تفسير سورة سورة يوسف من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
.
لمؤلفه
الصاوي
.
المتوفي سنة 1241 هـ
ﰡ
قوله: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ ﴾ مبتدأ وخبر، واشير إليها بإشارة البعيد، إشارة لبعد رتبتها عن كلام الحوادث وعلو شأنها. قوله: (هذه الآيات) أي آيات هذه السورة. قوله: (المظهر للحق) أي فهو مأخوذ من أبان المتعدي، ويصح أخذه من اللازم، ويكون المعنى البين حلاله وحرامه. قوله: ﴿ إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ ﴾ أي نحن بعظمتنا وجلالنا. قوله: ﴿ عَرَبِيّاً ﴾ نعت للقرآن، والعربي منسوب للعرب لكونه نزل بلغتهم، والمعنى أن القرآن نزل بلغة العرب، فليس فيه شيء غير عربي. فإن قلت: قد ورد في شيء غير عربي، كسجيل ومشكاة واستبرق وغير ذلك. أجيب: بأن هذا مما توافقت فيه اللغات، والمراد أن تراكيبه وأساليبه عربية، وإن ورد فيه غير عربي، فهو على أسلوب العرب، وعلى أسلوب غيرهم، وإنما كان عربياً، لأن تلك اللغة أفصح اللغات، ولأنها لغة أهل الجنة في الجنة. قوله: ﴿ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ علة لكونه عربياً، والمعنى لكي تفهموا معانيه وتتأملوا فيها، فتعلموا أنه من عند الله.
قوله: ﴿ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ ﴾ صفة لمصدر محذوف مفعول مطلق، والتقدير قصصاً أحسن القصص، والقصص في اللغة من قص الأثر تتبعه، سمي الكلام الذي يحكي عن الغير بذلك، لأن المتكلم يقص الخبر شيئاً فشيئاً، والمعنى نحن نبين لك أخبار الأمم السابقة أحسن البيان، وقيل المراد خصوص قصة يوسف، وإنما كانت أحسن القصص، لما فيها من الحكم والنكت، وسير الملوك والمماليك والعلماء، ومكر النساء، والصبر على الأذى، والتجاوز عنه أحسن التجاوز، وغير ذلك من المحاسن. قوله: (بإحيائنا) الباء سببية، وأشار بذلك إلى أن ما مصدرية، والجار والمجرور متعلق بنقص. قوله: ﴿ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ ﴾ اسم الإشارة مفعول لأوحينا، والقرآن بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان أو نعت. قوله: ﴿ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ ﴾ الجملة حالية. قوله: ﴿ لَمِنَ ٱلْغَافِلِينَ ﴾ أي لم تخطر ببالك تلك القصة ولم تسمعها قط، بل كنت خالي الذهن منها، وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم، حيث يخبر عن المتقدمين والمتأخرين، بأحسن تعبير وأبلغ وجه، ولذا قال البوصيري: كفاك بالعلم في الأميء معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتمفأكبر دليل على فضل الإنسان، غزارة علمه وسعة اطلاعه، على ما أعطاه الله من العلوم اللدنية والمعارف الربانية.
قوله: (اذكر) قدره إشارة إلى أن ﴿ إِذْ ﴾ ظرف لمحذوف، وقيل معمول لقوله تعالى: (يا بنيّ) وهو الأولى لما فيه من عدم الحذف. قوله: ﴿ يُوسُفُ ﴾ اسم عبراني ممنوع من الصرف، وعاش من العمر مائة وعشرين سنة، وعاش أبوه مائة وسبعاً وأربعين سنة، وعاش جده إسحاق مائة وثمانين سنة، وعاش جده إبراهيم مائة وخمساً وسبعين سنة. قوله: (بالكسر) أي وأصلها يا أبي، حذفت الياء وعوض عنها تاء التأنيث، ونقلت كسرة ما قبلها لها، وفتحت الياء لمناسبة تاء التأنيث، وتقول في إعرابها: يا حرف نداء، وأبت منادى منصوب بفتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، المعوض عنها تاء التأنيث. قوله: (والفتح) أي وأصلها أبي، بكسر الباء وفتح الياء، ففتحت الباء ثم تحركت الياء، وانفتح ما قبلها، قلبت ألفاً، حذفت الألف وعوض عنها تاء التأنيث، وفتحت للدلالة على الألف المحذوفة، وتعويض تأء التأنيث عن ياء المتكلم مختص بلفظين: أبت وأمت، وهذا الوجهان زائدان على أوجه المنادى المضاف لياء المتكلم وهي خمس، جمعها ابن مالك في قوله: واجعل منا صح إن يضف ليا كعبد عبدي عبد عبداً عبدياًفيكون في أبت وأمت سبعة أوجه، يجوز منها وجهان قراءة لا غير. قوله: ﴿ إِنِّي رَأَيْتُ ﴾ هذه الرؤية كانت ليلة الجمعة ليلة القدر، وكان سنة إذ ذاك اثنتي عشرة، وقيل سبع سنين، وقيل سبع عشرة سنة، وبين هذه الرؤية واجتماعه بأبيه وأخوته في مصر أربعون سنة، وقيل ثمانون، وقيل اثنتان وعشرون، وقيل ثمانية عشر، وسيأتي تحقيق ذلك، والمراد بالسجود هنا، قيل الخضوع والانحناء، وقيل حقيقة السجود. قوله: ﴿ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً ﴾ أي وهو: جريان والطارق والذيال وقابس وعمودان والفليق والمصبح والصروخ والفرع ووثاب وذو الكتفين، وقد رأى الجميع نزلن من السماء وسجدن له، وجريان بفتح الجيم وكسر الراء وتشديد الياء التحتية، وقابس بقاف ومودة وعين مهملة، وعمودان تثنية عمود، والفليق بفاء آخره قاف، والمصبح اسم مفعول، والفرع بفاء وراء مهملة ساكنة وعين مهملة، ووثاب بتشديد المثلثة، وذو الكتفين تثنية كتف. قوله: (تأكيد) أي هذه الجملة تأكيد للجملة الأولى، ويصح أن يكون قوله: ﴿ رَأَيْتُهُمْ لِي ﴾ جواباً لسؤال مقدر نشأ من قوله: ﴿ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ ﴾ كأن قائلاً قال: وما كيفية رؤياك فيهم؟ فقال: ﴿ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾.
قوله: (جمع بالياء والنون) أي قوله: ﴿ سَاجِدِينَ ﴾.
قوله: ﴿ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ ﴾ إنما نهاه أبوه عن ذلك لأنه من رؤياه أن الله تعالى يصطفيه لرسالته ويفوق إخوانه فخاف عليه حسدهم، ويؤخذ من ذلك، أن الإنسان إذا رأى خيراً في منامه، لا يخبر به إلا حبيباً أو لبيباً غير حسود، لما قيل: إن الرؤيا على رجل طائر متى قصت وقعت، بخلاف رؤيا المكروه، فلا يقصها، لما في الحديث:" إذا رأى أحدكم ما يحب، فلا يحدث بها إلا من يحب، وإذا رأى ما يكره، فليتفل عن يساره ثلاثاً، وليتعوذ بالله من الشيطان وشرها، فإنها لا تضره "قوله: (والشمس أمك والقمر أبوك) حكمة تأويل أمه بالشمس، لأنها يظهر منها الأقمار وهم الأنبياء، وأبيه بالقمر، لأن القمر يهتدى به في الظلم، فكذلك الرسل يهتدى بهم في ظلمات الجهل والشرك، والإخوة بالكواكب، لأن نورهم لا يبلغ نور أبيهم، إما لأنهم أنبياء فقط وليسوا برسل، أو أولياء فقط وليسوا بأنبياء، وما مشى عليه المفسر، من أن المراد بالشمس أمه أحد قولين، وقيل إن أمه راحيل قد ماتت، والمراد بالشمس خالته ليا. قوله: ﴿ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ أي فيوقع الإنسان في المعاصي لفرط عداوته له. واعلم أن ما وقع من إخوة يوسف معه مما يأتي في القصة، باق على ظاهره، ولا تأويل فيه على القول بعدم نبوتهم، لأن الولي تجوز عليه المعصية، ولكن لا يصر عليها بل يتوب، وهؤلاء آل أمرهم لحسن التوبة، وأما على القول بنبوتهم، فهو مشكل غاية الإشكال، إذ كيف يقع ذلك من الأنبياء؟ فأجاب العلماء على ذلك، بأن هذا مبني على أن النبي معصوم بعد النبوة لا قبلها، أو كانوا لم يبلغوا الحلم، وكل هذا ليس بسديد، بل الحق أن النبي معصوم ظاهراً وباطناً، قبل النبوة وبعدها، وإنما الواجب الذي يشفي الغليل ويريح العليل أن يقال: إن الله أطلعهم على أن يوسف يعطي النبوة والملك بمصر، ولا يتصور ذلك إلا بهذا الفعل، فهم مأمورون به باطناً مخالفون ظاهراً، إذ ليسوا مشرعين، فلا يكلمون إلا بخلوص بواطنهم مع ربهم، ونظير ذلك قصة الخضر مع موسى، حيث قال بعد ما فعل ما فعل:﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ﴾[الكهف: ٨٢]، فهم مأمورون بحكم الباطن، مخالفون بحكم الظاهر، وقصة آدم في أكله من الشجرة، وتقدم ما يفيد ذلك في البقرة بأبلغ وجه. قوله: ﴿ وَكَذٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ﴾ أي كما رفع منزلتك بهذه الرؤيا العظيمة، يختارك ويصطفيك ربك. قوله: (تعبير الرؤيا) أي تفسيرها. قوله: ﴿ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ﴾ أي يصل نعمة الدنيا بنعمة الآخرة. قوله: ﴿ وَعَلَىٰ ءَالِ يَعْقُوبَ ﴾ لم يقل بالنبوة إشارة للخلاف في نبوتهم. قوله: ﴿ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ﴾ إما بدل من أبويك، أو عطف بيان عليه. قوله: ﴿ عَلِيمٌ ﴾ (بخلقه) أي فيصطفي من يشاء، وقوله: ﴿ حَكِيمٌ ﴾ (في صنعه) أي فيضع الأشياء في محلها. قوله: ﴿ لَّقَدْ كَانَ ﴾ اللام موطئة لقسم محذوف، والتقدير والله لقد كان إلخ. قوله: (وهم أحد عشر) أي وهم: يهودا وروبيل وشمعون ولاوي وريالون ويشجر، وهؤلاء الستة من بنت خال يعقوب ليا، ثم بعد موتها تزوج أختها راحيل، وقيل جمع بينهما ولم يكن لجمع بين الأختين محرماً في شرعه، فولدت له بنيامين ويوسف، وأما الأربعة الباقية: دان ونفتالي وجاد وآشر، فمن سريتين زلفة وبلهة. قوله: ﴿ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ ﴾ أي وغيرهم، ففيه اكتفاء، وذلك أن اليهود لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف، وقيل سألوا عن انتقال أولاد يعقوب، من أرض كنعان إلى أرض مصر، فذكر لهم تلك القصة، فوجدوها مطابقة لما في التوراة، وحينئذ فهي من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، حيث قص عليم تلك القصة بأبلغ وجه، مع كونه لم يسبق له تعلم من أحد، ولا قرأ ولا كتب.
قوله: ﴿ لَيُوسُفُ ﴾ اللام موطئة لقسم محذوف. قوله: (بنيامين) بكسر الباء وفتحها، وهو أصغر من يوسف. قوله: ﴿ أَحَبُّ ﴾ (خبر) أي عن يوسف وأخوه، ولم تحصل المطابقة لأنه اسم تفضيل مجرد، وهو يلزم التذكير والتوحيد، قال ابن مالك: وإن لمنكور يضف أو جرداً ألزم تذكيراً وأن يوحداو ﴿ أَحَبُّ ﴾ مصوغ من حب المبني للمفعول وهو سماعي، ولو جاء على القياس لتوصل إليه بأشد، قال ابن مالك: وأشدد أو أشد أو شبههما يخلف ما بعض الشروط عدماواعلم أن مادة الحب والبغض، إذا بني أفعل التفضيل منها تعدى للفاعل بإلى، وللمفعول باللام، أو بفي، الآية الكريمة من الأول، فإن الأب هو فاعل المحبة، وإذا قلت: زيد أحب لي من عمرو، وأحب في منه، كان معناه أن زيداً يحبني أكثر من عمرو. قوله: ﴿ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ﴾ الجملة حالية، والعصبة قيل من العشرة إلى الأربعين، وقيل من ثلاثة إلى عشرة، وقيل من عشرة إلى خمسة عشر، وقيل غير ذلك. قوله: (خطأ) أي في أمر الدنيا وما يصلحها، لأنا أشد قوة وأكبر سناً وأكثر منفعة من يوسف، فلم آثره علينا في المحبة، إن هذا الخطأ بين، وليس المراد الخطأ في الدين، فإن اعتقاده كفر. قوله: (بإيثارهما) أي تقديمهما. قوله: ﴿ ٱقْتُلُواْ يُوسُفَ ﴾ إلخ، إنما قالوا ذلك، لأن خبر المنام بلغهم، فتشاورا في كيده بين أحد أمرين: إما قتله أو تغريبه بأرض بعيدة. قوله: (أي بأرض) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ أَرْضاً ﴾ منصوب على نزع الخافض، ويصح نصبه على الظرفية، لأن المقصود أي أرض بعيدة. قوله: ﴿ وَجْهُ أَبِيكُمْ ﴾ أي قلبه، والمعنى لا يكون لكم منازع في محبته فيكم حينئذ. قوله: (بأن تتوبوا) أي تصلحوا دينكم بعد هذه الفعلة. قوله: ﴿ قَالَ قَآئِلٌ ﴾ هذا رأي ثالث أرفق بيوسف مما تقدم على الخصلتين. قوله: (هو يهودا) بدال مهملة، وأصل بالعبرانية المعجمة، لكن لما استعملته العرب أهملته، وكان أكبرهم سناً وأحسنه رأياً، وقيل القائل روبيل. قوله: ﴿ فِي غَيَٰبَتِ ٱلْجُبِّ ﴾ الغيابة الشيء المظلم، والجب البئر التي لم تطو. والمعنى اطرحوه في قعر البئر المظلم، وكان بأرض بيت المقدس، وقيل بالأردن، وقيل على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب. قوله: ﴿ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ ٱلسَّيَّارَةِ ﴾ أي لأن هذا الجب كان يرد عليه كثير من المسافرين. قوله: (فاكتفوا بذلك) قدره إشارة إلى أن جواب الشرط محذوف. قوله: ﴿ قَالُواْ يَٰأَبَانَا ﴾ هذا مرتب على محذوف، وذلك أنهم قالوا أولاً ليوسف. اخرج معنا إلى الصحراء إلى مواشينا فنستبق ونصيد، وقالوا له: سل أباك أن يرسلك معنا، فسأله فتوقف يعقوب، فقالوا مالك إلخ، والمعنى أي شيء ثبت لك في عدم أمننا؟ قوله: ﴿ تَأْمَنَّا ﴾ اتفق القراء على إخفاء النون الساكنة عند النون المتحركة، واتفقوا أيضاً على إدغامها مع الأشمام كما في الخطيب، ومن الشواذ ترك الإدغام كما في أبي السعود. قوله: (لقائمون بمصالحه) أي لعاطفون عليه حافظون له. قوله: ﴿ غَداً ﴾ منصوب على الظرفية، والغد: اليوم بعد يومك. قوله: (بالنون والياء فيهما) أي في نرتع ونلعب، وهما قراءتان سبعيتان، والرتع التمتع في أكل الفواكه ونحوها، واللعب بالاستباق والانتضال تمريناً لقتال الأعداد؛ وهو غرض صحيح مباح، لما فيه من تعلم المحاربة والإقدام على العدو.
قوله: ﴿ لَيَحْزُنُنِيۤ ﴾ الحزن ألم القلب بفراق المحبوب. قوله: ﴿ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ ٱلذِّئْبُ ﴾ بالهمز وتركه قراءتان سبعيتان، وسبب خوفه، أنه كان رأى في المنام أن ذئباً تعرض ليوسف، فكان يخاف عليه الذئب. قوله: ﴿ قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ ﴾ هذا جواب عن عذره الثاني وهو قوله: ﴿ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ ٱلذِّئْبُ ﴾ وأما الأول وهو قوله: ﴿ إِنِّي لَيَحْزُنُنِيۤ ﴾ إلخ، فلا يجيبوا عنه، لأن غرضهم حصوله. قوله: ﴿ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ﴾ الجملة حالية. قوله: (عاجزون) أي فالخسران مجاز عن الضعف والعجز لأنه يشبهه.
