تفسير سورة الشعراء

التفسير الوسيط للزحيلي
تفسير سورة سورة الشعراء من كتاب التفسير الوسيط المعروف بـالتفسير الوسيط للزحيلي .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

تفسير سورة الشعراء
تهديد المشركين لإعراضهم عن القرآن الكريم
كان موقف المشركين المعارض لدعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم سببا في أمرين: تأكيد العناية والحرص على سلامة النّبي من الأذى، وتطمين نفسه، وإزالة ما به من القلق، وتهديد أهل الشّرك صراحة بإنزال آية من آيات العذاب الكبرى، فتبيد آثارهم، وتجعلهم عبرة للمعتبر، لأنهم كذبوا الرسول وآيات القرآن، ولم يشكروا نعمة الله عليهم، مما أوجده في الأرض من أصناف كريمة للخير والرزق الحسن، وهم مع ذلك يظل أكثرهم غير مؤمنين، والله هو الغالب القاهر الرحيم بالتائبين منهم. قال الله تعالى واصفا هذه الأحوال في مطلع سورة الشعراء المكّية:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١ الى ٩]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤)
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩)
«١» «٢» [الشّعراء: ٢٦/ ١- ٩].
افتتحت هذه السورة بأحرف طسم (١) للتنبيه، وتحدّي العرب بالإتيان بمثل القرآن الكريم، باعتباره متكوّنا من مادة لغتهم وحروفها الأبجدية، وهم أهل الفصاحة وفرسان البلاغة والبيان. فإذا عجزوا عن ذلك دلّ على أنه كلام الله الموحى
(١) أي قاتلها ومهلكها بالهمّ والغمّ.
(٢) صنف حسن نافع.
1816
به إلى نبيّه. وهذه هي آيات القرآن الواضحة الدالّة على تمييز الحق من الباطل، والهدى من الضّلال.
ولعلك أيها النّبي بسبب تكذيب المشركين لدعوتك قاتل نفسك ومهلكها بالهمّ حزنا على عدم إيمانهم. وهذا إيناس له عما كان فيه من القلق والحرص على إيمانهم.
إننا إن شئنا ننزل عليهم آية سماوية تلجئهم إلى الإيمان وتقسرهم عليه، فتصبح رقابهم خاضعة ذليلة لما نريد، ولكنا لا نفعل ذلك، لأننا نريد أن يكون الإيمان عن طواعية واختيار ورضا تام، لا بالإكراه.
لكن هؤلاء الكفار، كلما جاءهم كتاب من السماء يذكّرهم به الرّحمن بضرورة الإيمان وترك الشّرك، أعرضوا عنه، وكلما أنزل الله موعظة تذكّرهم، جدّدوا الإعراض والتكذيب. والقصد من قوله تعالى: مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ أي محدث الإتيان، والمراد أن مجيء القرآن للبشر كان مجيء شيء بعد شيء.
فإنهم كذبوا القرآن والحق، ثم بادروا إلى الاستهزاء، فسيعلمون نبأ هذا التكذيب والاستهزاء، في مستقبل الزمان.
ولما كان إعراضهم عن النظر في الإله الصانع أعظم كفرهم، وكانوا يجعلون الأصنام آلهة، ويرفضون كل تذكرة، نبّه الله تعالى على قدرته وأنه الخالق المستحق العبادة بقوله: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ أي أو لم ينظروا إلى الأرض التي أوجدها الله، وأنبت فيها من كل صنف ونوع حسن متقن، كثير النفع، من الزروع والثمار، فيستدلّوا بذلك على عظمة سلطان الله، وعظيم قدرته. ويشمل ذلك كل ما به قوام الحياة والأمور، والأغذية والنباتات، ويدخل في ذلك الحيوان، لأنه عن إنبات، كما قال الله تعالى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) [سورة نوح: ٧١/ ١٧]. قال الشعبي: الناس: من نبات الأرض.
1817
إن في ذلك الإنبات للأشياء لدلالة على قدرة الخالق للأشياء، وقدرته على البعث والإحياء، ومع هذا ما آمن أكثر الناس، بل كذبوا به وبرسله وكتبه، وخالفوا أمره، واقترفوا نهيه ومعصيته.
وإن ربّك أيها الرسول النّبي لهو القادر على كل ما يريد، القاهر الغالب، الذي قهر كل شيء وغلبه، الرّحيم بخلقه ولا سيما التائبين منهم، فلا يعجل انتقامه من العصاة، بل يمهلهم ويؤجلهم، لعلهم يرجعون عن غيّهم وضلالهم، ثم إن لم يرجعوا يأخذهم بالعقاب أخذة فجأة وألم وحسرة. والمراد من آية: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩) أنه عزّ في نقمته من الكافرين، ورحم مؤمني كل أمة، وفي لفظة الرَّحِيمُ وعد كريم من الله بإضفاء رحمته على أهل التوبة والإيمان، ووعد الله منجز، وفضله سابغ شامل.
قصة موسى عليه السّلام مع فرعون
- ١- تذكير فرعون بتربية موسى
إن محنة الأنبياء عليهم السلام شاقة وصعبة، لا سيما إذا كان تبليغ دعوتهم لمثل فرعون المتألّه الطاغية الجبّار، ولكنهم ملزمون بتنفيذ الأمر الإلهي، فقد أمر الله موسى بدعوة فرعون إلى عبادة الله وحده، وإرسال بني إسرائيل معه ومع أخيه، فعاتبه فرعون على فعلته الخطأ بقتل مصري، وامتن عليه بتربيته عنده صغيرا، ولكن موسى عليه السّلام اعتذر عن فعلته بأنها خطأ محض، وكانت قبل النّبوة، وقابل الامتنان بالتربية بأن فرعون فعل ما هو أخطر وأسوأ وهو استعباد قومه بني إسرائيل. وهذا ما قصّه علينا القرآن الكريم، ليظلّ عبرة لمن يتذكر أو يخشى، فقال الله سبحانه:
1818

[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٠ الى ٢٢]

وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤)
قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩)
قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢)
«١» »
«٣» «٤» [الشّعراء: ٢٦/ ١٠- ٢٢].
التقدير في بدء الكلام: واذكر إذ نادى ربّك موسى، وسوق هذه القصة تمثيل لكفار قريش لتكذيبهم محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وإيناس للنّبي صلّى الله عليه وسلّم عما يلقاه من صدود قومه وتكذيبهم له. والمعنى:
اذكر أيها الرسول لقومك حين نادى الله موسى من جانب الطور الأيمن بالوادي المقدس طوى، وناجاه، وجعله رسولا، وأمره بالذهاب إلى فرعون وملئه الظّالمين أنفسهم بتأليه فرعون، واستعباد بني إسرائيل، وقال له: قل لهم: ألا يتقونني ويخافون انتقامي في الآخرة؟! والعبارة: أَلا يَتَّقُونَ جمعت بين معنى نفي التقوى عنهم، وأمرهم بالتقوى.
فقال موسى مجيبا ربّه: يا ربّ، إني أخشى تكذيبهم لي، فأقع في ضيق الصدر، وعدم انطلاق اللسان، تألّما بما يعملون، فاجعل معي أخي هارون رسولا نبيّا مثلي، يعينني ويؤازرني، وكان هارون عليه السّلام وزيرا فصيحا، واسع الصدر.
ثم أبدى موسى مخاوفه من فرعون وقومه، ومنها خوف القبط من أجل ذنبه، وهو
(١) أن: إما مفسّرة لا موضع لها من الإعراب، بمنزلة (أي) أو مصدرية في موضع نصب.
(٢) الجاحدين لنعمتي.
(٣) أي من المخطئين، أو من الجاهلين، وليس من الكافرين.
(٤) اتّخذتهم عبيدا لك.
1819
قتله الرجل الذي وكزه، فخشي أن يقتصّ منه، فقال الله له ردّا لقوله: كَلَّا لا تخف من شيء، فإني متكفّل بتغلّبك ونصرك. وأمره ربّه أن يذهب مع أخيه هارون بآيات الله: وهي جميع ما بعثهما الله تعالى به، وأعظم ذلك: العصا، ثم اليد، إننا سامعون ما يقولون وما يجيبون. وقال لهما: اذهبا إلى فرعون، فقولا له برفق ولين:
إننا رسولان من ربّ العالمين، فأطلق حرية الإسرائيليين وأرسلهم معنا إلى الأرض المقدسة، ليعبدوا الله بحرية، وكانت بعثة موسى إلى فرعون بأمرين: أحدهما: إرسال بني إسرائيل وإزالة ذلّ العبودية والغلبة عنهم، والثاني: أن يؤمن فرعون ويهتدي مع قومه.
وقوله تعالى: إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ وارد على جهة التعظيم والجبروت الذي لله تبارك وتعالى، وليس المراد من مُسْتَمِعُونَ طلب الاستماع، وإنما إظهار الاهتمام لإيناس موسى عليه السّلام.
فكان موقف فرعون متميّزا بالإعراض والازدراء، والتقريع والعتاب بأمرين:
الأول: قوله- أي فرعون- لموسى: ألم نربّك في قصورنا صغيرا، ولم نقتلك كبقية الصّبية، ومكثت معنا مدة من السنين، قيل: إنها ثلاثون سنة. ثم تقابل الإحسان بجحود النعمة، وتبادرنا بالقول الغريب؟! الثاني: فعلت فعلتك الشنيعة وهي قتل الرجل المصري القبطي الذي وكزته، فقضيت عليه، وهو من رعيّتي وأتباعي. والفعلة: المرة من الفعل.
وكانت الفترة بين قتل القبطي وبين رجوع موسى إلى فرعون نبيا: أحد عشر عاما غير أشهر، كما ذكر ابن عطية.
فأجابه موسى: فعلت تلك الفعلة السّيئة وهي قتل القبطي، وأنا من المخطئين غير المتعمّدين، قبل أن يوحى إلي بالرسالة والنّبوة. فولّيت هاربا منكم إلى أرض مدين،
1820
خوفا من بأسكم، فوهب لي ربي الحكم، أي الفهم والعلم والنّبوة. وأما الامتنان بالتربية فلم تكن تربية حسنة، وإنما أسأت إلى قومي بني إسرائيل، حين استعبدتهم، فجعلتهم عبيدا وخدما أذلاء، فهل الإحسان إلى رجل واحد منهم له اعتبار إذا قورن بالإساءة إلى مجموع قوم، قتّلت أبناءهم، واستبقيت نساءهم أحياء للخدمة؟! إنها ليست بنعمة لأن الواجب كان ألا تقتلني وألا تقتلهم، وألا تستعبدني ولا تستعبدهم بالقتل ولا بالخدمة وغير ذلك. فحاجّه موسى في الأمرين.
- ٢- النّقاش الدائر حول إثبات وجود الله بين موسى وفرعون
استمرّ الجدل والحوار مدة من الزمان بين موسى عليه السّلام وفرعون حاكم مصر، وقد ابتدأ الحوار حول التاريخ الماضي لموسى في مصر، في عهد الطفولة والشباب، ثم دخل الحوار في أمر جوهري حول إثبات وجود الله تعالى، والتعرف على حقيقته وذاته، فكان جواب موسى صارفا البحث عن حقيقة الذات الإلهية، إلى بيان المهم والمفيد: وهو بيان الأفعال والآثار الدّالة على الله تعالى. وهذا ما أوضحته الآيات الآتية:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢٣ الى ٣١]
قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧)
قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١)
[الشّعراء: ٢٦/ ٢٣- ٣١].
