تفسير سورة النجم

فتح البيان
تفسير سورة سورة النجم من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ
سورة النجم
إحدى أو اثنتان وستون آية
وهي مكية جميعها في قول الجمهور، وعن ابن عباس وعكرمة إلا آية منها وهي قوله :﴿ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ﴾ الآية وقيل : إن السورة كلها مدنية، والصحيح هو الأول.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما " عن ابن مسعود قال : أول سورة أنزلت فيها سجدة والنجم فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد الناس كلهم إلا رجل رأيته أخذ كفا من تراب فسجد عليه فرأيته بعد ذلك قتل كافرا، وهو أمية بن خلف " ١، وعنه قال : أو سورة استعلن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها والنجم.
" وعن ابن عمر قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ والنجم، فسجد بنا وأطال السجود ".
" وعن زيد بن ثابت قال : قرأت والنجم عند النبي صلى الله عليه وسلم فلم يسجد فيها " أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي والطبراني والطيالسي وابن أبي شيبة وابن مردويه.
" وعن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في النجم بمكة، فلما هاجر إلى المدينة تركها " وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة.
١ رواه مسلم..

(وَالنَّجْمِ) هو الكوكب، وسمي به لطلوعه، وكل طالع نجم، يقال: نجم السن والنبت والقرن إذا طلع، والتعريف للجنس، والمراد به جنس النجوم، يعني نجوم السماء كلها حين تغرب أقسم الله بالنجوم إذا غابت وليس يمتنع أن يعبر عنها بلفظ واحد، ومعناه جمع، وبه قال جماعة من المفسرين، وقيل: المراد به الثريا، وهو اسم غلب عليها، تقول العرب: النجم وتريد به الثريا، وبه قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما، وإن كانت في العدد نحو ما يقال: إنها سبعة أنجم، ستة ظاهرة، وواحدة خفية، يمتحن الناس بها أبصارهم، وفي الشفاء للقاضي عياض أن النبي ﷺ كان يرى في الثريا أحد عشر نجماً، وقيل: المراد بالنجم الشعرى، لذكرها في قوله تعالى: (وأنه هو رب الشعرى).
وقال السدي: النجم هنا هو الزهرة لأن قوماً من العرب كانوا يعبدونها وقيل: النجم هنا النبت الذي لا ساق له، كما في قوله: (والنجم والشجر يسجدان) قاله الأخفش، وقيل: النجم محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: النجم القرآن، وسمي نجماً لأنه نزل منجماً مفرقاً، والعرب تسمي
243
التفريق تنجيماً والمفرق المنجم وبه قال مجاهد والفراء وغيرهما، والأول أولى، قال الحسن: المراد بالنجم النجوم إذا سقطت يوم القيامة، وقيل: المراد بها النجوم التي ترجم بها الشياطين.
(إذا هوى) أي إذا انصب، أخرجه ابن جرير عن ابن عباس أو انتثر ومعنى هويه سقوطه من علو، يقال: هوى النجم يهوي هوياً إذا سقط من علو إلى سفل، وقيل: غروبه، وقيل طلوعه والأول أولى، وبه قال الأصمعي وغيره، ويقال هوى في السير إذا مضى قال الراغب: الهوي ذهاب في انحدار وفي ارتفاع، وقيل هوى في اللغة خرق الهواء، ومقصده السفل، أو مصيره إليه، وإن لم يقصده ومعنى هوى، على قول من فسر النجم بالقرآن أنه نزل من أعلى إلى أسفل، وأما على قول من قال إنه الشجر الذي لا ساق له أو أنه محمد ﷺ فلا يظهر لهوى معنى صحيح، وفي العامل في هذا الظرف أوجه، وعلى كل منها إشكال ذكرها السمين لا نطول الكلام بذكرها هنا.
وجواب القسم قوله
244
(ما ضل صاحبكم وما غوى) أي ما ضل محمد ﷺ عن الحق، والهدى، ولا عدل منه، والغي ضد الرشد، أي ما صار غاوياً، ولا تكلم بالباطل، وقيل ما خاب فيما طلب، والغي الخيبة، وبين الضلال، والغي التباين الكلي، فإن الضلال فعل المعاصي، والغي هو الجهل المركب وبتقدير اتحادهما يكون ذلك من باب التأكيد باللفظ المخالف مع اتحاد المعنى، والأول أولى قيل وهو من عطف الخاص على العام للإهتمام بشأن الإعتقاد وإيضاحه أن الجهل قد يكون من كون الإنسان غير معتقد لا صالحاً ولا فاسداً وقد يكون من اعتقاد شيء فاسد، وهذا الثاني يقال له غي وفي قوله صاحبكم إشارة بأنهم المطلعون على حقيقة حاله، وعبر بالصحبة لأنها مع كونها أدل على القصد مرغبة لهم فيه، ومقبلة بهم ومقبحة عليهم اتهامه في إنذاره، وهم يعرفون طهارة شمائله، والخطاب لقريش قال
244
ابن عباس: أقسم الله أن ما ضل محمد ﷺ ولا غوى.
245
(وما ينطق عن الهوى) أي ما يصدر نطقه عن الهوى لا بالقرآن ولا بغيره فـ (عن) على بابها، ومثل النطق الفعل، وقال أبو عبيدة: إن عن بمعنى الباء أي بالهوى، وقال قتادة: أي ما ينطق بالقرآن عن هواه
(إن هو إلا وحي يوحى) أي ما هذا الذي ينطق به من القرآن وكل أحواله وأقواله وأفعاله إلا وحي من الله يوحيه إليه، ويوحى صفة لوحي تفيد الإستمرار التجددي وتفيد نفي المجاز، أي هو وحي حقيقة لا لمجرد التسمية، كما تقول: هذا قول يقال، وقيل: تقديره يوحى إليه ففيه، مزيد فائدة، والآية دليل على كون السنة المطهرة وحياً يوحى.
(علمه شديد القوى) جمع قوة، والمعنى أنه علمه جبريل الذي هو شديد قواه. هكذا قال أكثر المفسرين، وقال الحسن: هو الله عز وجل، والأول أولى، وهو من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، ومن شدة قوته أنه اقتلع قرى قوم لوط ورفعها إلى السماء، ثم قلبها وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين، وكان هبوطه على الأنبياء وصعوده أسرع من رجعة الطرف، وهذه القوة ثابتة له، ولو كان على صورة الآدميين.
(ذو مرة) أي قوة وشدة في الخلق، وقيل ذو صحة جسم، وسلامة من الآفات.
" ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي " (١) وقيل ذو حصافة عقل ومتانة رأي قال قطرب: العرب تقول لكل من هو جزل الرأي، حصيف العقل: ذو مرة، والتفسير للمرة بهذا أولى، لأن القوة والشدة قد أفادها قوله: شديد القوى، قال الجوهري: المرة إحدى الطبائع الأربع، والمرة القوة وشدة العقل، وقال ابن عباس: ذو
_________
(١) رواه مسلم.
245
خلق حسن، وقيل منظر حسن، وقيل: قوة في العقل وحدة، بحيث لا يدفعه عما يزاوله دافع، ولا يسأم من شيء يزاوله، فحصل الفرق بين القوة والمرة، ومن جملة شدته وقوته قدرته على التشكل فلذلك قال:
(فاستوى) أي ارتفع جبريل وعلا إلى مكانه في السماء، بعد أن علم محمداً صلى الله عليه وسلم، قاله سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وقيل: معناه قام في صورته التي خلقه الله عليها، لأنه كان يأتي النبي ﷺ في صورة الآدميين، كما يأتي إلى الأنبياء، فسأله النبي ﷺ أن يريه نفسه التي جبله الله عليها، فأراه نفسه مرتين، مرة في الأرض ومرة في السماء، ولم يره أحد من الأنبياء على صورته التي خلق عليها إلا نبينا صلى الله عليه وسلم، وقيل: المعنى فاستوى القرآن في صدره ﷺ حين نزل عليه، أو صدر جبريل حين نزل به، وقيل: المعنى اعتدل محمد في قوته أو في رسالته، ذكره الماوردي، وقيل: المعنى ارتفع النبي ﷺ بالمعراج، وقال الحسن: فاستوى يعني الله عز وجل على العرش، والأول أولى، وقيل: المعنى فاستوى جبريل عالياً على صورته، ولم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل ذلك رآه عليها حتى سأله إياها على ما ذكرنا.
246
(وهو بالأفق الأعلى) أي فاستوى جبريل حال كونه بالأفق الأعلى، والمراد بالأفق الأعلى جانب المشرق، وهو فوق جانب المغرب، والأفق ناحية السماء، وجمعه آفاق. قال قتادة ومجاهد: هو الموضع الذي تطلع منه الشمس، وكذا قال سفيان، وقيل: هو يعني جبريل والنبي ﷺ بالأفق الأعلى ليلة المعراج، ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة.
" عن ابن مسعود أن رسول الله ﷺ لم ير جبريل في صورته إلا مرتين، أما واحدة فإنه سأله أن يراه في صورته فأراه صورته فسد الأفق، وأما الثانية فإنه كان معه حيث صعد، فذلك قوله: (وَهُوَ بِالْأُفُقِ
246
الْأَعْلَى)، (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) قال: خلق جبريل " (١)، رواه أحمد والطبراني وغيرهما.
" وعنه أن النبي ﷺ قال: رأيت جبريل عند سدرة المنتهى له ستمائة جناح " أخرجه أبو الشيخ وابن جرير وأحمد، وعن ابن عباس قال: الأفق الأعلى مطلع الشمس.
_________
(١) مسلم.
247
(ثم دنا) جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى، أي قرب من الأرض (فتدلى) أي فنزل على النبي ﷺ بالوحي، وقيل في الكلام تقديم وتأخير والتقدير. ثم تدلى فدنا، قاله ابن الأنباري وغيره قال الزجاج: معنى دنا فتدلى واحد أي قرب وزاد في القرب، كما تقول دنا مني فلان، وقرب ولو قلت: قرب مني ودنا جاز قال الفراء الفاء في فتدلى بمعنى الواو، والتقدير تدلى جبريل ودنا، ولكنه جائز إذا كان معنى الفعلين واحداً، أن تقدم أيهما شئت قال الجمهور: والذي دنا فتدلى هو جبريل، وقيل هو النبي ﷺ قال ابن عباس: هو محمد ﷺ دنا فتدلى إلى ربه والمعنى دنا منه أمره وحكمه، والأول أولى قيل: ومن قال إن الذي استوى هو جبريل ومحمد صلى الله عليه وسلم؛ فالمعنى عنده. ثم دنا محمد ﷺ من ربه دنو كرامة، فتدلى أي هوى للسجود، وبه قال الضحاك، وعن ابن عباس قال: دنا ربه فتدلى، والتدلي هو النزول بقرب الشيء.
