تفسير سورة الشعراء

بيان المعاني
تفسير سورة سورة الشعراء من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

تفسير سورة الشعراء عدد ٤٧- ٢٦
نزلت بمكة بعد الواقعة عدا الآيات ١٩٧ ومن ٢٢٤ إلى آخر السورة، فإنها نزلت بالمدينة وهي مائتان وسبع وعشرون آية، وألف ومائتان وتسع وتسعون كلمة، وخمسة آلاف وأربعون حرفا، ويوجد في القرآن سورة القصص مبدوءة بمثل ما بدئت به هذه فقط، أما سورة النمل فهي بغير ميم لا نظير لها في القرآن، إلا أنه يعبر عن هذه السور الثلاث بالطواسيم، كما يعبر عن السور السبع الآتية في ج ٢ بالحواميم، وآل حاميم، لأنها مبدوءة بلفظ حم.
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ»
قال تعالى: «طسم» ١ القول في معناه كالقول في معنى الم وبقية الحروف المقطعة، وعلى القول بأن هذه اللفظة قسم من الله تعالى، فيقال إنه أقسم بطوله وسنائه وملكه، وعلى القول بأنها مفاتيح بعض أسمائه تعالى فهي مفتاح اسمه السلام والمالك والمحيي وشبهها، والصحيح أنه رمز بين الله ورسوله، راجع بحث الفرق بين الوحي والإلهام في المقدمة «تِلْكَ» أي هذه الآيات المنزلة عليك يا سيد الرسل هي «آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ» ٢ لكل شيء الظاهر إعجازه لكل أحد الدال على صحة نبوتك «لَعَلَّكَ»
يا حبيبي «باخِعٌ نَفْسَكَ» البخع أن يبلغ الذابح البخاع وهو عرق مستبطن الفقار أو أقصى حد الذبح، ولم تكرر هذه الكلمة في القرآن لا في سورة الكهف الآية ٦ في ج ٢، ولعلّ للإشفاق وتقال للتعطف على من تحبه إذا رأيته مبالغا بأمر يؤثر عليه مادة أو معنى شفقة عليه، أي مالك متلف نفسك من أجل «أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» ٣ أي لا تفعل هذا بسبب عدم إيمان قومك بل تريث عليهم وتمهل على نفسك وارفق بها من أن تهلكها حسرة وأسفا وجهدا «إِنْ نَشَأْ» نحن إله السموات والأرض إيمانهم قسرا إجابة لاستعجالك «نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً» عظيمة تلجئهم إلى الإيمان حالا «فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها» للخوف من تلك الآية المهولة «خاضِعِينَ» ٤ منقادين إلى الطاعة لا ينفكون عنها أبدا، فلا ترى منهم من
256
يميل إلى عصيانك ولكنّا لا نفعل ذلك لأن الإيمان الجبري لا عبرة به، ولو كان له قيمة لآمن يوم القيامة جميع الخلق لما يشاهدون من الأهوال، ولآمن كل من في الدنيا حين يقع في يأس أو بأس، فاتركهم الآن، لأن شأنهم شأن أمثالهم الكفرة من أمم الرسل السالفة، راجع تفسير الآية ٨ من سورة فاطر والآية ١٧١ من سورة الأعراف المارتين «وَ» هؤلاء «ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ» قرآن يتذكرون به «مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ» إنزاله عليك وتلاوته عليهم بحسب الحاجة والواقع مما هو أزلي في علمنا «إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ» مولين لا يلتفتون إليه، وهكذا كلما جدد الله لهم ذكرا ليتعظوا به، جددوا له كفرا وإعراضا «فَقَدْ كَذَّبُوا» بك يا حبيبي وبما أنزلناه عليك كما كذب الأولون أنبياءهم وكتبهم، فلا يهمنك تكذيبهم وإعراضهم «فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا» أخبار وعواقب «ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» ٦ عند ما يمسهم عذاب الدنيا بالجلاء والأسر والقتل وعذاب الآخرة بالخزي والهوان والإحراق يعلمون نتيجة استهزائهم وعاقبة تكذيبهم، ثم ضرب مثلا لمنكري البعث بعد أن هددهم بما تقدم فقال جل قوله «أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ» ٧ محمود كثير المنفعة بعد أن كانت لا شيء فيها قبل إنزال الغيث «إِنَّ فِي ذلِكَ» الإنبات لأنواع الحبوب والأزهار والأب لقوت الإنسان والحيوان والطير والحيتان «لَآيَةً» كافية على قدرتنا لإحيائكم بعد الموت وعلى وجوب إيمانكم بنبيئنا وكتابنا:
تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات بأهداب هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك
والمراد بهذا النبات هو النرجس، ممن كان له عقل سليم عرف بمجرد تأمله وتفكره في ذلك عظمة القادر فآمن به وصدق رسوله وكتابه، وهؤلاء قليل «وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ» ٨ لتوغلهم بالكفر وتماديهم في الضلال «وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ» الغالب القوي القادر على الانتقام منهم «الرَّحِيمُ» ٩ بأوليائة يقيهم شر أعدائه وينصرهم عليهم ويهلكهم عند يأس أنبيائه من إيمانهم «وَ» اذكر لقومك
257
يا سيد الرسل «إِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى» من الشجرة كما مر في الآية ١٢ من سورة طه فقال له «أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» ١٠ أنفسهم بالكفر وبني إسرائيل بالعسف،
ثم بين هؤلاء القوم بقوله اعني «قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ» ١١ عقوبة الله فيؤمنوا به ويتركوا الإسرائيليين، وقد ذكرهم الله في هذه القصة علهم ينتبهوا من سباتهم فيخافوا العاقبة فيؤمنوا به «قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ١٢ وَيَضِيقُ صَدْرِي» بتكذيبهم «وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي» بسبب العقدة العائقة عن الفصاحة في النطق، وتقدم في الآية ٢٨ من طه أنها في قوة التكلم لا في الجارحة نفسها وقد بينا هناك ماهيتها وسببها «فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ» ١٣ يعينني على التبليغ بمهابته وقوة نطقه «وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ» بقتل القبطي منهم «فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ» ١٤ به قصاصا، وستأتي قصته مفصلة في الآية ١٤ من سورة القصص الآتية، «قالَ كَلَّا» لا يقتلونك ولا يضربونك أبدا فأنا حافظك منهم (نذكر بأن كلمة كلّا هذه المفيدة للزجر والردع كررت في القرآن العظيم ثلاثا وثلاثين مرة منها ما يجوز الوقف عليها ومنها ما لا يجوز) «فَاذْهَبا» اليه أنت وأخوك لأني آزرتك به حسب طلبك متلبسين ومتقوين «بِآياتِنا» التي هي النبوة والرسالة وبرهانهما اليد والعصا وهما أول ما أعطيهما موسى عليه السلام «إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ» ١٥ ما تقولانه له وما يقوله لكم، وقد أجراهما في الخطاب مجرى الجماعة تعظيما لشأنهما وجريا على لغة العرب المنزل هذا القرآن عليهم وإليهم ثم قال لهماَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا»
لهِ نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ»
١٦ إليك لم يئن الضمير هنا لأن معنى رسول هنا مرسل الله ورسالته، فإن كان بمعنى مرسل فلا بد من التثنية، وإن كان بمعني الرسالة وهو كذلك هنا فيكون وصفا والوصف يستوى فيه الواحد والجماعة، وهو معروف عند العرب قال كثير:
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم بشيء ولا أرسلتهم برسول
أي برسالة وقال العباس بن مرداس صاحب علم حضرة الرسول، دفين دمشق، وقد سميت المحلة باسم (سنجقدار) صاحب العلم باللغة التركية وأداة النسبة فيها
258
فارسية، وضريحه أمام الجامع المسمى بجامع السنجقدار هناك وهو معروف تغمده الله برحمته ورضي عنه:
ألا من مبلغ عنى خفافا رسولا بيت أهلك منتهاها
أي رسالة بدليل تأنيث الضمير وهذا أظهر من الأول، وما قيل إن المراد بالرسول هنا موسى فقط، لأن هرون كان ردء له أي تبعا، يأباه سياق الآية بعد وسياقها قبل مما لا يخفى، أما من قال إنهما كالرسول الواحد لاتفاقهما واعتمادهما في الشريعة فله وجه، وما جرينا عليه أوجه، وقال لهما قولا له يا فرعون إن الله ربّنا وربّك أمرنا أن نبلغك «أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ» ١٧ فذهبا اليه وبلغاه فعرف فرعون موسى، لأنه نشأ في بيته، ولقد خاطبه ف «قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً» الوليد من قرب عهده بالولادة وكان كذلك حين صار الى فرعون كما مر في الآية ٣٨ من سورة طه المارة «وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ» ١٨ تحت رعايتنا وبينّت في الآية ٢١ من سورة طه مقدار هذه السنين وما بعدها «وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ» من قتلك أحد رجالنا وهي حادثة معروفة لم ننسها بعد «وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ» ١٩ لنعمتي يا موسى وحق تربتى، وتأتينا الآن بلا خوف ولا جزع وتزعم أنك رسول الله إليّ «قالَ فَعَلْتُها إِذاً» أي ذلك الوقت وأقر بالقتل ثقة بقول الله له حين قال آنفا (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ، قالَ كَلَّا) ثم قيد فعل القتل بما يدفع كونه قادحا بالنبوة بقوله: «وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ» ٢٠ الجاهلين لأنه كان دون الثالثة عشرة من عمره، ففي هذا السن لا يؤاخذ على الجريمة وهو كذلك، أي ذلك وقع من زمن صباوتي قبل استكمال عقلي فضلا عن أني لم أتعمد قتله، لأني وكزته بيدي بقصد الارتداع من التعدي على الإسرائيلي، ولم أعلم أن تلك الوكزة تفضي لموته «فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ» ان تقتلون به مع أني لا أستوجب القتل، ولكن علمت أنكم لا تفرقون بين المستحق من غيره خاصة في بني إسرائيل، لأنكم لا تدينون بدين سماوي وإن شريعتكم بحسب هوى أنفسكم، لذلك هربت منكم، وإني حقيقة تربيت في بيتك ولك عليّ حق التربية وأعترف بنعمتك علي، ولهذا أوصاني ربي أن أستعمل معك اللين جزاء لحقك،
259
ومن حق تربيتك لي وجوب إرشادي إليك مكافئة لك، راجع الآية ٤٣ من سورة طه، ثم أعلم أن الله تعالى علم نيتي فغفر لي جريمة القتل لأني فعلتها عن غير قصد حال صغري،
ثم تلطف بي وعطف علي «فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً» وأهلني له، وأوله بعضهم بالعلم أي أزال عني الجهل، وبعضهم بالنبوة، وظاهر القرآن يؤيد الأول وعليه المعول «وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ» ٢١ إليك وإلى قومك وإلى بني إسرائيل «وَتِلْكَ» التربية «نِعْمَةٌ تَمُنُّها» تمن بها من باب الحذف والإيصال «عَلَيَّ» وجدير أن تجازى بها خيرا لو لم يكن ذلك بسبب «أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ» ٢٢ قومي وأذللتهم وذبحت أولادهم خوفا على ملكك، ولولا هذا لما جعلت بين يديك ولم أكن في مهد تربيتك لأني صرت إليك بسبب ذلك، وعبّد بمعنى ذلل واتخذ عبدا، ولهذا المعنى قال موسى «تَمُنُّها» على طريق الاستفهام الإنكاري، وجاز فيه حذف حرف الاستفهام على حد قول عمر بن عبد الله ابن ربيعة:
لم أنس يوم الربيع وقفتها... وطرفها من دموعها غرق
وقولها والركاب وافقة... تتركني هكذا وتنطلق
أي أتتركني، فيكون المعنى، أتمني على تربيتي وتنسى جنايتك على بني إسرائيل الذين اتخذتهم عبيدا وعاملتهم بالقسوة ولم تقم لهم وزنا، وقد قتلت المئات منهم حرصا على ملكك ولم تراقب من أعطاكه، وقد منعك الله من قتلي لتكون نهايتك على يدي، وانك لو لم تسفك تلك الدماء وتتركني لما صرت إليك وصار لك هذا الفضل علي ولربّاني أبواي «قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ» ٢٣ سؤال عن الجنس أي أي شيء هو، ولما كان الله منزها عنه عدل موسى على جوابه الى ذكر أفعاله تعالى وآثار قدرته المعجزة «قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ» ٢٤ بأنه خالق ذلك، فاعلموا أنه لا يمكن تعريفه إلا بما ذكرته، فيكفي خلق هذه الأشياء دليلا عليه إن كنتم تعرفون الشيء بالدليل، وإذا كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدي اليه النظر الصحيح، لنفعكم هذا الجواب، ولكن أين الإيقان من فرعون وجماعته، وقال أهل المعاني كما توقنون
هذه الأشياء التي تعاينونها، فأيقنوا أن إله الخلق هو الذي خلقها وأوجدها، فتحيّر فرعون من جواب موسى والتفت الى قومه «قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ» من ملئه وأشرافهم «أَلا تَسْتَمِعُونَ» ٢٥ جواب موسى، اسأله عن ماهية ربه فيجيبني عن آثاره، فلما سمع كلامه زاده بيانا «قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» ٢٦ فإن لم تستدلوا عليه بآبائكم فاستدلوا عليه بأنفسكم، وإنما قال هذا موسى لأن فرعون ادعى الربوبية على أهل عصره فقط فاغتاظ فرعون إذ عرّض به موسى أمام قومه وجعله من جملة المربوبين، وهو يزعم أنه إله لهم فصار يندد بموسى أمامهم ليموه عليهم «قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ» ٧ ٢ بظنه وجود إله غيري وإعطائه الجواب على خلاف السؤال، فالذي لا يفهم وجوه الإجابة على مقتضى السؤال كيف يدعي الرسالة لمن يزعم أنه إلهه، ثم زاده بيانا بالعظمة «قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ» ٢٨ أجوبتي الدالة على أفعال ربي وصفاته، ولا جواب لسؤالكم إلا ما ذكرته، فإذا عقلتم تلك الأجوبة عرفتم الحقيقة. ولما رأى فرعون شدة عزم موسى وقوة حزمه وأنه لا يجارى بالمناظرة وأن أجوبته مبنية على حكم بالغة عدّده بقوله «قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ» ٢٩ والسجن عند فرعون أشد عذابا من القتل، لأنه يأمر بإلقاء السجين في هوة تحت الأرض لا يبصر فيها ولا يسمع، وإنما أقسم وتوعد لانه خاف أن يستميل قومه بما ذكر من البراهين على إلهه وبالحجج القاطعة على أسئلة فرعون الدافعة لحجته، وليظهر لقومه أنه قادر على إفحام هذا الرسول وقتله، وليبين لهم أن لا إله غيره، كما يذكره لهم، ولما سمع كلامه موسى ورأى ان بلغ فيه الغضب مبلغه خاطبه «قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ» ٣٠ ظاهر يدل على رسالني وإثبات ما قلته لك أتسجنني ايضا؟
وهذا سكون إلى الإنصاف وإجابة للحق، ومن أكمل أخلاق البشر الحسنة وأحاسن الآداب الكريمة، فركن فرعون لقوله حتى زال ما به
«قالَ» ما هو هذا الشيء الذي تأتيني به «فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» ٣١ في قولك وإلّا سجنّاك، وإنما قال له هذا خشية من انتقاد قومه له الذين تطاولت أعناقهم إلى
261
ما سيجيء به موسى «فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ» ٣٢ ظاهر لا ريب فيه، روي انها ارتفعت قدر ميل في السماء ثم انحطت مقبلة الى فرعون، فالتجأ لموسى وقال له بحق الذي أرسلك إلا أخذتها، فأخذها فعادت عصا كما كانت، ولما ركد ما بفرعون وقومه من الفزع، قال يا موسى هل لديك آية غير هذه؟ قال نعم «وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ» ٣٣ قيل صار لها شعاع يغشى البصر فعند ذلك «قالَ» فرعون «لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ» ٣٤ فائق به لأنه أرانا عصاه حية، ثم أرانا سمرة يده بياضا ناصعا، وإنه بهذه الشعوذة يا قومي «يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ» التي ملكتموها بدمائكم «بِسِحْرِهِ» هذا الذي رأيتم مدعيا أنه رسول لآله السموات والأرض وما فيهما، وأنا لا أعلم أن لذلك إلها غيري وأنتم تعلمون أني إلهكم «فَماذا تَأْمُرُونَ» ٣٥ أن أعمل به وهو من عرفتم حين كان تحت تربيتي ولما شب قتل رجلا منكم وهرب خوفا من أن أقتصّ به منه، قال لهم هذا على طريق التنفير منه لما بهره من سلطان المعجزة الذي أنساه دعوى الربوبية، فحط نفسه لاستمالة قومه بقتله، ولكنهم ظهروا بمظهر أرقى ومزية أعلى مما دعته اليه نفسه الخبيثة، فأجابوه بما حكا الله عنهم «قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ» أخرهما لا تعجل بقتلهما ولا تعاقبهما حتى يظهر كذبهما الى الخاص والعام من النهي، لئلا يسيء عبيدك فيك ظنّهم، فيقولوا يقتل على غير بينة، قال كيف، قالوا اختبرهما وامتحنهما فإذا ظهر كذبهما تصير معذورا بقتلهما، فلا يقولون انك قتلتهما بغير ذنب، وهذا رأي سديد ونصح صحيح، ولهذا قال سعيد بن جبير للحجاج لما استشار جماعته بقتله وصوبوا رأيه، قال له: وزراء أخيك فرعون احسن من وزرائك، لأنهم أشاروا عليه بما يمنع الناس من ذمه. هذا، ولما قيل إلى سيدنا محمد ﷺ أقتل عبد الله بن أبي بن سلول قال لا، لئلا يقال إن محمدا يقتل أصحابه، بما يدل على ان وزراء فرعون كانوا على نهاية من التدبير والسياسة للرعية والصدق لملكهم والخوف عليه من سوء السمعة، فيا ليت وزراء الإسلام يغارون دائما على البلاد والعباد ويصونون كلهم ملكهم مما يشوبه، ثم قالوا له «وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ
262
حاشِرِينَ»
٣٦ شرطة يجمعون العارفين بالسحر وأمرهم «يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ» ٣٧ منهم ما هو بالسحر، ثم تأمرهم أن يتباروا مع موسى وأخيه، وإذ ذاك يظهر لقومك كذبهما فتقتلهما بلا لوم عليك ولا تهتم بأمر آخر، فاستصوب رأيهم ولم يرده مجازاة لهم، لأنه يعلم ان لا فائدة منه لما يعلم من حقيقة موسى، فبعث الحاشرين «فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ» ٣٨ هو يوم عيدهم، وتقدمت القصة مفصلة في الآية ٥٦ من سورة طه المارة فراجعها «وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ» ٣٩ لننظر ما يفعل الفريقان ولمن تكون الغلبة فنادى مناديه في الناس ان اجتمعوا فاجتمعوا وقال لهم على طريق السخرية «لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ» يعني موسى وأخاه «إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ» ٤٠ ومن فسر السحرة بالسحرة الذين أحضرهم، قال لم يرد انه يتبع السحرة وإنما يقصد الإعراض عن موسى وأخيه، والأول أولى
«فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ» ٤١ لموسى وأخيه «قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» ٤٢ لدي جاها ومالا وأول الناس دخولا علي «قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ» ٤٣ وذلك بعد أن خبروه كما تقدم في سورة طه «فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ» ٤٤ لموسى وأخيه وأروا الناس ما هالهم وفرح فرعون وملؤه وقومه «فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ» ٤٥ ممّا يخيلونه للناس من قلب عصيهم حيات وأخشابهم حبالا، وحبالهم أفاعي، أي ابتلعت جميع إفكهم وعادت كما هي عصيا وحبالا وأخشابا، وعصا موسى عصا أيضا كما كانت قبل الإلقاء.