قوله: ﴿ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ ﴾ تقدم أنه كان بين ذهابهم به واجتماعه بأبيه أربعون سنة، وقيل ثمانون سنة، لم تجف فيها عين يعقوب. قوله: (بأن نزعوا قميصه) إلخ، روي أنهم لما برزوا به إلى الصحراء أخذوا يؤذونه ويضربونه، حتى كادوا يقتلونه، فصار يصيح ويستغيث، فقال يهودا: أما عاهدتموني على ألا تقتلوه؟ فأتوا به إلى البئر فدلوه فيها فتعلق بشفيرها، ونزعوا قميصه ليلطخوه بالدم ويحتالوا به على أبيهم، فقال: يا إخوتاه ردوا علي قميصي أتوارى به، فقالوا له: ادع الأحد عشر كوكباً، والشمس والقمر يلبسوك ويؤنسوك، وفي القصص، أن إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، جرد عن ثيابه، فأتاه جبريل عليه السلام بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه، فدفعه إبراهيم إلى إسحاق، ودفعه إسحاق إلى يعقوب فجعله في قصبة من فضة، وجعلها في عنق يوسف، فألبسه الملك إياه حين ألقي في الجب، فأضاء له الجب، وسيأتي أنه القميص الذي أرسله مع البشير بأمر جبريل، وأخبره أنه لا يلقى على مبتلى إلا عوفي. قوله: (ثم أوى إلى الصخرة) أي جاء له بها الملك فأجلسه عليها، قال الحسن: لما ألقي يوسف في الجب عذب ماؤها، فكان يغنيه عن الطعام والشراب، ودخل عليه جبريل فأنس به، فلما أمسى نهض ليذهب فقال: إنك إذا خرجت استوحشت، فقال: إذا رهبت من شيء فقل: يا صريخ المستصرخين، ويا غوث المستغيثين، ويا مفرج كرب المكروبين، فقد ترى مكاني وتعلم حالي، ولا يخفى عليك شيء من أمري، فلما قالها يوسف، حفته الملائكة واستأنس في الجب، وفرج الله عنه بخروجه من ليلته، وقيل إنه مكث في الجب ثلاثة أيام، فكان إخوته يرعون حوله، وكان يهودا يأتيه بالطعام. قوله: (أو دونها) قيل خمسة عشر، وقيل اثني عشر، وقيل سبعة. قوله: ﴿ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ ﴾ أي كما سيأتي في قوله:﴿ وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ ﴾[يوسف: ٥٨] الآية. قوله: ﴿ عِشَآءً ﴾ أي ليكونوا في الظلمة ليقبل اعتذارهم، فلما بلغوا منزل يعقوب، جعلوا يبكون ويصرخون فسمع أصواتهم ففزع من ذلك وسألهم، فأجابوه بما ذكر. قوله: ﴿ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا ﴾ إلخ، في هذا الكلام فتح باب اتهام لهم كما لا يخفى. قوله: (لا تهمتنا) إلخ، قدره المفسر إشار إلى أن لو شرطية، وجوابها محذوف، والأسهل من هذا جعل الواو حالية، ولو زائدة، والتقدير وما أنت بمؤمن لنا، والحال أنا كنا صادقين في نفس الأمر. قوله: (محله نصب) أي فعلى ظرف بمعنى فوق. قوله: (أي ذي كذب) أشار بذلك إلى أن وصف الدم بالكذب على حذف مضاف، ويصح أن يكون مبالغة على حد زيد عدل. قوله: (سخلة) هي الصغيرة من الغنم. قوله: (وذهلوا عن شقه) أي عن تمزيقه، لأن العادة أن الذئب إذا أكل الإنسان يشق قميصه، وقد ذهلوا عن هذه الحيلة كي لا تتم لهم. قوله: (لما رآه صحيحاً) روي أنه قال: ما أحلم هذا الذئب يأكل ابني ولا يقد قميصه، وقيل: إنهم أتوه بذئب وقالوا: هذا أكله، فقال يعقوب: أيها الذئب، أنت أكلت ولدي وثمرة فؤادي؟ فأنطقه الله قال: والله ما أكلت ولدك ولا رأيته قط، ولا يحل لنا أن نأكل لحوم الأنبياء، فقال له يعقوب: فكيف وقعت بأرض كنعان؟ فقال: جئت لصلة الرحم، فأخذوني وأتوا بي إليك، فأطلقه يعقوب. قوله: ﴿ بَلْ سَوَّلَتْ ﴾ أي سهلت لكم أنفسكم أمراً عظيماً، فعلتموه بيوسف وهونتموه في أعينكم. قوله: (لا جزع فيه) فسر المفسر الصبر الجميل، بأنه الذي لا جزع فيه، والأولى أن يفسره كما في الحديث:" بأنه الذي لا شكوى فيه لغير الله، وأما الهجر الجميل، فهو الذي لا إيذاء معه، وأما الصفح الجميل، فهو الذي لا عتاب بعده، وقد تحقق بجميعها كل من يوسف ويعقوب "قوله: (المطلوب منه العون) أي فالسين والتاء للطلب. قوله: ﴿ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ ﴾ أي على تحمل المكاره التي تذكرونها في أمر يوسف.
قوله: ﴿ وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ ﴾ جمع سائر أي مسافر، سموا بذلك لسيرهم في الأرض، قوله: (من مدين إلى مصر) أي فأخطؤوا الطريق، ونزلوا بأرض قفراء قريباً من الجب. قوله: ﴿ فَأَرْسَلُواْ ﴾ ذكر باعتبار المعنى، ولو راعى اللفظ لقال: فأرسلت واردها. قوله: ﴿ وَارِدَهُمْ ﴾ وهو مالك بن ذعر الخزاعي، وهو من أهل مدين. قوله: ﴿ فَأَدْلَىٰ دَلْوَهُ ﴾ يقال أدلى بالهمز إذا أرسل الدلو في البئر ودلاه بالتضعيف إذا نزعه، والدلو مؤنث وقد يذكر. قوله: (فأخرجه) أي بعد أن مكث فيها ثلاثة أيام على ما قيل، ولما خرج صارت جدران البئر تبكي عليه. قوله: ﴿ يٰبُشْرَىٰ ﴾ منادى مضاف لياء المتكلم. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: (ونداؤها مجاز) أي لتنزيلها منزلة العاقل. قوله: ﴿ هَـٰذَا غُلاَمٌ ﴾ التنكير للتعظيم، لأنه كان عليه السلام حسن الوجه، جعد الشعر، ضخم العينين، مستوي الخلق، أبيض اللون، غليظ الساعدين والعضدين والساقين، وخميص البطن، صغير السرة، وكان إذا تبسم ظهر النور من ضواحكه وإذا تكلم ظهر من ثناياه، وبالجملة لم يكن أحسن منه إلا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن يوسف أعطي شطر الحسن، ورسول الله أعطي الحسن كاملاً، قال البوصيري: منزه عن شريك في محاسنه فجوهر الحسن فيه غير منقسمإن قلت: إذا كان كذلك، فلم لم تفتتن النساء بجمال محمد صلى الله عليه وسلم كما افتتنَّ بجمال يوسف؟ أجيب: بأن جمال محمد قد ستره الله بالجلال كالشمس، لا يستطيع أحد أن يتأمل فيها إذا قرب منها، ولذا لم ترو الشمائل الشريفة، إلا عن صغار الصحابة، كالحسن والحسين وعبد الله بن عمر وغيرهم، لا عن كبارهم، لقيام الجلال بقلوبهم فيمنعهم من وصفه، وأما جمال يوسف فهو ظاهر، لم يستتر بجلال كالبدر، فحينئذ يتأمل فيه المتأمل ويصفه الواصف، غير أنه يعجز عن استعياب محاسنه، ومن هذا المعنى قول ابن الفارض: لو أسمعوا يعقوب بعض ملاحة في وجهه نسي الجمال اليوسفيقوله:(فعلم به إخوته) أي حين نظروا إلى القافلة واجتماعها على البئر، فأتوهم وقد ظنوا موت يوسف، فرأوه أخرج حياً، فضربوه وقالوا: هذا عبد آبق منا، فإن أردتم بعناه لكم، ثم قالوا له بالعبرانية: لا تنكر العبودية نقتلك، فأقر بها، فاشتراه مالك بن ذعر الخزاعي. قوله: ﴿ وَأَسَرُّوهُ ﴾ الضمير عائد على السيارة بمعنى بعضهم، وهو مالك بن ذعر، والمعنى أن البائع والمشتري أخفوا أمره وجعلوه بضاعة أي قالوا: إنه بضاعة استبضعناه لبعض أهل الماء لنبيعه لهم بمصر، وإنما قالوا ذلك حيفة أن يطلبوا منه الشركة فيه وقوله: (جاعليه) حال من فاعل ﴿ وَأَسَرُّوهُ ﴾، وقوله: ﴿ بِضَاعَةً ﴾ معمول لتلك الحال، وهذا في الحقيقة، وأما بحسب الظاهر، فهو حال من الواو في أسروه، ومعنى قوله بضاعة، أنه ملك للغير أعطوه له ليبيعه لهم، ويصح أن يعود الضمير على الإخوة، ويكون معنى البضاعة الشيء المعمول الذي يباع ويشرى، وعليه درج المفسر. قوله: ﴿ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ أي من العمل الذي ظاهره قبيح وباطنه حسن، حيث ترتب عليه من الأسرار والفوائد العظيمة، ما لا يدخل تحت حصر، وهذا تعليم من الله لعباده، التفويض والتسليم له في شأن إخوة يوسف، والمعنى لا تخض أيها السامع في شأنهم بسوء، فإن الله عليم بما يعملون. قوله: (باعوه) أي إخوته، وقوله: (منهم) أي السيارة، والمعنى باعه إخوته للسيارة، أي لبعضهم وهو مالك بن ذعر الخزاعي. قوله: (ناقص) أي عن قيمته لو كان رقيقاً، وقيل إن البخس معناه الحرام، لأنه ثمن حر وهو حرام.
قوله: ﴿ مَعْدُودَةٍ ﴾ أشار بذلك إلى أنها قليلة، لأنهم كانوا لا يزنون ما قل عن أربعين درهماً، ويأخذونها عداً، ويزنون ما بلغها وهو أوقية. قوله: (أي إخوته) ويصح أن يعود الضمير على السيارة، وإنما زهدوا فيه لخوفهم منه، حيث وصف لهم بالإباق. قوله: (الذي اشتراه) أي وهو مالك بن ذعر الخزاعي. قوله: (بعشرين ديناراً) إلخ، وقيل لما عرض للبيع، ترافع الناس في ثمنه حتى أبلغ وزنه ذهباً، وقيل فضة، وقيل مسكاً، وقيل حريراً، وكان وزنه أربعمائة رطل. قوله: (وهو قطفير العزيز) أي وكان وزيراً للريان ملك مصر، وقد آمن بيوسف ومات في حياته، وقد اشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة، ومكث يوسف في منزله ثلاث عشرة سنة، واستوزره الريان وهو ابن ثلاثين سنة، وآتاه الله الحكمة والعلم وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة، قوله: (زليخا) بفتح الزاي وكسر اللام والمد، أو بضم الزاي وفتح اللام.
قوله: ﴿ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَآ ﴾ أي يكفينا بعض أمورنا إذا قوي وبلغ، أو يربح إذا أردنا بيعه. قوله: ﴿ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ﴾ أي نتبناه، وأو مانعة خلو تجوز الجمع، وهو المقصود لهما. قوله: (وكان حصوراً) أي لا يأتي النساء أو عقيماً. قوله: ﴿ وَكَذٰلِكَ ﴾ إلى قوله: ﴿ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾ معترض بين وصية العزيز، وما وقع من زوجته. قوله: (من القتل) أي الذي عزم عليه إخوته، وقوله: ﴿ والجب) أي الذي رموه فيه. قوله: (وعطفنا عليه قبل العزيز) أي خلقنا فيه الميل والمحبة، حيث دفع فيه المال الكثير، وأوصى زوجته عليه. قوله: { مَكَّنَّا لِيُوسُفَ ﴾ أي أعطيناه مكانة ورتبة عالية في الأرض. قوله: (حتى بلغ ما بلغ) أي من السلطنة والعز. قوله: (لنملكه) إما من الملك بكسر الميم، أي نجعله مالكاً لما فيها، أو من الملك بضمهما، أي نجعله سلطاناً على أهلها. قوله: (والواو زائدة) أي والمعنى: مكنا ليوسف في الأرض لنعلمه إلخ. قوله: (لا يعجزه شيء) أي لأنه يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، فلا راد لما قضاه. قوله: ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ ﴾ جمع شدة كنعمة وأنعم، ولم يقل هنا واستوى كما قال في حق موسى، لأن موسى بلغ الأربعين وهي سن النبوة، فقد استوى وتهيأ لحمل أسرار النبوة، وأما يوسف فلم يكن إذ ذاك بلغ هذه السن. قوله: (حكمة) هي العلم مع العمل. قوله: ﴿ وَعِلْماً ﴾ عطف عام على خاص. قوله: (كما جزيناه) أي بكل خير. قوله: ﴿ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾ أي فاعلي الإحسان، والمعنى: لا خصوصية ليوسف بذلك، بل سنة الله في خلقه، إن كل محسن له من الله الجزاء الحسن. قوله: ﴿ وَرَاوَدَتْهُ ﴾ هذه الآية مرتبطة بقوله: ﴿ وَقَالَ ٱلَّذِي ٱشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ ﴾ إلخ، وما بينهما اعتراض قصد به بيان عواقب صبر يوسف، من السيادة والخير العظيم، والمراودة مفاعلة، وهي في الأصل تكون من الجانبين، ولكنها هنا من جانب واحد، ولما كان الجانب الآخر سبباً في حصول الفعل نزل منزلته، فقيل فيه مفاعلة، وذلك أن جمال يوسف سبباً لميلها وطلبها له، فالمفاعلة ليست على بابها، نظير مداواة المريض، فإن سبب المداواة المرض القائم بالمريض. (هي زليخا) أي يصرح باسمها، استهجاناً له وستراً وتعليماً للأدب، كأن يقول: من الآداب أن لا يذكر أحد زوجته باسمها، بل يكني عنها، ولم يذكر في القرآن اسم امرأة إلا مريم، وتقدم الجواب عنه بأن النصارى زعموا أنها زوجة الله، فذكرها باسمها رداً عليهم، كأنه يكني الرجال عن زوجته. قوله: (أي طلبت منه) اشار بذلك إلى أن المراودة من جانبها فقط. قوله: ﴿ وَغَلَّقَتِ ٱلأَبْوَابَ ﴾ أي وكانت سبعة. قوله: ﴿ هَيْتَ لَكَ ﴾ أي بفتح الهاء والتاء ككيف. قوله: (وفي قراءة بكسر الهاء) أي مع فتح التاء كقيل، وقوله: (وأخرى) بضم التاء أي مع فتح الهاء كحيث، فهذه ثلاث قراءات، وبقي قراءتان وهما: هئت بكسر الهاء وبالهمزة الساكنة وفتح التاء وضمها وكلها سبعية. قوله: (واللام للتبيين) أي تبيين المفعول الذي هو المخاطب، كأنها تقول: الخطاب لك نظير سقياً لك ورعياً لك. قوله ﴿ مَعَاذَ ٱللَّهِ ﴾ منصوب على أنه مصدر نائب عن الفعل، والأصل أعوذ بالله معاذاً كسبحان الله بمعنى أسبح الله. قوله: ﴿ إِنَّهُ رَبِّيۤ ﴾ الهاء اسم إن، وربي خبرها، و ﴿ أَحْسَنَ ﴾ جملة حالية أو خبر ثان، وما درج عليه المفسر من أن الضمير للحال والشأن، ومراده بربه الذي اشتراه أحد تفسيرين، والآخر أن الضمير يعود على الله تعالى، وهو الأقرب والأظهر. قوله: ﴿ أَحْسَنَ مَثْوَايَ ﴾ تعهدي حيث أمرك بإكرامي، فلا يليق مني أن أخونه، وفيه إرشاد لها إلى رعاية حق العزيز بلطف. قوله: (قصدت منه الجماع) أي مع العزم والتصميم. قوله: (قصد ذلك) أي بمقتضى الطبع البشري من غير رضا ولا تصميم، كميل الصائم للماء البارد، ولكن يمنعه دينه عنه، وهذا لا يؤاخذ به الإنسان، بل في مدافعته الثواب الجزيل والأجر الجميل، فمخالفة النفس عن شهواتها، مع وجود ميل الطبع، أعلى وأجل من تركها لعدم الميل لها، ولذا يباهي الله بالشاب التارك لشهواته الملائكة الكرام، قال تعالى:﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ * فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ ﴾[النازعات: ٤٠-٤١].
قوله: (قال ابن عباس) أي وفي رواية: أنه انفرج سقف البيت، فرأى يعقوب عاضاً على أصبعه، وفي رواية: إنه نودي يا يوسف أتواقعها؟ إنما مثلك ما لم تواقعها، مثل الطير في جو السماء لا يطاق عليه، وإنما مثلك إن واقعتها، مثل الطير إذا وقع على الأرض، لا يستطيع أن يدفع عن نفسه شيئاً، ومثلك ما لم تواقعها، مثل الثور الصعب الذي لا يطاق، ومثلك إذا واقعتها، كمثله إذا مات ودخل النمل في قرنه، لا يستطيع أن يدفع عن نفسه، وبالجملة فقد كثرت عليه الواردات في هذا الشأن.