(فكان) مقدار ما بين جبريل ومحمد صلى الله عليه وسلم، أو ما بين محمد ﷺ وربه تعالى (قاب) أي قدر (قوسين) عربيين، والقاب والقيب، والقاد والقيد، والقيس المقدار ذكر معناه في الصحاح، قال الزمخشري: وقد جاء التقدير بالقوس والرمح والسوط والذراع والباع والخطوة والشبر والفتر والأصبع والقاب ما بين المقبض والسِّيَّة، ولكل قوس قابان،
247
قال بعضهم أراد قابي قوس فقلبه، وقال سعيد بن المسيب: القاب صدر القوس العربية حيث يشد عليه السير الذي يتنكبه صاحبه. ولكل قوس قاب واحد. فأخبر أن جبريل قرب من محمد كقرب قاب قوسين. قال الزجاج: أي فيما تقدرون أنتم والله سبحانه عالم بمقادير الأشياء ولكنه يخاطبنا على ما جرت به عادة المخاطبة فيما بيننا.
وقال سعيد بن جبير وعطاء وأبو إسحق الهمداني وأبو وائل شقيق بن سلمة: فكان قدر ذراعين والقوس ذراع. يقاس بها كل شيء. وهي لغة بعض الحجازيين. وقيل: هي لغة أزد شنوءة. والقوس يذكر ويؤنث. فمن أنث قال في تصغيرها: قويسة ومن ذكر قال: قويس والجمع قسي وأقواس. والقوس أيضاًً بقية التمر في الجلة. أي الوعاء والقوس برج في السماء وقال الكسائي: أراد قوساً واحدة.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن " ابن مسعود في هذه الآية قال: رأى النبي ﷺ جبريل له ستمائة جناح " وعنه قال: في الآية: دنا جبريل منه حتى كان قدر ذراع أو ذراعين وبه قال ابن عباس والحسن وعائشة وقتادة وقال ابن عباس: القاب القيد والقوسين الذراعين وعن أبي سعيد قال لما أسري بالنبي ﷺ اقترب من ربه فكان قاب قوسين أو أدنى. ألم تر إلى القوس ما أقربها من الوتر وعن أنس ودنا الجبار رب العزة حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى وهذه رواية عن سلمة عن ابن عباس وفيه جهالة وقال الضحاك نحو ما قال أنس.
(أو أدنى) أو بمعنى الواو. وقيل بمعنى بل والأول أولى. كقوله (أو يزيدون) لأن المعنى فكان بأحد هذين المقدارين في رأي الرائي أي لتقارب ما بينهما يشك الرائي في ذلك؛ وأدنى أفعل تفضيل؛ والمفضل عليه محذوف أي أو أدنى من قاب قوسين، أو أدنى من ذلك، وروي لما رأى النبي ﷺ جبريل عليه السلام على صورة الآدمي، سأله عند الأفق الأعلى أن يراه
248
على صورته التي خلق عليها فأراه فرآه النبي ﷺ وكان بحراء قد سد الأفق إلى المغرب فخر مغشياً عليه، فدنا منه قرباً زائداً؛ وضمه إلى نفسه حتى أفاق وسكن روعه وجعل يمسح التراب عن وجهه.
249
(فأوحى إلى عبده) أي فأوحى جبريل إلى محمد ﷺ بتعليم من الله لا من نفسه (ما أوحى) فيه تفخيم للوحي الذي أوحي إليه والوحي إلقاء الشيء بسرعة، ومنه الوحا؛ وهو السرعة، والضمير في عبده يرجع إلى الله، كما في قوله: (ما ترك على ظهرها من دابة) وقيل المعنى فأوحى الله إلى عبده جبريل، وبالأول قال الربيع والحسن وابن زيد وقتادة؛ وقيل: فأوحى الله إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: وقد أبهم الله سبحانه ما أوحاه جبريل عليه السلام إلى محمد ﷺ أو ما أوحاه الله إلى عبده جبريل أو إلى محمد ﷺ ولم يبينه لنا فليس لنا أن نتعرض لتفسيره.
وقال سعيد بن جبير: الذي أوحاه الله إليه هو: (ألم نشرح لك صدرك) إلخ و (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى)؟ إلخ وقيل: أوحى الله إليه أن الجنة حرام على الأنبياء حتى تدخلها، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك، وقيل: إن ما للعموم لا للإبهام والمراد كل ما يوحي به إليه؛ والحمل على الإبهام أولى لما فيه من التعظيم.
(ما كذب الفؤاد ما رأى) أي ما كذب فؤاد محمد ﷺ ما رآه بصره ليلة المعراج رؤية حقيقية، يقال كذبه إذا قال له الكذب ولم يصدقه، قال المبرد؛ معنى الآية أنه رأى شيئاًً فصدق به قرىء ما كذب مخففاً، وبالتشديد وهما سبعيتان، وما في ما رأى موصولة أو مصدرية قال ابن مسعود في الآية: " رأى رسول الله ﷺ جبريل عليه حلتا رفرف أخضر قد ملأ ما بين السماء والأرض " (١) أخرجه الترمذي والحاكم
_________
(١) رواه الحاكم.
249
وصححاه؛ والبيهقي وغيرهم، وبه قالت عائشة؛ وقيل: هو الله عز وجل رآه بعين رأسه وقيل بقلبه وقيل جعل بصره في فؤاده، والكلام على هذه المسألة مستوفى في موطنه.
وقد تكلم عليه القاضي عياض في الشفاء، والخفاجي في شرحه والقسطلاني في شرح المواهب اللدنية، والنووي، وقال: والحاصل أن الراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله ﷺ رأى ربه عز وجل بعيني رأسه ليلة الإسراء وإثبات هذا لا يأخذونه إلا بالسماع من رسول الله ﷺ هذا مما لا ينبغي أن يتشكك فيه انتهى.
قال سليمان الجمل: وحاصل المسألة أن الصحيح ثبوت الرؤية وهو ما جرى عليه ابن عباس حبر الأمة، وهو الذي يرجع إليه في المعضلات، وقد راجعه ابن عمر فأخبره بأنه رآه، ولا يقدح في ذلك حديث عائشة لأنها لم تخبر أنها سمعت من رسول الله ﷺ أنه قال: لم أر، وإنما اعتمدت على الاستنباط مما تقدم، وجوابه ظاهر؛ فإن الإدراك هو الإحاطة والله تبارك وتعالى لا يحاط به وإذا ورد النص بنفي الإحاطة لا يلزم منه نفي الرؤية بغير إحاطة، وأجيب عن احتجاجها بقوله تعالى: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً) بأنه لا يلزم من الرؤية وجود الكلام حال الرؤية فيجوز وجود الرؤية من غير كلام، وبأنه عام مخصوص.
250
(أفتمارونه على ما يرى)؟ قرىء من المماراة وهي المجادلة والملاحاة، وقرىء أفتمرونه، أي أفتجحدونه، واختار أبو عبيد الثانية قال: لأنهم لم يماروه، وإنما جحدوه، يقال: مراه حقه أي جحده ومريته أنا أي جحدته قال المبرد: يقال: أمراه عن حقه وعلى حقه، إذا منعه منه ودفعه، وقيل على بمعنى عن، وقرىء أفتمرونه بضم التاء من أمريت أي أتريبونه وتشكون فيه، قال جماعة من المفسرين: المعنى على الأول أفتجادلونه؟ وذلك أنهم جادلوه حين أسري به، فقالوا: صف لنا بيت المقدس، أي فتجادلونه جدالاً
250
ترومون به دفعه عما شاهده وعلمه، وقال: ما يرى، ولم يقل ما رأى على حكاية الحال الماضية استحضاراً للحالة البعيدة في ذهن المخاطبين.
251
(ولقد رآه نزلة أخرى) اللام هي الموطئة للقسم، أي والله لقد رآه، والنزلة المرة من النزول، أي رأى جبريل نازلاً نزلة أخرى، أو رآه رؤية أخرى، ونصب نزلة على الظرف أو المصدرية أو الحالية، وبالأول قال الزمخشري وهو مذهب الفراء، نقله عنه مكي، وبالثاني قدر أبو البقاء، وبالثالث قال الحوفي وابن عطية، قال جمهور المفسرين: المعنى أنه رأى محمد ﷺ جبريل عليه السلام مرة أخرى في صورة نفسه، وذلك ليلة المعراج، وقيل: رأى محمد ﷺ ربه مرة أخرى بفؤاده وقيل: بعينه.
أخرج مسلم والطبراني وغيرهما.
" عن ابن عباس في الآية قال: رأى محمد ﷺ ربه بقلبه مرتين "، وأخرج نحوه عنه الترمذي وحسنه، وعن أنس قال: رأى محمد ربه، وعن ابن عباس أن النبي ﷺ رأى ربه مرتين، مرة ببصره ومرة بفؤاده، وعنه لقد رأى النبي ﷺ ربه عز وجل، وعنه قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم؟ والكلام لموسى؟ والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد روي نحو هذا عنه من طرق.
وأخرج مسلم والترمذي وابن مردويه.
" عن أبي ذر قال: سألت رسول الله ﷺ هل رأيت ربك قال نور أنّى أراه ".
" وعنه سأل رسول الله ﷺ هل رأيت ربك قال رأيت نوراً " أخرجه مسلم وابن مردويه.
" وعنه قال: رأى رسول الله ﷺ ربه بقلبه، ولم يره ببصره "، أخرجه النسائي وابن المنذر وغيرهما، قال صاحب التحرير:
251
والحجج في المسألة وإن كانت كثيرة لكن لا نتمسك إلا بالأقوى منها، وهو حديث ابن عباس: أتعجبون الخ.
" وعن عكرمة سئل ابن عباس هل رأى محمد ﷺ ربه قال: نعم "، وقد روي بإسناد لا بأس به، وعن أنس نحوه.