مطلب الحكمة من قوله تعالى (تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) :
تنبىء هذه الآية الكريمة عن قضية فنية، وهي لما كانت الحبال والعصي ليست بإفك بل هي من خلق الله حقيقة، فإن حية موسى لم تلقفها، بل التقفت الزئبق الذي طلي بها الذي هو من صنع السحرة، إذ وضعوه بين تجاويف الحبال والعصي وطرحوها في الأرض قبل بزوغ الشمس، فلما طلعت وأثرت حرارتها في الزئبق تحركت وصاروا يدمدمون عليها صورة، حتى سحروا أعين الناس وأروهم إياها
263
أفاعي وحبالا، فلما ابتلعت عصا موسى بقدرة الله ذلك الزئبق منها وأزال الله ما خيّلوه للناس، عادت على حالها، ففضحهم الله وأظهر شعوذتهم وإنما لم ينكروا ما رأوه لأن الحيات من عادتها أنها تبلع ما تراه من عصي وغيرها، ويوجد الآن في البرازيل حيات تبلع الجمل، والابتلاع من طبعها، والعقل لا يصدق أن العصي والحبال تبلع شيئا، وإنما امتصاص الزئبق الذي في تجاويف تلك الحبال والعصي هو الذي يصدقه العقل، فكان إبطال حركة العصي والحبال بسبب ذلك الامتصاص، وهذا مما يركن إليه العقل وهو من اكبر الأدلة على إعجاز القرآن وأكملها، فقد جمع فأوعى، وهذه الحكمة في قوله تعالى تلقف ما يأفكون، وجاء في الآية ٦٩ من سورة طه (تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) أي الذي صنعوه في العصي والحبال من إلقاء الزئبق فيها، وهو المراد بالإفك هنا، وذلك أن الله تعالى جعل قوة مادية في عصا موسى تلقف ما موهوه في عصيهم وحبالهم، قال تعالى «فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ» ٤٦ الله تعالى إذ ظهر لهم أن فعل عصا موسى جاوز حد السحر، ولذلك فإنهم لم يتمالكوا أنفسهم فسقطوا على الأرض سجدا، إذ تيقنوا أن أمر موسى سماوي «قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ ٤٧ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ» ٤٨ خصوهما بالذكر لدفع توهم إرادة فرعون من دعواه الإلهية وجهل قومه الذين يدعون إلهيته، ولو وقفوا على رب العالمين فقط، لقال فرعون إياي يعنون ليموّه عليهم «قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ» بالإيمان به «إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ» فتواطأتم معه عليه، وقد جاء في آية الأعراف المارة عدد ١١٣ (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ) قبل حضوركم مكان الاجتماع، وانما قال هذا يلبس على قومه انهم لم يؤمنوا على بصيرة ثم بدأ يهددهم فقال «فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» ٤٩ وبال فعلكم هذا، ثم أقسم وأكد قسمه بقوله «لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ» ٥٠ مر تفسير مثله في الآية ١٢٣ من الأعراف «قالُوا لا ضَيْرَ» لا ضرر فيما ينالنا من عذابك، لأنه منقطع في الدنيا «إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ» ٥١ رحمته الدائمة في الآخرة مؤمّلين عفوه عما صدر منا ونجاتنا من عذابه الأليم الدائم
264
«إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا» من الكفر والسحر «أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ» ٥٢ في هذا المشهد العظيم بأن الله هو رب العالمين لا أنت ولا غيرك وتقدم بسورة الأعراف وطه بما هو أوسع من هنا فراجعهما.
مطلب في السحر وكيفية إهلاك قوم فرعون:
واعلم أن السحر مأخوذ من السحر وهو ما بين الفجر الأول والثاني، وحقيقة اختلاط الضياء بالظلمة، فما هو بليل لما خالطه من أضواء الصبح، ولا هو بنهار لعدم طلوع الشمس للأبصار فكذلك فعل السحر ليس بباطل محقق فيكون عدما لأن العين أدركت أمرا لا تشك فيه، وما هو حق محض فيكون له وجود في عينه، لأنه ليس هو في نفسه كما تشهده العين وبظنّه الرأي، قال الشعراني بعد ما نقل هذا عن بعض الأكابر: كلام نفيس ما سمعنا مثله قط. راجع تفسير سورة الفلق والناس تجد بحث السحر في صورة مسهبة، وله صلة في الآية ١٠١ من سورة البقرة في ج ٣ قال تعالى «وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي» بني إسرائيل وذلك بعد سنتين من ايمان السحرة، بعد أن أيس من ايمان فرعون وقومه، إذ لم تؤثر فيهم الآيات المارة ١٢٩ فما بعدها من سورة الأعراف «إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ» ٥٣ من فرعون وقومه بعد خروجكم من مصر ليحولوا بينكم وبين مهاجرتكم، فبلغ موسى قومه أمر ربه، فأطاعوه وخرج بهم ليلة عيدهم، وكانوا استعاروا من القبط حليهم ليتزيّنوا به، فلما أحس فرعون بخروجهم قال لقومه ذهب موسى وقومه بأموالنا «فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ» ٥٤ ليجمعوا الناس، ولما احضروهم قام بهم خطيبا فقال «إِنَّ هؤُلاءِ» يشير لموسى وقومه إذ نزلهم منزلة الحاضرين المشاهدين لكمال معلوميتهم عندهم، وهو فريد من بديع الكلام المشتمل عليه كتاب الله الذي لا أبدع منه «لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ» ٥٥ قال ابن مسعود كانوا ستمائة الف وسبعين الفا (على ان ابن خلدون قال في مقدمته إنهم دون هذا العدد بكثير» وإنما قللهم فرعون ليقوي معنويات قومه وجبشه بالنسبة للجيش الذي حشده عليهم، قالوا كانوا الف الف وخمسمائة الف فساقهم أمامه وخرج وراءهم بمائتي الف ملك مع كل ملك الف رجل، والشرذمة الطائفة
265
القليلة، وإنما أكدها بقوله قليلون، باعتبار أنهم أسباط، وكل سبط قليل عنده فجمع قليل على قليلين، وانما أوقع الله في قلب فرعون هذا ليتم مراده فيه، ويجعل كيده في نحره، ويكون كالباحث عن حتفه بظلفه، وقال في خطبته «وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ» ٥٦ مغضبون مضيّقون صدورنا لمخالفتهم أمرنا، وخروجهم دون إذننا، وأخذهم أموالنا مع قلتهم وذلّتهم «وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ» ٥٧ والحذر من عادتنا والتيقظ والاحتراز، واستعمال الحزم، وأخذ الأمور بالعزم والصبر على الشدة ديدننا، ومن مقتضى المخلين بالأمور الضرب الشديد عليهم، وعلى القوي دائما أن يتقي الأمة الضعيفة إذا خرجت عن سلطانها من أن ينضم إليها ما هو من جنسها، فتشكل قوة يخشى منها، ولذلك علينا أن نسارع إلى قمع شوكتهم، وحسم مادة التشوف لأمثالهم، حتى يعرف كل واحد مكانه ولا يتعدى طوره، فنقابل جرأتهم هذه بالقوة، لئلا يقدم مثلهم فيما بعد على مثل عملهم هذا.
فأظهر لهم بخطابه قوة شكيمته وأغراهم حتى أخرجهم جميعا من بلادهم ولحقوا بموسى وقومه ليردوهم إلى مصر ويضيقوا عليهم أكثر من ذي قبل انتقاما منهم، قال تعالى «فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ» ٥٨ من بلادهم الموصوفة بذلك «وَكُنُوزٍ» من ذهب وفضة تركوها فيها وإنما سماها الله كنوزا لأنهم لم يؤدوا حق الله منها وكل مال هذا شأنه يسمى كنزا، قالوا كان لفرعون ثمانمائة ألف غلام كل غلام على فرس عتيق في عنق كل فرس طوق من ذهب «وَمَقامٍ كَرِيمٍ» ٥٩ مجلس حسن بهي بهيج، قالوا وكان إذا قعد على سريره وضع بين يديه ثلاثمائة كرسي من الذهب يجلس عليها أشراف قومه وأمراؤهم وهم ملأوه أهل الحل والعقد من وزراء ووكلاء وما ضاهاهم مغشاة بأقبية الديباج «كَذلِكَ» كان فرعون وملأوه من العظمة والأبهة، ولما لم يشكر الله على ما أولاه من ذلك المقام، وكفر هذه النعمة وادعى الإلهية فوقها، سلبنا ذلك كله منه ومن قومه «وَأَوْرَثْناها» أي الجنان والكنوز والمقامات وغيرها «بَنِي إِسْرائِيلَ» ٦٠ حيث رجعوا إلى مصر بعد إغراق القبط واستولوا على ديارهم وأموالهم، قال تعالى حاكيا كيفية إغراقهم على الإجمال «فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ» رأى قوم فرعون
266
قوم موسى لأنهم جدّوا السير في لحوقهم، ورأى قوم موسى قوم فرعون «قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ» ٦١ من فرعون وقومه ولا طاقة لنا بهم وذلك لشدة خوفهم منهم لأنهم نشأوا أرقاء عندهم وتوطنت نفوسهم على الذل واشرأبت قلوبهم من سطوتهم فيه وغشيهم الهوان
«قالَ» موسى ثقة بوعد ربه «كَلَّا» لن يدركونا ابدا «إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ» ٦٢ طريق النجاة منهم فقالوا أين نذهب وقد أدركونا، فلو تركننا بمصر نموت بخدمة فرعون وندفن في أرضه، تريد يا موسى أن تميتنا في هذه البادية؟ وطفقوا يلومونه وهو يأمرهم بالصبر ويعدهم بالنصر وهم يتولون ويقولون قد أدركنا القوم الآن يقتلوننا ولم يقدروا أنّ ما كانوا فيه من الاحتقار والاسترقاق من فرعون وقومه أشدّ من القتل، قال عطاء بن السائب: كان جبريل عليه السلام بين بني إسرائيل وآل فرعون وكان يقول لبني إسرائيل ليلحق أولكم آخركم، ويستقبل القبط فيقول رويدكم ليلحق آخركم، فصار بنو إسرائيل يقولون ما رأينا أحسن سياقة من هذا الرجل، وقوم فرعون يقولون ما رأينا أحسن رقة من هذا الرجل، وقد صدقوا جميعا، إذ لا أحسن منه إلّا الأنبياء وهو سيد الملائكة فلما انتهى موسى بقومه الى بحر القلزم قيل هو بحر وراء مصر يقال له أساف قال له مؤمن آل فرعون وكان دائما بين يدي موسى هذا البحر أمامك، وقد غشيك القوم فإلى أين أمرت؟ قال الى البحر، إلا اني لا أدري ما أصنع، ولم أسأل ربي بعد ان أمرني بأن أتجه نحو البحر، إذ ما علي الا الامتثال، وقد قال لى سيأتيك أمري. قال آمنت بأن ربك سيجعل لك مخرجا ولم يتم كلامه حتى نزل وحي الله وهو «فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ» بدلالة الفاء الدالة على التعقيب، روي عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله ﷺ إني أعلّمك الكلمات التي قالهن موسى حين انفلق البحر، قلت بلى يا رسول الله، قال قل اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وبك المستغاث، وأنت المستعان، وعليك التكلان ولا حول ولا قوة الا بالله، قال ابن مسعود ما تركتهن منذ سمعتهن من النبي صلّى الله عليه وسلم، وعلينا أن نحفظها ونقولها صباح مساء وعند كل ضيق وحاجة. فدعا عليه السلام بما ألهمه الله من هذه
267
الكلمات وغيرها مستغيثا بربه الكريم ثم ضرب البحر «فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ» ٦٣ الفلق والفرق القطعة من الشيء، ويقال فرق باعتبار الانفصال كالفرقة من القوم، وفلق باعتبار الانشقاق كالقطعة من الجبل، والطود الجبل، ووقف الماء بين الطرق التي شقها الله منه كالجبال الشامخات لعمق الماء وظهرت الأرض يابسة بينها كأن لم يكن فيها ماء، فسار كل سبط تجاهه، روي أن البحر انفلق فيه اتنا عشر طريقا وسلك كل سبط واحدا، وقال السبط الذي معه موسى اين جماعتنا؟ قال امشوا لكل منهم طريق مثلكم يمشون فيه، قالوا لا حتى نراهم لعلهم غرقوا، وأكثروا اللفظ على موسى حتى توقفوا عن السير، وقد أدركهم فرعون وقومه إذ دخل أولهم البحر، فرفع يديه الى ربه وقال اللهم أعني على أخلاقهم الفاسدة، فأمر الله البحر ففتح في كل فرق كوة حتى صار القريب يرى قريبه، والرجل يرى زوجته من السبط الآخر فبادروا بالسير حتى عبروا الى جهة الشام.
