تفسير سورة المعارج

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة المعارج من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

﴿ سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ﴾ أي استعجل سائل بعذاب واقع، كقوله تعالى :﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ ﴾ [ الحج : ٤٧ ]. قال النسائي، عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ﴾، قال :( النصر بن الحارث ) وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ﴾ ذلك سؤال الكفّار عن عذاب الله وهو واقع بهم، وقال مجاهد في قوله تعالى :﴿ سَأَلَ سَآئِلٌ ﴾ دعا داع بعذاب واقع يقع في الآخرة، قال وهو قولهم :﴿ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [ الأنفال : ٣٢ ]، وقوله تعالى :﴿ لِّلْكَافِرِينَ ﴾ أي مرصد معد للكافرين، ﴿ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ﴾ أي لا دافع له إذا أراد الله كونه، ولهذا قال تعالى :﴿ مِّنَ الله ذِي المعارج ﴾ قال ابن عباس : ذو الدرجات، وعنه : ذو العلو والفواضل، وقال مجاهد ﴿ ذِي المعارج ﴾ معارج السماء، وقال قتادة : ذي الفواضل والنعم، وقوله تعالى :﴿ تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ ﴾ قال قتادة :﴿ تَعْرُجُ ﴾ : تصعد، وأما الروح فيحتمل أن يكون المراد به جبريل، ويكون من باب عطف الخاص على العام، ويحتمل أن يكون اسم جنس لأرواح بني آدم، فإنها إذا قبضت يصعد بها إلى السماء، كما دل عليه حديث البراء، في قبض الروح الطيبة وفيه. « فلا يزال يصعد بها من سماء إلى سماء، حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله ».
وقوله تعالى :﴿ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ فيه أربعة أقوال : أحدها : أن المراد بذلك مسافة ما بين العرش العظيم إلى أسفل السافلين، وهو قرار الأرض السابعة، وذلك مسيرة خمسين ألف سنة، عن ابن عباس في قوله :﴿ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ قال : منتهى أمره من أسف الأرضين، إلى منتهى أمره من فوق السماوات خمسين ألف سنة. القول الثاني : إن المراد بذلك مدة بقاء الدنيا منذ خلق الله هذا العالم إلى قيام الساعة، قال : الدنيا عمرها خمسو ألف سنة، وذلك عمرها يوم سماها الله عزَّ وجلَّ يوماً. وعن عكرمة :﴿ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ قال : الدنيا من أولها إلى آخرها مقدار خمسين ألف سنة لا يدري أحدكم مضى ولا كم بقي إلاّ الله عزَّ وجلَّ. القول الثالث : أنه اليوم الفاصل بين الدنيا والآخرة وهو قول غريب جداً، روي عن محمد بن كعب قال : هو يوم الفصل بين الدنيا والآخرة. القول الرابع : أن المراد بذلك يوم القيامة، وبه قال الضحّاك وابن زيد وعكرمة، وروي عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ قال : هو يوم القيامة جعله الله تعالى على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة، روى الإمام أحمد عن أبي سعيد قال :
2608
« قيل لرسول الله ﷺ :﴿ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ ما أطول هذا اليوم؟ فقال رسول الله ﷺ :» والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمنين حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا « » وقال الإمام أحمد، عن أبي هريرة رضي الله عه قال : قال رسول الله ﷺ :« ما من صاحب كنز لا يؤدي حقه إلا جعل صفائح يحمى عليها في نار جهنم، فتكوى بها جبهته وجنبه وظهره، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ».
وقوله تعالى :﴿ فاصبر صَبْراً جَمِيلاً ﴾ أي اصبر يا محمد على تكذيب قولك لك، واستعجالهم العذاب استبعاداً لوقوعه كقوله تعالى :﴿ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا والذين آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الحق ﴾ [ الشورى : ١٨ ]، ولهذا قال :﴿ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً ﴾ أي وقوع العذاب، وقيام الساعة يراه الكفرة بعيد الوقوع بمعنى مستحيل الوقوع ﴿ وَنَرَاهُ قَرِيباً ﴾ أي المؤمنون يعتقدون كونه قريباً وإن كان له أمد لا يعلمه إلا الله عزَّ وجلَّ، ولكن كل ما هو آتٍ فهو قريب وواقع لا محالة.
