تفسير سورة النجم

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة النجم من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: ﴿ وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ ﴾ اختلف تفسير ﴿ ٱلنَّجْمِ ﴾ فمشى المفسر على أنه الثريا، وهي عدة نجوم، بعضها ظاهر، وبعضها خفي، وكان صلى الله عليه وسلم يراها أحد عشر نجماً، ومعنى هويه غيبوبته عند طلوع الفجر، وقيل: المراد به أي نجم، وقيل: المراد به جميع النجوم، وقل: هو الزهرة، وقيل: الشعرى، وقيل: القرآن، ومعنى ﴿ هَوَىٰ ﴾ نزل، لأنه نزل منجماً على ثلاث وعشرين سنة، وقيل: هو محمد، ومعنى ﴿ هَوَىٰ ﴾ نزل من المعراج، وقيل: جبريل، ومعنى ﴿ هَوَىٰ ﴾ نزل بالوحي، واختلف في عامل الظرف فقيل: معمول لمحذوف تقديره أقسم بالنجم وقت هويه، واستشكل بأن فعل القسم إنشاء، والإنشاء حال، و ﴿ إِذَا ﴾ لما يستقبل من الزمان، فكيف يعمل الإنشاء في المستقبل؟ وأجيب: بأنه يتوسع في الظروف، ما لا يتوسع في غيرها، أو قصد منها مجرد الظرفية، الصادق بالماضي والحال والاستقبال، لأنها قد تأتي للحال والماضي، وقيل: عامله حال من النجم محذوفه، والتقدير: أقسم بالنجم حال كونه مستقراً في زمان هويه، ويأتي فيه الإشكال والجواب المتقدمان، ويجاب أيضاً بأن تجعل الحال مقدرة. قوله: ﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ ﴾ هذا هو جواب القسم، وعبر بلفظ الصحبة تبكيتاً لهم، وإشعاراً بأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فلا يليق منهم نسبته للنقص. قوله: (عن طريق الهدى) أشار بذلك إلى أن الضلال مخالف للغي، فالضلال فعل المعاصي، والغي هو الجهل المركب، وقيل: الضلال في العلم، والغي في الأفعال، وقيل: هما مترادفان. قوله: (من اعتقاد فساد) أي ناشئ وحاصل.
قوله: ﴿ عَنِ ٱلْهَوَىٰ ﴾ متعلق بينطق، والمعنى ما يصدر نطقه عن هوى نفسه، ومثله الفعل بل جميع أحواله، وهو مفرع على ما قبله، لأنه إذا علم تنزهه عن الضلال والغواية، تفرع عليه أنه لا ينطق عن هواه قرآنه أو غيره. قوله: ﴿ إِنْ هُوَ ﴾ الضمير عائد على النطق المأخوذ من ينطق، والمعنى: ما يتكلم به من القرآن وغيره، ومثل النطق الفعل وجميع أحواله، فهو صلى الله عليه وسلم لا ينطق ولا يفعل إلا بوحي من الله تعالى، لا عن هوى نفسه، قوله: ﴿ يُوحَىٰ ﴾ الجملة صفة لوحي، أتى بها لرفع توهم المجاز، كأنه قال: هو وحي حقيقة، لا مجرد تسميته. قوله: ﴿ عَلَّمَهُ ﴾ (إياه) الضمير المذكور هو المفعول الأول عائد على النبي، والثاني الذي قدره المفسر عائد على الوحي. قوله: ﴿ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ ﴾ صفة لموصوف محذوف قدره المفسر بقوله: (ملك) وهو جبريل عليه السلام، ومن شدة قوته اقتلاعه مدائن قوم لوط، ورفعها إلى السماء وقلبها، وصياحه على قوم ثمود، ونتقه الجبل على بني إسرائيل، وهذه الشدة حاصلة فيه، ولو تشكل بصورة الآدميين، لأنها لا تحكم عليهم الصورة، وهذا قول الجمهور، وقيل: المراد به الرب سبحانه وتعالى، والمراد بالقوى في حقه تعالى، صفات الاقتدار كالكبرياء والعظمة. قوله: ﴿ ذُو مِرَّةٍ ﴾ أي قوة باطنية وعزم وسرعة وحركة، فغاير ما قبله، فجبريل أعطاه الله قوة ظاهرية وقوة باطنية، وقيل: المرة وفور العلم، وقيل: الجمال. قوله: ﴿ فَٱسْتَوَىٰ ﴾ عطف على قوله: ﴿ عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ ﴾.