قوله: (وجواب لولا لجامعها) أي فيكون المعنى، امتنع جماعه لها لرؤيته برهان ربه، وقيل: إن قوله: ﴿ وَهَمَّ بِهَا ﴾ هو الجواب، والمعنى: ولولا أن رأى برهان ربه لهمَّ بها، امتنع همه بها لرؤية برهان ربه، فلم يقع همّ أصلاً، وحينئذ فالوقف على قوله: ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ﴾ وهذا هو الأحسن في هذا المقام، لخلوه من الكلفة والشبهة. قوله: ﴿ كَذَلِكَ ﴾ (أريناه) إلخ، أشار بذلك إلى أن الكاف مع مجرورها في محل نصب معمول لمحذوف، وقوله: ﴿ لِنَصْرِفَ ﴾ متعلق بذلك المحذوف. قوله: ﴿ ٱلْمُخْلَصِينَ ﴾ (في الطاعة) أي الذين لا يشركون في طاعته غيره. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: (بفتح اللام) أي اسم مفعول من أخلصه أي اجتباه واختاره. قوله: ﴿ وَٱسْتَبَقَا ٱلْبَابَ ﴾ حكمة إفراد الباب هنا وجمعه فيما تقدم، أنها لم تتمكن من المراودة، إلا بعد غلق تلك الأبواب، وأما فراره وتسابقهما، فلم يكن إلا عند باب على تلك الأبواب. إن قلت: مقتضى قوة الرجولية أنه يسبقها ولم يعقه عائق. أجيب: بأن الذي عاقه عن السبق، إنما هو الاشتغال بفتح الأبواب. قوله: (للتشبث) أي التعلق. قوله: (فأمسكت ثوبه) أي وقطعت منه قطعة بقيت في يدها. قوله: ﴿ لَدَى ٱلْبَابِ ﴾ أي البراني الأقصى. قوله: (فنزهت نفسها) أي بادرت بذلك. قوله: ﴿ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ ﴾ إلخ، ما يحتمل أن تكون نافية أو استفهامية، ومن موصولة أو نكر موصوفة. قوله: ﴿ إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ في ذلك إشارة لطيفة، إلى أن زليخا لشدة حبها ليوسف، بدأت بذكر السجن لخفته، وأخرت العذاب لشدته، لأن المحب لا يسعى في إيلام المحبوب، وأيضاً فإن قولها: ﴿ إِلاَّ أَن يُسْجَنَ ﴾ فيه إشارة إلى أنها أرادت تخفيف السجن، وإلا فلو أرادت التطويل والتعذيب بالسجن لقالت: إلا جعله من المسجونين، كما قال فروعون لموسى:﴿ لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ ﴾[الشعراء: ٢٩].
قوله: ﴿ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي ﴾ إلخ، إنما قال ذلك لكونها اتهمته، وإلا فلو سكتت، لما كان يوسف متكلماً بشيء من ذلك. قوله: ﴿ مِّنْ أَهْلِهَآ ﴾ أي ليكون أقوى في نفي التهمة عن يوسف، وهي منفية عنه بأمور منها: أنه خرج هارباً، والطالب لا يهرب، ومنها: كونها متزينة بأكمل الوجوه، ومنها: شقها للقميص من خلف. قوله: (ابن عمها) وقيل ابن خالها. قوله: (روي أنه كان في المهد) أي في الأحاديث الصحيحة وهو أحد قولين، وقيل كان كبيراً حكيماً، وكان في ذلك الوقت جالساً مع الملك، فلما رآهما خارج الباب، وحصل منهما ما حصل قال: ﴿ إِن كَانَ ﴾ إلخ، فكان ذلك على سبيل الفتيا. قوله: ﴿ إِن كَانَ قَمِيصُهُ ﴾ إلخ، إن قلت: إن القميص أمر ثان من قبل، فلا معنى للتعليق عليه، والجواب أن يقال: إن المعنى إن ثبت أن قميصه قد من قبل إلخ. قوله: ﴿ فَصَدَقَتْ ﴾ الكلام على تقدير قد لتصحيح دخول الفاء في الجواب، لأن جواب الشرط لا يقرن بالفاء، إلا إذا كان لا يصلح لمباشرة الأداة، وهذا ماض متصرف يصلح لمباشرتها. قوله: ﴿ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ أي فيما يتعلق بأمر الجماع والشهوة، وإلا فالرجال أعظم في الحيل والمكايد، وإنما وصف كيد النساء بالعظم، وكيد الشيطان الضعف، لأن كيد النساء أقوى، بسبب أنهن حبائل الشيطان فكيدهن مقرون بكيد الشيطان فهما كيدان، بخلاف كيد الشيطان دونهن فكيد واحد، ولذا قال بعضهم: أنا أخاف من النساء، أكثر مما أخاف من الشيطان، لأن الله تعالى يقول:﴿ إِنَّ كَيْدَ ٱلشَّيْطَٰنِ كَانَ ضَعِيفاً ﴾[النساء: ٧٦] وقال في حق النساء ﴿ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾.
قوله: ﴿ وَٱسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ ﴾ إن قلت: إنهم قوم مشركون فلا يعرفون ذنباً مع خالقهم، فما الذنب الذي يطلب الاستغفار منه؟ أجيب: بأن المراد بالذنب خيانتها لزوجها، وفي هذا إشارة إلى أن العزيز قليل الغيرة، ولذا قال بعضهم: إن تربة مصر تقتضي ذلك؟ ولذا لا ينشأ فيه الأسد، ولو دخل فيها لا يبقى. قوله: (الآثمين) أي برمي يوسف وهو بريء. قوله: (واشتهر الخبر) قدره إشارة إلى أن قوله:﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ ﴾[يوسف: ٣٠] مرتب على محذوف، وهذا الاشتهار منها، وذلك أنها أخبرت بعض النساء بذلك، وأمرتهن بالكتم فلم يكتمن.
قوله: ﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي ٱلْمَدِينَةِ ﴾ اختلف في عدتهن، فقيل خمس وقيل أربعون، وجمع بينهما، بأن أصل الإشاعة كان من خمس وهن: امرأة صاحب الملك، وامرأة صاحب دوابه، وامرأة خبازه، وامرأة ساقيه، وامرأة صاحب سجنه، ونسوة اسم جمع لا واحد له من لفظه. قوله: ﴿ ٱمْرَأَةُ ٱلْعَزِيزِ ﴾ مبتدأ، وقوله: ﴿ تُرَاوِدُ فَتَاهَا ﴾ خبر أول، وقوله: ﴿ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً ﴾ خبر ثان، وحباً تمييز محول عن الفاعل، والأصل قد شغف حبه قلبها. قوله: ﴿ فَتَاهَا ﴾ الفتى هو الشاب القوي. قوله: (أي دخل حبه شغاف قلبها) الشغاف جلدة رقيقة على القلب، تمنع أذى الطعام والشراب عن القلب، وحينئذ يكون المعنى: أن حبه خرق تلك الجلدة، ووصل القلب وسكنه، وقيل: إن معنى شغفها صار محيطاً بقلبها كما يحيط الشغاف بالقلب، حتى لا تكاد تنظر لغيره. قوله: (خطأ) ﴿ مُّبِينٍ ﴾ أي حيث تركت ما يليق بها من العفة والستر وأحبت غير زوجها. قوله: ﴿ بِمَكْرِهِنَّ ﴾ أي حديثهن، وسمي مكراً لأنهن طالبن بذلك رؤية يوسف، لأنه قد وصف لهن حسنه وجماله، فتعلقن به وأحببن أن يرينه. قوله: (غيبتهن) إنما سميت الغيبة مكراً، لإخفائها عن المغتاب كما يخفى المكر. قوله: ﴿ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ ﴾ أي وكن أربعين امرأة من أشراف المدينة، فصنعت لهن ضيافة عظيمة. قوله: ﴿ وَأَعْتَدَتْ ﴾ أي هيأت وأحضرت. قوله: ﴿ مُتَّكَئاً ﴾ سمي الطعام بذلك لأنه يتكأ عنده، على عادة المتكبرين من أكل الفواكه حال الإتكاء قوله: (وهو الأترج) بضم الهمزة وسكون التاء وضم الراء وتشديد الجيم جمع أترجة، ويقال فيه ترنج، والأولى هي الفصحى. قوله: ﴿ سِكِّيناً ﴾ أي خنجراً، وكان من عادتهن أكل الفواكه واللحم بالسكين. قوله: ﴿ وَقَالَتِ ٱخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ﴾ أي وقد زينته بأحسن الزينة وحبسته في مكان آخر. قوله: ﴿ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ ﴾ مرتب على محذوف تقديره فخرج فلما رأينه إلخ. قوله: (أعظمنه) أي هبنه ودهشن عند رؤيته من شدة حسنه وجماله، يقال إنه ورث حسن آدم يوم خلقه الله عز وجل قبل أن يخرج من الجنة، وقيل: إنهن أعظمنه لأنهن رأين عليه آثار النبوة والمهابة وعدم الالتفات إليهن، فوقع الرعب في قلوبهن وتعجبن منه. قوله: ﴿ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ﴾ أي جرحنها حتى سال الدم، قال وهب: مات منهن جماعة. قوله وقلن: ﴿ حَاشَ ﴾ بإثبات ألف بعد الشين وحذفها قراءتان سبعيتان، وهذا بالنظر للنطق، وأما في الرسم فلا تكتب فيه ألف بعد الشين. قوله: ﴿ مَا هَـٰذَا بَشَراً ﴾ أي معاذ الله أن يكون هذا بشراً، إنما هذا ملك كريم على ربه. قوله: ﴿ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴾ المقصود من هذا، إثبات الحسن العظيم ليوسف، لسماعهم أنه لا شيء أحسن من الملك، ولأنه لما كان الملك مطهراً من بواعث الشهوة مهاباً، لا تحكم عليه الصورة شبه به. قوله: (شطر الحسن) أي نصفه، والمعنى أن الله خلق حسناً، فأعطي يوسف نصفه، وقسم نصفه بين الخلائق.
قوله: ﴿ فَذٰلِكُنَّ ﴾ ذا اسم إشارة القريب لحضوره بالمجلس، وقرن باللام المفيدة للبعد رتبته عن غيره، ولذا فسرها المفسر بهذا التي للقريب. قوله: ﴿ ٱلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ﴾ خبر لمحذوف قدره المفسر بقوله: (هو). قوله: (امتنع) أشار بذلك إلى أن السين والتاء زائدتان. قوله: ﴿ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ ﴾ اللام موطئة لقسم محذوف، وإن شرطية وقوله: ﴿ لَيُسْجَنَنَّ ﴾ جواب القسم، وحذف جواب الشرط، لدلالة جواب القسم عليه على القاعدة في اجتماع الشرط، والقسم أنه يحذف جواب المتأخر منهما. قوله: (فقلن له أطع مولاتك) ورد أنه ما من امرأة إلا دعته لنفسها. قوله: ﴿ قَالَ رَبِّ ﴾ لما اشتد به الكرب، توجه لربه في الفرج. قوله: ﴿ أَحَبُّ إِلَيَّ ﴾ اسم التفضيل ليس على بابه، إذ ليس له فيما يدعونه إليه محبة ورغبة. إن قلت: هو مجاب الدعوة، فلم طلب النجاة بالسجن، ولم يطلب النجاة العامة؟ أجيب: بأنه اطلع على أن السجن محتم عليه فدعا به، لأن النبي لا ينطق الهوى. قوله: ﴿ مِمَّا يَدْعُونَنِيۤ ﴾ فعل مضارع مبني على سكون الواو، والنون الأولى للنسوة فاعل، والثانية نون الوقاية، وهو مثل النسوة يعفون، فالواو ليست ضميراً بل هي لام الكلمة. قوله: (والقصد بذلك) أي بقوله والانصراف عني إلخ، كأنه قال: اللهم اصرف عني كيدهن، لأجل أن لا أصير من الجاهلين، لأنك إن لم تصرفه عني صرت منهم، إذ لا قدرة لي على الامتناع إلا بإعانتك لي. قوله: ﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ ﴾ أي للعزيز وأصحابه، وذلك أن زليخا قالت لزوجها: إن هذا العبد العبراني، قد فضحني عند الناس، يخبرهم إني قد راودته عن نفسه، فإما أن تأذن لي فأخرج وأعتذر إليهم، وإما أن تسجنه فظهر لهم سجنه، لما فيه من المصلحة بحسب رأيهم، مع علمهم ببراءته ونزاهته. قوله: (أن يسجنوه) أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر فاعل بدا. قوله: ﴿ لَيَسْجُنُنَّهُ ﴾ اللام موطئة لقسم محذوف، والجملة في محل نصب لقول محذوف، والتقدير ثم ظهر لهم سجنه قائلين والله ليسجننه. قوله: ﴿ حَتَّىٰ حِينٍ ﴾ أي وهو سبع سنين أو اثنتا عشرة سنة، وسيأتي ذلك.
قوله: ﴿ وَدَخَلَ مَعَهُ ﴾ أي صحبته، والمعنى كانا مقارنين له في الدخول، وهذا مرتب على قول المفسر فسجن. قوله: (غلامان) تثنية غلام، وهو اسم للشخص من حين ولادته إلى أن يشب، وقوله: (للملك) أي ملك مصر، وهو الريان بن الوليد العمليقي. قوله: (أحدهما ساقيه) أي واسمه سرهم، وقوله: (والآخر) صاحب طعامه أي واسمه برهم، وسبب سجنهما: أن جماعة من أهل مصر، أرادوا قتل الملك، فجعلوا لهما رشوة، على أن يسما الملك في طعامه وشرابه، فأجابا، ثم إن الساقي ندم ورجع، والخباز قبل الرشوة وسم الطعام، فلما حضر الطعام بين يدي الملك، قال الساقي: لا تأكل أيها الملك، فإن الطعام مسموم، فقال الخباز: لا تشرب أيها الملك، فإن الشراب مسموم، فقال الملك للساقي: اشرب من الشراب فشرب، وقال للخباز: كل من الطعام فأبى، فأطعم من ذلك الطعام دابة فهلكت، فأمر بحبسهما، فاتفق أنهما دخلا مع يوسف. قوله: (فرأياه يعبر الرؤيا) أي ينشر علمه ويقول: إني أعبر الأحلام. قوله: (لنختبرنه) أي لنمتحننه ليظهر لنا حاله. قوله: ﴿ قَالَ أَحَدُهُمَآ ﴾ أي بعد مضي خمس سنين من دخولهم السجن. قوله: ﴿ إِنِّيۤ أَرَانِيۤ ﴾ أرى تنصب مفعولين، الياء مفعول أول، وجملة ﴿ أَعْصِرُ خَمْراً ﴾ مفعول ثان. قوله: (أي عنباً) أي فتسميته خمراً من باب مجاز الأول أي عنباً يؤول إلى كونه خمراً، وفي القصة أنه قال: رأيت في المنام كأني في بستان، وفيه شجرة وعليها ثلاثة عناقيد من العنب، وكأن كأس الملك في يدي، فعصرتها فيه وسقيت الملك. قوله: ﴿ إِنِّي أَرَانِيۤ ﴾ أي رأيتني، فالتعبير بالمضارع استحضار للحال الماضية قوله: ﴿ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً ﴾ وذلك أنه قال: رأيت في المنام كأن فوق رأسي ثلاث سلال، وفيها الخبز وألوان الأطعمة، وسباع الطير تنهش منها. قوله: ﴿ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾ أي العالمين بتعبير الرؤيا وإنما قالا ذلك، لأنهما رأياه في السجن يعود المرضى، ويقوم الليل ويصوم النهار، ويصبر أهل السجن ويبشرهم، ويواسي فقيرهم، فكان يقول: اصبروا وأبشروا، فيقولون: بارك الله لنا فيك يا فتى، ما أحسن وجهك وحديثك، لقد بورك لنا في جوارك، فمن أين أنت؟ قال: أنا يوسف بن صفي الله يعقوب، ابن ذبيح الله إسحاق، ابن خليل الله إبراهيم، فقال له صاحب السجن: يا فتى والله لو استطعت لخليت سبيلك، ولكن سأرفق بك وأحسن جوارك، واختر أي بيوت السجن شئت. قوله: (مخبراً أنه عالم) أي لأجل أن يقبلوا عليه ويؤمنوا به، وهكذا ينبغي للعالم العامل، أن يظهر نفسه ليقتدي به ويؤخذ عنه، وإنما أخبرهما بذلك، توطئة لدعائهما إلى الإيمان.
قوله: (في منامكما) أي فالمعنى: أي طعام رأيتماه في المنام وأخبرتماني به، إلا فسرته لكما قبل أن يقع في الخارج، وخص رؤية الطعام لأنهما من أهل الطعام والشراب، والشأن أن رؤيا المنام تتعلق باشتغال الشخص في اليقظة، وقيل المراد إتيان الطعام لهما في اليقظة، والمعنى لا يأتيكما طعام ترزقانه في منازلكما، إلا أخبرتكما بقدره وكيفيته، والوقت الذي يأتي فيه قبل أن يصلكما، فهو إشارة إلى أن من معجزاته الإخبار بالمغيبات، وهذا مثل معجزة عيسى حيث قال:﴿ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ﴾[آل عمران: ٤٩] فقالا ليوسف: هذا من علم العرافين والكهنة، فمن أين لك هذا العلم؟ قوله: ﴿ ذٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيۤ ﴾ إلخ. قوله: (فيه حث) أي تعريض لطلب الإيمان. قوله: ﴿ إِنِّي تَرَكْتُ ﴾ المراد بالترك عدم التلبس بالشيء من أول الأمر. قوله: ﴿ وَٱتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـيۤ ﴾ لما بين أنه ادعى النبوة وأظهر المعجزة، بين هنا أنه لا غرابة في ذلك لأنه من بيت النبوة، لأن إبراهيم وإسحاق ويعقوب، كانوا مشهورين بالرسالة، وذكر الفخر الرازي أنه نبىء في السجن، ولا مانع أنه نبىء قبل الأربعين، كيحيى وعيسى، وذلك لأن اخوته رموه في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة، ومكث تحت يد العزيز ثلاث عشرة سنة، ومن جملتها مدة السجن، فتكون الجملة ثلاثين سنة. قوله: ﴿ مَا كَانَ لَنَآ ﴾ أي لا يصح ولا يليق منا معاشر الأنبياء، أن نشرك بالله شيئاً، مع اصطفائه لنا وانعامه علينا بأنواع النعم، وهذا تعريض لهم بترك ما هم عليه من الشرك كأنه قال: لا يصح للعبد الضعيف العاجز المفتقر أن يعبد غير من هو مفتقر إليه ومنعم عليه. قوله: (لعصمتنا) أي فليس المراد أنه حرم ذلك عليهم، بل المراد أنه طهرهم من الكفر. قوله: ﴿ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ عَلَيْنَا ﴾ أي بالوحي، وقوله: ﴿ وَعَلَى ٱلنَّاسِ ﴾ أي بإرشادهم. قوله: ﴿ يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ ﴾ قدر المفسر (ساكني) إشار إلى أن الإضافة لأدنى ملابسة، ويصح أن يكون المعنى يا صاحبي في السجن، فالإضافة للظرف. قوله: ﴿ مُّتَّفَرِّقُونَ ﴾ أي من ذهب وفضة وحديد وخشب وحجارة وغير ذلك. قوله: ﴿ مَا تَعْبُدُونَ ﴾ خطاب لأهل السجن جميعاً. قوله: ﴿ سَمَّيْتُمُوهَآ ﴾ أي فكأنكم لا تعبدون إلا الأسماء المجردة، والمعنى أنكم سميتم ما لم يدل على استحقاقه للألوهية عقل ولا نقل، ثم أخذتم تعبدونها. قوله: (المستقيم) أي الذي لا اعوجاج فيه. قوله: (ما يصيرون) قدره إشارة إلى أن مفعول يعلمون محذوف.
