إن قلتَ : لم ترك البسملة فيها دون غيرها ؟
قلتُ : لاختلاف الصحابة في أنّ " براءة " و " الأنفال " سورتان، أو سورة واحدة، نظرا لأن كلا منهما نزل في القتال، فترك بينهما فُرجة، عملا بالأول، وتُركت البسملة عملا بالثاني.
أو لأن البسملة أمان، وبراءة فيها قتلُ المشركين ومحاربتُهم، فلا مناسبة بينهما.
أو لأن الأنفال، لمّا تضمّنت طلبَ موالاة المؤمنين، بعضهم بعضا، وأن ينقطعوا عن الكفّار بالكليّة، وكان قوله تعالى :﴿ براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ﴾ تقريراً وتأكيداً، لذلك تُركت البسملة بينهما( ١ ).
كرّر ذلك بإبدال الضمير ب " مؤمن " في قوله تعالى :﴿ لا يرقبون في مؤمن إلاّ ولا ذمة ﴾ [ التوبة : ١٠ ] لأن الأول وقع جوابا لقوله :﴿ وإن يظهروا عليكم ﴾ أي الكفار. والثاني وقع إخباراً عن تقبيح حالهم.
قوله تعالى :﴿ ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل... ﴾ [ التوبة : ٣٠ ]. فائدة قوله :﴿ بأفواههم ﴾ مع أن القول لا يكون إلا بالفم، الإعلام بأن ذلك مجرّد قول، لا أصل له، مبالغة في الرّدّ عليهم.
أو أن المراد بالهدى القرآن، وبالدّين الإسلام.
أو إلى عوده إلى المعنى( ١ )، لأن المكنوز دراهم ودنانير، ونظيره قوله :﴿ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ﴾ [ الحجرات : ٩ ].
إن قلتَ : لم خصّ الأربعة الحرم بذلك، مع أن ظلم النفس منهيّ عنه في كل زمان ؟
قلتُ : لم يخصَّها به، إذ الضمير عائد إلى " اثنا عشر شهرا " كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما، لا إلى الأربعة الحُرُم فقط.
أو خصّها به لقربها، أو لمزيد فضلها وحرمتها عندهم في الجاهلية.
إن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أن كثيرا من المؤمنين، استأذنوه في ذلك لعذر، أخذا من قوله تعالى :﴿ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه ﴾ [ النور : ٦٢ ].
قلتُ : لا منافاة، لأن ذلك نفي بمعنى النهي كقوله تعالى :﴿ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجّ ﴾ [ البقرة : ١٩٧ ] أو هو منسوخ كما قال ابن عباس بقوله :«لم يذهبوا حتى يستأذنوه ».
أو المراد أنهم لا يستأذنوه في ذلك لغير عذر.
إن قلتَ : كيف أمرهم بالقعود عن الجهاد، مع أنه ذمّهم عليه ؟
قلتُ : إنما أمرهم بذلك أمر توبيخ، كقوله تعالى :﴿ اعملوا ما شئتم ﴾ [ فصلت : ٤٠ ] بقرينة قوله :﴿ مع القاعدين ﴾ أي من النّساء، والصّبيان، والزّمنَى، الذين شأنهم القعود في البيوت.
أو الآمر لهم إنما هو الشيطان بالوسوسة، أو بعضهم بعضا.
فإن قلتَ : إذا علم الله أن المنافقين، لو خرجوا مع المؤمنين للجهاد، ما زادوهم إلا خبالا أي فساداً، ولأوضعوا خلالهم أي لأسرعوا في السّعي بينهم بالنميمة، فكيف أمرهم بالخروج مع المؤمنين ؟
قلتُ : أمرهم بالخروج لإلزامهم الحجّة، ولإظهار نفاقهم.
قوله تعالى :﴿ إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ﴾ قاله هنا بالباء في المتعاطفين، وقاله ثانيا، وثالثا بحذفها من المعطوف، لأن ما في الأول غاية التوكيد بقوله :﴿ وما منعهم أن تُقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا ﴾ فأكّد المتعاطفين بالباء، ليكون الكلام على نسق واحد، بخلاف الثاني( ٢ ) والثالث( ٣ )، لم يتقدمهما ذلك.
٢ - في قوله تعالى: ﴿إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله... ﴾..
٣ - في قوله تعالى: ﴿ولا تصلّ على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله... ﴾..
