تفسير سورة الواقعة

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة الواقعة من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

سورة الواقعة
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ».
«بِسْمِ اللَّهِ» : اسم جبّار من اعتنى بشأنه أحضره بإحسانه، فإن أبى إلّا تماديا في عصيانه حال بينه وبين اختياره «١» بقهر سلطانه، وإن لم يلازم هذه «٢» الطاعة ألجأه بالبلاء فيأتيها باضطراره.
اسم عزيز أزليّ، جبّار صمديّ، قهّار أحديّ، للمؤمنين وليّ، وبالعاصين حفيّ، ليس لجماله كفيّ، ولا في جلاله سميّ، لكنه «٣» للعصاة من المؤمنين وليّ.
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢)
إذا قامت القيامة لا يردّها شىء.
«كاذِبَةٌ» هاهنا مصدر: كالعافية، والعاقبة، أي: هى حقّة لا يردها شىء، وليس فى وقوعها كذب.
ويقال: إذا وقعت الواقعة فمن سلك منهاج الصحة والاستقامة وصل إلى السلامة ولقى الكرامة، ومن حاد عن نهج الاستقامة وقع في الندامة والغرامة، وعند وقوعها يتبين الصادق من المماذق:
إذا اشتبكت دموع في خدود تبيّن من بكى ممّن تباكى
[سورة الواقعة (٥٦) : آية ٣]
خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣)
(١) هكذا في ص وهي في م (إحسانه).
(٢) هكذا في م وهي في ص (شدة) الطاعة.
(٣) هكذا في م، وفي ص توجد كلمة غير واضحة الكتابة.
«خافضة» : لأهل الشقاوة، «رافِعَةٌ» : لأهل الوفاق.
«خافِضَةٌ» : لأصحاب الدعاوى، «رافِعَةٌ» : لأرباب المعاني.
«خافِضَةٌ» : للنفوس، «رافِعَةٌ» : للقلوب.
«خافِضَةٌ» : لأهل الشهوة، «رافِعَةٌ» : لأهل الصفوة.
«خافِضَةٌ» : لمن جحد، «رافِعَةٌ» : لمن وحّد.
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (٥٦) : آية ٤]
إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤)
حرّكت حركة شديدة.
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٥ الى ٦]
وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦)
فتّتت فكانت كالهباء الذي يقع في الكوّة عند شعاع الشمس.
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٨ الى ١٠]
فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠)
«ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ» ؟ على جهة التفخيم لشأنهم والتعظيم لقدرهم، (وهم أصحاب اليمن والبركة والثواب) «١».
«ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ» : على جهة التعظيم والمبالغة في ذمّهم، وهم أصحاب الشؤم على أنفسهم ويقال:
أصحاب الميمنة هم الذين كانوا في جانب اليمين من آدم عليه السلام يوم الذّرّ، وأصحاب المشأمة هم الذين كانوا على شماله.
(١) موجود في ص وغير موجود في م.
ويقال: الذين يعطون الكتاب بأيمانهم، والذين يعطون الكتاب بشمائلهم.
(ويقال: هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين.. إلى الجنة، والذين يؤخذ بهم ذات الشمال..
إلى النار) «١».
«وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ» : وهم الصف الثالث. وهم السابقون إلى الخصال الحميدة، (والأفضال الجميلة) «٢».
ويقال: السابقون إلى الهجرة. ويقال: إلى الإسلام. ويقال: إلى الصلوات الخمس.
ويقال: السابقون بصدق القدم. ويقال: السابقون بعلوّ الهمم. ويقال: السابقون إلى كل خير. ويقال السابقون المتسارعون إلى التوبة من الذنوب فيتسارعون إلى النّدم إن لم يتسارعوا بصدق القدم.
ويقال: الذين سبقت لهم من الله الحسنى فسبقوا إلى ما سبق إليه:
[سورة الواقعة (٥٦) : آية ١١]
أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١)
ولم يقل: المتقرّبون، بل قال: أولئك المقرّبون- وهذا عين الجمع، فعلم الكافة أنهم بتقريب ربّهم سبقوا- لا بتقرّبهم «٣».