وكان الحسن يحلف لقد رأى محمد ﷺ ربه، والأصل في المسألة حديث ابن عباس حبر هذه الأمة وعالمها، والمرجوع إليه في المعضلات، وقد راجعه ابن عمر في هذه المسألة فأخبره أنه رآه، ولا يقدح في هذا حديث عائشة، لأنها لم تخبر أنها سمعت النبي ﷺ يقول لم أر ربي وإنما ذكرت ما ذكرت متأولة لقول الله تعالى: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً) الآية، وقوله (لا تدركه الأبصار)، وإذ قد صحت الروايات عن ابن عباس أنه تكلم في هذه المسألة بإثبات لرؤية وجب المصير إلى إثباتها لأنها ليس مما يدرك بالعقل، ويؤخذ بالظن، وإنما يتلقى بالسمع، ولا يستجيز لأحد أن يظن بابن عباس أنه تكلم في هذه المسألة بالظن والاجتهاد، وقد قال معمر بن راشد حين ذكر اختلاف عائشة وابن عباس: ما عائشة عندنا بأعلم من ابن عباس ثم ابن عباس أثبت ما نفاه غيره والمثبت مقدم على النافي انتهى.
252
(عند سدرة المنتهى) لما أسري به في السموات، قاله الجلال المحلي، ومن المعلوم أن الإسراء كان قبل الهجرة بسنة وأربعة أشهر، أو بثلاث سنين على الخلاف، والرؤية الأولى كانت في بدء البعثة، فبين الرؤيتين نحو عشر سنين، والسدرة هي شجرة النبق، قال مقاتل: تحمل الحلي والحلل والثمار من جميع الألوان لو وضعت ورقة منها في الأرض لأضاءت لأهلها، وهي شجرة طوبى التي ذكرها الله في سورة الرعد والنبق بكسر الموحدة ثم السدرة الواحدة نبقة ويقال فيه نبق بفتح النون وسكون الباء ذكرها يعقوب في
252
الإصلاح وهي لغة البصريين والأولى أفصح وهي التي ثبتت عن النبي ﷺ وهذه السدرة هي في السماء السادسة كما في الصحيح وروي أنها في السماء السابعة عن يمين العرش.
والمنتهى مكان الانتهاء، أو مصدر ميمي والمراد به الإنتهاء نفسه قيل: إليه ينتهي علم الخلائق ولا يعلم أحد منهم ما وراءها وقيل: ينتهي إليها ما يعرج به من الأرض وقيل: تنتهي إليها أرواح الشهداء وقيل غير ذلك وإضافة الشجرة إلى المنتهى من إضافة الشيء إلى مكانه كقولك أشجار البستان، أو من إضافة المحل إلى الحال، كقولك كتاب الفقه والتقدير عند سدرة عندها منتهى العلوم، أو من إضافة الملك إلى المالك على حذف الجار والمجرور أي: سدرة المنتهى إليه وهو الله عز وجل قال تعالى: (وأن إلى ربك المنتهى) واختلف لم سميت سدرة المنتهى على ثمانية أقوال ذكرها القرطبي وغيره.
" وعن ابن مسعود قال: لما أسري برسول الله ﷺ انتهى إلى سدرة المنتهى وهو في السماء السادسة إليها ينتهي ما يعرج من الأرواح فيقبض منها وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها ويقبض منها " (١) أخرجه أحمد ومسلم والترمذي وغيرهم.
_________
(١) رواه أحمد ومسلم.
253
(عندها جنة المأوى) أي عند تلك السدرة جنة تعرف بجنة المأوى، وهي عن يمين العرش، وسميت بها لأنه أوى إليها آدم، وقيل، إن أرواح المؤمنين تأوي إليها، وقيل: يأوي إليها جبريل والملائكة، وقيل: يصير إليها المتقون قرىء جنة بالرفع على الابتداء، وقرىء جنة فعلاً ماضياً من جن يجن، أي ضمه المبيت أو ستره إيواء الله له، قال الأخفش: أدركه كما تقول؛ جنة الليل، أي ستره وأدركه، قال ابن مسعود: الجنة في السماء السابعة العليا، والنار في الأرض السابعة السفلى.
(إذ يغشى السدرة ما يغشى) الغشيان بمعنى التغطية والستر، وبمعنى
253
الإتيان، يقال: فلان يغشاني كل حين أن يأتيني، وفي إبهام الموصول وصلته من التفخيم والتكثير للغواشي ما لا يخفى، فقد علم بهذه العبارة أن ما يغشاها من الخلائق الدالة على عظمة الله تعالى وجلالته، أشياء لا يحيط بها الوصف، ولا يكتنهها نعت ولا يحصيها عدد، وقيل: يغشاها جراد من ذهب، وقال ابن مسعود: فراش من ذهب، قال الرازي: وهذا ضعيف، لأن ذلك لا يثبت إلا بدليل سمعي، فإن صح فيه خبر وإلا فلا وجه له، وقيل: طوائف من الملائكة، وقال مجاهد: رفرف أخضر، وقيل: رفرف من طيور خضر، وقيل غشيها أمر الله، وقيل نور الخلائق، وقيل نور رب العزة، والمجيء بالمضارع لحكاية الحال الماضية استحضاراً للصورة البديعة أو للدلالة على الإستمرار التجددي.
254
(ما زاغ البصر) أي ما مال بصر النبي ﷺ عما رآه، ولم يتلفت إلى ما غشى السدرة من فراش الذهب وغيره، هذا بالنظر لكون الذي غشيها هو فراش من الذهب، وبالنظر لكونه أنوار الله لم يلتفت يمنة ولا يسرة، بل اشتغل بمطالعتها، مع أن ذلك العالم غريب عن بني آدم، وفيه من العجائب ما يحير الناظر (وما طغى) أي ما جاوز ما رأى، وفي هذا وصف أدب النبي ﷺ في ذلك المقام، حيث لم يلتفت، ولم يمل بصره، ولم يمده إلى غير ما رأى، وقيل: ما جاوز ما أمر به.
(لقد رأى) أي والله لقد رأى تلك الليلة (من آيات ربه الكبرى) أي العظام ما لا يحيط به الوصف، قيل: رأى رفرفاً سد الأفق، وقيل: رأى جبريل في حلة خضراء كما تقدم، وقيل: عجائب الملكوت، وقال الضحاك: رأى سدرة المنتهى، وقيل: هو كل ما رآه في مسراه تلك الليلة وعوده، ومن للتبعيض، ومفعول رأي: الكبرى، أو رأى شيئاًً عظيماً من آيات ربه، أو من زائدة ولما قص الله سبحانه هذه الأقاصيص قال للمشركين موبخاً لهم ومقرعاً:
(أفرأيتم اللات والعزى) أي أخبروني عن هذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله هل لها قدرة توصف بها، وهل أوحت إليكم شيئاًً كما أوحى الله إلى محمد ﷺ أم هي جمادات لا تعقل ولا تنفع، وقال أبو السعود: الهمزة للإنكار، والفاء لتوجيهه إلى ترتيب الرؤية على ما ذكر من شؤونه تعالى المنافية لها غاية المنافاة، والمعنى أعقيب ما سمعتم من آثار كمال عظمته، وإحكام قدرته، ونفاذ أمره في الملأ الأعلى، وما تحت الثرى، وما بينهما، رأيتم هذه الأصنام مع غاية حقارتها وذلتها شركاء لله؟ على ما تقدم من عظمته.
(ومناة الثالثة الأخرى) ذكر هذه الأصنام الثلاثة التي اشتهرت في العرب وعظم اعتقادهم فيها قال الواحدي وغيره: وكانوا يشتقون لها أسماء من أسماء الله تعالى فقالوا من الله اللات، ومن العزيز؛ العزى، وهي تأنيث الأعز بمعنى العزيزة، ومناة من منى الله الشيء إذا قدره، قرىء اللات بتخفيف التاء وهي مأخوذة من اسم الله، وقيل: أصله لات يليت فالتاء أصلية، وقيل: هي زائدة، وأصله لوى يلوي، لأنهم كانوا يلوون أعناقهم إليها، أو يلتوون ويعتكفون عليها، ويطوفون بها، وقرىء اللات بتشديد التاء، فقيل: هو اسم رجل كان يلت السويق ويطعمه الحاج، فلما مات عكفوا على قبره يعبدونه، فهو اسم فاعل في الأصل غلب على هذا الرجل.
وقال مجاهد: كان رجلاً في رأس جبل له غنيمة يتخذ من لبنها وسمنها حيساً، ويطعم الحاج، وكان ببطن نخلة فلما مات عبدوه. وقال الكلبي: كان رجلاً من ثقيف له صرمة غنم، وقيل: إنه عامر بن الظرب العدواني، قال في الصحاح: واللات اسم صنم لثقيف، وكان بالطائف، وقيل: بعكاظ، وقيل: بنخلة، ورجح ابن عطية الأول، وبعض العرب يقف عليها بالتاء وبعضهم بالهاء، " قال ابن عباس: كان اللات رجلاً يلت
255
السويق للحاج " أخرجه البخاري وغيره، والألف واللام في اللات زائدة لازمة، وقال أبو البقاء: ليست بزائدة وهو غلط، والعزى من العز وهي تأنيث الأعز، وهي اسم صنم لقريش وبني كنانة، قال مجاهد: هي شجرة كانت لغطفان وكانوا يعبدونها، فبعث إليها النبي ﷺ خالد ابن الوليد فقطعها.
وقيل: كانت شيطانة تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة، وقال سعيد بن جبير: العزى حجر أبيض كانوا يعبدونه، وقال قتادة: هي بيت كان ببطن نخلة، وعن ابن عباس: أن العزى ببطن نخلة، وأن اللات كانت بالطائف وأن مناة كانت بقديد، ومناة صنم بني هلال، وقال ابن هشام: صنم هذيل وخزاعة وقال قتادة: كانت للأنصار وقرىء مناة بألف من دون همزة، وبالمد والهمزة فالأولى اشتقاقها من منى يمني أي صب لأن دماء النسائك كانت تصب عندها، يتقربون بذلك إليها وعلى الثانية فاشتقاقها من النوء وهو المطر، لأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء، وقيل: هما لغتان للعرب ووقف عليها بالتاء اتباعاً لرسم المصحف وبالهاء.
