تفسير سورة المعارج

صفوة البيان لمعاني القرآن
تفسير سورة سورة المعارج من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن .
لمؤلفه حسنين مخلوف . المتوفي سنة 1410 هـ
مكية، وآياتها أربع وأربعون

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ سأل سائل ﴾ دعا داع﴿ بعذاب واقع ﴾ أي سيقع لا محالة
﴿ للكافرين ﴾ أي عليهم﴿ ليس له دافع ﴾ يدفعه عنهم
﴿ من الله ﴾ أي من عنده وجهته تعالى. والسائل : هو النضر بن الحارث، حيث قال استهزاء : " إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم " ١ فنزل ما سأله. وقتل يوم بدر صبرا ٢ هو وعقبة بن أبي معيط ؛ ولم يقتل صبرا غيرهما. وقيل السائل غيره. وعبر " واقع " بدل يقع للدلالة على تحقق وقوعه. إما في الدنيا وهو عذاب بدر. وإما في الآخرة وهو عذاب النار. ﴿ ذي المعارج ﴾ أي المصاعد، وهي السموات تعرج الملائكة فيها من سماء إلى سماء.
١ آية ٣٢ الأنفال..
٢ صبر الإنسان وغيره على القتل: أن يحبس ويرمي حتى يموت..
﴿ تعرج الملائكة والروح إليه ﴾ أي تصعد الملائكة وجبريل عليه السلام إليه تعالى. ومعظم السلف على أنه من المتشابه، مع تنزيه تعالى عن المكان والجسمية، ولوازم الحدوث التي لا تليق بشأن الألوهية. وقيل : معنى " إليه " إلى عرشه. أو إلى محل بره وكرامته. ﴿ في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ﴾ بيان لغاية ارتفاع تلك المعارج وبعد مداها على سبيل التمثيل. أي أنها من الارتفاع بحيث لو قدر قطعها في زمان لكان ذلك الزمان مقدار خمسين ألف سنة من سني الدنيا. أو بيان لسرعة العروج ؛ أي أنهم يقطعون فيه في يوم من أيامكم ما يقطعه الإنسان في
خمسين ألف سنة لو فرض سيره فيها.
﴿ فاصبر صبرا جميلا ﴾ لا شكوى فيه لأحد غير الله تعالى. أمره الله بالصبر على استهزاء النضر وأضرابه وتكذيبهم، وأن لا يضجر ولا يحزن ؛ لأن العاقبة للمتقين.
﴿ إنهم يرونه ﴾ أي يوم القيامة﴿ بعيدا ﴾ من الإمكان. أو من الوقوع ؛ ولذلك كذبوا ما جئت به، واستهزءوا بأخباره.
﴿ ونراه قريبا ﴾ كائنا لا محالة.
﴿ يوم تكون السماء كالمهل ﴾ كدرديّ الزيت، وهو ما يبقى في أسفله. أو ما أذيب من المعادن على مهل. والمراد : يوم تكون السماء واهية. و " يوم " بدل من الضمير في " نراه ".
﴿ وتكون الجبال كالعهن ﴾ كالصوف المصبوغ ألوانا ؛ لاختلاف ألوان الجبال، فإذا بست وطيرت في الجو أشبهت العهن المنقوش إذا طيرته الريح.
قيل : أول ما تتغير تصير رملا مهيلا، ثم عهنا منفوشا، ثم هباء منبثا.
﴿ ولا يسأل حميم حميما ﴾ لا يسأل قريب قريبا عن شأنه لشغله بشأن نفسه " لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه " ١.
١ آية ٣٧ عبس..
﴿ يبصرونهم ﴾ يعرفون أقرباءهم، فيعرف كل إنسان قريبه ؛ فذلك تبصير الله إياهم، ولكنهم لا يتساءلون لاشتغال كل واحد بحال نفسه. يقال : بصرته بالشيء، إذا أوضحته له حتى يبصره ؛ ثم ضمن معنى التعريف. ﴿ يود المجرم ﴾ أي إن اشتغال كل مجرم بنفسه في ذلك اليوم بلغ إلى حيث يتمنى أن يفتدي بأقرب الناس إليه وأعقلهم بقلبه ؛ فضلا عن أن يهتم بحاله ويسأل عنها.
﴿ وفصيلته ﴾ أي عشيرته التي تضمه انتسابا إليها، أو لياذا بها في الشدائد. ﴿ ثم ينجيه ﴾ ذلك الافتداء ؛ أي بود لو يفتدي ثم لو يفتدي ثم لو ينجيه ذلك الافتداء.
﴿ كلا ﴾ ردع للمجرم عن هذه الودادة. وتبئيس له من الإنجاء.