قوله: ﴿ يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ ﴾ هذا شروع في تعبير رؤياهما. قوله: (فيخرج بعد ثلاث) أي من الأيام وهي العناقيد الثلاثة التي عصرها. قوله: (سيده) أي وهو الملك. قوله: ﴿ وَأَمَّا ٱلآخَرُ ﴾ (فيخرج بعد ثلاث) أي من الأيام وهي السلاسل الثلاث. قوله: (فقالا ما رأينا شيئاً) هذا أحد قولين، وقيل إنهما رأيا ذلك حقيقة فرآهما مهمومين، فسألهما عن شأنهما، فذكر كل واحد رؤياه. قوله: ﴿ قُضِيَ ٱلأَمْرُ ﴾ المراد به الجنس، أي قضي أمر كل واحد، ويؤول إليه شأنه كذب أو صدق. قوله: (سألتما) تفسير لتستفتيان، فالمراد المضارع الماضي. قوله: ﴿ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ ﴾ إن كان الظن واقعاً من الساقي، فالأمر ظاهر، وإن كان من يوسف فهو بمعنى اليقين، كما قال المفسر على حده﴿ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـٰقُواْ رَبِّهِمْ ﴾[البقرة: ٤٦].
قوله: (سيدك) أي وهو الملك. قوله: (محبوساً) أي طال حبسه ظلماً خمس سنين. قوله: (أي الساقي) أي والمعنى أنسى الشيطان الساقي أن يذكر يوسف عند الملك، وذلك للحكم الباهرة التي ستظهر، وهذا أحد قولين، وقيل إن الضمير عائد على يوسف، والمعنى أن الشيطان أنسى يوسف ذكر ربه عز وجل حين استغاث بمخلوق، وإسناد الإنساء للشيطان، لأنه يفرح به ويحبه، ظاناً أن يوسف يطرد بذلك، وإلا فالذي أنساه ذلك ربه لا الشيطان، فإنه لا تسلط له على المرسلين، قال تعالى:﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ﴾[الحجر: ٤٢] فلما وقع من يوسف ذلك، عوتب ببقائه في السجن تلك المدة من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين. قوله: (قيل سبعاً) أي وهي مدة مكث أيوب فب البلاء، وقوله: (وقيل اثنتي عشرة) هذا قول ثان في مدة السجن، وقيل خمساً ونصفاً قبل قوله: ﴿ ٱذْكُرْنِي ﴾ وسبعاً بعده، وقيل أربع عشرة سنة، خمس قبل القول، وتسع بعده، وحكمة مكثه تلك المدة في السجن، ليؤمن أهل السجن، وليصل أمره للملك فيخرج، والحال أنه مطلوب لا طالب، فيتحقق له العز الذي بشر به سابقاً، فترتب على طلبه السجن ولإبقائه فيه الزمن الطويل، من الحكم العظيمة، والأسرار الفخيمة، والعز والسؤدد، ما لا تحيط به العبارة، ولا تحصيه الإشارة، فأمور يوسف صلوات الله وسلامه عليه، ظاهرها ذل، وباطنها غاية العز، على حد قول البوصيري: لو يمس النضار هون من النا ر لما اختير للنضار الصلاءفبلايا الأنبياء والمقربين، لا تزيدهم، إلا رفعة وعزاً.
قوله: ﴿ وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ﴾ إلخ. أي لما أراد الله الفرج عن يوسف، وإخراجه من السجن، رأى ملك مصر رؤيا عجيبة أهالته، فجمع سحرته وكهنته ومعبريه، وأخبرهم بما رأى في منامه، وسألهم عن تأويلها، فأعجزهم الله جميعاً، ليكون ذلك سبباً لخلاص يوسف من السجن. قوله: (أي رأيت) أشار بذلك إلى أن المضارع بمعنى الماضي، استحضاراً للحال الماضية، وحاصل رؤياه: أنه رأى في منامه، سبع بقرات سمان قد خرجن من البحر، ثم خرج بعدهن سبع بقرات عجاف، في غاية الهزال والضعف، فابتلعت العجاف السمان ودخلت في بطونها، ولم ير منهن شيء، ولم يتبين على العجاف شيء منها، ورأى سبع سنبلات خضراً قد انعقد حبها، وسبعاً أخر يابسات قد استحصدن، فالتوت اليابسات على الخضر حتى علون عليهن، ولم يبقى من خضرتهن شيء. قوله: (جمع عجفاء) أي جمع سماعي والقياس عجف، قال ابن مالك: فعل لنحو أحمر وحمراً. قوله: ﴿ خُضْرٍ ﴾ أي انعقد حبها، قوله: ﴿ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ﴾ أي بلغت أوان الحصاد، وهو معطوف على سبع، ويكون قد حذف اسم العدد منه، لدلالة ما قبله عليه. قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ﴾ أي السحرة والمعبرون. قوله: ﴿ تَعْبُرُونَ ﴾ من عبر بالتخفيف، يقال عبر البحر جاوزه، وعبر الرؤيا فسرها، كأن المعبر لما فسر الرؤيا خلص من ورطتها، كالذي يجاوز البحر، وزيدت اللام في الرؤيا تقوية للعامل، لتأخره عن معموله. قوله: (فاعبروها لي) قدره إشارة إلى أن جواب الشرط محذوف، دل عليه ما قبله. قوله: ﴿ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ ﴾ أي تخاليطها جمع ضغث، وأصله ما جمع وحزم من النبات، كالحزمة من الحشيش، استعير للرؤيا الكاذبة، والمعنى أنهم قالوا: إن هذه الرؤيا اخلاط أحلام من الشيطان فلا تعبر، وهذا لفرط عجزهم وجهلهم بتعبيرها، على العادة أن من جهل شيئاً عاداه. قوله: ﴿ وَقَالَ ٱلَّذِي نَجَا ﴾ إلخ، أي بعد أن جلس بين يدي الملك وقال له إن في السجن رجلاً عالماً بتعبير الرؤيا. قوله: ﴿ وَٱدَّكَرَ ﴾ إنا حال من ﴿ ٱلَّذِي ﴾ أو عطف على ﴿ نَجَا ﴾.
قوله: (فيه إبدال التاء) أي تاء الافتعال، والأصل إذتكر بتاء بعد الذال، قلبت التاء دالاً فاجتمع متقاربان، أبدل الأول من جنس الثاني وأدغم. قوله: (وإدغامها في الذال) المناسب قلب العبارة بأن يقول: وإدغام الذال في الدال أي بعد فلبها دالاً. قوله: ﴿ بَعْدَ أُمَّةٍ ﴾ بضم الهمزة وتشديد الميم، هي في الأصل الجماعة من الناس، ثم أطلق على الجماعة من الأيام. قوله: (حين) أي وهو سنتان أو سبع أو تسع. قوله: (حال يوسف) أي من كونه عالماً بتعبير الرؤيا. قوله: ﴿ فَأَرْسِلُونِ ﴾ إنما جمع وإن كان الخطاب لواحد لأجل التعظيم. قوله: ﴿ فَأَرْسِلُونِ ﴾ أشار بذلك إلى أن الكلام حذف ثلاث جمل، وجملة مجيء الرسل ليوسف في السجن أربع مرات: الأولى في قوله: (فأرسلوا يوسف) إلخ. والثانية في قوله:﴿ فَلَمَّا جَآءَهُ ٱلرَّسُولُ قَالَ ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ ﴾[يوسف: ٥٠].
والثالثة في قوله:﴿ ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ ﴾[يوسف: ٥٢].
والرابعة في قوله:﴿ وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ﴾[يوسف: ٥٤] إلخ.
قوله: (الكثير الصدق) وصفه بذلك لأنه جربه في السجن في تعبير الرؤيا وغيره. قوله: (أي الملك) أي ومن عنده. قوله: (أي ازرعوا) إنما حمله على الأمر مناسبة قوله: ﴿ فَذَرُوهُ ﴾ وإلا فالمناسب إبقاؤه على حاله من الأخبار لأنها تفسير للرؤيا، وفيه إشارة إلى أن الله أمر بذلك، لتحتم حصوله في علمه تعالى. قوله: ﴿ دَأَباً ﴾ بفتح الهمزة وسكونها قراءتان سبعيتان، وهو مصدر وقع موقع الحال. قوله: (وهي تأويل السبع السمان) أي والسبع الخضر. قوله: (لئلا يفسد) أي يأكله السوس كما هو شأن غلال مصر ونواحيها، ومنعه من الفساد ببقائه في سنبله من خصوصيات يوسف، وإلا ففي زمننا بقاؤه في سنبله لا يدفع عنه الفساد. قوله: (وهي تأويل السبع العجاف) أي والسبع اليابسات. قوله: (أي تأكلونه فيهن) أشار بذلك إلى أن الإسناد مجازي من الإسناد للظرف، كما في: نهاره صائم. قوله: (تدخرون) أي للبذر. قوله: ﴿ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذٰلِكَ عَامٌ ﴾ إلخ، هذه بشارة لهم زيادة على تعبير الرؤيا. قوله: ﴿ يُغَاثُ ٱلنَّاسُ ﴾ إما من الغوث وهو الفرج وزوال الكرب، أو من الغيث وهو المطر. والمعنى فيه: يزول كرب الناس، ويفرج عنهم بنزول المطر، وتتاب الخير عليهم. قوله: (الأعتاب) أي يعصرونها خمراً، وقوله: (وغيرها) أي كالزيتون والسمسم والكتان والقصب وغير ذلك. قوله: ﴿ وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ﴾ مرتب على محذوف قدره المفسر بقوله: (لما جاءه الرسول) الخ، وذلك أن الساقي لما رجع إلى الملك، وأخبره بما عبر به يوسف رؤياه واستحسنه الملك، وعرف أن الذي قاله كائن لا محالة، قال ائتوني به حتى أبصره، فرجع الساقي وقال له أجب الملك، فقال له ارجع إلخ. قوله: ﴿ فَلَمَّا جَآءَهُ ٱلرَّسُولُ ﴾ مرتب على محذوف، أي فذهب الرسول إلى طلبه، فلما جاءه إلخ. قوله: (إظهار براءته) أي لتظهر براءة ساحته، ويعلم أنه سجن ظلماً. قوله: ﴿ إِلَىٰ رَبِّكَ ﴾ أي وهو الملك. قوله: ﴿ إِنَّ رَبِّي ﴾ (سيدي) أي فالمراد به العزيز، وهو استشهاد بكونه يعلم مكرهن وكيدهن، ويصح أن يكون المراد بالرب الله تعالى، وحينئذ يكون في كلامه التفويض لله تعالى وهو الأقرب. قوله: (فجمعهن) أي وكانت زليخا معهن، وخاطبهن جميعاً ولم يخص زليخا بالخطاب ستراً عليها.
قوله: ﴿ مِن سُوۤءٍ ﴾ أي خيانة. قوله: ﴿ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ ٱلْعَزِيزِ ﴾ هذا إقرار منها بالحق، والحامل لها على ذلك كون يوسف راعى جانبها حيث قال﴿ مَا بَالُ ٱلنِّسْوَةِ ﴾[يوسف: ٥٠] إلخ، ولم يذكرها، مع أن الفتن كلها إنما نشأت من جهتها، فكافأته بأن اعترفت بأن الذنب منها. قوله: (وضح) أي اتضح. قوله: (فأخبر يوسف بذلك) أي بجواب النسوة المذكور. قوله: (فقال) أي يوسف وهذا أحد قولين، وقيل إن. قوله: ﴿ ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ ﴾ من كلام زليخا، ويكون المعنى: ذلك الذي قلته ليعلم يوسف أني لم أخنه ولم أكذب عليه، وجئت بما هو الحق الواقع، ما أبرىء نفسي من الخيانة، إن النفس لإمارة بالسوء، إلا نفساً رحمها الله بالعصمة كنفس يوسف. قوله: ﴿ لِيَعْلَمَ ﴾ (العزيز) أي زوج زليخا. قوله: (حال) أي إما من الفاعل أي وأنا غائب عنه، أو من المفعول أي وهو غائب عني. قوله: ﴿ كَيْدَ ٱلْخَائِنِينَ ﴾ أي لا يسدده. قوله: (ثم تواضع لله) أي فوقع منه هذا القول على سبيل التواضع، وإلا فيستحيل في حقه أن تأمره نفسه بالسوء لعصمته. قوله: ﴿ وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ ﴾ هذه الجملة حالية من محذوف، والتقدير طلبت البراءة ليعلم إلخ، والحال أني لم أقصد بذلك تنزيه نفسي ولا براءتها إلخ. قوله: (الجنس) أي جنس النفوس. قوله: (كثيرة الأمر) أي لصاحبها، واعلم أن النفس واحدة ولها صفات، فأول أمرها تكون أمارة بالسوء، تدعو إلى الشهوات وتميل إليها ولا تبالي، وهذه نفس الكفار والعصاة المصرين، فإذا أراد الله لها الهدى، جعل لها واعظاً يأمرها وينهاها، فحينئذ تصير لوامة، تلوم صاحبها على ارتكاب الرذائل، فينشأ عن ذلك مجاهدته وتوبته ورجوعه لخالقه، فإذا كثر عليها ذلك واستمر، صارت مطمئنة ساكنة، تحت قضاء الله وقدره راضية بأحكامه، فتستحق من الله العطايا والتحف، قال تعالى:﴿ يٰأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ * ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَٱدْخُلِي فِي عِبَادِي * وَٱدْخُلِي جَنَّتِي ﴾[الفجر: ٢٧-٣٠] وهذا مقام الواصلين، وقيل ذلك يسمى مقام السائرين.
قوله: ﴿ وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ﴾ أي وهو الريان بن الوليد، وذلك أنه لما ظهر له في يوسف من المزايا التي لم توجد في غيره قال ما ذكر. قوله: (فجاءه الرسول) إلخ، قدر المفسر هذه الجمل وهي ثمانية، إشارة إلى أن قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا كَلَّمَهُ ﴾ مرتب على محذوف. قوله: (ودعا لهم) أي بقوله: اللهم عطف عليهم قلوب الأخيار، ولا تعم عليهم الأخبار. قوله: (ثم اغتسل) أي فلما خرج من السجن كتب على بابه، هذا بيت البلوغ، وقبر الأحياء، وشماتة الأعداء، وتجربة الأصدقاء. قوله: (ولبس ثياباً حساناً) يؤخذ من هذا، أن مما ينبغي عند الدخول على السلاطين، الطهارة وتحسين الهيئة، وهذه الثياب يحتمل أنها كانت عنده، أو أرسلها له الملك. قوله: (ودخل عليه) ورد أنه لما دخل سلم عليه بالعربية، فقال الملك: ما هذا اللسان؟ قال: لسان عمي إسماعيل، ثم دعا له بالعبرانية فقال له: ما هذا اللسان أيضاً؟ فقال: هذا لسان آبائي، وكان الملك يتكلم بسبعين لساناً، ولم يعرف هذين اللسانين، وكان كلما تكلم بلسان أجبه يوسف به، فتعجب الملك من أمره مع صغر سنه، لأنه كان إذ ذاك ابن ثلاثين سنة، ثلاثة عشرة منها مدة إقامته مع زليخا والسجن، وسبع عشرة قبلها، وعلى هذا فدعواه لعبادة الله في السجن، إما نبوة قبل الأربعين، أو نصيحة منه لدين آبائه، على عادة العلماء وتأسيساً لنبوته. قوله: ﴿ مَكِينٌ أَمِينٌ ﴾ أي قريب المنزلة رفيع الرتبة مؤتمن على سرنا. قوله: (قال فماذا ترى أن نفعل) إلخ، روي أن الملك قال ليوسف عليه السلام: أحب أن اسمع تأويل رؤياي منك شفاها قال نعم أيها الملك، رأيت سبع بقرات سمان شهب حسان غير عجاف، كشف لك عنهن النيل فطلعن من شاطئه تشخب أخلافهن لبناً، فبينا أنت تنظر إليهن وقد أعجبك منهن حسنهن، إذ نضب النيل فغار ماؤه وبدا يبسه، فخرج من حمئه سبع بقرات عجاف شعث غير ملصقات البطون، ليس لهن ضرع ولا أخلاف، ولهن أنياب وأضراس، وأكف كأكف الكلاب، وخراطيم كخراطيم السباع، فاختلطن بالسمان فافترسن السمان افتراس السبع، فأكلن لحومهن ومزقن جلودهن وحطمن عظامهن ومشمشن مخهن، فبينا أنت تنظر وتتعجب، كيف غلبنهنَّ وهن مهازيل، ثم لم يظهر فيهن سمن ولا زيادة بعد أكلهن، وإذا سبع سنبلات خضر، وسبع سنبلات أخر سود يابسات في منبت واحد، عروقهن في الثرى والماء، فبينا أنت تقول في نفسك: أي شيء هذا، هؤلاء خضر مثمرات، وهؤلاء سود يابسات، والمنبت واحد، أصولهن في الثرى والماء؟ إذ هبت ريح، فردت أوراق اليابسات السود على الخضر المثمرات، فاشتعلت فيهن النار فاحترقن فصرن سوداً، فهذا ما رأيت أيها الملك، ثم انتبهت مذعوراً، فقال الملك: والله ما أخطأت فيها شيئاً، فما شأن هذه الرؤيا؟ وإن كانت عجباً فما هي بأعجب مما سمعت منك، وما ترى من تأويل رؤياي أيها الصديق؟ قال يوسف عليه السلام: أرى أن تجمع الطعام، وتزرع زرعاً كثيراً في هذه السنين المخصبة، وتجعل ما يتحصل من ذلك الطعام في الخزائن بقصبه وسنبله فإنه أبقى له، فيكون ذلك القصب والسنبل علفاً للدواب، وتأمر الناس أن يدفعوا الخمس من زرعهم أيضاً، فيكفيك ذلك الطعام الذي جمعته لأهل مصر ومن حولها، ويأتيك الخلق من سائر النواحي للميرة، ويجتمع عندك من الكنوز والأموال، ما لم يجتمع لأحد من قبلك، فقال الملك: ومن لي بهذا؟ ومن يجمعه لي ويبيعه لي؟ ولو جمعت أهل مصر ما أطاقوا ذلك، ولم يكونوا فيه أمناء، فقال يوسف عند ذلك﴿ ٱجْعَلْنِي ﴾[يوسف: ٥٥] إلخ.
