تفسير سورة المدّثر

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة المدثر من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ ﴾ وقع خلاف طويل في أول ما نزل من القرآن والصحيح إن أول ما نزل على الإطلاق﴿ ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ﴾[العلق: ١] إلى﴿ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾[العلق: ٥] وأول ما نزل بعد فترة الوحي ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ ﴾ إلى ﴿ فَٱهْجُرْ ﴾.
والحاصل:" أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعبد في غار حراء؛ فنزل جبريل بآية ﴿ ٱقْرَأْ ﴾ كما في حديث البخاري، فذهب بها يرجف فؤاده، فقال لخديجة: زملوني، فنزل عليه ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ * قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ ثم فتر الوحي، فحزن صلى الله عليه وسلم وجلع يعلو شواهق الجبال، ويريد أن يرمي بنفسه، فنودي وهو بغار حراء: يا محمد إنك رسول الله، قال: فنظرت عن يميني ويساري فلم أر شيئاً، فنظرت فوقي، فإذا به قاعد على عرش بين السماء والأرض، يعني الملك الذي ناداه، فرعبت ورجعت إلى خديجة فقلت: دثروني، دثروني، فنزل جبريل وقال: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ ﴾ "والتدثر لبس الدثار، وهو الثوب الذي فوق الشعار، ما يلي الجسد. قوله: (أدغمت التاء) أي بعد قلبها دالا وتسكينها. قوله: (أي المتلفف بثيابه) أي من الرعب الذي حصل له من رؤية الملك، وقيل: المتدثر بالنبوة والمعارف الإلهية. قوله: ﴿ قُمْ فَأَنذِرْ ﴾ إنما اقتصر على الإنذار، وإن كان معبوثاً بالتبشير أيضاً، لأنه في ذلك الوقت، لم يكن أحد يصلح للتبشير إلا ما قل جداً، فلما اتسع الإسلام نزل عليه﴿ إِنَّآ أَرْسَلْنَٰكَ شَٰهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ﴾[الأحزاب: ٤٥].
قوله: ﴿ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ﴾ أي خص ربك بالتكبير والتعظيم ظاهراً وباطناً، والفاء في هذا وما بعده، لإفادة معنى الشرط، كأنه قال: مهما يكن من شيء فكبر، والمعنى اعتقد أن ربك منزه عن كل نقص، متصف بكل كمال. قوله: ﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ (عن النجاسة) أي لأن طهارة الثياب، شرط في صحة الصلاة، لا تصح إلا بها، وهي الأولى والأحب في غير الصلاة، لأن المؤمن طاهر طيب، لا يليق منه أن يحمل خبيثاً، ففي هذا رد على المشركين، فإنهم كانوا لا يصونون ثيابهم عن النجاسات، فأمره الله تعالى أن يخالفهم في ذلك. قوله: (قصرها) أي لأن تطويل الثياب شأنه أصابة النجاسة، فعبر بالملزوم عن اللاز، وتقصير الثياب مطلوب لما في الحديث:" إزار المؤمن إلى انصاف ساقيه، ولا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين، وما كان على اسفل من ذلك ففي النار، فمن السفه أن يطيل الرجل ثيابه، ثم يتكلف رفعها بيديه "وود:" من جر إزاره خيلاء، لم ينظر الله إليه يوم القيامة " قال أبو بكر: يا رسول الله، إن أحد شقي إزاري يسترخي، إلا أني أتعهد ذلك منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لست ممن يصنعه خيلاء "فيؤخذ من ذلك، أن تطويل الثياب بقصد الخيلاء حرام، أما من غير قصد بل لمجرد عادة أهل بلده مثلاً، فهو مكروه إن كان يتحفظ من النجاسة، وما ذكره المفسر أحد أقوال في تفسير الآية، وقيل: المراد طهر نفسك من الصفات المذمومة، كالعجب والكبر والرياء ونحو ذلك، مأخوذ من قولهم: فلان طاهر الثياب والذيل، إذا أراد وصفه بالنقاء من ادناس الأخلاق، ومن ذلك قول عكرمة: لا تلبسها على معصية ولا على غدر، وقال الحسن: خلقك فحسن، وقال سعيد بن جبير: قلبك وبيتك فطهر، وقال مجاهد: عملك فأصلح، وقيل: المراد بالثياب الأهل، أي طهرهم عن الخطايا بالموعظة والتأديب، والعرب تسمي الأهل ثوباً ولباساً وازاراً، قال تعالى:﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ﴾[البقرة: ١٨٧] والآية صالحة لجميع تلك المعاني. قوله: ﴿ وَٱلرُّجْزَ ﴾ بضم الراء وكسرها سبعيتان، والزاي منقلبة عن السين ومعناهما واحد. قوله: (أي دم على هجره) دفع بذلك ما يقال: ظاهر الآية يقتضي أنه كان متلبساً بعبادة الأوثان وليس كذلك. قوله: ﴿ وَلاَ تَمْنُن ﴾ المن هنا الأنعام، والمعنى لا تعط شيئاً مستكثراً له، وقوله (حال) أي من فاعل ﴿ تَمْنُن ﴾.