لأن الفاء تتضمّن معنى الجزاء، والفعل قبلها في قوله :﴿ ولا يأتون الصلاة ﴾ [ التوبة : ٥٤ ] وقوله :﴿ ولا ينفقون ﴾ [ التوبة : ٥٤ ] لكونه مستقبلا، يتضمّن معنى الشرط، فناسب فيه الفاء، وما بعدُ ذكر قبله ﴿ كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون ﴾ [ التوبة : ٨٤ ] والفعل فيهما لكونه ماضيا، لا يتضمّن معنى الشرط، فناسب فيه الواو، وقوله :﴿ ولا أولادهم ﴾ ذكره هنا ب ( لا ) وفيما بعد بدونها، لما في زيادتها هنا من التوكيد المناسب لغاية التوكيد، بالحصر فيما قبلها، وذلك مفقود فيما بعد.
وعدّاه إلى المؤمنين باللام، لتضمّنه معنى الانقياد، وموافقة لكثير من الآيات، كقوله تعالى :﴿ وما أنت بمؤمن لنا ﴾ [ يوسف : ١٧ ] وقوله :﴿ أفتطمعون أن يؤمنوا لكم ﴾ [ البقرة : ٧٥ ] وقوله :﴿ أنؤمن لك واتّبعك الأرذلون ﴾ [ الشعراء : ١١١ ] ؟
وأما قوله تعالى في موضع ﴿ قل آمنتم له قبل أن آذن لكم ﴾ [ طه : ٧١ ] وفي آخر ﴿ آمنتم به ﴾ [ يونس : ٥١ ] فمشترك الدلالة، بين الإيمان بموسى، والإيمان بالله، لأن من آمن بموسى حقيقة آمن بالله كعكسه.
إن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أن إنزال السورة إنما هو على النبي لا عليهم ؟
قلتُ : " على " بمعنى " في " كما في قوله تعالى :﴿ واتّبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ﴾ [ البقرة : ١٠٢ ] أو أن الإنزال هنا بمعنى القراءة عليهم.
فإن قلتَ : الحذر واقع منهم على إنزال السورة، فكيف قال :﴿ إن الله مخرج ما تحذرون ﴾ [ التوبة : ٦٤ ] ؟
قلتُ : معناه إن الله مظهر ما تحذرون ظهوره من نفاقكم، بإنزال هذه السورة، وهو المناسب لقوله :﴿ ننبّئهم بما في قلوبهم ﴾ أو مظهرٌ ما تحذرون من إنزال هذه السورة.
فإن قلتَ :﴿ ننبئهم بما في قلوبهم ﴾ تحصيل الحاصل، لأنهم عالمون به ؟
قلتُ : تنبّئهم بأسرارهم، وما كتموه، شائعة ذائعة، وتفضحهم بظهور ما اعتقدوا أنه لا يعرفه غيرهم.
إن قلتَ : كيف قال ذلك هنا ب " مِنْ " وقال في قوله :﴿ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ﴾ بلفظ " أولياء " مع أن " مِنْ " أدلّ على المجانسة، لاقتضائها البعضية، فكانت بالمؤمنين أولى، لأنهم أشدّ تجانسا في الصفات ؟ !
قلتُ : المراد بقوله ﴿ بعضهم من بعض ﴾ على دين بعض، لأن " مِنْ " تأتي بمعنى " على " كما في قوله تعالى :﴿ ونصرناه من القوم ﴾ [ الأنبياء : ٧٧ ] وقوله :﴿ للذين يؤلون من نسائهم ﴾ [ البقرة : ٢٢٦ ] أي يحلفون على عدم وطئهنّ، والمراد بقوله :﴿ بعضهم أولياء بعض ﴾ أنصارهم وأعوانهم في الدّين، وعلى ذلك فكلّ من اللفظين يصلح مكان الآخر، لكن للولاية شرف، فكانت أولى بالمؤمنين والمؤمنات.
وأما عباداتهم التي تجري بها أحكام المسلمين عليهم، كحقن دمائهم وأموالهم، فينتفعون بها في الدنيا خاصة ولا عبرة به.
إن قلتَ : لم خصّص الأرض بالذكر، مع أنهم لا وليّ لهم في الأرض، ولا في السماء، ولا في الدنيا ولا في الآخرة ؟ !