مطلب انفلاق البحر وأخلاق موسى عليه السلام وان كل آية لقوم هي آية لأمة محمد عليه السلام:
وما قيل ان انفلاق البحر كان قوسيا وأنهم خرجوا من الجهة التي دخلوها لا دليل له عليه غير انكار قدرة الله لأن القائلين بهذا لا يعترفون بقدرة الله ويريدون بقولهم هذا ان البحر انحسر بعادة المد والجزر، فدخلوا فيه من جهة انحساره وخرجوا من نفس الجهة من طرف الانحسار لآخر، قاتلهم الله فلو كان كما يقولون لما نجوا من فرعون وقومه، بل لخرجوا معهم لأن المد والجزر يكون من جهة واحدة، وما قيل ان المسالك ثلاثة عشر لا برهان له عليه، ويريد صاحب هذا القول ان لموسى وأخيه مسلكا على حدة، وليس كذلك، لأن موسى في الأسباط لهذا فان ما ذهبنا اليه هو الواقع والموافق لما هو عند أهل الكتاب في كتبهم، ولا نص يكذّبه وجل الآثار والأخبار يشهد بصحته، ومن أصر على الخلاف فعليه الدليل والنقل الصحيح ولا أراه فاعلا والله أعلم، قال تعالى «وَأَزْلَفْنا» قربنا «ثَمَّ» هناك في البحر بعد أن شققناه ودخله قوم موسى «الْآخَرِينَ» ٦٤ فرعون
268
وقومه وأغريناهم بدخوله لتكون الملامة في الظاهر على فرعون، لأنه هو الذي ساقهم الى هذا والله تعالى قد أهلكهم في أزله على هذه الصورة، ولو تقاعسوا عنها لقسرهم عليها، ولكن سبق في الكتاب أن يكونوا مختارين، قالوا إن فرعون أغرى قومه بالدخول وإياه هو، إلا ان حصانه الجأه لأن الخيل أمامه عطف ففسره على اقتحام طريق البحر ليتم مراد الله، حتى إذا كمل دخولهم آذن الله البحر بالالتئام وقرىء وازلقنا بالقاف وعليه يكون المعنى أذهبنا عزهم قال:
تداركتما عبسا وقد ثل عرشها وذبيان إذ ذلّت بأقدامها النعل
لأن زلق بمعنى زلّت رجله وتنحى عن مكانه قال تعالى «وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ» ٦٥ لم يغرق ولم يمت أحد منهم «ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ» ٦٦ فرعون وقومه أجمعين لم يفلت واحد منهم، وحذف التأكيد من الجملة الثانية لدلالة الأول عليها راجع الآية ١٥ من سورة الأعراف، وجاء العطف بثم للتراخي لأن الله تعالى أمهل البحر حتى لم يبق واحد من بني إسرائيل فيه، كما لم يبق من قوم فرعون أحد خارجه، ثم أطبقه عليهم، ، اعلم أن ثمة تكتب بالتاء لئلا تلتبس وتقرأ بفتح الثاء من غير تاء وصلا وبالهاء وقفا والقراءة على غير هذا الخط من الغلط وهي بمعنى هناك قالوا وقد سمع الاسرائيليون جلبة عظيمة، فقالوا يا موسى ما هذه؟
قال البحر أطبق على فرعون وقومه فرجعوا ينظرون لضعف ايمانهم، فرأوا جثثهم عائمة، وشاهدوا فرعون نفسه بينهم، فصدقوا ورجعوا «إِنَّ فِي ذلِكَ» الانفلاق والإنجاء «لَآيَةً» عظيمة ظاهرة لإيمان من يؤمن كافية عن طلب غيرها «وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ» ٦٧ إذ لم يؤمن من آل فرعون الّا زوجته آسية بنت مزاحم، ومريم بنت ناموشا التي دلت موسى على قبر يوسف عليه السلام، حتى أخذه معه حين خروجه من مصر وخزقيل مؤمن آل فرعون الذي ذكر الله قصته في الآية ٢٨ فما بعدها من سورة المؤمن في ج ٢، «وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» ٦٨ الغالب المنتقم من أعدائه الودود الرءوف بأوليائه، وفي اسم الإشارة في ذلك والضمير في أكثرهم إشارة إلى أنه يجب على قومك يا محمد الإيمان بالله وأن يعتبروا بما وقع على أمثالهم، ومع هذا فلم يؤمن منهم إلا القليل بك، وهذا ما يقتضيه سياق التنزيل، لا سيما وقد كررت هذه الآية في هذه السورة ثماني مرات بعد هاتين القصتين، وعقب كل قصة من القصص الست، الآتية، بما
269
يدل على أن المراد بالأكثر من لم يؤمن من أمة كل نبي، كما ثبت بأن أكثر الناس من كل أمة هم الكافرون في قصة محمد صلّى الله عليه وسلم وأمته المذكورين أولا، وفي قصة موسى وقومه وفي كل قصة من القصص الآتية كقصة ابراهيم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب، فتكون كل قصة عبرة لقوم النبي الذين شاهدوها بالدرجة الأولى وبالدرجة الثانية هي عبرة وآية لمن جاء بعدهم من الأمم، وعليه فتكون كلها عبرة لقوم محمد ﷺ علاوة على ما رأوه من الآيات على يده، لأنهم سمعوها من لسان محمد صلّى الله عليه وسلم وسماعها منه مع أنه أمي آية على نبوته، موجبة للإيمان به على من يسمعها من أمته، لأنها بالوحي الإلهي، وبهذا التوفيق يحصل التلاؤم التام بين من جعل الآية لكل نبي خاصة بقومه ومن جعلها كلها خاصة لقريش.
تدبر هذا، فقل أن تقف عليه أو تصادف مثله وهو جواب كاف شاف في إرجاع ضمير أكثرهم، لأن منهم من أرجعه إلى القبط، ومنهم من أعاده لقوم موسى، ومنهم من جعله خاصا بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، والقول الصحيح الجامع لكل هذه الأقوال ما ذكرته لك فاغتنمه، لأني لخصته من عدة صحائف من كتب التفاسير المطوّلة والمختصرة التي لا يتمكن كل أحد من فهم المطلوب منها المجمع عليه إلا بأيام بل بأشهر لمن كان له وقوف وإلمام بعلم التفسير، وتجد مثل هذا كثيرا في تفسيري هذا لأني والله الذي لا إله إلا هو أقضي الأيام والليالي في التحري على مسألة واحدة، وكم أنام مهموما لعدم الوقوف عليها حتى إذا يسرها الله لي سجدت شكرا لله تعالى وكأني أعطيت الآخرة، أما الدنيا فهي بما فيها تساوي عندي حرفا واحدا، ومن عظيم نعمة الله علي أني أرى أحيانا ما أتوقف عنه في منامي، فأراجعه فيظهر لي كما رأيته، ولله الحمد والمنة، أقول هذا تحدثا بنعمة الله لا فخرا ولا رياء ولا سمعة، ولعل القارئ نظر الله إليه أن ينتبه لهذا فيدعو لي ويطلب لي العفو إذا رأى وتحقق لديه ما قاسيته في هذا التفسير، الذي لم أسبق إليه والحمد لله على توفيقه ولطفه.
قال تعالى «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ» يا أكرم الرسل «نَبَأَ إِبْراهِيمَ» ٦٩ قصته كما تلوت عليهم قصتك وقصة موسى «إِذْ قالَ لِأَبِيهِ» آزر ويسمى تارخا من قرية من سواد الكوفة واسم أمه مثلى ولا خلاف باسم أبيه هذا، وإنما الخلاف في كون
270
آزر على وزن آدم أو يازر لقبا له أو اسما آخر، وما قيل إنه اسم عمه يأباه لفظ التنزيل لأن الله تعالى ذكر الأب أبا والعم عمّا فمن أين لنا أن نقول عمه بعد أن يقول الله تعالى أباه، ونصب أباه هنا على تضمين القول معنى الذكر لانه لا ينصب إلا الجمل «وَقَوْمِهِ» قوم آزر أبيه وهو اسمه الحقيقي المصرح به في الآية ٧٥ من سورة الانعام في ج ٢، وما قيل إنه مجاز عن عمه لا عبرة به، لان الحقيقة إذا صحت لا يجنح عنها إلى المجاز «ما تَعْبُدُونَ» ٧٠ أي شيء تعبدونه مع علمه عليه السّلام أنهم يعبدون الأصنام، ليريهم أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة «قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ» ٧١ مكبين عليها ليل نهار، ومن خص العبادة بالنهار دون الليل استدل بلفظ فظل لأنها مأخوذة من الظل، وهو لا يكون إلا نهارا، راجع ان ظل هنا معناها الدوام والبقاء ولا مخصص لها في النهار، وكان يكفي لجوابهم الاختصار على (أَصْناماً) وإنما أطنبوا افتخارا وابتهاجا بها ورغبة ومناوأة لقوله (ما) الدالة على ما لا يعقل فكان جوابهم على خلاف السؤال على حد قوله: (وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) الآية ١٢٠ من البقرة في ج ٣، وقوله تعالى (ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ) الآية ٢٤ من سورة سبأ ج ٢، وقوله (ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً) الآية ٣٠ من النحل في ج ٢، ومثله كثير في القرآن، فهم زادوا نعبد مع أنهم لم يسألوا عن العبادة بل سئلوا عن المعبود، وزادوا جملة فنظل إلخ بقصد المباهاة
«قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ» ٧٢ هذه الأصنام فيجيبوا دعاءكم «أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ» بزيادة الرزق والولد إن عبدتموهم «أَوْ يَضُرُّونَ» ٧٣ كم إن تركتم عبادتهم «قالُوا» وقد لزمتهم الحجة فاعترفوا بأنها لا تنفع ولا تضر «بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ» مثل هذا «يَفْعَلُونَ» ٧٤ وقد قلدناهم واقتدينا بهم، مع علمنا بعدم إنصافهم بذلك.
مطلب إيمان المقلد والفرق بين الوثن والصنم:
وفي هذه الآية إشارة إلى أن التقليد في الدين مذموم، إذ يجب الأخذ بالاستدلال إذا كان من أهله، وإلا فيكفيه أن يقلّد من يعتقد بصحة دينه، ويكون آثما
271
بترك التعليم، لأن العلم الضروري واجب على كل مسلم ومسلمة، وان قال صاحب بدء الأمالي في منظومته:
وإيمان المقلد ذو اعتبار بأنواع الدلائل كالنصال
بما يدل على اعتباره عقيدة وهو كذلك، ولكنه لا ينفي إثم عدم التعليم، قال صلّى الله عليه وسلم:
طلب العلم فريضة على كل مسلم- ويشمل ذلك كل مسلمة- حتى أن الله تعالى استثنى طالب العلم من الجهاد وهو أحد أركان الدين، راجع الآية ١٣٤ من سورة التوبة في ج ٣ «قالَ» لهم ابراهيم عليه السلام «أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ» ٧٥ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ٧٦ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي» وحد الخبر على إرادة الجنس وسمى الأصنام أعداء وهي جمادات استعارة، لأنهم نزولها منزلة العقلاء وقال عليه السّلام (لي) تعريضا لهم لأنه أنفع في النصح من قوله عدو لكم ليكون أدعى للقبول، ولأنهم على هذا يقولون ما نصحنا إلا بما نصح نفسه وما أراد لنا إلا ما أراد لنفسه، ولو قال لكم لم يكن بتلك المثابة كما لا يخفى على بصير. ومن هذا القبيل الآية الآتية من سورة يس المارة إذ أضاف القول فيها لنفسه وهو يريدهم. حكي أن الشافعي رحمه الله واجهه رجل بشيء فقال له لو كنت بحيث أنت لا حتجت الى أدب. والعدوّ والصديق يجيئان بمعنى الواحد والجماعة قال تعالى (وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) الآية ٥١ من سورة الكهف في ج ٢ والصنم ما كان على صورة ابن آدم من حجر أو غيره، والوثن يطلق على كل ما يعبد من دور الله ناميا أو غير نام حساسا أو غير حساس، فهو أعم من الصنم، ثم استثنى مما عمم فقال «إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ» ٧٧ استثناء منقطعا لعدم دخوله تحت لفظ الأعدا أي لكن رب العالمين ربي ووليي المستحق للعبادة «الَّذِي خَلَقَنِي» من العدة ووفقني لدينه القويم «فَهُوَ يَهْدِينِ» ٧٨ الى طريق النجاة هداية تدريجية من الولادة الى الوفاة، أولها هدايته الى مصّ الثدي وآخرها الى الطريق الموصل الى الجنة، وما بينهما الى جلب المنافع ودفع المضار «وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي» مما خلقه لي من الأرض وأنزله من السماء من غير حول لي ولا قوة «وَيَسْقِينِ» ٧٩ من الماء الذي ينزل من السماء فيسلكه في الأرض التي هي أصله «وَإِذا مَرِضْتُ» أسند المرض له عليه السّلام تأدبا مع ربه.
272
مطلب أكثر الموت من الأكل والشرب والحر والقر ومحبة الذكر الحسن:
ذلك لأن أكثر أسباب المرض وإن كانت في الحقيقة من الله، إلا أنها تحدث من التفريط في الأكل والشرب وعدم الوقاية من الحر والبرد، وفيه قيل:
فان الداء أكثر ما تراه يكون من الطعام أو الشراب
وقال بعض الحكماء لو قيل لأكثر الموتى ما سبب آجالكم، لقالوا من التخم، وكثير من الناس لا يرون المرض إلا مرض الموت ويكون أيضا ممّا ذكر إلا القتل أو التردي أو التسمم والحرق والغرق وشبهه، وكل ذلك بتقدير الله تعالى وإرادته ليقع قضاؤه حيث قدره، وقد راعى عليه السّلام حسن الأدب بهذا وبغيره، حتى أنه لم يقل أمرضني، ولا آدب من الأنبياء، لأن الذي نبأهم هذّبهم «فَهُوَ يَشْفِينِ» ٨٠ لأن الشفاء نعمة منه والمنعم بكل النعم هو الله وحده، وهكذا الخلص ينسبون الخير الى الله والشرّ لأنفسهم، قال الخضر عليه السّلام (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) وقال (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما الآيتين) ٨٠ و ٨١ من سورة الكهف في ج ٢ ولهذا البحث صلة في تفسير الآية ٧٨ من سورة النساء في ج ٣ وكذلك مؤمنو الجن راعوا الأدب مع ربهم، راجع الآية ١٠ من سورة الجن المارة فما بعدها «وَالَّذِي يُمِيتُنِي» بانقضاء أجلي في الدنيا، ولا يرد إسناد الموت لله على ما قلنا، لأن الفرق ظاهر ولأن الموت قضاء محتم لا بد منه «ثُمَّ يُحْيِينِ» ٨١ في الآخرة وهذا تعليم لهم بالاعتراف بالبعث بعد الموت
«وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي» هي قوله لقومه حين أرادوه أن يذهب معهم الى بيت الأوثان (إِنِّي سَقِيمٌ) الآية ٩٠ من الصافات في ج ٢ وقوله حينما سألوه عمن كسر أصنامهم (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) الآية ٦٢ من الأنبياء في ج ٢ وقوله للجبار حين سأله عن سارة (قال أختي) وأراد أخته في الدين وإلا فهي زوجته، وقد عدها خطايا بالنسبة لمقامه الشريف وقربه من ربه، وإلا فليست بخطايا وانما هي من معاريض الكلام لدى غير الأنبياء، وقد يعدها العارفون الكاملون خطايا أيضا بالنسبة لمقامهم، لأنهم على قدم الأنبياء، وعلى حد حسنات الأبرار سيئات المقربين، وهؤلاء يسمون أمثالها خطايا تواضعا لربهم وتعظيما
273
لأنفسهم، وتعليما للغير بطلب المغفرة عما صدر منهم، «يَوْمَ الدِّينِ» ٨٢ الذي يدان به الناس عما عملوه في دنياهم فيجازون عليه، روى مسلم عن عائشة قالت قلت يا رسول الله: ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويقري الضعيف وبطعم المسكين أكان ذلك نافعا له؟ قال لا ينفعه إنه لم يقل يوما (رب اغفر لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ). وفي هذا كله يشير عليه السّلام الى قومه بأنه لا يصلح للالهية إلا من يفعل هذه الافعال ولما أيس منهم باعلام الله تعالى إياه هجرهم ونحى نحو ما أمره به ربه وقال «رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً» لأستعد به لخلافة الحق ورياسة الخلق «وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ» ٨٣ الأنبياء قبلي في درجتهم ومنزلتهم عندك «وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ» ٨٤ من بعدي بأن أذكر لديهم بخير من ثناء حسن وحسن سمعة، وقد أجيبت دعوته لأن أهل الأديان يثنون عليه خيرا ويعظمونه وكل أمة تحبّه، وذكر اللسان بدل القول لأنه يكون به ولا حاجة لتقدير مضاف أي صاحب لسان كما قاله بعض المفسرين، لأن الثناء يكون باللسان وغيره قال:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجّبا
والجزء يطلق على الكل: ويحتمل أن يراد بالآخرين أمة محمد صلّى الله عليه وسلم، لأنه من ولده ويدعو الناس الى ملته ودينه المشار اليه في قوله تعالى (وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ) الآية ٢٢٩ من سورة البقرة في ج ٣ أيضا، ويستدل من هذه الآية ان لا بأس ان يحب الرجل الثناء عليه، لأن فيه فائدة لا سيما بعد الموت، إذ تجود عليه رحمات ربه بترحم الناس عليه، عند ذكر أوصافه وأفعاله الممدوحة، الا انه لا يخفى ان الأمور بمقاصدها، وانظر قول صلّى الله عليه وسلم من أحب ان يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار، مع ورود الخبر عنه صلّى الله عليه وسلم قوموا لسيدكم، وقد قيد العلماء القيام لأهل الفضل والأكابر، ولكن الأعمال بالنيّات فعلى المتأدب أن يقوم لمن هو أهل للقيام، وعلى من يقام له أن لا يحب ذلك «وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ» ٨٥ الباقين فيها كما يقيده معنى ورثة لأن البقاء فيها هو السعادة الكبرى والنعمة العظمى «وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ» ٨٦ طريق الهدى.
