تفسير سورة الصافات

أوضح التفاسير
تفسير سورة سورة الصافات من كتاب أوضح التفاسير المعروف بـأوضح التفاسير .
لمؤلفه محمد عبد اللطيف الخطيب . المتوفي سنة 1402 هـ

﴿وَالصَّافَّاتِ صَفَّا﴾ الملائكة تصطف في العبادة، أو تصف أجنحتها. قال تعالى على لسانهم ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّآفُّونَ﴾ أو هم المؤمنون يصطفون للصلاة. وقيل: الطير؛ لأن في صفها وقبضها، وإمساكها في الهواء؛ من آيات الله تعالى ودلائل قدرته ما فيه
﴿فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً﴾ الملائكة تزجر السحاب وتسوقه بأمر الله تعالى، أو هم المؤمنون: الزاجرون الناس عن المعاصي، الآمرون بالمعروف، الناهون عن المنكر
﴿فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً﴾ الذين يتلون القرآن؛ من سائر المخلوقات. والتأنيث في الجمع هنا على اعتبار أنه جمع طائفة، أو جماعة.
وقيل في هذه الآيات: إنها في المجاهدين؛ يصفون للقتال في سبيلالله، ويزجرون الخيل للجهاد، ويتلون الذكر طلباً للنصر أقسم الله تعالى بملائكته، وصفوة عباده، والمجاهدين في سبيله، والآمرين بالمعروف، الناهين عن المنكر، المنقطعين لعبادته، العاكفين على تلاوة كتابه. وجواب القسم
﴿إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ﴾ لا إله إلا هو، ولا معبود سواه
﴿رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ وما فيهما ﴿وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ من مخلوقات، وعجائب؛ لا يعلمها، ولا يحيط بها إلا خالقها ﴿وَرَبُّ الْمَشَارِقِ﴾ جمع مشرق؛ وذلك لأن الشمس لها في كل يوم مشرق ومغرب؛ بعدد أيام العام. أو هو مشرق كل نجم، وكل كوكب. ومشرق الشيء: نوره وطلوعه
﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا﴾ وهي أول سماء تلي الأرض ﴿بِزِينَةٍ﴾ وأي زينة ﴿الْكَوَاكِبِ﴾ جمع كوكب؛ وهي النجوم
﴿وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ﴾ متمرد، عنيد، جبار
﴿لاَّ يَسَّمَّعُونَ﴾ لا يتسمعون. أي لا يستطيعون التسمع ﴿إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى﴾ الملائكة في السماء ﴿وَيُقْذَفُونَ﴾ أي الشياطين الذين يحاولون استراق السمع: تقذفهم الملائكة بالشهب
﴿دُحُوراً﴾ طرداً. والدحور: الطرد والإبعاد. قال تعالى على لسانهم ﴿وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَآءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً﴾
﴿وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ﴾ دائم، موجع. من الوصب: وهو المرض الذي يصل إلى القلب
﴿فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ﴾ شعلة من نار تحرقه. والثاقب: النافذ؛ الذي يثقب. والشهب: هي التي ترى في الأفق، كأنها كواكب منقضة
﴿فَاسْتَفْتِهِمْ﴾ اسألهم ﴿أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً﴾ أعظم خلقة، وأمتن بنية، وأشق إيجاداً
-[٥٤٤]- ﴿أَم مَّنْ خَلَقْنَآ﴾ من السموات والأرضين، وما فيهما من كائنات ومخلوقات. والمراد: كل ما عدا بني آدم: من الملائكة، والجن، والسموات والأرضين، والكواكب، والبروج، وغير ذلك مما لا يدركه الوصف، ولا يحيط به الوهم ﴿إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ﴾ لازم؛ أي يلصق باليد
﴿بَلْ عَجِبْتَ﴾ من تكذيبهم لك؛ مع وضوح حجتك ﴿وَيَسْخُرُونَ﴾ مما أرسلت به؛ وهو الحق
﴿وَإِذَا ذُكِّرُواْ﴾ وعظوا بالقرآن ﴿لاَ يَذْكُرُونَ﴾ لا يتعظون
﴿وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ﴾ أي إذا رأوا آية لك، وعلامة على صدقك؛ كانشقاق القمر، ونبع الماء، وما أفاضه الله تعالى عليك من بركات شهدتها الأرض والسماء؛ إذا رأوا بعض ذلك: لم يكتفوا بالاستهزاء بك؛ بل يحضون بعضهم بالسخرية عليك
﴿وَقَالُواْ إِن هَذَآ﴾ ما هذا الذي أبديته ﴿إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ ظاهر واضح
﴿أَوَ آبَآؤُنَا الأَوَّلُونَ﴾ أي هل يبعث آباؤنا الأولون أيضاً؛ رغم قدمهم وبلاء أجسادهم؟
