تفسير سورة يوسف

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة يوسف من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة، وقوله :﴿ الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب ﴾ أي هذه آيات الكتاب، وهو القرآن المبين أي الواضح الجلي الذي يفصح عن الأشياء المبهمة ويفسرها ويبينها ﴿ إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾، وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها، وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس، فلهذا أنزل أشرف الكتب، بأشرف اللغات، على أشرف الرسل بسفارة أشرف الملائكة، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض، وابتدئ إنزاله في أشرف شهور السنة وهو ( رمضان ) فكمل من كل الوجوه؛ ولهذا قال تعالى :﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هذا القرآن ﴾ بسبب إيحائنا إليك هذا القرآن، وقد ورد في سبب نزول هذه الآية ما رواه ابن جرير عن ابن عباس قال : قالوا : يا رسول الله صلى الله عليك وسلم لو قصصت علينا؟ فنزلت :﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص ﴾، فأرادوا القصص فدلهم على أحسن القصص، وممّا يناسب ذكره عند هذه الآية الكريمة المشتملة على مدح القرآن، وأنه كاف عن كل ما سواه من الكتب ما رواه الإمام أحمد « عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب أتى النبي ﷺ بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه على النبي ﷺ، قال : فغضب، وقال » أمتهوّكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبونه، أو بباطل فتصدقونه، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني «. وعن عبد الله بن ثابت قال : جاء عمر إلى رسول الله ﷺ فقال : يا رسول الله إني مررت بأخ لي من قريظة، فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك؟ قال : فتغيّر وجه رسول الله ﷺ، قال عبد الله بن ثابت : فقلت له : ألا ترى ما بوجه رسول الله ﷺ ؟ فقال عمر : رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً. قال : فسري عن النبي ﷺ، وقال :» والذي نفس محمد بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين «.
يقول تعالى : اذكر لقومك يا محمد في قصصك عليهم من قصة يوسف، إذ قال لأبيه - وأبوه هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام - كما قال رسول الله ﷺ :« الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم » « سئل رسول الله ﷺ : أي الناس أكرم؟ قال :» أكرمهم عند الله أتقاهم «، قالوا : ليس على هذا نسألك، قال » فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله «، قالوا : ليس عن هذا نسألك، قال :» فعن معادن العرب تسألوني «؟ قالوا : نعم، قال :» فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا « وقال ابن عباس : رؤيا الأنبياء وحي، وقد تكلم المفسرون على تعبير هذا المنام أن الأحد عشر كوكباً عبارة عن إخوته، وكانوا أحد عشر رجلاً سواه، والشمس والقمرعبارة عن أمه وأبيه. ولما رآها يوسف قصها على أبيه يعقوب، فقال له أبوه : وهذا أمر مشتت يجمعه الله من بعد.
يقول تعالى مخبراً عن قول يعقوب لابنه يوسف حين قص عليه ما رأى من هذه الرؤيا التبي تعبيرها خضوع إخوته له وتعظيمهم إياه تعظيماً زائداً، بحيث يخرون له ساجدين إجلالاً واحتراماً وإكراماً، فخشي يعقوب عليه السلام أن يحدث بهذا المنام أحداً من إخوته، فيحسدونه على ذلك، فيبغون له الغوائل حسداً منهم له، ولهذا قال له :﴿ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً ﴾ أي يحتالوا لك حيلة يردونك فيها، ولهذا ثبتت السنة عن رسول الله ﷺ قال :« إذا رأى أحدكم ما يحب فليحدث به، وإذا رأى ما يكره فليتحول إلى جنبه الآخر، وليتفل عن يساره ثلاثاً وليستعذ بالله من شرها، ولا يحدث بها أحداً فإنها لن تضره »، وفي الحديث الآخر :« الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر، فإذا عبرت وقعت » ومن هذا يؤخذ الأمر بكتمان النعمة حتى توجد وتظهر، كما ورد في حديث :« استعينوا على قضاء الحوائج بكتمانها، فإن كل ذي نعمة محسود ».
يقول تعالى مخبراً عن قول يعقوب لولده يوسف : إنه كما اختارك ربك وأراك هذه الكواكب مع الشمس والقمر ساجدة لك ﴿ وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ﴾ أي يختارك ويصطفيك لنبوته، ﴿ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ﴾ قال مجاهد : يعني تعبير الرؤيا، ﴿ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث ﴾ أي بإرسالك والإيحاء إليك، ولهذا قال :﴿ كَمَآ أَتَمَّهَآ على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ ﴾ وهو الخليل، ﴿ وَإِسْحَاقَ ﴾ ولده وهو الذبيح في قول، وليس بالرجيح ﴿ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ أي هو أعلم حيث يجعل رسالته.
يقول تعالى : لقد كان في قصة يوسف وخبره مع إخوته ﴿ آيَاتٌ ﴾ أي عبرة ومواعظ ﴿ لِّلسَّائِلِينَ ﴾ عن ذلك، فإنه خبر عجيب يستحق أن يخبر عنه، ﴿ إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا ﴾ أي حلفوا فيما يظنون الله ليوسف وأخوه، يعنون ينيامين، وكان شقيقه لأمه ﴿ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ﴾ أي جماعة، فكيف أحب ذينك الاثنين أكثر من الجماعة؟ ﴿ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ يعنون في تقديمهما علينا، ومحبته إياهما أكثر منا، واعلم أنه لم يقم دليل على نبوة إخوة يوسف، وظاهر هذا السياق يدل على خلاف ذلك، ومن الناس من يزعم أنهم أوحي إليهم بعد ذلك، وفي هذا نظر ويحتاج مدعي ذلك إلى دليل، ولم يذكروا سوى قوله تعالى :﴿ قولوا آمَنَّا بالله وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط ﴾ [ البقرة : ١٣٦ ]، وهذا فيه احتمال، لأ نبطون بني إسرائيل يقال لهم الأسباط، كما يقال للعرب قبائل وللعجم شعوب، يذكر تعالى أنه أوحى إلى الأنبياء من أسباط بني إسرائيل، فذكرهم إجمالاً لأنهم كثيرون، ولكن كل سبط م ننسل رجل من إخوة يوف، ولم يقم دليل على أعيان هؤلاء أنهم أوحي إليهم والله أعلم، ﴿ اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ﴾ يقولون : هذا الذي يزاحمكم في محبة أبيكم لكم، أعدموه من وجه أبيكم، ليخلو لكم وحدكم، إما بأن تقتلوه، أو أن تلقوه في أرض من الأراضي تستريحوا منه وتخلوا أنتم بأبيكم، ﴿ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ ﴾، فأضمروا التوبة قبل الذنب ﴿ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ ﴾، قال قتادة : وكان أكبرهم واسمه روبيل، وقال السدي، الذي قال ذلك يهوذا، وقال مجاهد : هو شمعون ﴿ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ ﴾ أي لا تصلوا في عداوته وبغضه إلى قتله، ولم يكن لهم سبيل إلى قتله، لأن الله تعالى كان يريد منه أمراً لا بد من إمضائه وإتمامه، من الإيحاء إليه بالنبوة، ومن التمكين له ببلاد مصر والحكم بها، فصرفهم الله عنه بمقالة روبيل فيه، وإشارته عليهم بأن يلقوه ﴿ غيابت الجب ﴾ وهو أسفله، قال قتادة : وهي بئر بيت المقدس، ﴿ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة ﴾ أي المارة من المسافرين فتسريحوا منه بهذا، ولا حاجة إلى قتله، ﴿ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ﴾ أي كنتم عازمين على ما تقولون، قال محمد بن إسحاق : لقد اجتمعوا على أمر عظيم من قطيعة الرحم، وعقوق الوالد، وقلة الرأفة بالصغير الذي لا ذنب له، وليفرقوا بينه وبين أبيه وحبيبه على كبر سنه ورقة عظمه، مع مكانه من الله من أحبه طفلاً صغيراً، وبين ابنه على ضعف قوته وصغر نه وحاجته إلى لطف والده وسكونه إليه، يغفر الله لهم وهو أرحم الراحمين، فقد احتملوا أمراً عظيماً.
لما تواطأوا على أخذه وطرحه في البئر كما أشار به عليهم أخوهم الكبير ( روبيل ) جاءوا أباهم يعقوب عليه السلام فقالوا : ما بالك ﴿ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ﴾ ؟ وهذه توطئة ودعوى وهم يريدون خلاف ذلك لما له في قلوبهم من الحسد لحب أبيه له، ﴿ أَرْسِلْهُ مَعَنَا ﴾ أي ابعثه معنا ﴿ غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ ﴾، وقرأ بعضهم بالياء، ﴿ يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ ﴾، قال ابن عباس : يسعى وينشط، ﴿ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ يقولون : ونحن نحفظه ونحوطه من أجلك.
يقول تعالى مخبراً عن نبيّه يعقوب أنه قال لبنيه في جواب ما سألوا من إرسال يوسف معهم إلى الرعي في الصحراء :﴿ إِنِّي ليحزنني أَن تَذْهَبُواْ بِهِ ﴾ أي يشق عليَّ مفارقته مدة ذهابكم به إلى أن يرجع، وذلك لفرط محبته له لما يتوسم فيه من الخير العظيم، وشمائل النبوة، والكمال في الخلق والخلق صلوات الله وسلامه عليه، وقوله :﴿ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ﴾، يقول : وأخشى أن تشتغلوا عنه برميكم ورعيكم، فيأتيه ذئب فيأكله وأنتم لا تشعرون، فأخذوا من فمه هذه الكلمة وجعلوها عذرهم فيما فعلوه، وقالوا مجيبين له عنها في الساعة الراهنة ﴿ لَئِنْ أَكَلَهُ الذئب وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ ﴾ يقولون : لئن عدا عليه الذئب فأكله من بيننا ونحن جماعة، إنا إذاً لهالكون عاجزون.
يقول تعالى : فلما ذهب به إخوته من عند أبيه بعد مراجعتهم له في ذلك، ﴿ وأجمعوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غيابت الجب ﴾ هذا فيه تعظيم لما فعلوه، أنهم اتفقوا كليهم على إلقائه في أسفل ذلك الجب، وقد أخذوه من عند أبيه فيما يظهرونه له إكراماً له وبسطاً وشرحاً لصدره، وإدخالاً للسرور عليه، فقال : إن يعقوب عليه السلام لما بعثه معهم ضمه إليه وقلبه ودعا له، فذكر السدي وغيره أنه لم يكن بين إكرامهم له وبين إظهار الأذى له إلا أن غابوا عن عين أبيه، وتواروا عنه، ثم شرعوا يؤذونه بالقول من شتم ونحوه، والفعل من ضرب ونحوه، ثم جاءوا به إلى ذلك الجب الذي اتفقوا على رميه فيه فربطوه بحبل ودلوه فيه، فسقط في الماء، فغمره، فصعد إلى صخرة تكون في وسطه فقام فوقها، وقوله :﴿ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾، يقول تعالى ذاكراً لطفه ورحمته، وإنزاله اليسر في حال العسر، إنه أوحى إلى يوسف في ذلك الحال الضيق تطييباً لقلبه، وتثبيتاً له : إنك لا تحزن مما أنت فيه، فإن لك من ذلك فرجاً ومخرجاً حسناً، وسينصرك الله عليهم ويعليك ويرفع درجتك، وستخبرهم بما فعلوا معك من هذا التصنيع، وقوله :﴿ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ قال مجاهد وقتادة : بإيحاء الله إليه، وقال ابن عباس : ستنبئهم بصنيعهم هذا في حقك وهم لا يعرفونك ولا يشعرون بك.