2609
يقول تعالى العذاب واقع بالكافرين ﴿ يَوْمَ تَكُونُ السمآء كالمهل ﴾، قال ابن عباس، ومجاهد : أي كدردي الزيت، ﴿ وَتَكُونُ الجبال كالعهن ﴾ أي كالصوف المنفوش، قاله مجاهد وقتادة، وهذه الآية كقوله تعالى :﴿ وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش ﴾ [ القارعة : ٥ ]، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً * يُبَصَّرُونَهُمْ ﴾ أي لا يسأل القريب قريبه عن حاله، وهو يراه في أسوأ الأحوال فتشغله نفسه عن غيره. قال ابن عباس : يعرف بعضهم بعضاً ويتعارفون بينهم، ثم يفر بعضهم من بعض بعد ذلك، يقول الله تعالى :﴿ لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ [ عبس : ٣٧ ]، وهذه الآية الكريمة كقوله تعالى :﴿ واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً ﴾ [ لقمان : ٣٣ ]، وكقوله تعالى :﴿ يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وصاحبته وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ [ عبس : ٣٤-٣٧ ]، وقوله تعالى :﴿ يَوَدُّ المجرم لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ التي تُؤْوِيهِ * وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ * كَلاَّ ﴾ أي لا يقبل منه فداء ولو جاء بأهل الأرض، وبأعز ما يجده من المال، ولو بملء الأرض ذهباً، أو من ولده الذي كان في الدنيا حشاشة كبده، يود يوم القيامة إذا رأى الأهوال أن يفتدي من عذاب الله به، قال مجاهد والسدي :﴿ فَصِيلَتِهِ ﴾ قبيلته وعشيرته، وقال عكرمة، فخذه الذي هو منهم، وقوله تعالى :﴿ إِنَّهَا لظى ﴾ يصف النار وشدة حرها ﴿ نَزَّاعَةً للشوى ﴾، قال ابن عباس ومجاهد : جلدة الرأس، وعن ابن عباس :﴿ نَزَّاعَةً للشوى ﴾ الجلود والهام، وقال أبو صالح ﴿ نَزَّاعَةً للشوى ﴾ يعني أطراف اليدين والرجلين، وقال الحسن البصري : تحرق كل شيء فيه ويبقى فؤاده يصيح، وقال الضحّاك : تبري اللحم والجلد عن العظم، حتى لا تترك منه شيئاً، وقوله تعالى :﴿ تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وتولى * وَجَمَعَ فأوعى ﴾ أي تدعو النار إليها أبناءها الذين خلقهم الله لها، فتدعوهم يوم القيامة بلسان طلق ذلق، ثم تلتقطهم من بين أهل المحشر، كما يلتقط الطير الحب، وذلك أنهم كانوا ممن أدبر وتولى، أي كذب بقلبه وترك العمل بجوارحه ﴿ وَجَمَعَ فأوعى ﴾ أي جمع المال بعضه على بعض، فأوعاه أي أوكاه ومنع حق الله منه، من الواجب عليه في النفقات ومن إخراج الزكاة، وقد ورد في الحديث :« ولا توعي فيوعي الله عليك »، وكان عبد الله بن عكيم لا يربط له كيساً، يقول، سمعت الله يقول :﴿ وَجَمَعَ فأوعى ﴾، وقال الحسن البصري : يا ابن آدم سمعت وعيد الله ثم أوعيت الدنيا، وقال قتادة في قوله :﴿ وَجَمَعَ فأوعى ﴾ قال : كان جموعاً قموماً للخبيث.
يقول تعالى مخبراً عن الإنسان، ما هو مجبول عليه من الأخلاق الدنيئة ﴿ إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً ﴾، ثم فسره بقوله :﴿ إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً ﴾ أي إذا مسه الضر فزع وجزع، وانخلع قلبه من شدة الرعب، وأيس أن يحصله له بعد ذلك خير ﴿ وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً ﴾ أي إذا حصلت له نعمة من الله بخل بها على غيره، ومنع حق الله تعالى فيها. وفي الحديث :« شر ما في الرجُل : شح هالع وجُبن خالع » ثم قال تعالى :﴿ إِلاَّ المصلين ﴾ أي إلا من عصمه الله ووفقه وهداه إلى الخير، ويسر له أسبابه وهم المصلون ﴿ الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ ﴾ قبل : معناه يحافظون على أوقاتها وواجباتها، قاله ابن مسعود، وقيل : المراد بالدوام ههنا السكون والخشوع كقوله تعالى :﴿ قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون * الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ [ المؤمنون : ١-٢ ] قاله عقبة بن عامر، ومنه الماء الدائم وهو الساكن والراكد؛ وهذا يدل على وجوب الطمأنينة في الصلاة؛ فإن الذي لا يطمئن في ركوعه وسجوده لم يسكن فيها ولم يدم، بل ينقرها نقر الغراب، فلا يفلح في صلاته؛ وقيل المراد بذلك الذين إذا عملوا عملاً داوموا عليه، وأثبتوه كما جاء في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله ﷺ أنه قال :« أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلّ »، قالت : وكان رسول الله ﷺ إذا عمل عملاً داوم عليه، وقوله تعالى :﴿ والذين في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّآئِلِ والمحروم ﴾ أي في أموالهم نصيب مقرر لذوي الحاجات، ﴿ والذين يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدين ﴾ أي يوقنون بالمعاد والحساب والجزاء، فهم يعملون عمل من يرجو الثواب ويخاف العقاب، ولهذا قال تعالى :﴿ والذين هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ ﴾ أي خائفون وجلون، ﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ﴾ أي لا يأمنه أحد إلا بأمان من الله تبارك وتعالى، وقوله تعالى :﴿ والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ﴾ أي يكفونها عن الحرام، ويمنعونها أن توضع في غير ما أذن الله فيه، ولهذا قال تعالى :﴿ إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ أي في الإماء، ﴿ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذَلِكَ فأولئك هُمُ العادون ﴾ وقد تقدم تفسير هذا بما أغنى عن إعادته ههنا، وقوله تعالى :﴿ والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ أي إذا اؤتمنوا لم يخونوا، وإذا عاهدوا لم يغدروا، ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ ﴾ أي محافظون عليها لا يزيدون فيها، ولا ينقصون منها ولا يكتمونها ﴿ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ﴾ [ البقرة : ٢٨٣ ]، ثم قال تعالى :﴿ وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ أي على مواقيتها وأركانها وواجباتها ومستحباتها، فافتتح الكلام بذكر الصلاة، واختتمه بذكرها، فدل على الاعتناء بها والتنويه بشرفها، ﴿ أولئك فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ ﴾ أي مكرمون بأنواع الملاذ والمسار.
