تفسير سورة فصّلت

صفوة البيان لمعاني القرآن
تفسير سورة سورة فصلت من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن .
لمؤلفه حسنين مخلوف . المتوفي سنة 1410 هـ
مكية، وآياتها أربع وخمسون
بسم الله الرحمان الرحيم
وتسمى حم السجدة

﴿ كتاب فصلت آياته ﴾ ميزت آياته : لفظا بفواصل ومقاطع، ومعنى بكون بعضها في بيان صفاته وأفعاله تعالى، وبعضها في عجائب خلقه في العوالم كلها، وبعضها في الأحكام، وبعضها في المواعظ والأخبار، وبعضها في التبشير والإنذار، وبعضها في رياضة النفوس وتهذيبها، وغير ذلك من الفنون والعلوم التي لا تحصى.
﴿ قلوبنا في أكنة ﴾ أغطية متكاثفة فلا تفقه ما تقول. جمع كنان. ﴿ وفي آذاننا وقر ﴾ صمم يمنع من استماع قولك. ﴿ ومن بيننا وبينك حجاب ﴾ ساتر وحاجز منيع يمنع التواصل بيننا. وهو تمثيل لنبوّ قلوبهم عن إدراك الحق وقبوله، ومج أسماعهم له، وامتناع موافقتهم للرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لتباعد ما بين المذهبين.
﴿ فاستقيموا إليه ﴾ فالزموا الاستقامة في طريقكم إليه تعالى بالإيمان به، وطاعته والإخلاص في عبادته. ﴿ وويل للمشركين ﴾
هلاك وخزي لهم لشركهم بربهم.
﴿ لهم أجر غير ممنون ﴾ غير مقطوع عنهم ؛ من مننت الحبل : إذا قطعته. أو غير منقوص عما وعدهم الله به.
﴿ قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ﴾ أي أوجدها في مقدار يومين من أيام الدنيا. وقيل : اليوم منهما كألف سنة من أيامنا. والآية : تنديد بالمشركين ؛ لتماديهم في الشرك مع ظهور الدلائل الموجبة للإيمان بوحدانيته تعالى وكمال قدرته.
﴿ وجعل فيها رواسي ﴾ جبالا ثوابت﴿ من فوقها ﴾ لئلا تميد وتضطرب﴿ وبارك فيها ﴾ جعلها مباركة قابلة للخير ؛ كالإنبات وإخراج ما ينفع الناس. ﴿ وقدر فيها أقواتها ﴾ جعل أقوات أهلها التي يحتاجون إليها في معايشهم على مقادير معينة ؛ بحيث جعل في كل قطر ما يناسب أهله ؛ ليكون الناس محتاجا بعضهم إلى بعض فيما يرتفقون به. وهو سبب عمارة الأرض ونظام العالم. ﴿ في أربعة أيام ﴾ أي خلق ما في الأرض في تمام أربعة أيام﴿ سواء ﴾ مستوية كاملة. مصدر مؤكد لمضمر هو صف ل " أيام "، أي استوت ساء أي استواء ؛ وقيدت به لدفع توهم التجوز بإطلاقها على ما دونها بقليل. ﴿ للسائلين ﴾ أي قدر فيها أقواتها لأجل الطالبين لها، المحتاجين إليها من المقتاتين. فمدة خلق كل من الأرض وما فيها مقدار يومين، وتمام المدتين أربعة أيام كاملة.
﴿ ثم استوى إلى السماء ﴾ أي قصد إلى خلقها وإيجادها. وظاهر هذه الآية وآية " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى السماء فسواهن سبع سموات " ١ يدل على تقدم خلق الأرض وما فيها على خلق السماء وما فيها ؛ وإليه ذهب جمهور المفسرين. وقيل : إن خلق السماء متقدم
على خلق الأرض ؛ أخذا بظاهر قوله تعالى في سورة النازعات : " والأرض بعد ذلك دحاها " أي بسطها. ووفق بعضهم بين ظواهر الآيات ؛ كما روي عن ابن عباس بأن الله خلق الأرض قبل خلق السماء، ثم خلق السماء ثم دحا الأرض بعد ذلك. واعترض عليه بأن آية البقرة صريحة في خلق ما في الأرض قبل خلق السموات، ومعلوم أن خلق ما فيها إنما هو بعد الدحو ؛ فكيف يكون الدحو متأخرا عن خلق السموات ! ؟ ولذلك رجح الجمهور القول الأول، وأولوا قوله تعالى : " والأرض بعد ذلك دحاها " بما سيأتي بيانه في تفسيرها بمشيئته تعالى.