يقول تعالى مخبراً عن الذي اعتمده إخوة يوسف بعد ما ألقوه في غيابة الجب أنهم رجعوا إلى أبيهم في ظلمة الليل يبكون ويظهرون الأسف والجزع على يوسف، ويتغممون لأبيهم، وقالوا معتذرين عما وقع فيما زعموا :﴿ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ ﴾ أي نترامى، ﴿ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا ﴾ أي ثيابنا وأمتعتنا، ﴿ فَأَكَلَهُ الذئب ﴾ وهو الذي قد جزع منه وحذر عليه، وقوله :﴿ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ﴾ تلطف عظيم في تقرير ما يحاولونه، يقولون : ونحن نعلم أنك لا تصدّقنا والحالة هذه لو كنا عندك صادقين، فكيف وأنت تتهمنا في ذلك لأنك خشيت أن يأكله الذئب فأكله الذئب؟ فأنت معذور في تكذيبك لنا، لغرابة ما وقع، وعجيب ما اتفق لنا في أمرنا هذا، ﴿ وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ﴾ أي مكذوب مفترى، وهذا من الأفعال التي يؤكدون بها ما تمالأوا عليه من المكيدة، وهو أنهم عدوا إلى سخلة، فذبحوها ولطخوا ثوب يوسف بدمها؛ موهمين أن هذا قميصه الذي أكله فيه الذئب، وقد أصابه من دمه، ولكنهم نسوا أن يخرقوه، فلهذا لم يرج هذا الصنيع على نبي الله يعقوب، بل قال لهم معرضاً عن كلامهم إلى ما وقع في نفسه من لبسهم عليه :﴿ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾، أي فسأصبر صبراً جميلاً على هذا الأمر الذي اتفقتم عليه حتى يفرجه الله بعونه ولطفه، ﴿ والله المستعان على مَا تَصِفُونَ ﴾ أي على ما تذكرون من الكذب والمحال، قال ابن عباس :﴿ وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ﴾ قال : لو أكله السبع لخرق القميص، وقال مجاهد : الصير الجميل الذي لا جزع فيه، وقد روي مرفوعاً عن ( حبان بن أبي حبلة ) قال سئل رسول الله ﷺ عن قوله :﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾ فقال : صبر لا شكوى فيه. وقال الثوري : ثلاث من الصبر : أن لا تحدث بوجعك، ولا بمصيبتك، ولا تزكي نفسك، وذكر البخاري هاهنا حديث عائشة في الإفك حتى ذكر قولها : والله لا أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف :﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ والله المستعان على مَا تَصِفُونَ ﴾.
يقول تعالى مخبراً عما جرى ليوسف عليه السلام في الجب حين ألقاه إخوته، وتركوه في ذلك الجب وحيداً فريداً، عليه السلام في البئر ثلاثة أيام، وقال محمد بن إسحاق : لما ألقاه إخوته في البئر جلسوا حول البئر يومهم ذلك ينظرون ماذا يصنع وما يصنع به، فساق الله له سيارة، فنزلوا قريباً من تلك البئر وأرسلوا واردهم، وهو الذي يتطلب لهم الماء، فلما جاء ذلك البئر وأدلى دلوه فيها تشبث يوسف عليه السلام فيها، فأخرجه واستبشر به، وقال :﴿ يابشرى هذا غُلاَمٌ ﴾ أي يا بشراي، ﴿ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً ﴾ أي وأسره الواردون من بقية السيارة، وقالوا : اشتريناه من أصحاب الماء مخافة أن يشاركوهم فيه إذا علموا خبره، وقال ابن عباس :﴿ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً ﴾ : يعني إخوة يوسف أسروا شأنه، وكتموا أن يكون أخاهم، وكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته، واختار البيع، فذكره إخوته لوارد القوم، فنادى أصحابه :﴿ يابشرى هذا غُلاَمٌ ﴾ يباع، فباع إخوته، وقوله :﴿ والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ أي عليم يفعله إخوة يوسف ومشتروه، وهو قادر على تغيير ذلك ودفعه، ولكن له حكمة وقدر سابق، فترك ذلك ليمضي ما قدره وقضاه ﴿ أَلاَ لَهُ الخلق والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين ﴾ [ الأعراف : ٥٤ ]، وقوله :﴿ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ ﴾ يقول تعالى : وباعه إخوته بثمن قليل، قاله مجاهد وعكرمة، والبخس : هو النقص، كما قال تعالى :﴿ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً ﴾ [ الجن : ١٣ ] أي اعتاض عنه إخوته بثمن قليل، ومع ذلك كانوا فيه من الزاهدين، أي ليس لهم رغبة فيه بل لو سئلوه بلا شيء لأجابوا، والضمير في قوله :﴿ وَشَرَوْهُ ﴾ عائد على إخوة يوسف، وقال قتادة : بل هو عائد على السيارة، والأول أقوى، لأن قوله :﴿ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين ﴾ إنما أراد إخوته لا أولئك السيارة، لأن السيارة استبشروا به وأسروه بضاعة، ولو كانوا فيه زاهدين لما اشتروه، فترجح من هذا الضمير في ﴿ شَرَوْهُ ﴾ إنما هو لإخوته، وقوله :﴿ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ ﴾ عن ابن مسعود رضي الله عنه : باعوه بعشرين درهماً وقال عكرمة : أربعون درهماً، وقال الضحاك في قوله :﴿ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين ﴾ ذلك أنهم لم يعلموا نبوته ومنزلته عند الله عزّ وجلّ.
يخبر تعالى بألطافه بيوسف عليه السلام، أنه قيض له الذي اشتراه من مصر، حتى اعتنى به وأكرمه، وأوصى أهله به وتوسم فيه الخير والصلاح، فقال لامرأته :﴿ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عسى أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ﴾، وكان الذي اشتراه من مصر عزيزها وهو الوزير بها، عن ابن عباس : وكان اسمه ( قطفير ) وكان على خزائن مصر، وكان الملك يومئذٍ ( الريان بن الوليد ) رجل من العماليق، قال واسم امرأته ( راعيل )، وقال غيره : اسمها ( زليخا )، وقال عبد الله بن مسعود : أفرس الناس ثلاثة : عزيز مصر حين قال لامرأته :﴿ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ ﴾، والمرأة التي قالت لأبيها :﴿ ياأبت استأجره ﴾ [ القصص : ٢٦ ] الآية، وأبو بكر الصديق حين استخلف عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. يقول تعالى : كما أنقذنا يوسف من إخوته ﴿ وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض ﴾ يعني بلاد مصر ﴿ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث ﴾ قال مجاهد والسدي هو تعبير الرؤيا، ﴿ والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ ﴾ أي إذا أراد شيئاً فلا يرد، ولا يمانع، ولا يخالف بل هو الغالب لما سواه، قال سعيد بن جبير، أي فعال لما يشاء، وقوله :﴿ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ يقول : لا يدرون حكمته في خلقه وتلطفه وفعله لما يريد. وقوله :﴿ وَلَمَّا بَلَغَ ﴾ أي يوسف عليه السلام ﴿ أَشُدَّهُ ﴾ أي استكمل عقله وتم خلقه، ﴿ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً ﴾ يعني النبوة، حباه بها بين أولئك الأقوام، ﴿ وكذلك نَجْزِي المحسنين ﴾ أي إنه كان محسناً في عمله عاملاً بطاعة الله تعالى، وقد اختلف في مقدار المدة التي بلغ فيها أشده، فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة : ثلاث وثلاثون سنة، وعن ابن عباس : بضع وثلاثون، وقال الضحاك : عشرون : وقال الحسن : أربعون سنة، وقيل غير ذلك، والله أعلم.
يخبر تعالى عن امرأة العزيز التي كان يوسف في بيتها بمصر، وقد أوصاها « زوجها بإكرامه، فراودته عن نفسه أي حاولته عن نفسه ودعته إليها، وذلك أنها أحبته حباً شديداً لجماله وحسنه وبهائه، فحملها ذلك على أن تجملت له وغلَّقت عليه الأبواب ودعته إلى نفسها ﴿ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ﴾، فامتنع من ذلك أشد الامتناع، ﴿ قَالَ مَعَاذَ الله إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ﴾، وكانوا يطلقون الرب على السيد والكبير، أي إن بعلك ربي أحسن مثواي أي منزلي، وأحسن إليّ فلا أقابله بالفاحشة في أهله، ﴿ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون ﴾، وقد اختلف القرّاء في قوله :﴿ هَيْتَ لَكَ ﴾، فقرأه كثيرون بفتح الهاء وإسكان الياء وفتح التاء، قال ابن عباس ومجاهد : معناه أنها تدعوه إلى نفسها، وقال البخاري، قال عكرمة :﴿ هَيْتَ لَكَ ﴾، أي هلم لك بالحورانية، هكذا ذكره معلقاً، وكان الكسائي يحكي هذه القراءة يعني :﴿ هَيْتَ لَكَ ﴾ ويقول : هي لغة لأهل حوران، وقعت إلى أهل الحجاز، ومعناها : تعال، وقال أبو عبيدة : سألت شيخاً عالماً من أهل حوران، فذكر أنها لغتهم يعرفها، واستشهد الإمام ابن جرير على هذه القراءة بقول الشاعر :
أبلغ أمير المؤمن... ين أذى العراق إذا أتينا
إن العراق وأهله... عنق إليك فهيت هيتا
يقول : فتعال واقترب، وقرأ آخرون :﴿ هَيْتَ لَكَ ﴾ بكسر الهاء والهمزة وضم التاء، بمعنى تهيأت لك، من قول القائل : هئت بالأمر بمعنى تهيأت لك. قال ابن جرير : وكان أبو عمرو والكسائي ينكران هذه القراءة، وقال آخرون :﴿ هَيْتَ لَكَ ﴾ بكسر الهاء وإسكان الياء وضم التاء.