274
مطلب عدم المغفرة للمشرك وعدم نفع المال والولد مع الكفر:
وإنما دعا له بالمغفرة، لأنه كان وعده بالإيمان به وكان يرجو منه ذلك، قال تعالى (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) الآية ١٢٥ من سورة التوبة في ج ٣ وفيها دليل على جواز الاستغفار للكفار ماداموا على كفرهم خلافا لما نقله الشهاب في شرح مسلم النووي من أن كونه عز وجل لا يغفر الشرك مخصص بهذه الأمة، وكان قبلهم قد يغفر لمنافاته صراحة هذه الآية، وعدم الغفران للمشركين عام في كل أمة، قال تعالى: (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) الآيتين من آخر سورة الأعلى المارة أي ان هذا الذي هو في القرآن هو في صحف إبراهيم وموسى، وفيه ما لم يكن فيها أما ما فيها فكله فيه وزيادة «وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ» ٨٧ الناس من قبورهم لان ذلك اليوم «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ» ٨٨ عند مالكه ولا ينفع عنده كل شيء واقتصر على المال والبنين لانهما معظم المحاسن والزينة والرفاه، راجع الآية ٤٥ من سورة الكهف في ج ٢ «إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» ٨٩ من الشك فيه والشرك به لا الذنوب، إذ لا يسلم منها أحد إلا ما ندر عدا الأنبياء بعد النبوة فإنه مقطوع بعصمتهم من كل ذنب حتى في حالة السهو والخطأ والنسيان والغلط راجع الآية ١٢٢ من سورة طه المارة تجد تفسير ما يتعلق بهذا البحث، وقد أخبر الله عنه بأنه كان ذلك الرجل لقوله جل قوله (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) الآية ٨٣ من الصافات في ج ٢ وخصّ القلب لأن بقية الجوارح تبع له، تصلح بصلاحه وتفسد بفساده، قال صلّى الله عليه وسلم في حديث طويل صحيح: ألا وأن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب. وأخرج احمد والترمذي وابن ماجه عن ثوبان قال: لما نزلت (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) الآية ٧٥ من سورة التوبة في ج ٣ قال بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم لو علمنا أي المال خيرا اتخذناه، فقال صلّى الله عليه وسلم أفضله لسان ذاكر، وقلب شاكر، وزوجة صالحة تعين المؤمن على إيمانه. وفي هذه الآية دلالة على ان طلب المغفرة له حال لا كما قال بعض المفسرين بعد موته، لأنه مات كافرا ولا
275
يجوز الاستغفار للكافر كما مرّ وفيها اشارة أخرى الى أنه لا ينفع المال صاحبه، ولو صرفه في وجوه البر إذا كان صاحبه شاكا أو كافرا، ولا ينفع الولد والده ولو كان صالحا إذا كان أبوه شاكا أو كافرا، فصلاح المال والولد ينفع عند الله إذا كان صاحبهما مؤمنا به، والا لا، والى هنا انتهى كلام الخليل عليه السّلام، خلافا لابن عطية القائل إن هذه الآيات منقطعة عن كلامه مخالفة سياق الآيات، قال تعالى «وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ» ٩٠ المعاصي حيث يروونها أمامهم، لأنها تقرب منهم في ذلك اليوم، ويتيقنون انهم محشورون إليها، لأن أهل الموقف حينما يقول الله تعالى (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) الآية ٥٩ من سورة يس المارة تنقسم إلى قسمين فأهل موقف السعادة تتراءى لهم الجنة، وأهل موقف الشقاوة تظهر لهم النار «وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ» ٩١ الذين أغواهم هواهم عن طريق الحق، وفي الآية إشارة إلى أن رحمة الله تسبق غضبه، كما جاء في الحديث، لأن إظهار جهنم لا يستلزم قربها، وتقريب الجنة هو تقريبها من داخليها
«وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ٩٢ مِنْ دُونِ اللَّهِ» في دنياكم وتزعمون أنهم يشفعون لكم في هذا اليوم، وأنهم يقربونكم من الله في هذا الموقف، هاتوهم وادعوهم لنرى «هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ» كما تقولون ويدفعون عنكم العذاب «أَوْ يَنْتَصِرُونَ» ٩٣ لأنفسهم ليدرأوا عنها العذاب؟ والجواب محذوف يفهم من المقام لأن السؤال سؤال توبيخ وتقريع، أي لا ينصرونكم ولا ينصرون أنفسهم وكلكم معذب، قال تعالى «فَكُبْكِبُوا فِيها» فقذفوا وطرحوا في الجحيم المذكورة منكوسين وهو تكرير كب مبالغة في الطرح كدمدم مبالغة في الدم أي الذقن وعسعس مبالغة في العس أي الظلمة «هُمْ وَالْغاوُونَ» ٩٤ من الإنس والجن المعبودون والعابدون جميعا لأنهم جنود إبليس ولهذا عطف عليه «وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ» ٩٥ من أتباعه وأنصاره ومواليهما، لأن من يعبد غير الله فهو عابد الشيطان، وإن عزيزا والمسيح والملائكة مبرءون من ذلك، لأنهم لم يدّعوا الإلهية ولم يأمروا بها، ولم يرضوا فيها، ولذلك فإنهم مبرءون مما نسب إليهم من العبادة، كما أنهم قد تبرأوا منها ومنهم.
مطلب ما يقال في مواقف القيامة وعدم جواز أخذ الأجرة على الأمور الدينية:
«قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ» ٩٦ بعضهم لبعض أثناء الخصام «تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ٩٧ نحن وإياكم ومن الضلال بمكان «إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ» ٩٨ فنعليكم ونجعلكم سواسية معه، وما أنتم إلا مخلوقون مثلنا، فكيف نعبدكم دون خالقكم «وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ» ٩٩ الّذين سنوا لنا الشرك قديما من إبليس وقابيل، فهما أول من سن العصيان في الأرض، وهذا إنما يتجه إذا كان هذا القول من التابعين والمتبوعين، أما إذا كان من التابعين فقط فيكون معنى المجرمين الرؤساء والقادة، يدل على الأول قوله تعالى «فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ» ١٠٠ يشفعون لنا اليوم مثل ما للمؤمنين من الأبناء والأولياء والملائكة والصالحين «وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ» ١٠١ مخلص كما لهم أيضا، حيث يكون التصادق إذ ذاك بين المؤمنين والتعادي بين الكافرين، قال تعالى: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) الآية ٢٨ من سورة الزخرف، وهؤلاء الذين كان يجمعهم إخاؤهم على التقوى، أما الذين يجمعهم إخاؤهم على المعصية الذين لا يتناهون عن منكر فعلوه فيكون كل منهم عدوا للآخر، لأن كل من كانت صداقته في الدنيا لأغراض قبيحة لا تدوم صداقته في الدنيا ولا تنفع في الآخرة ذويها، وتكون عليهم حسرة، راجع تفسير الآية ٣٤ من سورة مريم المارة والآية ١٤٠ من سورة البقرة في ج ٣. قال الحسن استكثروا من الأصدقاء المؤمنين فإن لهم شفاعة يوم القيامة، وقال صلّى الله عليه وسلم: استكثروا من الإخوان فإنهم عدة الدنيا وعدة الآخرة
«فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً» رجعة أخرى في الدنيا «فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» ١٠٢ بالرسل وما جاءوا به من الله، طفقوا يتمنون المحال لشدة الندم والأسف على ما فاتهم في الدنيا، مع أنهم لو أجيبوا لرجعوا إلى كفرهم، قال تعالى: (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) الآية ٢٩ من الانعام. انتهى كلامهم، وسياق الآيات يدل على أنه من الطرفين كما ذكرنا «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ١٠٣ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» ١٠٤ تقدم تفسير مثلها، ومن كمال رحمته إمهال أكثر قريش حتى آمنوا به، بخلاف الأمم الماضية فإنه عجل
277
عقوبتهم دفعة واحدة «كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ» ١٠٥ قبله كإدريس وشيث كما كذّبته هو، ومن كذب نبيا فكأنما كذب جميع الأنبياء «إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ» بالنسب لا في الخلقة فقط، لأنه منهم «أَلا تَتَّقُونَ» ١٠٦ الله فتؤمنوا بي، وألا أداة استفتاح بستفتح بها الكلام، وتفيد التنبيه وطلب الشيء بلين ورفق، ويقابلها هلّا للحثّ على فعل الشيء بشدّة وإزعاج «إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ» من الله خالقكم «أَمِينٌ ١٠٧ على أداء رسالته إليكم وعليكم وكان مشهورا عندهم بالأمانة مثل محمد صلّى الله عليه وسلم إذ كان يسمى الأمين «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» ١٠٨ فيما آمركم وأنهاكم لئلا ينزل بكم عقابه «وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ» لتتهموني بقصد ما وإنما أسديكم نصحي وإرشادي مجانا «إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ» ١٠٩ لا على أحد منكم، لأن العمل إذا كان لله فلا يطلب عليه أجر من غيره، تفيد هذه الآية لزوم تحاشي العلماء عن طلب أجر على تعليم القرآن والحديث والعلم، لأنهم ورثة الأنبياء فينبغي أن يقتدوا بمورثيهم ويبثوا ما عندهم من العلوم مجانا للعامة كما علمهم الله، وكذلك الجهات الدينية كالإمامة والخطابة والأذان والوعظ فلا ينبغي أن يؤخذ عليها أجر ما إلا لحاجة ماسة، كمن ليس له مورد ما ولا شيء من الوقف ولا يقدر على العمل مع القيام بذلك «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» ١١٠ كررها تأكيدا وتقريرا أولا بأنه رسول الله، وثانيا بأنه لا يأخذ أجرة على هذه الدعوة، وانظر بماذا أجابوه قاتلهم الله «قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ» ١١١ السفلة الفقراء، أي كيف نؤمن بك وانك تساوينا معهم ولم نرضهم خدما، وهم آمنوا بك من غير حجة ونظر واستدلال أو حذق بصر أو بصيرة بل ليعيشوا بفضلك.
مطلب لا تضرّ خسّة الصنعة مع الإيمان ولا يكفي النسب بلا تقوى:
ومعنى الرذالة الخسة، وخصوهم بها لقلة ذات يدهم من الدنيا ولخسة صنائعهم، لأن منهم الحاكة والحجامة والإسكافية والمعدم الذي لا مال له ولا نشب، على أن الفقر ليس بشيء يعاب عليه وكذلك الصنعة قال:
278
وقال أبو العتاهية:
وليس على عبد تقي نقيصة... إذا صحح التقوى وإن حاك أو حجم
وخسة الصنعة خير من السؤال قال الأصمعي رأيت زبالا ينشد:
وأكرم نفسي إنني إن أهنتها... وحقّك لا تكرم على أحد بعدي
فقلت له وما بعد هذه الإهانة؟ قال السؤال منك، فحجني ووليت. وكذلك عدم النسب لا يزري بالشرف، قال تعالى (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) الآية ١٠٢ من سورة المؤمنين في ج ٢، وقال تعالى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ) الآية ١٣ من سورة الحجرات في ج ٣، وقال صلّى الله عليه وسلم: أنا جد كل تقي، وقال:
لا فضل لأسود على أحمر ولا لعربي على عجي إلا بالتقوى، وقال القائل:
وليس بنافع نسب زكي... تدنسه صنائعك القباح
وقال أيضا:
لا ينفع النسب من هاشم... إذا كانت النفس من باهله
على أن الإسلام قد ساوى بين أكثر الناس واحتفظ بحق الشرف الاصلي للرجل فقال صلّى الله عليه وسلم: خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا. وقال القائل:
أبي الإسلام لا أب لي سواه... إذا افتخروا بقيس أو تميم
وليعلم أن الغنى غنى الدين، والنسب نسب التقوى، والرفع والخفض من جهتهما
لقد رفع الإسلام سلمان فارس... وقد وضع الشرك الحسيب أبا لهب
والصنعة مهما كانت حقيرة خير من ذل السؤال، وأحفظ لماء وجه الرجل، ولا يجوز أن يسمى المؤمن رذيلا ولو كان أفقر الناس مالا وأوضعهم نسبا وأخسهم صنعة، وما زالت اتباع الرسل بادي الرأي كذلك، وأتباع الصالحين من بعدهم حتى الآن، فترى أكثر علماء المدن وصالحيها من القرى ومن عادي الناس، لكن مع الأسف بعد أن رفعهم العلم وينالوا الشرف على الناس بسلّمه الذي صعدوا عليه ترى خلفهم عمدوا إلى تحطيم ذلك السلم واعرضوا عن العلم الذي هو أساس شرفهم وتقدمهم، فما تحس بهم إلا وقد أخمد الله تلك الشعلة النورانية فيهم، فصاروا من أحسن الناس بسوء عملهم، قال تعالى: (ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ
279
حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ)
الآية ٥٥ من سورة الأنفال، وقال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) الآية ٣ من سورة الرعد في ج ٣، والله تعالى أكرم من أن يسلب نعمة من عبده وهو يشكرها، ولكن كفرانها مزيل لها، قال تعالى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) الآية ٧ من سورة ابراهيم في ج ٢،
«قالَ» تعالى حاكيا على لسان نوح عليه السّلام «وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» ١١٢ من الصناعات، أو أن إيمانهم عن غير نظر واستدلال، إنما أطلب منهم الإيمان الظاهري في الدنيا والله يتولى سرائرهم في الآخرة، يدلك على هذا قوله «إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ» ١١٣ إن الله سيحاسبهم على ما في ضمائرهم وعقائدهم لا على صنائعهم وظواهرهم ومكانتهم بينكم وضعة نسبهم فيكم، فلو علمتم هذا لما عيرتموهم بذلك «وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ» ١١٤ من أجل فقرهم وخسة صنعتهم وضعة نسبهم، أو لأن إيمانهم بقصد التعيش كما زعمتم «إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ» ١١٥ بالبرهان الصحيح والدليل القاطع أظهر لكم الحق من الباطل، فأقبل من يتبعني، وأدعوا لمن يعرض عني لأقيه من عذاب الله، لا لغرض ولا لعوض، أملا من الله أن يرشدكم للصواب ويهديكم لما به نجاتكم. وانظر بماذا أجابوه على نصحه هذا «قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ» عن دعوتك هذه «لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ» ١١٦ بالحجارة حتى تموت «قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ» ١١٧ فيما وعدتهم به من نزول العذاب بهم إن لم يؤمنوا بك وجحدوا رسالتي ووحدانيتك «فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً» أي احكم بيننا لأن فتح بمعنى حكم، والفتاح الحاكم لأنه يفتح مغلقات الأمور، كما يسمى فيصلا ففصله بين الخصمين «وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» ١١٨ بك والمصدقين لرسالتي فأجابه الله تعالى بقوله «فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ» ١١٩ المملوء الموقر من أصناف الإنسان والحيوان والطير، قال تعالى: (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) الآية ٤٠ من سورة هود في ج ٢ وتقدمت قصته مفصلة في تفسير الآية ٥٩ من سورة الأعراف المارة «ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ» ١٢٠ الذين لم يؤمنوا به بما فيهم زوجته واعلة وابنه كنعان «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً»
عظيمة «وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ٢٢١
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ»
١٢٢ بانقاذ المؤمنين ويفهم من قوله الباقين أن نوحا عليه السّلام مرسل لمن على وجه الأرض أجمع ولانه قال في قصة موسى (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) قالوا ان عدد المؤمنين الذين كانوا في السفينة ثمانون نسمة، وانهم أنشئوا قرية في محل إرسائها قرب الجودي وسموها قرية الثمانين، وسنأتي على تمام القصة في تفسير الآية المذكورة من سورة هود، وسنبحث في عموم رسالته من حيث الآخر، وخصوصها من حيث المبدأ هناك أيضا، وأن رسالة محمد عامة أولا وآخرا، ورسالة بقية الرسل خاصة أولا وآخرا، وان عاقبة المصرين على الكفر المستكبرين عن الحق الانتقام بالعذاب الأليم، قال تعالى «كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ» ١٢٣ أنت الضمير باعتبار القبيلة، وعاد اسم أبيهم الأقصى وكثير ما يعبر عن القبيلة بالأب إذا كانت كبيرة أو كان رئيسها عظيما، وقد يعبر عنها ببني فلان أو آل فلان «إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ» نسبا لادينا «هُودٌ» هو عابر بن شالخ بن ارفخشد، بن سام بن نوح عليه السّلام، وسمي هودا لوقاره أخذا من الهوادة التؤدة والسكينة، وهو اسم عربي فصيح، وقومه وقوم صالح عرب، لأنه من نسل نوح أيضا أما شعيب وإسماعيل فمن نسل ابراهيم عليهم السّلام، فيكون مجموع الأنبياء العرب خمسة: عاش مئة وخمسين سنة، وأرسل على رأس الأربعين من عمره الى أولاد عاد، وخاطبهم بقوله «أَلا تَتَّقُونَ ١٢٤ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ» ١٢٥ وهكذا كل الأنبياء أمناء الله على وحيه وعلى عباده «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» ١٢٦ فيما آمركم وأنهاكم بقصد إرشادكم وهدايتكم «وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ» ١٢٧ تقدم مثله، وهو عبارة عن تنزيهه عن المطامع الدنيوية والأغراض الدنيئة حتى لا يشك فيه ان له رائدا آخر غير الله، ثم شرع يعدد مساويهم فقال «أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ» مكان مرتفع، وقيل هو الفج بين الجبلين والطريق وكل ما يشرف على غيره (آيَةً) برجا عاليا كالعلم وقد بين مواضع الذم في اتخاذهم البناء العالي بقوله «تَعْبَثُونَ» ١٢٨ بالمارة وتستهزئون بهم من فوقهم بسبب اشرافكم عليهم مع انكم بغنى عن ذلك وتقصدون به التفاخر والتطاول عليهم لالسدّ حاجتكم
وكفايتكم، او لا حاجة لكم لعلو البناء لفسحة أراضيكم «وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ» حياضا كبيرة محصنات لجمع الماء «لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ» ١٢٩ بذلك في هذه الدنيا التي لا خلود فيها، فاقطعوا أملكم منها واعلموا انكم ميّتون ما عمرتم فيها وتاركون قصوركم وحياضكم وغيرها «وَإِذا بَطَشْتُمْ» عاقبتم أحدا لجرم ما «بَطَشْتُمْ» ضربتم ضربا مبرحا بالسوط وقتلا بالسيف بطش أناس «جَبَّارِينَ» ١٣٠ بلا رحمة ولا شفقة ولا رأفة والجبار وصف مذموم بالخلق لأن الذي يضرب ويقتل بمجرد غضبه غير ناظر للمضروب انه مستحق ذلك أم لا «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» ١٣١ بالكف عن هذه الأفعال الذميمة
«اتَّقُوا الله الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ» ١٣٢ من العافية والنعم المبينة بقوله «أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ» كثيرة متنوعة «وَبَنِينَ ١٣٣ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ» ١٣٤ جاربة بينها ولم تشكروه وقد ضرب صفحا عن نعمة خلقهم وما متعهم به من سمع وبصر وقوة وعقل، لانهم ليسوا بأهل للاستدلال والنظر، ولهذا اقتصر على النعم المنهمكين فيها، وكان خلقهم التكاثر بالأموال والأولاد، والتفاخر بالكثرة فيها «إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ» ان لم تؤمنوا أن يصبّ عليكم «عَذابَ يَوْمٍ» من ربكم «عَظِيمٍ» ١٣٥ لا أعظم منه إن بقيتم على كفركم وأصررتم على عصيانكم، وانظر بماذا جاوبره «قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ» ١٣٦ فإنا لا نسمع قولك ولا نطيع أمرك، وهو جواب بغاية الاستخاف وقلة الاكتراث وعدم المبالاة، مع أن ما وعظهم به كان على غاية من اللين، ولكن قلوبهم قاسية يلين الحجر ولا تلين، راجع الآية ١٣ من البقرة في ج ٣. ثم قالوا له «إِنْ هذا» الذي نحن عليه من بناء القصور ومصانع المياه وشدة البطش والعبث ما هو «إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ» ١٣٦ آبائنا ومن قبلهم أي عبادتهم وديدنهم ولم يبعثوا بعد موتهم كما تقول ولم يعذبوا، ولهذا فلا محل لقبول نصحك «وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» ١٣٨ أيضا ولا مبعوثين ولا محاسبين على ما نفعله، قال تعالى «فَكَذَّبُوهُ» ولم ينتفعوا بإرشاده «فَأَهْلَكْناهُمْ» بريح صرصر عاتية فلم تبق لهم باقية، وتقدمت قصتهم مفصلة في الآية ٧٢ من الأعراف المارة، «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً» كافية لمن يعتبر بها
«وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ١٣٩ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» ١٤٠ تقدم تفسيره
«كَذَّبَتْ ثَمُودُ» بن غاير بن أرم بن سام بن نوح كانت مساكنهم بين الحجاز والشام «الْمُرْسَلِينَ ١٤١ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ» بن عبيد بن جاوز بن ثمود أرسله الله إليهم بعد هود بمئة سنة، وعاش مئتين وعشرين سنة «أَلا تَتَّقُونَ ١٤٢ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ١٤٣ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ١٤٤ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ» ١٤٥ تقدم مثله «أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا» في هذه الدنيا ونعيمها «آمنين ١٤٦» من الموت وعذاب الآخرة الذي لا بد لكم منه، الذي لم ينج منه من تقدمكم من الأمم الكافرة، فلا تغتروا بما أنتم عليه، فإنه نازل بكم إذا لم تؤمنوا بالله ورسوله وصحفه وتموتوا على ذلك، فلا تأمنوا مكر الله بما أنعم عليكم «فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ١٤٧ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ» ١٤٨ نضيج لين رطب، ينهضم في المعدة فلا يحتاج إلى كثير مضغ «وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ» ١٤٩ أشرين بطرين في هذه الدنيا، كلا لا تتوهموا ذلك فهو محال اغترّ فيه من قبلكم فهلكوا وخلفوها لمن بعدهم وتحملوا عذابها. سأل نافع بن الأرزق ابن عباس رضي الله عنهم عن معنى الهضيم فقال: هو المنضمّ بعضه إلى بعض، فقال له وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت قول امرئ القيس:
قد يدرك المجد الفتى ورداؤه خلق وجيب قميصه مرقوع
دار لبيضاء العوارض طفلة مهضومة الكشحين ريّا المعصم
«فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ١٥٠ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ» ١٥١ في المعاصي الذين تآمروا على مخالفته، وهم الرهط التسعة الآتي ذكرهم في الآية ٤٧ من سورة النمل الآتية
«الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ» ١٥٢ لتوغلهم في الفساد ودأبهم على المخالفة للحق «قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ» ١٥٣ الذين خدعهم السحر واستولى على حواسهم «ما أَنْتَ» أيها الآمر المدعي النبوة «إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا» تأكل وتشرب وتنكح ولست برسول ولا ملك «فَأْتِ بِآيَةٍ» تدل على صحة دعواك «إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ»
١٥٤ بأن الله أرسلك إلينا مما ذكرت «قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ» حظ من الماء العائد لكم «وَلَكُمْ» مثله
«شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ» ١٥٥ لكم يوم ولها يوم فلا تزاحموها عليه وهي آية على نبوتي «وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ» من ضرب أو نهر أو منع عن الورود والمرعى، فإذا فعلتم شيئا من ذلك «فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ» ١٥٦ فلم يعبأوا بقوله فعمدوا إليها «فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ» ١٥٧ إذ شاهدوا العذاب أظلهم.