قوله: ﴿ وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ ﴾ الجملة حالية. قوله: (وكان) أي النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (وكان قد سأله) الخ، تعليل لقوله: ﴿ فَٱسْتَوَىٰ ﴾ وذلك أن جبريل كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة الآدميين، كما يأتي إلى الأنبياء، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم أن يريه نفسه التي جعله الله عليها. فأراه نفسه مرتين، مرة بالأرض ومرة بالسماء، ولم يره أحد من الأنبياء على صورته التي خلق عليها إلا نبينا صلى الله عليه وسلم. قوله: (فنزل جبريل) عطف على قوله: (فخر مغشياً عليه). قوله: (زاد في القرب) أي فالكلام باق على ظاهره، وقيل: في الكلام قلب، والأصل فتدلى ثم دنا، ومعنى تدلى رجع لصورته الأصلية. قوله: ﴿ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ ﴾ في الكلام حذف، والأصل فكان مقدار مسافة قربه منه، مثل مقدار مسافة قاب قوسين، والقاب القدر، وقيل: هو ما بين المقبض والطرف، ولكل قوس قابان، فأصل الكلام فكان قابي قوسين، فحصل في الكلام قلب. قوله: ﴿ أَوْ أَدْنَىٰ ﴾ أو بمعنى بل، نظير قوله تعالى:﴿ أَوْ يَزِيدُونَ ﴾[الصافات: ١٤٧] أو على بابها، والشك بالنسبة للرائي، والمعنى: إذا نظرت إليه وهو في تلك الحالة، وتتردد بين المقدارين. قوله: (حتى أفاق) غاية لمحذوف أو ضمه إليه حتى أفاق، روي أنه لما أفاق قال: يا جبريل ما ظننت أن الله خلق أحداً على مثل هذه الصورة، فقال: يا محمد إنما نشرت جناحين من أجنحتي، وإن لي ستمائة جناح، سعة كل جناحٍ ما بين المشرق والمغرب، فقال صلى الله عليه وسلم: إن هذا لعظيم، فقال جبريل: وما أنا في جنب خلق الله إلا يسيراً، ولقد خلق الله إسرافيل، له ستمائة جناح، كل جناح منها قدر جميع أجنحتي، وإنه ليتضاءل أحياناً من مخافة الله تعالى، حتى يكون بقدر الوصع، أي العصفور الصغير، وهذا على كلام الجمهور، وأما على المراد به الرب سبحانه وتعالى، فمعنى الاستواء: الاستعلاء والقهر، ومعنى الدنو والتدلي: تجليه بصفة الجمال والمحبة لعبده، على حد ما قيل في ينزل ربنا كل ليلة.
قوله: ﴿ فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ ﴾ هذا مفرع على قوله: ﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ ﴾ ومشى المفسر على أن الضمير في ﴿ أَوْحَىٰ ﴾ الأول عائد على الله تعالى، والمراد بالعبد جبريل، والضمير في ﴿ أَوْحَىٰ ﴾ الثاني عائد على جبريل، وهو احتمال من ثمانية، أفادها العلامة الأجهوري وحاصلها أن يقال: الضمير في أوحى الأول، إما عائد على الله أو جبريل، والثاني كذلك، فهذه أربع، وفي كل منها إما أن يراد بالعبد جبريل أو محمد، فهذه ثمان اثنان منها فاسدان وهما أن يجعل الضمير في أوحى الأول عائداً على جبريل، ويراد بالعبد جبريل، سواء جعل الضمير في أوحى الثاني عائداً على الله أو جبريل وباقيها صحيح، والأنسب بمقام المدح أن يعود الضمير في أوحى الأول والثاني على الله، والمراد بالعبد محمد عليه الصلاة والسلام، والمعنى: أوحى الله إلى عبده محمد ما أوحاه الله إليه، من العلوم والأسرار والمعارف التي لا يحصيها إلا معطيها، بواسطة جبريل ويغير واسطته، حين فارقه عند الرفوف. قوله: (ولم يذكر الموحى به تفخيماً لشأنه) أي وإشارة إلى عمومه، واختلف في هذا الموحى به، فقيل مبهم لا نطلع عليه، وإنما يجب علينا الإيمان به إجمالاً، وقيل هو معلوم، وفي تفسيره خلاف، فقيل أوحى الله إليه: ألم أجدك يتمياً فآويتك؟ ألم أجدك ضالاً فهديتك؟ ألم أجدك عائلاً فأغنيتك؟ ألم نشرح لك صدرك، ووضعنا عنك وزرك، الذي أنقض ظهرك، ورفعنا لك ذكرك؟ وقيل: أوحى الله إليه أن الجنة حرام على الأنبياء حتى تدخلها يا محمد، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك. قوله: (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان. فالمعنى على التشديد أن ما رآه محمد بعينه صدقه قلبه ولم ينكره، والتخفيف قيل كذلك، وقيل: هو على إسقاط الخافض، والمعنى ما كذب الفؤاد فيما رآه. قوله: (من صورة جبريل) بيان لما رأى؛ وهذا أحد قولين، وقيل هو الله عز وجل، وعليه فقد رأى وربه مرتين، ومرة في مبادئ البعثة، ومرة ليلة الإسراء، واختلف في تلك الرواية فقيل: رآه بعينه حقيقة، وهو قول جمهور الصحابة والتابعين منهم: ابن عباس، وأنس بن مالك، والحسن وغيرهم، وعليه قول العارف البرعي: وإن قابلت لفظة لن تراني   بما كذب الفؤاد فهمت معنىفموسى خر مغشياً عليه   وأحمد لم يكن ليزيغ ذهناوقيل: لم يره بعينه، وهو قول عائشة رضي الله عنها، والصحيح الأول لأن المثبت مقدم على النافي، أو لأن عائشة لم يبلغها حديث الرؤية، لكونها كانت حديثة السن.
قوله: ﴿ أَفَتُمَارُونَهُ ﴾ بضم التاء وبالألف بعد الميم من ماراه جادله وغالبه، أو بفتح التاء وسكون الميم من غير ألف من مريته حقه إذا علمته وجحدته إياه، قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ ﴾ أي على ما رآه وهو جبريل على كلام المفسر، وذات الله تعالى على كلام غيره، وعبر بالمضارع استحضاراً للحالة البعيدة في ذهن المخاطبين. قوله: ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ ﴾ اللام للقسم، وقوله: (مرة) أشار بذلك إلى أن ﴿ نَزْلَةً ﴾ منصوب على الظرفية. قوله: ﴿ عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ ﴾ سميت بذلك، إما لأنه ينتهي إليها ما يهبط من فوقها وما يصعد من تحتها، أو لأنه ينتهي علم الأنبياء إليها، ويعزب علمهم عما وراءها، أو لأن الأعمال تنتهي إليها وتقبض منها، أو لانتهاء الملائكة إليها ووقوفهم عندها، أو لأنه ينتهي إليها أرواح الشهداء، أو لأنه ينتهي إليها أرواح المؤمنين، أو لأنه ينتهي إليها من كان على سنة رسول الله أقوال، وإضافة سدرة المنتهى، إما من إضافة الشيء إلى مكانه، والتقدير عند سدرة عندها منتهى العلوم، أو من إضافة الملك إلى المالك، على حذف الجار والمجرور، أي سدرة المنتهى إليه، وهو الله عز وجل، قال تعالى:﴿ وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ ﴾[النجم: ٤٢].