قال في الصحاح: ومناة اسم صنم كان بين مكة والمدينة، والهاء للتأنيث، ويسكت عليها بالتاء، وهي لغة، والثالثة الأخرى وصف لمناة وصفها بأنها ثالثة، وبأنها أخرى، والثالثة لا تكون إلا أخرى، قال أبو البقاء: فالوصف بالأخرى للتأكيد، وقد استشكل وصف الثالثة بالأخرى، والعرب إنما تصف به الثانية فقال الخليل: إنما قال ذلك لوفاق رؤوس الآي، كقوله: (مآرب أخرى) وقال حسين بن الفضل: فيه تقديم وتأخير، والتقدير: أفرأيتم اللات والعزى الأخرى ومناة الثالثة، وقيل: إن وصفها بالأخرى لقصد التعظيم، لأنها كانت عند المشركين عظيمة، وقيل: إن ذلك للتحقير والذم، وإن المراد: المتأخرة الوضيعة القدار، كما في قوله: (وقالت
256
أخراهم لأولاهم)، أي وضعاءهم لرؤسائهم، وهذا للزمخشري، وقال ابن عادل: وفيه نظر لأن الأخرى إنما تدل على الغيرية، وليس فيها تعرض لمدح ولا ذم، فإن جاء شيء من ذلك فلقرينة خارجية، ثم كرر سبحانه توبيخهم وتقريعهم بمقالة شنعاء قالوها فقال:
257
(ألكم الذكر وله الأنثى)؟ أي كيف تجعلون لله ما تكرهون من الإناث وتجعلون لأنفسكم ما تحبون من الذكور، قيل وذلك قولهم: إن الملائكة بنات الله، وقيل المراد كيف تجعلون اللات والعزى ومناة وهي إناث في زعمكم شركاء لله ومن شأنهم أن يحتقروا الإناث، ثم ذكر سبحانه أن هذه التسمية والقسمة المفهومة من الاستفهام، قسمة جائرة، فقال:
(تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى) قرىء بياء ساكنة بغير همزة، وبهمزة ساكنة والمعنى أنها قسمة خارجة عن الصواب، جائرة عن العدل، مائلة عن الحق، قال الأخفش: يقال: ضاز في الحكم أي جار وضازه حقه يضيزه ضيزاً أي نقصه وبخسه، قال: وقد يهمز، وقال الكسائي: ضاز يضيز ضيزى، وضاز يضوز ضوزاً إذا تعدى وظلم وبخس وانتقص. قال الفراء: وبعض العرب يقول ضئزاً بالهمز، وعن أبي زيد أنه سمع العرب تهمز ضيزي، قال البغوي: ليس في كلام العرب فعلى بكسر الفاء في النعوت، إنما تكون في الأسماء مثل ذكرى وشعرى، قال المؤرج: كرهوا ضم الضاد في ضيزى، وخافوا انقلاب الياء واواً، وهي من بنات الواو، فكسروا الضاد لهذه العلة، كما قالوا في جمع الأبيض بيض، وكذا قال الزجاج، وقيل: هي مصدر كذكرى فيكون المعنى قسمة ذات جور وظلم، قال ابن عباس: ضيزى جائرة لا حق فيها وقيل: عوجاء غير معتدلة ثم رد سبحانه عليهم بقوله:
257
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (٢٣) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (٢٦) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (٢٧) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (٢٩) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (٣٠)
258
(إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ) أي ما الأوثان أو الأصنام باعتبار ما تدعونه من كونها آلهة إلا أسماء محضة، ليس فيها شيء من معنى الألوهية التي تدعونها لأنها لا تبصر ولا تسمع ولا تعقل ولا تفهم ولا تضر ولا تنفع فليست إلا مجرد أسماء، وقيل إن قوله: (هي) راجع إلى الأسماء الثلاثة المذكورة والأول أولى.
(سميتموها أنتم وآباؤكم) قلد فيها الآخر الأول وتبع في ذلك الأبناء الآباء، وفي هذا من التحقير لشأنها ما لا يخفى كما تقول في تحقير رجل ما هو إلا إسم إذا لم يكن مشتملاً على صفة معتبرة ومثل هذه الآية قوله تعالى (ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم) يقال سميته زيداً وسميته يزيد فقوله (سميتموها) صفة لأسماء والضمير يرجع إلى الأسماء لا إلى الأصنام أي جعلتموها أسماء لا جعلتم لها أسماء ليشير الكلام أن هناك أسماء مجردة لا مسميات لها قطعاً (ما أنزل الله بها من سلطان) أي من حجة ولا برهان، قال مقاتل: لم ينزل لنا كتاباً لكم فيه حجة كما تقولون إنها آلهة ثم أخبر عنهم بقوله:
(إن يتبعون) بالتحتية وقرىء بالفوقية أي ما تتبعون فيما ذكر من التسمية والعمل بموجبها وفيه التفات إلى الغيبة للإيذان بأن تعداد قبائحهم إقتضى الأعراض عنهم وحكاية جناياتهم إلى غيرهم (إلا الظن الذي) لا
258
يغني من الحق شيئاًً وهو ظن أنها تستحق العبادة وبهذا تبين أن العطف في قوله (وما تهوى الأنفس) للمغايرة أي ما تميل إليه وتشتهيه من غير التفات إلى ما هو الحق الذي يجب اتباعه ومن اتبع ظنه وما تشتهيه نفسه، بعد ما جاءه الهدى والبيان الشافي لا يعد إنساناً ولا يعتد به.
(ولقد جاءهم من ربهم الهدى) أي البيان الواضح الظاهر بالكتاب المنزل، والنبي المرسل، بأنها ليست بآلهة، وأن العبادة لا تصلح إلا لله الواحد القهار، والجملة اعتراض أو حال من فاعل يتبعون، وأياً ما كان ففيها تأكيد لبطلان اتباع الظن وهوى النفس، وزيادة تقبيح لحالهم فإن اتباعهما من أي شخص كان - قبيح، وممن هداه الله بإرسال الرسل وإنزال الكتب أقبح.
259
(أم للإنسان ما تمنى) أم هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة التي للإنكار، فأضرب عن اتباعهم الظن الذي هو مجرد التوهم، وعن اتباعهم هوى النفس وما تميل إليه، وانتقل إلى إنكار أن يكون لهم ما يتمنون من كون الأصنام تنفعهم وتشفع لهم، وقيل: هو تمني بعضهم أن يكون هو النبي، وقيل قوله: (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى) ثم علل انتفاء أن يكون للإنسان ما تمنى بقوله:
(فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى) أي إن أمور الآخرة والدنيا بأسرها لله عز وجل، فليس لهم معه أمر من الأمور، ومن جملة ذلك أمنياتهم الباطلة وأطماعهم الفارغة، ثم أكد ذلك وزاد في إبطال ما يتمنونه فقال:
(وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاًً) كم هنا هي الخبرية المفيدة للتكثير، ولهذا جمع الضمير في شفاعتهم مع إفراد الملك، فلفظها مفرد، ومعناها جمع، والمعنى الإقناط مما علقوا به والتوبيخ لهم بما يتمنونه. ويطمعون فيه من شفاعة الأصنام مع كون الملائكة مع كثرة عبادتها وكرامتها على الله، لا تشفع إلا لمن أذن أن يشفع له فكيف بهذه الجمادات الفاقدة للعقل والفهم، وهو معنى قوله:
(إلا من بعد أن يأذن الله) لهم بالشفاعة (لمن يشاء) أن يشفعوا له (ويرضى) بالشفاعة لكونه من أهل التوحيد وليس للمشركين في ذلك حظ
259
ولا يأذن الله بالشفاعة لهم ولا يرضاها لكونهم ليسوا من المستحقين لها
260
(إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي: هؤلاء الذين لا يؤمنون بالبعث وما بعده من الدار الآخرة، على الوجه الذي بينته الرسل وهم الكفار يضمون إلى كفرهم مقالة شنعاء، وجهالة جهلاء، وهي أنهم (ليسمون الملائكة) المنزهين عن كل نقص (تسمية الأنثى) وذلك أنهم رأوا في الملائكة تاء التأنيث، وصح عندهم أن يقال: سجدت الملائكة فزعموا أنها بنات الله، فجعلوهم إناثاً وسموهم بنات.
(وما لهم به من علم) أي والحال أنهم غير عالمين بما يقولون، فإنهم لم يعرفوهم ولا شاهدوهم، ولا بلغ إليهم ذلك من طريق من الطرق التي يخبر المخبرون عنها بل قالوا ذلك جهلاً وضلالة وجرأة، وقرىء وما لهم بها أي بالملائكة أو التسمية، ومن زائدة في المبتدأ المؤخر (إن يتبعون إلا الظن) أي ما يتبعون في هذه المقالة إلا مجرد الظن والتوهم، وقال النسفي: هو تقليد الآباء، ثم أخبر سبحانه عن الظن وحكمه فقال:
(وإن الظن لا يغني من الحق شيئاًً) أي: إن جنس الظن لا يغني عن العلم شيئاًً من الإغناء، ومن بمعنى عن، والحق هنا العلم، وفيه دليل على أن مجرد الظن لا يقوم مقام العلم، وإن الظان غير عالم، وهذا في الأمور التي يحتاج فيها إلى العلم، وهي المسائل العلمية لا فيما يكتفي فيه بالظن، وهي المسائل العملية، وقد قدمنا تحقيق هذا، ولا بد من هذا التخصيص، فإن دلالة العموم والقياس وخبر الواحد ونحو ذلك ظنية، فالعمل بها عمل بالظن وقد وجب علينا العمل في هذه الأمور، فكانت أدلة وجوب العمل به فيها مخصصة لهذا العموم، وما ورد في معناه من الذم لمن عمل بالظن والنهي عن اتباعه. وفي الكرخي الظن لا اعتبار له في العارف الحقيقية، وإنما العبرة به في العمليات وما يكون وصلة إليها كمسائل علم الفقه، وقال ابن الخطيب: المراد منه أن الظن لا يغني في الاعتقادات شيئاًً وأما في الأفعال العرفية
260
أو الشرعية فإن الظن فيها يتبع عند عدم الوصول إلى اليقين.