[سورة الواقعة (٥٦) : آية ١٢]
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢)
أي: فى الجنة «٤». ويقال: مقربون إلا من الجنة فمحال أن يكونوا في الجنة ثم يقرّبون من الجنة، وإنما يقرّبون إلى غير الجنة: يقرّبون من بساط القربة...
وأنّى بالبساط ولا بساط؟! مقربون.. ولكن من حيث الكرامة لا من حيث المسافة مقرّبة نفوسهم من الجنة وقلوبهم إلى الحقّ.
مقرّبة قلوبهم من بساط المعرفة، وأرواحهم من ساحات الشهود- فالحقّ عزيز..
لا قرب ولا بعد، ولا فصل ولا وصل.
(١) موجودة في م وغير موجود في ص.
(٢) موجود في م وغير موجود في ص.
(٣) هذه إشارة إلى أن العمل الإنسانى- وحده- لا يعوّل عليه إذا قيس بالفضل الإلهى. [.....]
(٤) يتحدث القشيري هنا في ضوء حالى الفرق والجمع.
ويقال: مقربون ولكن من حظوظهم ونصيبهم. وأحوالهم- وإن صفت- فالحقّ وراء الوراء.
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ١٣ الى ١٤]
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤)
الثّلة: الجماعة. ويقال: ثلة من الأولين الذين شاهدوا أنبياءهم وقليل من الآخرين الذين شاهدوا نبيّنا صلى الله عليه وسلم.
ويقال: ثلّة من الأولين: من السلف وقليل من المتأخرين: من الأمة.
[سورة الواقعة (٥٦) : آية ١٥] «١»
عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥)
أي منسوجة نسيج الدرع من الذهب. جاء في التفسير: طول كل سرير ثلاثمائة ذراع، إن أراد الجلوس عليه تواضع، وإن استوى عليه ارتفع.
[سورة الواقعة (٥٦) : آية ١٦]
مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦)
أي لا يرى بعضهم قفا بعض. وصفهم بصفاء المودة وتهذّب الأخلاق.
[سورة الواقعة (٥٦) : آية ١٧]
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧)
يطوف عليهم وهم مقيمون لا يبرحون ولدان في سنّ واحدة... لا يهرمون.
وقيل: مقرّطون (الخلدة. القرط)
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ١٨ الى ٢٠]
بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠)
«بِأَكْوابٍ» جمع كوب وهي آنية بلا عروة ولا خرطوم، «وَأَبارِيقَ» : جمع إبريق وهو عكس الكوب (أي له خرطوم وعروة).
ولا صداع لهم في شربهم إياها، كما لا تذهب عقولهم بسببها.
ولهم كذلك فاكهة مما يتخيرون،
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٢١ الى ٢٤]
وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤)
وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ، وَحُورٌ عِينٌ، كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ، أي: المصون، جزاء بما كانوا يعملون.
(١) وضن الثوب نسجه بالجوهر، فهو واضن وهي واضنة والمفعول موضون.
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦)
اللغو: الباطل من القول، والتأثيم: الإثم والهذيان ولا يسمعون إلا قيلا سلاما، وسلاما: نعت للقيل.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩)
«وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ» : لا شوك فيه،
[سورة الواقعة (٥٦) : آية ٣٠]
وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠)
: والطلح شجر الموز، متراكم نضيد بعضه على بعض.
«وَظِلٍّ مَمْدُودٍ» كما بين الإسفار «١» إلى طلوع الشمس «٢». وقيل: ممدود أي دائم.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٣١ الى ٣٧]
وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥)
فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً (٣٧)
«وَماءٍ مَسْكُوبٍ» : جار لا يتعبون فيه.
«وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ» : لا مقطوعة عنهم ولا ممنوعة منهم.
«وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ» لهم. وقيل: أراد بها النساء «٣».
«إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً أي الحور العين.
«عُرُباً»
: جمع عروب «٤» وهي الغنجة المتحببة إلى زوجها. ويقال عربا: أي متشهّيات إلى أزواجهن.