اختلفت أقوال الناس وعباراتهم في هذا المقام، فقيل : المراد بهمه بها خطرات حديث النفسن حكاه البغوي عن بعض أهل التحقيق، ثم أورد البغوي هاهنا حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال : رسول الله ﷺ :« يقول الله تعالى : إذا همّ عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها »، وقيل : همَّ بضربها، وقيل : تمناها زوجة؛ وقيل : هم بها لولا أن رأى برهان ربه، أي فلم يهم بها، وأما البرهان الذي رآه ففيه أقوال أيضاً، قيل : رأى صورة أبيه يعقوب عاضاً على إصبعه بفمه؛ وقيل : رأى خيال الملك يعني سيده، وقال ابن جرير عن محمد ابن كعب القرظي قال : رفع يوسف رأسه إلى سقف البيت، فإذا كتاب في حائط البيت :﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى ﴾ [ الإسراء : ٣٢ ] ﴿ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً ﴾ [ النساء : ٢٢ ] ؛ وقيل : ثلاث آيات من كتاب الله :﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ﴾ [ الانفطار : ١٠ ] الآية، وقوله :﴿ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ ﴾ [ يونس : ٦١ ] الآية، وقوله :﴿ أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ﴾ [ الرعد : ٣٣ ]، قال ابن جرير : والصواب أن يقال : إنه أي آية من آيات الله تزجره عما كان همَّ به، وجائز أن يكون صورة يعقوب، وجائز أن يكون صورة الملك، وجائز أن يكون ما رآه مكتوباً من الزجر عن ذلك، ولا حجة قاطعة على تعيين شيء من ذلك، فالصواب أن يطلق، كما قال الله تعالى، وقوله :﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء ﴾ أي كما أريناه برهاناً صرفه عما كان فيه كذلك نقيه السوء والفحشاء في جميع أموره، ﴿ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين ﴾ أي من المجتبين المطهرين المختارين المصطفين الأخيار، صلوات الله وسلامه عليه.
يخبر تعالى عن حالهما حين خرجا يستبقان إلى الباب، يوسف هارب، والمرأة تطلبه ليرجع إلى البيت، فلحقته في أثناء ذلك، فأمسكت بقميصه من ورائه، فقدته قداً فظيعاً، يقال : إنه سقط عنه، واستمر يوسف هارباً ذاهباً، وهي في إثره، فألفيا سيدها وهو زوجها عند الباب، فعند ذلك خرجت مما هي فيه بمكرها وكيدها، وقالت لزوجها متنصلة وقاذفة يوسف بدائها :﴿ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سواءا ﴾ أي فاحشة، ﴿ إِلاَّ أَن يُسْجَنَ ﴾ أي يحبس، ﴿ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ أي يضرب ضرباً شديدا موجعاً، فعند ذلك انتصر يوسف عليه السلام بالحق، وتبرأ مما رمته به من الخيانة، و ﴿ قَالَ ﴾ باراً صادقاً. ﴿ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي ﴾، وذكر أنها اتبعته تجذبه إليها حتى قدت قميصه، ﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ ﴾ أي من قدامه ﴿ فَصَدَقَتْ ﴾ أي في قولها إنه راودها على نفسها لأنه يكون لما دعاها وأبت عليه دفعته في صدره فقدت قميصه فيصح ما قالت، ﴿ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ ﴾ وذلك يكون كما وقع لما هرب منها، وطلبته، أمسكت بقميصه من ورائه لترده إليها فقدت قميصه من ورائه، وقد اختلفوا في هذا الشاهد : هل هو صغير أو كبير؟ على قولين لعلماء السلف، فقال ابن عباس : كان من خاصة الملك وكان رجلاً ذا لحية، وقال زيد بن أسلم والسدي : كان ابن عمها، وقال العوفي عن ابن عباس : كان صبياً في المهد، وكذا روي عن الحسن وسعيد بن جبير والضحاك : أنه كان صبياً في الدار، واختاره ابن جرير، وقد ورد فيه حديث مرفوع، رواه ابن جرير، عن ابن عباس أنه قال :« تكلم أربعة وهم صغار : ابن ماشطة بنت فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى ابن مريم » وقوله :﴿ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ ﴾ أي لما تحقق زوجها صدق يوسف وكذبها فيما قذفته ورمته به ﴿ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ ﴾ أي إن هذا البهت واللطخ الذي لطخت عرض هذا الشاب به من جملة كيدكن ﴿ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾، ثم قال آمرا ليوسف عليه السلام بكتمان ما وقع :﴿ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا ﴾ أي اضرب عن هذا صفحاً أي فلا تذكره لأحد، ﴿ واستغفري لِذَنبِكِ ﴾ يقول لامرأته وقد كان لين العريكة سهلاً أو أنه عذرها لأنها رأت ما لا صبر لها عنه فقال لها : استغفري لذنبك أي الذي وقع منك من إرادة السوء بهذا الشاب ثم قذفه بما هو بريء منه ﴿ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين ﴾.
يخبر تعالى أن خبر يوسف وامرأة العزيز شاع في المدينة، وهي مصر حتى تحدث به الناس، ﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي المدينة ﴾ نساء الكبراء والأمراء ينكرن على ﴿ امرأة العزيز ﴾ وهو الوزير ويعبن ذلك عليها، ﴿ امرأة العزيز تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ ﴾ : أي تدعوه إلى نفسها، ﴿ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً ﴾ أي قد وصل حبه إلى شغاف قلبها وهو غلافه، قال الضحاك عن ابن عباس : الشغف الحب القاتل، والشغف دون ذلك، والشغاف حجاب القلب، ﴿ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ أي في صنيعها هذا من حبها فتاها ومراودتها إياه عن نفسه، ﴿ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ ﴾، قال بعضهم : بقولهن ذهب الحب بها، وقال محمد بن إسحاق : بلغهن حُسن يوسف بأحببن أن يرينه، فقلن ذلك ليتوصلن إلى رؤيته ومشاهدته، فعند ذلك ﴿ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ ﴾ أي دعتهن إلى منزلها لتضيفهن ﴿ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً ﴾، قال ابن عباس : هو المجلس المعد فيه مفارش ومخاد وطعام فيه ما يقطع بالسكاكين من أترج ونحوه؛ ولهذا قال تعالى :﴿ وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً ﴾، وكان هذا مكيدة منها ومقابلة لهن في احتيالهن على رؤيته، ﴿ وَقَالَتِ اخرج عَلَيْهِنَّ ﴾ وذلك أنها كانت قد خبأته في مكان آخر، ﴿ فَلَمَّا ﴾ خرج و ﴿ رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ ﴾ أي أعظمن شأنه وأجللن قدره، وجعلن يقطعن أيديهن دهشاً برؤيته، وهن يظنن أنهن يقطعن الأترج بالسكاكين، والمراد أنهن حززن أيديهن بها، قاله غير واحد؛ وقد ذكر غير واحد أنها قالت لهن بعدما أكلن وطابت أنفسهن ثم وضعت بين أيديهن أترجاً وآتت كل واحدة منهن سكيناً : هل لكنَّ في النظر إلى يوسف؟ قلن : نعم، فبعثت إليه تأمره أن أخرج إليهن، فلما رأينه جعلن يقطعن أيديهن، ثم أمرته أن يرجع ليرينه مقبلاً ومدبراً، فرجعوهن يحززن في أيديهن، فلما أحسسن بالألم، جعلن يولولن، فقالت : أنتن من نظرةٍ واحدة فعلتن هذا، فكيف ألام أنا؟ ﴿ وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴾، ثم قلن لها : وما نرى عليك من لوم بعد هذا الذي رأينا، لأنهن لم يرين في البشر شبيهه ولا قريباً منه، فإنه عليه السلام كان قد أعطي شطر الحسن، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح في حديث الإسراء « أن رسول الله ﷺ مر بيوسف عليه السلام في السماء الثالثة قال :» فإذا هو قد أعطي شطر الحسن «، ﴿ قَالَتْ فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ﴾ تقول : هذا معتذرة إليهن بأن هذا حقيق أن يحب لجماله وكماله ﴿ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم ﴾ أي فامتنع، قال بعضهم : لما رأين جماله الظاهر أخبرتهن بصفاته الحسنة التي تخفى عنهن وهي العفة مع هذا الجمال، ثم قالت تتوعده :﴿ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن الصاغرين ﴾، فعند ذلك استعاذ يوسف عليه السلام من شرهن وكيدهن، و ﴿ قَالَ رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ ﴾ أي من الفاحشة، ﴿ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ﴾ أي إن وكلتني إلى نفسي فليس لي منها قدرة ولا أملك لها ضراً ولا نفعاً إلا بحولك وقوتك، أنت المستعان وعليك التكلان، فلا تكلني إلى نفسي ﴿ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجاهلين * فاستجاب لَهُ رَبُّهُ ﴾ الآية، وذلك أن يوسف عليه السلام عصمه الله عصمة عظيمة وحماه، فامتنع منها أشد الامتناع، واختار السجن على ذلك، وهذا في غاية مقامات الكمال، أنه من شبابه وجماله وكماله تدعوه سيدته وهي امرأة عزيز مصر، وهي مع هذا في غاية الجمال والمال والرياسة، ويمتنع من ذلك، ويختار السجين على ذلك خوفاً من الله ورجاء ثوابه.
1224
ولهذا ثبت في « الصحيحين » أن رسول الله ﷺ قال :« سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله »، وعدَّ منها «، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال أني أخاف الله »، الحديث.
1225
يقول تعالى : ثم ظهر لهم من المصلحة فيما رآوه أنهم يسجنونه إلى حين أي إلى مدة، وذلك بعدما عرفوا براءته وظهرت الآيات، وهي الأدلة على صدقه في عفته ونزاهته، وكأنهم - والله أعلم - إنما سجنوه لما شاع الحديث إيهاماً أنه راودها عن نفسها وأنهم سجنوه على ذلك، ولهذا لما طلبه الملك الكبير في آخر المدة امتنع من الخروج، حتى تتبين براءته مما نسب إليه من الخيانة، فلما تقرر ذلك خرج وهو نقي العرض صلوات الله عليه وسلامه. وذكر السدي : أنهم إنما سجنوه لئلا يشيع ما كان منها في حقه ويبرأ عرضه فيفضحها.
قال قتادة : كان أحدهما ساقي الملك والآخر خبازه، قال السدي : كان سبب حبس الملك إياهما أنه توهم أنهما تمالآ على سمه في طعامه وشرابه، وكان يوسف عليه السلام قد اشتهر في السجن بالجود والأمانة، وصدق الحديث، وكثرة العبادة، ومعرفة التعبير، والإحسان إلى أهل السجن، ولما دخل هذان الفتيان إلى السجن تآلفا به وأحباه حباً شديداًَ، وقالا له : والله لقد أحببناك حباً زائداً. قال : بارك الله فيكما، إنه ما أحبني أحد إلا دخل عليَّ من محبته ضرر، أحبتني عمتي فدخل عليَّ الضرر بسببها، وأحبني أبي فأُوذيت بسببه، وأحبتني امرأة العزيز فكذلك، فقالا : والله ما نستطيع إلا ذلك، ثم إنهما رأيا مناماً، فرأى الساقي أنه يعصر خمراً، يعني عنباً، قال الضحاك في قوله :﴿ إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً ﴾ يعني عنباً، قال : وأهل عمان يسمون العنب خمراً، وقال عكرمة : قال له إني رأيت فيما يرى النائم أني غرست حبة من عنب فنبتت، فخرج فيها عناقيد، فعصرتهن ثم سقيتهن الملك فقال : تمكث في السجن ثلاثة أيام ثم تخرج فتسقيه خمراً، وقال الآخر وهو الخباز :﴿ إِنِّي أراني أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطير مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ﴾ الآية، والمشهور عند الأكثرين ما ذكرناه أنهما رأيا مناماً وطلباً تعبيره، وقال ابن جرير عن عبد الله بن مسعود قال : ما رأى صاحبا يوسف شيئاً إنما كانا تحالما ليجربا عليه.