قوله: ﴿ قَالَ ٱجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلأَرْضِ ﴾ إن قلت: إن في ذلك القول التقدم والإمارة، وهو لا يليق بالأخيار. أجيب: بأن محل هذا ما لم يتعين عليهم، وإلا فحينئذ يجب طلبها، وأيضاً ذلك بوحي من الله، وكان بين ذلك القول وتوليته على الخزائن سنة، وإنما أخره الملك سنة قبل التولية بالفعل مع مزيد رغبته فيه، ليشتهر قبل التولية بين أهل المملكة في أطراف القطر، ويصير معروفاً للخاص والعام، وأنه ذو المكانة والأمانة عند الملك. قوله: ﴿ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ تعليل لما قبله، ومفعول اجعل الثاني محذوف، والتقدير اجعلني أميناً على خزائن الأرض فإني حفيظ عليم. إن قلت: إن في هذا تزكية للنفس، وقد نهى الله عن ذلك بقوله:﴿ فَلاَ تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمْ ﴾[النجم: ٣٢].
أجيب: بأن محل النهي حيث قصد بها الفخر والكبر على خلق الله، بخلاف ما إذا قصد بها إيصال النفع للغير والإخبار بالواقع، فلا ضرر في ذلك، بل ذلك من باب التحدث بالنعم، وهو مأمور به شرعاً.
قوله: ﴿ وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ أي مكناه إياها. قوله: (بعد الضيق والحبس) أي بعد صبره على الضيق حين وضع في الجب وحين حبس. قوله: (وفي القصة أن الملك) إلخ، قال ابن عباس وغيره: لما انقضت السنة من يوم سؤال الإمارة، دعاه الملك فتوجَّه وقلده بسيفه وحلاه بخاتمه، وضع له سريراً من ذهب مكللاً بالدر والياقوت، طوله ثلاثون ذراعاً، وعرضه عشرة أذرع، ووضع له ثلاثين فرساً وستين مأدبة، وضرب له عليه حلة من استبرق، وأمره أن يخرج، فخرج متوجاً، لونه كالثلج ووجه كالقمر، يرى الناظر وجهه فيه من صفاء لونه، فانطلق حتى جلس على ذلك السرير، ودانت ليوسف الملوك، وفوض الملك الأكبر إليه ملكه، وعزل قطفير عما كان عليه، وجعل يوسف مكانه، قال الزمخشري: إن يوسف قال للملك: أما السرير فأشد به ملكك، وأما الخاتم فأدبر به أمرك، وأما التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي، فقال له الملك: قد وضعته إجلالاً لك وإقراراً بفضلك، وكان لملك مصر خزائن كثيرة، فسلمها ليوسف وسلم له سلطانه كله، وجلع أمره وقضاءه نافذاً حتى بمملكته، ثم هلك قطفير عزيز مصر في تلك الليالي، فزوج الملك ليوسف امرأة العزيز بعد هلاكه، فلما دخل يوسف عليها قال: أليس هذا خيراً مما كنت تريدين؟ قالت له: أيها الصديق لا تلمني، فإني كنت امرأة حسناء ناعمة كما ترى، وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله في حسنك فغلبتني نفسي وعصمك الله، قالوا: فوجدها يوسف عذراء فأصابها، فولدت له ولدين ذكرين أفراثيم وميشا، وبنتاً واسمها رحمة زوجة أيوب عليه السلام، وميشا هو جد يوشع بن نون، وأقام في مصر العدل، وأحبه الرجال والنساء، فلما اطمأن يوسف في ملكه، دبر في جمع الطعام أحسن التدبير، فبنى الحصون والبيوت الكثيرة، وجمع فيها الطعام للسنين المجدبة، وأنفق المال بالمعروف، حتى خلت السنون المخصبة، ودخلت السنون المجدبة بهول وشدة، لم ير الناس مثله، وقيل: إنه دبر في طعام الملك وحاشيته كل يوم أكلة واحدة نصف النهار، فلما دخلت سنة القحط، كان أول من اصابه الجوع الملك، فجاع نصف الليل، فنادى يا يوسف الجوع الجوع، فقال يوسف: هذا أوان القحط، فهلك في السنة الأولى من سني القحط، كلما أعدوه في السنين المخصبة، فجعل أهل مصره يبتاعون الطعام من يوسف، فباعهم في السنة الأولى بالنقود، حتى لم يبق بمصر درهم ولا دينار إلا أخذه منهم، وباعهم في السنة الثانية بالحلي والجواهر، حتى لم يبق بمصر في أيدي الناس منهما شيء، وباعهم في السنة الثالثة بالدواب والمواشي والأنعام، حتى لم يبق دابة ولا ماشية إلا احتوى عليها، وباعهم في السنة الرابعة بالعبيد والجواري، حتى لم يبق بأيدي الناس عبد ولا أمة، وباعهم في السنة الخامسة بالضياع والعقار، حتى أتى عليها كلها، وباعهم في السنة السادسة بأولادهم حتى استرقهم، وباعهم في السنة السابعة برقابهم، حتى لم يبق بمصر حر ولا حرة إلا ملكه، فصاروا جميعاً عبيداً ليوسف عليه السلام، فقال أهل مصر: ما رأينا كاليوم ملكاً أجل ولا أعظم من يوسف، فقال يوسف للملك: كيف رأيت صنع الله بي فيما خولني، فما ترى في هؤلاء؟ قال الملك: الرأي رأيك ونحن لك تبع، قال: فإني أشهد الله وأشهدك، أني قد أعتقتهم عن آخرهم، ورددت عليهم أملاكهم، ولم يزل يوسف يدعو الملك إلى الإسلام ويتلطف به، حتى أسلم هو وكثير من الناس، ومات في حياة يوسف، وأما العزيز فلم يثبت إسلامه. قوله: (ومات بعد) أي مات العزيز بعد عزله. قوله: (فزوجه امرأته) أي بعد أن ذهب مالها، وعمي بصرها من بكاءها على يوسف، فصارت تتكفف الناس، وكان يوسف يركب في كل أسبوع في موكب زهاء مائة الف من عظماء قومه، فقيل لها: لو تعرضت له لعله يسعفك بشيء، فلما ركب في موكبه، قامت فنادت بأعلى صوتها: سبحان من جعل الملوك عبيداً بمعصيتهم، وجعل العبيد ملوكاً بطاعتهم، فقال يوسف: ما هذه؟ فقدمت إليه فعرفها، فرق لها وبكى بكاءً شديداً ثم دعاها للزواج، وأمر بها، فهيئت ثم زفت إليه، فقام يوسف يصلي ويدعو الله وقامت وراءه، فسأل الله تعالى أن يعيد لها شبابها وجمالها وبصرها، فرد الله عليها ذلك، حتى عادت أحسن ما كانت يوم راودته، إكراماً له عليه السلام لما عف عن محارم الله، فأصابها فإذا هي عذراء فعاشا في أرغد عيش. روي أن الله ألقى في قلب يوسف محبتها أضعاف ما كان في قلبها، فقال لها: ما شأنك لا تحبيني كما كنت أول مرة؟ فقالت: لما ذقت محبة الله، شغلني ذلك عن كل شيء. قوله: (ولدين) أي وبنتاً. قوله: (ودانت له الرقاب) أي خضعت له الناس. قوله: ﴿ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ ﴾ أي نخص بنعمتنا من أردنا. قوله: ﴿ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾ أي بل نضاعفه لهم. قوله: ﴿ وَلأَجْرُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ ﴾ اللام موطئة لقسم محذوف. قوله: ﴿ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ أي اتصفوا بالإيمان، قوله: ﴿ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ﴾ أي يمتثلون الأوامر ويجتنبون النواهي. قوله: (ودخلت سنو القحط) إلخ، قدر ذلك إشارة إلى أن قوله: ﴿ وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ ﴾ مرتب على محذوف، أي سبب مجيئهم، أنه لما فرغت سنو الخصب، وأتت سنو القحط والجدب، واحتاجت الناس للطعام، فبلغ يعقوب أن بمصر ملكاً يبيع الطعام للمحتاجين، فبعثهم ليبتاعوا منه.
قوله: ﴿ وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ ﴾ وكانوا عشرة، وكان مسكنهم بالعربات من أرض فلسطين، وهي ثغور الشام، وكانوا أهل بادية وإبل وشياه، وحكمة ذهاب العشرة جميعاً، أنه بلغهم أن الملك لا يزيد الواحد عن حمل بعير، قصداً للعدل بين الناس، فغرضهم بذلك أن تكون الأحمال عشرة. قوله: (ليمتاروا) أي ليحملوا الميرة، وهي الطعام المجلوب من بلد آخر. قوله: (لبعد عهدهم به) قال أبو صالح عن ابن عباس: كان بين أن ألقوه في الجب، وبين دخولهم عليه، اثنتان وعشرون سنة، فلذا أنكروه لأنه كان على سرير الملك، وكان على رأسه تاج الملوك وزي الملوك. قوله: (فقالوا للميرة) أي لأخذها. قوله: (لعلكم عيون) أي جواسيس تطلعون على عوراتنا وتخبرون بها أعداءنا. قوله: ﴿ وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ ﴾ أي هيأ لهم الطعام وأكرمهم في النزول وأحسن ضيافتهم، وأعطاهم ما يحتاجون إليه في سفرهم. قوله: ﴿ قَالَ ٱئْتُونِي بِأَخٍ لَّكُمْ ﴾ أي إن كنتم صادقين في ذلك، فأنا أكتفي منكم بذلك، قالوا: إن أبانا يحزن لفراقه، قال: فاتركوا بعضكم عندي رهينة حتى تأتوني به، فاعترفوا فيما بينهم، فأصابت القرعة شمعون فخلفوه عنده، وقوله: ﴿ بِأَخٍ لَّكُمْ ﴾ إنما لم يقل بأخيكم زيادة في الإبهام، وذلك للفرق بين قولك: رأيت غلامك وغلاماً لك، فإن الأول يقتضي أن عندك به نوع معرفة دون الثاني. قوله: ﴿ أَلاَ تَرَوْنَ ﴾ الخ غرضه بذلك الترغيب في العود مرة أخرى. قوله: ﴿ وَأَنَاْ خَيْرُ ٱلْمُنْزِلِينَ ﴾ أي خير من يكرم الضيفان. قوله: ﴿ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي ﴾ أي إذا وعدتم مرة أخرى. قوله: (أي ميرة) أشار بذلك إلى أن المراد بالكيل المكيل. قوله: (نهي) أي والفعل مجزوم بحذف النون، وحذفت ياء المتكلم تخفيفاً، وهذه النون للوقاية. قوله: (أو عطف على محل: فلا كيل) أي وهو الجزم لأنه جواب الشرط، وحينئذ فلا نافية ونون الرفع محذوفة للجازم على كل حال، وعليه فيكون المعنى: فلا كيل ولا قرب. قوله: ﴿ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ﴾ (ذلك) أي المراودة والاجتهاد قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً، وكل من فتيته وفتيانه جمع لفتى، لكن الأول جمع قلة، والثاني جمع كثرة.
قوله: ﴿ ٱجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ ﴾ أي فقد وكل بكل رجل واحداً من غلمانه، ويضع فيه ثمن الطعام الذي في هذا الرحل. قوله: (وكانت دراهم) وقيل كانت نعالاً وجلوداً، والأقرب الأول، لأن شأن الدراهم أن تخفى، ولا شك أنهم لم يعلموا بها إلا عند تفريغ أوعيتهم. قوله: (لأنهم لا يستحلون إمساكها) أي لأن ديانتهم وأمانتهم، تحملهم على رد البضاعة إليه إذا وجدوها، لأنهم مطهرون من أكل ما لم يحل لهم، وقيل قصد يوسف بذلك، مواساة أبيه وإخوته، خوفاً أن لا يكون عندهم شيء من المال، وقيل أراد أن يريهم بره وكرمه، ليكون ذلك باعثاً لهم على الرجوع، وقيل رأى أن أخذ ثمن الطعام من أبيه وإخوته لؤم، وقيل أراد أن يحسن إليهم على وجه لا يلحقهم فيه منة ولا عيب. قوله: ﴿ فَلَمَّا رَجَعُوا ﴾ أي التسعة لما تقدم أنه أخذ شمعون رهينة على أن يأتوه ببنيامين. قوله: ﴿ مُنِعَ مِنَّا ٱلْكَيْلُ ﴾ أي بعد هذه المرة. قوله: (بالنون والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان، وأصل نكتل نكتيل، تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفاً ثم حذفت لالتقاء الساكنين. قوله: ﴿ هَلْ آمَنُكُمْ ﴾ الاستفهام إنكاري، ولذا فسر هل بما، والمعنى كيف آمنكم على ولدي بنيامين، وقد فعلتم بأخيه يوسف ما فعلتم، وأنكم ذكرتم مثل هذا في شأن يوسف حيث قلتم ﴿ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ فلما لم يحصل الحفظ هناك، فكيف آمنكم هنا. قوله: ﴿ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ ﴾ الكاف بمعنى مثل صفة لمصدر محذوف، والتقدير إلا ائتماناً مثل ائتماني لكم على أخيه، إلخ. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: (تمييز) أي على كل من القراءتين. قوله: (فأرجو أن يمن بحفظه) أي ولا يجمع على مصيبتين، قال كعب الأحبار: لما قال الله له: لأردن عليك كليهما حيث توكلت علي واستحفظتني عليه. قوله: ﴿ وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ ﴾ أي بحضرة أبيهم. قوله: ﴿ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ ﴾ أي وهي ثمن الميرة. قوله: (أعظم من هذا) ورد أنهم قد كانوا ذكروا ليعقوب إحسان ملك مصر إليهم، وحثوا يعقوب على إرساله بنيامين معهم، فلما وجدوا بضاعتهم ردت إليهم، قالوا أي شيء نطلب بعد هذا الإكرام، أوفى لنا الكيل ورد لنا الثمن، لو كان رجلاً من أولاد يعقوب ما أكرمنا كرامته، فقال لهم يعقوب: إذا رجعتم إلى مصر، فأقرئوه مني السلام وقولوا له: إن أبانا يصلي عليك، ويدعو لك بما أوليتنا. قوله: ﴿ وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ﴾ أي على أحمالنا.
قوله: ﴿ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ ﴾ هذا هو جواب القسم. قوله: ﴿ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ ﴾ استثناء من عموم الأحوال، والتقدير لتأتنني به في كل حال، إلا حال الإحاطة بكم. قوله: ﴿ فَلَمَّآ آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ ﴾ أي بقولهم: بالله رب محمد لنأتينك به، والموثق العهد المؤكد باليمين قوله: ﴿ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ ﴾ أي وكانت أبواب مصر إذ ذاك أربعة. قوله: (لئلا تصيبكم العين) إنما خاف عليهم العين، لكمالهم وقوتهم واشتهارهم بين أهل مصر، بإكرام الملك لهم واحترامهم، فأمرهم بالتفرق ليسلموا من إصابة العين، فإنها كما قال أهل السنة، سبب عادي للضرر كالسم والسيف، يوجد الضرر عندها لا بها، وقالت الفلاسفة: إن العائن ينبعث من عينه قوة سمية نتصل بالمعيون، فيهلك أي يفسد، فأثبتوا للعين تأثيراً بنفسها، وهو كلام باطل واعتقاده كفر، وأعظم نافع في الرقى من العين سورتا المعوذتين. قوله: ﴿ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾ أي من قضائه. قوله: (وإنما ذلك) أي القول قوله: (شفقة) أي رأفة بكم، إن قلت: لم أمرهم بذلك في هذه المرة، ولم يأمرهم في المرة الأولى؟ أجيب بجوابين: الأول لكون معهم بنيامين وهو عزيز عليه، فخاف عليهم من أجل كونه معهم، والثاني أنهم اشتهروا في مصر بأنهم أولاد رجل واحد، وفيهم نور النبوة والشهامة والجمال، سيما وقد كانوا عند الملك بمنزلة، بخلاف المرة الأولى. قوله: ﴿ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ﴾ أي فوضت أموري واعتمدت عليه، لا على ما أمرتكم به، لأن الأخذ في الأسباب مع التوكل، أفضل من ترك الأسباب.
