ثم عرضت السورة عرضا سريعا لما أصاب بعض الأمم السابقة من الهلاك والأخذ الشديد حين كذّبوا، كقوم ثمود وعاد وفرعون ونوح ومن قبله، والمؤتفكات...
ثم تحدثت عن يوم القيامة إذا نفخ في الصور، وما يصيب الأرض والجبال والسماء من التغيير والزوال. وفي ذلك اليوم تقف الملائكة تنتظر أوامر الله والعرش ممدود، ويُعرض الناس أمام الله، لا تخفى منهم خافيه.
في ذلك اليوم يظهر السعيد فيؤخذ كتابه بيمينه ويذهب إلى الجنة، والشقي يتلقى كتابه بشماله، ويصيح ويندب حظه ﴿ يا ليتني لم أوت كتابيه، ولم أدر ما حسابيه ﴾ ويذهب مغلولا مذموما إلى الجحيم، ﴿ فليس له اليوم ها هنا حميم ﴾ ولا ناصر ولا معين.
ثم يأتي القسم العظيم ﴿ فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون، إنه لقول رسول كريم ﴾ بأن القرآن الكريم من عند الله، على لسان رسول كريم رفيع القدر والمكانة، ﴿ وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ﴾.. إنه كلام الله العظيم، ﴿ تنزيل من رب العالمين ﴾ ولا يمكن لهذا الرسول الكريم أن يختلق من عنده شيئا وهو الأمين كما تعلمون.
ثم تختم السورة الكريمة بالقول الفصل عن هذا الأمر الخطير، وبتمجيد القرآن الكريم :﴿ وإنه لتذكرة للمتقين. وإنا لنعلم أن منكم مكذبين، وإنه لحسرة على العالمين، وإنه لحق اليقين. فسبح باسم ربك العظيم ﴾.
ﰡ
وهذا الأسلوب من الكلام يفيد التفخيم وتهويل الأمر وهو مع التكرار يقصد منه التخويف من شدائد ذلك اليوم وأهواله.
أي شيء أعلَمَكَ بها أيّها الإنسان ! ؟ إنها فوق ما تسمعه وتراه، وتتصوّره العقول، فهي خارجة عن دائرةِ علومِ المخلوقات، لعِظَم شأنها، ومدى هولها وشدتها.
ثم ذكر اللهُ تعالى بعضَ الأمم التي كذّبت، فنزل بها ما نزل من العذاب، مثل ثمود وعادٍ الّذين كذبوا بالقيامة.
فأهلكَ اللهُ ثمودَ بالصاعقة كما جَاءَ في سورة فصّلت ﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العذاب الهون بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ [ فصلت : ١٧ ]، وهذا معنى الطاغية، والرجفة كما جاء في سورة الأعراف..
عاتية : بالغة العنف.
وأما عادٌ فأهلكهم الله بريحٍ باردة عنيفة.
حسوما : تتابعت تلك الأيام والليالي واستمرت حتى استأصلتهم. الحسم : القطع. أعجاز نخل خاوية : أصول النخل المقطوعة منذ زمن، فهي جوفاء فارغة.
سلّطها عليهم سبعَ ليالي وثمانيَة أيام متتابعةٌ بلا انقطاع حتى أفناهم، ﴿ فَتَرَى القوم فِيهَا صرعى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ﴾ كأنّهم أصولُ نخلٍ متآكلة الأجواف فارغة.
وأُبيدوا ولم يبقَ منهم أحد.
بالخاطئة : بالأعمال الخاطئة الفاحشة.
كذلك فرعون وقومه أخذهم الله بكفرهم. والمؤتفكاتُ أيضاً، قرى قوم لوط، لأن الله قَلَبَ تلك القرى فجعل عاليَها سافلَها بسبب خطيئتهم ومعصيتهم. وقد ذكر فرعونَ وقومَ لوطٍ وعاداً وثمود أكثر من مرة.
قراءات :
قرأ الجمهور قَبله بفتح القاف وسكون الباء : أي من تقدمه من القرون الماضية. وقرأ أبو عمرو والكسائي : ومن قِبله بكسر القاف وفتح الباء أي ومن عنده من أتباعه.
ثم ذكر حادثة الطوفان زمن نوح باختصار.
لما حصل الطوفان وارتفع الماء وجاوز حدَّه حتى علا فوق الجبال، حَمَلْنا آباءكم من مؤمني قومِ نوحٍ في السفينة، وأنجيناهم من الغرق.
تعيَها : تفهمها وتحفظها.
واعية : فاهمة حافظة.
وذلك لنجعلَ نجاةَ المؤمنين وإغراقَ الكافرين عبرةً لكم وعظة، وتفهَمَها كل أُذُنٍ حافظةٍ سامعةٍ عن الله فتنتفع بما سمعت.
فإذا نَفخ الملَكُ النفخة الأولى.
فدُكتا دَكة واحدة : دُقَّت كلّ منهما وهُدمت.
يكون عندها خرابُ العالم، فتُزال الأرضُ والجبال عن أماكنها.
في ذلك اليوم تقوم القيامة.
وترى الملائكة واقفةً على جوانبها.
﴿ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ﴾ من الملائكة الشِداد الأقوياء.
قراءات :
قرأ الجمهور : لا تخفى منكم خافية بالتاء. وقرأ حمزة والكسائي : لا يخفى بالياء.
بعد أن قدّم وصفاً رهيباً ليوم القيامة، وكيف تزول الأرضُ والجبال عن مواقعها وتُدكّ وتنشقّ السماء، وتقفُ الملائكة على جوانبها، ويوضع العرشُ، ويُفتح حسابُ البشر وفي ذلك اليوم لا يخفى على الله شيء، بعد هذا كله أتى بذِكر صورتين متقابلتين من أحوالِ البشَر، وهم : السعداءُ أصحاب اليمين، والأشقياءُ أصحاب الشمال. فأما السعداء فإنهم يتلقَّون كتابَهم بأيمانهم، ويغدُون مسرورين فرحين، يعرِضون كُتبَهم على الناس ليقرأوها.