﴿قُلْ نَعَمْ﴾ تبعثون أنتم وآباؤكم الأولون ﴿وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ﴾ ذليلون صاغرون
﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ﴾ هي أمر المولى جل وعلا بإحياء الخلائق، أو هي نفخة إسرافيل عليه السلام الثانية ﴿فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ﴾ أحياء ينظر بعضهم لبعض
﴿وَقَالُواْ يوَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ﴾ يوم الجزاء
﴿وَأَزْوَاجَهُمْ﴾ أي أشباههم، أو قرناءهم من الشياطين {وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ *
مِن دُونِ اللَّهِ}
أي وأصنامهم التي كانوا يعبدونها ﴿فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ﴾ دلوهم إلى طريق جهنم، أو ادفعوهم إليه ﴿وَقِفُوهُمْ﴾ أي احبسوهم
﴿إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ﴾ عما قدموا؛ فمعذبون عليه
﴿مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ﴾ أي ما لكم لا ينصر بعضكم بعضاً الآن؛ كما كنتم تتناصرون في الدنيا
﴿بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ﴾ عاجزون أذلاء
﴿قَالُواْ﴾ أي قال الأتباع للمتبوعين ﴿إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ﴾ أي عن طريق القوة والقهر. والمعنى: إنكم كنتم تحملوننا على الضلال قسراً وجبراً
﴿سُلْطَانٍ﴾ تسلط وقوة
-[٥٤٥]- ﴿إِنَّا لَذَآئِقُونَ﴾ العذاب، وهو معنى قوله تعالى:
﴿فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ إِنَّا لَذَآئِقُونَ﴾
﴿فَأَغْوَيْنَاكُمْ﴾ أضللناكم ﴿إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ﴾ ضالين مضلين
﴿وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا﴾ التي نعبدها وآباؤنا من قبلنا ﴿لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ﴾ يعنون سيد الفضلاء والعقلاء: محمداً وما هو بشاعر ولا مجنون؛ بل خاتم الأنبياء وخير أهل الأرض والسماء ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً﴾
﴿بَلْ جَآءَ بِالْحَقِّ﴾ القرآن ﴿وَصَدَّقَ﴾ من سبقه وتقدمه من ﴿الْمُرْسَلِينَ﴾ فلم يكذب بأحدهم؛ بل صدق بجميعهم
﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ﴾ خمر يجري على وجه الأرض؛ كأنهار الماء التي ترى بالعين. ولا تسمى الكأس كأساً؛ إلا إذا كانت ملأى؛ وإلا فهي كوب
﴿بَيْضَآءَ﴾ صفة للكأس، أو صفة للخمر. وقرأ عبد الله «صفراء» ويؤيد أنها صفة للخمر قوله تعالى: ﴿لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ﴾ أي ليست كخمر الدنيا: كريهة الطعم، فاسدة الرائحة
﴿لاَ فِيهَا غَوْلٌ﴾ أي لا تغتال العقول كخمر الدنيا؛ التي تجعل شاربها يهرف بما لا يعرف ﴿وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ﴾ يسكرون؛ فيخلطون. يقال: نزف الشارب: إذا ذهب عقله. أو المعنى: ولا هم عنها يصرفون ويمنعون
﴿وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ﴾ اللاتي يقصرن أبصارهن على أزواجهن، فلا يطمحن بأعينهن إلى غيرهم ﴿عِينٌ﴾ جمع عيناء؛ وهي النجلاء: حسناء العين واسعتها
﴿كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ﴾ شبههن بالبيض المكنون في البياض والصفاء؛ وقد جرت عادة العرب في تشبيه النساء؛ بقولهم: بيضات الخدور
﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ﴾ أي بعض أهل الجنة ﴿عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ﴾ عما مر بهم في الدنيا؛ وذلك على سبيل المسامرة وقت الشراب
﴿قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ﴾ صديق مقارن لي في الدنيا
﴿يَقُولُ﴾ لي متعجباً ﴿أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ﴾ أي كان ينكر عليّ تصديقي وإيماني بالبعث
﴿أَإِنَّا لَمَدِينُونَ﴾ أي أئنا لمحاسبون ومجزيون؟ ﴿قَالَ﴾ هذا القائل لإخوانه؛ الذين يتكلم معهم، ويذكر لهم أخبار قرينه في الدنيا؛ الذي كان ينكر البعث والجزاء؛