يخبرهما يوسف عليه السلام أنهما مهما رأيا في منامهما من حلم، فإنه عارف بتفسيره، ويخبرهما بتأويله قبل وقوعه ولهذا قال :﴿ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ ﴾، وقال مجاهد، يقول :﴿ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ ﴾ في يومكما ﴿ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ﴾، وكذا قال السدي، وهذا إنما هو من تعليم الله إياي، لأني اجتنبت ملة الكافرين بالله واليوم الآخر، فلا يرجون ثواباً ولا عقاباً في المعاد، ﴿ واتبعت مِلَّةَ آبآئي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ﴾ الآية، ويقول : هجرت طريق الكفر والشرك، وسلكت طريق هؤلاء المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهكذا يكون حال من سلك طريق الهدى واتبع طريق المرسلين وأعر عن طريق الضالين، فإن الله يهدي قلبه ويعلمه ما لم يكن يعلم، ويجعله إماماً يقتدى به في الخير وداعياً إلى سبيل الرشاد، ﴿ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بالله مِن شَيْءٍ ذلك مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا وَعَلَى الناس ﴾، هذا التوحيد وهو الإقرار بإنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ﴿ مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا ﴾ أي أوحاه إلينا وأمرنا به، ﴿ وَعَلَى الناس ﴾ إذ جعلنا دعاة لهم إلى ذلك، ﴿ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ ﴾ أي لا يعرفون نعمة الله عليهم بإرسال الرسل إليهم، بل ﴿ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار ﴾ [ إبراهيم : ٢٨ ].
ثم إن يوسف عليه السلام أقبل على الفتيين بالمخاطبة والدعاء لهما إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان التي يعبدها قومهما، فقال :﴿ ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار ﴾ أي الذي ذل كل شيء لعز جلاله وعظمة سلطانه، ثم بين لهما أن التي يعبدونها ويسمونها آلهة إنما هو تسمية من تلقاء أنفسهم، تلقاها خلفهم عن سلفهم، وليس لذلك مستند من عند الله، ولهذا قال :﴿ مَّآ أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ ﴾ أي حجة ولا برهان ثم أخبرهم أن الحكم والتصرف والمشيئة والملك كله لله، وقد أمر عبادة قاطبة أن لا يعبدوا إلا إياه، ثم قال تعالى :﴿ ذلك الدين القيم ﴾ أي هذا الذي أدعوكم إليه من توحيد الله وإخلاص العمل له، هو الدين المستقيم الذي أمر الله به، وأنزل به الحجة والبرهان الذي يحبه ويرضاه، ﴿ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أي فلهذا كان أكثرهم مشركين، ﴿ وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [ يوسف : ١٠٣ ] جعل سؤالهما له سبباً إلى دعائهما إلى التوحيد والإسلام، لما رأى في سجيتهما من قبول الخير، والإقبال عليه والإنصات إليه، ولهذا لما فرغ من دعوتهما شرع في تعبير رؤياهما من غير تكرار سؤال فقال :﴿ ياصاحبي السجن... ﴾.
يقول لهما :﴿ ياصاحبي السجن أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً ﴾ وهو الذي أنه يعصر خمراً ولكنه لم يعينه لئلا يحزن ذاك، ولهذا أبهمه في قوله :﴿ وَأَمَّا الآخر فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطير مِن رَّأْسِهِ ﴾ وهوالذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزاً، ثم أعلمها أن هذا قد فرغ منه، وهو واقع لا محالة لأن الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر، فإذا عبرت وقعت. قال الثوري : لما قالا ما قالا، وأخبرهما قالا : ما رأينا شيئاً، فقال :﴿ قُضِيَ الأمر الذي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ﴾.
ولما ظن يوسف عليه السلام أن الساقي ناج، قال له يوسف خفية عن الآخر :﴿ اذكرني عِندَ رَبِّكَ ﴾ يقول : اذكر قصتي عند ربك وهو الملك فنسي ذلك الموصى أن يذكر مولاه الملك بذلك وكان من جملة مكايد الشيطان لئلا يطلع نبي الله من السجن، هذا هو الصواب أن الضمير في قوله :﴿ فَأَنْسَاهُ الشيطان ذِكْرَ رَبِّهِ ﴾ عائد على الناجي، كما قاله مجاهد وغير واحد؛ ويقال إن الضمير عائد على يوسف عليه السلام، رواه ابن جرير عن ابن عباس ومجاهد أيضاً، وأما البضع فقال مجاهد وقتادة : هو ما بين الثلاث إلى التسع، وقال وهب بن منبه : مكث أيوب في البلاء سبعاً، ويوسف في السجن سبعاً.
هذه الرؤيا من ملك مصر مما قدر الله تعالى أنها كانت سبباً لخروج يوسف عليه السلام من السجن معززاً مكرماً وذلك أن الملك رأى هذه الرؤيا فهالته، وتعجب من أمرها، وما يكون تفسيرها، فجمع الكهنة وكبار دولته وأمراءه، فقص عليهم ما رأى وسألهم عن تأويلها، فلم يعرفوا ذلك، واعتذروا إليه بأنها ﴿ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ ﴾ أي أخلاط أحلام اقتضته رؤياك هذه، ﴿ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحلام بِعَالِمِينَ ﴾ أي لو كانت رؤيا صحيحة من أخلاط لما كان لنا معرفة بتأويلها وهو تعبيرها؛ وعند ذلك تذكر الذي نجا من ذينك الفتيين اللذين كانا في السجن مع يوسف، وكان الشيطان قد أنساه ما وصاه به يوسف من ذكر أمره للملك، فعند ذلك تذكر ﴿ بَعْدَ أُمَّةٍ ﴾ أي مدة، فقال للملك :﴿ أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ ﴾ أي بتأويل هذا المنام ﴿ فَأَرْسِلُونِ ﴾ فابعثون إلى يوسف الصديق إلى السجن، ومعنى الكلام فبعثوه فجاء فقال :﴿ يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق أَفْتِنَا ﴾ وذكر المنام الذي رآه الملك، فعند ذلك ذكر له يوسف عليه السلام تعبيرها من غير تعنيف للفتى في نسيانه ما أوصاه به ومن غير اشتراط للخروج قبل ذلك، بل قال :﴿ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً ﴾ أي يأتيكم الخصب والمطر سبع سنين متواليات، ﴿ فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ﴾ : أي مهما استغللتم وهذه السبع السنين الخصب فادخروه في سنبله ليكون أبقى له وأبعد عن إسراع الفساد إليه إلا المقدار الذي تأكلونه، وليكن قليلاً قليلاً لا تسرفوا فيه، لتنتفعوا في السبع الشداد، وهن السبع السنين المحل التي تعقب هذه السبع المتواليات، وهن البقرات العجاف اللاتي تأكل السمان، لأن سني الجدب يؤكل فيها ما جمعوه في سني الخصب، وهن السنبلات اليابسات، وأخبرهم أنهن لا ينبتن شيئاً ولا بذروه فلا يرجعون منه إلى شيء، ولهذا قال :﴿ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ ﴾ ثم بشَّرهم بعد الجدب العام المتوالي بأنه يعقبهم بعد ذلك ﴿ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ الناس ﴾ أي يأتيهم الغيث وهو المطر، وتغل البلاد، ويعصر الناس ما كانوا يعصرون على عادتهم من زيت وسكر ونحوه.
يقول تعالى إخباراً على الملك بتعبير رؤياه التي كان رآها بما أعجبه وأيقنه، فعرف فضل يوسف عليه السلام وعلمه وحسن اطلاعه على رؤياه فقال :﴿ ائتوني بِهِ ﴾ أي أخرجوه من السجن وأحضروه، فلما جاءه الرسول امتنع من الخروج حتى يتحقق الملك ورعيته براءة ساحته، ونزاهة عرضه مما نسب إليه من جهة امرأة العزيز، وأن هذا السجن كان ظلماً وعدواناً، فقال :﴿ ارجع إلى رَبِّكَ ﴾ الآية، وقد وردت السنة بمدحه على ذلك والتنبيه على فضله وشرفه وعلو قدره، ففي « المسند » و « الصحيحين » عنه ﷺ :« نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال :﴿ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى ﴾ [ البقرة : ٢٦٠ ]، ويرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي » وفي لفظ لأحمد عنه ﷺ في قوله :﴿ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النسوة اللاتي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ﴾ فقال رسول الله ﷺ :« لو كنت أنا لأسرعت الإجابة وما ابتغيت العذر »، وعن عكرمة قال : قال رسول الله ﷺ :« لقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه، والله يغفر له، حين سئل عن البقرات العجاف والسمان، ولو كنت مكانه ما أجبتهم حتى أشتراط أن يخرجوني ولقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له حين أتاه الرسول ولو كنت مكانه لبادرتهم الباب، ولكنه أراد أن يكون له العذر ».
وقوله تعالى :﴿ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ ﴾ إخبار عن الملك حين جمع النسوة الاتي قطعن أيديهن عند امرأة العزيز، فقال مخاطباً لهن كلهن وهو يريد امرأة وزيره وهو العزيز، قال الملك :﴿ مَا خَطْبُكُنَّ ﴾ أي ما شأنكن وخبركن ﴿ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ ﴾ يعني يوم الضيافة ﴿ قُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سواء ﴾ أي قالت النسوة جواباً للملك : حاش لله أن يكون يوسف متهماً والله ما علمنا عليه من سوء، فعند ذلك ﴿ قَالَتِ امرأت العزيز الآن حَصْحَصَ الحق ﴾، قال ابن عباس : الآن تبين الحق وظهر وبرز، ﴿ أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين ﴾ أي في قوله :﴿ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي ﴾ [ يوسف : ٢٦ ]، ﴿ ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب ﴾ تقول : إنما اعترفت بهذا على نفسي ليعلم زوجي أني لم أخنه بالغيب في نفس الأمر، وإنما راودت هذا الشاب مراودة فامتنع، فلهذا اعترفت ليعلم أني بريئة ﴿ وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين * وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي ﴾، تقول المرأة : ولست أبرئ نفسي، فإن النفس تتحدث وتتمنى، ولهذا راودته، ﴿ إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي ﴾ أي إلا من عصمه الله تعالى :﴿ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾، وهذا القول هو الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام، وقد قيل : إن ذلك من كلام يوسف عليه السلام يقول :﴿ ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ ﴾ في زوجته ﴿ بالغيب ﴾ الآيتين، أي إنما رددت الرسول ليعلم الملك براءتي، وليعلم العزيز ﴿ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ ﴾ في زوجته، ﴿ بالغيب وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين ﴾ الآية، وهذا القول هو الذي لم يحك ابن جرير ولا ابن أبي حاتم سواه.