قوله: ﴿ وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم ﴾ اختلف في جواب لما، فقيل هو قوله: ﴿ مَّا كَانَ يُغْنِي ﴾ إلخ، والمعنى أن دخولهم من أبواب متفرقة لا يدفع عنهم مما قدره الله شيئاً، بل الدخول متفرقاً كالدخول مجتمعاً، بالنسبة لقضاء الله، وقيل هو قوله: ﴿ آوَىۤ إِلَيْهِ أَخَاهُ ﴾ وهو جواب لما الثانية أيضاً، لأن المقصود بدخول المدينة الدخول على يوسف، والمقصود به إيواء الأخ، فلما الثانية مرتبة على لما الأولى، فصلح أن يكون جوابهما واحداً. قوله: ﴿ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم ﴾ أي من أبواب متفرقة. قوله: ﴿ مَّا كَانَ يُغْنِي ﴾ أي يدفع عنهم التفرق، ففاعل يغني ضمير يعود على التفرق. قوله: ﴿ إِلاَّ حَاجَةً ﴾ استثناء منقطع ولذا فسره بلكن، والمعنى لم يكن تفرقهم دافعاً عنهم من قدر الله شيئاً، لكن حاجة في نفس يعقوب قضاها، وهي دفع العين عنهم، التي كانت تصيبهم عند دخولهم مجتمعين، فإن التفرق في الدخول دفعها بإرادة الل. قوله: (لتعليمنا إياه) أشار بذلك إلى أن ما مصدية. قوله: ﴿ وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ ﴾ أي منزله ومحل حكمه، وهذا الدخول غير الدخول السابق، فإن المراد بد دخول المدينة، قال المفسرون: لما دخلوا عليه قالوا أيها الملك، هذا أخونا الذي أمرتنا أن نأتيك به فقد جئناك به، فقال أحسنتم وأصبتم، ستجدون ذلك عندي، ثم أنزلهم وأكرم نزلهم، ثم أضافهم وأجلس كل اثنين على مائدة، فبقي بنيامين وحيداً، فبكى وقال: لو كان أخي يوسف حياً لأجلسني معه، فقال لهم يوسف: لقد بقي هذا وحده، فقالوا: كان له أخ فهلك، قال لهم: فأنا اجلسه معي، فأخذه فأجلسه معه على المائدة وجعل يؤاكله، فلما دخل الليل، أمر لهم بمثل ذلك من الفراش وقال: كل اثنين ينامان على فراش واحد واحد، فبقي بنيامين وحده، فقال يوسف: هذا ينام عندي على فراشي، فقام بنيامين مع يوسف على فراشه، فجعل يوسف يضمه إليه ويشم ريح أبيه منه حتى أصبح، فلما أصبح قال لهم: إني أرى هذا الرجل وحيداً ليس معه ثان، فأنا أضمه إلي فيكون معي في منزلي، ثم إنه أنزلهم وأجرى لهم الطعام، فقال روبيل: ما رأينا مثل هذا، فلما خلا به قال له يوسف: ما اسمك؟ قال: بنيامين، قال: فهل لك من ولد؟ قال: عشر بنين، قال: فهل لك من أخ لأم؟ قال: كان لي أخ فهلك، قال يوسف: أتحب أن أكون أخاك بدل من أخيك الهالك؟ قال بنيامين: ومن يجد أخاً مثلك أيها الملك؟ ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف عليه السلام، وقام إليه وعانقه وقال: ﴿ إِنِّيۤ أَنَاْ أَخُوكَ ﴾ إلخ، وقال كعب: لما قال له يوسف: إني أنا أخوك، قال بنيامين: أنا لا أفارقك، فقال يوسف: قد علمت اغتمام والدي بي، فإذا حبستك عندي ازداد غمه، ولا يمكنني هذا إلا أن أشهرك بأمر فظيع، وأنسبك إلى ما لا يحمد، فقال: لا أبالي، افعل ما بدا لك فإني لا أفارقك، قال يوسف: فإني أدس صاعي في رحلك، ثم أنادي عليك بالسرقة، لأحتال في ردك بعد إطلاقك، قال: فافعل ما شئت، فذلك قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ ﴾ إلخ. قوله: ﴿ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ ﴾ عبر هنا بالفاء، إشارة إلى طلب سرعة سيرهم وذهابهم لبلادهم بخلاف المرة الأولى، فإن المطلوب طول إقامتهم ليتعرف حالهم. قوله: (هي صاع من ذهب) وكان يشرب فيه الملك فسمي سقاية باعتبار أول حاله، وصاعاً باعتبار آخر أمره، لأن الصاع آلة للكيل. قوله: (مرصع بالجواهر) أي مزين ومحلى بها. قوله: (بعد انفصالهم عن مجلس يوسف) أي خروجهم وسيرهم، بل قيل: إنهم وصلوا إلى بلبيس وردوا من عندها. قوله: ﴿ أَيَّتُهَا ٱلْعِيرُ ﴾ هي في الأصل كل ما يحمل عليه من إبل وحمير، ويقال أطلقت وأريد أصحابها فهو مجاز علاقته المجاورة. قوله: ﴿ وَأَقْبَلُواْ ﴾ قدره المفسر (قد) إشارة إلى أن الجملة حالية، والمعنى أنهم التفتوا إليهم وخاطبوهم بما ذكر. قوله: ﴿ مَّاذَا تَفْقِدُونَ ﴾ أي أي شيء ضاع منكم.
قوله: ﴿ صُوَاعَ ٱلْمَلِكِ ﴾ أي آلة كيله، وإنما اتخذ آلة كيل لعزة ما يكال به في ذلك الوقت، وفيه قراءات كثيرة السبعية منها واحدة وهي صواع وما عداها شاذ. قوله: ﴿ حِمْلُ بَعِيرٍ ﴾ أي جعلا له. قوله: ﴿ قَالُواْ تَٱللَّهِ ﴾ إلخ، إنما قالوا ذلك، لما ظهر من أحوالهم ما يدل على صدقهم، حيث كانوا مواظبين على الطاعات والخيرات، حتى بلغ من أمرهم أنهم سدوا أفواه دوابهم، لئلا تأكل شيئاً من أموال الناس. قوله: ﴿ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ﴾ اللام موطئة لقسم محذوف تأكيد لما قبله. قوله: (ووجد فيكم) الجملة حالية، والمعنى فما جزاؤه إن كنتم غير صادقين في قولكم، والحال أنه ظهر خلاف ما قلتم. قوله: (خبره) ﴿ مَن وُجِدَ ﴾ أي فمن اسم موصول ووجد صلتها، والكلام على حذف مضاف أي استرقاق من وجد، أشار المفسر بقوله يسترق. قوله: (وكانت سنة آل يعقوب) أي طريقهم وشريعتهم يسترق السارق سنة. قوله: ﴿ كَذٰلِكَ ﴾ (الجزاء) أي المذكور وهو استرقاق السارق. قوله: (فصرفوا) أي ردوا من المكان الذي لحقهم فيه جماعة الملك.
قوله: ﴿ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ ﴾ أي فكان يفتح وعاء وعاء ويفتشه، ثم بعد فراغه منه يستغفر الله مما قذفهم به، إلى أن وصل إلى رحل بنيامين فقال: ما أظن هذا أخذ شيئاً، فقالوا: والله لا نتركك حتى تنظر في رحله، فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا، فلما فتحوا متاعه وجدوا الصواع فيه. قوله: ﴿ ثُمَّ ٱسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ ﴾ أي فلما أخرجها منه، نكس الأخوة رؤوسهم من الحياء، وأقبلوا على بنيامين يلومونه ويقولون له: فضحتنا وسودت وجهنا يا ابن راحيل، ما زال لنا منكم بلاء، فقال بنيامين: بل بنو راحيل ما زال لهم منكم بلاء، ذهبتم بأخي فأهلكتموه في البرية، إن الذي وضع هذا الصواع في رحلي، هذا الذي وضع البضاعة في رحالكم. قوله: ﴿ كَذٰلِكَ ﴾ (الكيد) أي الحيلة وهي استفتاء يوسف من إخوته. قوله: ﴿ كِدْنَا لِيُوسُفَ ﴾ أي ألهمناه أن يضع الصاع في رحل أخيه ليضمه إليه، على ما حكم به إخوته. قوله: (علمناه الاحتيال) إلخ، أي فما وقع من يوسف في تلك الواقعة بوحي من الله تعالى، وحينئذ فلا يقال: كيف نادى على إخوته بالسرقة واتهمهم بها مع أنهم بريئون. قوله: (لأن جزاءه عنده الضرب) إلخ، أي وهذه الطريقة لا توصله إلى أخذ أخيه. قوله: (مثلي المسروق) أي مثلي قيمته. قوله: ﴿ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ ﴾ استثناء منقطع، والمعنى ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك، ولكن أخذ بشريعة يعقوب، لمشيئة الله لأخذه، إذ لو شاء عدم أخذه لما علمه تلك الحيلة قوله: (بحكم أبيه) أي شريعته. قوله: (بالإضافة والتنوين) أي فهما قراءتان سبعيتان قوله: ﴿ وَفَوْقَ ﴾ خبر مقدم، و ﴿ عَلِيمٌ ﴾ مبتدأ مؤخر، والمعنى أن إخوة يوسف وإن كانوا علماء، إلا أن الله جعل يوسف فوقهم في العلم، بل فضله عليهم بمزايا عظيمة منها: الرسالة والملك والإنعام عليهم وغير ذلك.
قوله: ﴿ قَالُوۤاْ إِن يَسْرِقْ ﴾ إلخ، سببب هذه المقالة، أنه لما خرج الصاع من رحل بنيامين، افتضح الإخوة ونكسوا رؤوسهم، فقالوا تبرئة لساحتهم ﴿ إِن يَسْرِقْ ﴾ الخ، وأتوا بإن المفيدة للشك، لأنه ليس عندهم تحقق سرقته، بمجرد إخراج الصاع من رحله، وبالمضارع لحكاية الحال الماضية. قوله: (وكان سرق لأبي أمه صنماً) إلخ، هذا أحد أقوال في السرقة التي نسبوها له، وقيل جاءه سائل يوماً فأخذ بيضة من البيت فناولها للسائل، وقيل أخذ دجاجة من الطير التي كانت في بيت يعقوب فأعطاها سائلاً، وقيل كان يخبىء الطعام من المائدة للفقراء، وقيل لم يسرق أصلاً لا ظاهراً ولا باطناً، وإنما كانت تهمة فقط، وذلك أن عمته حصنته بعد موت أمه، فأحبته حباً شديداً، فلما ترعرع وقعت محبة يعقوب عليه فأحبه، فقال لأخته: يا أختاه سلمي إلي يوسف، فوالله ما أقدر أن يغيب عني ساعة واحدة، فقالت: لا أعطيكه، فقال: والله ما أنا بتاركه عندك، فقالت: دعه عندي أياماً أنظر إليه، لعل ذلك يسليني عنه، ففعل ذلك، فعمدت إلى منطقة كانت لإسحاق، وكانوا يتوارثونها بالكبر، وكانت أكبر أولاد إسحاق، وكانت عندها، فشدت المنطقة على وسط يوسف تحت ثيابه وهو صغير ثم قالت: لقد فقدت منطقة إسحاق، ففتشوا أهل البيت فوجدوها مع يوسف، فقال يعقوب: إن كان فعل ذلك فهو سلم لك فأمسكته عندها حتى ماتت. قوله: (لئلا يعبده) أي يدوم على عبادته. قوله: (والضمير للكلمة) إلخ. أي فهو عائد على متأخر لفظاً ورتبة، وحينئذ يكون في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير قال أنتم شر مكاناً وأسرها في نفسه، وهذا أحد قولين، وقيل إنه عائد على قوله: ﴿ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ ﴾.
قوله: ﴿ فَأَسَرَّهَا ﴾ لم يرد لها جواباً. قوله: ﴿ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً ﴾ أي منزلة، والمعنى أن ما ظهرتم به شر مما يظهر به يوسف وأخوه، فإنهما اتهما بالسرقة ظاهراً، وأنتم سرقتم يوسف من أبيه وفعلتم به ما فعلتم. قوله: (لسرقتكم أخاكم من أبيكم) أي وهو يوسف قوله: (عالم) أشار بذلك إلى أن اسم التفضيل ليس على بابه، إذ لا مشاركة بين الحادث والقديم. قوله: ﴿ قَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ ﴾ إلخ سبب هذه المقالة أنه لما استخرج الصاع من رحل بنيامين، غضب روبيل لذلك، وكان بنو يعقوب إذا غضبوا لم يطاقوا، وكان روبيل إذا غضب لم يقم لغضبه شيء، وكان إذا صاح ألقت كل حامل حملها إذا سمعت صوته، وكان مع ذلك، إذا مسه أحد من ولد يعقوب يسكن غضبه، وكان أقوى الإخوة وأشدهم، وقيل كان هذا صفة شمعون بن يعقوب، فقال لإخوته: كم عدد الأسواق بمصر؟ قالوا: عشرة، قال: اكفوني أنتم الأسواق، وأنا أكفيكم الملك، أو اكفوني أنتم الملك، وأنا أكفيكم الأسواق، فدخلوا على يوسف فقال روبيل: أيها الملك لتردن علينا أخانا، أو لأصيحن صيحة لا يبقى بمصر امرأة حامل إلا وضعت حملها، وقامت كل شعرة في جسد روبيل حتى خرجت من ثيابه، فقال يوسف لابن صغير له: قم إلى جنب هذا فمسه أو خذه بيده، فأتى له فلما مسه سكن غضبه، فقال لإخوته: من مسني منكم؟ فقالوا: لم يصبك منا أحد، فقال روبيل إن هذا بذر من بذر يعقوب، فغضب ثانياً، فقالم يوسف إليه فوكزه برجله، وأخذ يداً من يده فوقع على الأرض، وقال لهم: أنتم يا معشر العبرانيين، تزعمون أن لا أحد أشد منكم، فلما رأوا ما نزل بهم، ورأوا أن لا سبيل إلى الخلاص، خضعوا وذلوا، و ﴿ قَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ ﴾ إلخ. قوله: ﴿ كَبِيراً ﴾ أي في السن أو القدر، لأنه نبي من أولاد الأنبياء. قوله: (استعبده) أي استرقه. قوله: ﴿ مَكَانَهُ ﴾ منصوب على الظرفية أو ضمن خذ معنى اجعل، فمكانه مفعول ثان. قوله: ﴿ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾ أي في أفعالك، وإلينا في توفية الكيل وحسن الضيافة وغير ذلك. قوله: ﴿ إِنَّـآ إِذاً لَّظَالِمُونَ ﴾ أي في أخذ أحدكم مكانه.
قوله: (يئسوا) أشار بذلك إلى أن السين والتاء زائدتان. قوله: (اعتزلوا) أي مجلس الملك. قوله: ﴿ نَجِيّاً ﴾ هو حال، والمعنى خلصوا حال كونهم متناجين ومتشاورين في أمر هذه القضية. قوله: (في أخيكم) أي في رده. قوله: ﴿ مَا ﴾ (زائدة) أي والجار والمجرور متعلق بفرطتم. قوله: (وقيل ما مصدرية مبتدأ) أي وهي وما دخلت عليه، في تأويل مصدر مبتدأ، فالمبتدأ في الحقيقة المصدر المنسبك، والمعنى: وتفريطكم كائن من قبل تفريطكم في بنيامين، واعترض هذا الإعراب، بأن الظروف المنقطعة عن الإضافة لا تقع خيراً، ويجاب بأن محل ذلك ما لم يتعين المضاف إليه كما هنا. قوله: ﴿ فَلَنْ أَبْرَحَ ٱلأَرْضَ ﴾ أشار بذلك إلى أن أبرح ضمنت معنى: أفارق الأرض مفعول به، وأبرح تامة. قوله: ﴿ أَوْ يَحْكُمَ ٱللَّهُ ﴾ إما معطوف على يأذن، أو منصوب بأن مضمرة في جواب النفي، كأنه قال: لن أبرح الأرض إلا أن يحكم الله، كقولهم: لألزمنك أو تقضيني حقي، أي إلا أن تقضيني حقي. قوله: ﴿ فَقُولُواْ يٰأَبَانَا ﴾ إلخ إنما أمرهم بذلك، لتزول التهمة عنهم عند أبيهم. قوله: ﴿ إِنَّ ٱبْنَكَ سَرَقَ ﴾ أي نسبوه إلى السرقة، وفي ظاهر الحال لا في الحقيقة. قوله: ﴿ وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ﴾ أما وما كنا للعواقب عالمين، فلم ندر حين أعطيناك الموثق، أنه سيسرق وتصاب به، كما أصبت بيوسف. قوله: (أي أرسل إلى أهلها) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف، وكذا في قوله: ﴿ وَٱلْعِيْرَ ﴾.