قال: ﴿هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ﴾ أي هل أنتم ناظرون معي إلى النار؛ لننظر حاله وما صار إليه الآن عقوبة على إنكاره وتكذيبه
﴿فَاطَّلَعَ﴾ فنظر إلى النار هو ومن معه من أهل الجنة ﴿فَرَآهُ﴾ رأى قرينه في وسط النار
﴿قَالَ﴾ مخاطباً قرينه في النار ﴿تَاللَّهِ﴾ قسم فيه معنى التعجب ﴿إِن كِدتَّ﴾ قاربت ﴿لَتُرْدِينِ﴾ لتهلكني معك بإغوائك لي
﴿وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي﴾ لطفه ورحمته: أن هداني للإيمان ﴿لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾ معك في النار
{أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ *
إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى} التي متناها في الدنيا ﴿وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ بعد أن تداركتنا نعمة الله تعالى في الدنيا بالإيمان، وفي الآخرة بالنجاة من النيران وهو استفهام تلذذ، وتحدث بنعمة الله تعالى وتقرير لتأبيد الحياة المنعمة، وانعدام التعذيب
﴿إِن هَذَآ﴾ التنعم الخالد ﴿لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ الذي لا يدانيه فوز
﴿لِمِثْلِ هَذَا﴾ النعيم الدائم} في الدنيا
﴿أَذَلِكَ﴾ النعيم ﴿خَيْرٌ نُّزُلاً﴾ النزل: ما يعد لإكرام الضيف ﴿أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ﴾ هي من أخبث الشجر المر؛ ويوجد منه بتهامة. ينبتها الله في الجحيم؛ لتكون طعاماً لأهلها
﴿إِنَّا جَعَلْنَاهَا﴾ أي جعلنا ذكر هذه الشجرة، وأنها «تخرج في أصل الجحيم» ﴿فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ﴾ اختباراً للكافرين؛ حيث قالوا: إن النار تحرق الشجر؛ فكيف تنبته؟ وفاتهم أن الله تعالى هو وحده الذي اختص مخلوقاته بما شاء من مزايا؛ وهو جل شأنه، وتعالت قدرته؛ يرفع مزايا الأشياء إن شاء. ألا ترى أنه جل شأنه منع من النار مزية الإحراق؛ وجعلها برداً وسلاماً على إبراهيم حين شاء
﴿طَلْعُهَا﴾ ثمرها ﴿كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ﴾ كرءوس الحيات القبيحة المنظر
﴿ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ﴾ لخلطاً من ماء حار؛ يشوي الوجوه، ويقطع الأمعاء
﴿إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ﴾ وجدوا
﴿فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ﴾ يسرعون
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ﴾ أنبياء أنذروهم عاقبة كفرهم، ومآل أمرهم
﴿فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ﴾ أي عاقبة المرسل إليهم؛ حين كذبوا رسلهم؛ فأهلكناهم
﴿إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾ الذين آمنوا به، وصدقوا رسله؛ فإنهم لم يمسسهم العذاب
﴿وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ﴾ كان لنوح عليه السلام ثلاثة أولاد: سام: وهو أبو العرب، وفارس، والروم. وحام: وهو أبو السودان. ويافث: وهو أبو الترك، والخزر، ويأجوج ومأجوج
﴿وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ﴾ ممن تابعه في الدين ﴿لإِبْرَاهِيمَ﴾ الخليل: جد نبينا عليهم الصلاة والسلام
﴿إِذْ جَآءَ﴾ إبراهيم ﴿رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ خالص من الشك والشرك
﴿أَإِفْكاً آلِهَةً﴾ أي أتعبدون إفكاً؟ والإفك: أسوأ الكذب
﴿فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ إذ لقيتموه وقد عبدتم غيره؟ أتظنون أنه تارككم بغير حساب وعقاب؟ فانصرفوا عنه؛ بعد أن دعوه إلى مصاحبتهم
﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ﴾ أي نظر إلى السماء؛ موهماً لهم أنه يستطلع أخبار النجوم - وقد كانوا ممن يعتقدون ذلك - والتفت إليهم
﴿فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ﴾ أي عليل. وكانوا يخشون العدوى؛ ولذلك وصفهم الله تعالى بقوله:
﴿فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ﴾ أي أسرعوا بالابتعاد عنه.