1233
قال ابن جرير، عن ابن عباس قال : لما جمع الملك النسوة فسألهن هل راودتن يوسف عن نفسه؟ ﴿ قُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سواء قَالَتِ امرأت العزيز الآن حَصْحَصَ الحق ﴾ الآية، قال يوسف :﴿ ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب ﴾ فقال له جبريل عليه السلام : ولا يوم هممت بما هممت به؟ فقال :﴿ وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي ﴾ الآية، وهكذا قال مجاهد والحسن وقتادة والسدي، والقول الأول أقوى وأظهر، لأن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك ولم يكن يوسف عليه السلام عندهم بل بعد ذلك أحضره الملك.
1234
يقول تعالى إخباراً عن الملك حين تحقق براءة يوسف عليه السلام ونزاهة عرضه مما نسب إليه قال :﴿ ائتوني بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ﴾ أي أجعله من خاصتي وأهل مشورتي، ﴿ فَلَمَّا كَلَّمَهُ ﴾ أي خاطبه الملك وعرفه ورأى فضله وبراعته وعلم ما هو عليه من خلق وخلق وكمال قال له الملك :﴿ إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ﴾ أي إنك عندنا ذا مكانة وأمانة، فقال يوسف عليه السلام :﴿ اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ مدح نفسه، ويجوز للرجل ذلك إذا جُهل أمره للحاجة، وذكر أنه ﴿ حَفِيظٌ ﴾ أي خازن أمين، ﴿ عَلِيمٌ ﴾ ذو علم وبصيرة بما يتولاه، وقال شيبة بن نعامة : حفيظ لما استودعتني، عليم بسني الجدب، وسأل العمل لعلمه بقدرته عليه، ولما فيه من المصالح للناس، وإنما سأله أن يجعله على خزائن الأرض، ليتصرف لهم على الوجه الأحوط والأصلح والأرشد، فأجيب إلى ذلك رغبة فيه وتكرمة له، ولهذا قال تعالى :﴿ وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض... ﴾.
يقول تعالى :﴿ وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض ﴾ أي أرض مصر، ﴿ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ ﴾ قال السدي : يتصرف فيها كيف يشاء، وقال ابن جرير : يتخذ منها منزلاً حيث يشاء بعد الضيق والحبس، ﴿ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين ﴾، أي وما أضعنا صبر يوسف على أذى أخوته وصبره على الحبس بسبب امرأة العزيز، فلهذا أعقبه الله عزّ وجلّ النصر والتأييد، ﴿ وَلأَجْرُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ﴾، يخبر تعالى أن ما ادخره الله تعالى لنبيّه يوسف عليه السلام في الدار الآخرة، أعظم وأكثر مما خوله من التصرف والنفوذ في الدنيا، والغرض أن يوسف عليه السلام ولاه ملك مصر ( الريان بن الوليد ) الوزارة في بلاد مصر، وأسلم الملك على يدي يوسف عليه السلام قاله مجاهد.
ذكر السدي ومحمد بن إسحاق وغيرهما من المفسرين، أن السبب الذي أقدم إخوة يوسف بلاد مصر أن يوسف عليه السلام لما باشر الوزارة بمصر، ومضت السنين المخصبة، ثم تلتها السبع السنين المجدبة، وعم القحط بلاد مصر بكمالها ووصل إلى بلاد كنعان، وهي التي فيها يعقوب عليه السلام وأولاده، وحينئذٍ احتاط يوسف عليه السلام للناس في غلاتهم، وجمعها أحسن جمع، فحصل من ذلك مبلغ عظيم، وورد عليه الناس من سائر الأقاليم، يمتارون لأنفسهم وعيالهم، فكان لا يعطي الرجل أكثر من حمل بعير في السنة، وكان عليه السلام لا يشبع نفسه، ولا يأكل هو والملك وجنودهما إلا أكلة واحدة في وسط النهار، حتى يتكفأ الناس بما في أيديهم مدة السبع سنين، وكان رحمة من الله على أهل مصر، والغرض أنه كان في جملة من ورد للميرة إخوة يوسف، فإنه بلغهم أن عزيز مصر يعطي الناس الطعام بثمنه، فأخذوا معهم بضاعة، يعتاضون بها طعاماً، وركبوا عشرة نفر، واحتبس يعقوب عليه السلام عنده ابنه ( بنيامين ) شقيق يوسف عليه السلام وكان أحب ولده إليه بعد يوسف، فلما دخلوا على يوسف، وهو جالس في أبهته ورياسته، وسيادته عرفهم حين نظر إليهم ﴿ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ﴾ أي لا يعرفونه، لأنهم فارقوه وهو صغير حدث وباعوه للسيارة ولم يردوا أين يذهبون به، ولا كانوا يستشعرون في أنفسهم أن يصير إلى ما صار إليه، فلهذا لم يعرفوه، وأما هو فعرفهم، فذكر السدي وغيره، أنه شرع يخاطبهم، فقال لهم كالمنكر عليهم : ما أقدمكم بلادي؟ فقالوا : أيها العزيز قدمنا للميرة، قال : فلعلكم عيون؟ قالوا : معاذ الله، قال : فمن أين أنتم؟ قالوا : من بلاد كنعان وأبونا يعقوب نبي الله، قال : وله أولاد غيركم؟ قالوا : نعم كنا اثني عشر، فذهب أصغرنا هلك في البرية، وكان أحبنا إلى أبيه، وبقي شقيقه فاحتبسه أبوه ليتسلى به عنه، فأمر بأنزالهم وإكرامهم، ﴿ وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ ﴾ أي أوفى لهم كيلهم وحمل لهم أحمالهم قال : ائتوني بأخيكم هذا الذي ذكرتم لأعلم صدقكم فيما ذكرتم، ﴿ أَلاَ تَرَوْنَ أني أُوفِي الكيل وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين ﴾ ؟ يرغبهم في الرجوع إليه، ثم رهّبهم فقال :﴿ فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي ﴾ أي إن لم تقدموا به معكم في المرة الثانية فليس لكم عندي ميرة، ﴿ وَلاَ تَقْرَبُونِ * قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ﴾ أي سنحرص على مجيئه إليك بكل ممكن ولا نبقي مجهوداً لتعلم صدقنا فيما قلناه ﴿ وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ ﴾ أي غلمانه، ﴿ اجعلوا بِضَاعَتَهُمْ ﴾ أي التي قدموا بها ليمتاروا عوضاً عنها ﴿ فِي رِحَالِهِمْ ﴾ أي في أمتعتهم من حيث لا يشعرون ﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ بها قبل خشي أن لا يكون عندهم بضاعة أخرى يرجعون للميرة بها، وقيل : أراد أن يردهم إذا وجدوها في متاعهم تحرجاً وتورعاً، لأنه يعلم ذلك منهم، والله أعلم.
يقول تعالى عنهم إنهم رجعوا إلى أبيهم :﴿ قَالُواْ ياأبانا مُنِعَ مِنَّا الكيل ﴾ يعنون بعد هذه المرة إن لم ترسل معنا أخانا ( بنيامين )، فأرسله معنا نكتل ﴿ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ أي لا تخف عليه فإنه سيرجع إليك، وهذا كما قالوا له في يوسف ﴿ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [ يوسف : ١٢ ] ولهذا قال لهم :﴿ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ ﴾ أي هل أنتم صانعون به إلا كما صنعتم بأخيه من قبل، تغيبونه عني وتحولين بيني وبينه؟ ﴿ فالله خَيْرٌ حَافِظاً ﴾، ﴿ وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين ﴾ أي هو أرحم الراحمين بي وسيرحم كبري وضعفي ووجدي بولدي وأرجو من الله أن يرده عليَّ ويجمع شملي به، إنه أرحم الراحمين.
يقول تعالى : ولما فتح إخوة يوسف متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم، هي التي كان أمر يوسف فتيانه بوضعها في رحالهم، ولام وجدوها في متاعهم ﴿ قَالُواْ ياأبانا مَا نَبْغِي ﴾ أي ماذا نريد، ﴿ هذه بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا ﴾، كما قال قتادة : ما نبغي وراء هذا إن بضاعتنا ردت إلينا وقد أوفى لنا الكيل، ﴿ وَنَمِيرُ أَهْلَنَا ﴾ أي إذا أرسلت أخانا معنا نأتي بالميرة إلى أهلنا، ﴿ وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ﴾، وذلك أن يوسف عليه السلام كان يعطي كل رجل حمل بعير، ﴿ ذلك كَيْلٌ يَسِيرٌ ﴾ هذا من تمام الكلام وتحسينه، أي إن هذا يسير في مقابلة أخذ أخيهم ما يعدل هذا، ﴿ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حتى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ الله ﴾ أي تحلفون بالعهود والمواثيق، ﴿ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ ﴾، إلا أن تغلبوا كلكم ولا تقدرون على تخليصه، ﴿ فَلَمَّآ آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ ﴾ أكده عليهم، ﴿ قَالَ الله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾ قال ابن إسحاق : وإنما فعل ذلك لأنه لم يجد بداً من بعثهم لأجل الميرة التي لا غنى لهم عنها فبعثه معهم.
يقول تعالى إخباراً عن يعقوب عليه السلام : أنه أمر بنيه لما جهزهم مع أخيهم ( بينامين ) إلى مصر أن لا يدخلوا من باب واحد، وليدخلوا من أبواب متفرقة، فإنه - كما قال ابن عباس والسدي وغير واحد - خشي عليهم العين، وذلك أنهم كانوا ذوي جمال وهيئة حسنة ومنظر وبهاء، فخشي عليهم أن يصيبهم الناس بعيونهم، فإن العين حق تستنزل الفارس عن فرسه، وقوله :﴿ وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ ﴾ أي أن هذا الاحتراز لا يرد قدر الله وقضاءه، فإن الله إذا أراد شيئاً لا يخالف ولا يمانع، ﴿ إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون * وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا ﴾، قالوا : هي دفع إصابة العين لهم ﴿ وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ ﴾، قال قتادة : لذو علم بعلمه، وقال ابن جرير : لذو علم لتعليمنا إياه ﴿ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ ﴾.
يخبر تعالى عن إخوة يوسف لما قدموا على يوسف ومعهم أخوه ( بنيامين ) وأدخلهم دار كرامته ومنزل ضيافته، وأفاض عليهم الصلة والإلطاف والإحسان، واختلى بأخيه، فأطلعه على شأنه وما جرى له وعرفه أنه أخوه وقال له :﴿ لاَ تَبْتَئِسْ ﴾، أي لا تأسف على ما صنعوا بي، وأمره يكتمان ذلك عنهم، وأن لا يطلعهم على ما أطلعه عليه من أنه أخوه، وتواطأ معه أنه سيحتال على أن يبقيه عنده معززاً مكرماً معظماً.