قلتُ : لمّا كانوا لا يعتقدون الوحدانية، ولا يصدّقون بالآخرة، كان اعتقادهم وجود الوليّ والنّصير، مقصوراً على الدنيا، فعبّر عنها في الأرض.
أو أراد بالأرض أرض الدنيا والآخرة.
إن قلتَ : لم خصّ السّبعين، مع أنهم لا يُغفر لهم أصلا، لقوله تعالى :﴿ سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم ﴾ [ المنافقون : ٦ ] ولأنهم مشركون، والله لا يغفر أن يشرك به ؟
قلتُ : لأن عادة العرب جرت بضرب المثل في الآحاد بالسبعة، وفي العشرات بالسبعين، استكثاراً ولا يريدون الحصر.
فإن قلتَ : لو كان المراد ذلك، لما خفيَ على أفصح العرب، وأعلمهم بأساليب الكلام، حتى قال لما أُنزلت هذه الآية : لأزيدنّ على السبعين، لعل الله أن يغفر لهم.
قلتُ : لم يَخْفَ عليه ذلك، وإنما أراد بما قال إظهار كمال رأفته، ورحمته بمن بُعث إليهم، وفيه لطف بأمته وحثّ لهم على المراحم، وشفقة بعضهم على بعض، وهذا دأب الأنبياء عليهم السلام، كما قال إبراهيم عليه السلام :﴿ ومن عصاني فإنك غفور رحيم ﴾ [ إبراهيم : ٣٦ ].
لأن الأول : في المنافقين، ولا يطّلع على ضمائرهم إلا الله، ثم رسوله بإطلاع الله إياه عليها. والثاني في المؤمنين، وطاعاتُهم وعباداتُهم ظاهرة لله ولرسوله وللمؤمنين، وختم الأول بقوله :﴿ ثم تردّون ﴾ ليفيد قطعه عمّا قبله، لأنه وعيد... وختم الثاني بقوله :﴿ وستردّون ﴾ [ التوبة : ١٠٥ ] ليفيد وصله بما قبله لأنه وعد، فناسب في الأول " ثُمّ " وحذف " والمؤمنون " وفي الثاني " الواو " وذكر " والمؤمنون ".
فإن قلتَ : السّين في " سيرى الله " للاستقبال، والرؤية بمعنى العلم، والله تعالى عالم بعملهم حالا ومآلا، فكيف جمع بينهما ؟ !
قلتُ : معناه في حقّ الله، أنه سيعلمه واقعا مآلا، كما علمه غير واقع حالا، لأن الله تعالى يعلم الأشياء على ما هي عليه، فيعلم الواقع واقعا، وغير الواقع غير واقع، أمّا في حقّ الرسول فهو ظاهره.
فإن قلتَ : وصفَ العرب بأنهم جاهلون بذلك، ينافي صحّة الاحتجاج بألفاظهم وأشعارهم، على كتاب الله وسنّة نبيه ؟ !
قلتُ : لا منافاة، إذ وصفهم بالجهل إنما هو في أحكام القرآن، لا في ألفاظه، ونحن لا نحتجّ بلغتهم في بيان الأحكام، بل في بيان معاني الألفاظ، لأن القرآن والسّنة جاءا بلغتهم.
فإن قلتَ : كيف نفى عنه علمه بحال المنافقين هنا، وأثبته له في قوله :﴿ ولتعرفنّهم في لحن القول ﴾ [ محمد : ٣٠ ] ؟
قلتُ : آية النّفي نزلت قبل آية الإثبات فلا تنافي.
إن قلتَ : لم عطفه دون ما قبله من الصّفات ؟
قلتُ : لأنه وقع بعد سبع صفات، وعادة العرب أن تُدخل الواو بعد السّبعة.
وما ذُكر في الآية الثانية : مختصّ بما هو من عملهم، وهو قوله :﴿ ولا ينفقون نفقة صغيرة ﴾ [ التوبة : ١٢١ ] إلى آخره، ليُكتب لهم ذلك بعينه، ولهذا خصّهم عقِبه في قوله :﴿ ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون ﴾ [ التوبة : ١٢١ ].
وقوله : " أحسن " أي بأحسن، والمراد بحَسَن عملهم، إذ لا يختصّ جزاؤهم بأحسن عملهم... أو المراد ليجزيهم أحسن من الذي كانوا يعملون.