تفسير سورة الرّوم

الوجيز للواحدي
تفسير سورة سورة الروم من كتاب الوجيز في تفسير الكتاب العزيز المعروف بـالوجيز للواحدي .
لمؤلفه الواحدي . المتوفي سنة 468 هـ
مكية ستون آية

﴿الم﴾
﴿غلبت الروم﴾ غلبتها فارس ﴿في أدنى الأرض﴾ أدنى أرض الشَّام من أرض العرب وفارس وهي أذرعات وعسكر ﴿وهم﴾ والرُّوم ﴿من بعد غلبهم﴾ غلبة فارس إيَّاهم ﴿سيغلبون﴾ فارس
﴿في بضع سنين﴾ البضع: ما بين الثّلاث إلى التِّسع ﴿لله الأمر من قبل﴾ من قبل أن تغلب الرُّوم ﴿ومن بعد﴾ ما غلبت ﴿ويومئذٍ يفرح المؤمنون﴾ يوم تغلب الرُّومُ فارسَ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ﴿بِنَصْرِ اللَّهِ﴾ الرُّوم لأنَّهم أهل كتاب فهم أقرب إلى المؤمنين وفارس مجوس فكانوا أقرب إلى المشركين فالمؤمنون يفرحون بنصر الله الرُّوم على فارس والمشركون يحزنون لذلك
﴿فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ﴾
﴿بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم﴾
﴿وعد الله﴾ وعد ذلك وعداً ﴿ولكنَّ أكثر الناس﴾ يعني: مشركي مكَّة ﴿لا يعلمون﴾ ذلك ثمَّ بيَّن مقدار ما يعلمون فقال:
﴿يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا﴾ يعني: أمر معاشهم وذلك أنَّهم كانوا أهل تجارة وتكسب بها
﴿أولم يتفكروا في أنفسهم﴾ فيعلموا ﴿ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلاَّ بالحق﴾ أَيْ: للحقِّ وهو الدّلالة على توحيده وقدرته ﴿وأجل مسمى﴾ ووقتٍ معلومٍ تفنى عنده يعني: يوم القيامة وقوله:
﴿وأثاروا الأرض﴾ أَيْ: قلبوها للزِّراعة ﴿وعمروها أكثر مما عمروها﴾ يعني: إنَّ الذين أُهلكوا من الأمم الخالية كانوا أكثر حرثاَ وعمارةً من أهل مكَّة
﴿ثم كان عاقبة الذين أساؤوا﴾ أشركوا ﴿السوأى﴾ النَّار ﴿أن كذَّبوا﴾ بأن كذَّبوا وقوله:
﴿اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ ترجعون﴾
﴿يبلس المجرمون﴾ أَيْ: يسكتون لانقطاع حجَّتهم وليأسهم من الرَّحمة
﴿ولم يكن لهم من شركائهم﴾ أوثانهم التي عبدوها رجاء الشَّفاعة ﴿شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين﴾ قالوا: ما عبدتمونا وقوله:
﴿يومئذ يتفرَّقون﴾ يعني: المؤمنين والكافرين ثمَّ بيَّن كيف ذلك التفرق فقال:
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي روضة يحبرون﴾ أَي: يسمعون في الجنَّة
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فأولئك في العذاب محضرون﴾
﴿فسبحان الله﴾ فصلُّوا لله سبحانه ﴿حين تمسون﴾ يعني: صلاة المغرب والعشاء الآخرة ﴿وحين تصبحون﴾ صلاة الفجر ﴿وعشياً﴾ يعني: صلاة العصر ﴿وحين تظهرون﴾ يعني: صلاة الظهر
﴿وله الحمد في السماوات وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾
﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾
﴿ومن آياته أن خلقكم من تراب﴾ يعني: أباكم آدم ﴿ثم إذا أنتم بشر تنتشرون﴾ يعني: ذريته
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ من جنسكم ﴿أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ يعني: الأُلفة بين الزَّوجين
﴿ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم﴾ وأنتم بنو رجلٍ واحدٍ وامرأةٍ واحدةٍ
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فضله﴾ أَي: اللَّيل لتناموا فيه والنَّهار لتبتغوا فيه من فضله
﴿ومن آياته يريكم البرق خوفاً﴾ للمسافر ﴿وطمعاً﴾ للحاضر وقوله:
﴿ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أنتم تخرجون﴾ ثم إذا دعاكم دعوة إذا أنتم تخرجون من الأرض هكذا تقدير الآية على التَّقديم والتأخير وقوله:
﴿كلٌّ له قانتون﴾ أَيْ: مُطيعون لا طاعة العبادة ولكن طاعة الإرادة خلقهم على ما أراد فكانوا على ما أراد لا يقدر أحدٌ أن يتغيَّر عمَّا خُلق عليه وقوله:
﴿وهو أهون عليه﴾ أَيْ: هيِّنٌ عليه وقيل: هو أهون عليه عندكم وفيما بينكم لأَنَّ الإِعادة عندنا أيسر من الابتداء ﴿وله المثل الأعلى﴾ الصِّفة العليا وهو أنَّه لا إله إلاَّ هو ولا ربَّ غيره
﴿ضرب لكم مثلاً﴾ بيَّن لكم شبهاً في اتِّخاذكم الأصنام شركاء مع الله سبحانه ﴿من أنفسكم﴾ ثمَّ بيَّن ذلك فقال: ﴿هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ من العبيد والإماء ﴿مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ من المال والولد أّيْ: هل يشاركونكم فيما أعطاكم الله سبحانه حتى تكونوا أنتم وهم ﴿فيه سواء تخافونهم﴾ أن يرثوكم كما يخاف بعضكم بعضاً أن يرثه ماله والمعنى: كما لا يكون هذا فكيف يكون ما هو مخلوقٌ لله تعالى مثلَه حتى يُعبد كعبادته؟ فلمَّا لزمتهم الحجَّة بهذا ذكر أنَّهم يعبدونها باتَّباع الهوى فقال: ﴿بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم﴾ في عبادة الأصنام
﴿بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ من ناصرين﴾
﴿فأقم وجهك للدين حنيفاً﴾ أَيْ: أقبل عليه ولا تُعرض عنه ﴿فطرة الله﴾ أي: اتَّبع فطرة الله أَيْ: خِلقة الله التي خلق النَّاس عليها وذلك أنَّ كلَّ مولودٍ يُولد على ما فطره الله عليه من أنَّه لا ربَّ له غيره كما أقرَّ له لمَّا أُخرج من ظهر آدم عليه السَّلام ﴿لا تبديل لخلق الله﴾ لم يبدَّلِ الله سبحانه دينه فدينُه أنَّه لا ربَّ غيره ﴿ذلك الدين القيم﴾ المستقيم
﴿منيبين إليه﴾ راجعين إلى ما أمر به وهو حالٌ من قوله: ﴿فأقم وجهك﴾ والمعنى: فأقيموا وجوهكم لأنَّ أمره أمرٌ لأمته وقوله:
﴿من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً﴾ مفسَّرٌ في سورة الأنعام ﴿كلُّ حزب﴾ كلُّ جماعةٍ من الذين فارقوا دينهم ﴿بما لديهم فرحون﴾ أَيْ: يظنون أنَّهم على الهدى ثمَّ ذكر أنَّهم مع شركهم لا يلتجئون في الشَّدائد إلى الأصنام فقال:
﴿وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إليه﴾ الآية وقوله:
﴿ليكفروا بما آتيناهم﴾ مفسَّرٌ في سورة العنكبوت إلى قوله:
﴿أم أنزلنا﴾ أَيْ: أَأنزلنا ﴿عليهم سلطاناً﴾ كتاباً ﴿فهو يتكلَّم بما كانوا به يشركون﴾ ينطق بعذرهم في الإِشراك
﴿وإذا أذقْنا الناس رحمة فرحوا بها﴾ الآية هذا من صفة الكافر يبطر عند النِّعمة ويقنط عند الشدة ولا يشكر في الأُولى ولا يحتسب في الثانية
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يؤمنون﴾
﴿فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هم المفلحون﴾
﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ الناس﴾ يعني: ما يعطونه من الهدية ليأخذوا أكثر منها وهو من الرِّبا الحلال ﴿فلا يربو عند الله﴾ لأنَّكم لم تريدوا بذلك وجه الله وقوله: ﴿فأولئك هم المضعفون﴾ أصحاب الإِضعاف يُضَاعِفُ لهم بالواحدة عشراً
﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يشركون﴾
﴿ظهر الفساد﴾ القحط وذهاب البركة ﴿في البر﴾ القفار ﴿والبحر﴾ القرى والرِّيف ﴿بما كسبت أيدي الناس﴾ بشؤم ذنوبهم ﴿ليذيقهم بعض الذي عملوا﴾ كان ذلك لِيُذَاقوا الشِّدَّة بذنوبهم في العاجل