حينما لم يجد فرعون فائدة في الجولة الأولى من المبارزة أو الجدل مع موسى عليه
1821
السّلام حول التربية وترك القتل، اتّجه إلى معارضة موسى في قوله: نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
فاستفهمه استفهاما عن مجهول من الأشياء، كما يستفهم عن الأجناس الغريبة، فقال فرعون: وما حقيقة ربّ العالمين الذي أرسلك؟ وهل هناك إله غيري؟
فأجابه موسى عليه السّلام: الله: هو خالق السماوات والأرض ومالكهما ومدبّرهما، والمتصرّف فيهما، والمهيمن على ما بينهما من مخلوقات، كلهم خاضعون لله طوعا أو كرها، وذلك إن كنتم موقنين بضرورة إسناد هذه المحسوسات إلى موجود واجب الوجود لذاته، فاعلموا أنه هو الله، ولا يمكن تعريفه إلا بأفعاله وآثاره.
فقال فرعون الذي لم يعجبه الجواب، لمن حوله من حاشيته، على سبيل التّهكّم والاستهزاء وتكذيب موسى: ألا تعجبون من جوابه، وألا تستمعون لمواربته وبعده عن الجواب الحقيقي؟ أسأله عن حقيقة ربّ العالمين، فيذكر أفعاله وآثاره.
فأجاب موسى بجواب آخر أخصّ مما سبق وأدلّ على المقصود، لأنه واقع محسوس مشاهد لهم: إن الله تعالى هو خالقكم وخالق آبائكم المتقدمين، فهو الذي أحدثهم وأوجدهم، وهو الواجب لذاته، الباقي بعد فناء خلقه، لا أول له ولا آخر.
فلم يرض فرعون أيضا بهذا الجواب. وقال لقومه: إن رسولكم الذي أرسل إليكم لا عقل له، ولا يفهم السؤال، وإنه لمجنون يخلط في كلامه.
فأجاب موسى عليه السّلام بجواب ثالث أوضح: إن الله تعالى هو ربّ المشرق الذي تشرق منه الشمس في الصباح، وربّ المغرب الذي تغرب فيه الشمس في المساء، ومثلها سائر الكواكب والنجوم الثوابت والسّيارة، مع انتظام دورانها في مداراتها. وهذا الجواب يبين مدى عجز فرعون الذي لم يكن له إلا ملك مصر، وأما الله سبحانه فله ربوبية المشرق والمغرب. وذلك إن كنتم تعقلون هذا الكلام وتفكّرون في قدرة الله تفكيرا سليما.
1822
ثم اتّجه فرعون إلى الملاذ الأخير للتّغلب على موسى عليه السّلام: وهو التّهديد باستخدام القوة والقهر، والطّرد أو السجن، فقال لموسى: لئن اتّخذت إلها غيري، لأجعلنك في عداد المسجونين في غياهب السجون، وتبقى فيها حتى تموت، وكان سجن فرعون أشدّ وأسوأ من القتل.
فقال موسى عليه السّلام قولا يناسب التهديد والوعيد: أتفعل هذا وهو السجن، ولو أتيتك بحجة واضحة على صدق دعواي النّبوة؟ وهي المعجزة الخارقة للعادة، الدالة على وجود الله تعالى.
قال فرعون: فأت بهذا الشيء الذي يشهد لك، ويدلّ بوضوح على صدق رسالتك إن كنت صادقا في دعواك ومؤيّدا في قولك.
يلاحظ من هذا الحوار المثير أن هناك بعدا شديدا في وجهات النظر والمواقف بين موسى النّبي، وبين فرعون الحاكم، وليس هناك استعداد لدى فرعون بالاستجابة لهدي النّبوة والرّسالة الإلهية، لأن غرور السلطة والجبروت يحجب فرعون عن التفكير السديد، ويجعله أسير الاعتماد على الحكم الغاشم وادّعاء الألوهية.
- ٣- معجزة موسى عليه السّلام
من المعلوم أن كل نبي يحتاج عادة لبرهان غريب لإثبات صدقه في ادّعائه النّبوة والرّسالة، وذلك يتم بما هو معروف بالمعجزة: وهي الأمر الخارق للعادة، أي بما لا يستطيعه البشر العاديون بحسب المعتاد. وكانت معجزة كل نبي تتناسب مع عصره.
وتفوق مألوفات العصر، فموسى عليه السّلام كانت معجزته العصا واليد التي أحبطت عمل السّحرة، وفاقت السّحر كله، وعيسى عليه السّلام كانت معجزته إبراء
1823
الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله، مما فاق عمل الأطباء وخبراتهم، ومحمد صلّى الله عليه وسلّم كانت معجزته القرآن الكريم أرقى مستوى بلاغي في الفصاحة والبيان، فلم يستطع العرب الفصحاء مجاراته والإتيان بمثله. قال الله تعالى مبيّنا معجزة موسى عليه السّلام:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٣٢ الى ٤٢]
فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦)
يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١)
قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢)
«١» «٢» «٣» «٤» [الشّعراء: ٢٦/ ٣٢- ٤٢].
عرض موسى عليه السّلام على فرعون إثبات صدق ادّعائه النّبوة والرسالة بالمعجزة الخارقة للعادة، بتأييد الله وإيجاده، فقبل فرعون الطلب، مضمرا إبطاله أو خرقه والتهوين به، فألقى موسى عصاه التي كان يتوكّأ عليها، فانقلبت ثعبانا واضح الملامح، ظاهر الحركة، من غير لبس ولا تمويه، والثعبان أعظم الحيّات، ثم عادت عصا كما كانت.
ونزع موسى يده من جيبه، فإذا هي تتلألأ للناظرين كأنها قطعة من الشمس، فلما رأى فرعون ذلك هاله، ولم يجد مدفعا له، غير أنه بادر إلى رميه بالسحر، وطمع- لعلوّ علم السّحر في ذلك الوقت وكثرته- أن يجد في السّحر سببا لمقاومة موسى عليه السّلام. ثم حاول فرعون تشوية وضع موسى، والتحريض عليه، وحمل قومه على تكذيبه، فذكر أمورا ثلاثة:
(١) أخرجها من جيبه. [.....]
(٢) للأعيان والأشراف.
(٣) أخّر أمرهما.
(٤) جامعين السّحرة من طريق الشّرط.
1824
١- قال لحاشيته من القادة والأشراف: إن هذا الرجل لبارع في السّحر، وفعله هذا نوع من السّحر.
٢، ٣- وإنه يريد إخراجكم من بلادكم، والتّغلب عليكم بسحره، وإثارته الفرقة بينكم، فأشيروا علي ماذا أصنع به؟ وأغراهم به، وحرّضهم على إبعاده، والتّخلص منه.
فأشاروا عليه بتأخير أمره وأمر أخيه، وجمع السحرة لمقاومته، من طريق طلب مهرة السّحرة وأساطينهم، وتجميعهم من أنحاء البلاد، فيأتونك بكل خبير ماهر في السّحر، فيقابلون موسى بنظير ما جاء به. ولم يشيروا بقتله لأن حجّته نيّرة، وضلالتهم في ربوبية فرعون واضحة، فخشوا الفتنة بالمناظرة، وطمعوا بحجّة تقنع العوام. والسّحّار: بناء للمبالغة لكلمة ساحر. وكان ذلك تدبيرا وإلهاما إلهيّا لتظهر حجة موسى عليه السّلام، ويتغلّب على كل من ناوأه أو عارضة.
فجمعت السّحرة في موعد يوم معلوم: هو يوم الزينة: وهو يوم عيد شهير عندهم. وكان السّحرة أسحر الناس وأعلمهم وأعرفهم بفنّ السّحر، وكانوا فئة متنوّرة مثقّفة بين الناس، وجمعا كبيرا.
وطلب فرعون من الناس الاجتماع، وحثّهم أي فرعون على الحضور، لمشاهدة المبارزة بين الجانبين، ظنّا من فرعون بالغلبة، وأراد القوم ذلك الموقف، ورغب موسى عليه السّلام في هذا التّجمع، لتعلو كلمة الله، وتتغلب حجة الله على حجة الكافرين.
وقال قائلهم: إنا لنرجو أن يتغلب السّحرة، فنستمرّ على دينهم، ولا نتّبع دين موسى. ولما قدم السّحرة إلى مجلس فرعون، قالوا: هل لنا من أجر مالي أو غيره إن انتصرنا على موسى؟ قال: نعم، لكم الأجر، وزيادة على ذلك أجعلكم من المقرّبين
1825
عندي ومن جلسائي، ويلاحظ أنهم ابتدؤوا بطلب الجزاء وهو إما المال وإما الجاه، فبذل فرعون لهم كلا الأمرين.
ولكن تدبير الله فوق كل تدبير، وكان الفوز لموسى عليه السّلام في صميم الحال العامة التي توقع فيها فرعون وقومه إنزال الهزيمة الساحقة بموسى، وإنهاء شأن دعاويه ومحاولاته حمل القوم على رسالته، ولكن قد يؤتى الحذر من مأمنه، وهكذا حدث.
- ٤- المبارزة بين موسى عليه السّلام والسّحرة
كانت الحسابات المتوقعة في منطق القوة التي لا تعتمد على شيء من الإيمان أن موسى عليه السّلام سينهزم، وأن السّحرة سيتغلّبون، ولكن في منطق الإيمان بالله ربّ العالمين تتغيّر كل الحسابات، وتنقلب الموازين، وكان لترتيب المبارزة أثر كبير في قلب الأوضاع، حيث أدّت مهارة موسى عليه السّلام وتوفيقه من ربّه، بتقديم فعل السّحرة أولا، وتأخّر فعل موسى، إلى نجاح كبير، وحدث ما لم يتوقعه أحد، وهو إيمان السّحرة بربّ العالمين، ربّ موسى وهارون. وفي ذلك النجاح الباهر حدث كبير، يهزّ مشاعر النفوس المؤمنة، ويدفع أهل الإيمان إلى شدّة الثبات على العقيدة وزيادة الإيمان، كما يخدش كبرياء المتغطرسين الذين يفتقدون معيار الإيمان، ولا يدركون معناه. قال الله تعالى مبيّنا هذا المشهد العجيب:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٤٣ الى ٥١]
قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧)
رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١)
«١»
(١) بقوته.
1826
«١» «٢» «٣» [الشّعراء: ٢٦/ ٤٣- ٥١].
ابتدأ الحوار بين موسى عليه السّلام والسّحرة عن أيهما البادئ بالفعل، فقدّمهم موسى، قائلا لهم: ألقوا ما تريدون إلقاءه من العصي والحبال، ثقة وإيمانا منه بأن الله غالبة ومؤيّده، ويجعل ما يلقونه طعمة لعصاه الثعبان المبين. فألقوا ما معهم من الحبال المطلية بالزّئبق والعصي المحشوة به، وقالوا: بعزّة فرعون- أي بقوته وجبروته- إنا لنحن الغالبون.
ولما حميت الشمس، تحركت العصي والحبال، وخيّل إلى موسى أنها تسعى، وسحروا أعين الناس، واسترهبوهم، وجاؤوا بسحر عظيم.
ثم ألقى موسى عصاه، فانقلبت ثعبانا عظيما، فابتلعت كل ما وجدته في حلبة المبارزة من عصي وحبال. وتَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ معناه: تبتلع ما يكذبون معه وبسببه.
