تفسير سورة الكهف

فتح الرحمن في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة الكهف من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن المعروف بـفتح الرحمن في تفسير القرآن .
لمؤلفه مجير الدين العُلَيْمي . المتوفي سنة 928 هـ

[١] لما سألتْ قريشٌ رسولَ اللهِ - ﷺ - عن المسائلِ الثلاث: الرُّوحِ والكهفِ وذي القرنينِ حَسْبَ ما أَمَرهم به اليهودُ، قالَ لهم رسولُ اللهِ: "غَدًا أُخْبِرُكُمْ"، ولم يقلْ: إن شاءَ الله، فعوتبَ بلبثِ الوحيِ عنهُ خمسةَ عشرَ يومًا، فأرجفَ به المشركونَ، وقالوا: إنَّ محمدًا قَدْ تركه رِئِيُّهُ الذي كانَ يأتيه من الجنِّ، وقال بعضُهم: قد عجزَ عن أكاذيبهِ، إلى غيرِ ذلكَ، فشقَّ ذلكَ عليه، فجاءه الوحيُ من الله سبحانَه بالجوابِ، فافتتحَهُ بحمدِ اللهِ تعالى، فقال الله عز وجل: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ (١) أي: الثناءُ له، وتقدَّمَ الكلامُ عليه مستوفىً في سورةِ الفاتحةِ.
﴿الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ﴾ محمد - ﷺ - ﴿الْكِتَابَ﴾ القرآنَ.
﴿وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا﴾ والعِوَجُ: فَقْدُ الاستقامَةِ، وهو بكسرِ العينِ في المعاني، وبفتحِها في الأشخاصِ؛ كالعصَا والحائطِ ونحوِهما.
...
﴿قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (٢)﴾.
[٢] ﴿قَيِّمًا﴾ مستقيمًا نصبٌ على الحال، وفيه تقديمٌ وتأخيرٌ، مجازُه: أنزلَ على عبدِهِ الكتابَ قِيمًا، ولم يجعلْ له عِوَجًا، قالَ ابنُ عطية: ويصحُّ أن يكونَ معنى (قيمًا): قيامَهُ بأمرِ الله تعالى على العالَمِ (٢).
وهذا المعنى يؤيده ما بعده من النذارة والبشارة اللذين عنى العالم، وكان حفص عن عاصم يسكت يسيرًا على (عِوَجًا)؛ تنبيهًا على تمام الوقف
(١) انظر: "تفسير القرطبي" (١٠/ ٣٨٥).
(٢) انظر: "المحرر الوجيز" (٣/ ٤٩٥).
عليه، ثم يقول: (قَيِّمًا) (١) ﴿لِيُنْذِرَ﴾ الكافرين ﴿بَأْسًا﴾ عذابًا.
﴿شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ﴾ من عنده. روى أبو بكر عن عاصم: (لَدْنِهِ) بسكون الدال وإشمامها الضم من غير صوت يسمع؛ دلالة على أن أصلها الضم، وبكسر النون والهاء وصلتها بياء في اللفظ، فكسرُ النون لسكونها وسكون الدال قبلها، وكسر الهاء إتباع، وقرأ الباقون: بضم الهاء والدال، وإسكان النون، وابن كثير على أصله في الصلة بواو (٢).
﴿وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا﴾ هو نعيم الجنة وما يتقدمه من خير الدنيا.
...
﴿مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (٣)﴾.
[٣] ﴿مَاكِثِينَ﴾ مقيمين.
﴿فِيهِ أَبَدًا﴾ ظرف دال على زمن غير متناه. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ (وَيَبْشُر) بفتح الياء وتخفيف الشين وضمها؛ من البشر، وهو البشرى والبشارة. وقرأ الباقون بضم الياء وتشديد الشين مكسورة من بَشَّر المضعف على التكثير (٣).
(١) انظر: "الكشف" لمكي (٢/ ٥٥)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٨٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٤٧).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٨٨)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٢)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٨٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٤٧ - ٣٤٨).
(٣) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٨٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٤٨).
﴿وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (٤)﴾.
[٤] ﴿وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا﴾ وهم ثلاث طوائف: اليهود في عزير، والنصارى في المسيح، وبعض العرب في الملائكة.
...
﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (٥)﴾.
[٥] ﴿مَا لَهُمْ بِهِ﴾ باتخاذ الولد لله تعالى ﴿مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ﴾ من قبلهم؛ لأن ذلك مستحيل في حقه تعالى ﴿كَبُرَتْ﴾ عظمت ﴿كَلِمَةً﴾ نصب على التمييز ﴿تَخْرُجُ﴾ أي: تظهر ﴿مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ وهي قولهم: اتخذ الله ولدًا (١) ﴿إِنْ﴾ أي: ما ﴿يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾ فهي (ما) النافية.
...
﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (٦)﴾.
[٦] ﴿فَلَعَلَّكَ﴾ هذه تسلية للنبي - ﷺ -؛ أي: لا تكن كذلك.
وقوله: ﴿بَاخِعٌ نَفْسَكَ﴾ أي: قاتلها ﴿عَلَى آثَارِهِمْ﴾ من بعد ذهابهم عنك.
﴿إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ﴾ أي: القرآن ﴿أَسَفًا﴾ حزنًا على فوات إيمانهم.
(١) "وهي قولهم: اتخذ الله ولدًا" زيادة من "ت".
﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (٧)﴾.
[٧] ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا﴾ والمراد بما على الأرض: كل ما يزينها من علماء وصلحاء ونبات وزخارف ونحوه، ولم يدخل في هذا الجبال الصم، وكل ما لا زينة فيه؛ كالحيات والعقارب ونحوها ﴿لِنَبْلُوَهُمْ﴾ لنختبر الناظرين إليها.