261
(فأعرض عمن تولى) أي أعرض (عن ذكرنا) المراد بالذكر هنا القرآن، أو ذكر الآخرة أو ذكر الله على العموم، وقيل: المراد به هنا الإيمان والمعنى اترك مجادلتهم فقد بلغت إليهم ما أمرت به، وليس عليك إلا البلاغ وهذا منسوخ بآية السيف، قال الرازي: وأكثر المفسرين يقولون: إن كل ما في القرآن من قوله فأعرض منسوخ بآية القتال وهو باطل لأن الأمر بالإعراض موافق لآية القتال، فكيف ينسخ بها والإعراض عن المناظرة شرط لجواز المقاتلة (ولم يرد إلا الحياة الدنيا) أي لم يرد سواها ولا طلب غيرها، بل قصر نظره عليها فإنه غير متأهل للخير، ولا مستحق للإعتناء بشأنه ثم صغر سبحانه شأنهم وحقر أمرهم فقال:
(ذلك) أي التولي وقصر الإرادة على الحياة الدنيا (هو مبلغهم من العلم) ليس لهم علم غيره، ولا يلتفتون إلى سواه من أمر الدين، قال الفراء: أي ذلك قدر عقولهم ونهاية علمهم أن آثروا الدنيا على الآخرة؛ وقيل: الإشارة بقوله ذلك إلى جعلهم الملائكة بنات الله وتسميتهم لهم تسمية الأنثى والأول أولى والمراد بالعلم هنا مطلق الإدراك الذي يندرج تحته الظن الفاسد والجملة مستأنفة لتقرير جهلهم واتباعهم مجرد الظن؛ وقيل معترضة بين المعلل والعلة وهي قوله:
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى) فإن هذا تعليل للأمر بالإعراض، والمعنى أنه سبحانه وتعالى أعلم بمن حاد عن الحق وأعرض عنه ولم يهتد إليه وأعلم بمن اهتدى فقبل الحق، وأقبل إليه وعمل به فهو مجاز كل عامل بعمله إن خيراً فخير، وإن شراً فشر وفيه تسلية لرسول الله ﷺ وإرشاد له بأنه لا يتعب نفسه في دعوة من أصر على الضلالة وسبقت له الشقاوة، فإن الله قد علم حال هذا الفريق الضال، كما علم حال الفريق الراشد وتكرير قوله هو أعلم لزيادة التقرير وللإيذان بكمال تباين المعلومين ثم أخبر سبحانه عن سعة قدرته وعظيم ملكه فقال:
261
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (٣٢) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (٣٦) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (٤٠) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (٤١) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (٤٢)
262
(وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) أي هو المالك لذلك والمتصرف فيه لا يشاركه فيه أحد (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا) من الشرك وغيره اللام متعلقة بما دل عليه الكلام، كأنه قال: هو مالك ذلك يضل من يشاء ويهدي من يشاء، ليجزي المسيء بإساءته والمحسن بإحسانه، وقيل: إن قوله ولله ما في السموات الخ جملة معترضة، والمعنى: هو أعلم بمن ضل، وهو أعلم بمن اهتدى، ليجزي، وقيل: هي لام العاقبة لا التعليل، أي: وعاقبة أمر الخلق الذين فيهم المحسن والمسيء أن يجزي الله كلاً منهما بعمله، وبه صرح الواحدي والزمخشري، وقال مكي: إن اللام متعلقة بقوله لا تغني شفاعتهم وهو بعيد من حيث اللفظ ومن حيث المعنى قرىء ليجزي بالتحتية وبالنون.
(ويجزي الذين أحسنوا) بالتوحيد وغيره من الطاعات (بالحسنى) أي: بالمثوبة الحسنى وهي الجنة أو بسبب أعمالهم الحسنى، وتكرير الفعل لإبراز كمال الإعتناء بأمر الجزاء، وللتنبيه على تباين الجزائين، ثم وصف هؤلاء
262
المحسنين فقال:
263
(الذين) أي: هم الذين (يجتنبون كبائر الإثم) قرأ الكبائر على الجمع وكبير على الإفراد، والكبائر كل ذنب توعد الله عليه بالنار أو ما عين له حداً أو ذم فاعله ذماً شديداً، ولأهل العلم في تحقيق الكبائر كلام طويل، وكما اختلفوا في تحقيق معناها وماهيتها اختلفوا في عددها:
(والفواحش) جمع فاحشة، وهي ما فحش من كبائر الذنوب، كالزنا ونحوه، وهو من عطف الخاص على العام، قال مقاتل: كبائر الإثم كل ذنب ختم بالنار، والفواحش كل ذنب فيه الحد وقيل: الكبائر الشرك والفواحش الزنا، وقد قدمنا في سورة النساء ما هو أبسط من هذا وأكثر فائدة، وقال ابن عباس: الكبائر ما سمى الله فيه النار، والفواحش ما كان فيه حد الدنيا (إِلَّا اللَّمَمَ) أي إلا ما قل وصغر من الذنوب والاستثناء منقطع لأنه ليس من الكبائر والفواحش، قال السمين: وهذا هو المشهور، ويجوز أن يكون متصلاً عند من يفسر اللمم بغير الصغائر، وأصل اللمم في اللغة ما قل وصغر، ومنه ألم بالمكان قل لبثه فيه؛ وألم بالطعام قل أكله منه.
قال المبرد: أصل اللمم أن يلم بالشيء من غير أن يرتكبه يقال: ألم بكذا إذا قاربه، ولم يخالطه، قال الأزهري: العرب تستعمل الإلمام في معنى الدنو والقرب، قال الزجاج: أصل اللمم والإلمام ما يعمله الإنسان المرة بعد المرة ولا يتعمق فيه، ولا يقيم عليه، يقال: ألممت به إذا زرته وانصرفت عنه ويقال ما فعلته إلا لماماً وإلماماً، أي: الحين بعد الحين ومنه إلمام الخيال قال في الصحاح ألم الرجل من اللمم وهو صغائر الذنوب ويقال: هو مقاربة المعصية من غير مواقعة.
وقد اختلف أقوال أهل العلم في تفسير هذا المذكور في الآية فالجمهور على أنه صغائر الذنوب، وقيل: هو ما كان دون الزنا من القبلة والغمزة والنظرة
263
وكالكذب الذي لا حد فيه ولا ضرر والإشراف على بيوت الناس وهجر المسلم فوق ثلاث والضحك في الصلاة المفروضة والنياحة وشق الجيب في المصيبة، والتبختر في المشي، والجلوس بين الفساق إيناساً بهنم، وإدخال مجانين وصبيان ونجاسة المسجد إذا كان يغلب تنجيسهم له واستعمال نجاسة في بدن أو ثوب لغير حاجة ونحو ذلك ذكره الخطيب وغيره، وقيل: هو الرجل يلم بذنب ثم يتوب أو يقع الوقعة ثم ينتهي وهو قول أبي هريرة وابن عباس وبه قال مجاهد والحسن والزهري ومنه:
إن تغفر اللهم تغفر جما... وأي عبد لك لا ألما
واختار هذا القول الزجاج والنحاس وقيل: هو ذنوب الجاهلية فإن الله لا يؤاخذ بها في الإسلام، وله قال زيد بن ثابت، وزيد بن أسلم وقال نفطويه: هو أن يأتي بذنب لم يكن له به عادة، قال والعرب تقول: ما تأتينا إلا إلماماً أي في الحين قال: ولا يكون أن يهم ولا يفعل لأن العرب لا تقول: ألم بنا إلا إذا فعل لا أذاهم ولم يفعل الراجح الأولى.
أخرج البخاري ومسلم " عن ابن عباس قال: ما رأيت شيئاًً أشبه باللمم " (١) مما قاله أبو هريرة عن النبي ﷺ قال: إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ".
وعن ابن مسعود في قوله إلا اللمم قال: زنا العين النظر وزنا الشفتين التقبيل وزنا اليدين البطش وزنا الرجلين المشي ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه فإن تقدم بفرجه كان زانياً وإلا فهو اللمم.
وعن أبي هريرة أنه سئل عن قوله: إلا اللمم قال هي النظرة،
_________
(١) رواه البخاري ومسلم.
264
والغمزة، والقبلة، والمباشرة، فإذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل، وهو الزنا. وهو قول ابن مسعود ومسروق والشعبي. وعن ابن عباس فيه قال: إلا اللمم إلا ما قد سلف، وعنه قال: هو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب منها، وعن أبي هريرة قال: اللمة من الزنا ثم يتوب ولا يعود، واللمة من شرب الخمر ثم يتوب، ولا يعود، فذلك الإلمام، وعن ابن عباس أيضاًً قال: اللمم كل شيء بين الحدين، حد الدنيا وحد الآخرة، تكفره الصلاة، وهو دون كل موجب، فأما حد الدنيا فكل حد فرض الله عقوبته في الدنيا، وأما حد الآخرة فكل شيء ختمه الله بالنار، وأخر عقوبته إلى الآخرة، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: اللمم دون الشرك.
(إن ربك واسع المغفرة) حيث يغفر الصغائر باجتناب الكبائر، قال الكرخي: عقب به ما سبق لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته، ولئلا يتوهم وجوب العقاب على الله تعالى، وقال غيره: الجملة تعليل لما تضمنه الاستثناء، أي إن ذلك وإن خرج عن حكم المؤاخذة فليس لخلوه عن كونه ذنباً يفتقر إلى مغفرة الله، ويحتاح إلى رحمته، بل لسعة المغفرة الربانية، وقيل: إنه سبحانه يغفر لمن تاب عن ذنبه وأناب، وعن عمر وابن عباس قالا لا كبيرة في الإسلام، يعني مع التوبة، ولا صغيرة مع الإصرار، قلت: وفي كون الإصرار على الصغيرة كبيرة اختلاف بين أهل العلم، قال النووي في المنهاج: وشرط العدالة اجتناب الكبائر، والإصرار على صغيرة قال في تحفة المحتاج: قبل: عطف الإصرار من عطف الخاص على العام. وفيه نظر، لأن الإصرار لا يصير الصغيرة كبيرة حقيقة: وإنما يلحقها في الحكم ولا ينافي هذا قول كثيرين كابن عباس، ونسب للمحققين كالأشعري. وابن فورك، والإسناد أبي إسحاق أهـ.
وفي الزواجر عن اقتراف الكبائر نقلاً عن الرافعي: أما الصغائر فلا يشترط تجنبها بالكلية، لكن الشرط أن لا يصر عليها، فإن أصر كان الإصرار
265
كارتكاب الكبيرة انتهى، والحاصل أن المعتمد وفاقاً لكثير من المتأخرين كالأذرعي والبلقيني والزركشي وابن العماد وغيرهم أنهم لا تضر المداومة على نوع من الصغائر. ولا على أنواع، سواء كان مقيماً على الصغيرة أو الصغائر أو مكثراً من فعل ذلك، حيث غلب الطاعات المعاصي، وإلا ضر، ثم رأيت ابن العماد قال ما نقله الإسنوي عن الرافعي: من أن الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة ليس كذلك، ولم يذكر الرافعي هذه العبارة، قال البلقيني: المراد عدم غلبة الصغائر على الطاعة، وفسر القاضيان الماوردي والطبري الإصرار في قوله تعالى: (ولم يصروا) بأن لم يعزموا على أن لا يعودوا إليه، وقضيته حصول الإصرار بالعزم على العود، بترك العزم على عدم العود، ويوافقه قول ابن الصلاح: الإصرار التلبس بضد التوبة، باستمرار العزم على المعاودة، واستدامة الفعل بحيث يدخل به في حيز ما يطلق عليه الوصف بصيرورته كبيرة، وليس لزمن ذلك وعدده حصر.