قوله: (لما أسري به) أي وكان قبل الهجرة بسنة وأربعة أشهر، وقيل: كان قبلها بثلاث سنين، والرؤية الأولى كانت في بدء البعثة، فبين الرؤيتين نحو عشر سنين. قوله: (وهي شجرة نبق) أي وفيها الحل والحلل والثمار من جميع الألوان، لو وضعت ورقة منها في الأرض لأضاءت لأهلها. قيل: هي شجرة طوبى، والصحيح أنها غيرها، والنبق بكسر الياء وسكونها، واختيرت السدرة لهذا الأمر دون غيرها من الشجر، لما قيل: إن السدرة تختص بثلاثة أوصاف: ظل مديد، وطعام لذيذ، ورائحة ذكية، فشابهت الإيمان الذي يجمع قولاً وعملاً ونية، فظللها من الإيمان بمنزلة العمل لتجاوزه، وطعمها بمنزلة النية لكمونه، ورائحتها بمنزلة القول لظهوره، قيل: إن سدرة المنتهى قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: استوص بإخواني في الأرض خيراً، فقال صلى الله عليه وسلم:" من قطع سدرة صوب الله رأسه في النار "واستشكل هذا الحديث بأنه يقتضي أن قطع السدر حرام لحاجة ولغير حاجة، مع أنه خلاف المنصوص، وأجيب بأنه سئل أبو داود عن هذا الحديث فقال: هو مختصر وحاصله:" من قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السبيل والبهائم عبثاً وظلماً بغير حق يكون له فيها، صوب الله رأسه في النار "وبعد ذلك فهذا لا يخص السدر. قوله: ﴿ عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ ﴾ حال من ﴿ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ ﴾.
قوله: (تأوي إليها الملائكة) الخ، وقيل: هي الجنة التي أوي إليها آدم عليه السلام إلى أن أخرج منها، وقيل: لأن جبريل وميكائيل يأويان إليها، فهذا وجه تسميتها جنة المأوى، أو لأن أهل السعادة يأوون إليها. قوله: ﴿ مَا يَغْشَىٰ ﴾ أبهم الموصول وصلته إشارة إلى أن ما غشيها لا يحيط به إلا الله تعالى. قوله: (من طير وغيره) ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:" رأيت السدرة يغشاها فراش من ذهب، ورأيت على كل ورقة ملكاً قائماً يسبح الله تعالى "وورد أنه عليه الصلاة والسلام قال:" ذهب بي جبريل إلى سدرة المنتهى، وإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كقلال هجر، فلما غشيها من أمر الله تعالى ما غشيها تغيرت، فما أحد من خلق الله تعالى يقدر أن ينعتها من حسنها، فأوحى إلي ما أوحى، ففرض علي خسمين صلاة في كل يوم وليلة "وقيل: يغشاها أنوار التجلي وقت مشاهدة النبي صلى الله عليه وسلم لربه، كما تجلى على الجبل عند مكالمة موسى، لكن السدرة أقوى من الجبل، فالجبل صار دكاً، وخر موسى صعقاً، ولم تتحرك السدرة، ولم يتزلزل محمد صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ ﴾ أي ما يلتفت إلى ما غشى السدرة من العجائب المتقدمة، لأن الزيغ هو الالتفات لغير الجهة التي تعنيه. قوله: ﴿ وَمَا طَغَىٰ ﴾ الطغيان مجاوزة الحد اللائق كما أفاده المفسر، فوصف صلى الله عليه وسلم بكمال الثبات والأدب، مع غرابة ما هو فيه إذ ذاك، وسبق تنزيه علمه من الضلال، وعمله عن الغواية، ونطقه عن الهوى، وفؤاده عن التكذيب، وهنا تنزه بصره عن الزيغ والطغيان مع تأكيد ذلك وتحقيقه بالأقسام، وناهيك بذلك عن رب العزة جل جلاله ثناء.