قوله: (وهم قوم كنعان) أي وكانوا جيراناً ليعقوب. قوله: ﴿ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ أي سواء نسبتنا إلى التهمة أم لا، وليس غرضهم أن يثبتوا صدق أنفسهم بهذه المقالة، لأن دعوى الخصم لا تثبت بنفسها. قوله: (فرجعوا) أي التسعة، وقدره إشارة إلى أن قوله: ﴿ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ ﴾ إلخ، مرتب على محذوف. قوله: ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾ خبر لمبتدأ محذوف، قدره المفسر بقوله: (صبري) وتقدم أن الصبر الجميل، هو الذي لا شكوى مع لمخلوق، ولا جزع من فعل الخالق، ولذلك فوض أمره لله، ولم يسأل العير، ولم يرسل يستخير من القرية التي كانوا فيها، بل استسلم للقضاء ولم يقطع الرجاء. قوله: ﴿ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ ﴾ إنما قال ذلك، لأنه لما طال حزنه واشتد كربه، علم أن الله سيجعل له فرجاً ومخرجاً، لأنه إذا اشتد الكرب، كان إلى الفرج أسرع، وقيل: إن يعقوب أطلعه الله على باطن الأمر، وأن أولاده أحياء لم يصابوا بشيء، ، وأنه سيجتمع عليهم، غير أنه أمر بكتم ذلك فلوح تلك الإشارة إلى علمه. قوله: (وأخويه) أي بنيامين وكبيرهم. قوله: ﴿ ٱلْحَكِيمُ ﴾ في صنعه، أي لأنه يضع الأشياء في محلها.
قوله: ﴿ وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ ﴾ مرتب على ما ذكروه له. قوله: (الألف بدل من ياء الإضافة) أي والأصل يا أسفي، بكسر الفاء وفتح الياء، قلبت الكسرة فتحة، ثم تحركت الياء، وانفتح ما قبلها قلبت ألفاً، فيقال في إعرابه أسفى منادى منصوب بفتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المنقلبة ألفاً. قوله: ﴿ عَلَى يُوسُفَ ﴾ إنما يجدد حزنه على يوسف عند إخباره بواقعة بنيامين، لأن الحزن قديم إذا صادفه حزن آخر، كان أوجع للقلب، وأعظم لهيجان الحزن، وليس في هذا إظهار جزع، بل هو شكوى لله لا للخلق، فمعنى يا أسفي، أشكو إلى الله شدة حزني، فلا ينافي قوله:﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾[يوسف: ٨٣].
قوله: ﴿ وَٱبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ ﴾ قيل معناه عمي فلم يبصر شيئاً ست سنين، وهذا بناء على جواز مثل هذا على الأنبياء بعد التبليغ واشتهار الأمر، وقيل معناه ضعف بصره من كثرة البكاء، واتصال الدمع بعضه ببعض، ولم يكن عمي حقيقة، بل من كثرة البكاء صار على إنسان العين غشاوة مانعة له من النظر، ولم يذهب أصلاً، وهذا هو الأقرب. قوله: ﴿ فَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ أي مكظوم، ممتلىء من الحزن ممسك عليه، لا يذكره لأحد، قال قتادة: الكظيم الذي برد حزنه في جوفه، ولم يقل إلا خيراً. قوله: ﴿ قَالُواْ تَاللهِ ﴾ أي تسلية له على ما نزل به من الحزن العظيم. إن قلت: كيف حلفوا على شيء لا يعلمون حقيقته؟ أجيب: بأنهم حلفوا على غلبة الظن، وهي بمنزلة اليقين، فهو من لغو اليمين الذي لا يؤاخذ به العبد. قوله: ﴿ تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ ﴾ إلخ، إنما قدر المفسر (لا) لأن القسم المثبت جوابه مؤكد بالنون أو اللام عند الكوفيين، أو بهما عند البصريين، فلما رأينا الجواب هنا خالياً منهما، علمنا أن القسم على النفي بمعنى أن، جوابه منفي لا مثبت، فلو قيل: والله أحبك كان المراد لا أحبك، وهو من قبيل التورية، ومن ذلك إذا قال: والله أجيئك غداً في فيحنث في المجيء، بخلاف ما إذا قال لأجيئنك فيحنث بعدمه. قوله: ﴿ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضاً ﴾ هو من باب تعب، يقال: حرض حرضاً أشرف على الهلاك. قوله: (وغيره) أي المثنى والمجموع والمذكر والمؤنث.
قوله: ﴿ قَالَ ﴾ (لهم) أي جواباً لقولهم. قوله: ﴿ أَشْكُو بَثِّي ﴾ البث تفريق الحزن واظهاره، لأن الإنسان إذا ستر الحزن وكتمه كان هماً، وإذا ذكره لغيره كان بثاً، فالبث أشد الحزن وهذه المقالة قالها لجبريل عليه السلام، لما ورد أنه كان ليعقوب شخص مواخ له، فقال له ذات يوم: يا يعقوب ما الذي أذهب بصرك، وما الذي قوس ظهرك، قال: أما الذي أذهب بصري، فالبكاء على يوسف، وأما الذي قوس ظهري، فالحزن على بنيامين، فأتاه جبريل فقال له: يا يعقوب، إن الله يقرئك السلام ويقول لك: أما تستحي أن تشكو إلى غيري؟ فقال: ﴿ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ ﴾ فقال جبريل: الله أعلم بما تشكو، وإنما عوتب يعقوب بهذا، لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين، لأن العتاب على قدر المرتبة. قوله: ﴿ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ أي من رحمته وإحسانه قوله: (وهو حي) أي لما روي أن ملك الموت زار يعقوب، فقال له يعقوب: أيها الملك، الطيب ريحه، الحسن صورته، الكريم على ربه، هل قبضت روح ابني يوسف؟ قال: لا، فطابت نفس يعقوب وطمع في رؤيته. قوله: ﴿ يٰبَنِيَّ ٱذْهَبُواْ ﴾ إلخ، سبب تلك المقالة، أن أولاده لما أخبروه بسيرة ملك مصر، وكمال حاله في جميع أقواله وأفعاله، أحست نفس يعقوب، وطمع أن يكون هو يوسف، فعند ذلك قال: ﴿ يٰبَنِيَّ ﴾ إلخ. قوله: ﴿ فَتَحَسَّسُواْ ﴾ هو بالحاء المهملة، طلب الخير بالحاسة والتجسس بمعناه، روي أن يعقوب حين أمر أولاده أن يذهبوا ليأتوا بخبر يوسف وأخيه، كتب لهم كتاباً إلى يوسف، لما حبس عنده بنيامين، من يعقوب اسرائيل الله، ابن اسحاق ذبيح الله، ابن ابراهيم خليل الله، إلى ملك مصر، أما بعد، فإنا أهل بيت وكل بنا البلاء، أما جدي ابراهيم، فشدت يداه ورجلاه وألقي في النار، فصبر لأمر الله، وأما عمي اسماعيل فابتلي بالغربة في صغره، فصبر لأمر الله، وأما أبي اسحاق، فابتلي بالذبح ووضع السكين على قفاه، ففداه الله، وأما أنا فكان لي ابن، وكان أحب أولادي إلي، فذهب به إخوته إلى البرية، ثم أتوني بقميصه ملطخاً بالدم وقالوا: قد أكله الذئب فذهبت عيناي، ثم كان لي ابن آخر، وكان أخاه من أمه، فكنت أتسلى به، وأنك حبسته وزعمت أنه سرق، وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقاً، فإن رددته إلي، وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك، فلما قرأ يوسف كتاب أبيه، اشتد بكاؤه وقل صبره، وأظهر نفسه لإخوته. قوله: ﴿ وَأَخِيهِ ﴾ لم يقل وأخويه لأنه كان يعلم أن الثالث مقيم بمصر، فلم يخف عليه حاله. قوله: (اطلبوا خبرهما) أي بالجلسة، كما أن التجسس طلب الخبر بالحاسة أيضاً، فهما بمعنى واحد، ولذا قرىء هنا بالجيم شذوذاً. قوله: ﴿ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ ﴾ بالفتح مصدر بمعنى الرحمة، وهو في الأصل استراحة القلب من غمه، والمعنى لا تقنطوا من راحة تأتيكم من الله. قوله: (فانطلقوا نحو مصر) قدره إشارة إلى أن قوله: ﴿ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ ﴾ مرتب على محذوف. قوله: (مدفوعة) أي مردودة. قوله: (وكانت دراهم زيوفاً) أي معيبة. قوله: (أو غيرها) أو لتنويع الخلاف، فقيل كانت نعالاً، وقيل صوفاً. قوله: ﴿ فَأَوْفِ لَنَا ٱلْكَيْلَ ﴾ أي أعطنا ما كنت تعطينا من قبل بالثمن الجيد، فإنا نريد أن تقيم لنا الناقص مقام الزائد. قوله: (بالمسامحة) وقيل برد أخينا بنيامين. إن قلت: إن ما فعلوه خلاف ما أمرهم به أبوهم، من التحسس من يوسف وأخيه، أجيب: بأن أبواب التحسس كثيرة وهذا منها، لأن الاعتراف بالعجز، وضيق اليد وشدة الحاجة، مما يرقق القلب، فإن كان يوسف فسيظهر لهم حاله، لحصول الرقة والعطف منه لهم، وإن كان غيره فلا يرق ولا يعطف. قوله: (ورفع الحجاب) إلخ، قيل هو اللثام الذي كان يتلثم به، وقيل هو الستر الذي كان يكلمهم من خلفه، وقيل هو تاج الملك الذي كان يضعه على رأسه، وكان له في قرنه علامة تشبه الشامة، وكان ليعقوب مثلها، ولسارة مثلها، فعرفوه بها.
قوله: ﴿ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ ﴾ أي هل علمتم عاقبة ما فعلتم بهما، من تسليم الله إياهما من كل مكروه، وإنعام الله عليهما بتلك النعم العظيمة. قوله: (من هضمكم له) أي ظلمكم وإذايتكم له. قوله: ﴿ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ ﴾ أي وقت جهلكم بعاقبة أمرهما. قوله: (من شمائله) أي أخلاقه. قوله: (وإدخال ألف بينهما) إلخ، أي فالقراءات أربع: التحقيق والتسهيل للثانية، مع الألف بينهما وبدونها، وبقي قراءة خامسة سبعية أيضاً وهي إنك بهمزة واحدة. قوله: ﴿ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ ﴾ إنما عرض باسمه، تعظيماً لما نزل به من ظلم إخوته، ولما عوضه الله من النصر والملك. قوله: ﴿ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ ﴾ بإثبات الياء وصلاً ووقفاً، وبحذفها فيهما قراءتان سبعيتان فعلى الإثبات تكون من موصولة والفعل صلتها، وعلى الحذف تكون شرطية، والفعل مجزوم بحذفها. قوله: (فيه وضع الظاهر إلخ) أي والأصل لا يضيع أجرهم. قوله: (وغيره) أي كالصبر والصفح والحلم. قوله: ﴿ لَخَاطِئِينَ ﴾ يقال خطىء إذا كان عن عمد، أو خطأ غذا لم يكن عن عمد، ولذا عبر بخاطئين دون مخطئين. قوله: ﴿ قَالَ لاَ تَثْرِيبَ ﴾ أي لا توبيخ ولا لوم عليكم. قوله: ﴿ ٱلْيَوْمَ ﴾ خبر ثان أو متعلق بالخبر فالوقف عليه وهو الأقرب، ولذا مشى عليه المفسر، وقوله: ﴿ يَغْفِرُ ٱللَّهُ لَكُمْ ﴾ استئناف، ويصح أن يكون ظرفاً لقوله يغفر، فالوقف على قوله عليكم. قوله: ﴿ يَغْفِرُ ٱللَّهُ لَكُمْ ﴾ الجملة دعائية. قوله: ﴿ وَهُوَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ ﴾ أي يقبل التوبة ويعفو عن المذنبين، ومن كرم يوسف عليه السلام أنهم لما عرفوه قالوا له: إنك تدعونا بكرة وعشياً إلى الطعام، ونحن نستحي منك لما تقدم منا فقال: إن أهل مصر كانوا ينظرون إلي بعين العبودية ويقولون: سبحان من بلغ عبداً بيع بعشرين درهماً ما بلغ، ولقد شرفت بكم، وعظمت في عيونهم، حيث علموا أنكم إخوتي، وأني من حفدة إبراهيم عليه السلام.
قوله: (وسألهم عن أبيه) أي حين وقع التعارف وهو تمهيد لقوله: ﴿ ٱذْهَبُواْ بِقَمِيصِي ﴾.
قوله: (وهو قميص إبراهيم الذي لبسه حين ألقي في النار) أي لأنه لما ألقي فيها عرياناً، أتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه، فكان ذلك القميص عند إبراهيم، فلما مات ورثه إسحاق، فلما مات ورثه يعقوب، وجعله في قصبة من فضة، وسد رأسها وعلقها في عنق يوسف حفظاً من العين، فلما ألقي في الجب عرياناً، أتاه جبريل، وأخرج له ذلك القميص من القصبة وألبسه إياه. قوله: (وقال) أي جبريل. قوله: ﴿ يَأْتِ بَصِيراً ﴾ يحتمل أن يأت بمعنى يصير، فبصيراً مفعول ثان، وهو الذي درج عليه المفسر، ويحتمل أنها بمعنى يجيء فبصيراً حال. قوله: ﴿ بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ أي وكانوا اثنين وسبعين، ما بين رجل وامرأة، وقيل ثلاثاً وسبعين، فأرسل لهم مائتي راحلة، وكانوا حين خرجوا من مصر مع موسى، ستمائة ألف وخمسمائة وبضعة وسبعين رجلاً، سوى الذراري والضعفاء، وكانت الذرية إذ ذاك ألف ألف ومائتي ألف، فقد بورك فيهم حتى بلغوا هذا العدد في تلك المدة اليسيرة، لأنه كان بين يعقوب وموسى أربعمائة سنة. قوله: (خرجت من عريش مصر) أي متوجهة إلى أرض كنعان، والعريش بلدة معروفة آخر بلاد مصر، وأول بلاد الشام، وما ذكره المفسر أحد قولين، والآخر أن المراد خرجت من نفس مصر. قوله: (لم حضر من بنيه وأولادهم) إلخ، مقتضى هذا أن الأولاد لم يذهبوا جميعاً لمصر، بل بقي بعضهم، وقال غيره: إن الأولاد ذهبوا جميعاً، وهذا الخطاب لأولادهم. قوله: ﴿ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ﴾ أي ريح الجنة من قميص يوسف، فالإضافة لأدنى ملابسة، وهذا دليل على أن كل سهل فهو في مدة المحنة صعب، وكل صعب فهو في زمان الإقبال سهل، حيث وصل إليه ريح القميص من المكان البعيد، عند انقضاء مدة الفراق، ومنع من وصول خبره إليه، مع قرب إحدى البلدتين من الأخرى، في تلك المدة العظيمة، ومن ذلك قول العارف بن الفارض رضي الله عنه: أعوام إقباله كاليوم في قصر ويوم إعراضه في الطول كالحججقوله: (أوصلته إليه الصبا) هي ريح تهب من مطلع الشمس. إن قلت: إن ريح الصبا تقابل الذاهب من مصر إلى الشام، فإذا كانت تقابله، فكيف تحمل الريح من القميص الذي معه إلى جهة الشام، فمقتضى العادة أن التي حملت هي الدبور، لأنها هي التي تذهب من جهة مصر إلى الشام؟ أجيب: بأن هذا خرق عادة، أو يقال إن هذا ظاهر إذا كانت حملته لمقابلتها فقط، وأما ما حصل، فقد فاح شذاه على جميع الدنيا، ولذا قال مجاهد: هبت ريح فصفقت القميص، ففاحت روائح الجنة في الدنيا واتصلت بيعقوب، فوجد ريح الجنة في ذلك القميص، وحينئذ فحمل الصبا لريحه ظاهر، لأنها لم تحمل ريحه ليعقوب فقط، بل حملته لأهل الدنيا، وقد بالغ الناس في مدح الصبا، حتى قال بعض الحكماء: لو توالت على الأرض سبعة أيام لأنبتت الزعفران، وقال بعضهم مادحاً لها: أيا جبلي نعمان بالله خليا نسيم الصبا يخلص إليَّ نسيمهافإن الصبا ريح إذا ما تنسمت على نفس مهموم تجلت همومهاأجد بردها أو تشف مني حرارة على كبد لم يبق إلا رسومهاقوله: (أو أكثر) قيل عشرة وقيل شهر. قوله: ﴿ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ ﴾ أن وما دخلت عليه، في تأويل مصدر مبتدأ خبره محذوف وجوباً، وجواب لولا محذوف أيضاً، وتقدير الكلام: لولا تفنيدكم لي موجود لصدقتموني، والتفنيد هو تضعيف الرأي.