وعلم التنجيم: علم قديم شائع ذائع. وقد شغف به كثير من المتقدمين، وأسسوا له أسساً، وبنوا له قواعد؛ وربطوا بين كل إنسان وما يتفق مع ولادته من طوالع الكواكب واقترانها، وقالوا بسعادة بعض الكواكب، ونحوسة بعضها. كما قالوا - تبعاً لذلك - بسعادة بعض المواليد، وشقاوة البعض الآخر. وما من شك أن هناك رابطة بين أجزاء الكائنات، وبالتالي بين الكواكب، وبين الكون الذي نحن فيه. كيف لا؛ والأرض كوكب من بين هاتيك الكواكب أما تعلق الكواكب بسعادة بعض الناس، وشقاوة البعض الآخر؛ فمما لا يسلم به الفكر السليم؛ فكثيراً ما نرى أناساً - لا حصر لهم - يموتون في الحروب؛ في وقت واحد، وآخرين يموتون في حرق أو غرق، وآخرين تحصدهم الأوبئة، وتجتاحهم الطواعين. فكيف اتفق لجميع هؤلاء الشقاوة والنحوسة، مع اختلاف طبائعهم، وتباين أوقات ميلادهم؟ وكثيراً ما نرى أيضاً الرجل صنو الرجل: في مولده، وفي معيشته، وفي دراسته؛ فيفترقان: هذا في قمة السعادة، وذروة المجد؛ وذاك في حضيض البؤس، ودرك الفقر
﴿فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ﴾ مال إليها سراً وخفية
﴿ضَرْباً بِالْيَمِينِ﴾ أي ضرباً بالقوة؛ فكسرها
﴿فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ﴾ يسرعون؛ حينما رأوا ما حل بآلهتهم
﴿قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ﴾ بأيديكم
﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ أي خلقكم، وما تعملونه بأيديكم من الأصنام؛ فكيف تعبدونها؟
﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي﴾ متجه إليه، ومتوكل عليه؛ فإنه ﴿سَيَهْدِينِ﴾ إلى معرفته، وإلى سبل الرشاد
﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينِ﴾ أي ولداً من الصالحين
﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ﴾ أي لما بلغ الولد أن يمشي، ويسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه؛ وهو إسماعيل جد نبينا؛ عليهما الصلاة والسلام، وقيل: هو إسحق. وأيد كلا القولين أقوام، ولكل فريق أدلة ساقها، ومراجع ذكرها؛ ولكن الفؤاد يرتاح إلى أنه إسمعيل لا إسحق؛ يدل عليه قوله تعالى في الآية المقبلة ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾ صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين ﴿قَالَ يبُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾ ورؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: وحي
﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا﴾ انقادا لأمره تعالى، ولإرادته جل شأنه: أسلم الأب ابنه، والابن نفسه ﴿وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ صرعه في الأرض على جبينه، ووضع السكين على حلقه
{وَنَادَيْنَاهُ أَن يإِبْرَاهِيمُ *
قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَآ} وفعلت ما أوحينا به إليك، وأمرناك به
﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ﴾ الاختبار البين
﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ قيل: نزل له جبريل عليه السلام بكبش عظيم؛ فذبحه مكان ابنه.