قوله: ﴿ لَقَدْ رَأَىٰ ﴾ اللام في جواب قسم محذوف. قوله: ﴿ ٱلْكُبْرَىٰ ﴾ أفاد المفسر أن من للتبعيض، وهو مفعول لرأى، والكبرى صفة لآيات، ووصفه بوصف المؤنثة الواحدة لجوازه وحسنه مراعاة الفاصلة، وفسر الكبرى بالعظام، إشارة إلى أنه ليس المعنى على التفضيل لعدم حصر تلك الآيات، ووصف العظم مقول بالتشكيك فيها، فيذهب السامع فيها كل مذهب فتدبر. قوله: (رفرفاً) قيل: هو في الأصل ما تدلى على الأسرة من غالي الثياب ومن أعالي الفسطاط، روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ سدرة المنتهى، جاءه الرفرق فتناوله من جبريل وطار به إلى العرش، حتى وقف بين يدي ربه، ثم لما حان الانصراف تناوله فطار به، حتى أداه إلى جبريل صلوات الله عليهما، وجبريل يبكي ويرفع صوته بالتحميد، فالرفرف خادم من الخدم بين يدي الله تعالى، له خواص الأمور في محل الدنو والقرب، كما أن البراق دابة يركبها الأنبياء، مخصوصة بذلك في الأرض. قوله: ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ ﴾ استفهام إنكاري، قصد به توبيخ المشركين على عبادتهم الأوثان، بعد بيان تلك البراهين القاطعة الدالة على انفراده تعالى بالألوهية والعظمة، وأن ما سواه تعالى، وإن جعلت مرتبته وعظم مقامه، حقير في جانب جلال الله عز وجل. قوله: ﴿ ٱللاَّتَ ﴾ اسم صنم كان في جوف الكعبة، وقيل: كان لثقيف بالطائف، وقيل: اسم رجل كان يلت السويق ويطعمه الحاج، وكان يجلس عند حجر، فلما مات سمي الحجر باسمه، وعبد من دون الله، وآل في اللات زائدة زيادة لازمة كما قال ابن مالك: وقد تزاد لازماً كاللات. وتاؤه قيل: أصلية وعليه فأصله ليت، وقيل: زائدة وعليه فأصله لوى يلوي، كأنهم كانوا يلوون أعناقهم إليها، ويلتوون أي يعتكفون عليها، ويترتب على القولين الوقف عليها، فبعض القراء يقف عليها الهاء على القول بزيادتها، وبعضهم بالتاء على القول بعدم زيادتها. قوله: ﴿ وَٱلْعُزَّىٰ ﴾ تأنيث الأعز كالفضل والأفضل وهو اسم صنم، وقيل شجرة سمر لغطفان كانوا يعبدونها، فبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقطعها. قوله: ﴿ وَمَنَاةَ ﴾ إما بالهمزة بعد الألف أو بالأف وحدها، قراءتان سبعيتان، إما مشتقة من النوء وهو المطر، لأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء، أو من منى يمني أي صب، لأن دماء النسك كانت تصب عندها. قوله: (اللتين قبلها) أي إما صفة بالنظر للفظ، أو بالنظر للرتبة، والمعنى أن رتبتها عندهم منحطة عن اللتين قبلها. قوله: (صفة ذم للثالثة) أي لأنها بمعنى المتأخرة الوضيعة المقدار. قوله: (وهي أصنام من حجارة) أي أن الثلاثة أصنام من حجارة، كانت في جوف الكعبة، وقيل اللات لتثقيف بالطائف، والعزى شجرة لغطفان، ومناة صخرة كانت لهذيل وخزاعة أو لثقيف، وقل: إن اللات أخذه المشركون من لفظ الله، والعزى من العزيز، ومناة من منى الله الشيء قدره. قوله: (والثاني محذوف) أي وهو جملة استفهامية استفهاماً إنكارياً ذكرها بقوله: (ألهذه الأصنام) الخ، والمعنى أفرأيتموها قادرة على شيء. قوله: (ولما زعموا أيضاً) كما زعموا، أن الأصنام الثلاثة تشفع لهم عند الله تعالى.
قوله: ﴿ تِلْكَ إِذاً ﴾ أي إذا جعلتم البنات له والبنين لكم. قوله: ﴿ ضِيزَىٰ ﴾ بكسر الضاد بعدها همزة أو ياء مكانها، قراءتان سبعيتان، وقرئ شذوذاً بفتح الضاد وسكون الياء. قوله: (وجار عليه) عطف تفسير، وهذا المعنى لكل من القراءات الثلاث.
قوله: (ما المذكورات) أي الأصنام المذكورات من حيث وصفها بالألوهية، والمعنى ليس لها من وصف الألوهية التي أثبتموها لها إلا لفظها، وأما معناها فيه خلية عنه، لأنها من أحقر المخلوقات وأذلها. قوله: (أي سميتم بها) دفع بذلك ما يقال: إن الأسماء لا تسمى، وإنما يسمى بها، فكيف قال سميتموها؟ فأجاب: بأن الكلام من باب الحذف والإيصال، والمفعول الأول محذوف قدره بقول أصنام. قوله: ﴿ أَنتُمْ ﴾ ضمير فصل أتى به توصلاً لعطف ﴿ وَآبَآؤُكُم ﴾ على الضمير المتصل في سميتموها على حد قول ابن مالك: وإن على ضمير رفع متصل   عطفت فافصل بالضمير المنفصلقوله: ﴿ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ ﴾ التفت من خطابهم إلى الغيبة، إشعاراً بأن كثرة قبائحهم، اقتضت الإعراض عنهم. قوله: (مما زين لهم) بيان لما. قوله: ﴿ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ ٱلْهُدَىٰ ﴾ الجملة حالية من فاعل ﴿ يَتَّبِعُونَ ﴾ والمعنى: يتبعون الظن وهوى النفس في حالة تنافي ذلك، هو مجيء الهدى من عند ربهم. قوله: (بالبرهان) حال من الهدى والباء للملابسة، والمراد بالبرهان المعجزات. قوله: ﴿ أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّىٰ ﴾ ﴿ أَمْ ﴾ منقطعة تفسر ببل والهمزة، والاستفهام إنكاري، والمعنى: ليس للإنسان ما يتمنى، بل يعامل بضده، حيث تتبع هواه وخرج عن حدود الشرع، فالمراد بالإنسان الكافر، وهذه الآية