وقال ابن عبد السلام: الإصرار أن تتكرر منه الصغيرة تكراراً يشعر بقلة مبالاته بدينه، إشعار ارتكاب الكبيرة بذلك، وكذلك إذا اجتمعت صغائر مختلفة الأنواع بحيث يشعر مجموعها بما يشعر به أصغر الكبائر انتهى.
والصواب في هذا الباب ما ذكره القاضي محمد بن علي الشوكاني رحمه الله في إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، ونصه: قد قيل: إن الإصرار على الصغيرة حكمه حكم مرتكب الكبيرة، وليس على هذا دليل يصلح للتمسك به، وإنما هي مقالة لبعض الصوفية، فإنه قال: لا صغيرة مع الإصرار، وقد روى بعض من لا يعرف علم الرواية هذا اللفظ، وجعله حديثاً، ولا يصح ذلك، بل الحق أن الإصرار حكمه حكم ما أصر عليه، والإصرار على الصغيرة صغيرة، والإصرار على الكبيرة كبيرة انتهى.
ويفهم من ذلك أيضاً أن الإصرار على الكبيرة ليس كفراً، ثم التوبة عن الكبيرة وإن كانت واجبة عيناً فوراً بنصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة، لكن قد يغفرها الله تعالى من غير توبة أيضاًً، كما دلت عليه السنة المطهرة
266
واختاره محققو أهل الحديث، ثم ذكر سبحانه إحاطة علمه بأحوال عباده فقال:
(هو أعلم بكم) أي: بأحوالكم، وتفاصيل أموركم (إذ) حين (أنشأكم من الأرض) أي: خلقكم منها في ضمن خلق أبيكم آدم، وحين ما صوركم في الأرحام، وقيل: المراد آدم فإنه خلقه من طين (وإذا أنتم أجنة) أي هو أعلم بأحوالكم وقت كونكم أجنة، وهي جمع جنين، وهو الولد ما دام في البطن، سمي ذلك لاجتنابه، أي لاستتاره في بطن أمه، ولهذا قال: (في بطون أمهاتكم) فلا يسمى من خرج عن البطن جنيناً، والجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها.
" عن ثابت بن الحرث الأنصاري قال: كانت اليهود إذا هلك لهم صبي صغير قالوا: هو صديق، فبلغ ذلك النبي ﷺ فقال: كذبت يهود، ما من نسمة يخلقها في بطن أمها إلا أنه شقي أو سعيد، فأنزل الله عند ذلك هذه الآية " أخرجه الطبراني وغيره.
(فلا تزكوا أنفسكم) أي لا تمدحوها، ولا تثنوا عليها خيراً، ولا تنسبوها إلى زكاء العمل، وزيادة الخير والطاعات، وحسن الأعمال، واهضموها فإن ترك تزكية النفس أبعد من الرياء، وأقرب إلى الخشوع، قال ابن عباس: لا تمدحوها، وقال الحسن: علم الله من كل نفس ما هي صانعة وإلى ما هي صائرة فلا تبرؤوها من الآثام، ولا تمدحوها بحسن الأعمال، وقيل لا تزكوها رياء، وخيلاء، ولا تقولوا لمن لم تعرفوا حقيقته أنا خير منك، وأنا أزكى منك، أو أتقى منك، فإن العلم عند الله، وفيه إشارة إلى وجوب خوف العاقبة فإن الله يعلم عاقبة من هو على التقوى.
وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود " عن زينب بنت أبي سلمة أنها سميت برة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزكوا أنفسكم، الله أعلم
267
بأهل البر منكم سموها زينب " (١). وقال المحلي في الآية: وهذا النهي على سبيل الإعجاب، وأما على سبيل الإعتراف بالنعمة فحسن، ولذا قيل: المسرة بالطاعة طاعة، وذكرها شكر، لقوله تعالى: (وأما بنعمة ربك فحدث).
(هو أعلم بمن اتقى) مستأنفة مقررة للنهي، أي فإنه يعلم المتقي منكم وغيره قبل أن يخرجكم من صلب أبيكم آدم، فمن جاهد نفسه، وخلصت منه التقوى فهو يوصله فوق ما يؤمل من الثواب في الدارين، فكيف بمن صارت له التقوى وصفاً ثابتاً، وهو الذي ينتفع بها ويثاب عليها، وقيل: نزلت في ناس كانوا يعملون أعمالاً حسنة؛ ثم يقولون: صلاتنا وصيامنا وحجنا وجهادنا ثم لما بين الله سبحانه وتعالى جهالة المشركين على العموم، خص بالذم بعضهم فقال:
_________
(١) رواه أحمد ومسلم.
268
(أفرأيت الذي تولى)؟ عن الخير وأعرض عن اتباع الحق
(وأعطى قليلاً) أي أعطى عطاء قليلاً؛ أو شيئاًً قليلاً من المال المسمى.
(وأكدى) منع الباقي وقطع ذلك، وأمسك عنه، مأخوذ من الكدية وهي الصلابة، يقال لمن حفر بئراً بلغ فيها إلى حجر لا يتهيأ له فيه حفر: قد أكدى، ثم استعملته العرب: لمن أعطى فلم يتم ولمن طلب شيئاًً فلم يبلغ آخره قال الكسائي وأبو زيد ويقال: كديت أصابعه إذا محلت من الحفر، وكدت يده إذا كلت، ولم تعمل شيئاًً، وكدت الأرض إذا قل نباتها، وأكديت الرجل عن الشيء رددته، وأكدى الرجل إذا قل خيره، قال الفراء: معنى الآية أمسك عن العطية وقطع، وقال المبرد: منع منعاً شديداً.
وقال مجاهد وابن زيد ومقاتل: نزلت في الوليد بن المغيرة وكان قد اتبع رسول الله ﷺ على دينه فعيره بعض المشركين فترك ورجع إلى شركه قال مقاتل: كان الوليد يمدح القرآن، ثم أمسك عنه فأعطى قليلاً من
268
لسانه من الخير ثم قطعه وقال الضحاك: نزلت في النضر بن الحرث وقال محمد بن كعب القرظي: نزلت في أبي جهل، قال ابن عباس: أكدى قطع نزلت في العاص بن وائل، وعنه قال: أطاع قليلاً انقطع.
269
(أعنده علم الغيب فهو يرى) الاستفهام للتقريع والتوبيخ والمعنى أعند هذا المكدي علم ما غاب عنه من أمر العذاب فهو يعلم ذلك قال مقاتل: وهو الوليد بن المغيرة وعليه الأكثر وقال السدي: إنه العاص بن وائل السهمي أو أبو جهل، كما قاله محمد بن كعب وهذا الخلاف فيمن تولى وأعطى وأكدى وأما الذي عيره وضمن له أن يحمل عنه العذاب فلم يذكروا هنا تعيينه.
(أم لم ينبأ) أي: ألم يخبر ولم يحدث (بما صحف موسى) يعني أسفاره وهي التوراة. أو صحف قبلها (و) بما في صحف (إبراهيم الذي وفى) أي: تمم وأكمل ما أمر به قال المفسرون: أي بلغ قومه ما أمر به وأداه وقيل: بالغ في الوفاء بما عاهد الله عليه.
" عن أبي أمامة عن النبي ﷺ قال: أتدرون ما قوله
(وإبراهيم الذي وفى) قالوا الله ورسوله أعلم قال وفى عمل يومه بأربع ركعات كان يصليهن وزعم أنها صلاة الضحى " أخرجه سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وغيرهم: قال السيوطي: ضعيف: وفي إسناده جعفر بن الزبير وهو ضعيف.
" وعن سهل بن معاذ ابن أنس عن أبيه عن رسول الله ﷺ قال: ألا أخبركم لم سمى الله خليله الذي وفىّ أنه كان يقول كلما أصبح وأمسى: فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون إلى آخر الآية "، أخرجه ابن أبي حاتم وفي إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف، وعن ابن عباس قال: سهام الإسلام ثلاثون سهماً لم يتممها أحد قبل إبراهيم؛ قال الله: وإبراهيم الذي وفىّ، وعنه قال: يقول: إبراهيم الذي استكمل الطاعة فيما
269
فعل بابنه؛ حين رأى الرؤيا؛ وإنما خص هذين النبيين بالذكر؛ لأنه كان قبل إبراهيم وموسى يؤخذ الرجل بجريرة غيره، فأول من خالفهم إبراهيم ثم بين سبحانه ما في صحفهما فقال:
270
(ألا تزر وازرة وزر أخرى) أي لا تحمل نفس حاملة حمل نفس أخرى، ومعناه لا تؤخذ نفس بذنب غيرها. قال ابن عباس: كانوا قبل إبراهيم يأخذون الرجل بذنب غيره، كان الرجل يقتل بقتل أبيه وابنه وأخيه وامرأته وعبده، حتى كان إبراهيم، فنهاهم عن ذلك، وبلغهم عن الله تعالى ألا تزر الخ، وقد مضى تفسير هذه الآية في سورة الأنعام.
(وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) وهذا أيضاًً من جملة ما في صحف موسى وإبراهيم، والمعنى ليس له إلا أجر سعيه، وجزاء عمله، ولا ينفع أحداً عمل أحد، وهذا العموم مخصوص بمثل قوله سبحانه: (وألحقنا بهم ذريتهم)، وبمثل ما ورد في شفاعة الأنبياء والملائكة للعباد، ومشروعية دعاء الأحياء للأموات، ونحو ذلك، ولم يصب من قال: إن هذه الآية منسوخة بمثل هذه الأمور، فإن الخاص لا ينسخ العام، بل يخصصه، فكل ما قام الدليل على أن الإنسان ينتفع به وهو من غير سعيه، كان مخصصاً لما في هذه الآية من العموم، وتعقب أيضاًً بأنها خبر، ولا نسخ في الأخبار، وبأنها على ظاهرها والدعاء من الولد دعاء من الوالد من حيث اكتسابه للولد، وبأنها مخصوصة بقوم إبراهيم وموسى، لأنها حكاية لما في صحفهم، وأما هذه الأمة فلها ما سعت هي وما سعى لها غيرها، لما صح أن لكل نبي وصالح شفاعة، وهو انتفاع بعمل الغير، ولغير ذلك.