«أَتْراباً» : جمع ترب، أي: هنّ على سنّ واحدة.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠)
«لِأَصْحابِ الْيَمِينِ» : أي خلقناهن لأصحاب اليمين.
«ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ» : أي: ثلة من أولى هذه الأمة، وثلة من أخراها.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٤١ الى ٤٣]
وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣)
: والسّموم فيح جهنم وحرّها.
والحميم: الماء الحار.
(١) طلوع الفجر أو الصبح.
(٢) سقطت (الشمس) من م.
(٣) لأن المرأة يكنى عنها بالفراش.
(٤) جاء عند البخاري: عروب مثل: صبور يسميها أهل مكة: العربة وأهل المدينة: الغنجة، وأهل العراق: الشّكلة (البخاري ح ٣ ص ١٣٢).

[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٤٤ الى ٤٧]

لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧)
«وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ»، وهو الدّخان الأسود.
«لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ» : لا بارد: أي لا راحة فيه. ولا كريم: ولا حسن لهم (حيث لا نفع فيه).
«إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ» : أي: كانوا في الدنيا ممتّعين.
«وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ» أي الذّنب العظيم.
«وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؟» أي: أنهم يكذّبون بالبعث.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٥١ الى ٥٢]
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢)
ثم يقال لهم: «إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ» اليوم «لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ» وجاء في التفسير: أن الزقوم شجرة في أسفل جهنم إذا طرح الكافر في جهنم لا يصل إليها إلا بعد أربعين خريفا.
[سورة الواقعة (٥٦) : آية ٥٣]
فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣)
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٥٤ الى ٥٥]
فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥)
«فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ» شراب لا تهنأون به «فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ» : وهي الإبل العطاش. ويقال: الهيم أي الرّمل ينضب فيه كلّ ما يصبّ عليه.
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٥٦ الى ٥٧]
هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦) نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (٥٧)
«هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ» : يوم القيامة.
قوله جل ذكره: «نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ» نحن خلقناكم:
يا أهل مكة- فهلّا آمنتم لتتخلصوا؟ توبّخون وتعاتبون واليوم تعتذرون! ولكن لا ينفعكم ذلك ولا يسمع منكم شىء.
وإن أشدّ العقوبات عليهم يومئذ أنهم لا يتفرّغون من آلام نفوسهم وأوجاع أعضائهم إلى التحسّر على مافاتهم في حقّ الله.
ويقال: أشدّ البلاء- اليوم- على قلوب هذه الطائفة «١» خوفهم من أن يشغلهم- غدا- بمقاساة آلامهم عن التحسّر على ما تكدّر عليهم من المشارب في هذا الطريق. وهذه محنة لا شىء أعظم على الأصحاب منها. وإنّ أصحاب القلوب- اليوم- يبتهلون إليه ويقولون: إن
(١) يقصد الصوفية.
حرمتنا مشاهد الأنس فلا تشغلنا بلذّات تشغلنا عن التحسّر على ما فاتنا، ولا بآلام تشغلنا عن التأسّف على ما عدمنا منك.
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٥٨ الى ٥٩]
أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩)
يقال: منى الرجل وأمنى. والمعنى: هل إذا باشرتم وأنزلتم وانعقد الولد... أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون؟ والخلق هاهنا: التصوير أي: أأنتم تجمعون صور المولود وتركّبون أعضاءه.. أم نحن؟
وهم كانوا يقرّون بالنشأة الأولى فاحتجّ بهذا (على جواز النشأة الأخرى عند البعث الذي كانوا ينكرونه. وهذه الآية أصل فى) «١» إثبات الصانع فإن أصل خلقة الإنسان من قطرتين: قطرة من صلب الأب وهو المنى وقطرة من تريبة الأم «٢»، وتجتمع القطرتان في الرّحم فيصير الولد. وينقسم الماء ان المختلطان إلى هذه الأجزاء التي هي أجزاء الإنسان من العظم والعصب والعرق والجلد والشّعر.. ثم يركبها على هذه الصور في الأعضاء الظاهرة وفي الأجزاء الباطنة حيث يشكّل كل عضو بشكل خاص، والعظام بكيفية خاصة.. إلى غير ذلك.