قوله: (لا تعط شيئاً لتطلب أكثر منه) أي فالاستكثار هنا، عبارة عن طلب العوض، بأن يهب شيئاً، ويطمع أن يعوض من الموهوب له أكثر من الشيء الموهوب، وقيل: المعنى لا تعط شيئاً مستكثراً له، أي رائياً ما تعطيه كثيراً، بل عدة قليلاً لقوله تعالى:﴿ مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ ﴾[النساء: ٧٧]وقال البوصيري: مستقل دنياك أن ينسب   الامساك منها إليه والإعطاءقوله: (أكثر منه) أي ولا مساوياً ولا أقل، فالمراد النهي عن طلب العوض مطلقاً، ليكون عطاؤه صلى الله عليه وسلم خالياً عن انتظار العوض، والتفات النفس إليه، وحكمة تخصيصه بذلك، أنه عليه السلام خليفة الله الأعظم في خلقه دنيا وأخرى، يقسم عليه من خزائن الله تعالى، فجميع ما بذله لعباده بالنسبة لما عند الله قليل، فلا يليق أن يراه كثيراً، ولا أني طلب عوضاً من الفقراء، وهو خليفة عن الغني المطلق فتدبر. قوله: (وهذا) أي النهي، وقوله: (خاص به) أي وأما أمته فليس حرام في حقهم.
قوله: ﴿ فَإِذَا نُقِرَ فِي ٱلنَّاقُورِ ﴾ من النقر، وهو القرع الذي هو سبب الصوت، فاطلق السبب وأريد المسبب وهو التصويت، والمعنى: إذا صوت اسرافيل في الصور. قوله: (وهو القرن) أي وهو مستطيل، سعة فمه كما بين السماء والأرض، وفيه ثقب بعدد الأرواح كلها، وتجمع في تلك الثقبة، فيخرج بالنفخة الثانية من كل ثقب، روح إلى الجسد الذي نزعت منه، فيعود الجسد حياً بإذن الله تعالى. قوله: (أي وقت النقر) أي الذي هو معنى إذا. قوله: (بدل مما قبله) أي وهو اسم الإشارة، وقوله: (المبتدأ) بيان لما، وقوله: (وبني) أي لفظ يوم، قوله: (إلى غير متمكن) أي وهو إذ، وتنوينها عوض عن الجملة، أي يوم إذ نقر في الناقور، وقوله: (وخبر المبتدأ) ﴿ يَوْمٌ عَسِيرٌ ﴾ أي لفظ ﴿ يَوْمٌ ﴾ وقوله: ﴿ عَسِيرٌ ﴾ صفة أولى له، و ﴿ غَيْرُ يَسِيرٍ ﴾ صفة ثانية. قوله: (ما دلت عليه الجملة) أي جملة الجزاء وهي قوله: ﴿ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ﴾ فقد دلت على جملة فعلية، فعلها عامل في إذا، فالناصب لها مدلول جوابها، لا جوابها نفسه. قوله: ﴿ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ ﴾ متعلق بعسير، وقوله: (فيه دلالة) أي في التقييد بهذا الجار والمجرور، دلالة على أنه يسير على المؤمنين، وأشار به إلى جواب ما فائدة قوله غير يسير وعسير مغن عنه، ففيه زيادة وعيد وغيظ للكافرين، وبشرى وتسلية للمؤمنين.
قوله: ﴿ ذَرْنِي ﴾ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه مزيد إجلال وتعظيم له، وإشعار بأن رحمته صلى الله عليه وسلم غالبة على غضبه. قوله: (على المفعول) أي وهو الياء في ﴿ ذَرْنِي ﴾.
قوله: (أو مفعول معه) أي فالواو للمعية. قوله: (أو من ضميره المحذوف) أي عائده المحذوف من ﴿ خَلَقْتُ ﴾ أي خلقته ويحتمل أنه حال من التاء في ﴿ خَلَقْتُ ﴾ أي خلقته وحدي، لم يشاركني في خلقه أحد، والأول أقرب. قوله: (وهو الوليد بن المغيرة المخزومي) أي الذي تقدمت بعض أوصافه في سورة ن. قوله: ﴿ وَجَعَلْتُ لَهُ ﴾ عطف على ﴿ خَلَقْتُ ﴾ قوله: ﴿ مَالاً مَّمْدُوداً ﴾ اختلف في مبلغه، فقيل ألف دينار، وقيل ستة آلاف، وقيل تسعة آلاف مثقال فضة. قوله: (من الزروع) أي فكان له بستان بالطائف، لا تنقطع ثماره شتاء ولا صيفاً. قوله: (والضروع) أي المواشي. قوله: (عشرة) أي من الذكور، وقد وعد الخازن منهم سبعة وهم: الوليد وخالد وعمارة وهشام والعاص وقيس وعبد شمس، وقوله: (أو أكثر) قيل اثنا عشر، وقيل ثلاثة عشرة، وقيل سبعة عشر، وعلى كل، فقد أسلم منهم ثلاثة: خالد وهشام والوليد. قوله: ﴿ شُهُوداً ﴾ جمع شاهد بمعنى حاضر. قوله: (يشهدون المحافل) أي مجامع الناس لوجاهتهم بين الناس، أو المراد الحضور مع أبيهم، لعدم احتياجهم للسفر، فهو كناية عن كثرة النعم والخدم. قوله: (وتسمع شهادتهم) أي كلامهم. قوله: ﴿ وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً ﴾ التمهيد في الأصل التسوية والتهيئة، اطلق وأريد به بسط المال والجاه. قوله: (بسطت) ﴿ لَهُ ﴾ (في العيش والعمر والولد) أي حتى لقب ريحانة قريش والوحيد. قوله: ﴿ ثُمَّ يَطْمَعُ ﴾ عطف على ﴿ جَعَلْتُ ﴾ و ﴿ مَهَّدتُّ ﴾.
قوله: (لا أزيده) أي بل انقصه، فقد ورد: أنه بعد نزول هذه الآية، ما زال في نقصان ماله وولده، حتى هلك فقيراً بخدشه سهم أصابته في رجله، كما قال البوصيري: وأصاب الوليد خدشه سهم   قصرت عنها الحية الرقطاء
قوله: ﴿ إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً ﴾ تعليل للردع المستفاد من قوله: (علاَّ). قوله: (معناداً) العناد ينشأ من كبر النفس، أو يبس في الطبع، أو شراسة في الأخلاق، أو خبل في العقل. قوله: (يصعد فيه) أي سبعين عاماً، كلما وضع يده عليه ذابت، فإذا رفعها عادت، وإذا وضع رجله ذابت، وإذا رفعها. عادت قوله: (ثم يهوي) أي سبعين عاماً. قوله: (أبداً) راجح لكل من الصعود والهويّ. قوله: ﴿ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ﴾ أي ردد فكرة فيما يطعن به في القرآن، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه﴿ حـمۤ * تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ ﴾إلى قوله:﴿ إِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ ﴾[غافر: ١-٣] قام في المسجد، والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته، فلما فطن النبي صلى