لما جهزهم وحمل معهم أبعرتهم طعاماً أمر بعض فتيانه أن يضع ﴿ السقاية ﴾ وهي إناء من فضة من قول الأكثرين، وقيل : من ذهب، ويكيل للناس به من عزة الطعام إذ ذاك، قاله ابن عباس ومجاهد، وعن ابن عباس :﴿ صُوَاعَ الملك ﴾ قال : كان من فضة يشربون فيه، وكان للعباس مثله في الجاهلية، فوضعها في متاع ( بنيامين ) من حيث لا يشعر أحد، ثم نادى منادٍ بينهم :﴿ أَيَّتُهَا العير إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ﴾، فالتفتوا إلى المنادي، وقالوا :﴿ مَّاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الملك ﴾ أي صاعه الذي يكيل به، ﴿ وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ ﴾ وهذا من باب الجُعَالة، ﴿ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ ﴾ وهذا من باب الضمان والكفالة.
لما اتهمهم أولئك الفتيان بالسرقة قال لهم إخوة يوسف :﴿ تالله لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرض وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ﴾ أي لقد تحققتم وعلمتم منذ عرفتمونا، لأنهم شاهدوا منهم سيرة حسنة، إنا ﴿ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرض وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ﴾ أي ليست سجايانا تقتضي هذه الصفة، فقال لهم الفتيان :﴿ فَمَا جَزَآؤُهُ ﴾ أي السارق إن كان فيكم ﴿ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ ﴾ أي : أيُّ شيء يكون عقوبته إن وجدنا فيكم من أخذه؟ ﴿ قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كذلك نَجْزِي الظالمين ﴾، وهكذا كانت شريعة إبراهيم عليه السلام أن السارق يدفع إلى المسروق منه، وهذا هو الذي أراد يوسف عليه السلام، ولهذا بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه، أي فتشها قبله تورية، ﴿ ثُمَّ استخرجها مِن وِعَآءِ أَخِيهِ ﴾ فأخذه منهم بحكم اعترافهم وإلزامهم بما يعتقدونه، ولهذا قال تعالى :﴿ كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ ﴾ وهذا من الكيد المحبوب المراد الذي يحبه ويرضاه لما فيه من الحكمة والمصلحة والمطلوبة، وقوله :﴿ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك ﴾ أي لم يكن له أخذه في حكم ملك مصر، وإنما كان يعلم ذلك من شريعتهم، ولهذا مدحه الله تعالى فقال :﴿ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ ﴾، كما قال تعالى :﴿ يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ مِنكُمْ ﴾ [ المجادلة : ١١ ] الآية، ﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾. قال الحسن البصري : ليس عالم إلا فوقه عالم حتى ينتهي إلى الله عزّ وجلّ. عن سعيد بن جبير قال : كنا عند ابن عباس فحدّث بحديث عجيب، فتعجب رجل فقال : الحمد لله، فوق كل ذي علم عليم، فقال ابن عباس : بئس ما قلت، الله العليم فوق كل عالم، يكون هذا أعلم من هذا وهذا أعلم من هذا، والله فوق كل عالم، وقال قتادة :﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ حتى ينتهي العلم إلى الله، منه بدئ وتعلمت العلماء وإليه يعود.
وقال إخوة يوسف لما رأوا الصواع قد اخرج من متاع بنيامين ﴿ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ ﴾ يتنصلون إلى العزيز من التشبه به، ويذكرون أن هذا فعل كما فعل أخ له من قبل، يعنون به يوسف عليه السلام. قال قتادة : كان يوسف عليه السلام قد سرق صنماً لجده أبي أمه فكسره، وقوله :﴿ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ ﴾ يعني الكلمة التي بعدها، وهي قوله :﴿ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً والله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ ﴾ أي تذكرون، قال هذا في نفسه ولم يبدها لهم، وهذا من باب الإضمار قبل الذكر، وله شواهد كثيرة في القرآن والحديث واللغة، قال ابن عباس :﴿ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ ﴾ قال : أسرَّ في نفسه ﴿ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً والله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ ﴾.
لما تعين أخذ بنيامين وتقرر تركه عند يوسف بمقتضى اعترافهم، شرعوا يترققون له ويعطفونه عليهم ﴿ قَالُواْ ياأيها العزيز إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً ﴾ يعنون وهو يحبه حباً شديداً ويتسلى به عن ولده الذي فقده، ﴿ فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ ﴾ أي بدله يكون عندك عوضاً عنه، ﴿ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين ﴾ أي العادلين المنصفين القابلين للخير، ﴿ قَالَ مَعَاذَ الله أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ ﴾ أي كما قلتم واعترفتم، ﴿ إِنَّآ إِذاً لَّظَالِمُونَ ﴾ أي إن أخذنا بريئاً بمذنب.
يخبر تعالى عن إخوة يوسف أنهم لما يئسوا من تخليص أخيهم بنيامين الذي قد التزموا لأبيهم برده إليه وعاهدوه على ذلك فامتنع عليهم ذلك ﴿ خَلَصُواْ ﴾ أي انفردوا عن الناس ﴿ نَجِيّاً ﴾ يتناجون فيما بينهم، ﴿ قَالَ كَبِيرُهُمْ ﴾ وهو الذي أشار عليهم بإلقائه في البئر عندما همو بقتله قال لهم :﴿ أَلَمْ تعلموا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ الله ﴾ لتردنه إليه، فقد رأيتم كيف تعذر عليكم ذلك مع ما تقدم لكم من إضاعة يوسف عنه، ﴿ فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض ﴾ أي لن أفارق هذه البلدة ﴿ حتى يَأْذَنَ لي أبي ﴾ في الرجوع إليه راضياً عني ﴿ أَوْ يَحْكُمَ الله لِي ﴾ بأن يمكنني من أخذ أخي ﴿ وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين ﴾، ثم أمرهم أن يخبروا أباهم بصورة ما وقع حتى يكون عذراً لهم عنده، ويتنصلوا إليه ويبرأوا مما وقع بقولهم، وقوله :﴿ وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ﴾ قال قتادة : ما علمنا أن ابنك سرق، ﴿ وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا ﴾ قيل المراد مصر، وقيل غيرها :﴿ والعير التي أَقْبَلْنَا فِيهَا ﴾ أي التي رافقناها عن صدقنا وأمانتنا وحفظنا وحراستنا، ﴿ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ فيما أخبرناك به من أنه سرق وأخذوه بسرقته.
قال لهم، كما قال لهم حين جاءوا على قميص يوسف بدم كذب :﴿ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾، قال محمد بن إسحاق : لما جاءوا يعقوب وأخبروه بما جرى اتهمهم، فظن أنه كفعلتهم بيوسف، قال :﴿ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾، ثم ترجى من الله أن يرد عليه أولاده الثلاثة يوسف وأخاه بنيامين وروبيل الذي أقام بديار مصر ينتظر أمر الله فيه، إما أن يرضى عنه أبوه، فيأمره بالرجوع إليه، وإما أن يأخذ أخاه خفية، ولهذا قال :﴿ عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ العليم ﴾ أي العليم بحالي، ﴿ الحكيم ﴾ في أفعاله وقضائه وقدره، ﴿ وتولى عَنْهُمْ وَقَالَ ياأسفى عَلَى يُوسُفَ ﴾ أي أعرض عن بنيه، وقال متذكراً حزن يوسف القديم الأول ﴿ ياأسفى عَلَى يُوسُفَ ﴾ جدد له حزن الإبنين الحزن الدفين، قال سعيد بن جبير : لم يعط أحد غير هذه الأمة الاسترجاع، ألا تسمعون إلى قول يعقوب عليه السلام :﴿ ياأسفى عَلَى يُوسُفَ وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن فَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ أي ساكت لا يشكو أمره إلى مخلوق، قاله قتادة وغيره، وقال الضحاك ﴿ فَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ كئيب حزين، فعند ذلك رق له بنوه، وقالوا له على سبيل الرفق به والشفقة عليه، ﴿ تَالله تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ ﴾ أي لا تفارق ﴿ حتى تَكُونَ حَرَضاً ﴾ أي ضعيف القوة، ﴿ أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين ﴾، يقولون : إن استمر بك هذا الحال خشينا عليك الهلاك والتلف، ﴿ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله ﴾ أي أجابهم عما قالوا بقوله :﴿ قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله ﴾ أي همي وما أنا فيه ﴿ إِلَى الله ﴾ وحده، ﴿ وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ أي أرجو منه كل خير. وعن ابن عباس في الآية يعني رؤيا يوسف أنها صدق وأن الله لا بد أن يظهرها، وقال العوفي عنه : أعلم أن رؤيا يوسف صادقة وأني سوف أسجد له.
يقول تعالى مخبراً عن يعقوب عليه السلام إنه ندب بنيه على الذهاب في الأرض يستعلمون أخبار يوسف وأخيه بنيامين، و ( التحسس ) يكون في الخير، و ( التجسس ) يكون في البشر، ونهضهم وبشرهم وأمرهم أن لا ييأسوا ﴿ مِن رَّوْحِ الله ﴾ أي لا يقطعوا رجاءهم وأملهم من الله فيما يرومونه ويقصدونه فإنه لا يقطع الرجاء ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، وقوله :﴿ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ ﴾ تقدير الكلام : فذهبوا فدخلوا مصر ودخلوا على يوسف، ﴿ ياأيها العزيز مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر ﴾ يعنون الجدب والقحط وقلة الطعام، ﴿ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ ﴾ أي ومعنا ثمن الطعام الذي نمتاره وهو ثمن قليل، قاله مجاهد والحسن، وقال ابن عباس : الرديء لا ينفق، وفي رواية عنه : الدراهم الرديئة التي لا يجوز إلا بنقصان، وقال الضحاك : كاسدة لا تنفق، وأصل الإزجاء الدفع لضعف الشيء، وقوله إخباراً عنهم :﴿ فَأَوْفِ لَنَا الكيل ﴾ أي أعطنا بهذا الثمن القليل ما كنت تعطينا قبل ذلك، قال ابن جريج :﴿ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ ﴾ برد اخينا إلينا، وقال سعيد بن جبير والسدي : يقولون : تصدق علينا بقبض هذه البضاعة المزجاة وتجوز فيها.