والقرآن الكريم لم يورد ما أورده من القصص عبثاً؛ وإنما أورده للذكرى والاعتبار والاستبصار وقد أراد الله تعالى بإيراد هذه القصة: أن يعلمنا إلى أي مدى يطيع الابن أباه؛ ليرضي مولاه فالواجب على من أحبالله، وأحبهالله: أن يكون مع والديه كالميت في يد المغسل: هل يستطيع أن يقول له أف لقد برد الماء، أو أف لقد زادت حرارته؟
﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ﴾ في الأمم المتأخرة بعده
﴿سَلاَمٌ﴾ منا ﴿عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ وهو - عليه الصلاة والسلام - يصلي عليه ويسلم كل مؤمن، في كل صلاة؛ تحية مباركة من الله
﴿وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ﴾ بتكثير ذريته من المؤمنين، وجعل ملته خير الملل «قل بل ملة إبراهيم حنيفاً» ﴿وَعَلَى إِسْحَاقَ﴾ أي وباركنا أيضاً على ولده إسحق، بأن جعلنا من نسله أكثر الأنبياء ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ﴾ مؤمن ﴿وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ﴾ كافر: ظلم نفسه؛ بتعريضها للجحيم، والعذاب الأليم
﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ﴾ بالنبوة
﴿وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا﴾ من آمن بهما من بني إسرائيل ﴿مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ استعباد فرعون لهم، وتقتيله لأبنائهم
﴿وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ﴾ القوي البيان؛ لما احتواه من أوامر ونواه، وحدود وأحكام، وغيرها. وهو التوراة
﴿وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ قيل: هو إدريس النبي عليه السلام؛ ويعضده قراءة ابن مسعود «وإن إدريس» مكان «إلياس» وهذه القراءة شاذة لمخالفتها المصحف الإمام.
و ﴿إِلْيَاسَ﴾ النبي؛ غير اليأس: جد نبينا عليه الصلاة والسلام. وصحة اسمه اليأس - بفتح الياء وسكون الهمز - لا «إلياس» كما رواه الرواة خطأ، ونقله عنهم الناقلون. وسمي بالياس: لأنه أول من ابتلي باليأس - بفتح الهمز - وهو السل
﴿أَتَدْعُونَ﴾ أتعبدون ﴿بَعْلاً﴾ اسم صنم لهم
﴿فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ﴾ في النار
﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ﴾ في الأمم المتأخرة بعده
﴿سَلاَمٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ﴾ أي على إلياس وقومه المؤمنين
﴿إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ﴾ أي الباقين في العذاب؛ وهي امرأته
﴿ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ﴾ أهلكناهم
﴿وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ﴾ أي على منازلهم، وتشاهدون آثارهم، وترون آثار نقمتنا وتعذيبنا ﴿مُّصْبِحِينَ﴾ وقت الصبح
﴿وَبِالْلَّيْلِ﴾ أي ترون ذلك في أسفاركم ليلاً ونهاراً ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ ذلك؛ فتتعظون بما حل بهم؟
﴿إِذْ أَبَقَ﴾ هرب من قومه، ومن تعذيبهم وأذاهم له. وأبق العبد: إذا هرب واستخفى ﴿إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ السفينة المملوءة
﴿فَسَاهَمَ﴾ أي فزاحم؛ ليأخذ له سهماً ونصيباً في ركوب الفلك ﴿فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾ أي فزلق في البحر. وكثيراً ما يحصل هذا عند التزاحم على الركوب في السفن المشحونة، وغيرها. يقال: دحضت رجله: زلقت. ودحضت الحجة: بطلت. أو «فساهم» من المساهمة. أي فقارع. قيل: إنه لما ركب في السفينة؛ وقفت بهم في عرض البحر. فقال الملاحون: لا بد أن يكون بيننا عبد آبق من سيده؛ واقترعوا فيما بينهم، فخرجت القرعة عليه. فقال: أنا الآبق. وألقى بنفسه في الماء. وسمي آبقاً: لأنه هرب من قومه قبل أن يأذن له ربه بالانصراف عنهم
﴿فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ﴾ ابتلعه ﴿وَهُوَ مُلِيمٌ﴾ أي واقع في الملامة، ومستوجب للوم
﴿فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ﴾
في بطن الحوت
﴿لَلَبِثَ﴾ لمكث ﴿فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ لم يفتر لسانه عليه الصلاة والسلام - حين التقمه الحوت - عن قول «لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين» فأنجاه الله تعالى بسببها؛ وقد ورد أن من قرأها في مهلكة: أنجاه الله تعالى منها بمنه وفضله