ومن تأمل النصوص وجد من انتفاع الإنسان بما لم يعمله ما لا يكاد يحصى فلا يجوز أن تؤول الآية على خلاف الكتاب والسنة وإجماع الأمة. وحينئذ فالظاهر ما قلنا أن الآية عامة قد خصصت بأمور كثيرة، قال ابن عباس في الآية: فأنزل الله بعد ذلك: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم) الآية،
270
ْفأدخل الله الأبناء الجنة بصلاح الآباء، وكان ابن عباس إذا قرأ هذه الآية إسترجع واستكان، وقيل: أراد بالإنسان الكافر، والمعنى ليس له من الخير إلا ما عمل هو، فيثاب عليه في الدنيا، بأن يوسع عليه في رزقه، ويعافى في بدنه. حتى لا يبقى له في الآخرة خير، وقيل: هو من باب العدل، وأما من باب الفضل فجائز أن يزيده الله ما يشاء من فضله وكرمه، وقيل: هذا منسوخ الحكم في هذه الشريعة، وإنما هو في صحف موسى وإبراهيم.
قال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية (١) رحمه الله: من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله فقد خرق الإجماع، وذلك باطل من وجوه كثيرة:
أحدها: أن الإنسان ينتفع بدعاء غيره، وهو انتفاع بعمل الغير.
ثانيها: أن النبي ﷺ يشفع لأهل الموقف في الحساب، ثم لأهل الجنة في دخولها.
ثالثها: لأهل الكبائر في الخروج من النار، وهذا انتفاع بسعي الغير.
رابعها: أن الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في الأرض، وذلك منفعة بعمل الغير.
خامسها: أن الله تعالى يخرج من النار من لم يعمل خيراً قط بمحض رحمته وهذا انتفاع بغير عملهم.
سادسها: أن أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم، وذلك انتفاع بمحض عمل الغير.
سابعها: قال تعالى في قصة الغلامين اليتيمين (وكان أبوهما صالحاً) فانتفعا بصلاح أبيهما وليس من سعيهما.
_________
(١) غفر الله لشيخ الإسلام، فقد خالف الآية على خلاف عادته، وعلى القارىء أن يراجع الملحق الذي نشرناه في آخر سورة يس (ج ٨ ص ٥٧) ففيه رد صاحب المنار على كل ما سيذكره ابن تيمية وابن القيم.
271
ثامنها: أن الميت ينتفع بالصدقة عنه، وبالعتق بنص السنة والإجماع، وهو من عمل الغير.
تاسعها: أن الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وليه بنص السنة، وهو انتفاع بعمل الغير.
عاشرها: أن الحج المنذور أو الصوم المنذور، يسقط عن الميت بعمل غيره بنص السنة، وهو انتفاع بعمل الغير.
حادي عشرها: المدين قد امتنع ﷺ من الصلاة عليه حتى قضى دينه أبو قتادة، وقضى دين الآخر علي بن أبي طالب، وانتفع بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من عمل الغير.
ثاني عشرها: " أن النبي ﷺ قال لمن صلى وحده: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه؟ " فقد حصل له فضل الجماعة بعمل الغير.
ثالث عشرها: أن الإنسان تبرأ ذمته من ديون الخلق إذا قضاها قاض عنه، وذلك انتفاع بعمل الغير.
رابع عشرها: أن من عليه تبعات ومظالم إذا حلل منها سقطت عنه وهذا انتفاع بعمل الغير.
خامس عشرها: أن الجار الصالح ينفع في المحيا والمات، كما جاء في الأثر وهذا انتفاع بعمل الغير.
سادس عشرها: أن جليس أهل الذكر يرحم بهم، وهو لم يكن منهم، ولم يجلس لذلك لحاجة عرضت له، والأعمال بالنيات، فقد انتفع بعمل غيره.
سابع عشرها: الصلاة على الميت والدعاء له في الصلاة انتفاع للميت بصلاة الحي عليه وهو عمل غيره.
272
ثامن عشرها: أن الجمعة تحصل باجتماع العدد، وكذلك الجماعة بكثرة العدد، وهو انتفاع للبعض بالبعض.
تاسع عشرها: أن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) وقال تعالى: (ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات) الخ. وقال تعالى: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض) الخ فقد رفع الله تعالى العذاب عن بعض الناس بسبب بعض، وذلك انتفاع بعمل الغير.
عشروها: أن صدقة الفطر تجب على الصغير وغيره، ممن يمونه الرجل فإنه ينتفع بذلك من يخرج عنه ولا سعي له فيها.
حادي عشريها: أن الزكاة تجب في مال الصبي والمجنون ويثاب على ذلك، ولا سعي له، ومن تأمل العلم وجد من انتفاع الإنسان بما لم يعمله ما لا يكاد يحصى، فكيف يجوز أن تتأول الآية الكريمة على خلاف صريح الكتاب والسنة وإجماع الأمة؟ انتهى كلامه رحمه الله.
273
(وأن سعيه سوف يرى) أي يعرض عليه، ويكشف له يوم القيامة، ويبصره في الآخرة في ميزانه من غير شك
(ثم يجزاه) أي يجزي الإنسان سعيه، يقال: جزاه الله بعمله، وجزاه على عمله، فالضمير المرفوع عائد على الإنسان، والمنصوب على سعيه، وقيل: على الجزاء المتأخر، وهو قوله: (الجزاء الأوفى) فيكون هو مفسراً له، ويجوز أن يرجع إلى الجزاء الذي هو مصدر يجزاه، وقواه السفاقسي، ويجعل الجزاء الأوفى تفسيراً للجزاء المدلول عليه بالفعل، كما في قوله: (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)، قال الأخفش: يقال جزيته الجزاء، وجزيته بالجزاء سواء لا فرق بينهما.
(وأن إلى ربك المنتهى) أي المرجع، والمصير إِليه سبحانه، لا إلى غيره، فيجازيهم بأعمالهم، هذا كله في الصحف الأولى، والمخاطب عام، أو النبي ﷺ خاصة.
273
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (٥٠) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (٥٣) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (٥٥) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢)
عن " أبيّ بن كعب في هذه الآية عن النبي ﷺ قال: لا فكرة في الرب "
274
(وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى) أي هو الخالق لذلك، والقاضي بسببه: قال الحسن والكلبي: أضحك أهل الجنة في الجنة، وأبكى أهل النار في النار، وقال الضحاك: أضحك الأرض بالنبات، وأبكى السماء بالمطر، وقيل أضحك من شاء في الدنيا بأن سره، وأبكى من شاء بأن غمه.
وهذا على أن كُلاًّ من الفعلين حذف مفعوله، وقال سهل بن عبد الله: أضحك المطيعين بالرحمة، وأبكى العاصين بالسخط، وقيل: أضحك المؤمنين في العقبى بالمواهب، وأبكاهم في الدنيا بالنوائب، وقيل: خلق الفرح والحزن، وقيل: إن الفعلين من الأفعال اللازمة كقوله: الله يحيي ويميت، وهذا يدل على أن ما يعمل الإنسان فبقضائه وخلقه، حتى الضحك والبكاء.
(وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا) أي: قضى أسباب الموت والحياة، ولا يقدر على ذلك غيره، وقيل: خلق نفس الموت والحياة، كما في قوله: (خلق الموت والحياة)، وقيل أمات الآباء وأحيا الأبناء، وقيل: أمات في الدنيا وأحيا للبعث، وقيل: المراد بهما النوم واليقظة، وقال عطاء: أمات بعدله،
274
وأحيا بفضله، وقيل: " أمات الكافر، وأحيا المؤمن، كما في قوله: (أو من كان ميتاً فأحييناه).
275
(وأنه خلق الزوجين) الصنفين (الذكر والأنثى) من كل حيوان وهذا أيضاًً من جملة المتضادات الواردة على النطفة، فبعضها يخلق ذكراً وبعضها يخلق أنثى، ولا يصل إليه فهم العقلاء، ولا يعلمونه، وإنما هو بقدرة الله لا بفعل الطبيعة، وفيه رد على الطبائعيين القائلين بالبرد والرطوبة في الأنثى فرب امرأة أحر وأيبس مزاجاً من الرجل
(من نطفة) مني، ولا يدخل في ذلك آدم وحواء، فإنهما لم يخلقا من النطفة، والنطفة الماء القليل (إذا تمنى) أي: تصب في الرحم، وتدفق فيه، كذا قال الكلبي والضحاك وعطاء بن أبي رباح وغيرهم يقال: منى الرجل يمني، وأمنى أي: صب المني، وقال أبو عبيدة: إذا تمنى إذا تقدر، يقال: منيت الشيء إذا قدرته ومنى له إذا قدر له.
(وأن عليه النشأة الأخرى) أي إعادة الأرواح إلى الأجسام عند البعث، وفاء بوعده. فإنه قال: إنا نحن نحيي ونميت لا بحكم العقل ولا الشرع قرىء النشأة بالقصر بوزن الضربة، وبالمد بوزن الكفالة، سبعيتان وهما على القراءتين مصدران
(وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى) أي أغنى من شاء، وأفقر من شاء، ومثله قوله: (يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر)، وقوله: (يقبض ويبسط) قاله ابن زيد، واختاره ابن جرير وقال مجاهد وقتادة والحسن: أغنى مول، وأقنى أخدم وقيل معنى أقنى: أعطى القنية وهي ما يتأثل من الأموال، أي. أصول الأموال، وما يدخرونه بعد الكفاية.
وقيل: معنى أقنى أرضى بما أعطى أي أغناه. ثم أرضاه بما أعطاه، قال الجوهري: قنى الرجل يقني مثل غنى يغني، ثم يتعدى بتغيير الحركة فيقال: قنيت له مالاً كسبته، وهو نظير شترت عينه بالكسر، وشترها الله بالفتح، فإذا دخلت عليه الهمزة والتضعيف اكتسب مفعولاً ثانياً فيقال: أقناه
275
الله مالاً، وقناه إياه أي أكسبه إياه وأقناه أرضاه، والقناء الرضا، قال أبو زيد: تقول العرب: من أعطى مائة من البقر فقد أعطى القنى، ومن أعطى مائة من الضان فقد أعطى الغنى ومن أعطى مائة من الإبل فقد أعطى المنى، وقال الأخفش وابن كيسان: أقنى أفقر، وهو يؤيد القول الأول، وقال ابن عباس: أغنى وأقنى أعطى وأرضى، وقيل: أقنى زاد فوق الغنى، وحذف مفعول أغنى وأقنى لأن المراد نسبة هذين الفعلين إليه وحده، وكذلك باقيها.