فخرّ السّحرة ساجدين لله تعالى بلا مبالاة ولا شعور، لأنهم أدركوا أن ما فعله موسى فوق قدرة البشر، وأنه من فعل الله تعالى ربّ موسى وهارون، وأما فعلهم:
فهو مجرد تمويه وتزييف وتخييل. ونائب فاعل فَأُلْقِيَ هو الله عزّ وجلّ. ورأوا أن الغنيمة هي الإيمان والتّمسّك بأمر الله عزّ وجلّ، فسجدوا كلهم لله تعالى مقرّين بوحدانيته وقدرته، ووصلوا إلى إيمانهم بسبب موسى وهارون عليهما السّلام، وقالوا: صدّقنا واعترفنا بالله ربّ العالمين، وأكّدوا ذلك بأنه هو ربّ موسى
(١) تبتلع بسرعة.
(٢) يكذبون ويغيرونه بالتمويه.
(٣) لا ضرر علينا فيما نتعرّض له.
1827
وهارون، غير آبهين بعزة فرعون وجبروته. وهذا دليل على إسقاط ألوهية فرعون وربوبيته.
ولما رأى فرعون والملأ إيمان السّحرة، وقامت الحجة بإيمان أهل علمهم ومظنّة نصرتهم، وقع فرعون في الورطة العظمى، فوقف موبّخا لهم على إيمانهم بموسى قبل إذنه، وقال: أتؤمنون بموسى قبل استئذاني، وكيف تعصون أمري، وأنا الحاكم المطاع؟
وأضاف فرعون قائلا: وإنكم فعلتم ذلك بتواطؤ بينكم وبينه، ولم تقوموا بمقتضى السّحر، ليتغلّب موسى. وهذا تلبيس على القوم، لئلا يعتقدوا أن إيمان السّحرة حقّ.
ولسوف تعلمون وبال فعلكم، ومدى عقابكم. وهذا تهديد ووعيد.
وإني لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، بقطع اليد اليمنى، والرّجل اليسرى، ولأصلبنكم في جذوع النّخل بعد ذلك. فأجابوه قائلين: لا ضير، أي لا حرج ولا ضرر علينا من ذلك، ولا نبالي به، فكل إنسان ميت ولو بعد حين، ومرجعنا إلى الله عزّ وجلّ، وهو سبحانه لا يضيع أجر المحسنين. وهذا لبّ الإيمان وإخلاص اليقين الذي لا شائبة فيه من رغبة في نفع، أو رهبة من عقاب، والمراد: فلا يضيرنا ذلك مع انقلابنا إلى مغفرة الله ورضوانه: وروي: أن فرعون أنفذ فيهم ذلك الوعيد، وصلبهم على النيل.
وأضاف السّحرة قائلين: وإننا نرجو أن يغفر الله لنا ذنوبنا وسيّئاتنا بفعل السّحر، لأجل كوننا أول أفواج أهل الإيمان الذين شهدوا هذا الموقف، من القبط وصنيعتهم.
وهذا الموقف المشهود لإيمان السحرة سيظل مبعث تخليد وتقدير، فرحم الله سحرة فرعون ورضي الله عن أولئك الذي انقلبوا في مشهد رهيب قادة أهل الإيمان، وقمة الشهداء البررة في سبيل العقيدة الحقّة بالله عزّ وجلّ.
1828
- ٥- نجاة موسى وإغراق فرعون
دقّ ناقوس الخطر بعرش فرعون ونهاية عهد الفراعنة بمصر، بعد انتشار الطغيان والفساد، وتأليه الظالم الجبار فرعون، لأنهم اعتمدوا على القوة البشرية الذاتية، ناسين الله وقدرته وتدبيره. وتهيأ الأمر لإنجاء بني إسرائيل، بعد أن ظلوا ردحا من الزمان عبيدا وخدما لقوم فرعون. وانتشر الرّعب والخوف من إدراك جيش فرعون للإسرائيليين الفارّين من مصر، وظهر صوت الحق والإيمان على لسان موسى عليه السّلام، وحدثت المعجزة الغريبة بانفلاق البحر لقوم موسى وإنجائهم، ثم إطباق البحر على فرعون وجنوده وإغراقهم، فهل من مصدّق؟ نعم، ليس أدلّ على التصديق من الواقع المشاهد الذي وصفه القرآن العظيم في الآيات الآتية:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٥٢ الى ٦٨]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦)
فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١)
قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» «٩» [الشّعراء: ٢٦/ ٥٢- ٦٨].
(١) أي سر بهم ليلا.
(٢) أي جامعين العساكر ليتبعوهم.
(٣) أي لجمع قليل محتقر.
(٤) محترزون.
(٥) كلا: كلمة ردع وزجر، أي ثق بالله واترك الخوف.
(٦) انشقّ اثني عشر فرقا.
(٧) قطعة من البحر. [.....]
(٨) كالجبل الضخم.
(٩) قرّبنا هنالك آل فرعون من البحر.
1829
لما أراد الله تعالى إنجاء بني إسرائيل وإغراق فرعون، أمر موسى عليه السّلام أن يخرج ببني إسرائيل ليلا باتّجاه البحر، وأخبره أنهم سيتبعون من أعدائهم فرعون وقومه، فخرج موسى وقومه.
فلما علم فرعون في الصباح بخروج بني إسرائيل، اغتاظ وغضب، فأرسل في مدائن مصر من يحشر الجند (يجمعهم) مستخدما أسلوب التعبئة المعنوية والمادية لتحريض قومه على الخروج معه، واصفا الإسرائيليين بأنهم جمع قليل محتقر، وإنهم مصدر نكد وإغاظة لنا بأخذهم المال وهروبهم ليلا، فإنهم قد ذهبوا بأموالنا باستعارة حلي القبط وأموالهم، وإننا قوم نحذر المخاطر، ونستعدّ لإبادتهم بالسلاح.
وألهم الله قوم فرعون بضرورة الخروج، وأخرجهم مما كانوا يتمتعون به من بساتين خضراء، ورياض غنّاء، وأنهار وعيون جارية الماء، وكنوز ذهبية مخزونة، ومنازل عالية. وكان هذا الأمر حقّا، وكان إخراج الله لهؤلاء كما وصف سبحانه، وورّث بني إسرائيل ثرواتهم، فتابع قوم فرعون الإسرائيليين، ولحقوا بهم مشرقين عند شروق الشمس على خليج السويس من البحر الأحمر.
فلما رأى كل من الجمعين صاحبه، قال الإسرائيليون: إن القوم لحقوا بنا، وسيقتلوننا، ولن يبقى منا أحد. فهدّأ موسى عليه السلام نفوسهم قائلا: كلا، لن يحدث ما تتوقعون من الهلاك، ولن يدركونا، وإن معي ربّي بالحفظ والنصر، سيهديني إلى طريق النّجاة والخلاص منهم. وهذا موقف إيماني بارز يدعو للإيمان التام بوجود الله وقدرته على كل شيء.
وأوحى الله بأمره إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر، فضربه بها، فانفلق بقدرة الله تعالى واختراعه، اثني عشر طريقا، وصارت كل قطعة من الماء المحجوز المتجمد عن الحركة كالجبل الشامخ، وجفّف الله الطرق والممرات البحرية بالشمس والهواء،
1830
بعدد أسباط بني إسرائيل وفرقهم، لكل سبط منهم طريق. وأزلفنا، أي قرّبنا من البحر هنالك القوم الآخرين، وهم فرعون وجنوده، فتبعوهم.
وأنجينا موسى وبني إسرائيل أجمعين بخروجهم إلى الضفة الأخرى من البحر في يوم عاشوراء، ثم أغرقنا فرعون وجنوده في الماء، بإطباق البحر عليهم.
ونبّه الله على موضع العبرة بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً أي إن في هذا الحدث العجيب لعظة دالّة على قدرة الله تعالى وتوفيقه، وصدق موسى عليه السّلام، بإنجاء المؤمنين، وإهلاك الكافرين.
ولم يكن أكثر الباقين في مصر من القبط من أهل الإيمان بالله تعالى، وأما بنو إسرائيل: فعلى الرغم مما أنعم الله عليهم من النّجاة والتّحرر والتّملك، فإنهم كذّبوا بحقائق الدين، واتّخذوا العجل إلها، وطلبوا رؤية الله جهرة. وإن الله تعالى لمنتقم من أعدائه، ولقد عزّ في نقمته من الكفار، ورحم المؤمنين من الأمة. وهذا امتحان لبني إسرائيل، وبشارة بنصر النّبي صلّى الله عليه وسلّم في مستقبل الأيام القريبة، فما بعد الشدة إلا الفرج، وسيلقى مشركو مكة سوء المصير، وينجي الله المؤمنين بدعوة نبي الإسلام صلوات الله وسلامه عليه.
قصة إبراهيم عليه السّلام
- ١- مجادلته قومه حول عبادة الأصنام
هذه قصة أخرى عقب إيراد قصة موسى مع فرعون، يراد بحكايتها تثبيت النّبي صلّى الله عليه وسلّم وأهل الإيمان، وإشعار النّبي صلّى الله عليه وسلّم بضرورة التّخلي عن الهمّ والحزن لإعراض المكّيين عن الإيمان بالقرآن الكريم، والاعلام بأن معارضة الرّسل من أقوامهم حالة قديمة،
1831
لا يستدعي تجددها شيئا من القلق والضيق. فلقد جادل إبراهيم عليه السّلام قومه في عبادة الأصنام جدال الرجل العاقل الجريء، القوي الحجة، بتفنيد شبهاتهم، وإعلامهم بضرورة التّخلي عن الأصنام، والتّوجه نحو الله عزّ وجلّ، بالإقرار بوجوده ووحدانيته، وقدرته وعظمته، قال الله تعالى واصفا هذا اللون من الجدال القوي:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٦٩ الى ٨٢]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣)
قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨)
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢)
«١» [الشّعراء: ٢٦/ ٦٩- ٨٢].
هذه القصة تضمنت الاعلام بغيب، لم يكن محمد صلّى الله عليه وسلّم يعرفه، وإنما جاء خبره في الكتب المتقدمة، لتعتبر قريش في نظرتها إلى الأصنام، ولكن لم يكن فيها تكذيب وعذاب، خلافا لأغلب القصص الأخرى. والصنم: ما كان من الأوثان على صورة بني آدم، سواء كان من حجر أو خشب أو غير ذلك.
والمعنى: واتل يا محمد على قومك خبر إبراهيم عليه السّلام، ليقتدوا به في عبادة الله تعالى وحده، وفي التّبري من عبادة الأصنام، وإبطال تلك العبادة بالحجج العقلية الساطعة، ومنافاتها لناموس الفطرة السوية. فإن إبراهيم عليه السّلام منذ صغره، آتاه الله رشدا وحكمة، وفوجئ في حال شبابه بعبادة قومه الأصنام، فقال لهم، أي لأبيه وقومه: ما الذي تعبدونه؟ فأجابوه بأننا نعبد هذه الأصنام، ونبقى قائمين على عبادتها على الدوام، ملازمين لها في كل وقت وزمان.
(١) أفكرتم فعلمتم.
1832
ناقشهم إبراهيم الخليل عليه السّلام بأن تلك الأصنام لا تتصف بمقتضى العقل بصفات الإله، فإنهم لا يسمعون دعاءكم حين تدعون، ولا ينفعونكم بشيء، ولا يدفعون عنكم ضررا. فأجابوه متمسكين بالتقليد الموروث الأعمى: لقد وجدنا آباءنا يفعلون ذلك، أي لا حجة ولا برهان من العقل على عبادتها، وإنما هو مجرد تقليد، وهو في الواقع أقبح وجوه التقليد، لأنه على ضلالة، ويناقض الواقع، ويرفضه الفكر الصحيح، ولا حجة فيه.