تجر بذيلها على من يلتجئ لغير الله طلباً للفاني، ويتبع نفسه في ما تطلبه، فليس له ما يتمنى، قال العارف: لا تتبع النفس في هواها   إن إتباع الهوى هوانوأما أهل الصدق مع ربهم، فلهم ما يتمنون وفوق ذلك، لوعد الله الذي لا يتخلف. قوله: ﴿ فَلِلَّهِ ٱلآخِرَةُ وٱلأُولَىٰ ﴾ كالدليل ما قبله، والمعنى: أنه تعالى لا يعطي ما فيهما، إلا لمن اتبع هداه وترك هواه، لأنه مالك للدنيا والآخرة. قوله: ﴿ وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ ﴾ الخ، هذا تقنيط للكفار، من تعلق آمالهم بشفاعة معبوداتهم لهم. قوله: (أي وكثيراً من الملائكة) الخ، أشار بذلك إلى أن ﴿ كَمْ ﴾ خبرية بمعنى كثيراً. قوله: (وما أكرمهم عند الله) جملة تعجبية، جيء بها للدلالة على تشريف الملائكة وزيادة تعظيمهم، ومع ذلك لا تغني شفاعتهم عنهم شيئاً. قوله: ﴿ لِمَن يَشَآءُ ﴾ أي فيمن يشاء. قوله: (ومعلوم أنها لا توجد منهم) راجع لقوله: (ولا يشفعون) والقصد من ذلك التوفيق بين الآيتين، في توقف الشفاعة على الإذن. قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ ﴾ أي وهم مشركو العرب، إن قلت: كيف يقال إنهم غير مؤمنين بالآخرة، مع أنهم يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله؟ أجيب: بأنهم غير جازمين بالآخرة، بدليل قوله تعالى حكاية عنهم﴿ وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَآئِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّيۤ إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ ﴾[فصلت: ٥٠] وإنما اتخذوهم شفعاء على سبيل الاحتمال. وأجيب أيضاً: بأنهم لا يؤمنون بالآخرة على الوجه الذي بينته الرسل. قوله: ﴿ تَسْمِيَةَ ٱلأُنْثَىٰ ﴾ أي تسمية الإناث، وذلك أنهم رأوا في الملائكة تاء التأنيث، وصح عندهم أن يقال: سجدت للملائكة، فقالوا: الملائكة إناث، وجعلوهم بنات الله لكونهم لا أب لهم ولا أم. قوله: (بهذا المقول) أي هم بنات الله. قوله: ﴿ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ ﴾ أي لأنهم لم يشاهدوا خلقهم، ولم يسمعوا ما قالوه من رسول الله، ولم يروه في كتاب، بل عولوا على مجرد ظنهم الفاسد، ولو أذعنوا للقرآن وللنبي، لأفادهم صحة التوحيد ونفعه. قوله: (أي عن العلم) أشار بذلك إلى أن من بمعنى عن، والحق بمعنى العلم. قوله: (فيما المطلوب فيه العلم) أي في الأمر الذي يطلب فيه العلم وهو الاعتقاديات، بخلاف العمليات، فالظن فيها كاف، لاختلاف الأئمة في الفروع الفقهية، فتحصل أن الأمور الاعتقادية، كمعرفة الله تعالى، ومعرفة الرسل وما أتوا به، لا بد فيها من الجزم المطابق للحق عن دليل، ولا يكفي فيها الظن، وأما الأمور العملية كفروع الدين، فيكفي فيها غلبة الظن.
قوله: ﴿ فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ ﴾ أي اترك دعوته والاهتمام بشأنه، فإنه لا تفيد دعوته إلا عناداً وإصراراً على الباطل. قوله: (وهذا قبل الأمر بالجهاد) أي فهو منسوخ بآية القتال، وقد تبع المفسر في ذلك أكثر المفسرين، وقال الرازي: إنها ليست منسوخة بآية القتال، بل هي موافقة لها، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم في الأول، كان مأموراً بالدعاء بالحكمة والموعظة الحسنة، فلما عارضوا أمر بإزالة شبههم، والجواب عنها فقيل له:﴿ وَجَٰدِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾[النحل: ١٢٥] ثم لما لم ينفع ذلك فيهم قيل له: أعرض عنهم ولا تقابلهم بالدليل والبرهان، فإنهم لا ينتفعون به وقاتلهم، فثمرة الإعراض القتال، وقد يقال: إن الخلاف لفظي، فمن أراد بالإعراض الكف عن مجادلتهم ومعاملتهم بالتي هي أحسن قال بالنسخ، ومن أراد بالإعراض عنهم، ترك جدالهم ومعاملتهم بالسيف قال بعدمه، قوله: ﴿ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ ٱلْعِلْمِ ﴾ تسميته علماً تهكم بهم. قوله: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ ﴾ الخ، تعليل للأمر بالإعراض، والمعنى: أن الله عالم بالضال فيجازيه على ضلاله، وبالمهتدي فيجازيه على هداه، ومن هنا خاف العارفون من سوء الخاتمة، لعدم اعتمادهم على أعمالهم. قوله: (ومنه الضال والمهتدي) دفع بذلك ما يقال: كيف يجعل الجزاء علة لملك ما في السماوات والأرض، مع أنه ثابت لله تعالى بالذات، فأجاب: بأنه علة لمحذوف، دل عليه قوله ملك السماوات والأرض. قوله: ﴿ لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ ﴾ الخ، أشار بذلك إلى أن اللام متعلقة بمحذوف قدره بقوله: (يضل من يشاء) الخ، ويصح أن تكون اللام للعاقبة والصيرورة، والمعنى: أن عاقبة أمر الخلق، أن يكون فيهم المحسن والمسيء، فيجازي المحسن بالإحسان، والمسيء بالإساءة. قوله: (وبين المحسنين) الخ، أي فالذين يجتنبون بدل أو عطف بيان أو نعت للذين أحسنوا، أو مفعول لمحذوف تقديره أعني، أو خبر لمحذوف تقديره هم الذين الخ.