الله عليه وسلم لاستماعه لقراءته، اعاد قراءة الآية، فانطلق الوليد بن المغيرة، حتى أتى مجلس قومه من بني مخزوم فقال: والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً، ما هو من كلام البشر، ولا من كلام الجن، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن اعلاه لمثمر، وإن اسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه، ثم انصرف إلى منزله، فقالت قريش: صبأ والله الوليد، والله لتصبأن قريش كلهم، فقام أبو جهل وقال: أنا أكفيكموه، فانطلق فقعد إلى جانب الوليد حزيناً، فقال له الوليد: ما لي أراك حزيناً يا ابن أخي؟ قا ل: وما يمنعني أن لا احزن، وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك بها على كبر سنك، ويزعمون أنك زينت كلام محمد، وأنا داخل على ابن أبي كبشة وابن أبي قحافة، تسأل من فضل طعامهم، فغضب الوليد وقال: ألم تعلم أني من أكثرهم مالاً وولداً، وهل شبع محمد وأصحابه من الطعام، فيكون لهم فضل؟ ثم قال مع أبي جهل، حتى أتى مجلس قومه فقال لهم: تزعمون أن محمداً مجنون، فهل رأيتموه يختنق قط؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه كاهن، فهل رأيتموه قط تكهن؟ فقالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه شاعر، فهل رأيتموه يتعاطى شعراً قط؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه كذاب، فهر جربتم عليه شيئاً من الكذب؟ فقالوا: اللهم لا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى الأمين قبل النبوة من صدقه، فقالت قريش للوليد: فما هو؟ فتفكر في نفسه وقدر ثم قال: ما هذا إلا سحر يؤثر. قوله: ﴿ فَقُتِلَ ﴾ أي في الدنيا. قوله: ﴿ ثُمَّ قُتِلَ ﴾ أي فيما بعد الموت في البرزخ والقيامة، و ﴿ ثُمَّ ﴾ للدلالة على أن الثانية أبلغ من الأول، فهي في هذه المواضع للتراخي، و ﴿ كَيْفَ ﴾ منصوبة على الحال من الضمير في قدر، وهي للاستفهام، والمقصود منه توبيخه والتعجب من تقديره. قوله: (في وجوه قومه) أي نظر بعين الغضب من أجل الأمر الذي قالوه فيه، قوله: (أو فيما يقدح به) أي في القرآن، فالنظر على هذا بمعنى التأمل، فيكون تأكيداً لقوله: ﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ﴾.
قوله: ﴿ ثُمَّ عَبَسَ ﴾ يقال: عبس عبساً وعبوساً أي قطب وجهه، والعبس يطلب على ما يبس في أذناب الإبل من البعر والبول، وقوله: ﴿ وَبَسَرَ ﴾ يقال: بسر يبسر بسراً، وبسوراً إذا قبض بين عينيه كراهية للشيء واسود وجهه منه، يقال: وجهه وجه باسر، أي منقبض مسود، فالبسور غاية في العبوس. قوله: (والكلوع) مرادف للقبض. قوله: ﴿ وَٱسْتَكْبَرَ ﴾ عطب سبب. قوله: ﴿ إِلاَّ سِحْرٌ ﴾ أي أمور تخييلية لا حقائق لها، وهي لدقتها تخفي أسبابها، وقوله: ينقل على السحرة، أي كمسيلمة وأهل بابل. قوله: ﴿ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ قَوْلُ ٱلْبَشَرِ ﴾ نتيجة حصره في السحر.