فتبرأ إبراهيم عليه السّلام من جميع ما عبد من دون الله تعالى، وعداوته له، وعبّر عن بغضه وعداوته لكل معبود سوى الله عزّ وجلّ، وقال: أخبروني عن حال ما تعبدونه، أنتم وأسلافكم الأقدمون في غابر الزمان إلى الآن، هل حققت هذه العبادة شيئا، وهل لهذه الجمادات أي تأثير؟ وأتحدّاها بأن تجلب إلي ضررا أو سوءا، فهي كلها عدوّ لي لا أعبدها، ولكن أعبد الله ربّ العوالم كلها من إنس وجنّ، فهو الذي أوجدني ورزقني، وهو الذي يرشدني لطاعته، ويهديني دائما للخير والصلاح في الدنيا والآخرة، وهو الذي يرزقني الطعام والشراب وغيرهما من أنواع الرزق المتجدّد والدائم.
وإذا تعرضت لمرض، فهو الإله المنعم الذي يشفيني من كل داء، وهو الذي يحييني ويميتني، لا يقدر على ذلك أحد سواه، لأنه المبدئ والمعيد. وهو الذي أرجو أن يغفر لي سيّئاتي، ويستر ذنوبي يوم القيامة، ولا يقدر على غفران الذنوب سواه.
هذه أوصاف خمسة للإله الذي يستحق العبادة وحده دون غيره، ويلاحظ أن إبراهيم عليه السّلام أسند المرض إلى نفسه بقوله: وَإِذا مَرِضْتُ وأسند الشّفاء إلى الله عزّ وجلّ بقوله: فَهُوَ يَشْفِينِ وهذا من حسن الأدب في العبارة، مع أن الكل من عند الله.
1833
وطمع إبراهيم في المغفرة، وهذا دليل على شدة خوفه من ربّه، مع علوّ منزلته، واتّصافه بالخلّة، فهو خليل الرّحمن، وإمام الحنفاء، وأبو الأنبياء.
وطلب إبراهيم من ربّه غفران خطيئته، مريدا بذلك كذباته الثّلاث: وهي قوله للملك: «هي أختي» في شأن سارّة، وقوله: إِنِّي سَقِيمٌ [الصّافّات: ٣٧/ ٨٩]، وقوله:
بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا [الأنبياء: ٢١/ ٦٣]. وهي في الواقع ليست كذبات في الحقيقة، وإنما ذلك من قبيل التورية وتوجيه الكلام لمعنى آخر، ومن أجل أغراض أخرى قصدها تتعلق بنشر دعوته. والأظهر أن إبراهيم أراد بالخطيئة اسم الجنس من غير تعيين في كل أمره.
- ٢- دعاء إبراهيم عليه السّلام
الدّعاء مخّ العبادة، ودليل الإخلاص وحبّ الله تعالى، وصدق التّوجه إليه، يحتاج إليه كل مؤمن في كل حال، تتردّد به شفاه المكروب والحزين، ويلجأ إليه المريض المتألّم، ويلوذ إليه الخائف المضطرب، ويضرع به المسافر، ويستعين به للتّغلّب على العدو، والتّخلص من وساوس الشيطان، ويستمتع به المتنعّم لطلب رضوان الله، والخلود في جنان النّعيم، والاستعاذة من العذاب الأليم. فهو سلوة المكروب، ورجاء الطامع، وأمل الصّالح، ولا يستغني عنه حتى النّبي المرسل، لذا عبّر إبراهيم الخليل عليه السّلام في دعائه عن حرارة الشّوق إلى الله، وإمداده بفضل الله ورحمته في الدنيا والآخرة، فقال:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٨٣ الى ٨٩]
رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧)
يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩)
«١»
(١) ثناء حسنا.
1834
«١» «٢» [الشّعراء: ٢٦/ ٨٣- ٨٩].
تضمّن دعاء إبراهيم الخليل مقوّمات القدوة الحسنة، والصفوة المختارة، والقرب من الله تعالى، لتعليم الآخرين والاقتداء به، وهي ستة مطالب أراد بها معنى التّثبيت والدوام.
١- يا رب أعطني الحكم، أي الحكمة والنّبوة، والفهم والعلم، لإنارة سبيل الحياة، والتّعرف على صفاتك العليا، وقد أوتي النّبوة ويقين الإيمان.
٢- ووفقني لطاعتك، لأكون في زمرة الصالحين في الدنيا والآخرة، وقد أجاب الله دعاءه، كما في آية أخرى: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [العنكبوت: ٢٩/ ٢٧].
٣- واجعل لي ذكرا جميلا بعدي، وسمعه طيبة، في الدنيا، بتوفيقي للعمل الصالح، والاقتداء بي في الخير، ولسان الصدق: الثّناء الجميل وتخليد المكانة، وأجاب الله دعاءه كما جاء في آية أخرى: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصّافّات: ٣٧/ ١٠٨- ١١٠]. وهو محترم ومحبوب لدى جميع أهل الأديان. وكل ملّة تتمسك به وتعظّمه، وهو على الحنيفية التي جاء بها محمد صلّى الله عليه وسلّم.
٤- واجعلني من ورّاث الجنة وأهلها الذين ينتفعون بخيراتها ونعيمها، كما يتمتع الوارث بإرث مورثه في الدنيا. وهو يقينا من أهل الجنة، لأنه رسول، ويلاحظ أنه لما فرغ من مطالب الدنيا، طلب سعادة الآخرة، وهي جنّة النعيم، قال الله تعالى:
تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣) [مريم: ١٩/ ٦٣].
(١) لا تفضحني ولا تذلني.
(٢) الظاهر أن الاستثناء منقطع، أي لكن من أتى الله.
1835
٥- واغفر لأبي ذنبه، ووفقه للتوبة والإسلام، فإنه ضال عن طريق الهدى، أي مشرك. واستغفاره لأبيه في هذه الآية قبل أن يتبين له بموته على الكفر: أنه عدوّ لله، أي محتوم عليه سوء اعتقاده بإصراره على الشّرك، كما قال الله تعالى: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التّوبة: ٩/ ١١٤].
٦- ولا تفضحني بعتاب على ما فرّطت، أو بنقص منزلة عن وارث، واسترني من الخزي والهوان يوم القيامة، وهذا مبالغة منه عليه الصّلاة والسّلام في تحرّي الكمال والسلامة والنّجاة، في يوم شديد الأهوال. فكلمة وَلا تُخْزِنِي إما من الخزي: وهو الهوان، وإما من الخزاية: وهي الحياء. وهذا سيتحقّق بفضل الله، لأنه إمام الحنفاء، وأبو الأنبياء.
ثم وصف يوم القيامة الذي يخاف منه بأنه يوم لا ينفع الإنسان فيه مال ولا بنون، ولا يقيه شيء من عذاب الله ولو افتدى بملء الأرض ذهبا، إلا من أتى الله بقلب سليم من الشوائب، فينفعه سلامة قلبه. والقلب السليم لله: هو الخالص السليم من الشّرك والمعاصي، ومتاع الدنيا ولو كان مباحا، كالمال والبنين. ومما لا شك فيه أن الأهم والأخطر لسلامة القلوب: هو تخلّصها من الشّرك والنّفاق، والكفر والضّلال، لأن الشّك والشّرك والنّفاق هي أمراض القلوب، كما قال الله تعالى في وصف المنافقين: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة: ٢/ ١٠]. وكان إبراهيم عليه السّلام ذا قلب صاف من كل معكرات الإيمان، وذا فطرة سليمة من جميع شوائب الضلال.
وفي السّنة النّبوية الصحيحة أدعية مأثورة يشبه بعضها ما جاء في هذا الدّعاء.
منها:
«اللهم إني أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي، وتجمع بها أمري، وتلم بها شعثي، وتصلح بها غائبي، وترفع بها شاهدي، وتزكّي بها عملي، وتلهمني بها رشدي، وتردّ بها ألفتي، وتعصمني بها من كل سوء».
1836
- ٣- أوصاف القيامة في دعاء إبراهيم عليه السّلام
وصف إبراهيم الخليل يوم القيامة في دعائه بأوصاف فيها الحسم وتقرير المصير الأبدي، من جنة واسعة، ونار ملتهبة، وأحوال الغاوين المعذّبين فيها، من إبليس وجنوده، واختصام حادّ في أنحائها، ويأس من الشفيع والصديق الحميم، والتّأمل في العودة لدار الدنيا، لإعلان الإيمان الحق بالله تعالى، وفي ذلك آية وعبرة، وعظة وذكرى. قال الله تعالى مبيّنا هذه الأحوال:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٩٠ الى ١٠٤]
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤)
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩)
فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» [الشّعراء: ٢٦/ ٩٠- ١٠٤].
هذه أوصاف ثلاثة ليوم القيامة، وردت في دعاء سيدنا إبراهيم الخليل عليه السّلام، تتضمن العلم بأحوال الغيب باختصار، وتتطلب الاستعداد لهذا اليوم الرهيب.
١- في يوم القيامة قرّبت الجنة وأدنيت لأهل التقوى السعداء، الذين قضوا حياتهم الدنيوية في التزام الأوامر الإلهية، واجتناب النّواهي الرّبانيّة، فعمروا دنياهم بالتّقوى. وفي ذلك اليوم أظهرت الجحيم وهي النار لأهل الغواية والضّلال، البعيدين عن الحقّ والهداية، الغارقين في الشقاء والانحراف.
(١) قرّبت.
(٢) أظهرت.
(٣) الضّالّين.
(٤) ألقوا على وجوههم.
(٥) نجعلكم والله سواء في العبادة.
(٦) قريب يعنى بنا.
(٧) رجعة إلى الدنيا.
1837
٢- وقيل في ذلك اليوم للمشركين: أين آلهتكم التي عبدتموها من دون الله، من أصنام وبشر وكواكب وغيرها، هل ينفعونكم بنصر لكم، أو يمنعونكم من عذاب شامل لكم؟
وألقي في تلك النار الآلهة المزعومة وعبّادها، وأصحاب الغواية والضّلال، والقادة إلى النار والأتباع، ومعهم جميع جنود إبليس وأتباعه.
٣- قال أهل الغواية وهم في حال الغيظ الشديد من الآلام والحجاج بينهم وبين الآلهة المعبودة والشياطين الداعية لتلك الآلهة: والله لقد كنا في ضلال بعيد عن الحق، وواضح المبنى والمظهر، حين نجعلكم أيها الأصنام والملائكة والبشر وغيرهم متساوين في استحقاق العبادة، وإطاعة الأمر، مع ربّ العالمين من الإنس والجنّ.
والحقّ أنه ما أضلّنا وحرفنا عن الحقّ والهدى إلا السّادة المجرمون من الشياطين والقادة الضّالّين.
فليس لنا اليوم شفيع يشفع، ولا صديق ودود يتوجّع، ولا قريب يتحنّن، كما جاء في آية أخرى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (٦٧) [الزّخرف: ٤٣/ ٦٧].
فليت لنا رجعة إلى الدنيا: فنؤمن بالله وحده لا شريك له، ونؤمن بكتبه ورسله واليوم الآخر، ونعمل صالحا غير الذي كنّا نعمل، إلا أن هذا مجرد مراوغة وكذب محض، كما أخبر القرآن الكريم عنهم في آية أخرى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الأنعام: ٦/ ٢٨].
إن في ذلك المذكور من قصة إبراهيم، ومحاجّة قومه في عبادة الأصنام، والتغلب عليهم بالحجة القاطعة، وفي بيان وصف الجنة والنار، ومخاصمة أهل النار، لعظة وعبرة، ودلالة واضحة على: أن لا إله إلا الله، ولا معبود بحقّ سواه، ولا ربّ غيره. ولم يكن أكثر الناس بمصدّقين بالله ورسوله.