مطلب في إيمان اليأس والتأدب بآداب القرآن وآداب المنزل عليه:
وكان ندمهم ندم خوف لا ندم توبة، والتوبة لا تنفع عند نزول العذاب، راجع قوله تعالى (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) إلخ الآية ١٨ من سورة النساء في ج ٣، وقال في بدء الأمالي:
وما إيمان يأس حال يأس بمقبول لقصد الامتثال
فالإيمان عند معاينة العذاب لا قيمة له، كما سيأتي في الآية المذكورة، لذلك قال تعالى «فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ» المعهود المبين في الآية ٧٩ من الأعراف المارة، «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ٥٨ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ١٥٩ تقدم تفسيره، قال تعالى «كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ» ١٦٠ هو بن هاران بن عم ابراهيم عليهم السّلام وقد هاجر معه إلى الشام فأنزله الأردن، فأرسله الله إلى أهل سدوم وما يتبعها، وهو أجنبي عنهم، إلا أنه صاهرهم، وهؤلاء المرسل إليهم كذبوا قبله ابراهيم ومن قبله، وكذبوه هو «إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ» بالخلقة لا بالدين ولا بالنّسب، ومعناه هنا صاحبهم كما يقال يا أخا العرب، يا أخا تميم، وعليه قوله:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
وهو لوط عليه السّلام بدل من أخوهم ثم فسر ما قاله لهم بقوله «أَلا تَتَّقُونَ ١٦١
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ١٦٢ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ١٦٣ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ»
١٦٤ الذي أرسلني إليكم، لأرشدكم الى ما فيه صلاحكم، وقال لهم على طريق الاستفهام الانكاري «أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ» ١٦٥ عبر بالإتيان عن اجراء الفحش ليعلم قومه الأدب في المخاطبات، ولينبههم على ان هذا الفعل قبيح بنفسه ولفظه ليتحاشوا عنه وعن ذكره. هذا، وان الله تعالى عبر
284
عن الوطء الحلال بالحرث في الآية ٢٢٢ من البقرة في ج ٣، وعن الجماع بالغشيان في الآية ١٨٨ من الأعراف المارة، وعن الفعل القبيح بالإتيان كما هنا، وفي الآية ٧٣ من الأنبياء بالخبث في ج ٢ وفي الآية ١٧٩ من الأعراف المارة وذلك ليتأدب العباد بتأديب القرآن ويصونوا ألسنتهم عن ذكر الألفاظ المستهجنة، قال صلّى الله عليه وسلم إذا أتى أحدكم أهله، وكثير من أقوال الرسول تأمر بالآداب في المخاطبة بالإشارة والقول والفعل تباعدا عن سوء الأدب والجهر بما هو فاحش والجنوح الى الكنى والمعاريض في كل ما يستقبح ذكره، ومن هذا قوله تعالى «وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ» مما أحله لكم وهو محل الحرث والبذر الذي منعكم الله عن إتيانه أيام الحيض لقذارته، فكيف تميل أنفسكم الى ذلك المحل مخرج القذر دائما «بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ» ١٦٦ متجاوزون متعدون الحل الى الحرمة قالوا كانوا يفعلون هذا الفعل القبيح بأزواجهم أيضا: وقيل إن ابن مسعود قرأ (وتذرون ما أصلح لكم ربكم من أزواجكم) هو تفسير الآية لا قراءة وقد أخطأ من جعلها قراءة لما فيها من الزيادة على ما في المصاحف من تبديل خلق بأصلح، وقد ذكرنا غير مرة بأن كل قراءة فيها تبديل كلمة أو حرف أو زيادة أو نقص عما أثبت في المصاحف لا عبرة بها وليست بقراءة، وانما هي شروح كتبوها على مصاحفهم تفسيرا لبعض الكلمات، لأنها أنزلت كذلك، وقد أكثرنا من التحرز عن مثل هذا لينتبه القارئ فيحذر من الإقدام على القول بشيء منه، إذ لا يجوز اعتباره ولا نقله الا تأويلا أو تفسيرا، وبحرم اعتقاد قرآنيته، لأن من يعتقد قرآنا ما ليس بقرآن قد يؤديه الى الكفر والعياذ بالله، إذ لا قرآن الا ما هو ثابت بين الدفتين البتة، وفي هذه الآية دلالة على تحريم إتيان النساء والجواري بأدبارهن حتى أن بعض العلماء كفر فاعله مبالغة في التحريم، وقد جاء في الحديث من أتى امرأة في دبرها فهو بريء مما أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلم، ولا ينظر الله اليه، ولهذا أفتى من أفتى بكفره، لأن من كان بريئا مما انزل على محمد فهو كافر، تدبر هذا، وراجع الآية ٨٠ فما بعدها من سورة الأعراف المارة تجد تفصيلا شافيا كافيا، والحكم الشرعي فيه، والقصة بتمامها ايضا «قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ» عن مقالتك هذه وتتركنا
285
وشأننا «لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ» ١٦٧ من قرانا لأنك لست منا ولا فينا من ينظرك «قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ» ١٦٨ المبغضين وهو أبلغ من قال، كما إذا قلت فلان من العلماء فقد جعلته منهم مساهما معهم بالعلم فهو أبلغ من قولك عالم، لأن العالم من علم مسألة واحدة، وفيه دليل على عظم هذه المعصية، ولما رأى عدم ميلهم لقوله وتهديدهم له قال «رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ» ١٦٩ فأجاب الله دعاءه بقوله «فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ١٧٠ إِلَّا عَجُوزاً» هي امرأته منهم بقيت «فِي الْغابِرِينَ» ١٧١ الهالكين لأنها كانت راضية عن عمل قومها والراضي بحكم الفاعل في شريعتهم أما في شريعتنا فلا الا الرضاء بالكفر فهو كفر
«ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ» ١٧٢ تدميرا فظيعا بأن قلبنا قراهم كما مر في الآية ٨٤ من الأعراف المارة، «وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً» من حجارة فكان عذابهم عذابا عظيما «فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ» ١٧٣ الذي أنزلناه عليهم من السماء وجعلنا أعالي أراضيهم أسفلها على صورة عجيبة هائلة «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ١٧٤ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» ١٧٥ كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ» ١٧٦ هي الغيضة المنبتة ناعم الشجر كالسدر والأراك، وهي بلدة قريبة من مدين من جهة البحر «إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ»
بن ثوبب بن مدين بن ابراهيم وقيل بن مكيك بن يشجر بن مدين وأم مكيك بنت لوط عليهم السّلام، ولم يقل هنا أخوهم، لأنه ليس منهم أيضا، وليس له معهم مصاهرة ولا نسبة، وكانوا طائفة على حدة «أَلا تَتَّقُونَ ١٧٧ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ١٧٨ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» ١٧٩ لأن طاعتي طاعته «وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ» ١٨٠ لأني مأمور من قبله وأجر المأمور على آمره، ثم طفق يأمرهم وينهاهم بما تلقاه عن ربه فقال «أَوْفُوا الْكَيْلَ» إذا كلتم للناس «وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ» ١٨١ حقوقهم بالتطفيف لأن فيه نقص حقهم، والكيل ثلاثة: واف وهو مأمور به، ومطفف وهو منهي عنه، وزائد وهو مسكوت عنه، فإن فعله فقد أحسن، وإلا فلا شيء عليه، وفي الآية دليل على الوفاء وهو لا يخلو من الزيادة، لأنه
286
لا يكون إلا بالرجحان، فمن رجح الموزون على الوزن فقد أوفى به «وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ» أي الميزان العدل أو القبان.