276
(وأنه هو رب الشعرى) هي كوكب يطلع خلف الجوزاء في شدة الحر والمراد به هنا الشعرى التي يقال لها العبور، وهي أشد ضياء من الشعرى التي يقال لها الغميصاء، وإنما ذكر سبحانه أنه هو رب الشعرى، مع كونه رباً لكل الأشياء، للرد على من كان يعبدها. وأول من عبدها أو سن عبادتها أبو كبشة، وكان من أشراف العرب، وذلك لأن النجوم تقطع السماء عرضاً، والشعرى تقطعها طولاً، فهي مخالفة لها فعبدها وعبدتها خزاعة وحمير، وكانت قريش تقول لرسول الله ﷺ ابن أبي كبشة تشبيهاً له به، لمخالفته دينهم، كما خالفهم أبو كبشة، وكان من أجداد النبي ﷺ من قبل أمه، ومن ذلك قول أبي سفيان عند دخوله على هرقل: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة، قال ابن عباس في الآية: هو الكوكب الذي يدعى الشعرى، وعنه قال: نزلت هذه الآية في خزاعة وكانوا يعبدون الشعرى، وهو الكوكب الذي يتبع الجوزاء، ويسمى كلب الجبار أيضاًً.
(وأنه أهلك عاداً الأولى) وصف عاداً بالأولى لكونهم كانوا من قبل ثمود، قال ابن زيد: قيل لها عاد الأولى لأنهم أول أمة أهلكت بعد نوح، وقال ابن إسحق: هما عادان فالأولى أهلكت بالصرصر، والأخرى بالصيحة، وقيل: عاد الأولى قوم هود، أهلكوا بريح صرصر، وعاد الأخرى إرم بن عوص بن سام بن نوح
(و) أهلك (ثمود) كما أهلك عاداً (فما أبقى) أحداً من الفريقين، وثمود هم قوم صالح عليه السلام؛ أهلكوا بالصيحة وقد تقدم الكلام على عاد وثمود في غير موضع.
(و) أهلك (قوم نوح) بالغرق (من قبل) أي من قبل إهلاك عاد وثمود (إنهم كانوا هم أظلم) من عاد وثمود (وأطغى) منهم أو أظلم وأطغى من جميع الفرق الكفرية أو أظلم وأطغى من مشركي العرب وإنما كانوا كذلك لأنهم عتوا على الله بالمعاصي مع طول مدة دعوة نوح لهم كما في قوله: (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً) وقيل: لأنهم كانوا يضربونه حتى لا يكون به حراك ويغشى عليه فإذا أفاق قال: رب أغفر لقومي فإنهم لا يعلمون وينفرون عنه حتى كانوا يحذرون صبيانهم أن يسمعوا منه.
(والمؤتفكة) الإئتفاك الإنقلاب، والمؤتفكة مدائن قوم لوط عليه السلام وسميت المؤتفكة لأنها انقلبت بهم وصار عاليها سافلها، تقول أفكته إذا قلبته ومعنى (أهوى) أي أسقط أي أهواها جبريل إلى الأرض بعد أن رفعها إلى السماء مقلوبة إلى الأرض قال المبرد: جعلها تهوي.
(فغشاها ما غشى) أي ألبسها ما ألبسها من الحجارة المنضودة المسومة التي وقعت عليها كما في قوله: (فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل) وفي هذه العبارة تهويل للأمر الذي غشاها به وتعظيم له وقيل: إن الضمير راجع إلى جميع الأمم المذكورة أي فغشاها من العذاب ما غشى على اختلاف أنواعه.
(فبأي آلاء ربك تتمارى) هذا خطاب للإنسان المكذب أي فبأي نعم ربك الدالة على وحدانيته وقدرته أيها الإنسان المكذب تتشكك وتمتري وقيل: الخطاب لرسول الله ﷺ تعريضاً لغيره فهو من باب الإلهاب والتهييج والتعريض بالغير، وعن ابن عباس: أنه للوليد بن المغيرة، وقيل: لكل من يصلح له، قال ابن عادل: الصحيح العموم لقوله تعالى: (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم) وقوله: (وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً) قلت: ولقوله: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) قيل: إسناد فعل التماري إلى الواحد باعتبار تعدده بحسب تعدد متعلقه وهو الآلاء المتماري فيها قلت لا حاجة إلى
277
هذا التكلف لأن التفاعل مجرد عن التعدد في الفاعل والفعل، للمبالغة في الفعل، وسمى هذه الأمور المذكورة آلاء أي: نعماً مع كون بعضها نقماً لا نعماً، لأنها مشتملة على العبر والمواعظ، ويكون فيها إنتقام من العصاة، وفي ذلك نصرة للأنبياء والصالحين، وقرىء تتمارى من غير إدغام وبإدغام إحدى التاءين في الأخرى.
278
(هذا نذير من النذر الأولى) أي هذا محمد رسول إليكم من الرسل المتقدمين قبله، فإنه أنذركم كما أنذروا قومهم، كذا قال ابن جرير ومحمد ابن كعب وغيرهما، وقال قتادة: يريد القرآن، وأنه أنذر بما أنذرت به الكتب الأولى، وقيل: هذا الذي أخبرنا به عن أخبار الأمم تخويف لهذه الأمة من أن ينزل بهم ما نزل بأولئك، كذا قال أبو مالك، وقال أبو صالح: إن الإشارة بقوله هذا إلى ما في صحف موسى وإبراهيم، والأول أولى، قال ابن عباس: هذا نذير أي محمد ﷺ والأولى على تأويل الجماعة لمراعاة الفواصل، والتنوين للتفخيم على جميع التقارير المتقدمة.
(أزفت الآزفة) أي: قربت الساعة ودنت، سماها آزفة لقرب قيامها وقيل: لدنوها من الناس، كما في قوله: (اقتربت الساعة)، أخبرهم بذلك ليستعدوا لها قال في الصحاح: أزفت الآزفة يعني القيامة، وأزف الرجل عجل، قال ابن عباس: الآزفة من أسماء القيامة والألم فيه للعهد لا للجنس لئلا يخلو الكلام عن الفائدة إذ لا معنى لوصف القريب بالقرب، كما قيل، ولذا قيل إن الآزفة علم بالغلبة للساعة هنا وفيه نظر لأن وصف القريب بالقرب يفيد المبالغة في قربه، كما يدل عليه الافتعال في (اقتربت الساعة) فتأمل.
(ليس لها من دون الله كاشفة) أي ليس لها نفس أو حال قادرة على كشفها عند وقوعها إلا لله سبحانه، وقيل: كاشفة بمعنى انكشاف والهاء فيها كالهاء في العاقبة والداهية، وقيل: كاشفة بمعنى كاشف والهاء للمبالغة كراوية
278
وعلامة ونسابة، والأول أولى، والمعنى أنه لا يقدر على كشفها إذا غشت الخلق بشدائدها وأهوالها أحد غير الله، كذا قال عطاء والضحاك وقتادة وغيرهم، وقيل: ليس لها نفس مبينة متى تقوم، كقوله: (لا يجليها لوقتها إلا هو) ثم وبخهم سبحانه فقال:
279
(أفمن هذا الحديث تعجبون) المراد بالحديث القرآن، أي: كيف تعجبون منه تكذيباً.
(وتضحكون) منه استهزاء مع كونه غير محل للتكذيب، ولا موضع للاستهزاء (ولا تبكون) خوفاً وانزجاراً لما فيه من الوعيد الشديد.
عن صالح أبي الخليل قال: لما نزلت هذه الآية فما ضحك النبي ﷺ بعد ذلك إلا أن يتبسم، وفي لفظ فما رئي النبي ﷺ ضاحكاً ولا متبسماً حتى ذهب من الدنيا "
(وأنتم سامدون) لاهون غافلون عما يطلب منكم مستأنفة لتقرير ما قبلها أو حالية، والسمود الغفلة والسهو عن الشيء، والإعراض واللهو وقيل: الخمود، وقيل: الإستكبار، وقال في الصحاح: سمد سموداً رفع رأسه تكبراً، فهو سامد، وقال ابن الأعرابي: السمود اللهو والسامد اللاهي يقال للقينة: أسمدينا أي الهينا بالغناء، وقال المبرد: سامدون خامدون، وقال مجاهد: غضاب مبرطمون، والبرطمة الإعراض، وقيل: أشرون بطرون وقيل: ساهون لاهون غافلون لاعبون.
وقال ابن عباس: لاهون معرضون عنه، وعنه قال: هو الغناء باليمانية وكانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا ولعبوا، وقال أبو عبيدة: السمود الغناء بلغة حمير يقولون: يا جارية أسمدي لنا أي غني، وقال: كانوا يمرون على النبي ﷺ شامخين، ألم تر إلى البعير كيف يخطر شامخاً، وعن أبي خالد الوالبي قال: خرج علي بن أبي طالب علينا، وقد أقيمت الصلاة ونحن قيام ننتظره ليتقدم فقال: ما لكم سامدون؟ لا أنتم في صلاة ولا أنتم في جلوس تنظرون.
(فاسجدوا لله) لما وبخ سبحانه المشركين على الاستهزاء بالقرآن والضحك منه والسخرية، وعدم الانتفاع بمواعظه وزواجره، أمر عباده المؤمنين بالسجود لله، والعبادة له، أي إذا كان الأمر كذلك فاسجدوا لله (واعبدوا) فإنه المستحق لذلك منكم، وهو من عطف العام على الخاص، أي ولا تسجدوا للأصنام، ولا تعبدوها، وهذا مأخوذ من لام الاختصاص، ومن السياق، وقد تقدم في فاتحة السورة أن النبي ﷺ سجد عند تلاوته هذه الآية، وسجد معه الكفار فيكون المراد بها سجود التلاوة، وقيل سجود الفرض.
280
سورة القمر
ويقال سورة اقتربت
وقد تقدم أن النبي - ﷺ - كان يقرأ يقاف واقتربت الساعة في الأضحى والفطر وقال ابن عباس: اقتربت تدعى في التوراة المبيضة تبيض وجه صاحبها يوم تبيض الوجوه، قال البيهقي: منكر.
و" عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة رفعه من قرأ اقتربت الساعة في كل ليلة بعثه الله يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر " أخرجه ابن الضريس وهي خمس وخمسون آية وهي مكية كلها في قول الجمهور وقال مقاتل: إلا ثلاث آيات من قوله: (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) إلى قوله: (وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) قال القرطبي: ولا يصح وقيل: إلا (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ) الآية وعن ابن عباس: أنها نزلت بمكة وعن ابن الزبير مثله، وجميع آيات السورة فواصلها على الراء الساكنة.
281

بسم الله الرحمن الرحيم

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢)
283
Icon