1838
وإن ربّك أيها النّبي محمد الذي أحسن إلى العرب وغيرهم بإرسالك لهم لهدايتهم، لقادر على الانتقام منهم، وهو الرّحيم بهم إذ لم يعجّل عقابهم وإهلاكهم، بقبول توبتهم، كما أنه رحيم بأهل الإيمان الذين أطاعوا الله والرسول، وعملوا بما يرضي الله، ولم يعرضوا عن شيء مما جاء في كتاب الله ووحيه.
دعوة نوح عليه السّلام إلى الإيمان
لقد استضاءت الحياة الإنسانية- منعا لتعثّرها وانحرافها- بموكب النّور الإلهي من القديم، وعبر التاريخ، وإلى يوم القيامة، متمثّلا ذلك بإنزال الكتب الإلهية والصّحف، وبإرسال الرّسل والأنبياء، وكانت دعوتهم واحدة، تنحصر في إثبات وجود الله وتوحيده، (الإلهيات) والإقرار بالوحي والنّبوة (النّبوات) والإيمان بعالم الغيب (القيامة) بخبر الصادق المصدوق، وبدأت رسالة نوح عليه السّلام هذا الموكب بالدعوة إلى توحيد الله وعبادته وطاعته، وهجر عبادة الأصنام والأوثان، فما آمن به إلا قليل، وترفّع الأكابر والأشراف، واتّهموا أتباعه بأنهم أخسّاء أراذل سفلة. حكى القرآن الكريم هذا الواقع في الآيات التالية:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٠٥ الى ١٢٢]
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤)
إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩)
ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢)
«١»
(١) الأدنياء من الناس. [.....]
1839
«٢» «٣» [الشّعراء: ٢٦/ ١٠٥- ١٢٢].
هذه قصة أول رسول بعثه الله إلى النّاس، بعد أن عبدوا الأصنام والأوثان، وهو نوح عليه السّلام الذي مكث يدعو قومه لعبادة الله ألف سنة إلا خمسين، فكذّبه قومه، حيث ذكر الله سبحانه: كذب قوم نوح رسل الله، والمراد نوحا عليه السّلام، لأن من كذّب رسولا واحدا، فقد كذّب جميع الرّسل، وذلك حين قال لهم أخوهم إخاء جنس في الإنسانية والقومية: ألا تخافون الله في عبادتكم غيره؟! ثم وصف نوح عليه السّلام نفسه بصفتين بقوله: إني رسول من الله إليكم، أمين فيما بعثني الله به لكم، فخافوا عذاب الله وانتقامه، وأطيعوني فيما آمركم به من توحيد الله وعبادته وطاعته. ولا أطلب منكم أجرا أو جزاء على نصحي لكم، إن ثوابي على الله ربّ العوالم كلها من إنس وجنّ. فاتّقوا الله باتّباع أوامره واجتناب نواهيه، وكرّر ذلك للتوكيد، لأن التقوى والطاعة أساس الدين، وكلمة جامعة للدّين كله.
فأجابوه مستكبرين بعنصرية وترفّع: كيف نصدّقك، وقد اتّبعك الأراذل السّفلة في المجتمع؟ وكيف نتأسى بهم، فإنهم ضعاف الناس وأدنياؤهم وفقراؤهم، أي هم أهل الصنائع الخسيسة، ونحن السّادة أصحاب النّفوذ والثّراء.
فأجابهم نوح عليه السّلام: لا علم لي بأعمال هؤلاء وصنائعهم، ولا أبحث عن شؤون معيشتهم وأساليب حياتهم، وليس في نظري وعلمي بأعمالهم ومعتقداتهم فائدة، فإنما أتعامل مع ظواهرهم، ويبقى حسابهم على الله تعالى، فإن كنتم ذوي
(١) فاحكم.
(٢) السفينة أو السّفن.
(٣) المملوء.
1840
مشاعر مرهفة وأحاسيس صادقة، ويا ليتكم تشعرون بهذا الشعور، وتعلمون أن حسابهم على ربّهم، لما عيّرتموني بصنائعهم. والقصد من ذلك: الإنكار عليهم بتسمية المؤمنين أراذل، بسبب الفقر ودنوّ الصنعة.
وليس من شأني طرد هؤلاء المؤمنين الضّعفاء من مجلسي، وإنما بعثت نذيرا واضح الإنذار، فمن أطاعني كان مني وأنا منه، شريفا كان أو وضيعا. فلجأ القوم إلى التهديد قائلين: لئن لم تنته يا نوح عن دعوتك إيانا إلى دينك، لنرجمنّك بالحجارة، أي القتل بها.
فقال نوح: يا ربّ، إن قومي كذّبوني في دعوتي إياهم إلى الإيمان بك، فاحكم بيني وبينهم حكما عدلا، تنصر به أهل الحق، وتدفع الباطل وتبيده، ونجني من العذاب، مع من آمن برسالتي، وصدّق بدعوتي.
فأجاب الله دعاءه، وأنجاه مع من آمن بدعوته، وأنقذهم بالسفينة المملوءة بالناس، والمتاع، وأصناف الحيوان، حفاظا على أصول النوع الحيواني. وكان النّاجون ثمانين، أربعين رجلا، وأربعين امرأة.
إن في إنجاء المؤمنين، وإغراق الكافرين، لعبرة وعظة لكل من صدّق أو كذّب بالرّسل. وإن ربّك لهو القويّ الغالب المنتقم ممن كفر به، وخالف أمره، الرّحيم بمن أطاعه وأناب إليه، فلا يعاقبه.
دعوة هود عليه السّلام
تشابهت دعوة هود مع دعوة نوح عليهما السّلام، إلى عبادة الله وحده، وتقواه وإطاعته، والتّهديد بسوء العاقبة والمصير، إن كذّبوه وعارضوه، وانفرد هود عليه السّلام بالتّنديد بجبروت قومه، واعتمادهم على المصانع والمباني الموهمة بالخلود.
1841
وانتهت القصّتان بإعلان أن الفئة المؤمنة قليلة، وأن الله ذو العزّة والقوة الغالبة، والرّحمة أيضا، وذلك بعبارة: وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وهي العبارة نفسها التي انتهت بها سابقا قصة موسى مع فرعون، وقصة إبراهيم مع قومه، وتنتهي بها أيضا قصص الأنبياء الآخرين: وهم صالح مع قومه ثمود، ولوط مع قومه، وشعيب مع أصحاب الأيكة. وهذه آيات تخبر عن قصة هود مع قومه:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٢٣ الى ١٤٠]
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧)
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢)
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧)
وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» [الشّعراء: ٢٦/ ١٢٣- ١٤٠].
افتتحت هذه الآيات في خبر هود عليه السّلام بما افتتحت به الآيات في خبر قوم نوح بعبارات ست متشابهة هي: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) الآيات، وكَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) الآيات، وعاد: قبيلة عربية عاتية، كانوا يسكنون الأحقاف:
وهي جبال الرمل قرب حضرموت في بلاد اليمن، وهم في الزمان بعد قوم نوح.
لقد كذّبت عاد رسولها هودا عليه السّلام، حين قال لهم أخوهم في النّسب القبلي:
ألا تتّقون عذاب الله، إني لكم رسول أمين على رسالتي من عند الله، فاتّقوا الله فيما
(١) الرّيع: المرتفع من الأرض.
(٢) بناء شامخا كالعلم.
(٣) ببنائها.
(٤) حصونا.
(٥) أنعم عليكم.
(٦) عادتهم.
1842
أمر به، وانتهوا عما نهى عنه، وأطيعوني فيما آمركم وأنهاكم عنه، يصلح حالكم، وتسعدون سعادة في دنياكم وآخرتكم ولا أطلب منكم على تبليغ رسالتي أجرا أو عوضا، ولا أطلب جاها، إن ثوابي وجزائي على الله، لو علمتم ذلك، ولكنهم كذّبوه وآذوه. وهذه العبارات بذاتها جاءت على لسان نوح وهود وصالح ولوط وشعيب، للتنبيه على وحده الهدف، ووحدة رسالات الأنبياء في الدعوة إلى توحيد الله وطاعته، وترك عبادة ما سواه. ثم عاب هود عليه السّلام قومه في أمور ثلاثة وهي:
- أتعمرون بكل مكان مرتفع بنيانا شامخا، علامة على العزّة والقوة، وتفعلون ذلك عبثا لمجرد اللعب واللهو وإظهار القوة، لا للحاجة إليه.
- وتتّخذون مباني مصنّعة ومتقنة البناء، من قصور مشيدة، وحصون منيعة، على أمل الخلود فيها، ورجاء السكنى والانتفاع بها على الدوام، مع أنكم مرتحلون عنها.
- وإذا بطشتم بغيركم في تعاملكم معهم، والبطش: الأخذ بقوة وسرعة، بطشتم بطش الجبابرة، أي المتكبّرين العتاة.
فاحذروا عقاب الله الذي أمدّكم بما تعلمون من النّعم الوفيرة، ورزقكم بالأنعام (الإبل والبقر والغنم) والأولاد الكثيرة، وأوجد لكم البساتين الغنّاء، والعيون الجارية بالماء العذب، فاجعلوا مقابل هذه النّعم عبادة الله المنعم بها، لتكونوا أوفياء للمعروف.
وإني أخشى عليكم إن كذبتم، وخالفتم وأصررتم على الكفر عذاب يوم شديد الأهوال.
فأجابه قومه: يستوي عندك وعظك لنا وتحذيرك إيانا، وعدم الوعظ، فإنا لا نفارق ما نحن عليه. وما جئت به من دعوة ما هو إلا اختلاق السابقين، وافتراؤهم وكذبهم، فأنت على منهاجهم، ولسنا نحن بمعذّبين أبدا، خلافا لما تقول.
1843
فكان الموقف النّهائي أنهم كذّبوا هودا عليه السّلام، فيما أتى به، فأهلكهم الله بريح صرصر عاتية، أي شديدة الهبوب، وذات البرد الشديد، إن في إهلاك عاد بسبب التكذيب لرسولهم، لعبرة واضحة لكل الأقوام، فيما أتاهم به رسول الله، ولم يكن أكثر هؤلاء المهلكين بمؤمنين في سابق علمنا، وإن ربّك لهو صاحب العزّة المطلقة، ينتقم من أعدائه، والرّحيم بعباده المؤمنين، إن تابوا وأصلحوا أعمالهم.
إن الاتّعاظ بإهلاك قبيلة عاد الشديدة العاتية أمر واجب على أهل الإيمان والعقل الراجح، فيكون الجزاء لأمثالهم المكذّبين واحدا، لاتّحاد سبب الجزاء.
دعوة صالح عليه السّلام
استمرّ نهر العناية الإلهية متدفّقا بإرسال الرّسل المصلحين لأقوامهم الضّالّين، من أجل تضافر الجهود للقضاء على بذرة الوثنية، وبناء صرح الدعوة إلى الإله الواحد، وعبادته، وإصلاح مسيرة الحياة الإنسانية، وتوجيه النفوس نحو حقيقة معبودها الخالق البارئ المصوّر، الرّازق عباده برزق وفير، والراحم أهل التقوى والاستقامة المنيبين إليه. وكان التركيز في الإصلاح الإلهي على أهل العالم القديم في بلاد الشام وشبه جزيرة العرب، مثل قبيلة عاد في اليمن، وثمود في مدينة الحجر التي بين وادي القرى والشام، على طريق المدينة، ومساكنهم معروفة مشهورة. قال الله تعالى واصفا دعوة صالح إلى قومه ثمود:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٤١ الى ١٥٩]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥)
أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠)
وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥)
وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩)
1844
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [الشّعراء: ٢٦/ ١٤١- ١٥٩].