﴿ إنها لظى ﴾ أي عن النار لظى ؛ وهي اسم من أسمائها. أو اسم لطبق من أطباقها. واللظى : اللهب الخالص. ﴿ نزاعة للشوى ﴾ قلاعة لجلدة الرأس وأطراف البدن ؛ كاليد والرجل. ثم تعود كما كانت، وهكذا أبدا. جمع شواة، وهي من جوارح الإنسان ما لم يكن مقتلا. يقال : رمى فأشوى، إذا لم يصب مقتلا.
﴿ وجمع فأوعى ﴾ جمع المال ؛ فأمسكه في وعائه وكنزه، ولم يؤد منه حق الله تعالى فيه، وتشاغل به عن دينه.
﴿ إن الإنسان ﴾ أي الكافر﴿ خلق هلوعا ﴾ والهلع : شدة الجزع من شدة الحرص والضجر ؛ وقد بين الله تعالى ذلك بقوله :﴿ إذا مسه الشر جزوعا ﴾
أي إذا مسه الفقر أو المرض ونحوهما كان مبالغا في الجزع، مكثرا منه، لا صبر له على ما أصابه. وإذا مسه الغنى أو الصحة كان مبالغا في المنع والإمساك، لا ينفقه في طاعة، ولا يؤدي منه حق الله فيه. و " جزوعا " و " هلوعا " خبران لكان مضمرة. وقيل : حالان من الضمير في " هلوعا ".
ثم لما وصف سبحانه من أدبر وتولى معللا بهلعه وجزعه استثنى ما يقابله فقال :﴿ إلا المصلين ﴾، ووصفهم بما ينبئ عن كمال تنزههم عن الهلع من الاستغراق في طاعة الله، والإشفاق على الخلق، والإيمان بالجزاء، والخوف من العقوبة، وكسر الشهوة، وإيثار الآخرة على الأولى.
﴿ والمحروم ﴾ الفقير المتعفف عن السؤال ؛ فيظن لتعففه استغناؤه فيحرم العطاء.
﴿ مشفقون ﴾ خائفون على أنفسهم مع مالهم من صالح الأعمال ؛ استقصارا لها واستعظاما لله تعالى.
﴿ هم العادون ﴾ المجاوزون الحلال إلى الحرام﴿ آية ٧ المؤمنون ص ٦١ ﴾
﴿ فما للذين كفروا... ﴾ فأي شيء ثبت لهم حال كونهم مسرعين نحوك، مادي أعناقهم إليك ؛ ليظفروا باستماع ما يجعلونه هزوا. أو مسرعين إليك مديمي النظر الشرر إليك [ آية ٨ القمر ص ٣٧٥ ].
﴿ عن اليمين وعن الشمال عزين ﴾ أي جماعات متفرقين عن يمينك وعن شمالك، وكانوا يجتمعون حلقا عند الكعبة ؛ فإذا صلى أو قرأ يستهزئون به، فنزلت. جمع عزة، وهي الجماعة. وأصلها عزوة من العزو ؛ لأن كل فرقة تعتزي إلى غير من تعتزى إليه الأخرى ؛ فلامها واو. وقيل : لامها هاء، والأصل عزهة و " عن اليمين " متعلق ب " عزين ".
﴿ إنا خلقناهم مما يعلمون ﴾ أي أنهم يعلمون أنا أنشأناهم إنشاء من مادة ضعيفة ؛ وهو حجة بينة على قدرتنا على إهلاكهم، لكفرهم بالبعث والجزاء، واستهزائهم بالرسول والقرآن، وادعائهم دخول الجنة بطريق السخرية، وعلى أن ننشئ بدلهم قوما آخرين خيرا منهم.
﴿ فلا أقسم برب المشارق والمغارب ﴾﴿ آية ٣٨ الحاقة ص ٤٦٠ ﴾. والمشارق والمغارب : مشارق الشمس والقمر والكواكب ومغاربها.
﴿ وما نحن بمسبوقين ﴾ أي بمغلوبين، أو عاجزين عن أن نأتي بقوم آخرين خير منهم.
﴿ من الأجداث ﴾ القبور. جمع جدث. ﴿ سراعا ﴾ مسرعين إلى الداعي. ﴿ كأنهم إلى نصب يوفضون ﴾ النصب – بضمتين - : حجارة كانوا يعظمونها [ آية ٣ المائدة ص ١٨٣ ]. وقيل : هي الأصنام. " يوفضون " يسرعون. يقال : وفض يفض وفضا، عدا وأسرع ؛ كأوفض واستوفض. أي يخرجون من القبور يسرعون إلى الداعي مستبقين إليه ؛ كما كانوا يستبقون إلى نصبهم ليستلموها.
﴿ خاشعة أبصارهم ﴾ ذليلة خاضعة ؛ لا يرفعونها لما هم فيه من الخزي والهوان. ﴿ ترهقهم ذلة ﴾ يغشاهم الهوان الشديد. يقال : رهقه الأمر يرهقه رهقا، غشيه بقهر ؛ كأرهقه.
والله أعلم.
Icon