تفسير سورة النازعات

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة النازعات من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

﴿ والنازعات غَرْقاً ﴾ : الملائكة حين تنزع أرواح بني آدم، فمنهم من تأخذ روحه بعسر فتغرق في نزعها، ومنهم من تأخذ روحه بسهولة وكأنما حلته من نشاط، وهو قوله :﴿ والناشطات نَشْطاً ﴾ قاله ابن عباس وغيره، وعنه ﴿ والنازعات ﴾ : هي أنفس الكفّار تنزع ثم تنشط ثم تغرق في النار، وقال مجاهد :﴿ والنازعات غَرْقاً ﴾ : الموت. وقال الحسن وقتادة ﴿ والنازعات غَرْقاً * والناشطات نَشْطاً ﴾ : هي النجوم، والصحيح الأوّل وعليه الأكثرون. وأما قوله تعالى :﴿ والسابحات سَبْحاً ﴾ فقال ابن مسعود : هي الملائكة، وقال قتادة : هي النجوم، وقال عطاْ : هي السفن، وقوله تعالى :﴿ فالسابقات سَبْقاً ﴾ : يعني الملائكة، قال الحسن : سبقت إلى الإيمان والتصديق، وقال قتادة : هي النجوم، وقال عطاء : هي الخيل في سبيل الله، وقوله تعالى :﴿ فالمدبرات أَمْراً ﴾ قال علي ومجاهد : هي الملائكة تدبر الأمر من السماء والأرض، يعني بأمر ربها عزَّ وجلَّ، وقوله تعالى :﴿ يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة * تَتْبَعُهَا الرادفة ﴾ قال ابن عباس : هما النفختان الأولى والثانية، قال مجاهد : أما الأولى ﴿ يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة ﴾ فكقوله جلَّت عظمته :﴿ يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال ﴾ [ المزمل : ١٤ ]، وأما الثانية وهي الرادفة، كقوله :﴿ وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ﴾ [ الحاقة : ١٤ ]، وفي الحديث قال رسول الله ﷺ :« » جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه « فقال رجل : يا رسول الله أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك؟ قال :» إذاً يكفيك الله ما أهمك من دنياك وآخرتك « » رواه أحمد والترمذي، ولفظ الترمذي :« كان رسول الله ﷺ إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال :» يا أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه « » وقوله تعالى :﴿ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ ﴾ قال ابن عباس : يعني خائفة ﴿ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ﴾ أي أبصار أصحابها وإنما أضيفت إليها للملابسة، أي ذليلة حقيرة مما عاينت من الأهوال.
وقوله تعالى :﴿ يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الحافرة ﴾ يعني مشركي قريش، يستبعدون وقوع البعث بعد المصير إلى ﴿ الحافرة ﴾ وهي القبور وبعد تمزق أجسادهم وتفتت عظامهم ونخورها، ولهذا قالوا :﴿ أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً ﴾ وقرىء : ناخرة أي بالية، قال ابن عباس : وهو العظم إذا بلي ودخلت الريح فيه، ﴿ قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ﴾. وعن ابن عباس وقتادة : الحافرة الحياة بعد الموت، وقال ابن زيد : الحافرة النار، وما أكثر أسماءها! هي النار والجحيم وسقر وجهنم والهاوية والحافرة ولظى والحطمة، وأما قولهم :﴿ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ﴾ فقال محمد بن كعب، قالت قريش : لرئن أحيانا الله بعد أن نموت لنخسرن، قال الله تعالى :﴿ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بالساهرة ﴾ أي فإنما هو أمر من الله لا مثنوية فيه ولا تأكيد فإذا الناس قيام ينظرون، وهو أن يأمر تعالى إسرافيل فينفخ في الصور نفخة البعث، فإذا الألولون والآخرون قيام بين يدي الرب عزَّ وجلَّ ينظرون، كما قال تعالى :
2660
﴿ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٥٢ ] وقال تعالى :﴿ وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر ﴾ [ القمر : ٥٠ ] وقال تعالى :﴿ وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ﴾ [ النحل : ٧٧ ] قال مجاهد :﴿ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ﴾ صيحة واحدة، وأشد ما يكون الرب عزَّ وجلَّ غضباً على خلقه يوم يبعثهم، قال الحسن البصري : زجرة من الغضب، وقوله تعالى :﴿ فَإِذَا هُم بالساهرة ﴾ قال ابن عباس : الساهرة الأرض كلها، وقال عكرمة والحسن : الساهرة وجه الأرض، قال مجاهد : كانوا بأسفلها فأخرجوا إلى أعلاهالا، عن سهل بن سعد الساعدي ﴿ فَإِذَا هُم بالساهرة ﴾ قال : أرض بيضاء عفراء خالية كالخبزة النّقي، وقال الربيع بن آنس :﴿ فَإِذَا هُم بالساهرة ﴾ يقول الله عزَّ وجلَّ :﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ ﴾ [ إبراهيم : ٤٨ ]، ويقول تعالى :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً ﴾ [ طه : ١٠٥-١٠٧ ]، ويقول تعالى :﴿ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً ﴾ [ الكهف : ٤٧ ]، وهي أرض لم يعمل عليها خطيئة ولم يهرق عليها دم.