لقد بادرت قبيلة ثمود إلى تكذيب رسولها وهو صالح عليه السّلام، حين قال لهم صالح: ألا تتّقون عقاب الله، فتؤمنوا به وحده وتعبدوه، وتطيعوني فيما بلّغتكم من الرّسالة، فإني رسول من عند الله تعالى، أمين على رسالته التي كلفني بتبليغها، ولا أطلب على نصحي لكم عوضا ولا جزاء، فما جزائي إلا على الله الذي أرسلني:
وهو ربّ العوالم كلها، من إنس وجنّ.
ثم ذكّرهم صالح عليه السّلام بنعم الله عليهم، ونهاهم عن الفساد في الأرض، في موضوعات ثلاثة:
الأول- أتظنّون أنكم مخلّدون في نعيم الدنيا، تتمتعون في البساتين وعيون الماء، والزروع والثمار، والنخيل ذات الثمار اللينة الهضم، وهو الرّطب.
الثاني- وتتخذون في الجبال بيوتا، حاذقين في نحتها وبنائها فارهين. أي جاعليها ذات منظر جيد، ونوع قوي الكمال، متنافسين في عمارتها، من غير حاجة إلى السّكنى فيها.
(١) الطلع: أول ما يطلع من ثمرة النخل.
(٢) رطب نضيج.
(٣) حاذقين بنحتها.
(٤) المغلوب على عقولهم بالسحر.
(٥) نوبة أو نصيب من الماء. [.....]
1845
الثالث- ولا تطيعوا أمر الذين أسرفوا على أنفسهم بالمعاصي، وارتكاب الخطايا والتّرف والمجون، ويفسدون في الأرض فسادا خالصا، ليس معه شيء من الصلاح.
وقال: وَلا يُصْلِحُونَ بعد قوله: يُفْسِدُونَ لبيان أن فسادهم تام خالص.
فأبى قوم ثمود نصيحة نبيّهم صالح عليه السّلام ودعوته إلى عبادة ربّهم عزّ وجلّ، وبادروا إلى اتّهامه بأنه مغلوب على عقله بالسحر، أي قد سحرت، فأنت لذلك مخبول، لا تنطق بكلام قويم.
وإنك مجرد بشر مثلنا، لم ينزل عليك وحي من الله دوننا، كما جاء في آية أخرى:
أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) [القمر: ٥٤/ ٢٥- ٢٦]. وإن كنت صادقا فيما تدّعي من النّبوة، فأت بعلامة تدلّ على صدقك. روي أنهم اقترحوا خروج ناقة من جبل من جبالهم.
فلما خرجت الناقة بدعاء صالح عليه السّلام أن يجيبهم ربه إلى سؤالهم، قال: هذه آية دليل على صدقي، وهي معجزة لا يستطيعها غير نبي بإذن الله وإيجاده ترد ماءكم يوما فتشربه كله، وتردونه يوما آخر أنتم، وتحلبون منها ما شئتم.
وإياكم أن تصيبوها بأذى من ضرب أو قتل أو عقر، أو غير ذلك، فيصيبكم عذاب شديد. ووصف اليوم بصفة عَظِيمٍ للدلالة على عظم أهواله، فعقروا النّاقة، أي ذبحوها بعد أن قطعوا قوائمها بالسيف، بفعل قدار الأحمر. ونسب العقر إلى جميعهم لأنهم اتّفقوا معه على ذلك رأيا وتدبيرا، فنزل عليهم عذاب من الله:
وهو الزلزال الشديد، والصيحة التي اقتلعت القلوب من مواضعها.
إن في ذلك المذكور من قصة صالح عليه السّلام، وتكذيب قومه لرسالته، وذبحهم الناقة التي هي معجزة من عند الله، لعبرة وعظة لمن اعتبر واتّعظ، ولم يكن أكثرهم
1846
مؤمنين بالله ورسله، وإن ربّك لهو المنتقم من أعدائه، الرّحيم بأوليائه المؤمنين إن تابوا وأنابوا إليه.
وقد ختمت القصة بهذه الخاتمة كغيرها من قصص إبراهيم ونوح وهود ولوط وشعيب لتأكيد العظة والاعتبار بحال المكذبين.
دعوة لوط عليه السّلام
لم تختلف دعوة لوط عليه السّلام عن دعوات الأنبياء الآخرين، المتقدمين والمعاصرين قبل دعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان قومه يسكنون في سدوم من أعمال غور الأردن، وهي عمورة وثلاث مدائن أخرى، بجوار البحر الميت (بحيرة لوط) وجوهر دعوته هي المطالبة بعبادة الله عزّ وجلّ، وحده لا شريك له، وإطاعة الرّسل، والنّهي عن المعاصي، ولا سيما الفواحش التي اقترفوها دون غيرهم. وكان مصيرهم كغيرهم من الأمم الأخرى التي كذّبت الرّسل، فدمّرهم الله تعالى عن آخرهم بعذاب شديد: هو إنزال حجارة ممطرة من السماء عليهم، فأهلكتهم وأبادتهم.
وهذه آيات مجيدة تصف أفعال هؤلاء القوم وعقابهم، قال الله تعالى:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٦٠ الى ١٧٥]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤)
أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩)
فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥)
«١» «٢» «٣» «٤»
(١) متجاوزون الحدّ في المعاصي.
(٢) أي المطرودين.
(٣) أي المبغضين لفعلكم أشدّ البغض.
(٤) أي الباقين في العذاب.
1847
«١» [الشّعراء: ٢٦/ ١٦٠- ١٧٥].
المعنى: كذب قوم لوط نبيهم المرسل إليهم، وهو لوط عليه السّلام، حين قال لهم أخوهم في القبيلة والنّسب: ألا تخافون عذاب الله بترك معاصيه، فإني رسول لكم مؤتمن على تبليغ رسالة ربي، فاتقوا الله بفعل ما أمركم به، وترك ما نهاكم عنه، وأطيعوني فيما آمركم به من عبادة الله عزّ وجلّ وحده، والتّزوج الطّبيعي بالعقد الشّرعي بالنّساء، وترك إتيان الذكور والفواحش. ولا أطلب منكم أجرا أو جزاء على تبليغ رسالتي، فما جزائي إلا على الله ربّ العوالم كلها من الإنس والجن. وهذه مقالة اشترك فيها جميع الأنبياء في بلاد الشام وبلاد العرب.
ثم وبّخهم لوط على فعلتهم الشنيعة وهي إتيان الذكور، قائلا: كيف تقدمون على شيء شاذّ طبعا وعقلا، وهو وطء الرجال والصبيان، ولا سيما الغرباء. وتتركون ما خلق الله لكم بنحو سليم ومفيد: وهو إتيان النساء بالزواج، للمتعة، وإنجاب الذّريّة، وبقاء النوع الإنساني، بل أنتم قوم متجاوزون الحدّ في الظلم، وفي جميع المعاصي.
فقال له القوم أولو القبائح: لئن لم تنته يا لوط عن ادّعائك النّبوة، وعن الإنكار علينا فيما نمارسه من إتيان الذكور، لنطردنك من هذه البلدة التي نشأت فيها، ونبعدنك كما أبعدنا من قبلك، فأجابهم: إني لمن المبغضين أشدّ البغض لعملكم، فلا أرضاه ولا أحبّه، وإني بريء منكم ومن عملكم، وإن هددتموني بالطّرد.
ثم دعا لوط عليه السّلام ربّه قائلا: يا ربّ نجني وخلّصني وأهلي الصالحين مما يعملون ومن عقوبة معاصيهم، ومن شؤم عملهم.
(١) أهلكناهم.
1848
فأجاب الله دعاءه، ونجاه وأهل بيته المؤمنين الصالحين، وكل من آمن برسالته، ليلا، وأنقذهم من العقاب الجماعي الذي أنزله بالقوم، إلا امرأة عجوزا هي امرأته، وكانت عجوز سوء، لم تؤمن بدين لوط، وتدلّ القوم على ضيوفه، بقيت مع القوم، ولم تخرج، فهلكت، كما في آية أخرى: إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ [هود: ١١/ ٨١] لرضاها بسوء أفعالهم، ونقل الأخبار إليهم.
ثم أهلك الله القوم الآخرين الباقين الذين انغمسوا في المنكرات، وكفروا بالله، ولم يؤمنوا برسله. وأمطر الله عليهم حجارة من سجّيل منضود، فبئس هذا المطر مطر المهلكين المنذرين بالهلاك. وكان عقابهم في الجملة زلزالا شديدا، جعل بلادهم عاليها سافلها.
إن في تلك القصة- قصة لوط مع قومه- لعبرة وعظة لكل متأمل، حيث أهلك الله العصاة، وهم أهل اللواط، ولم يكن أكثرهم مؤمنا بالله ورسله، وإن ربّك لهو القوي الغالب القاهر المنتقم من أعدائه، الرحيم بأوليائه المؤمنين أهل التوبة والغفران. فما أشدّ هذا العذاب في الدنيا، ولعذاب الآخرة أشدّ وأبقى.
رسالة شعيب عليه السّلام لأصحاب الأيكة
أصحاب الأيكة، أي غيضة الشجر الملتفّ: هم أهل بلدة قرب مدين، بعث الله إليهم وإلى مدين شعيبا عليه السّلام، ولم يكن أخاهم في النسب، وإنما هو أخوهم من حيث هو رسولهم، وآدمي مثلهم، أي أخوهم في الإنسانية، بعثه الله إليهم بصفة مصلح اجتماعي، لتصحيح أوضاعهم من بخس الكيل والميزان وتطفيفه، والإفساد الشديد في الأرض، فكذّبوه فأهلكهم الله بعذاب يوم الظّلّة، أي سحابة الغضب
1849
التي أمطرتهم نارا، فاحترقوا جميعا. وهذه آيات شريفة، تدوّن مشاهد القصة ونهايتها، لتكون عبرة للمعتبر، قال الله تعالى:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٧٦ الى ١٩١]
كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠)
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥)
وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» [الشّعراء: ٢٦/ ١٧٦- ١٩١].
هذه آخر قصة من القصص السّبع المذكورة في سورة الشّعراء، بقصد إيناس النّبي صلّى الله عليه وسلّم، عما لقيه من إعراض قومه عن دعوته، وما أصابه من همّ وحزن، ومفادها:
كذّب أصحاب الأيكة، أي الغيضة: وهي الشجر الكثير الملتف، رسولهم شعيبا عليه السّلام حين قال لهم: ألا تتّقون عذاب الله وغضبه، إني لكم رسول، مؤتمن على رسالة الله، فاتّقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، وأطيعوني فيما آمركم وأنهاكم. وما أطلب منكم أجرا أو عوضا على تبليغ رسالة ربّي، وإنما ثوابي على الله ربّ الإنس والجنّ. هذه نصائح عامة.
ثم نصحهم بنصائح خاصة تتّفق مع سوء أحوالهم، وهي أربع نصائح:
(١) أصحاب الغيضة الكثيفة.
(٢) من الناقصين لحقوق الناس.
(٣) لا تنقصوا.
(٤) لا تفسدوا فسادا شديدا.
(٥) أي ذوي الجبلّة وهي الخلقة والطبيعة من أهل القرون.
(٦) أي قطعا وجوانب.
(٧) أصل الظّلة: ما يظلل الإنسان، والمراد هنا سحابة الغضب التي أمطرتهم نارا، والعذاب الذي أهلكهم.