مطلب ما قيل إن في القرآن لغات أجنبية لا صحة له وهي هذه كلها:
قالوا إن هذه الكلمة في الأصل ليست عربية، وانها من جملة ما جاء بالقرآن من الكلمات الاعجمية الكثيرة، إذ أبلغوها إلى ما يزيد على مئتي كلمة وقد جاءت في القرآن لا لعجز في اللغة العربية لأن لها كما لا يخفى مترادفات كثيرة، ولكن ليعتني الناس بأمر اللغات وليعلموا أن معرفتها كمال للإنسان لا نقص ولا عيب ولا سيما لاستعمال الأشياء المحدثة إذ لا يمكن أن يعبر عنها بكلمة واحدة كأصلها وإن في تجدد اللغة تجدد معارف لم تكن وإن في ازديادها تحصيلا لها فتكون نموا وحياة لآخذها في عوامل الارتقاء من نواحيه كافة، وهذا من إرشادات القرآن العظيم لأن معرفة كل لسان بإنسان. هذا، وان القول الحق في هذه الكلمات أنها عربية في الأصل، لأن العرب استعملوها قبل نزول القرآن، ولغتهم قديمة، لأن هودا وصالحا وأممهم عرب كما مر في الآية ١٢٣ ولغاتهم متفرقة ولها مترادفات كثيرة، ويوجد كلمات مستعملة عند طائفة منهم بمعنى، وعند أخرى بمعنى آخر، وقد توجد كلمات عند فرقة دون أخرى لبعد الشقة بينهم، حتى ان حرفي الجيم والكاف الفارسيين الذين لم يعدّا من الحروف العربية لا بد وأن يكون أصلهما عربيا، لأن عرب البادية قديما وحديثا ينطقون بها، وهذا بالطبع بطريق التنافل، فلو لم يكن أصلهما عربيا لما تعمم هذا التعميم ونطق بها من لم يعرف الحاضرة ولم يختلط بالفرس، إذ قد يكون بالاختلاط أيضا كما هو الحال الآن، إذ يدخلون بالكلام العربي كلمات أجنبية تسربت لهم بسبب الخلطة، وبعد أن علمت هذا فقد أحببنا أن نورد لك الكلمات الموجودة في القرآن المقول عنها بأنها أجنبية تتميما للفائدة مما وقفنا عليه، فمنها ما قيل إنه بلغة الحبشة وهي كلمة (شطر) : بمعنى تلقاء ٢ والجبت:
بمعنى الشيطان، ٣ والطاغوت: الكاهن، ٤ والحوب: الإثم، ٥ والأواه: الموقن والمؤمن والرحيم، ٦ ابلعي ماءك: ازدرديه، ٧ المتكأ: الأترج، ٨ طوبى:
287
الجنة، ٩ السكر: الخل، ١٠ طه: يا رجل، ١١ حرّم وجب، ١٢ طي السجل: الرجل، ١٣ المشكاة: الكوة، ١٤ أوّبي: سبحي، ١٥ سيل العرم:
المسناة التي يجتمع إليها الماء ثم ينبثق، ١٦ منسأته: عصاه، ١٧ يس: يا إنسان، ١٨ أوّاب: مسيح، ١٩ كفلين: ضعفين، ٢٠ ناشئة الليل: رغبة قيامه، ٢١ منفطر: ممتلىء، ٢٢ قسورة: الأسد، ٢٣ يمور: يرجع، ٢٤ طور سينين:
الحش وهو إيقاد النار والمحش هو المكان الكثير الكلأ والخير، ٢٥ الأرائك:
السرر عليها الوسائد، ٢٦ يصدون: يضجون، ٢٧ دريّ: مضيء، ٢٨ غيض الماء: نقص، ومنها ما جاء بالفارسية في قوله تعالى (وَإِسْتَبْرَقٍ) : الحرير الثخين ويسمى ديباجا، ٢٩ و ٣٠ سجيل كل ما أوله حجر وآخره طين وقالوا هو الطين المحرق كالآجر، ٣١ كورت: غورت، ٣٢ مقاليد مفاتيح، ٣٣ أباريق: كل آنية لها خرطوم وعروة، ٣٤ بيع: بيوت عبادة النصارى، ٣٥ كنائس: بيوت عبادة اليهود، ٣٦ التنور: جهنم، ٣٧ دينار: اسم لما يعادل ثلث مثقال من الذهب المتعامل، ٣٨ الرّس: البئر غير المطوي وقيل هو المطوي ٣٩ الروم:
علم لقبيلة بني الأصفر، ٤٠ زنجبيل: اسم لنبات حار خص به، ٤١ سجين:
اسم لكتاب اهل النار، ٤٢ سرادق: قماش يمد فوق صحن البيت، ٤٣ سقر:
من أسماء جهنم، ٤٤ سلسبيل: اسم لعين ماء في الجنة، ٤٥ وردة كالدهان:
الزهرة في النّبات، ٤٦ سندس: مارق من الحرير المنسوج، ٤٧ قرطاس:
الورق، ٤٨ أقفالها: غالاتها: ٤٩ كافور: اسم لنبات مخصوص ذو رائحة يطيب فيه أكفان الموتى غالبا ٥٠ كنز: ما ادخر من ذهب وفضة وجوهر، ٥١ المجوس:
طائفة من اليهود افترقت عنهم لمخالفتها بعض طقوسهم، ٥٢ الياقوت: اسم لحجر كريم يتزين به ويوضع فصا للخاتم وهو ألوان كثيرة، ٥٣ المرجان: كذلك إلا أنه بحري وذلك برّى، ٥٤ مسك معلوم ويكون من نوع من الغزال كالفسارة في بطنه فيه وقيل:
فإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
٥٥ و ٥٦ و ٥٧ هود وهاد وهدنا واليهود: بمعنى التوبة والإنابة والرجوع
288
والخضوع، ومنها ما جاء بالرومية في قوله تعالى فصرهنّ: قطعهن أو ضمهن، ٥٧ الفردوس: البستان والجنة، ٥٨ القسط: العدل، ٥٩ القسطاس: الميزان، ٦٠ طفقا:
قصدا وشرعا، ٦١ الرقيم: اللوح والكتاب، ٦٢ الصراط: الطريق، ٦٣ القنطار:
إثنا عشر ألف اوقية، ٦٤ عدن: اقامة دائمة، ومنها ما جاء بالهندي في قوله تعالى ابلعي: اشربي وتقدم أنه بلغة الحبشة بمعنى از دردي والمعنى واحد، ٦٥ طوبى:
الجنة وهي كذلك بلغة الحبشة، ٦٦ سندس: رقيق الحرير الديباج، وهو كذلك بالفارسية، وهذا مما يدل على أن اللغات آخذة بعضها من بعض وهو كذلك، فإنك لا تجد لغة إلا وفيها من غيرها، وبما أن أوسع اللغات هي العربية فنقول إن هذه الكلمات وغيرها في الأصل عربية وتناقلتها اللغات الأخرى فأدمجتها في لغتها وها هي ذي لغة الترك مركبة من عربي وفارسي وبربري، ومنها ما جاء بالسريانية في قوله تعالى سريّا: نهرا، أو جدولا صغيرا وبالعربية كذلك، وبمعنى شريف ونبيل، راجع الآية ٢٣ من سورة مريم المارة، ٦٧ طه: يا رجل وهو كذلك بالحبشية، ٦٨ جنات عدن: الكروم والأعناب، ٦٩ الفردوس: جنات الأعناب فقط، ٧٠ الطور:
الجبل، ٧١ يمشون هونا: حلماء موقرين، ٧٢ هيت لك: عليك أن تفعل، ٧٣ ولات:
وليس وهي باللغة العربية كذلك، ٧٤ و ٧٥ ربيّون: ربانيون علماء عارفون، ٧٦ رهوا:
ساكتا، ٧٧ سجدا: مقنعي رؤوسكم، ٧٨ القيوم: الذي لا ينام، ٧٩ الاسفار:
الكتب وهذه كلها بالعربية كذلك، ٨٠ القمل: الذباب، ٨١ اليم: البحر، ٨٢ صلوات كنائس اليهود، ٨٣ آزر: اسم أبي ابراهيم، ٨٤ قنطار: اسم لملء جلد الثور ذهبا أو فضة وتقدم أنه في الرومية لوزن مخصوص، ومنها ما جاء بالعبرانية كفّر عنهم:
محا عنهم ٨٥ هونا: صلحاء وهو كذلك بالسريانية، ٨٦ أخلد في الأرض: ركن إليها، ٨٧ هدنا إليك: ثبتنا على ما تريد، ٨٨ كتاب مرقوم: مكتوب، ٨٩ رمزا: تحريك الشفتين، ٩٠ فومها: الحنطة، ٩١ أواه: الداعي وتقدم أنه بمعنى الموقن بالحبشية، ٩٢ طوى: اسم واد بفلسطين وبمعنى رجل، ٩٣ اليم: البحر وهو كذلك بالسريانية، ٩٤ الرحمن: كثير الرحمة، ٩٥ الأليم: الموجع، ٩٦ حمل بعير: الحمار أو الدابة، ٩٧ درست: تعلمت وقرأت، ٩٨ حطة: حط عنا أوزارنا، ٩٩ الأسباط: الأفخاذ، ١٠٠
289
راعنا: انظرنا ١٠١ من لينة: شجرة طرية، ١٠٢ قسيسين: علماء النصارى، ومنها ما جاء بالنبطية طور سينين المحشي وتقدم في اللغة الحبشية كذلك، ١٠٣ أسفارا: كتبا كما تقدم في السريانية، ١٠٤ الحواريون: الغسّالون، ١٠٥ الأكواب: الاواني التي لا عرى لها ولا خرطوم، ١٠٦ وليتبّروا ما علوا: يهلكوا إهلاكا عظيما، ١٠٧ سريا:
نهرا، وهو في السريانية كذلك، ١٠٨ سفرة: قراء ١٠٩ فصرهن: قطعهن وهي بالرومية كذلك، ١٠٩ طه: يا رجل، وهي كذلك في الحبشية والسريانية: ١١٠ الطور:
الجبل وهو في السريانية كذلك، ١١١ إلا: عهدا وموثقا، ١١٢ الفردوس: الكرم وهو كذلك في السريانية، ١١٣ الملكوت: الملك، ١١٤ هيت لك: هلم لك وتقدمت انها في السريانية بمعنى آخر قريب من هذا، ١١٥ رهوا: سهلا، وتقدم أنه بمعنى ساكن في السريانية، ١١٦ عبدت: قتلت، ١١٧ وراءهم: ملك أمامهم، ١١٧ قطّنا: كتابنا، ١١٩ إصري: عهدي وميثاقي، ١٢٠ كفّر: أمح وهي كذلك في السريانية والعبرانية، ١٢١ وزر: الجبل والملجأ وهذه كلها بالعربية كذلك بزيادة في معناها من الكلمات المترادفة بما يدل على أن النبطيين أخذوها من العرب ١٢٧ ومنها ما جاء بالقبطية في قوله تعالى متكأ: الأترج، ١٢٢ مناص: فرار ومهرب، ١٢٣ مزجاة: قليلة، ١٢٤ فناداها من تحتها: من بطنها، ١٢٥ بطائنها من إستبرق أي ظواهرها، ١٢٦ الجاهلية الأولى: الأخيرة، ١٢٧ الجاهلية الأخرى: الأولى لأنهم يسمون الآخرة أولى والأولى أخرى ومنها ما جاء بالتركية، غسّاق: الماء البارد والمنتن، ومنها ما جاء بالزّنجية في قوله تعالى حصب جهنم: حطبها، ١٢٨ الأليم: الموجع وهو كذلك بالعبرانية، ١٢٩ منسأته: عصاه وهو كذلك بالحبشية، ومنها ما جاء بالبربرية في قوله المهل: عكر الزيت، ١٣٠ ناظر في إناء:
نضجه، ١٣١ حمّ: منتهى الحرارة، ١٣٢ عين آنية: جارية، ١٣٣ يصهر ما في بطونهم: ينضج به، ١٣٤ أبّا: الحشيش، ١٣٥ قنطار: ألف مثقال من ذهب وفضة، ١٣٦ هذا ما عثرنا عليه، وما قيل إن عمر بن يحيى الحافظ أوصلها إلى مئنين فهو من غير المترادف منها والمتداخل فيها، ولو حسب هذا لبلغت ذلك وأكثر.
واعلم أن هذه الكلمات بوجودها في القرآن العظيم تعد عربية بحتة، وعلى فرض أن
290
منها ما هو ليس بعربي فقد نقل إلى العربية قبل نزول القرآن، إذ تكلمت بها العرب قديما وأجرتها على الأصول العربية إعرابا وبناء، لهذا فلا محل للقول بأنها أجنبية ويتحتم علينا أن نؤولها على ما وضعت له ونعتت به مثل «الْمُسْتَقِيمِ» ١٨٢ أي العدل صفة القسطاس «وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ» بأن تعطوهم أنقص من حقهم أو تأخذوا منهم أكثر من حقكم «وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» ١٨٣ بأن تقطعوا الطرق وتسلبوا المارة وتشنوا على الآمنين الغارة وتهلكوا الزرع والضرع وهذا معنى تعثوا لأنه المبالغة في الإفساد والإكثار منه
«وَاتَّقُوا الله الَّذِي خَلَقَكُمْ» أجنة في بطون أمهاتكم «وَالْجِبِلَّةَ» الخليقة «الْأَوَّلِينَ» ١٨٤ من الأمم التي خلقها قبلكم، قال ابن عباس الجبلة الجماعة شبهت بالقطعة العظيمة من الجبل «قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ» ١٨٥ الذين سحروا مرة بعد أخرى «وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ» ١٨٦ بما تدعيه من الرسالة، فإن كنت صادقا «فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ» قطعا كثيفة عظاما منها «إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» ١٨٧ بأنك رسول الله القادر على كل شيء «قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ» ١٨٨ وما تقولون وهو يجازيكم على ذلك، لأني بشر مثلكم لا قدرة لي على شيء مما اقترحتموه وغيره، فهو الذي يسلط عليكم ما يقهركم ويردكم إلى السداد قهرا «فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ» السحابة التي حبست عنهم الريح بعد أن سلط عليهم الحر سبعة أيام «إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» ١٨٩ لأن السحابة التي التجئوا إليها لتقيهم حر الشمس قد أمطرتهم نارا والعياذ بالله فأهلكتهم جميعا، وتقدمت القصّة مفصّلا في الآية ٩٣ من سورة الأعراف المارة «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ١٩٠ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» ١٩١ انتهت القصص الثمانية التي أشرنا إليها آنفا، فتأمل رعاك الله كيف كانت دعوة هؤلاء الأنبياء الكرام إلى أممهم، وكيف كانت على وتيرة واحدة وجاءت على صيغة واحدة، لأن المرسل لهم هو الإله الواحد، والمرسل إليهم عبيده وخلقه، وكيف بذلوا معهم قصارى جهدهم ونهاية وسعهم طلبا لإرشادهم لسلوك الحق وعدولهم عن الباطل،
بما يتحتم على العاقل من أن يعتقد صحة الشرائع كلها، قال تعالى (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ) الآية ١٦٢ من النساء في ج ٣، وقال تعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) الآية ١٣ من الشورى في ج ٢، كما يجب أن يعتقد ويصدق بجميع الأنبياء ويعترف أن ما جاء في شريعة النبي المتأخر ناسخ لشريعة من قبله وواجب العمل به، وكيف كان جوابهم إليهم فتراه كأنه صادر عن أمة واحدة بلهجة واحدة على نمط واحد، صدق الله تعالى وهو أصدق القائلين في قوله (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) الآية ١٦٧ من البقرة في ج ٣، وكلهم سخروا بأنبيائهم واستهزءوا بهم وكذبوهم وأنكروا معجزاتهم ولم يعتبروا بمن قبلهم ولم يرتدعوا بما وقع عليهم، ألا فليحذر الذين يخالفوا أمر الله ويكذبون رسله ويجحدون كتبه أن يصيبهم مثل ما أصابهم ثم التفت إلى حبيبه محمد صلّى الله عليه وسلم وقال «وَإِنَّهُ» أي القرآن المنزل عليك الذي أمرناك أن تنذر به قومك وقصصنا عليك فيه أحوال الرسل قبلك وأممهم وكيفية حالهم معهم وماهية عذابهم وسبب إهلاكهم تسليه لك كي لا يضيق صدرك مما ترى منهم ولا تحزن على عدم إيمانهم ودعهم فليقولوا ما يقولون فيه، وعزتي وجلالي «لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ» ١٩٢ وقد «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ» ١٩٣ سفيرنا جبريل، سماه روحا لأنه خلق من نور الله من الروح وأمينا لائتمانه على وحيه وأدائه لرسله كما تلقاء منه وفي لحظة أمره به
«عَلى قَلْبِكَ» يا سيد الرسل حتى تعيه «لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ» ١٩٤ به وقد خص القلب لأنه موضع التمييز والعقل، لأن الرجل لا يتكلم إلا عما وقر في قلبه «بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» ١٩٥ ليفهمه قومك دون حاجة لترجمان حتى لا يبقى لهم عذر من جهة إرسال الرسول والفهم، قال تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) الآية ٣ من سورة ابراهيم في ج ٢، وهذه الآية وما يضاهيها من آي القرآن الحكيم فصل الخطاب بأن جميع ما في القرآن عربي فصيح جاء بلسان العرب ولغتهم، وعليه فكل قول بأن بعض كلماته أجنبية باطل، وما جاء بأن اسماء ابراهيم وإسماعيل وجبرائيل أعجمية فهي في الأصل كذلك ونقلت الى العربية وتسمى بها العرب قبل نزول القرآن، وكل ما كان مستعملا عند العرب فهو عربي ليس إلا، وإنما ذكرنا
292
لك آنفا الأقوال في كونها أجنبية وذكرنا لك مصادرها لتقف عليها ثم تردها بما أوضحناه لك، وبدل أن تقول هي أجنبية استعملها العرب، فقل هي عربية استعملها الأجانب أو أنها وافقت لغتهم وهو الأجدر والأنسب، وفيها ردّ صريح آخر على ما يزعمه الباطنية من أن القرآن انزل غير موصوف بلسان أو لغة، ثم أنه عليه السلام أداء الى قومه بلسانه وعبر عنه بلغته، لأن زعمهم هذا مخالف لنص القرآن والحديث في الإجماع.
مطلب الفرق بين الحديث القدسي والقرآن وتخصيص القلب بنزوله وماهية المنزل عليه:
ولو كان كما قالوا لما بقي فرق بين القرآن والحديث القدسي، لأنه هو الذي يلقى على قلب الرسول بغير صفة أي غير موصوف بلغة أو لسان، ثم إنه يعبر عنه بلسانه ولغة قومه هذا، والمتلقى بالتواتر هو الفرق بين القرآن والحديث القدسي، لأن القرآن ثبت بالتواتر، بخلافه هذا، وقد قلنا في تفسير على قلبك:
إنما خص القلب لأنه موضع العقل بناء على ما ذهب إليه الإمام في تفسيره ردا لقول من قال إن محله الدماغ، والخلاف بين هاتين الطائفتين في محل العقل كثير، والناصرون لكلا القولين أكثر، فلا محل لبسط المقال عن كل هذا، وإنما الذي يحب بيانه، هو سبب تخصيص القلب بالنزول، فإذا قلنا إنه رأس الأعضاء وانها تصلح لصلاحه وتفسد بفساده وأنه محلها الفرح والاختبار والسرور وغيرها فلا يختص بحضرة الرسول لا هي ولا أضدادها ولا كونه محل الفقه والعظة والفطنة، بل هو عام في كل البشر وإذا كان كذلك فلا يصح أن يكون جوابا للتخصيص، وانما التخصيص والله أعلم هو أن الله تعالى جعل لقلبه سمعا مخصوصا يسمع به ما ينزل عليه من القرآن تمييزا لشأنه على سائر البشر، يدل على هذا ما ذكره النووي في شرح مسلم في قوله تعالى (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) الآية ٦ من سورة والنجم المارة بأن الله تعالى عز وجل جعل لفؤاده عليه السّلام بصرا فرآه سبحانه ليلة المعراج وما ورد عنه في الحديث القدسي أنه قال كانت تنام عيني ولا يتام قلبي وجاء في صحيح البخاري عن أنس قال أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بوجهه فقال اقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري. وفي رواية أبي
293
داود عن أبي هريرة كان يقول: استووا ثلاثا، والذي نفسي بيده إني لأراكم من خلفي كما أراكم من بين يدي. وفي رواية هل ترون قبلتي هاهنا، فو الله ما يخفى عليّ خشوعكم ولا ركوعكم، إني لأراكم من وراء ظهري. فكل هذا يدل على أن الله تعالى خصّه بأشياء دون سائر البشر، ويتفرع عن هذا القول بأنه هل كان جبريل عليه السّلام ينزل بالألفاظ القرآنية المحفوظة له بعد ان تنزل القرآن جملة واحدة من اللوح إلى بيت العزة أو التي يحفظها من اللوح عند الأمر بالإنزال، أو التي يوحي بها الله إليه فيسمعها منه سبحانه فيلقيها الى قلب الرسول على ما هي عليه، وعلى الصفة التي يبلغها لقومه ويثبتها في المصاحف من غير تغيير أصلا، أو أن جبريل تلقى عليه المعاني القرآنية من الحضرة الأزلية وهو يعبر عنها بألفاظ عربية ويلقيها على حضرة الرسول، أو أن جبريل ينزل بالمعاني التي يتلقاها من ربه فيعبر عنها بألفاظ عربية خاصة ثم يلقيها الى حضرة الرسول، وأنه يعلم ما يلقيه عليه فيعبر عنه لقومه بلغتهم ويثبتها بالمصاحف فهذه أقوال تضاربت بها العلماء، وأرجحها هو أن الألفاظ نفسها منه عز وجل كالمعاني لا دخل لجبريل فيها أصلا، وكان صلّى الله عليه وسلم يسمعها ويعيها بقوى إلهية قدسية يهبها الله له لا كسماع البشر إياها منه عليه السّلام وإلا لسمعها من كان عنده كما سمعها هو، ولذلك كان صلّى الله عليه وسلم عند نزول الوحي تنعقل قواه البشرية فيظهر على جسده الشريف ما يظهر ويعرفه من يراه ويسمى برحاد الوحي، أي ثقله حتى يظن أنه أغمي عليه في بعض الأحايين، وعلى هذه الصورة فانه يسمع كلام الله المنزل إليه بواسطة جبريل أصواتا وحروفا منظومة مسموعة منه يختص هو وحده بسماعها دون غيره، فعلى هذا يظهر لك أصح الأقوال هو الأول، وأن القول الثاني يخالف معنى النزول من الحضرة القدسية، لأن من قال إن القرآن هو الألفاظ الدالة على المعنى القائم بذاته تعالى فيكون انزاله مجرد إثباته في اللوح المحفوظ، ومن قال إن القرآن معنى قائم بذات الله تعالى فيكون انزاله إيجاد الكلمات والحروف الدالة على ذلك المعنى وإثباتها في اللوح المحفوظ، وعلى كلا القولين فإنّ الأمين عند أمره بإلقائه الى حضرة الرسول، فإنه ينزل بما هو موجود في اللوح، فلا يصح أن يقال انه ألقيت عليه المعاني وهو عبر عنها بألفاظ عربية، وأما القول الثالث فاختصت به الباطنية
294
كما تقدم وهو مخالف لا يجوز القول به، لأن الإنزال اظهار ما كان في عالم الغيب الى عالم الشهادة كما كان، وهنا يقال ان قوله تعالى (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ)، يفيد ان القرآن جميعه نزل، مع أنه ثبت بالحديث الذي أخرجه مسلم عن ابن مسعود أنه لما أسرى به صلّى الله عليه وسلم أعطاه الله الصلوات الخمس وخواتيم سورة البقرة الى آخر ما جاء فيه، وهذا من القرآن، فالجواب ان ذلك وجملة ما خاطبه به ربه لا يعدّ انزالا
بواسطة الأمين جبريل، لأن القرآن جميعه نزل به عليه على الصورة المذكورة، ولأن سورة الإسراء التي فرضت فيها الصلاة نزلت بعد وقوع الإسراء وخواتيم البقرة نزلت بالمدينة، ولهذا البحث صلة نذكرها ان شاء الله في الآية ٧ من سورة النحل وفي آخر سورة الإسراء عند قوله (وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا) الآتيتين، وقد أثبتنا بالمقدمة في بحث نزول القرآن شيئا من هذا فراجعه، هذا، ولنرجع الى تفسير الآية وهو قوله تعالى «وَإِنَّهُ» القرآن المنوه به في الآية السابقة «لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ» ١٩٦ أي كتبهم كصحف آدم فمن بعده، وتوراة موسى، وزبور داود، وإنجيل عيسى عليه السّلام، وهذا باعتبار الأغلب لأن ما يتعلق بالتوحيد وذات الله وصفاته وكثيرا من المواعظ والقصص مسطور فيها فلا يضر أن منه ما ليس فيها بحسب غالب الظن، كقصة الإفك ونكاح امرأة زيد، وما جاء في سورة التحريم، وما استبدله الله في القرآن من الأحكام المسطورة في الكتب المتقدمة إذ نسخت بالقرآن العظيم، قال تعالى (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) من آيات الكتب المتقدمة النازلة على الأنبياء السابقين مثلك يا محمد (أَوْ نُنْسِها) نؤخر نزولها وننسى ما هو مخالف لها مما كلف بها الأولون من الاحكام (نَأْتِ) في هذا القرآن المنزل عليك يا سيد الرسل (بِخَيْرٍ مِنْها) أخف عبئا وأكثر اجرا وأسهل عملا وأيسر فعلا (أَوْ مِثْلِها) في ذلك التكليف والأجر، وكان نزول هذه الآية ردا لليهود والنصارى القائلين إن ما جاء به محمد مخالف لما جاء به موسى وعيسى، تدبر، وراجع تفسير الآية ١٠٧ من سورة البقرة في ج ٣.