قوله: ﴿ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ﴾ بدل من قوله:﴿ سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ﴾[المدثر: ١٧] ثم إن كان المراد بالصعود المشقة، فالبدل واضح، وإن كان صعود الجبل الهبوط، فهو بدل اشتمال فتدبر. قوله: ﴿ مَا سَقَرُ ﴾ ﴿ مَا ﴾ مبتدأ، و ﴿ سَقَرُ ﴾ خبره، والجملة سدت مسد المفعول الثاني لأدرى. قوله: (تعظيم لشأنها) أي نظير ما تقدم في سورة الحاقة. قوله: ﴿ لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ ﴾ حال وفيها معنى التعظيم، والجملتان بمعنى واحد، والعطف للتوكيد، هذا ما يقتضيه صنيع المفسر. قوله: ﴿ لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ ﴾ خبر مبتدأ محذوف، وقوله: (محرقة لظاهر الجلد) أي فالمراد بالبشر الجلد، ويطلق البشر على الناس جميعاً، أو معنى لواحة تظهر لهم وتلوح قبل أن يسقطوا فيها، ولكن المعنى الأول أقرب. قوله: ﴿ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ﴾ ملكاً أي وهم مالك ومعه ثمانية عشر، وقيل تسعة عشر نقيباً، وقل تسعة ألف ملك، والقول الثاني موافق لقوله تعالى: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ ﴾ وفي القرطبي قلت: والصحيح إن شاء الله، أن هؤلاء التسعة عشر هم الرؤساء والنقباء، وأما جملتهم فالعبارة تعجز عنها كما قال تعالى: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ ﴾ وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سعبون ألف ملك يجرونها "اهـ. وقد ورد في صفة الخزنة، أن أعينهم كالبرق الخاطف، وأنيابهم كالصياصي أي قرون البقر، وأشعارهم تمس أقدامهم، يخرج لهب النار من أفواههم، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة، نزعت منهم الرحمة، يدفع أحدهم سبعين ألفاً مرة واحدة، فيرميهم حيث شاء من جهنم، وفي رواية: إن لأحدهم مثل قوة الثقلين، يسوق أحدهم الأمة على رقبته جبل، فيرمى بهم في النار، ويرمى الجبل عليهم. قوله: (خزنتها) أي يتولون أمرها ويتسلطون على أهلها ولا يتأملون منها، بل هم فيها كخزنة الجنة في الجنة. قوله: (قال بعض الكفار) هو أبو الأشد بن كلدة بن خلف الجمحي، قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية ﴿ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ﴾ قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم، محمد يخبر أن خزنة النار تسعة عشر، وأنتم شجعان، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم، فقال أبو الأشد: أنا أكفيكم منهم سبعة عشر، عشرة على ظهري، وسبعة على بطني، واكفوني اثنين، وفي رواية أنه قال: أنا أمشي بين أيديكم على الصراط، فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن، وتسعة بمنكبي الأيسر في النار، ونمضي فندخل الجنة، فأنزل الله تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلاَّ مَلَٰئِكَةً ﴾.
قوله: ﴿ إِلاَّ فِتْنَةً ﴾ مفعول ثاني لجعل على حذف مضاف، أي إلا سبب فتنة، وقوله: ﴿ لِّلَّذِينَ ﴾ صفة لفتنة، وإنما صار هذا العدد فتنة لهم من وجهين: الأول أن الكفار يستهزئون ويقولون: لم لا يكونون أزيد من ذلك؟ والثاني أن هذا العدد قليل، كيف يتولى تعذيب أكثر العالم من الجن والإنس، من أول ما خلق الله إلى قيام الساعة؟ قوله: ﴿ لِيَسْتَيْقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ ﴾ متعلق بجعلنا الثاني، والمعنى: ليكتسبوا اليقين بنبوة محمد وصدق القرآن، لما رأوا ذلك موافقاً لما في كتابهم. قوله: (من غيرهم) أي غير اليهود فحصل التغاير، فالمراد بالذين أوتوا الكتاب والمؤمنون أولاً اليهود، والمراد بالذين أوتوا الكتاب ثانياً هم النصارى والمؤمنون المذكورون بعدهم من غير اليهود بل من هذه الأمة، فاندفع ما يقال إن في الآية تكراراً. قوله: (بالمدينة) حال من ﴿ ٱلَّذِينَ ﴾ أي حال كونهم بالمدينة، وهذا من الله إخبار بما سيقع، لأن السورة نزلت قبل الهجرة بمكة. قوله: ﴿ مَاذَآ ﴾ الخ، ما اسم استفهام مبتدأ، وذا موصول خبره، و ﴿ أَرَادَ ٱللَّهُ ﴾ صلة الموصول، و ﴿ مَثَلاً ﴾ حال، والمعنى: ما الذي اراد الله بهذا حال كونه مثلاً لا حقيقة لغربته، لأن هذا العدد أمر غريب لم تسعه عقولنا. قوله: (أي مثل إضلال) اشار به إلى أن الكاف في محل نصب نعت لمصدر محذوف، أي يضل اضلالاً مثل ذلك. قوله: (وهدى مصدقه) بوزن رمى بفتح أوله وسكون ثانيه، أو بضم أوله وفتح ثانيه. قوله: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ ﴾ هذا جواب لأبي جهل حين قال: ما لمحمد أعوان إلا تسعة عشر. قوله: (أي سقر) اعاد الضمير على سقر، ويجوز أن يعود على الآيات المذكورة فيها. قوله: ﴿ إِلاَّ ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ ﴾ أي يتذكرون ويعلمون كمال قدرته تعالى. قوله: (استفتاح بمعنى ألا) أي فأتى بها تعظيماً للمقسم عليه، وحينئذ فالوقف على ما قبلها، وقيل: إنها حرف ردع وزجر، وعليه فيوقف عليها، قوله: (بفتح الدال) أي فإذا ظرف لما يستقبل، ودبر فعل ماض بوزن ضرب، وقوله: (في قراءة) الخ، أي فإذا ظرف لما مضى من الزمان و ﴿ أَدْبَرَ ﴾ بوزن أكرم، والقراءتان سبعيتان، والرسم محتمل لكل منهما، إذ الصورة الخطية لا تختلف، وقرئ شذوذاً ﴿ إِذْ أَدْبَرَ ﴾ بألفين، واختلفوا أهل دبر وأدبر بمعنى واحد، أو أدبر معناه جاء، وأدبر بمعنى مضى، وهو الذي مشى عليه المفسر. قوله: ﴿ إِنَّهَا لإِحْدَى ٱلْكُبَرِ ﴾ جواب القسم. قوله: (حال من إحدى) هذا أحد احتمالات كثيرة نحو احد عشر وهو اظهرها. قوله: ﴿ لِمَن شَآءَ مِنكُمْ ﴾ الخ، هذا وعيد وتهديد نظير قوله:﴿ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾[الكهف: ٢٩].
قوله: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ﴾ أي مؤمنة أو كافرة عاصية أو غير عاصية، فالاستثناء متصل. قوله: ﴿ رَهِينَةٌ ﴾ أي على الدوام بالنسبة للكفار، وعلى وجه الانقطاع بالنسبة لعصاة المؤمنين. قوله: (مأخوذة بعملها) أشار بذلك إلى أن ما مصدرية، والكسب بمعنى العمل. قوله: ﴿ إِلاَّ أَصْحَابَ ٱلْيَمِينِ ﴾ قد علمت أن الاستثناء متصل، وأهل اليمين يعم العصاة وغيرهم، لأن الكل ناجون من الرهينة، إما ابتداء ودواماً، وإما دوماً قوله: (كائنون) ﴿ فِي جَنَّاتٍ ﴾ اشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ فِي جَنَّاتٍ ﴾ متعلق بمحذوف خبر مبتدأ مقدر أي هم، وهذه الجملة مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر، والتقدير ما شأنهم وحالهم. قوله: ﴿ يَتَسَآءَلُونَ ﴾ أي يسأل بعضهم بعضاً، قوله: ﴿ عَنِ ٱلْمُجْرِمِينَ ﴾ أي الكفارين، والكلام على حذف مضاف، أي عن حالهم. قولهم: (ويقولون لهم) اي للمجرمين. وهذا القول خطاب أهل الجنة لأهل النار، وهو غير السؤال المتقدم فيما بينهم. والحاصل أن أهل الجنة حين يستقرون فيها، وينادي المنادي: يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت، يسأل بعضهم بعضاً عن معارفهم المجرمين الذين خلدوا في النار، ثم يكشف لهم عنهم فيخاطبونهم بقولهم ﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ﴾.