1850
١- إيفاء الكيل والميزان، أي إذا بعتم فأتموا الكيل والميزان، ولا تنقصوا أو تبخسوا الناس حقوقهم، وإذا اشتريتم فلا تزيدوا في الوزن والكيل، طمعا بأخذ أموال الناس بغير حق، كما لو بعتم، فإن الظلم يكون على السواء في الأخذ والعطاء. وزنوا بالميزان العادل السّوي. وهذا هو معنى تطفيف الكيل والميزان، في قوله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) [المطفّفين: ٨٣/ ١- ٣].
٢- ترك الظلم: أي لا تنقصوا الناس أموالهم أو حقوقهم في أي شيء مكيل أو موزون، مزروع أو معدود، فشمل جميع المقادير، وجميع الحقوق الأدبية والمعنوية.
٣- الإقلاع عن الفساد والإفساد، أي ولا تفسدوا في الأرض بقطع الطريق، والإغارة، والنّهب والسّلب، والقتل وإتلاف الزرع وغير ذلك من ألوان الفساد.
٤- اتّقاء الله، أي وخافوا بأس الله الذي أنعم عليكم بالإيجاد والخلق، وأوجد من تقدّمكم من ذوي الخلقة المتقدمين، وقوله: وَالْجِبِلَّةَ معناه القرون والخليقة الماضية.
فطعنوا برسالة شعيب قائلين كقوم صالح: إنما أنت من المغلوب على عقولهم، المسحور المخبول، فلا يسمع قولك ولا يؤبه لنصحك. ويغلب على الظّن أنك تتعمّد الكذب، ولست رسولا من عند الله، وإنما أنت بشر مثلنا لا ميزة لك علينا.
ثم استخفّوا بالتهديد، مطالبين بقولهم: إن كنت صادقا في تهديدك ووعيدك لنا بالعذاب، فأنزل علينا قطعا من السحاب، فيها نوازل العذاب. فأجابهم شعيب عليه السّلام: ربّي أعلم بعملكم، فيجازيكم عليه، إما عاجلا وإما آجلا.
فعادوا إلى تكذيبه وأصرّوا عليه، فأنزل الله عليهم عذاب يوم الظّلّة، أي يوم العذاب، وهو تعرّضهم لحرّ شديد، فخرجوا إلى البرية، فأظلّتهم سحابة، وجدوا لها بردا ونسيما، فتجمّعوا تحتها، فأمطرت عليهم نارا، فاحترقوا جميعا.
1851
إن في تلك القصة البليغة لعظة وعبرة لأهل مكة وغيرهم من المشركين، ولم يكن أكثرهم مؤمنين، وإن ربّك أيها النّبي لهو القوي القادر القاهر الغالب، الرحيم بعباده المؤمنين.
إنزال القرآن من عند الله بالعربية
القرآن الكريم كتاب الكون الأكبر، والحياة الشاملة العامة ليوم القيامة، والدستور الإلهي المحكم في مختلف جوانب الحياة العقدية والتّعبّدية والتّعاملية، وهو حجة الله على خلقه، شفاء لما في الصدور، وربيع القلوب، وجلاء الأحزان والهموم، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن نطق به هدي إلى صراط مستقيم. وهو المعجزة الدائمة على صدق نبوات الأنبياء وخاتم النّبيين، وآية التّكريم والإعزاز للعرب قاطبة، لنزوله بلسان عربي مبين، وأبلغ وأفصح ما في اللغة العربية من بيان، فهو يتحدى البشرية كافة بأن يأتوا بمثله، ولن يستطيعوا، لأنه كلام رب العالمين، كما تقرر الآيات الآتية:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٩٢ الى ٢٠٤]
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦)
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١)
فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤)
«١» «٢» «٣» «٤» [الشّعراء: ٢٦/ ١٩٢- ٢٠٤].
(١) أي في كتب السابقين كالتّوراة والإنجيل.
(٢) أدخلنا التكذيب بالقرآن. [.....]
(٣) فجأة.
(٤) ممهلون لنؤمن.
1852
هذا ردّ قاطع مفحم على أولئك العرب الذين زعموا أن القرآن من عند محمد، أو أنه كهانة أو سحر، وإنما هو من عند الله تبارك وتعالى، وكان تنزيله تدريجا من ربّ العالمين، نزل به جبريل الأمين على الوحي، على قلبك أيها النّبي، أي على روحك المدركة الواعية، وأفهمك إياه، سالما من كل شائبة أو نقص أو زيادة، لتنذر به قومك والعالم كله بأس الله وغضبه على من خالفه، وتبشّر به المؤمنين بالجنة، وكان إنزاله بلسان عربي، فصيح، بيّن، واضح، قاطع للعذر.
وإن الحديث عن هذا القرآن مذكور في الكتب المنزلة القديمة، تنبّه عليه، وتشير إليه، كما جاء على لسان عيسى عليه السّلام: وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصّفّ: ٦١/ ٦]. والزّبر: هي الكتب، جمع زبور، ومنها زبور داود عليه السّلام، أي كتابه.
هذا هو البرهان الأول على صدق نبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، والبرهان الثاني: أو ليس يكفيهم شاهد على صدقه أن علماء بني إسرائيل يجدون الكلام عن هذا القرآن مذكورا في كتبهم التي يدرسونها من التوراة والإنجيل؟! فهم كانوا يعلّمونه حقّ العلم، كعبد الله بن سلام ونحوه. وهذا احتجاج عليهم بأنهم كان ينبغي أن يصحح عندهم أمره.
ولقد حكى الثعلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا قال: إن أهل مكة بعثوا إلى أحبار يثرب يسألونهم عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: هذا زمانه، ووصفوا بعثه، ثم خلطوا في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت الآية في ذلك.
وذكر علماء بني إسرائيل فعلا أن في التوراة صفة النّبي صلّى الله عليه وسلّم.
غير أن المشركين لا تنفعهم الدلائل والبراهين، فلو فرضنا أننا أنزلنا هذا القرآن العربي على بعض الأعاجم، وهم كل من لا ينطق باللغة العربية، فقرأه أعجمي على
1853
مشركي العرب، لم يؤمنوا به، لعدم استعدادهم لفهمه، وتكذيبهم به، ولأنه قد تحتم عليهم الكفر بسوء اختيارهم، فلا سبيل إلى إيمانهم، فهم أي قومك أيها النّبي لا يؤمنون بالقرآن، حتى يروا العذاب الأليم محدقا بهم، فجأة من غير إنذار، وهم لا يشعرون به. والفاء التي في الآية فَقَرَأَهُ ليست للترتيب الزمني، بل للترتيب الرّتبي.
والمراد لا فرق بالنسبة للمشركين العرب، سواء أنزل الله هذا القرآن على رجل عربي اللسان، أو أعجمي وهو كل من لا يفصح، وإن كان عربيّا، فإنهم يكفرون به، لعنادهم وتعنّتهم.
ثم أكّد الله تعالى موقفهم المتعنّت من القرآن فيما معناه: بأننا مكّنّا الكفر في قلوبهم، فمثل إدخالنا التكذيب بالقرآن في قلوبهم، لو قرأه عليهم أعجمي، أدخلناه في قلوب المجرمين كفار مكة. والمقصود: أنه مهما فعلنا من إنزال القرآن على أعجمي أو عربي، فلا سبيل لإيمانهم، وتغيير جحودهم وإنكارهم، فإن الكفر والتكذيب للقرآن متمكّن في قلوبهم، فلا ينفعهم في اقتلاع الكفر من نفوسهم أية وسيلة من العلاج والإصلاح.
ثم زاد الله الأمر تأكيدا وتوضيحا، بأنهم يظلّون كافرين غير مؤمنين بالقرآن والحقّ الذي من عند الله، حتى يعاينوا العذاب المؤلم أشدّ الإيلام، وإن هذا العذاب الآتي يأتيهم فجأة، دون أن يشعروا بمجيئه، فيتمنّون حينئذ تأخير العذاب قليلا، ليتداركوا ما فاتهم، فيقولوا: هل نحن ممهلون؟! ومع هذا كله هم جماعة حمقى، كيف يطلبون تعجيل العذاب؟ وهم حين يرون نزول العذاب يطلبون التأخير والإمهال، فهم قوم متناقضون.
1854
تمتّع الكفار بالدّنيا وشكّهم بالقرآن
إن أهم سبب لبعد الكفار عن الإيمان بالقرآن ونبي الإسلام: إنما هو حبّ الدنيا وزخارفها، والحرص على المصالح المادّية فيها، واتّباع الأهواء، وحبّ النّفوذ والتّسلّط، وفي دائرة التأثّر بهذا السبب تتعدد أساليب الإنكار والطعن بالقرآن، وكلها في الواقع في نظر الطاعن غير مقنعة ولا مقبولة، ولكن ذلك وسيلة الهروب من المواجهة في تحدّي القرآن ونبيّه. وسرعان ما ينكشف الأمر، ويفاجأ الطاعن بالمصير المشؤوم، بعد تمتّعه بنعم الدنيا مدة قصيرة من الزمان، وهذا ما أطلعنا عليه القرآن الكريم في الآيات الآتية:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢٠٥ الى ٢١٢]
أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩)
وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢)
«١» [الشّعراء: ٢٦/ ٢٠٥- ٢١٢].
هذه دعوة سريعة في هذه السورة إلى توبيخ قريش على استعجالهم عذاب الله تعالى في طلبهم سقوط السماء كسفا وغير ذلك، وقولهم لمحمد صلّى الله عليه وسلّم: أين ما تعدنا؟ أي أنه لا ينبغي لهم ذلك، لأن عذابنا بالمرصاد ينتظرهم إذا حان حينه. ثم خاطب الله تعالى محمدا صلّى الله عليه وسلّم بإقامة الحجة عليهم في أن مدة الإرجاء والإمهال لا يعني منع نزول العذاب بعدها ووقوع النقمة، وذلك في هذه الآيات.
ومعناها: لو طال نزول العذاب وتمتّع كفار قريش بنعم الدنيا طوال سنين، ثم جاءهم العذاب الموعود به فجأة، فلا يجدي عنهم أي شيء، ولا ما كانوا فيه من
(١) أخبرني.
1855
النعيم، ولا يخفف من عذابهم، ولا يدفعه، أي النعيم عنهم، لأن مدة التمتع في الدنيا قليلة، مهما طالت، ومدة العذاب في الآخرة دائمة.
عن ميمون بن مهران أنه لقي الحسن البصري في الطواف بالكعبة، فقال له:
عظني، فلم يزد على تلاوة هذه الآية، فقال ميمون: لقد وعظت فأبلغت.
ثم أبان الله تعالى قانونه العام القائم على العدل التام في تعذيب الناس، وهو أنه لا يعذّب قوما إلا بعد إنذار، ومفاده: وما أهلكنا من قوم في قرية أو بلد إلا بعد إرسالنا رسلا إليهم ينذرونهم من عذابنا على كفرهم، ويبشّرونهم بالنعيم إن آمنوا وأطاعوا، وذلك تذكرة لهم، وتنبيه إلى ما يجب عليهم القيام به، ولم نكن في أي حال ظالمين لهم في عقابهم، وإنما إهلاكهم في حال إصرارهم على الكفر، وعبادة غير الله، وتحدّي ما أنزل الله. إنه سبحانه وتعالى يخبرنا أنه لم يهلك أهل بلد أو قرية إلا بعد إرسال من ينذرهم عذاب الله تعالى، ذكرى لهم وتبصرة، وإقامة حجة، لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النّساء: ٤/ ١٦٥]. وفي هذا عدل استوجب أن ينفي الله عزّ وجلّ عن جهته الظلم، إذ هو مما لا يليق به.
