء، ونحو ذلك حرجا ؟   !
قلتُ : المراد بالدين : التوحيد، ولا حرج فيه، بل فيه تخفيف، فإنه يكفّر ما قبله من الشرك وإن امتدّ، ولا يتوقف الإتيان به على زمان أو مكان معيّن.
أو أن كلّ ما يقع الإنسان فيه من المعاصي، يجد له مخرجا في الشرع، بتوبة، أو كفارة، أو رخصة، أو المراد نفي الحرج الذي كان في بني إسرائيل( ١ ).
١ - لا حاجة إلى هذه التأويلات، فإن المراد بالآية الكريمة نفي المشقة والكلفة عن شرائع الإسلام، فالإسلام دين اليسر، والمعنى: ما جعل عليكم في هذا الدين من ضيق ولا مشقة، ولا كلفكم ما لا تطيقون، بل هي الحنيفية السمحة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (إن الدين يسر، ولن يُشادَّ الدين أحدٌ إلا غلبه) رواه البخاري..
Icon