﴿فَنَبَذْنَاهُ﴾ طرحناه؛ كما ينبذ آكل التمر النواة ﴿بِالْعَرَآءِ﴾ جعل الله تعالى الحوت يقذفه من جوفه؛ في أرض عراء؛ لا شجر فيها ولا نبات ﴿وَهُوَ سَقِيمٌ﴾ مريض؛ مما حل به في بطن الحوت، ومما اعتراه من خشية غضب الله تعالى عليه
﴿وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ﴾ وهو الدباء «القرع» ويطلق اليقطين على كل شجرة تنبسط على وجه الأرض، ولا تقوم على ساق
﴿فَآمَنُواْ فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ أي إلى حين انقضاء آجالهم
﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ﴾ وذلك لقولهم: الملائكة بناتالله. أي كيف تنسبون له الولد؛ وهو تعالى ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾؟ ولم تكتفوا بذلك؛ بل نسبتم إليه البنات، وهن أخس الجنسين - في نظركم - قال تعالى ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ﴾
﴿مِّنْ إِفْكِهِمْ﴾ كذبهم
﴿أَصْطَفَى﴾ أي هل اختار
﴿مَا لَكُمْ﴾ أي ماذا دهاكم، وماذا جرى لعقولكم؟ ﴿كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ هذا الحكم الفاسد
﴿أَمْ لَكُمْ﴾ على ذلك الزعم ﴿سُلْطَانٌ مُّبِينٌ﴾ حجة ظاهرة على ما تدعونه
﴿فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ﴾ الناطق بصحة دعواكم ﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ في زعمكم ﴿وَجَعَلُواْ﴾ أي المشركون ﴿بَيْنَهُ﴾ تعالى ﴿وَبَيْنَ الْجِنَّةِ﴾ أي الملائكة؛ وسموا جناً: لاجتنانهم عن الأبصار؛ أي اختفائهم. أو أريد بالجنة: الجن ﴿نَسَباً﴾ وذلك لأن قريشاً زعمت أن الملائكة بنات الله وأمهاتهم من بنات الجن. وقيل:
﴿وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ﴾ أي الشياطين «نسباً» أي مناسبة؛ حيث أشركوهم به تعالى في استحقاق العبادة. والقول الأول: أولى ﴿وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ﴾ أي الملائكة ﴿إِنَّهُمْ﴾ أي قائلي ذلك ﴿لَمُحْضَرُونَ﴾ في النار؛ يعذبون فيها على ما قالوا، وما فعلوا
﴿سُبْحَانَ اللَّهِ﴾ تنزه، وتقدس، وتعالى ﴿عَمَّا يَصِفُونَ﴾ من نسبة الشريك والولد إليه
﴿إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾ الذين لم يشب إيمانهم شك أو شرك؛ فإنهم ناجون
﴿فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ﴾ من الأصنام
﴿مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ﴾ أي على الله ﴿بِفَاتِنِينَ﴾ أحداً. أي بمضلين، أو غالبين
﴿إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ﴾ في علمه تعالى؛ وقد تخلى عنه حفظه وكلاءته، وبعدت منه نعمته ورحمته
﴿وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ﴾ لا يتجاوزه، ولا يتعداه؛ وهو قول الملائكة عليهم السلام؛ تبرأوا مما نسبه إليهم المشركون
﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّآفُّونَ﴾ أقدامنا في الصلاة، وفي الطاعة
﴿وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ﴾ أي كفار مكة
﴿لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الأَوَّلِينَ﴾ أي لو أن عندنا كتاباً من جنس كتب المتقدمين؟ فنزل إليهم خير كتب الله تعالى، وأوفاها، وأهداها «القرآن»
﴿فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ عاقبة كفرهم.
﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا﴾ وعدنا وتقديرنا بالنصر
﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ﴾ أعرض ﴿حَتَّى حِينٍ﴾ أي إلى أن تؤمر بقتالهم
﴿وَأَبْصِرْهُمْ﴾ ذكرهم بتكذيبهم حين ينزل العذاب بهم ﴿فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾ عاقبة ذلك
﴿فَإِذَا نَزَلَ﴾ العذاب ﴿بِسَاحَتِهِمْ﴾ بفنائهم. والمراد: نزل بهم. وتعبر العرب عن القوم بالساحة
﴿وَتَوَلَّ عَنْهُمْ﴾ أعرض
﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ﴾ تعالى وتقدس ﴿رَبِّ الْعِزَّةِ﴾ رب العظمة والغلبة ﴿عَمَّا يَصِفُونَ﴾ بأن له شريكاً أو ولداً
﴿وَسَلاَمٌ﴾ من الله تعالى ﴿عَلَى الْمُرْسَلِينَ﴾ وأنت إمامهم
﴿وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أن هداك، وهدى بك
552
سورة ص

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

552
Icon