﴿ فقال لها وللأرض ائتيا... ﴾ أخرجا ما خلقت فيكما من المنافع لمصالح العباد. ﴿ قالتا أتينا طائعين ﴾ فعلنا ما أمرتنا به منقادين ؛ وهو تصوير لانفعالهما بالقدرة الإلهية.
١ آية ٢٩ البقرة..
﴿ فقضاهن سبع سموات ﴾ ففزع من تسويتهن على أبدع صورة وأحكم وضع﴿ في يومين ﴾ أي في مقدارهما ؛ فمدة الخلق كلها ستة أيام ؛ كما قال تعالى : " وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام " ١. ﴿ وأوحى في كل سماء أمرها ﴾ أي خلق في كل منها ما اقتضت حكمته أن يكون فيها من الملائكة والنيرات وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالى. ﴿ وحفظا ﴾ أي وحفظناها حفظا من الاختلال والاضطراب والسقوط.
١ آية ٧ هود..
﴿ أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ﴾ عذابا مهلكا مثل عذابهم. والصاعقة في الأصل : كل ما أفسد الشيء وغيره عن هيئته. وتطلق على الصيحة التي يحصل بها الهلاك.
﴿ فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا ﴾ شديدة السموم ؛ من الصر – بالفتح – وهو شدة الحر. أو شديدة البرودة مهلكة ؛ من الصر – بالكسر – وهو شدة البرد الذي يصر ؛ أي يجمع ظاهر جلد الإنسان ويقبضه. أو شديدة الصوت ؛ من صر يصر صرا وصريرا : إذا صوت وصاح بشدة. والحق أنها تجمع الشدتين. ﴿ في أيام نحسات ﴾ مشائيم عليهم، استمرت بهم حتى أبيدوا جمع نحسة صفة مشبهة ؛ من نحس – كفرح وكرم – ضد سعد، وهي أيام الحسوم، وتسمى أيام العجوز. وقرئ " نحسات " بسكون الحاء للتخفيف.
﴿ فهديناهم ﴾ بينا لهم طريق الضلال والرشد. ﴿ فأخذتهم صاعقة العذاب الهون ﴾ أي الهوان والذل ؛ وصف به العذاب مبالغة. أو بمعنى المهين.
﴿ فهم يوزعون ﴾ يستوقف سوابقهم ليلحق بهم أواخرهم حتى يجتمعون ؛ فإذا تكاملت العدة سيقوا إلى النار. وبدئ بالأكابر فالأكابر جرما، وهو كناية عن كثرتهم ؛ من الوزع وهو المنع. أو يساقون ويدفعون إلى النار [ آية ١٧ النمل ص ١٢١ ].
﴿ وما كنتم تستترون... ﴾ أي تقول لهم جوارحهم يوم القيامة حين يلومونها على الشهادة عليهم : ما كنتم في الدنيا تخفون شيئا عنا، مخافة أن نشهد عليكم بما ترتكبون من الكفر والمعاصي ؛ لأنكم كنتم
غير عالمين بشهادتنا عليكم. بل كنتم تستترون بالحيطان والحجب ؛ لاعتقادكم أنه تعالى لا يعلم خفيات أعمالكم، وهذا هو الذي أهلككم فأصبحتم في الآخرة من الخاسرين.
﴿ وذلكم ظنكم الذي ظننتم بكم ﴾ وهو اعتقادكم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعلمون ؛ وهو ما تخفونه. ﴿ أرداكم ﴾ أهلككم، وهو خبر " ذلكم ". يقال : ردى – كصدى – هلك وأرداه غيره : أهلكه.
﴿ وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين ﴾ وإن يطلبوا الرضا فما هم من المرضى عنهم ؛ بل لا بد لهم من الثواء في النار. أو إن يسألوا العتبى وهي الرجوع إلى ما يرضي الله تعالى جزعا مما هم فيه﴿ فما هم من المعتبين ﴾ أي المجابين إليها [ آية ٨٤ النحل ص ٤٤٢ ].