قوله: ﴿ مَا سَلَكَكُمْ ﴾ الخ، الاستفهام للتوبيخ والتعجب من حالهم. قوله: ﴿ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ ٱلْمِسْكِينَ ﴾ أي نعطيه ما يجب علينا عطاؤه، كزكاة ونحوها. قوله: ﴿ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ ٱلُخَآئِضِينَ ﴾ أي في القرآن فنقول فيه: إنه لسحر وشعر وكهانة وغير ذلك من الأباطيل التي كانوا يخوضون فيها. قوله: ﴿ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ ﴾ تخصيص بعد تعميم، لأن الخوض في الأباطيل عامل شامل، لتكذيب يوم الدين وغيره، وفي هذه الآية دليل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، فيعذبون عليها زيادة على عذاب الكفر. قوله: ﴿ حَتَّىٰ أَتَانَا ٱلْيَقِينُ ﴾ غاية في الأمور الأربعة. قوله: (والمعنى لا شفاعة لهم) أي فالنفي مسلط على القيد والمقيد معاً، وهذا خلاف القاعدة، من أن النفي إذا دخل على مقيد، تسلط على القيد فقط، فهنا ليس المراد أنه توجد شفاعة لكنها غير نافعة، بل المراد لا توجد شفاعة أصلاً. قوله: (انتقل ضميره) أي الضمير الذي كان مستكيناً في المحذوف، وقوله: (إليه) أي إلى هذا الخبر الذي هو الجار والمجرور، لأن القاعدة أن الجار والمجرور إذا وقع خبراً، حذف متعقله وجوباً، وانتقل ضميره إليه، وسمي حينئذ ظرفاً أو جاراً ومجروراً، مستقراً لاستقرار الضمير فيه. قوله: (حال من الضمير) أي المجرور باللام. قوله: ﴿ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ ﴾ حال من الضمير في ﴿ مُعْرِضِينَ ﴾ فهي حال متداخلة. قوله: ﴿ مُّسْتَنفِرَةٌ ﴾ بكسر الفاء وفتحها سبعيتان، أي نافرة بنفسها من أجل الأسد، أو نفرها الأسد، فقوله: (وحشية) ليس تفسيراً لمستنفرة، فكان المناسب تقديمه عليه. قوله: (أسد) وقيل القسورة الجماعة الذين يصطادونها. قوله: ﴿ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ ﴾ الخ، إضراب انتقالي عن محذوف، كأنه قيل: لا سبب لهم في الأعراض بل يريد الخ، وسبب نزول الآية أن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا: يا محمد، لن نؤمن بك، حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه من رب العالمين إلى فلان ابن فلان، ونؤمن فيه باتباعك، وكانوا يقولون: إن كان محمد صادقاً، ليصبحن عند رأس كل واحد منا صحيفة فيها براءته من النار. قوله: ﴿ مِّنْهُمْ ﴾ أي من كفار قريش. قوله: ﴿ مُّنَشَّرَةً ﴾ أي طرية لم يطو، بل تأتينا وقت كتابتها يقرؤها كل من رآها.
قوله: ﴿ لاَّ يَخَافُونَ ٱلآخِرَةَ ﴾ إضراب انتقالي لبيان سبب تعنتهم واقتراحهم، إذ لو خافوا الآخرة لما تعنتوا، بل كانوا يكتفون بأي دليل ويؤمنون. قوله: (استفتاح) أي أو ردع وزجر. قوله: ﴿ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ ﴾ من شرطية، و ﴿ شَآءَ ﴾ شرطها، و ﴿ ذَكَرَهُ ﴾ جوابها. قوله: (بالياء والتاء) أي فيهما سبعيتان. قوله: ﴿ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ ﴾ أي لا يحصل منكم ذكر، إلا في حال مشيئة الله له أي إرادته، لأن ما أراده وقع ولا بد فيه، تسلية للنبي حيث ينظر للحقيقة، وأن توحيدهم ليس بحولهم وقوتهم، قال بعض العارفين عن لسان الحضرة. أيها المعرض عنا   إن إعراضك منالو أردناك جعلنا   كل ما فيك يردناقوله: ﴿ هُوَ أَهْلُ ٱلتَّقْوَىٰ ﴾ أي حقيق بأن تمتمثل عباده أوامره وتجتنب نواهيه. قوله: ﴿ وَأَهْلُ ٱلْمَغْفِرَةِ ﴾ أي هو جدير بأن يغفر لمن تقاه، ورد في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية:" يقول الله تعالى: أنا أهل أن أتقى، فمن اتقى أن يشرك بي غيري، فأنا أهل أن أغفر له ".
Icon