2661
يخبر تعالى رسوله محمداً ﷺ عن عبده ورسوله موسى عليه السلام، أنه ابتعثه إلى فرعون وأيده الله بالمعجزات، ومع هذا استمر على كفره طغيانه حتى أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، وكذلك عاقبة من خالفك يا محمد وكذب بما جئت به، ولهذا قال في آخر القصة :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يخشى ﴾ فقوله تعالى :﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى ﴾ أي هل سمعت بخبره ﴿ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ ﴾ أي كلمة نداء ﴿ بالواد المقدس ﴾ أي المطهر، ﴿ طُوًى ﴾ وهو اسم الوادي على الصحيح، فقال له :﴿ اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى ﴾ أي تجبر وتمرد وعتا، ﴿ فَقُلْ هَل لَّكَ إلى أَن تزكى ﴾ أي قل له هل لك أن تجيب إلى طريقة تزكى به أي تسلم وتطيع، ﴿ وَأَهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ ﴾ أي أدلك إلى عبادة ربك ﴿ فتخشى ﴾ أي فيصير قلبك خاضعاً له مطيعاً خاشعاً، بعد ما كان قاسياً خبيثاً بعيداً من الخير، ﴿ فَأَرَاهُ الآية الكبرى ﴾ يعني فأظهر له موسى مع هذه الدعوة الحق حجة قوية، ودليلاً واضحاً على صدق ما جاء به من عند الله، ﴿ فَكَذَّبَ وعصى ﴾ أي فكذب بالحق، وخالف ما أمره به من الطاعة، ﴿ ثُمَّ أَدْبَرَ يسعى ﴾ أي في مقابلة الحق بالباطل وهو جمعه السحرة، ليقابلوا ما جاء به موسى عليه السلام من المعجزات الباهرات ﴿ فَحَشَرَ فنادى ﴾ أي في قومه، ﴿ فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى ﴾ قال ابن عباس و مجاهد : وهذه الكلمة قالها فرعون بعد قوله :﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي ﴾ [ القصص : ٣٨ ] بأربعين سنة، قال الله تعالى :﴿ فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الآخرة والأولى ﴾ أي انتقم الله منه انتقاماً جعله به عبرة ونكالاً لأمثاله من المتمردين في الدنيا، ﴿ وَيَوْمَ القيامة بِئْسَ الرفد المرفود ﴾ [ هود : ٩٩ ]، كما قال تعالى :﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار وَيَوْمَ القيامة لاَ يُنصَرُونَ ﴾ [ القصص : ٤١ ]، وهذا هو الصحيح في معنى الآية أن المراد بقوله :﴿ نَكَالَ الآخرة والأولى ﴾ أي الدنيا والآخرة، وقيل : المراد بذلك كلمتاه الأولى والثانية، وقيل : كفره وعصيانه، والصحيح الأول، وقوله :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يخشى ﴾ أي لمن يتعظ وينزجر.