يقول تعالى منكراً على الكفّار الذين كانوا في زمن النبي ﷺ، وهم مشاهدون لما أيده الله به من المعجزات الباهرات، ثم هم شاردون يميناً وشمالاً فرقاً فرقاً، ﴿ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ ﴾ [ المدثر : ٥٠-٥١ ]، قال تعالى :﴿ فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ﴾ أي فما لهؤلاء الكفّار الذين عندك يا محمد ﴿ مُهْطِعِينَ ﴾ أي مسرعين نافرين منك، قال الحسن ﴿ مُهْطِعِينَ ﴾ أي منطلقين، ﴿ عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال عِزِينَ ﴾ واحدها عزة أي متفرقين، وقال ابن عباس :﴿ فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ﴾ قال : قبلك ينظرون ﴿ عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال عِزِينَ ﴾ العزين : الصعب من الناس عن يمين وشمال معرضين يستهزئون به، وعن الحسن في قوله :﴿ عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال عِزِينَ ﴾ أي متفرقين يأخذون يميناً وشمالاً يقولون : ما قال هذا الرجل؟ وفي الحديث :« أن رسول الله ﷺ خرج على أصحابه وهم حلق فقال :» ما لي أراكم عزين « » ؟. وقوله تعالى :﴿ أَيَطْمَعُ كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلاَّ ﴾ أي أيطمع هؤلاء، والحلة هذه من فرارهم عن الرسول ﷺ، ونفارهم عن الحق، أن يدخلوا جنات النعيم؟ كلا، بل مأواهم جهنم، ثم قال تعالى مقرراً لوقوع المعاد والعذاب بهم مستدلاً عليهم بالبداءة :﴿ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ ﴾ أي من المني الضعيف، كما قال تعالى :﴿ أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ ﴾ [ المرسلات : ٢٠ ]، وقال :﴿ فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترآئب ﴾ [ الطارق : ٥-٧ ]، ثم قال تعالى :﴿ فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ المشارق والمغارب ﴾ أي الذي خلق السماوات والأرض، وسخَّر الكواكب تبدو من مشارقها وتغيب في مغاربها، ﴿ إِنَّا لَقَادِرُونَ * على أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ ﴾ أي يوم القيامة نعيدهم بأبدان خير من هذه فإنه قدرته صالحة لذلك، ﴿ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ﴾ أي بعاجزين، كما قال تعالى :﴿ أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ * بلى قَادِرِينَ على أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾ [ القيامة : ٣-٤ ]، وقال تعالى :﴿ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * على أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [ الواقعة : ٦٠-٦١ ]، واختار ابن جرير ﴿ على أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ ﴾ أي أمة تطيعنا و لا تعصينا وجعلها كقوله :﴿ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم ﴾ [ محمد : ٣٨ ]، والمعنى الأول أظهر لدلالة الآيات الاخر عليه، والله سبحانه وتعالى أعلم. ثم قال تعالى :﴿ فَذَرْهُمْ ﴾ أي يا محمد ﴿ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ ﴾ أي دعهم في تكذيبهم وكفرهم وعنادهم، ﴿ حتى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الذي يُوعَدُونَ ﴾ أي فسيعلمون غب ذلك ويذوقون وباله، ﴿ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ﴾ أي يقومون من القبور، إذا دعاهم الرب تبارك وتعالى لموقف الحساب، ينهضون سراعاً ﴿ كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ﴾ قال ابن عباس : إلى علم يسعون، وقال أبو العالية : إلى غاية يسعون إليها. ﴿ نُصُبٍ ﴾ يضم النون والصاد وهو الصنم، أي كأنهم في إسراعهم إلى الموقف، كما كانوا في الدنيا يهرولون إلى النصب إذا عاينوه، ﴿ يُوفِضُونَ ﴾ يبتدرون أيهم يستلمه أول، وهذا مروي عن مجاهد وقتادة والضحّاك وغيرهم، وقوله تعالى :﴿ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ ﴾ أي خاضعة ﴿ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ﴾ أي في مقابلة ما استكبروا في الدنيا عن الطاعة ﴿ ذَلِكَ اليوم الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ ﴾.
Icon