يقول تعالى مخبراً عن يوسف عليه السلام أنه لما ذكر له إخوته ما أصابهم من الجهد والضيق وقلة الطعام وعموم الجدب، وتذكر أباه، وما هو فيه من الحزن لفقد ولديه مع ما هو فيه من الملك والتصرف والسعة، فعند ذلك أخذته رقة ورأفة ورحمة وشفقة على أبيه وأخوته، وبدره البكاء، فتعرف إليه، والظاهر - والله أعلم - أن يوسف عليه السلام إنما تعرف إليهم بنفسه بإذن الله تعالى له في ذلك، كما إنه إنما أخفى منهم نفسه في المرتين الأوليين بأمر الله تعالى له في ذلك، والله أعلم، ولكن لما ضاق الحال واشتد الأمر فرج الله تعالى من ذلك الضيق فعند ذلك قالوا :﴿ أَءِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ ﴾ ؟ والاستفهام يدل على الاستعظام، أي أنهم تعجبوا من ذلك أنهم يترددون إليه من سنتين وأكثر، وهم لا يعرفونه، وهو مع هذا يعرفهم ويكتم نفسه، فلهذا قالوا على سبيل الاستفهام :﴿ أَءِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وهذا أَخِي ﴾، وقوله :﴿ قَدْ مَنَّ الله عَلَيْنَآ ﴾ أي بجمعه بيننا بعد التفرقة وبعد المدة ﴿ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَِصْبِرْ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين * قَالُواْ تالله لَقَدْ آثَرَكَ الله عَلَيْنَا ﴾ الآية، يقولون معترفون له بالفضل والأثرة عليهم في الخلق والخلق والسعة والملك وأقروا له بأنهم أساءوا إليه وأخطأوا في حقه، ﴿ قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليوم ﴾ يقول أي لا تأنيب عليكم ولا عتب عليكم اليوم، ثم زادهم الدعاء لهم بالمغفرة، فقال :﴿ يَغْفِرُ الله لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين ﴾ قال السدي : اعتذروا إلى يوسف فقال :﴿ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليوم ﴾ يقول : لا أذكر لكم ذنبكم، وقال ابن إسحاق والثوري : أي لا تأنيب عليكم اليوم عندي فيما صنعتم، ﴿ يَغْفِرُ الله لَكُمْ ﴾ أي يستر الله عليكم فيما فعلتم ﴿ وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين ﴾.
يقول : اذهبوا بهذا القميص ﴿ فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً ﴾ وكان قد عمي من كثرة البكاء، ﴿ وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ أي بجميع بني يعقوب، ﴿ وَلَمَّا فَصَلَتِ العير ﴾ أي خرجت من مصر، ﴿ قَالَ أَبُوهُمْ ﴾ يعني يعقوب عليه السلام لمن بقي عنده من بنيه :﴿ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ ﴾ تنسبوني إلى الفند والكبر، قال ابن عباس ومجاهد : تسفهون، وقال مجاهد أيضاً والحسن : تهرّمون، وقولهم :﴿ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ القديم ﴾ قال ابن عباس : لفي خطئك القديم، وقال قتادة : أي من حب يوسف لا تنساه ولا تسلاه، قالوا لوالدهم كلمة غليظة لم يكن ينبغي لهم أن يقولوها لوالدهم ولا لنبي الله ﷺ، وكذا قال السدي وغيره.
قال ابن عباس :﴿ البشير ﴾ البريد، وقال السدي : هو يهوذا بن يعقوب وإنما جاء به لأنه هو الذي جاء بالقميص وهو ملطخ بدم كذب، فأحب أن يغسل ذلك بهذا، فجاء بالقميص فألقاه على وجه أبيه فرجع بصيراً، وقال لبنيه عند ذلك :﴿ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ أي أعلم أن الله سيرده إليَّ، فعند ذلك قالوا لأبيهم مترفقين له :﴿ ياأبانا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم ﴾ أي من تاب إليه تاب عليه، قال ابن مسعود : أرجأهم إلى وقت السحر، وقال ابن جرير : كان عمر رضي الله عنه يأتي المسجد فيسمع إنساناًَ يقول : اللهم دعوتني فأجبت، وأمرتني فأطعت، وهذا السحر فاغفر لي، قال : فاستمع الصوت فإذا هو من دار ( عبد الله بن مسعود ) فسأل عبد الله عن ذلك، فقال : إن يعقوب أخّر بنيه إلى السحر بقوله :﴿ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي ﴾.
يخبر تعالى عن ورود يعقوب عليه السلام وقدومه بلاد مصر، لما كان يوسف قد تقدم لإخوته أن يأتوه بأهلهم أجمعين، فتحملوا عن آخرهم، وترحلوا من بلاد كنعان قاصدين بلاد مصر، فما أخبر يوسف عليه السلام باقترابهم خرج لتلقيهم، وأمر الملك أمراءه وأكابر الناس بالخروج مع يوسف لتلقي نبي الله ( يعقوب عليه السلام )، ويقال إن الملك خرج أيضاً لتلقيه وهو الأشبه، وقوله :﴿ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ﴾ قال السدي : إنما كان أباه وخالته وكانت أمه قد ماتت قديماً، قال ابن جرير : ولم يقم دليل على موت أمه، وظاهر القرآن يدل على حياتها، وقوله :﴿ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش ﴾، قال ابن عباس : يعني السرير أي أجلسهما معه على سريره، ﴿ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً ﴾ أي سجد له أبواه وإخوته الباقون، وكانوا أحد عشر رجلاً، ﴿ وَقَالَ ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ ﴾ أي التي كان قصها على أبيه من قبل، وقد كان هذا سائغاً في شرائعهم إذا سلموا على الكبير يسجدون له، ولم يزل هذا جائزاً من لدن آدم إلى شريعة عيسى عليه السلام، فحرم هذا في هذه الملة، وجعل السجود مختصاً بجناب الرب سبحانه وتعالى، هذا مضمون قول قتادة وغيره، وفي الحديث :« لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها »، وفي حديث آخر : إن سلان لقي النبي ﷺ في بعض المدينة، وكان سلمان حديث عهد بالإسلام، فسجد للنبي ﷺ فقال :« لا تسجد لي يا سلمان واسجد للحي الذي لا يموت » والغرض أن هذا كان جائزاً في شريعتهم، ولهذا خروا له سجداً فعندها قال يوسف :﴿ ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً ﴾ أي هذا ما آل إليه الأمر، فإن التأويل يطلق على ما يصير إليه الأمر، كما قال تعالى :﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ﴾ [ الأعراف : ٥٣ ] أي يوم القيامة يأتيهم ما وعدوا به من خير وشر، وقوله :﴿ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً ﴾ أي صحيحة صدقاً، يذكر نعم الله عليه، ﴿ وَقَدْ أَحْسَنَ بي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السجن وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ البدو ﴾ أي البادية، قال ابن جريج وغيره : كانوا أهل بادية وماشية، ﴿ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان بَيْنِي وَبَيْنَ إخوتي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ ﴾، أي إذا أراد أمراً قيض له أسباباً وقدره ويسره ﴿ إِنَّهُ هُوَ العليم ﴾ بمصالح عباده ﴿ الحكيم ﴾ في أقواله وأفعاله وقضائه وقدره وما يختاره ويريده. قال محمد بن إسحاق : ذكروا - والله أعلم - أن غيبة يوسف عن يعقوب كانت ثماني عشرة سنة، وأهل الكتاب يزعمون أنها كانت أربعين سنة، وأن يعقوب عليه السلام بقي مع يوسف بعد أن قدم عليه مصر سبع عشرة سنة ثم قبضه الله إليه، وقال عبد الله بن شداد : اجتمع آل يعقوب إلى يوسف بمصر وهم ستة وثمانون إنساناً صغيرهم وكبيرهم، وذكرهم وأنثاهم، وخرجوا منها وهم ستمائة ألف ونيف.
هذا دعاء من يوسف الصديق، دعا به ربه عزّ وجلّ لما تمت نعمة الله عليه باجتماعه بأبويه وإخوته، وما منَّ الله به عليه من النبوة والملك، سأل ربه عزّ وجلّ أن يتوفاه مسلماً حين يتوفاه وأن يلحقه بالصالحين، وهم إخوانه من النبيين والمرسلين صلوات الله عليه وسلامه عليهم أجمعين؛ وهذا الدعاء يحتمل أن يوسف عليه السلام قاله عند احتضاره، كما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ جعل يرفع أصبعه عند الموت ويقول :« اللهم في الرفيق الأعلى ثلاثاً » ؛ ويحتمل أنه سأل الوفاة على الإسلام واللحاق بالصالحين إذا جاء أجله وانقضى عمره، لا أنه سأله ذلك منجزاً كما يقول الداعي لغيره أماتك الله على الإسلام، ويقول الداعي : اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين؛ ويحتمل أنه سأل ذلك منجزاً وكان ذلك سائغاً في ملتهم، كما قال قتادة : لما جمع الله شمله وأقر عينه وهو يومئذٍ مغمور في الدنيا وملكها ونضارتها اشتاق إلى الصالحين قبله، وكان ابن عباس يقول : ما تمنى نبي قط الموت قبل يوسف عليه السلام، ولكن هذا لا يجوز في شريعتنا لما في « الصحيحين » :« لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به إما محسناً فيزداد، وإما مسيئاً فلعله يستعتب، ولكن ليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كان الوفاة خيراً لي ».
وعن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال :« لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ولا يدع به من قبل أن يأتيه إلا أن يكون قد وثق بعمله فإنه إذا مات أحدكم انقطع عنه عمله وإنه لا يزيد المؤمن عمله إلا خيراً » وهذا فيما إذا كان الضر خاصاً به، وأما إذا كان فتنة في الدين فيجوز سؤال الموت، كما قال تعالى إخباراً عن السحرة لا أرادهم فرعون عن دينهم وتهددهم بالقتل قالوا :﴿ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ﴾ [ الأعراف : ١٢٦ ]. وقالت مريم عليها السلام :﴿ ياليتني مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً ﴾ [ مريم : ٢٣ ] لما علمت من أن الناس يقذفونها بالفاحشة لأنها لم تكن ذات زوج وقد حملت ووضعت، وفي حديث معاذ الذي رواه الإمام أحمد والترمذي :« وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون »، فعند حلول الفتن في الدين يجوز سؤال الموت، ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في آخر خلافته لما رأى الأمور لا تجتمع له، ولا يزداد الأمر إلا شدة فقال : اللهم خذني إليك فقد سئمتهم وسئموني، وقال البخاري رحمه الله : لما وقعت له تلك الفتنة وجرى له مع أمير خراسان ما جرى قال : اللهم توفني إليك، وفي الحديث :« إن الرجل ليمر بالقبر - أي في زمان الدجال - فيقول يا ليتني مكانك » لما يرى من الفتن والزلازل والأمور الهائلة التي هي فتنة لكل مفتون.