يقول تعالى محتجاً على منكري البعث في إعادة الخلق بعد بدئه ﴿ أَأَنتُمْ ﴾ أيها الناس ﴿ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء ﴾ يعني بل السماء أشد خلقاً منكم كما قال تعالى :﴿ لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ﴾ [ غافر : ٥٧ ]، وقوله تعالى :﴿ بَنَاهَا ﴾ فسره بقوله :﴿ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ﴾ أي جعلها عالية البناء، بعيدة الفناء، متسوة الأرجاء، مكللة بالكواكب في الليلة الظلماء، وقوله تعالى :﴿ وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ﴾ أي جعل ليلها مظلماً أسود حالكاً، ونهارها مضيئاً مشرقاً واضحاً، قال ابن عباس : أغطش ليلها أظلمه، ﴿ وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ﴾ أي أنار نهارها، وقوله تعالى :﴿ والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾ فسّره بقوله تعالى :﴿ أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا ﴾ وقد تقدم في سورة « حم السجدة » أن الأرض خلقت قبل خلق السماء، ولكن إنما دحيت بعد خلق السماء بمعنى أنه أخرج ما كان فيها بالقوة إلى الفعل، عن ابن عباس ﴿ دَحَاهَا ﴾ ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعى وشقق فيها الأنهار، وجعل فيها الجبال والرمال والسبل الآكام فذلك قوله :﴿ والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾، وقد تقدم تقرير ذلك هناك، وقوله تعالى :﴿ والجبال أَرْسَاهَا ﴾ أي قررها وأثبتها في أماكنها، وهو الحكيم العليم، الرؤوف بخلقه الرحيم. وقوله تعالى :﴿ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ ﴾ أي دحا الأرض فأتبع عيونها، وأظهر مكنونها، وأجرى أنهارها، وأنبت زروعها وأشجارها وثبت جبالها لتستقر بأهلها ويقر قرارها، كل ذلك متاعاً لخلقه ولما يحتاجون إليه من الأنعام، التي يأكلونها ويركبونها مدة احتياجهم إليها في هذه الدار، إلى أن ينتهي الأمد وينقضي الأجل.
يقول تعالى :﴿ فَإِذَا جَآءَتِ الطآمة الكبرى ﴾ وهو يقوم القيامة، قاله ابن عباس سميت بذلك، لأنها تطم على كل أمر هائل مفظع، كما قال تعالى :﴿ والساعة أدهى وَأَمَرُّ ﴾ [ القمر : ٤٦ ]، ﴿ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنسان مَا سعى ﴾ أي حنيئذٍ يتذكر ابن آدم جميع عمله، خيره وشره كما قال تعالى :﴿ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان وأنى لَهُ الذكرى ﴾ [ الفجر : ٢٣ ]، و ﴿ وَبُرِّزَتِ الجحيم لِمَن يرى ﴾ أي أظهرت للناظرين فرآها الناس عياناً، ﴿ فَأَمَّا مَن طغى ﴾ أي تمرد وعتا، ﴿ وَآثَرَ الحياة الدنيا ﴾ أي قدمها على أمر دينه وأُخراه، ﴿ فَإِنَّ الجحيم هِيَ المأوى ﴾، أي فإن مصيره إلى الجحيم وإن مطعمه من الزقوم ومشربه من الحميم، ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النفس عَنِ الهوى ﴾ أي خاف القيام بين يدي الله تعالى، وخاف حكم الله فيه، ونهى نفسه عن هواها، وردها إلى طاعة مولاها، ﴿ فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى ﴾ أي منقلبة ومصيره إلى الجنة الفيحاء، ثم قال تعالى :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إلى رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ ﴾ أي ليس علمها إليك ولا إلى أحد من الخلق، بل مردها ومرجعها إلى الله عزَّ وجلَّ، فهو الذي يعلم وقتها على التعيين ﴿ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله ﴾ [ الأحزاب : ٦٣ ]، وقال هاهنا :﴿ إلى رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ ﴾، ولهذا « لما سأل جبريل رسول الله ﷺ عن وقت الساعة، قال :» ما المسؤول عنها بأعلم من السائل « »، وقوله تعالى :﴿ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ﴾ أي إنما بعتك لتنذر الناس، وتحذرهم من بأس الله وعذابه، فمن خشي الله وخاف مقامه ووعيده اتبعك فأفلح وأنجح، والخيبة والخسار على من كَذَّبك وخالفك، وقوله تعالى :﴿ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ﴾ أي إذا قاموا من قبورهم إلى المحشر يستقصرون مدة الحياة الدنيا، وحتى كأنها ع ندهم كانت عيشة من يوم أو ضحى من يوم، قال ابن عباس : أم عيشة فما بين الظهر إلى غروب الشمس، ﴿ أَوْ ضُحَاهَا ﴾ ما بين طلوع الشمس إلى نصف النهار، وقال قتادة : وقت الدنيا في أعين القوم حين عاينوا الآخرة.
Icon