﴿ وقيضنا لهم قرناء ﴾ هيأنا وسببنا لهم من حيث لم يحتسبوا قرناء السوء من الجن والإنس ؛ يضلونهم بالإغواء، ويستولون عليهم استيلاء القيض على البيض. والقيض : قشر البيض الأعلى. يقال : قيض الله فلانا لفلان، جاءه به وأتاحه له. والقرناء : جمع قرين وهو النظير. ﴿ وحق عليهم القول ﴾ وجب وتحقق مقتضاه، وهو قوله تعالى لإبليس : " لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين " ١.
١ آية ٨٥ ص..
﴿ والغوا فيه... ﴾ ائتوا في القرآن أثناء تلاوة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] له باللغو، وهو مالا معنى له ؛ من نحو الصياح والمكاء والتصدية، لعلكم تغلبونه على القراءة. يقال : لغي يلغى – كلقي يلقى – إذا تكلم باللغو.
﴿ إن الذين قالوا ربنا الله ﴾ شروع في بيان حسن أحوال المؤمنين في الدارين، بعد بيان سوء أحوال الكافرين فيهما. أي قالوا ذلك اعترافا بربوبيته، وإقرارا بوحدانيته﴿ ثم استقاموا ﴾ أي ثبتوا على الاستقامة في أمر الدين والتوحيد.
﴿ ولكم فيها ما تدعون ﴾ تطلبون وتتمنون لأنفسكم [ آية ٥٧ بس ص ٢٢١ ].
﴿ نزلا من غفور رحيم ﴾ أي رزقا وضيافة مهيأة لكم من الله تعالى. والنزل : هو القرى الذي يهيأ للضيف النازل لإكرامه.
﴿ كأنه ولي حميم ﴾ صديق قريب مصاف لك.
﴿ وما يلقاها إلا الذين صبروا ﴾ أي ما يؤتى هذه الخصلة الشريفة إلا فيهم خلق الصبر على المكاره، وكظم الغيظ وترك الانتقام.
﴿ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ... ﴾ أي وإن تعرض لك من الشيطان وسوسة، تصرفك عن تلك الخصلة الشريفة فاستعذ بالله [ آية ٢٠٠ الأعراف ص ٢٩٢ ].
﴿ ومن آياته ﴾ رد على عبدة الشمس والقمر ؛ كالصائبة الذين يعبدون الكواكب.
﴿ فالذين عند ربك ﴾ هم الملائكة. والعندية : عندية مكانة وتشريف، لا عندية مكان ؛ فهي على حد :( أنا عند ظن عبدي بي ). ﴿ وهم لا يسأمون ﴾ لا يملون تسبيحه وعبادته ؛ من السآمة وهي الملالة والضجر مما يكرر فعله [ آية ٢٨٢ البقرة ص ٩٣ ]. يقال : سئم الشيء ومنه يسأم سأما وسآما وسأمة وسآمة، أي مله.
﴿ ومن آياته ﴾ أي ومن آياته الدالة على قدرته على البعث﴿ أنك ترى الأرض خاشعة ﴾ يابسة جامدة ؛ من خشعت الأرض : يبست ولم تمطر. يقال : أرض خاشعة، أي متغيرة متهشمة النبات. وبلدة خاشعة : أي مغبرة لا منزل بها. ﴿ فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت ﴾ تحركت بالنبات قبل بروزه على سطحها وبعده. ﴿ وربت ﴾ انتفخت وعلت ؛ لأن النبات إذا دنا أن يظهر ارتفعت له الأرض وانتفخت، ثم تصعدت عنه. يقال : هز الشيء فاهتز، حركه فتحرك ؛ وبابه رد. وربا الشيء : زاد وبابه عدا.
﴿ يلحدون في آياتنا ﴾ يميلون عما يليق في شأن آياتنا بالطعن والتحريف والتأويل الباطل، واللغو فيها ؛ من الإلحاد وهو الميل عن الاستقامة [ آية ١٨٠ الأعراف ص ٢٨٨ ].
﴿ إن الذين كفروا بالذكر ﴾ خبر " إن " محذوف لدلالة السياق عليه، ويقدر بعد قوله : " حميد " أي يخلدون في النار، أو يعذبون ونحوه.