قوله: ﴿ كَبَائِرَ ٱلإِثْمِ ﴾ جمع كبيرة، وهي ما ورد فيها وعيد أو حدّ. قوله: ﴿ وَٱلْفَوَاحِشَ ﴾ إما عطف مرادف: إن أريد بها الكبائر، أو خاص إن أريد بها ما ترتب عليه عظيم مفسدة، كالقتل والزنا والسرقة ونحو ذلك. قوله: ﴿ إِلاَّ ٱللَّمَمَ ﴾ هو في الأصل أن يلم بالشيء ولم يرتكبه، والمراد به فعل الصغائر. قوله: (كالنظرة) أي وكالكذب الذي لا حد فيه، ولم يترتب عليه إفساد بين الناس، وهجر المسلم فوق ثلاث، والتبختر في المشي ونحو ذلك. قوله: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ ٱلْمَغْفِرَةِ ﴾ تعليل لقوله: ﴿ إِلاَّ ٱللَّمَمَ ﴾ والمعنى: أن عدم المؤاخذة على الصغائر، لا لكونها ليست ذنباً، بل لسعة مغفرة الله. قوله: (بذلك) أي باجتناب الكبائر. قوله: (أي عالم) أشار بذلك إلى أنه ليس المراد صيغة التفضيل. قوله: ﴿ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ ﴾ أي فهو عالم بتفاصيل أموركم، حين ابتدأ خلق أبيكم آدم من التراب، وحين صوركم في الأرحام. قوله: (جمع جنين) سمي بذلك الاستتارة في بطن أمه. قوله: (لا تمدحوها) أي لا تثنوا عليها، ولا تشهدوا لها بالكمال والتقى، فإن النفس خسيسة، إذا مدحت اغترت وتكبرت، فالذي ينبغي للشخص، هضم النفس وذلها واستخفافها. قوله: (أما على سبيل الاعتراف بالنعمة فحسن) أي ولذا قيل: المسرة بالطاعة طاعة، وذكرها شكر، قال تعالى:﴿ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾[الضحى: ١١].
قوله: ﴿ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰ ﴾ أي بمن أخلص في طاعته وتقواه، فينتفع بها ويثاب عليها، وأما المرائي، فلا ينتفع بطاعته، بل يعاقب عليها، لأن الرياء يحبط العمل. قوله: (أي ارتد) أي بعد أن أسلم بالفعل، وهذا أحد قولين: وقيل: قارب الإسلام ولم يسلم بالفعل. قوله: (وأعطاه من ماله) الضمير المستتر في أعطى عائد على الذي تولى، والبارز عائد على الذي ضمن له عذاب الله، فتحصل أن الضامن جعل على المتولي شيئين: الرجوع إلى الشرك، وأن يدفع له عدداً معيناً من ماله، وجعل على نفسه هو شيئاً واحداً، وهو ضمان عذاب الله. قوله: ﴿ وَأَكْدَىٰ ﴾ هو في الأصل من أكدى الحافر إذا أصاب كدية منعته من الحفر، ومثله أحبل، أي صادف جبلاً منعه من الحفر، ثم استعمل في كل من طلب منه شيء فلم يعطه. قوله: ﴿ أَعِندَهُ عِلْمُ ٱلْغَيْبِ ﴾ استفهام إنكاري بمعنى النفي، أي ليس عنده علم الغيب. قوله: ﴿ فَهُوَ يَرَىٰ ﴾ عطف على قوله: ﴿ أَعِندَهُ عِلْمُ ٱلْغَيْبِ ﴾ فهي داخلة في حيز الاستفهام. قوله: (وهو الوليد بن المغيرة) أي وهو قول مقاتل وعليه الأكثر. قوله: (أو غيره) أي فقيل: هو العاص بن وائل السهمي، وقيل: هو أبو جهل، وهذا الخلاف في بيان الذي تولى وأعطى قليلاً وأكدى، وأما الذي غره وضمن أن يحمل عنه العذاب، فلم يذكروا تعيينه.
قوله: ﴿ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ ﴾ ﴿ أَمْ ﴾ منقطعة، والمعنى أبل لم يخبر بالذي في صحف موسى الخ، حتى يغتر بما قيل له، وقدم موسى لقرب عهده منهم، وخص هذين الرسولين، لأنهم كانوا قبل إبراهيم يأخذون الرجل بذنب غيره، فكان الرجل إذا قتل، وظفر أهل المقتول بأبي القاتل أو ابنه أو أخيه أو عمه أو خاله قتلوه، حتى جاءهم ابراهيم، فنهاهم عن ذلك وبلغهم عن الله ﴿ أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ﴾.
قوله: (تمم ما أمر به) أي من تبليغ الرسالة، وقيامه بالضيفان، وخدمته إياهم بنفسه، فكان يخرج يلتقي الضيفان من مسافة فرسخ، فإن وجد الضيفان أكرمهم وأكل معهم، وإلا نوى الصوم، وصبره على النار، وذبح ولده، وقيل: المراد ﴿ وَفَّىٰ ﴾ سهام الإسلام وهي ثلاثون: عشرة في التوبة﴿ ٱلتَّائِبُونَ ٱلْعَابِدُونَ ﴾[التوبة: ١١٢] وعشرة في الأحزاب﴿ إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَٱلْمُسْلِمَاتِ ﴾[الأحزاب: ٣٥]، وعشرة في المؤمنون﴿ قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾[المؤمنون: ١] وقيل: المراد ﴿ وَفَّىٰ ﴾ بكلمات كان يقولهن إذا أصبح وإذا أمسى﴿ فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ ﴾[الروم: ١٧] إلى﴿ تُظْهِرُونَ ﴾[الروم: ١٨] والمعنى أنه ما أمره الله تعالى بشيء إلا وفى به. قوله: (وبيان ما) أي فقوله (أن لا تزر) في محل جر بدل من ما في قوله: ﴿ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ ﴾ ويصح رفعه على أنه خبر لمحذوف، أي هو ﴿ أَلاَّ تَزِرُ ﴾ ونصبه على أنه مفعول لمحذوف، قوله: ﴿ وَازِرَةٌ ﴾ صفة لموصوف محذوف، أي نفس وازرة، أي مكلفة بالوزر، وليس المراد وازرة بالفعل. قوله: ﴿ وِزْرَ أُخْرَىٰ ﴾ أي وزر نفس أخرى. قوله: (الخ) المراد به قوله:﴿ فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكَ تَتَمَارَىٰ ﴾[النجم: ٥٥]، وهذا على فتح همزة ﴿ أَنَّ ﴾ في قوله:﴿ وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ ﴾[النجم: ٤٢] وما بعده وهي المراد ثمانية تضم لثلاث قبلها، فتكون الجملة أحد عشر شيئاً، وأما على قراءة الكسر في هذه الثمانية، فيكون المراد بقوله إلى آخره ﴿ ثُمَّ يُجْزَاهُ ٱلْجَزَآءَ ٱلأَوْفَىٰ ﴾ فيكون البيان بالثلاثة الأول فقط. قوله: (وأن مخففة من الثقيلة) أي واسمها محذوف هو ضمير الشأن و ﴿ لاَّ تَزِرُ ﴾ هو الخبر. قوله: ﴿ وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ ﴾ استشكل هذا الحصر بأمور: منها أن الدال على الخير كفاعله، ومنها واتبعتهم ذريتهم بإيمان، ومنها إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، إلى قوله أو ولد صالح يدعو له، ومنها غير ذلك. قال الشيخ تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية: من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله، فقد خرق الإجماع، وذلك باطل من وجوه كثيرة، أحدها: أن الإنسان ينتفع بدعاء غيره وهو انتفاع بعمل الغير. ثانيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الموقف في الحساب ثم لأهل الجنة في دخولها. ثالثها: لأهل الكبائر في الخروج من النار، رابعها: أن الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في الأرض. خامسها: أن الله تعالى يخرج من النار من لم يعمل خيراً قط بمحض رحمته، وهذا انتفاع بغير عملهم. سادسها: أن أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم. سابعها: قال تعالى في قصة الغلامين اليتيمين﴿ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً ﴾[الكهف: ٨٢].
ثامنها: أن الميت ينتفع بالصدقة عنه وبالعتق بنص السنة والإجماع. تاسعها: أن الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وليه عنه بنص السنة. عاشرها: أن الحج المنذور أو الصوم المنذور يسقط عن الميت بعمل غيره بنص السنة وهو انتفاع بعمل الغير. حادي عشرها: المدين قد امتنع صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه حتى قضى دينه أبو قتادة، وقضى دين الآخر علي بن أبي طالب، وانتفع بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم وهو من عمل الغير، إلى آخر ما قال. وأجيب بأجوبة منها: أن الآية منسوخة، ورد بأنها خبر، والأخبار لا تنسخ. ومنها: أن المراد بالإنسان الكافر. ومنها: أن هذا حكاية عما في صحف موسى وإبراهيم فليس في شرعنا.
قوله: (أي يبصر في الآخرة) أي لأن العمل يصور بصورة جميلة إن كان صالحاً، وقبيحة إن كان سيئاً، ليكون سروراً للمؤمن، وحزناً للكافر. قوله: ﴿ ثُمَّ يُجْزَاهُ ﴾ الضمير المرفوع عائد على الإنسان، والمنصوب عائد على السعي. قوله: ﴿ ٱلْجَزَآءَ ٱلأَوْفَىٰ ﴾ مصدر مبين للنوع. قوله: (يقال جزيته سعيه) الخ، أشار بذلك إلى أن الجزاء يتعدى للمفعول الثاني بنفسه وبحرف الجر. قوله: (بالفتح عطفاً) أي على قوله:﴿ أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ ﴾[النجم: ٣٨] الخ، وعليه فيكون بدلاً من جملة﴿ مَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ * وَإِبْرَاهِيمَ ﴾[النجم: ٣٦-٣٧].
قوله: (وقرئ بالكسر استئنافاً) أي وعليه فيكون زائداً على ما في صحف موسى وإبراهيم، لأن القرآن فيه ما في الصحف وزيادة. قوله: (وكذا ما بعدها) أي من قوله: ﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ ﴾ إلى قوله:﴿ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً ٱلأُولَىٰ ﴾[النجم: ٥٠] والكسر شاذ. قوله: ﴿ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ ﴾ أي منتهى أمر الخلق ومرجعهم إليه تعالى، وهذا كالدليل لقوله: ﴿ ثُمَّ يُجْزَاهُ ٱلْجَزَآءَ ٱلأَوْفَىٰ ﴾ وكأنه قال: الله يجزي الإنسان على أعماله الجزء الأوفى، لأنه إليه المنتهى في الأمور كلها، وإذا كان كذلك، فينبغي للإنسان أن يرجع إلى ربه في أموره كلها، ولا يعول على شيء من الأشياء، لأنه الآخذ بالنواصي، واختلف في المخاطب بقوله: ﴿ وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ ﴾ فقيل كل عاقل، وقيل محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا على قراءة الكسر، وأما على قراءة الفتح فقيل كل عاقل؛ وقيل موسى وإبراهيم على سبيل التوزيع، لأنه محكي عن صفحهما. قوله: (أفرحه) أشار بذلك إلى أن الضحك مستعمل في حقيقته، وكذا البكاء، وأن مفعول كل من الفعلين محذوف. قوله: ﴿ وَأَنَّهُ خَلَقَ ٱلزَّوْجَيْنِ ﴾ الخ، الحكمة في إسقاط ضمير الفصل في هذا، وإثباته في قوله: ﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ﴾ الإشارة لدفع توهم أن للمخلوق مدخلاً في الإضحاك والإبكاء، والإماتة والإحياء، فأكّده بالفصل، ولما يحصل في خلق الذكر والأنثى وما بعده، توهم أن للغير مدخلاً لم يؤكده بضمير الفصل.