وليس يخلو: إمّا أن يكون الأبوان يصنعانه- وذلك التقدير محال لتقاصر علمهما وقدرتهما عن ذلك وتمنّيهما الولد ثم لا يكون، وكراهتهما الولد ثم يكون! والنّطفة أو القطرة محال تقدير فعلها في نفسها على هذه الصورة لكونها من الأموات بعد، ولا علم لها ولا قدرة.
أو من غير صانع.. وبالضرورة يعلم أنه لا يجوز.
فلم يبق إلّا أن الصانع القديم الملك العليم هو الخالق «٣».
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٦٠ الى ٦١]
نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١).
(١) ما بين القوسين موجود في م وغير موجود في ص.
(٢) تريبة الأم عظمة الصدر والجمع ترائب.
(٣) هذا نموذج طيب يصوّر طريقة القشيري متكلما.
يكون الموت في الوقت الذي يريده منكم من يموت طفلا ومنكم من يموت شابّا، ومنكم من يموت كهلا، وبعلل مختلفه وبأسباب متفاوتة وفي أوقات مختلفة.
«وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ» فى تقديرنا فيقوتنا شىء ولسنا بعاجزين عن أن نخلق أمثالكم، ولا بعاجزين عن تبديل صوركم التي تعلمون إن أردنا مسخكم وتبديل صوركم فلا يمنعنا عن ذلك أحد.
ويقال: وننشئكم فيما لا تعلمون من حكم السعادة والشقاوة «١».
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (٥٦) : آية ٦٢]
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (٦٢)
أي: أنتم أقررتم بالنشأة الأولى.. فهلّا تذكّرون لتعلموا جواز الإعادة إذ هي في معناها «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٦٣ الى ٦٤]
أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤)
أي: إذا ألقيتم الحبّ في الأرض.. أأنتم تنبتونه أم نحن المنبتون؟ وكذلك وجوه الحكمة في إنبات الزّرع، وانقسام الحبّة الواحدة على الشجرة النابتة منها (فى قشرها ولحائها وجذعها وأغصانها وأوراقها وثمارها) «٣» - كل هذا:
[سورة الواقعة (٥٦) : آية ٦٥]
لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥)
لو نشاء لجعلناه حطاما يابسا بعد خضرته، فصرتم تتعجبون وتندمون على تعبكم فيه، وإنفاقكم عليه، ثم تقولون:
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٦٦ الى ٦٧]
إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧)
أي: لملزمون غرامة ما أنفقنا في الزّرع، وقد صار ذلك غرما علينا- فالمغرم من ذهب إنفاقه بغير عوض.
(١) وضع هذا السطر في مكان تال بعد (فى معناها) فنقلناه إلى موصعه الصحيح.
(٢) أي أن الإعادة لا تفترق في شىء عن الخلق الأول.
(٣) ما بين القوسين موجود في م وغير موجود في ص.
«بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ» بل نحن محرومون بعد أن ضاع منّا الرزق.
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٦٨ الى ٧٠]
أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (٧٠)
أأنتم أنزلتموه من السحاب.. أم نحن ننزله متى نشاء أنّى نشاء كما نشاء على من نشاء وعلى ما نشاء؟ ونحن الذين نجعله مختلفا في الوقت وفي المقدار وفي الكيفية، فى القلّة وفي الكثرة.
ولو نشاء لجعلناه ملحا.. أفلا تشكرون عظيم نعمة الله- سبحانه- عليكم في تمكينكم من الانتفاع بهذه الأشياء التي خلقها لكم.
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٧١ الى ٧٣]
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣)
ورى الزّند يرى فهو وار وأوراه يوريه أي يقدحه.
يعنى: إذا قدحتم الزند.. أرأيتم كيف تظهر النار- فهل أنتم تخلقون ذلك؟
أأنتم أنشأتم شجرتها- يعنى المرخ والعفار «١» - أم نحن المنشئون؟
«نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً» : أي يمكن الاستدلال بها.
«وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ» : يقال: أقوى الرجل إذا نزل بالقواء أي: الأرض الخالية.