﴿ ولو جعلناه قرآنا أعجميا ﴾ أي ولو أنزلناه بلغة العجم ؛ كما قالوا : هلا أنزل القرآن بلغة العجم ؟ ﴿ لقالوا لولا فصلت آياته... ﴾ هلا بينت بلسان عربي نفهمه ! ولقالوا منكرين : أقرآن أعجمي ورسول عربي ! قاصدين بذلك إنكار القرآن من أصله. فهم لا يؤمنون به لا عربيا ولا أعجميا لفرط تعنتهم !. والأعجمي : يطلق على الكلام الذي لا يفهمه العربي، وعلى المتكلم به. والياء للمبالغة في الوصف – كأحمري – وليست للنسب. ﴿ في آذانهم وقر ﴾ صمم مانع عن سماع القرآن.
﴿ لفي شك منه مريب ﴾ موقع في الريبة. أو موجب للقلق والاضطراب.
﴿ وما ربك بظلام للعبيد ﴾ أي بذي ظلم لهم. فظلام : صيغة نسب – كتمار وخباز – لا صيغة مبالغة.
﴿ إليه يرد علم الساعة ﴾ إرشاد للمؤمنين في التفصي عن هذا السؤال إذا وجه إليهم – بتفويض العلم فيه إلى الله وحده ؛ وقد سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن وقت قيامها. ﴿ من أكمامها ﴾ من
أوعيتها. جمع كم – بالكسر – وهو وعاء الطلع، وغطاء النور ؛ كالكمامة والكمة – بالكسر فيهما – ويجمع أيضا على أكمة وكمام. ﴿ قالوا آدناك... ﴾ أعلمناك بلسان الحال، وبما تعلم من قلوبنا أنه ليس منا أحد يشهد لهم بالشركة. يقال : آذنه الأمر وبه. أعلمه.
﴿ وظنوا ما لهم من محيص ﴾ أيقنوا ألا مهرب لهم من العذاب. يقال : حاص يحيص حيصا ومحيصا، إذا هرب.
﴿ لا يسأ الإنسان ﴾ لا يمل ولا يفتر
﴿ من دعاء الخير ﴾ أي من طلب السعة في النعمة وأسباب العيش. ﴿ وإن مسه الشر ﴾ الضيق والعسر. ﴿ فيئوس قنوط ﴾ فهو يئوس قنوط من فضل الله ورحمته. واليأس : أن يقطع رجاءه من الخير، وهو من عمل القلب. والقنوط : أن يبدو أثر ذلك عليه في الصورة، وهو التضاؤل والانكسار. وفعل اليأس من باب فهم. وفعل القنوط من باب جلس ودخل وطرب وسلم.
﴿ ونآى بجانبه ﴾ أي ثني عطفه. وهو كناية عن الانحراف والتكبر والصلف ؛ على أن الجانب هو العطف. أو ذهب بنفسه وتباعد عن شكر النعمة تكبرا واختيالا ؛ على أن الجانب في الأصل الناحية والمكان، ثم كنى به عن الشيء نفسه. والنأي : البعد. يقال : نأيته ونأيت عنه نأيا، أي تباعدت عنه. ﴿ فذو دعاء عريض ﴾ كثير مستمر. مستعار مما له عرض متسع للإشعار بكثرته ؛
والعرب تستعمل الطول والعرض في الكثرة. يقال : أطال فلان في الكلام، وأعرض في الدعاء، إذا أكثر.
﴿ أرأيتم ﴾ أخبروني عن حالتكم العجيبة [ ٤٠ الأنعام ص ٢٢٢ ].
﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق ﴾ سنريهم آيات وحدانيتنا وقدرتنا في أقطار السموات والأرض ؛ من الشمس والقمر والنجوم، والليل والنهار، والرياح والأمطار، والرعد والبرق والصواعق، والنبات والأشجار، والجبال والبحار وغيرها. جمع أفق ؛ كأعناق وعنق. أو جمع أفق ؛ كأجبال وجبل، وهو الناحية. يقال : أفق فلان يأفق، ركب رأسه وذهب في الآفاق. والنسبة إليه أفقي بفتحتين، وأفقي بضمتين ؛ وهو القياس. ﴿ وفي أنفسهم ﴾ بما أودعنا فيهم من الحواس والقوى، والعقل والروح، وبما تصيبهم به من البلايا والمحن، وما نجريه عليهم من النعم. والله أعلم.
Icon