مطلب لا تجوز القراءة بغير العربية الا إذا كانت دعاء أو تنزيها:
وما قيل إن الإمام أبا حنيفة استنبط من هذه الآية جواز قراءة القرآن
295
بالفارسية لأنها أشرف اللغات بعد العربية، ولما جاء في الخبر أن لسان أهل الجنة العربي والفارسي الدرّي أي وغيرها من بقية اللغات، فقد صح أنه رجع عنه وقد حرر الإمام حسن الشر نبلالي رسالة في تحقيق هذه المسألة سماها التحفة القدسية في أحكام قراءة القرآن وكتابته بالفارسية، فمن أراد تحقيق ذلك فليراجعها، وكان رجوعه رضي الله عنه لضعف الاستدلال على جوازها، وهو لا يقول بالضعيف لأن القرآن أنزل في هذه اللغة العربية للإعجاز بفصاحته فضلا عن غيرها، وان الترجمة مهما كانت لا تكون قرآنا في هذا المعنى بل لا يمكن قراءته جميعه، الا بالعربية، فلا يمكن ترجمته كله بغيرها، لان اللغات الأخر لا تشتمل على جميع الحروف العربية فضلا عن أنها يتعذر فيها ما في القرآن من أنواع البلاغة والبديع والمعاني والفصاحة والتعبير عن المجاز والحقيقة والمحل والحال والحذف والإيصال وغيرها، أما من لا يحسن العربية ولم يتمكن من تعليمها البته فيجوز أن يتعلم شيئا من القرآن على حسب لغته بالترجمة حرفيا، بقدر ما تصح به صلاته فقط، قال الإمامان إذا عجز عن العربية يجوز له قراءته بلغته على أن يكون المقروء بلغته دعاء أو ذكرا أو تنزيها أو ثناء محضا كالفاتحة والإخلاص، وقوله تعالى (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا) (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) وما شابه هذا، أما إذا كان المقروء بغير اللغة العربية من القصص والأحكام والأوامر والنواهي والحدود فلا يجوز البتة، لاحتمال وقوع الخطأ فيها، أما تفسير القرآن باللغات السائرة مع اثبات الأصل فهو مطلوب لا طلاع البشر كافة عليه، والتشرب من معانيه، والعمل بأحكامه والاتعاظ بأخباره، والاسترشاد بقصصه وآدابه، والاهتداء بهديه، لأنه لم ينزل للعرب خاصة بل لجميع البشر من تاريخ نزوله الى آخر هذا الكون، كما ان المنزل عليه مرسل لجميع الخلق من الإنس والجن من زمنه إلى آخر الدوران، وهذه الآية المدنية المستثناة من هذه السورة، قال تعالى «أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ» هؤلاء المتكبرين من أهل الكتاب وغيرهم «آيَةً» دالة على صدق محمد «أَنْ يَعْلَمَهُ» بأنه رسول الله حقا «عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ» ١٩٧ ممن أسلم منهم ومن لم يسلم، قال مقاتل هذه الآية مدنية وعلماء بني إسرائيل عبد الله بن سلام وأصحابه، كما روي عن
296
ابن عباس ومجاهد أن جماعة أسلموا ووقفوا على مواضع من التوراة والإنجيل فيها ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وعلى كون الآية مكية يكون المعنى أولم يكن لهؤلاء الكفرة علامة على صدق القرآن المنزل على محمد صلّى الله عليه وسلم أن يعلمه علماء بني إسرائيل، لأنه منعوت في كتبهم، ذكر الثعلبي عن ابن عباس أن أهل مكة بعثوا إلى أحياء يثرب ليسألوهم عن النبي صلّى الله عليه وسلم، فقالوا هذا زمانه وذكروا نعته وخلطوا في أمره، فنزلت هذه الآية. هذا، وبعض المفسرين أعاد ضمير يعلمه على القرآن، وفيه بعد لأن بني إسرائيل لا يعلمونه وأن مجرد ذكره في التوراة لا يدل على علمهم به وبما فيه، أما محمد صلّى الله عليه وسلم فهو موصوف ومنعوت في التوراة والإنجيل، وأن علماء أهل الكتابين يعرفونه حق المعرفة باطلاعهم على أوصافه، قال تعالى (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) الآية ٢١ من الأنعام في ج ٢ والآية ١٤٧ من سورة البقرة ج ٣ فراجعها تعلم من هذا ما يكفيك، أما إذا أريد أنهم إذا قرىء عليهم القرآن يعرفونه أنه من الله، فهو ما لا جدال فيه، وعليه يستقيم عود الضمير إلى القرآن، قال تعالى:
(وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) الآية ٥١ من النمل الآنية، واعلم أن مفاد الآيات المتقدمة من وأنه الى هنا وسياق قوله «وَلَوْ نَزَّلْناهُ» وما بعدها تفيد أن ضمير بعلمه يعود إلى القرآن بدلالة عود ضمير أنزلناه إليه أيضا وهو الظاهر واتباع الظاهر أولى «عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ» ١٩٨ الذين لا يفهمون معناه ولا يقدرون فصاحة مبناه، بل لا يتمكنون من قراءته كما ينبغي، وهو جمع أعجمي حذفت منه ياء النسبة مثل أشعري يجمع على أشعرين وأشعرون بحذف ياء النسبة أيضا، وقرىء أعجميين ولهذا جمع بالواو والنون جمع العقلاء، ولو كان جمع أعجم لما جمع هكذا لأنه مؤنث عجماء، وافعل فعلاء لا يجمع جمع السالم «فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ» على أولئك الكفرة «ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ» ١٩٩ أنفة من اتباع من ليس منهم لشدة شكيمتهم في المكابرة، ولو فرض أنه قرأه عليهم باللغة العربية الفصحى بتعليم الله إياها كما علم آدم الأسماء كلها فيكون معجزة من جهتين لما آمنوا أيضا «كَذلِكَ» مثل هذا المسلك البديع «سَلَكْناهُ» أي التكذيب بالقرآن وعدم الإيمان به «فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ» ٢٠٠ فلا سبيل لتعييرهم
297
عما جبلوا عليه، لأنهم طبعوا على ذلك، قال تعالى: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) الآية ٢٩ من سورة الروم في ج ٢ فالمؤمنون لا يكفرون مهما كان منهم، والكافرون لا يؤمنون مهما كان منهم، لأنه لا بد وأن يوفق كل منهم أن يموت على ما خلق له من إيمان وكفر ولهذا قال تعالى «لا يُؤْمِنُونَ بِهِ» أولئك الكفرة «حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» ٢٠١ الذي لا دافع له فيكون إيمانهم إيمان يأس وهو غير مقبول كما تقدم في الآية ١٥٧ المارة، وهذه الآيات على حد قوله تعالى (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) الآية ١٨ من سورة الأنعام في ج ٢ «فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً» ذلك العذاب الفظيع المؤلم «وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» ١٠٢ به ولا بوقت إتيانه، لأنه على حين غرة وغفلة بوقت لا يتوقعونه، وإذ ذاك «فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ» ٢٠٣ لنؤمن ونصدق وهيهات رجوع مافات، لأن عذاب الله إذا جاء لا يؤخر كما أنه لا يقدم عن الوقت المقدر لنزوله،
ويقال لهم «أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ» ٢٠٤ وهو آتيهم لا محالة، قال نفر من قريش حتى يأتينا هذا العذاب الذي يوعدنا به محمد فنزلت الآية الآنفة، قال تعالى يا سيد الرسل «أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ» ٢٠٥ كثيرة في هذه الدنيا وما فيها من النّعم «ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ» ٢٠٦ به من العذاب الذي تهددهم به (ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) ٢٠٧ فيها شيئا من ذلك العذاب وما هو براد عنهم شيئا وكأنهم لم يكونوا رأوا شيئا من طول العمر وطيب العيش في الدنيا «وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ» فيما سبق من الأمم الباقية «إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ» ٢٠٨ من قبلنا يخوفونهم عذابنا إن لم يؤمنوا بهم، فلم يفعلوا وكان إرسال الرسل إليهم «ذِكْرى» لئلا يقولوا (ما جاءنا نذير) الآية ٤١ من المائدة في ج ٣ فتلزمهم الحجة وإلا فالله تعالى يعلم من يؤمن ومن يكفر قبل إرسال الرسل بل قبل إيجادهم وهو قادر على إهلاكهم دون ذلك، ولكن ليظهر لأمثالهم أن عذابهم كان بسبب كفرهم وَما كُنَّا ظالِمِينَ» ١٠٩ في تعذيب أحد لأنا تقدمنا إليهم بالمعذرة، وقدّمنا لهم الحجة، هذا وإن نفرا من المشركين لما رأوا محمدا يخبرهم بما غاب عنه مما يتقولونه
في نواديهم وحينما يسألونه يقول لهم أخبرني ربي قال بعضهم لبعض كلا، فإن الشياطين تلقي إليه ذلك كما تلقي القرآن الذي يزعم أنه من ربه، فأنزل الله تعالى «وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ ٢١٠ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ» أن ينزلوا بمثله لأنهم أحقر من ذلك «وَما يَسْتَطِيعُونَ» ٢١١ إنزاله ولا يقدرون البتة لأنه محفوظ بحفظ الله وليسوا بأهل له، ولا يصح قولهم هذا ولا يستقيم «إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ» ٢١٢ مبعدون عنه ومحجوبون منه وممنوعون عن استراقه بالشهب الجهنمية، ثم خاطب رسوله بما أراد به غيره على طريق ضرب المثل: (إياك أعني واسمعي يا جاره) فقال عز قوله «فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ» إذ لا إله لهذا الكون غيره فاحذر من هذا أيها الإنسان، «فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ» ٢١٣ إن أقدمت على ذلك وهذا مما لا شك فيه مراد به غيره صلّى الله عليه وسلم لأنه عليه محال لوجود العصمة، وإنما خاطبه به ليحذر الغير من الإشراك بالله على طريق التعريض تحريكا لزيادة الإخلاص لله، وإلهابا للقلوب بالتباعد عنه، وعلى فرض المحال لو أريد به حضرة الرسول فيكون ذلك على حد قوله تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) الآية ٤٥ فما بعدها من سورة الحاقة في ج ٢، فيكون المعنى: وإن كنت يا محمد وأنت أكرم الخلق علي اتخذت شريكا في دعائي لعذبتك، وفيه تحذير عظيم للغير
قال تعالى «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» ٢١٤ خصّهم بالذكر لنفي التهمة عن التساهل معهم في أمر الدين وليعلموا أنه لا يغني عنهم من الله شيئا إذا حل بهم عذابه وليعلم الناس كافة أن النجاة في اتباعه والتصديق لما جاء به في دينه لا في قرابته، راجع الآية ٨٩ المارة «وَاخْفِضْ جَناحَكَ» يا سيد الرسل «لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» ٢١٥ بك القريب منهم والبعيد، أما الكافرون فلا يليق أن تلين لهم جانبك، بل شدد عليهم برفض الشرك وحذرهم من تكذيبك «فَإِنْ عَصَوْكَ» أقاربك وعشيرتك وسائر قومك، ولم يقبلوا نصحك ولم يلتفتوا لإرشادك «فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ» ٢١٦ من الكفر والمعاصي والأفعال الذميمة والأحوال السافلة، واتركهم ولا تعبأ بهم الآن، لأنك لم تكلف إلا بإبلاغهم ما يوحى إليك، وذلك لأنه لم يؤمر بقتالهم بعد، ولذلك
299
اقتصر أمره على الإنذار والتبشير والتبري مما هم عليه من القبائح، لا منهم لأنه لو أمر بالتبري منهم لما بقي شفيعا للعصاة يوم القيامة.