فالمعنى: أن هذه النار «تَذْكِرَةً» يتذكّر بها الإنسان ما توعده به في الآخرة من نار جهنم، و «مَتاعاً» : يستمتع بها المسافر في سفره في وجوه الانتفاع المختلفة.
(١) المرخ: شجر ينفرش ويطول في السماء ليس له ورق ولا شوك، سريع الورى يتقدح به.
والعفار: شجيرة من الفصيلة الأريكية لها ثمر لبّى أحمر، ويتخذ منها الزناد فيسرع الورى. وفي أمثال العرب:
«فى كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار». [.....]
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (٥٦) : آية ٧٤]
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤)
أي: اسبح بفكرك في بحار عقلك، وغص بقوة التوحيد فيها تظفر بجواهر العلم، وإيّاك أن تقصّر في الغوص لسبب أو لآخر، وإياك أن تتداخلك الشّبه فيتلف رأس مالك ويخرج من يدك وهو دينك واعتقادك... وإلّا غرقت في بحار الشّبه، وضللت.
وهذه الآيات «١» التي عدّها الله- سبحانه- تمهّد لسلوك طريق الاستدلال، فكما فى الخبر «فكر ساعة خير من عبادة سنة» - وقد نبّه الله سبحانه بهذا إلى ضرورة التفكير.
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٧٥ الى ٨٠]
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠)
قيل: هى مواقع نجوم السماء. ويقال: مواقع نجوم القرآن على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم.
«إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ» : والكرم نفى الدناءة- أي: أنه غير مخلوق «٢» ويقال: هو «قرآن كريم» : لأنه يدل على مكارم الأخلاق.
ويقال هو قرآن كريم لأنه من عند ربّ كريم على رسول كريم، على لسان ملك كريم. «فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ» : يقال: فى اللوح المحفوظ. ويقال: فى المصاحف. وهو محفوظ عن التبديل. «لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» عن الأدناس والعيوب والمعاصي.
(١) إذا تدبرنا هذه الآيات ألفينا القرآن يخاطب العقل الإنسانى بالتدبر في ثلاثة أشياء: الغذاء والماء والنار، وبدون الثلاثة لا تقوم الحياة ولا تنتظم.
(٢) هذه إحدى الأفكار الخطيرة التي اشتجر حولها الخلاف بين الأشاعرة الذين يقولون: (القرآن غير مخلوق) وبين المعتزلة الذي يقولون: إنه مخلوق.
ويقال: هو خبر فيه معنى الأمر: أي لا ينبغى أن يمسّ المصحف إلا من كان متطهرا من الشّرك ومن الأحداث «١».
ويقال: لا يجد طعمه وبركته إلّا من آمن به.
ويقال: لا يقربه إلّا الموحّدون، فأمّا الكفّار فيكرهون سماعه فلا يقربونه.
وقرئ المطهّرون: أي الذين يطهّرون نفوسهم عن الذنوب والخلق الدّنيّ.
ويقال: لا يمس خيره إلّا من طهّر يوم القسمة عن الشقاوة.
ويقال: لا يفهم لطائفة إلّا من طهّر سرّه عن الكون «٢».
ويقال: المطهّرون سرائرهم عن غيره.
ويقال: إلا المحترمون له القائمون بحقّه.
ويقال: إلا من طهّر بماء السعادة ثم بماء الرحمة «تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» : أي منزّل من قبله- سبحانه.
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٨١ الى ٨٢]
أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢)
أبهذا القرآن أنتم تنافقون، وبه تكذّبون.
«وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ... » : كانوا إذ أمطروا يقولون: أمطرنا بنوء كذا.
يقول: أتجعلون بدل إنعام الله عليكم بالمطر الكفران به، وتتوهمون أن المطر- الذي هو نعمة من الله- من الأنواء والكواكب؟!.
ويقال: أتجعلون حظّكم ونصيبكم من القرآن التكذيب؟.
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٨٣ الى ٨٥]
فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥).
(١) هى هنا جمع حدث أي النجاسة التي ترتفع بالوضوء أو الغسل أو التيمم.