﴿قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ﴾
﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يأتي يومٌ﴾ القيامةُ فلا ينفع نفساً إيمانها ﴿يومئذٍ يصدَّعون﴾ يتفرَّقون فريقٌ في الجنَّة وفريقٌ في السَّعير
﴿مَنْ كفر فعليه كفره﴾ أي: وبال كفره وعذابه ﴿ومَنْ عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون﴾ يفرشون ويسؤون المضاجع والمعنى: لأنفسهم يبغون الخير
﴿ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات﴾ بالمطر ﴿وليذيقكم من رحمته﴾ نعمته بالمطر يُرسلها ﴿ولتجري الفلك بأمره﴾ وذلك أنَّها تجري بالرِّياح ﴿ولتبتغوا من فضله﴾ بالتِّجارة في البحر وقوله:
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فضله ولعلكم تشكرون﴾
﴿فانتقمنا من الذين أجرموا﴾ أَيْ: عاقبنا الذين اشركوا ﴿وكان حقاً عليناً نصر المؤمنين﴾ في العاقبة وكذلك ننصرك في العاقبة على مَنْ عاداك
﴿الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً﴾ تُزعجها وتُخرجها من أماكنها ﴿فيبسطه﴾ الله ﴿في السماء كيف يشاء ويجعله كسفاً﴾ قطعاً يريد أنَّه مرَّةً يبسطه ومرَّةً يقطعه ﴿فترى الودق﴾ المطر ﴿يخرج من خلاله﴾ وسطه وشقوقه ﴿فَإِذَا أَصَابَ بِهِ﴾ بالودق ﴿مَنْ يَشَاءُ مِنْ عباده إذا هم يستبشرون﴾ يفرحون
﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ﴾ المطر ﴿من قبله﴾ كرَّر من قبل التأكيد ﴿لمبلسين﴾ آيسين
﴿فانظر إلى آثار رحمة الله﴾ يعني: آثار المطر الذي هو رحمة الله تعالى ﴿كيف يحيي الأرض﴾ جعلها تنبت ﴿بعد موتها﴾ يبسطها ﴿إنَّ ذلك﴾ الذي فعل ذلك وهو الله عزَّ وجل ﴿لمحيي الموتى﴾
﴿ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً﴾ رأوا النَّبت قد اصفرَّ وجفَّ ﴿لظلُّوا من بعده يكفرون﴾ يريد: إنَّ الكفَّار يستبشرون بالغيث فإذا جفَّ النَّبت ولم يحتاجوا إلى الغيث ظلوا يكفوا بنعمة الله عز وجل فلم يؤمنوا ولم يشكروا إنعامه بالمطر
﴿فإنك لا تسمع الموتى﴾ مضت الاية في سورة الأنبياء والتي بعدها في سورة النمل
﴿وما أنت بهاد الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يؤمن بآياتنا فهم مسلمون﴾
﴿الله الذي خلقكم من ضعف﴾ من نطفةٍ الآية
﴿ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون﴾ يحلف الكافرون ﴿ما لبثوا﴾ في قبورهم ﴿غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون﴾ أَيْ: كذَّبوا في هذا الوقت كما كانوا يُكذِّبون في الدُّنيا
﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ في كتاب الله﴾ أَيْ: فيما بيَّن في كتابه وهو اللوح المحفوظ ﴿يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون﴾ أنَّه يكون وقوله:
﴿ولا هم يستعتبون﴾ أَيْ: لا يُطلب منهم أن يرجعوا إلى ما يرضي الله سبحانه
﴿ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كلِّ مثل﴾ بيَّنا لهم الأمثال للاعتبار ﴿ولئن جئتهم بآية﴾ لهم فيها بيانٌ واعتبارٌ ﴿لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُبْطِلُونَ﴾ ما أنتم إلاَّ أصحاب الأباطيل
﴿كذلك﴾ كما طبع الله على قلوبهم حتى لم يفهموا ﴿يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ أدلَّة التَّوحيد
﴿فاصبر إنَّ وعد الله﴾ في نصرك وتمكينك ﴿حق ولا يستخفنَّك﴾ لا يستفزنَّك عن دينك ﴿الذين لا يوقنون﴾ أي: الضُّلال الشَّاكُّون
Icon