قوله: ﴿ وَأَنَّ عَلَيْهِ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُخْرَىٰ ﴾ أي بحكم الوعد الكائن في قوله:﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِـي وَنُمِيتُ ﴾[ق: ٤٣] إذ لا يجب عليه تعالى فعل شيء ولا تركه. قوله: (بالمد والقصر) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (أعطى المال المتخذ قنية) أي الذي يدوم عن صاحبه. قوله: ﴿ رَبُّ ٱلشِّعْرَىٰ ﴾ اعلم أن الشعرى في لسان العرب كوكبان: أحدهما الشعرى العبور، وتسمى العشرى اليمانية تطلع بعد الجوزاء في شدة الحر، كانت تعبدها خزاعة من العرب، وأول من سن عبادتها رجل من ساداتهم يقال له أبو كبشة، وهي المرادة في الآية، والثاني الشعرى الغميصاء، بضم الغين وفتح الميم من الغمص بفتحتين وهو سيلان دمع العين. قوله: (بإدغام التنوين) أي بعد قلبه لاماً. وقوله: (في اللام) أي لام التعريف، وقوله: (وضمها) أي بنقل حركة همزة أولى إليها، وقوله: (بلا همز) أي للواو التي بعد اللام المدغم فيها التنوين، وبقي قراءة ثالثة سبعية أيضاً، وهي هذه القراءة بعينها، إلا أن الواو المذكورة تقلب همزة ساكنة. قوله: (هي قوم هود) أي وسميت أولى، لتقدمها في الزمان على عاد الثانية التي هي قوم صالح وهم ثمود، فأهلكت الأولى بالريح الصرصر، والثانية بصيحة جبريل، وتسمى كل من القبلتين عاداً، لأن جدهم واحد، وهو عاد بن ارم بن سام بن نوح عليه السلام. قوله: (وهو معطوف على عاداً) أي ويصح نصبه بفعل محذوف تقديره وأهلك ثموداً، وليس منصوباً بأبقى، لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها. قوله: (أهلكناهم) صوابه أهلكهم، وأشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ وَقَوْمَ نُوحٍ ﴾ منصوب بفعل محذوف ويصح عطفه على ما قبله. قوله: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىٰ ﴾ الضمير عائد على قوم نوح خاصة، وعليه مشى المفسر، ويصح عوده على الفرق الثلاث. والمعنى أظلم وأطغى من غيرهم. قوله: (يؤذونه ويضربونه) أي حتى يغشى عليه، فإذا أفاق قال: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. قوله: ﴿ وَٱلْمُؤْتَفِكَةَ ﴾ منصوب بأهوى، قدم رعاية للفاصلة. ومعنى المؤتفكة المنقلبة، لأن الائتفاك الانقلاب. قوله: (مقلوبة) جال من ضمير (أسقطها). قوله: ﴿ فَغَشَّاهَا ﴾ ألبسها وكساها، والفاعل ضمير عائد على الله تعالى، وقوله: ﴿ مَا غَشَّىٰ ﴾ مفعول به. قوله: (تهويلاً) أي تفخيماً وتعظيماً. والمعنى: غشاها أمراً عظيماً من حجارة وغيرها، مما لا يسع العقول وصفه. قوله: (وفي هود فجعلنا) الخ، الصواب أن يقول، وفي هود﴿ فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا ﴾[هود: ٨٢] الخ، أو يقول: وفي الحجر﴿ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا ﴾[الحجر: ٧٤]، وأمطرنا عليهم بدل قوله عليها.
قوله: ﴿ فَبِأَيِّ ﴾ الباء ظرفية متعلقة بتتمارى، والمعنى: في أي آلاء ربك تتشكك. قوله: (أيها الإنسان) أي مطلقاً، وقيل: المراد به الوليد بن المغيرة، وقيل: الخطاب للنبي، والمراد غيره. قوله: ﴿ هَـٰذَا نَذِيرٌ مِّنَ ٱلنُّذُرِ ٱلأُوْلَىٰ ﴾ النذير بمعنى النذر، والتنوين للتفخيم. قوله: ﴿ أَزِفَتِ ٱلآزِفَةُ ﴾ أزف من باب تعب دنا وقرب. قوله: (قربت القيامة) أي الموصوفة بالقرب، فهي في نفسها قريبة من يوم خلق الله الدنيا، لأن كل آتٍ قريب، وقد زادت قرباً ببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه من أمارات الساعة كما هو معلوم. قوله: (نفس) ﴿ كَاشِفَةٌ ﴾ أشار بذلك إلى أن ﴿ كَاشِفَةٌ ﴾ صفة لموصوف محذوف. قوله: (أي لا يكشفها ويظهرها إلا هو) أي فهو من كشف الشيء عرف حقيقته، ويصح أن يكون من كشف الضر أزالَه. والمعنى: ليس لها مزيل غيره تعالى، لكنه لم يفعل ذلك، لأنه سبق في علمه وقوعها. قوله: ﴿ أَفَمِنْ هَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ ﴾ متعلق يتعجبون. قوله: (تكذيباً) قيد به لأنه التعجب قد يكون استحساناً، وكذا يقال في قوله: (استهزاء). قوله: ﴿ وَأَنتُمْ سَامِدُونَ ﴾ إما مستأنف أو حال. قوله: (لاهون غافلون) أي فالسمود اللهو والغفلة، وقيل: الإعراض والاستكبار. قوله: ﴿ فَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ ﴾ يحتمل أن المراد به سجود الصلاة، وهو ما عليه مالك، ويحتمل أن المراد سجود التلاوة، وبه أخذ الشافعي وأبو حنيفة، ويؤيده ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في النجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس إلا أبيّ بن خلف، رفع كفاً من تراب على جبهته وقال: يكفي هذا. قوله: ﴿ وَٱعْبُدُواْ ﴾ عطف عام على خاص، وقوله: (ولا تسجدوا للأصنام) الخ، أخذه من لام الاختصاص ومن السياق.
Icon