يقول تعالى لمحمد ﷺ لما قص عليه نبأ إخوة يوسف، وكيف رفعه الله عليهم وجعل له العاقبة والنصر والملك والحكم، مع ما أرادوا به من السوء والهلاك والإعدام : هذا وأمثاله يا محمد من أخبار الغيوب السابقة ﴿ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ﴾ ونعلمك به يا محمد لما فيه من العبرة لك والاتعاظ لمن خالفك، ﴿ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ ﴾ حاضراً عندهم ولا مشاهداً لهم ﴿ إِذْ أجمعوا أَمْرَهُمْ ﴾ أي على إلقائه في الجب، ﴿ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ﴾ به، ولكنا أعلمناك به وحياً إليك وإنزالاً عليك كقوله :﴿ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ ﴾ [ آل عمران : ٤٤ ] الآية، وقال تعالى :﴿ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر ﴾ [ القصص : ٤٤ ] الآية، إلى قوله :﴿ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا ﴾ [ القصص : ٤٦ ] الآية، يقول تعالى : إنه رسوله وإنه قد أطلعه على أنباء ما قد سبق مما فيه عبرة للناس ونجاة لهم في دينهم ودنياهم، ومع هذا ما آمن أكثر الناس، ولهذا قال :﴿ وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾، وقال :﴿ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله ﴾ [ الأنعام : ١١٦ ]، وقوله :﴿ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ﴾ أي ما تسألهم يا محمد على هذا النصح والرشد من أجر أي من جعالة ولا أجرة، بل تفعله ابتغاء وجه الله ونصحاً لخلقه، ﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ﴾ أي يتذكرون به ويهتدون وينجون به في الدنيا والآخرة.
يخبر تعالى عن غفلة أكثر الناس عن التفكر في آيات الله، ودلائل توحيده، بما خلقه الله في السماوات والأرض من كواكب زاهرات وأفلاك دائرات؛ وحدائق جنات، وجبال راسيات، وبحار زاخرات، وحيوان ونبات، فسبحان الواحد الأحد خالق أنواع المخلوقات، المنفرد بالدوام والبقاء والمصدية للأسماء والصفات، وقوله :﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ ﴾ قال ابن عباس : من إيمانهم أنهم إذا قيل لهم : من خلق السماوات ومن خلق الأرض ومن خلق الجبال؟ قالوا : الله وهم مشركون به. وفي « الصحيحين » : أن المشركين كانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك. وفي « صحيح مسلم » :« أنهم كانوا إذا قالوا : لبيك لا شريك لك، قال رسول الله ﷺ :» قد قد « » أي حسب حسب لا تزيدوا على هذا، وقال الله تعالى :﴿ إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [ لقمان : ١٣ ]. وقال الحسن البصري في قوله :﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ ﴾ قال : ذلك المنافق يعمل إذا عمل رياء الناس، وهو مشرك بعمله ذلك، يعني في قوله تعالى :﴿ يُرَآءُونَ الناس وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [ النساء : ١٤٢ ]، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ :« يقول الله أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه »، وعن أبي سعيد بن أبي فضالة قال :« سمعت رسول الله ﷺ يقول : إذا جمع الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه، ينادي منادٍ من كان أشرك في عمل عمله الله فليطلبْ ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك » وقال :« إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر »، قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال :« الرياء، يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جاز الناس بأعمالهم : اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟ » وقد روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي قال : قال أبو بكر الصديق :« يا رسول الله علمني شيئاً أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعي، قال :» قل اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، رب كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشركه «، وقوله :﴿ أفأمنوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ الله ﴾ الآية، أي افأمن هؤلاء المشركون بالله أن يأتيهم أمر يغشاهم من حيث لا يشعرون، كقوله تعالى :﴿ أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ الأرض أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ [ النحل : ٤٥ ] ؟ وقوله :﴿ أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون ﴾ [ الأعراف : ٩٧-٩٩ ] ؟
يقول تعالى لرسوله ﷺ إلى الثقلين الإنس والجن آمراً له أن يخبر الناس أن هذه سبيله، أي طريقته ومسلكه وسنته، وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له « يدعو إلى الله بها لى بصيرة من ذلك ويقين وبرهان، هو وكل من اتبعه، وقوله :﴿ وَسُبْحَانَ الله ﴾ أي وأنزه الله وأجله وأعظمه وأقدسه عن أن يكون له شريك أو نظير أو عديل أو نديد أو ولد أو والد أو صاحبه أو وزير أو مشير، تبارك وتقدس وتنزه وتعالى عن ذلك كله علواً كبيراً ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ﴾ [ الإسراء : ٤٤ ].
يخبر تعالى أنه إنما أرسل رسله من ( الرجال ) لا من ( النساء ) وهذا قول جمهور العلماء، وزعم بعضهم أن ( سارة ) امرأة الخليل، وأم موسى، ومريم بنت عمران، أم عيسى نبيات، واحتجوا بأن الملائكة بشرت سارة بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، وبقوله :﴿ وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ ﴾ [ القصص : ٧ ] الآية، وبأن الملك جاء إلى مريم فبشرها بعيسى عليه السلام، وبقوله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم إِنَّ الله اصطفاك وَطَهَّرَكِ واصطفاك على نِسَآءِ العالمين ﴾ [ آل عمران : ٤٢ ]، وهذا القدر حاصل لهن، ولكن لا يلزم من هذا أن يكن نبيات بذلك ويبقى الكلام في أن هذا هل يكفي في الانتظام في سلك النبوة بمجرده أم لا؟ الذي عليه أهل السنة والجماعة - وهو الذي نقله الشيخ أبو الحسن الأشعري عنهم - أنه ليس في النساء نبية، وإنما فيهن ( صدّيقات )، كما قال تعالى مخبراً عن ( مريم بنت عمران ) :﴿ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام ﴾ [ المائدة : ٧٥ ]، فوصفها في أشرف مقاماتها بالصديقية، فلو كانت نبية لذلك ذكل في مقام التشريف والإعظام فهي صديقة بنص القرآن وقال الضحاك عن ابن عباس في الآية : أي ليسوا من أهل السماء كما قلتم، وهذا القول من ابن عباس يعتضد بقوله تعالى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِي الأسواق ﴾ [ الفرقان : ٢٠ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ ﴾ [ الأنبياء : ٨ ]، وقوله :﴿ مِّنْ أَهْلِ القرى ﴾ المراد بالقرى المدن لا أنهم من أهل البوادي الذين هم من أجفى الناس طباعاً وأخلاقاً، وقوله :﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض ﴾ يعني هؤلاء المكذبين لك يا محمد في الأرض ﴿ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ ﴾ أي من الأمم المكذبة للرسل كيف دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها، كقوله :﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ ﴾ [ العنكبوت : ٤٦ ] الآية، فإذا استمعوا خبر ذلك رأوا أن الله قد أهلك الكافرين ونجّى المؤمنين، وهذه كانت سنته تعالى في خلقه ولهذا قال تعالى :﴿ وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتقوا ﴾ أي وكما نجينا المؤمنين في الدنيا كذلك كتبنا لهم النجاة في الدار الآخرة، وهي خير لهم من الدنيا بكثير، وأضاف الدار إلى الآخرة فقال :﴿ وَلَدَارُ الآخرة ﴾ كما يقال : صلاة الأولى ومسجد الجامع.
يذكر تعالى أن نصره ينزل على رسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين عند ضيق الحال وانتظار الفرج من الله في أحوج الأوقات إليه، كقوله تعالى :﴿ وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله ﴾ [ البقرة : ١٤٢ ] الآية. وفي قوله :﴿ كُذِبُواْ ﴾ قراءتان إحداهما بالتشديد ﴿ قَدْ كُذِبُواْ ﴾، وكذلك كانت عائشة رضي الله عنها تقرؤها، قال البخاري عن ابن شهاب قال : أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت له وهو يسألها عن قول الله تعالى :﴿ حتى إِذَا استيأس الرسل ﴾ قال، قلت : أكذبوا أم كذّبوا؟ قالت عائشة : كذّبوا، قلت : فقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فماهو بالظن؟ قالت : أجل لعمري لقد استيقنوا بذلك، فقلت لها :﴿ وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ ﴾ ؟ قالت : معاذ الله لم تكن الرسل تظن ذلك بربها، قلت فما هذه الآية؟ قالت : هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم فطال عليهم البلاء، واستأخر عنهم النصر ﴿ حتى إِذَا استيأس الرسل ﴾ ممن كذبهم من قومهم، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم، جاءهم نصر الله عند ذلك. والقراءة الثانية بالتخفيف واختلفوا في تفسيرها، فقال ابن عباس في قوله :﴿ حتى إِذَا استيأس الرسل وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ ﴾ قال : لما أيست الرسل أن يستجيب لهم قومهم، وظن قومهم أن الرسل قد كذبوهم جاءهم النصر على ذلك، ﴿ فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ ﴾، وقال ابن جرير، عن إبراهيم بن أبي حمزة الجزري قال : سأل فتى من قريش سعيد بن جبير قال : أخبرنا أبا عبد الله كيف هذا الحرف؟ فإني إذا أتيت عليه تمنيت أن لا أقرأ هذه السورة ﴿ حتى إِذَا استيأس الرسل وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ ﴾ قال : نعم، حتى استيأس الرسل من قومهم أن يصدقوهم، وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا، فقال الضحاك بن مزاحم : ما رأيت كاليوم قط رجلاً يدعى إلى علم فيتلكاً، لو رحلت إلى اليمن في هذه كان قليلاً. ثم روى ابن جرير أيضاً من وجه آخر أن مسلم بن يسار سأل سعيد بن جبير عن ذلك فأجابه بهذا الجواب، فقام إلى سعيد فأعتنقه، وقال : فرج الله عنك كما فرجت عني. وأما ابن مسعود فقال ابن جرير، عن تميم بن حزم، قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقول في هذه الآية :﴿ حتى إِذَا استيأس الرسل ﴾ من إيمان قومهم أن يؤمنوا بهم، وظن قومهم حين أبطأ الأمر أنهم قد كذبوا بالتخفيف، فهاتان الروايتان عن كل من ابن مسعود وابن عباس والله أعلم.
يقول تعالى : لقد كان في خبر المرسلين مع قومهم وكيف نجينا المؤمنين وأهلكنا الكافرين ﴿ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب ﴾ وهي العقول، ﴿ مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى ﴾ أي وما كان لهذا القرآن أن يفترى من دون الله، أي يكذب ويختلق، ﴿ ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ أي من الكتب المنزلة من السماء هو يصدق ما فيها من الصحيح وينفي ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير، ﴿ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ من تحليل وتحريم وغير ذلك من الأمر بالطاعات والواجبات والمستحبات، والنهي عن المحرمات وما شاكلها من المكروهات، والإخبار عن الأمور الجلية، وعن الغيوب المستقبلة المجملة والتفصيلية، والإخبار عن الرب تبارك وتعالى بالأسماء والصفات، وتنزهه عن مماثلة المخلوقات، فلهذا كان :﴿ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ تهتدي به قلوبهم من الغي إلى الرشاد، ومن الضلال إلى السداد، ويبتغون به الرحمة من رب العباد، في هذه الحياة الدنيا ويوم المعاد، فنسأل الله العظيم أن يجعلنا منهم في الدنيا والآخرة.
Icon