مطلب أن الأقارب أولى من غيرهم في كل شيء:
وما قيل إن هذه الآية منسوخة بآية السيف قيل لا قيمة له، لأن معناها صحيح قبل آية السيف وبعدها، وحكمها باق، لأن لأقربين لهم مزية على غيرهم، ولين الجانب مطلوب للجميع ومن الجميع، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين انزل الله (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) قال يا معشر قريش أو كلمة غيرها، اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، ويا صفية عمة رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئا ويا فاطمة بنت رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا، سليني ما شئت من مالي. وحديث البخاري ومسلم عن ابن عباس في هذا المعنى تقدم في سورة المسد المارة، فراجعه. وروى مسلم عن قبيصة بنت مخارق وزهير بن عمر قال: لما نزلت وأنذر الآية انطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى رحمة جبل فعلا أعلاها ثم نادى: يا بني عبد مناف اني نذير لكم، إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يريد أهله، فخشي أن يسبقوه، فجعل يهتف يا صاحباه، وروى محمد بن اسحق بسنده عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: لما نزلت هذه الآية على رسول صلّى الله عليه وسلم قال يا علي إن الله أمرني أن انذر عشيرتي الأقربين، فضقت بذلك ذرعا، وعرفت أني متى أناديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمت عليها صمتة حتى جاءني جبريل، فقال يا محمد إن لا تفعل ما تؤمر يعذبك ربّك، فاصنع لي طعاما واجعل لنا عليه رجل شاة واملأ لنا عسا من لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أبلغهم ما أمرت به، ثم دعوتهم له وكانوا يومئذ أربعين رجلا، يزيدون رجلا أو ينقصونه، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب، فلما اجتمعوا دعاني بالطعام الذي صنعته، فجئت به فتناول صلّى الله عليه وسلم جذبة من بعض اللحم، فشقها بأسنانه ثم ألقاها في الصفحة، ثم قال خذوا باسم الله، فأكل القوم حتى ما لهم بشيء من حاجة، وايم الله إن كان الرجل
300
الواحد ليأكل مثل ما قدمت لجميعهم، ثم قال اسق القوم، فجئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا جميعا، وأيم الله ان كان الرجل الواحد ليشرب مثله، فلما أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يكلمهم، بدره أبو لهب فقال: سحركم صاحبكم فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال الغد يا علي فان هذا الرجل قد سبقني الى ما سمعت من القول، فتفرق القوم قبل أن أكلمهم، فأعدوا لنا الطعام مثلما صنعت ثم اجمعهم، ففعلت ثم جمعتهم ثم دعاني بالطعام فقربته، ففعل كما فعل بالأمس، فأكلوا وشربوا، ثم تكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال يا بني عبد المطلب إني قد جئتكم بخيري الدنيا والآخرة، وقد أمرني ربي عز وجل أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على أمري هذا ويكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاحجم القوم عنها جميعا، وأنا أحدثهم سنا، فقلت أنا يا رسول الله أكون وزيرك عليه، فأخذ بمرقبتي، ثم قال: هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لعلي وتطيعه. هذا، وعليه أن من بدا له شيء فليفعله أولا بنفسه، ثم بدأ بالأقرب فالأقرب من أهله ومن يواليه، فيكون انفع قولا وأنجح نتيجة وأبعد عن الطعن، قال الله تعالى «وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ» الذي لا يذل من والاه ولا يعزّ من عاداه «الرَّحِيمِ» ٢١٧ الذي ينصر من فوض إليه أمره ويرحم من لا يعرف غيره «الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ»
٢١٨ في الليل وحدك تتهجد له بصلاتك التي خصصت بها وتتضرع إليه بدعواتك التي الهمتها منه دون أن يراك أحد غيره «وَ» يرى «تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ» ٢١٩ في أصلاب الأنبياء أجدادك، إذ تتنقل من واحد لآخر حتى اخرجك الى هذه الأمة، وهذا من أعظم ما وفقت إليه. واعلم أن كلمة الساجدين تشمل الأنبياء والمؤمنين، وتدل على إيمان أبويه صلّى الله عليه وسلم كما ذهب إليه كثير عن أجلة العلماء قال محمود الآلوسي في تفسيره روح المعاني: وأنا أخشى على من يقول فيهما رضي الله عنهما
بغير ذلك الكفر على رغم القارئ واضرابه، وقد جاء في الخبر أن الله تعالى أحيا له أبويه وعمّه أبا طالب فآمنوا به، ولا يلتفت الى قول من ضعفه، لأنه ناشىء عن ضعف إيمانه، على أن أبويه من أهل الفترة، وهم كلهم ناجون على القول الصحيح الراجح بدلالة قوله تعالى (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ
301
حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)
الآية ١٥ من سورة الاسراء الآتية، أو أنّ المعنى ويرى تقلبك كما يتقلب غيرك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في تبليغ ما أمروا بتبليغه، وتفسير الساجدين من الأنبياء، رواه الطبراني والبزار وأبو نعيم عن ابن عباس، إلا أنه فصر التقلب بالتنقل كما ذكر آنفا، أما التفسير بالمصلّين وإن ذهب اليه كثير من المفسرين فهو بعيد، لأن الصلاة لم تفرض بعد، وأبعد منه من جعل الصلاة صلاة الجماعة، وهي لم تفرض بمكة وهذه السورة مكية بلا خلاف، وخاصة هذه الآية، ويجوز أن يراد تقلبك في المجتهدين لتفحص أحوالهم وتطلع عليهم وتستبطن سرائرهم وهذا القول على ضعفه لا بأس فيه، لأن الله تعالى فرض على نبيه صلاة ركعتين في الغداة ومثلها في العشية، وفرض عليه قيام بعض الليالي خاصة كما نص عليه أول سورة المزمل المارة، وكان يتهجد فيهن ويشاركه بعض أصحابه في ذلك، فيحتمل أنه تفقد أحوالهم ليراهم يداومون عليها اقتداء بفعله أم لا، فنزلت هذه الآية، أما ما جاء في روح المعاني من أنه لما نسخ فرض قيام الليل طاف صلّى الله عليه وسلم تلك الليلة بيوت أصحابه لينظر ما يصنعون حرصا على كثرة طاعتهم، فوجدها كبيوت النحل لما سمع من دندنتهم بذكر الله والتلاوة، فلا يتجه لان هذه الآية ٢٠ من سورة المزمل التي عبر عنها بأنها نسخت أول السورة بشأن القيام نزلت في المدينة ولا علاقة لها بالآية المفسرة، وقد بيّنّا في المقدمة ما يتعلق بالنسخ في هذه الآية وعدمه في آخر سورة المزمل المذكورة، فراجعها «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» ٢٢٠ يسمع دعاءك ويعلم عملك، ثم قل يا أكرم الرسل لهؤلاء الكفرة «هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ» ٢٢١ لتجاريهم على أقوالهم السالفة فإنها «تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ» مختلق للكفر مثل هؤلاء القائلين إن الشياطين تلقي عليك هذا القرآن وكل منهم «أَثِيمٍ» ٢٢٢ مرتكب للآثام الكثيرة كالسحرة والكهنة المتنبئين كذبا فتراهم «يُلْقُونَ السَّمْعَ» الذي يسمعونه من الملائكة فيلقونه للكهنة مع أضعافه كذبا «وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ» ٢٢٣ فيما يخبرونه به، لأن منهم من لا يسترق السمع وإن محمدا مبرا من ذلك معصوم من هذه الصفات المتلبس بها الكهنة والسحرة والمشعوذين، قيل هذا كان قبل مبعث الرسول وعليه يكون أكثر بمعنى الكل على
302
حد قوله تعالى (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) الآية ٥٠ من آل عمران في ج ٣ يريد كله. وذلك لأنه لا يكون أحد من الكهنة والشياطين صادقا، وسيأتي في تفسير هذه الآية أن سيدنا عيسى لم يحل لهم كل ما حرم على بني إسرائيل، لهذا فإن تفسيرها على ما جرينا عليه أولى والله أعلم، ومن هنا الى آخر السورة نزل بالمدينة، وذلك أن جماعة ممن يقول الشعر من قريش كعبد الله بن الزبعرى السهمي وهبيرة بن أبي لهب المخزومي ومسافع بن عبد منات وابو عمر بن عبد الله الجحمي وأمية بن أبي الصلت الثقفي عليهم من الله ما يستحقون، صاروا يهجون حضرة الرسول ويقولون نحن نقول مثل ما يقول، وتبعهم في هذا السفهاء من قومهم.
مطلب في الشعر مليحه من قبيحه والآيات المدنيات:
ثم ان رجلين أحدهما من الأنصار تهاجيا فيما بينهما ومع كل واحد غواة من قومه، فأنزل الله فيهم «وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ» ٢٢٤ المغالون في الكذب والباطل وتمزيق الأعراض والقدح في الأنساب ومدح من لا يستحق المدح وذم من لا يستوجب الذم، يعني أن هذا الذي يقوله هؤلاء لا يستحسنه إلا المتوغلون في الضلالة المنهمكون في الغواية، «أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ» ٢٢٥ فيتحدثون في جميع أنواع الكلام وأبوابه مما مصدره اللغو في الباطل ويخوضون بما فيه الكذب والزور من البهت والافتراء، والهائم هو الذاهب على وجهه بلا قصد معين وهذا تمثيل لذهابهم في كل شعب من القول، فتراهم يفضلون الجاهل على العالم، والجبان على الشجاع، والبخيل على الكريم، والكاذب على الصادق، والخائن على الأمين، والقبيح على الصبيح، والرذيل على الجميل لأدنى لفتة من وجيه أو دانق من مال، فلهذا تراهم حائرين، وعن الطريق السوي حائدين، ولسبل الضلال رائدين، سمع سليمان بن عبد الملك قول الفرزدق:
فبتن بجانبيّ مضرجات وبت أفض أختام الحنان
فجاء به وقال وجب عليك الحد، قال ولم؟ قال لقولك هذا، قال قد درأه عني ربي. قال وبم؟ قال بقوله عز وجل «وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ» ٢٢٦ حيث وصفهم بالكذب وخلف القول والوعد، وان قولهم بهت، لأنه مباين
303
لفعلهم. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحا حتى يرثيه خير له من أن يمتلىء شعرا. ومعنى يرئيه يبلغ الرئة محل التنفس من الحلقوم، كناية عن شدة الامتلاء. واعلم ان القول بخلاف العمل مذموم ليس بالشعر فقط والشعراء بل في جميع القول والناس كافة، قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ). الآيتين ٣/ ٤ من سورة الصف في ج ٣، ألا لينتبه الناس له ولا يخصوه بالشعر.
مطلب ما هو المحبوب من الشعر:
واعلم أن هذا الذم الذي في هذه الآية في حق الكافرين ومن يحذو حذوهم في اشعاره، أما الذين لا يكذبون مثلهم فقد استثناهم الله تعالى بقوله «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» زيادة على إيمانهم، فإنهم لا يهجون أحدا ولا يمدحون بالباطل، ولا يندمون على مدح المستحق إذا لم ينالوا منه شيئا، لأنهم لا يقصدون إلا الحق والصدق إذا طرقوا مواضيع القول ومخازن الكلام وخاضوا في معاني القوافي، كعبد الله ابن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن زهير وكعب بن مالك رضي الله عنهم، الذين كانوا زمن الرسول صلّى الله عليه وسلم ينافحون عنه ومن اقتفى أثرهم على نهجهم ومشى على خطتهم حتى الآن، روي أن كعب بن مالك قال للنبي صلّى الله عليه وسلم إن الله أنزل في الشعر ما أنزل (يعرض باجتنابه خشية أن يكون في عداد الشعراء المذمومين) فقال صلّى الله عليه وسلم:
إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النّبل.
أي رميه. وعن أنس بن مالك أن النبي صلّى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة يمشي بين يديه وهو يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله اليوم نضربكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله
فقال عمر يا بن رواحة بين يدي رسول الله وفي حرم مكة تقول الشعر:
فقال صلّى الله عليه وسلم خل عنه يا عمر، فلهن أسرع فيهم من نضح النبل- أخرجه الترمذي والنسائي- وكان هذا سنة سبع من الهجرة. ومن قال إن القائل لهذين البيتين كعب بن مالك
304
لان عبد الله بن رواحة كان توفي قبل هذا، فقد اخطأ، لأن وفاته رحمه الله كانت في السنة الثامنة من الهجرة، وعمرة القضاء في السابعة منها بلا ريب، وروى البخاري ومسلم عن البراء أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال يوم قريظة لحسان: أهج المشركين، فإن جبريل معك، وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يضع لحسان منبرا في المسجد يقوم عليه قائما يناجز عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وينافح، ويقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن الله ليؤيد حسانا بروح القدس ما نافح أو ناجز عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وله رضي الله عنه أقوال كثيرة في الذب عن حضرة الرسول ومدحه، منها قصيدته التي يقول فيها:
فإن أبي ووالدتي وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
ثكلت بنيتي إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء
وروى البخاري عن بن كعب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال ان من الشعر لحكمة.
وعن ابن عباس قال لما جاء اعرابي الى النبي صلّى الله عليه وسلم فجعل يتكلم بكلام فقال ان من البيان لسحرا وان من الشعر لحكما- أخرجه ابو داود- وروى مسلم عن عمر ابن الشريد عن أبيه قال ردفت وراء النبي صلّى الله عليه وسلم يوما، فقال هل معك من شعر أمية بن الصلت شيء، قلت نعم، قال هيه، فأنشدته بيتا فقال هيه، ثم أنشرته بيتا، فقال هيه، حتى أنشدته مئة بيت، - زاد في رواية لقد كان يسلم في شعره- وعن جابر بن نمرة، قال: جالست رسول الله صلّى الله عليه وسلم أكثر من مئة مرة فكان أصحابه يتناشدون الشعر، ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية وهو ساكت، وربما تبسّم معهم- أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح-
مطلب ما نسب من الشعر للخلفاء والأئمة وعهد ابي بكر:
هذا وقد أنشد كل من الخلفاء الراشدين الشعر وكثير من الصحابة، فمن شعر أبي بكر رضي الله عنه قوله:
305
الى أبيات كثيرة ختمها بقوله:
فابلغ بني سهم لديك رسالة... وكل كفور يبتغي الشر باحث
فان تشعثوا عرضي على سوء رأيكم... فأني من أعراضكم غير شاعث
ومن شعر عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله:
توعدني كعب ثلاثا يعدها... ولا شك أن القول ما قاله كعب
وما بي خوف الموت إني لميّت... ولكن خوف الذنب يتبعه الذنب
وقال أيضا:
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته... يبقى الإله ويفنى المال والولد
لم تغن عن هرمز يوما خزائنه... والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح له... والإنس والجن فيما بينهما ترد
حوض هنالك مورود بلا كذب... لا بد من ورده يوما إذا وردوا
وتروى هذه الأبيات لورقة بن نوفل، ومن شعر عثمان رضي الله عنه:
غنى النفس يغني النفس حتى يكفها... وإن عضّها حتى يضر بها الفقر
وقال عند موته رضي الله عنه:
غدا نلقى الأحبة... محمدا وحزبه
أما علي كرم الله وجهه فقد ملأ الصحف شعره، وجاء من شعر ابنه الحسن:
نسود أعلاها فتأبى أصولها... فليت الذي يسود منها هو الأصل
وكان متحنيا، وللحسين والعباس وسائر بني المطلب رجالا ونساء أشعار كثيرة، لأن كلا منهم نطق به عدا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لأنه أبلغ في أمره، وقد ألمعنا إلى ما يتعلق به وما قاله صلّى الله عليه وسلم في الآية ٩٩ من سورة يس المارة فراجعه، ففيه كفاية، أما أئمة الدين فجلهم يقول الشعر، فمما ينسب للشافعي رحمه الله قوله:
ومتعب النفس مرتاح إلى بلد... والموت يطلبه في ذلك البلد
وضاحك والمنايا فوق هامته... لو كان يعلم غيبا مات من كمد
من كان لم يؤت علما في بقاء غد... فما يفكر في رزق لبعد غد
ولد في مكة سنة ١٥٠ وتوفي سنة ٢٠٤ هجرية ودفن بقرافة مصر، والإمام الأول أبو حنيفة ولد سنة ٨٠ وتوفي سنة ١٥٠ ودفن بالأعظمية في بغداد،
306
والإمام الثاني مالك بن أنس ولد سنة ٩٥ بالمدينة وتوفي سنة ١٧٩ ودفن فيها، والإمام الرابع أحمد بن حنبل ولد سنة ١٦٤ في بغداد وتوفي سنة ٢٤١ ودفن غربي دجلة في بغداد، وكلهم رضي الله عنهم نزار قبورهم ويتبرك بهم، نفعنا الله بهم وبعلومهم وجعلنا من أتباعهم، لأنهم عبدوا الله كثيرا «وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً» فلم يشغلهم شاغل من الشعر والعلم والعمل وغيرها عن ذكر الله، حتى أنهم ختموا أقوالهم وأشعارهم بذكر الله وخرّجوها بمدح الرسول، «وَانْتَصَرُوا» ممن اعتدى عليهم بفضل الله وكرمه «مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا» بأنواع العداء والهجاء والسخرية والاستهزاء «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا» من هؤلاء الكفرة وغيرهم المار ذكرهم في الآية ٢٣ المارة فما بعدها «أَيَّ مُنْقَلَبٍ» مرجع فظيع ومصير قبيح «يَنْقَلِبُونَ» ٢٢٧ إليه بعد الموت، وبئس المنقلب منقلبهم، لأنه جهنم، أما المؤمن فنعم المنقلب منقلبه، لأنه الجنة إن شاء الله، ختم الله تعالى هذه السورة الكريمة بما يقطع أكباد المنذرين في هذه الآية العظيمة، لما فيها من الوعيد الشديد، والتهديد المهول الذي لم يبينه الله، وفي إبهامه دلالة على فظاعته، والإبهام في الشيء أشد بلاغة من الإظهار، ولهذا فإن أبا بكر لما عهد إلى عمر رضي الله عنهما بالخلافة ختم عهده إليه بها، وهذه صورة العهد حرفيا (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هذا ما عهد به أبو بكر بن قحافة عند آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة في الحال التي يؤمن بها الكافر ويتقي فيها الفاجر ويصدق فيها الكاذب إني استخلفت عليكم عمر ابن الخطاب فإن يعدل فذاك ظني به ورجائي فيه وإن يجر ويبدل فلا علم لي بالغيب والخير أردت ولكل امرى مما اكتسب وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) هذا، وإن السلف الصالح يعظ بعضهم بعضا في هذه الآية الجليلة المهيبة، وهي محل الوعظ منذ نزولها وإلى أن ترفع من الأرض، قال ابن عطاء الله: سيعلم المعرض عنا ما الذي فاته منا. وقال غيره:
أناس أعرضوا عنا... بلا جرم ولا معنى
أساؤوا ظنهم فينا... فهلا أحسنوا الظنا
فإن عادوا لنا عدنا... وإن خانوا فما خنّا
وإن كانوا قد استغنوا... فإنا عنهمو أغنى
307
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
أمن طيف سلمى بالبطاح الدمائث ارقت وأمر في العشيرة حادث
ترى من لؤى فرقة لا يعدها عن الكفر تذكير ولا بعث باعث
رسول أتاهم صادق فتكذبوا عليه وقالوا لست فينا بصادق