وكل واحدٍ منهم يقول : إني علمت أن ربّي سيحاسبني حسابا يسيرا.
﴿ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ﴾ مرضيّة خاليةٍ مما يكدِّر.
وهي جنة الخلد ذاتُ المكان الرفيع.
دانية : قريبة سهلة التناول.
والثمارِ المختلفة التي يسهُل تناولها.
أسلفتم : قدمتم.
الأيام الخالية : الأيام الماضية في الدنيا.
وكلهم في نعيمٍ وحبور ويقول لهم ربهم :﴿ كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيام الخالية ﴾.. كُلوا من ثمار جنةِ الخلد هنيئاً، واشربوا من شرابها مريئا، وذلك كلّه جزاءَ ما قدّمتم من الأعمال الصالحة في أيام الدنيا الماضية.
﴿ يا ليتني لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ﴾.
يا ليتني لم أتلقّ كتابي.
ويا ليتَ الموتةَ التي مِتُّها كانت نهايةَ الحياة، لم أُبعث بعدَها ولم ألقَ ما أنا فيه من عذابٍ وسوء منقلَب.
لم ينفعني مالي وما جمعتُ في الدنيا.
وذهَب عنّي كلُّ عزٍّ وجاهٍ وصحة وقوة.. ذهبَ ذلك كلُّه وبقيَ العذابُ والوبال.
وعندها يقال لزبانية جهنم :
﴿ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ﴾.
خذوه وأدخِلوه في النار مقيَّدا.
فاسلكوه : فاجعلوه في هذه السلسلة الطويلة.
في سلسلة طولها سبعون ذراعا لُفُّوها على جسمه حتى لا يستطيعَ حَراكا. وليس المرادُ أن طولَها كذلك، ولكن القصدَ إهانته وبيانُ هول العذاب.
لذلك :
﴿ فَلَيْسَ لَهُ اليوم هَا هُنَا حَمِيمٌ ﴾
ليس له صديقٌ ولا قريب يدفع عنه في هذا اليوم.
وطعامُه من صديدِ أهل النار.
بما تبصرون : بما تشاهدون من المخلوقات وما في هذا الكون العجيب.
بعد هذه الجولةِ مع الجاحدين وما ينتظرُهم من عذاب في ذلك اليوم الشديد الهول، يعود الكتابُ ليؤكّد أن ما يتلوه الرسولُ الكريم هو القرآنُ الكريم من عندِ ربّ العالمين، وأن الأمر لا يحتاج إلى قَسَم أنه حقٌ، صادرٌ عن الحق، وأنه ليس شعرَ شاعرٍ، ولا كهانةَ كاهنٍ، ولا افتراءَ مفترٍ، فما هو بحاجة إلى توكيدِ يمين.
﴿ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ ﴾.
تكرر هذا التعبيرُ ﴿ لاَ أُقْسِمُ ﴾ في القرآن الكريم، وهو يمين عظيم. وهو كما يقول المتأكد من أمرٍ من الأمور : لا حاجة إلى اليمين عليه.....
لقد حارتْ قريش في أمرِ الرسولِ الكريم، وتبلبلت آراء زعمائها في ما يتلوه عليهم، فقال بعضُهم إنه كاهن، وقال بعضُهم إنه مجنون، وقال بعضهم إنه شاعر، وقال بعضهم إنه ساحر.. ولم يستقرّ رأيهم على شيء، حتى إن أكبرَ أعدائه - وهو النضر بن الحارث من بني عبد الدار، صاحبُ لواء قريش يوم بدر - قال مسفّهاً هذه الآراء كلها بقوله :« يا معشرَ قريش، إنه واللهِ قد نزل بكم أمر ما أتيتم به بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلاماً حَدَثا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صِدغيه الشَّيب، وجاءكم بما جاءكم به قلتم : ساحرٌّ لا واللهِ، ما هو بساحر. لقد رأينا السحرةَ ونَفَثْهم وعقدهم. وقلتم كاهن ! لا واللهِ ما هو بكاهن. قد رأينا الكهنةَ وتخالُجَهم، وسمعنا سجعهم. وقلتم شاعر ! لا واللهِ ما هو بشاعر. قد رأينا الشِعر، وسمعنا أصنافه كلَّها : هَزَجَه وَرجَزه. وقلتم مجنون ! لقد رأينا الجنون فما هو كذلك. يا معشر قريش، فانظروا في شأنكم، فإنه واللهِ قد نزل بكم أمر عظيم..... ».
أُقسِم بما تشاهدون من هذا الكون العجيب وما فيه حولَكم من مخلوقات.
وبما غابَ عنكم مما لا تشاهدونه، وما أكثره...
وليس هو بقولِ كاهن من كهنةِ العرب كما تزعمون.
الأقاويل : الأكاذيب، الأقوال المفتراة.
وبعد أن أثبت اللهُ تعالى أن القرآن الكريم تنزيلٌ من رب العالمين، ليس بشعرٍ ولا كهانة، أكّد هنا أن الرسولَ الأمين لا يمكن أن يتقوَّلَه.
باليمين : بيمينه.
إذ لو فعلَ ذلك لأخذْنا منه بيمينه.
وقطَعْنا منه نِياطَ قلبه فيموتُ حالا.
فلا يستطيعً أحدٌ منكم مهما بلغتْ قوَّتُه أن يحجِزَ عقابنا عنه. وهذا معنى :﴿ فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴾.
فهو حقٌّ ثابت لا ريبَ فيه.