قوله: ﴿ قَالُواْ ﴾ أي من حضر عنده من أولاد بنيه. قوله: ﴿ لَفِي ضَلاَلِكَ ٱلْقَدِيمِ ﴾ أي من ذكر يوسف وعدم نسيانك إياه، لأنه كان عندهم قد مات وهلك. قوله: (فأحب أن يفرحه) أي فقال لإخوته: إني ذهبت بالقميص ملطخاً بالدم، فأنا اذهب بهذا القميص فأفرحه كما أحزنته، فحمله وخرج به حافياً حاسراً، ومعه سبعة أرغفة لم يستوف أكلها، حتى أتى أباه، وكانت المسافة ثمانين فرسخاً، فلما وصل إليه علمه في نظير تلك البشارة، كلمات كان ورثها من أبيه إسحاق، وهو عن أبيه إبراهيم وهي: با لطيفاً فوق كل لطيف، الطف بي في أموري كلها كما أحب، ورضني في دنياي وآخرتي. قوله: ﴿ فَٱرْتَدَّ بَصِيراً ﴾ أي رجع بصره لحالته الأولى. قوله: ﴿ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ أي من أمور باطنية لا تعلمونها، فأنتم تنظرون للظاهر، وأنا أنظر للباطن. قوله: ﴿ قَالُواْ يٰأَبَانَا ﴾ إلخ، أي لما ظهر الحق وتبين، اعتذروا لأبيهم مما وقع منهم. قوله: ﴿ ٱسْتَغْفِرْ لَنَا ﴾ أي اطلب لنا من ربنا غفران ذنوبنا. قوله: ﴿ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ﴾ أي آثمين. قوله: (أخر ذلك إلى السحر) فلما انتهى إلى وقت السحر، قام إلى الصلاة متوجهاً إلى الله، فلما فرغ منها رفع يديه وقال: اللهم اغفر لي جزعي على يوسف، وقلت صبري عنه، وأغفر لأولادي ما أتوا إلي وإلى أخيهم يوسف، فأوحى الله إليه أني قد غفرت لك ولهم أجمعين. قوله: (أو إلى ليلة الجمعة) أي وقيل إلى الاجتماع بيوسف، ليجتمع معه على الاستغفار والدعاء لهم، ويؤيده ما روي أنه استقبل القبل قائماً يدعو، فقام يوسف خلفه يؤمن، وقاموا خلفهما أذلة خاشعين، حتى نزل جبريل عليه السلام وقال: إن الله قد أجاب دعوتك في ولدك، وعقد مواثيقهم بعدك على النبوة، وهذا إن صح فهو دليل على نبوتهم، ويجاب عما وقع منهم بما مر. قوله: (ثم توجهوا إلى مصر) وقال أصحاب الأخبار: لما دنا يعقوب من مصر، كلم يوسف الملك الأكبر، وعرفه بمجيء أبيه وأهله، فخرج يوسف في أربعة آلاف من الجند، وركب أهل مصر معهم يتلقون يعقوب عليه السلام، وكان يعقوب يمشي وهو يتوكأ على يد ابنه يهودا، فلما نظر إلى الخيل والناس قال: يا يهودا هذا فرعون مصر، قال: لا، بل هذا ابنك يوسف، فلما دنا كل واحد من صاحبه، أراد يوسف أن يبدأ يعقوب بالسلام، فقال له جبريل: خل يعقوب يبدأ بالسلام، فقال يعقوب: السلام عليك يا مذهب الأحزان، وقيل إنهما نزلا وتعانقا، وفعلا كما يفعل الوالد بولده، والولد بوالده، وبكيا، وقيل إن يوسف قال لأبيه: يا أبت بكيت علي حتى ذهب بصرك، ألم تعلم أن القيامة تجمعنا؟ قال: بلى، ولكن خشيت أن يسلب دينك، فيحال بيني وبينك، وخرج يوسف للقاء أبيه في أربعة آلاف من الجند، لكل واحد منهم جبة من فضة، وراية خزو قصب، فتزينت الصحراء بهم، واصطفوا صفوفاً، ولما صعد يعقوب ومعه أولاده وحفدته، نظر إلى الصحراء مملوءة بالفرسان، مزينة بالألوان، فنظر إليهم متعجباً، فقال جبريل: انظر إلى الهواء، فإن الملائكة قد حضرت سروراً بحالك، كانوا باكين محزونين مدة لأجلك، وهاجت الفرسان بعضهم في بعض، وصهلت الخيول، وسبحت الملائكة، وضربت الطبول والبوقات، فصار كأنه يوم القيامة، قيل وكان دخولهم يوم عاشوراء.
قوله: ﴿ فَلَمَّا دَخَلُواْ ﴾ أي يعقوب وأولاده. قوله: (في مضربه) أي خيمته، وكان ذلك خارج المدينة على عادة الملوك. قوله: ﴿ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ﴾ أي قربهما منه. قوله: (وأمه) أي على القول بحياتها حينئذ، وقوله: (أو خالته) أي واسمهما ليا، وهذا على القول يموت راحيل، وقيل المراد بخالته امرأة اخرى غير ليا تزوجها يعقوب بعدهما، وقيل أحيا الله أمه بعد موتها وسجدت له، تحقيقاً لرؤياه، والله أعلم بحقيقة الحال. قوله: ﴿ ٱدْخُلُواْ مِصْرَ ﴾ هذا الدخول غير الدخول الأول، لأن المراد به هنا دخول نفس المدينة، وأما الأول فالمراد دخول خيمته خارج البلد. قوله: ﴿ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ ﴾ أي من كل مكروه، لأن الناس كانوا يخافون من ملوك مصر، فلا يدخلها أحد إلا بجوارهم، فقال لهم يوسف: ادخلوا مصر آمنين على أنفسكم وأهليكم، لأنكم أنتم ملوكها، فلا تخافون من أحد. قوله: (فدخلوا) إلخ،
قدر ذلك إشارة إلى أن قوله: ﴿ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ ﴾ مرتب على محذوف. قوله: ﴿ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً ﴾ يحتمل أن يكون ذلك السجود خارج البلد عند أول اللقاء، ويحتمل أنه بعد الدخول، وجلوس يوسف وأبويه على السرير. قوله: (سجود انحناء) أي على عادة تحية الملوك، وهذا أحد قولين، وقيل المراد بالسجود حقيقته، وهو وضع الجبهة على الأرض، ولا يشكل على هذا أن حقيقة السجود لا تكون إلا الله، لأنه يقال: إن يوسف جعل كالقبلة لذلك السجود، وما قيل في سجود الملائكة لآدم يقال هنا. إن قلت: كيف رضي يوسف بسجود أبيه له، مع كونه أكبر منه، وكان الواجب مراعاة الأدب؟ أجيب: بأن هذا بأمر من الله تحقيقاً لرؤيا يوسف، لأن رؤيا الأنبياء وحي. قوله: ﴿ هَـٰذَا ﴾ أي السجود. قوله: ﴿ حَقّاً ﴾ أي صدقاً حيث وجدت، وتحققت في الخارج على طبق ما في النوم. قوله: ﴿ وَقَدْ أَحْسَنَ بَيۤ ﴾ أي أنعم علي. قوله: (لئلا يخجل إخوته) أي ولأن نعمة الله عليه في الخروج من السجن، كان سبباً لوصوله إلى الملك، بخلاف إخراجه من الجب، فإنه أعقبها الرق والتهمة والسجن، وليس في ذلك إدخال سرور على أبويه. قوله: ﴿ وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ ٱلْبَدْوِ ﴾ عطف على أخرجني، والمعنى وقد أنعم علي وقت إخراجي من السجن، ووقت مجيئكم من البدو. قوله: ﴿ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ ﴾ ضمنه معنى مدبر فعداه باللام، واللطيف معناه الرفيق المحسن. قوله: (وكانت مدة فراقه ثماني عشرة) إلخ، حاصله أنه اختلف في مدة فراق يوسف لأبيه، فذكر المفسر ثلاثة أقوال، وقيل اثنان وعشرون، وقيل ست وثلاثون، وقيل خمس وثلاثون، وقيل سبعون، ولا يعلم الحقيقة إلا الله، واتفقوا على أن عمر يوسف مائة وعشرون سنة. قوله: (فوصى يوسف أن يحمله) إلخ، أي وقد فعل، فجعله في تابوت من ساج حتى قدم به الشام، فوافق ذلك موت عيصو أخي يعقوب، وكانا قد ولدا في بطن واحد، فدفنا في قبر واحد. قوله: (ولما تم أمره) أي في ملكه. قوله: (وعلم أنه) أي الملك. قوله: (إلى الملك الدائم) أي وهو نعيم الآخرة. قوله: (فقال) أي طلب الملك الدائم بوفاته على الإسلام، وما قبل ذلك فهو ثناء على الله، قدم على الدعاء لمراعاة الأدب، إشارة إلى أن الإنسان ينبغي له إذا أراد أن يدعو، يقدم الثناء على الله اعترافاً بالنعم، ثم بعد ذلك يسأل مطلوبه. قوله: ﴿ مِنَ ٱلْمُلْكِ ﴾ أي بعضه وهو ملك مصر، إذ لم يملك جميع الأقطار إلا أربعة، اثنان مسلمان: اسكندر ذو القرنين وسليمان بن داود، واثنان كافران: بختنصر وشداد بن عاد. قوله: ﴿ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ يصح أن يكون نعتاً لرب، أو بدلاً أو عطف بيان أو نداء ثانياً. قوله: ﴿ تَوَفَّنِى مُسْلِماً ﴾ إن قلت: كيف يطلب الموت مع أن تمنيه لا يجوز؟ أجيب: بأنه علم بالوحي قرب أجله، فطلب ما يكون عند الموت، وهو اللحوق بالصالحين، فمحط طلب الموت على ما بعده. إن قلت: إن كل نبي مقطوع بموته على الإسلام، فلم طلب ذلك؟ أجيب: بأن الله تجلى على يوسف بخوف الإجلال فطلب ذلك، لأن المعصوم عند ذلك ينسى العصمة. قوله: (من آبائي) أي ابراهيم واسحاق ويعقوب، فالمراد لحوقاً خاصاً الذي هو أعلى المراتب. قوله: (مات) أي وقد توراث الفراعنة من العمالقة بعد يوسف، ولم يزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا من دين يوسف وآبائه، إلى أن بعث الله موسى عليه السلام، وأغرق فرعون وقومه، فقطع الله الفراعنة منها، وأورثها الله بني إسرائيل. قوله: (وتشاح المصريون في قبره) أي حتى هموا أن يقتتلوا، ثم اصطلحوا على أن يدفنوه في أعلى النيل من جهة الصعيد، لتعم بركته الجميع، فجعلوه في صندوق من مرمر، وهو نوع من أجود الرخام، ودفنوه في وسط النيل وربطوه بسلسلة، فأخصب الجانبان، فبقي أربعمائة سنة، فلما أمر الله موسى بالخروج من مصر، أمره بأخذ يوسف معه ودفنه في الأرض المقدسة بقرب آبائه، فلم يهتد إلى مكانه، فدلته عليه عجوز، قيل إنها من أولاد يعقوب، وشرطت عليه أن تكون معه في الجنة، فضمن لها ذلك، وشرطت عليه أيضاً أن يدعو لها أن ترجع شابة كلما هرمت فدعا لها، فكانت كلما وصلت في السن خمسين سنة، رجعت بنت ثلاثين، فعاشت ألفاً وستمائة سنة، فحمله موسى ودفنه بالأرض المقدسة، فهو الآن هناك. وأما إخوته فلم يثبت في محل دفنهم شيء، وما قيل من أنهم مدفونون في المحل المعروف بالقرافة الكبرى، فهو بالظن فقط. قوله: (المذكور) أي من أمر يوسف وقصته.
قوله: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ ﴾ أي الأخبار المغيبة التي لم تكن تعلمها قبل الوحي. قوله: ﴿ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ ﴾ كالعلة لقوله: ﴿ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ ﴾ ولقوله: ﴿ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ﴾.
قوله: ﴿ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ﴾ أي يحتالون فيما دبروه. قوله: (وإنما حصل لك علمها من جهة الوحي) أي فيكون إخبار معجزة، لأنه لم يطالع الكتب القديمة، ولم يأخذ من أحد من البشر، فإتيانه بتلك القصة العظيمة على أبلغ وجه، من غير غلط ولا تحريف، غاية الإعجاز. قوله: ﴿ وَمَآ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ ﴾ إلخ، هذه تسلية له صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ وَلَوْ حَرَصْتَ ﴾ هذه الجملة معترضة بين ما وخبرها. قوله: ﴿ وَكَأَيِّن ﴾ مبتدأ، و ﴿ مِّن آيَةٍ ﴾ تمييز، وهو تسلية أخرى له صلى الله عليه وسلم، والمعنى لا تتعجب من إعراضهم عنك، فإن إعراضهم عن الآيات الدالة على وحدانية الله وقدرته أغرب وأعجب. قوله: (كم) أشار بذلك إلى أن ﴿ وَكَأَيِّن ﴾ بمعنى (كم) الخبرية التي للتكثير. قوله: ﴿ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ صفة الآية، وقوله: ﴿ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا ﴾ خبر المبتدأ. قوله: ﴿ وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾ الجملة حالية.
قوله: ﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِٱللَّهِ ﴾ أي وما يعترف أكثرهم بالتوحيد حيث يقولون: الله هو الخالق الرزاق المعطي المانع وغير ذلك. قوله: (يعنونها) أي الأصنام بقولهم (إلا شريكاً هو لك). قوله: (نقمة تغشاهم) أي عقوبة تشملهم وتحيط بهم. قوله: ﴿ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ ﴾ أي طريقي وشريعتي. قوله: ﴿ أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ ﴾ أي أدل الناس على طاعته ودينه. قوله: (حجة واضحة) أي بها يتميز الحق من الباطل. قوله: (عطف على أنا المبتدأ) إلخ، أي فأنا مبتدأ ﴿ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي ﴾ عطف عليه، وقوله: ﴿ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم، فالوقف على قوله: ﴿ أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ ﴾ يكون في المقام جملتان: الأولى تنتهي لقوله: ﴿ أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ ﴾ والثانية مبدؤها لقوله: ﴿ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ ﴾ إلخ، وهذا ما جرى عليه المفسر في الإعراب. قوله: (من جملة سبيله) راجع لقوله: ﴿ وَسُبْحَانَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾ فهما معطوفان على قوله: ﴿ أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ ﴾ كأنه قال: شريعتي أدعو إلى الله وأسبح الله، وكوني لست من المشركين على بصيرة أنا ومن اتبعني. قوله: ﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً ﴾ رد على أهل مكة حيث قالوا: هلا بعث الله لنا ملكاً، والمعنى كيف يتعجبون من ذلك، مع أن جميع رسل الله الذين كانوا من قبلك بشر مثلك. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: (لجفائهم) أي غلظ طبعهم، وهو مقابل لقوله: (وأحلم)، وقوله: (وجهلهم) مقابل لقوله: (أعلم) فهو لف ونشر مشوش. قوله: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ ﴾ الهمزة داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير أعموا فلم يسيروا إلخ، والاستفهام للتوبيخ. قوله: ﴿ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ أي في أسفارهم. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ أي كقولهم هود وصالح ولوط وغيرهم ممن هلكوا. قوله: (من إهلاكهم) بيان لآخر أمرهم. قوله: ﴿ وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ ﴾ أي الدار الآخرة. قوله: ﴿ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ ٱتَّقَواْ ﴾ أي وأما لغيرهم فليست خيراً لهم لحرمانهم من نعيمها. قوله: (الله) قدره إشارة إلى أن مفعول ﴿ ٱتَّقَواْ ﴾ محذوف. قوله: (بالياء والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان.
قوله: (يا أهل مكة) راجع لقراءة التاء، فيكون خطاباً لهم، وعلى الياء يكون إخباراً عنهم. قوله: (غاية لما دل عليه وما أرسلنا) إلخ، أي وحينئذ يكون المعنى: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فكذبتهم أممهم فتراخى نصرهم حتى إلخ. قوله: (أيقن الرسل) هذا راجع لقراءة التشديد، والمعنى أيقن الرسل بالوحي من الله، بأن قومهم يكذبونهم تكذيباً لا إيمان بعده، وأما قراءة التخفيف فالظن على بابه. قوله: (والتخفيف) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (من النصر) بيان لما. قوله: (بنونين مشدداً) إلخ، حاصل ما ذكره ثلاث قراءات: التشديد والتخفيف مع النونين، والتشديد مع النون الواحدة، وظاهر كلامه أن جميعها سبعي وليس كذلك، بل التشديد مع النونين قراءة شاذة قوله: (ماض) أي مبني للمفعول، و ﴿ مَن نَّشَآءُ ﴾ نائب فاعل. قوله: ﴿ فِي قَصَصِهِمْ ﴾ القصص بالفتح مصدر قص إذا تتبع الأثر والخبر، والمراد الأخبار. قوله: (الرسل) أي كهود وصالح ولوط وشعيب وغيرهم، ويحتمل أن الضمير عائد، على يوسف وإخوته بدليل قوله تعالى في أول السورة:﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ ﴾[يوسف: ٣] والمعنى أن الذي قدر على إخراج يوسف من الجب والسجن، ومن عليه بالعز والملك، وجمع شمله بأبيه وإخوته بعد المدة الطويلة، قادر على إعزاز محمد صلى الله عليه وسلم وإعلاء كلمته وإظهار دينه، رغماً على أنف كل معارض. قوله: ﴿ عِبْرَةٌ ﴾ أي تفكر واتعاظ. قوله: ﴿ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ ﴾ تعريض بأنهم ليسوا بأولي الألباب. قوله: (هذا القرآن) أي الذي تقدم ذكره في قوله:﴿ إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً ﴾[يوسف: ٢].
قوله: ﴿ تَصْدِيقَ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ هذه أخبار أربعة، أخبر بها عن كان المحذوفة التي قدرها المفسر، والمعنى أن هذا القرآن مصدق لما تقدم قبله من الرسل ومن الكتب التي جاؤوا بها، فقول المفسر (من الكتب) لا مفهوم له. قوله: (في الدين) أي من الحلال والحرام والمواعظ وغير ذلك. قوله: ﴿ وَرَحْمَةً ﴾ أي إنعاماً وإحساناً.