(٢) لنتذكر أن هذا الكتاب الذي وضعه القشيري هو لفهم (لطائف الإشارات) القرآنية، ولندرك رأيه فى سمات هذا اللون من التفسير وأهله.
يخاطب أولياء الميت «١» فيقول: هلّا إذا بلغت روحه الحلقوم، وأنتم تنظرون إلى هذا المريض، رجعتم إلى الله تعالى، وتحققتم به؟ فنحن أقرب إليه منكم بالعلم والرؤية والقدرة...
ولكن لا تبصرون! ويقال: أقرب ما يكون العبد من الحقّ عند ما يتم استيلاء ذكره وشهوده عليه، فينتفى إحساس العبد بغيره، وعلى حسب انتفاء العلم والإحساس بالأغيار- حتى عن نفسه- يكون تحقّق العبد في سرّه حتى لا يرى غير الحقّ.
فالقرب والبعد معناهما: أنّ العبد في أوان صحوه وأنه لم يؤخذ- بعد- عن نفسه فإذا أخذ عنه فلا يكون إلا الحق... لأنه حينئذ لا قرب ولا بعد.
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٨٦ الى ٨٧]
فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٨٧)
ليس لكم من أمر الموت شىء.
«تَرْجِعُونَها» أي: تردّون الروح إلى الجسد.
«إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» : فى أنه لا بعث «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٨٨ الى ٨٩]
فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩)
المقرّبون هم الذين قرّبهم الله بفضله، فلهم «فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ».
ويقال: الرّوح الاستراحة، والريحان الرزق.
وقيل: الرّوح في القبر، والريحان: فى الجنة.
(١) فى م (البيت) وفي ص (الميت) وهذه هي الصواب.
(٢) نشعر أن تفسير القشيري هنا مقتضب، ويلزم التوضيح: ترتيب الآية هو: فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين.. أمّا نحن فنحن أقرب إليه منكم يا أهل الميت بقدرتنا وعلمنا أو بملائكة الموت.
أمّا أنتم.. فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن بعد بلوغه الحلقوم إن لم يكن ثمة قابض وكنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت والمبدئ المعيد؟!
ويقال: لا يخرج مؤمن من الدنيا حتى يؤتى بريحان من رياحين الجنة فيشمه قبل خروج روحه، فالرّوح راحة عند الموت، والريحان في الآخرة.
وقيل: كانت قراءة النبي (ص) «الروح» بضم الراء أي لهم فيها حياة دائمة.
ويقال: الرّوح لقلوبهم، والريحان لنفوسهم، والجنّة لأبدانهم.
ويقال: روح في الدنيا، وريحان في الجنة، وجنّة نعيم في الآخرة.
ويقال: روح وريحان معجّلان، وجنة نعيم مؤجلة.
ويقال: روح للعابدين، وريحان للعارفين، وجنّة نعيم لعوام المؤمنين.
ويقال: روح نسيم القرب، وريحان كمال البسط، وجنة نعيم في محل المناحاة.
ويقال: روح رؤية الله، وريحان سماع كلامه بلا واسطة، وجنة نعيم أن يدوم هذا ولا ينقطع.
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٩٠ الى ٩١]
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١)
أن نخبرك بسلامة أحوالهم.
ويقال: سترى فيهم ما تحب من السلامة.
ويقال: أمان لك في بابهم فلهم السلامة. ولا تشغل قلبك بهم ويقال: فسلام لك- أيها الإنسان- إنك من أصحاب اليمين، أو أيها الإنسان الذي من أصحاب اليمين.
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٩٢ الى ٩٤]
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤)
إن كان من المكذبين لله، الضالّين عن دين الله فله إقامة في الجحيم.
قوله جل ذكره:
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٩٥ الى ٩٦]
إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦)
هذا هو الحق اليقين الذي لا محالة حاصل.
«فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ» أي قدّس الله عمّا لا يجوز في وصفه.
ويقال: صلّ لله. ويقال: اشكر الله على عصمة أمّتك من الضّلال، وعلى توفيقهم فى اتّباع سنّتك.
Icon