ثم ردّ الله تعالى على المشركين في مكة وأمثالهم القائلين: إن هذا القرآن كهانة، فكذّبهم الله تعالى بأن هذا القرآن العظيم لم تتنزل به الشياطين كسائر ما ينزل على الكهنة، ولا يتيسّر لهم ولا يسهل ولا يتمكنون من ذلك، فهم عن سمع الملائكة التي تنزل بالوحي مرجومون بالشهب، معزولون عن استماع كلام أهل السماء، إن إنزال القرآن ممتنع على الشياطين لأسباب ثلاثة:
أولها: أنه ليس هو مبتغى لهم ولا مطلوبا منهم، لأن من سجاياهم الفساد وإضلال العباد، وفي القرآن الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، والقرآن هدى ونور، فلا تلتقي أهدافه مع مقاصد الشياطين.
1856
الثاني: أنه لو تمكّنت الشياطين من القرآن لما استطاعوا تحمله، كما قال الله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر:
٥٩/ ٢١].
الثالث: لو استطاعت الشياطين حمل القرآن، لما تمكّنوا من الوصول إليه لأنهم معزولون عن سماع القرآن، ومطرودون من مقاعد السمع، لأن السماء ملئت حرسا شديدا وشهبا في مدة إنزال القرآن على رسوله، فلم يتمكّن أحد من الشياطين من استماع حرف واحد من القرآن، لئلا يشتبه الأمر ويضيع الهدف.
أصول الدعوة إلى الله تعالى
لقد كان النجاح الباهر في اتّباع أساليب الدعوة الإسلامية منطويا على مقومات وأصول وآداب كثيرة، توّجت بالبدء بإثبات وجود الله تعالى وتوحيده، ثم التركيز أولا في ممارسة الدعوة على العشيرة الأقارب، والتّحبّب إلى الآخرين بإظهار الاحترام والتواضع لهم، وإعلان البراءة منهم ومن أعمالهم إن أصرّوا على المخالفة، ثم تفويض الأمر إلى الله تعالى والثقة به وبنصره وتأييده، والاعتماد عليه، ففي التوكل على الله تعالى بعد اتّخاذ الأسباب والقيام بالواجب نجاة وإيمان، وحبّ لله وإعظام، وإثبات أن الأمر كله لله، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ويحقّق ما يتفق مع الحكمة، ومع علمه الشامل بمدى استعداد الإنسان لقبول الهداية، والخروج من دائرة الكفر والجحود، قال الله تعالى مبيّنا أصول الدعوة إليه:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢١٣ الى ٢٢٠]
فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧)
الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠)
«١»
(١) تواضع.
1857
[الشّعراء: ٢٦/ ٢١٣- ٢٢٠].
أخرج ابن جرير الطبري عن ابن جريج قال: لما نزلت: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) بدأ بأهل بيته وفصيلته، فشقّ ذلك على المسلمين، فأنزل الله: اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥).
وصّى الله عزّ وجلّ نبيّه صلّى الله عليه وسلّم بالثّبات على أمر الله تعالى، وأمره بأربعة أوامر:
الأول- اعبد الله وحده لا شريك له، وادع إلى توحيده وعبادته دون سواه، وإياك أن تعبد معه إلها آخر، فإن العبادة لا تكون إلا لله سبحانه، وإذا دعوت إلى عبادة غير الله سبحانه، فتكون من جملة المستحقّين للعذاب. وهذا الخطاب للنّبي صلّى الله عليه وسلّم يراد به خطاب أمته، وبما أنه قدوة المسلمين، بدأ الله تعالى بتوعّده إن دعا مع الله إلها آخر.
الثاني- أمر الله نبيّه بالبدء بإنذار أقاربه في العشيرة بأس الله وعذابه لمن أشرك به سواه، إذ العشيرة- وهي قرابة الرجل- مظنّة المقاربة والطواعية، فيكون البدء بهم أولى، ترفّعا عن المجاملة والمهادنة، ولأن تحصين الإنسان بقرابته وعنايته بهم أولى من غيرهم، وهذا التخصيص داخل في جملة الأمر العام بإنذار العالم. وقد حقّق النّبي صلّى الله عليه وسلّم مقتضى هذا الأمر، فجمع عشيرته مرتين، فدعاهم إلى توحيد الله وأنذرهم ووعظهم، ونادى عمه العباس، وعمته صفية وفاطمة ابنته رضي الله عنهم قائلا فيما
رواه الطبراني وغيره: «لا أغني عنكم من الله شيئا، إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد». ثم نادى على جبل الصفا أو أبي قبيس: «يا بني عبد مناف، وا صباحاه»،
(١) يرى تنقّلك في الصلاة مع المصلّين.
1858
فاجتمع إليه الناس من أهل مكة، فقال: «يا بني فلان، يا بني فلان»، حتى أتى على بطون قريش جميعا ثم قال لهم: «أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد الغارة عليكم، أكنتم مصدّقي؟» قالوا: نعم، فإنّا لم نجرّب عليك كذبا، فقال لهم:
«فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال له أبو لهب لعنه الله: ألهذا جمعتنا؟ تبّا لك سائر اليوم، فنزلت: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) السورة.
الثالث- يأمرك الله أيها النّبي بخفض الجناح، أي لين الكلمة وبسط الوجه والبرّ، والرّفق بمن آمن بدعوتك، فذلك أطيب لقلوبهم. فإن عصاك أحد ممن أنذرتهم من عشيرتك وغيرهم، فقل: إني بريء من أعمالكم التي ستجازون عليها يوم القيامة.
الرابع- فوّض أمورك كلها أيها النّبي إلى الله القوي القاهر الغالب القادر على الانتقام من أعدائه، الرّحيم بأوليائه ونصرائه، الذي يراك حين تقوم للصلاة بالناس، ويرى أحوالك في العبادة متقلّبا من قائم إلى قاعد، وراكع إلى ساجد، فيما بين الساجدين أي المصلّين، وعبّر عن الصلاة بالسجود، لأن العبد أقرب ما يكون من ربّه، وهو ساجد. فقوله تعالى: فِي السَّاجِدِينَ أي في أهل الصلاة، أي صلاتك مع المصلّين. وقيل: أراد تقلّبك في المؤمنين، أو أنه أراد تقلّبك كتقلّب غيرك من الأنبياء.
إن الله ربّك هو السميع لأقوال عباده، العليم بأفعالهم وحركاتهم وسكناتهم ونواياهم. وختم الله الآية بهذا: لإرشاد الناس وإخبارهم بأن الله سميع لكل ما يصدر عنهم، عليم بكل أفعالهم وأقوالهم.
تنزل الشياطين على الأفّاكين
إن افتراءات المشركين ومزاعمهم بأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم كاهن أو شاعر: واضحة لا تحتاج إلى إبطال أو دحض، ومع ذلك جاء القرآن الكريم مبيّنا أسطورة تنزل الشياطين على
1859
النّبي، لإزالة كل ما قد يعلق في الذهن من مزاعم وأباطيل، ولإحقاق الحقّ وإظهار نصاعته وقوّته في صراع الباطل، وبقائه أمرا ثابتا خالدا على ممرّ الزمان. وبالمناسبة أبان الله تعالى دور الشياطين في أخيلة الشعراء الذين يتّبعونهم ويستمعون لإيحاءاتهم، ما عدا أهل الإيمان والصلاح الذين يعتدلون في إنشاد أشعارهم وإبداع قصائدهم، فيبتعدون عن المبالغات، ويلتزمون سداد القول. قال الله تعالى في الرّدّ على افتراءات مشركي مكة وأمثالهم:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢٢١ الى ٢٢٧]
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥)
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧)
«١» «٢» [الشّعراء:
٢٦/ ٢٢١- ٢٢٧].
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: تهاجى رجلان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أحدهما من الأنصار، والآخر من قوم آخرين، وكان مع كل واحد منهما غواة من قومه، وهم السّفهاء، فأنزل الله تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) الآيات.
ومعنى الآيات يتضمن الرّد على افتراءين للمشركين حول القرآن والرسول، وهما الكهانة والشعر. فليس القرآن من جنس ما تتلقّاه الكهنة عن الشياطين، وليس هو من الشعر في شيء، كما أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم ليس كاهنا ولا شاعرا.
أما الرّد على الفرية الأولى فمضمونه: هل أخبركم خبرا حقيقيّا نافعا لكم، ألا وهو: من الذي تتنزل عليه الشياطين؟ إنه استفهام وتقرير. تتنزل الشياطين على كل
(١) كثير الكذب.
(٢) يخوضون.
1860
أفّاك، أي كذّاب، آثم، فاجر فاسق، من الكهنة المتنبّئين، وهم الذين كانوا يتلقّون من الشيطان الكلمة الواحدة التي سمعت من السماء، فيخلطون معها مائة كذبة، فإذا صدقت تلك الكلمة، كانت سبب ضلالة لمن سمعها، إن الشياطين يلقون السمع المسموع من الملائكة، ويكذّبون فيما سمعوه، وأكثر الشياطين كاذبون فيما يوحون به إلى الكهنة، لأنهم يسمعونهم ما لم يسمعوا، فتكون أخبار الكهنة مبنية على الإفك والكذب. وهذا يقتضي نفي كلامهم عن كلام الله تعالى، فإن ما يقول الشياطين ليس هو كلام الله سبحانه.
وكذلك الشعراء يبتعد كلامهم عن كلام الله تعالى في القرآن، إذ قال بعض الكفرة في القرآن: إنه شعر مثل شعر الجاهلية.
إن الشعراء هم القادة إلى النار، يتّبعهم الضّالّون من الإنس والجنّ، المنحرفون عن جادة الحقّ والاستقامة، ويأخذ بأقوالهم المستحسنون لأشعارهم، المصاحبون لهم.
ألم تعلم أيها النّبي وكل سامع أن الشعراء يخوضون في كل فنّ من الكلام، ويتناقضون مع أنفسهم، إنهم يمدحون الشيء بعد أن ذمّوه، ويذمّون الشيء بعد أن مدحوه. وأكثر قولهم الكذب، فهم يقولون ما لا يفعلون، ويدّعون ما لم يكن حادثا، ويبالغون في الوصف، ويقولون ما مبعثه محض الخيال، البعيد عن الواقع.
ثم استثنى الله تعالى فئة من الشعراء هم صادقون، لاتّصافهم بصفات أربع وهي:
الإيمان، والعمل الصالح، والذّكر الكثير لله تعالى، والانتصار على الظلم والظالمين، وهؤلاء هم شعراء الإسلام كحسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة.
أما الإيمان: فهو التّصديق بالله ورسوله، وأما العمل الصالح: فهو الجهاد في
1861
سبيل الله ونصرة النّبي والإسلام، والتزام الفرائض والأحكام وأعمال الخير، وأما ذكر الله: فهو أنهم يذكرون الله في أشعارهم كثيرا، وذلك خلق لهم وعادة وعبادة، كما قال لبيد حين طلب منه شعر: «إن الله أبدلني بالشعر القرآن خيرا منه». وأما الانتصار: فهم يدافعون عن الإسلام والقرآن، ويهجون الظلمة الذين يعارضون عقيدة الإسلام. وهذا إشارة إلى ما قاله شعراء الإسلام من الشعر وغيره في قريش. ثم ختمت الآية بوعيد الظّلمة كفّار مكة، وتهديدهم، فإنهم سيرون عاقبة ظلمهم، وإعراضهم عن تدبّر هذه الآيات.
إن هذه الآية يدخل فيها كل شاعر في الإسلام يهجو أو يمدح بغير حقّ، ويقذف الناس ولا يرتدع عن كل قول دنيء، كما يدخل فيها في الاستثناء كل تقي من شعراء الإسلام يكثر من ذكر الله ويمسك عن كل ما يعاب.
1862
Icon