﴿أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ أزهد في الدنيا.
...
﴿وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (٨)﴾.
[٨] ﴿وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا﴾ أي: الأرض.
﴿صَعِيدًا﴾ أملس مستويًا.
﴿جُرُزًا﴾ غليظًا يابسًا لا ينبت.
...
﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (٩)﴾.
[٩] ثم جاء بما هو أعجب من ذلك فقال:
﴿أَمْ حَسِبْتَ﴾ أي: بل ظننت.
﴿أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ﴾ الغار في الجبل.
﴿وَالرَّقِيمِ﴾ لوح رُقم فيه أسماء أصحاب الكهف وخبرهم، ثم وضعوه
على باب الكهف، وكان اللوح من رصاص، والرقيم بمعنى: المرقوم؛ أي: المكتوب، والرقم: الكتابة (١).
﴿كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا﴾ أي: كانوا آية يعجب بها من علمها، وفيه معنى الإنكار على السائلين عن أصحاب الكهف؛ كأنه قال: لا تعجبوا من أمرهم، ففيما خلقناه من صنوف الخلق ما هو أعجب منه.
...
﴿إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (١٠)﴾.
[١٠] ﴿إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ﴾ جمع فتى، وهو الشاب الكامل.
﴿إِلَى الْكَهْفِ﴾ أي: رجعوا وهربوا إليه، وأما خبر مصيرهم إلى الكهف، فقال محمد بن إسحاق: مرح أهل الإنجيل، وعظمت فيهم الخطايا، وطغت فيهم الملوك حتى عبدوا الأصنام، وذبحوا للطواغيت، وفيهم بقايا على دين المسيح يعبدون الله تعالى، وكان ملك منهم يقال له: دقيانوس قد عبد الأصنام، وقتل من خالفه، وكان ينزل قرى الروم، فلا يترك في قرية نزلها أحدًا إلا فتنه حتى يعبد الأصنام، ويذبح للطواغيت، أو يقتله، حتى نزل مدينة أصحاب الكهف، وسيأتي ذكرها، فهرب أهل الإيمان منه، وكان حين قدمها أَمَرَ أن يجمع له أهل الإيمان، فمن وقع به خيره بين القتل وبين عبادة الأوثان، فمنهم من يرغب في الحياة، ومنهم من يأبى أن يعبد غير الله، فيقتل.
(١) ورد على هامش "ش": "وقيل:
148
فلما رأى ذلك أهل الشدة في الإيمان بالله، جعلوا يسلمون أنفسهم للعذاب والقتل، فيقتلون ويقطعون، ثم يربط ما قطع من أجسامهم على سور المدينة من نواحيها، وعلى كل باب من أبوابها، حتى عظمت الفتنة، فلما رأى ذلك هؤلاء الفتية، حزنوا حزنًا شديدًا، وأقبلوا على الصيام والقيام والتسبيح والدعاء، وكانوا سبعة في قول ابن عباس، وأسماؤهم عنده: مكشلمينا، ويمليخا، ومرطونس، ونينوس، وسارينوس، ودوانوانس، وكفشططيوش، وقيل: كانوا ثمانية، وكثر الاختلاف في أسمائهم وأنسابهم وحِرفهم واسم كلبهم ولونه (١).
﴿فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ﴾ من عندك ﴿رَحْمَةً﴾ أي: رزقًا.
﴿وَهَيِّئْ﴾ وأصلح ﴿لَنَا مِنْ أَمْرِنَا﴾ الذي نحن فيه، وهو الإيمان وترك الكفر.
﴿رَشَدًا﴾ صوابًا، أي: اجعلنا راشدين. قرأ أبو جعفر (وَهَيِّي) و (يُهَيِّي) بإسكان الياء الثانية بغير همز (٢).
فظهر عليهم، وحملوا إلى الملك فقال: اختاروا إما أن تذعنوا لآلهتنا،
(١) قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (٣/ ٧٩) عن أسماء الفتية: ".. وفي تسميتهم بهذه الأسماء واسمَ كلبهم نظر في صحته، والله أعلم، فإن غالب ذلك متلقى من أهل الكتاب، وقد قال تعالى: ﴿فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا﴾ أي، سهلًا هيِّنًا فإن الأمر في معرفة ذلك لا يترتب عليه كبير فائدة". وقال أيضًا (٣/ ٧٧) عن لون الكلب: "واختلفوا في لونه على أقوال لا حاصل لها، ولا طائل تحتها، ولا دليل عليها، بل هي مما ينهى عنه، فإن مستندها رجم بالغيب".
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (١/ ٣٩٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٤٩، ٣٥١).
149
وإما أن أقتلكم، فقال مكشلمينا، وهو أكبرهم: إن لنا إلهًا ملك السموات والأرض جلت عظمته، لن ندعو من دونه إلهًا أبدًا، وقال بقية الفتية لدقيانوس كذلك، فقال الملك: ما يمنعني أن أعجل لكم العقوبة إلا أنكم شباب، ورأيت أن أجعل لكم أجلًا تذكرون فيه وتراجعون عقولكم، فأخذوا من بيوتهم نفقة، وخرجوا إلى كهف قريب من المدينة في جبل يقال له: بنجلوس، واسم الكهف حيرم، وأقاموا به يعبدون الله فيه، واتبعهم كلب كان لهم، وجعلوا نفقتهم إلى فتى منهم، وهو يمليخا، وكان من أجملهم وأجلدهم، فكان يبتاع طعامهم من المدينة سرًّا، فإذا دخل المدينة، لبس ثياب المساكين، ويشترى طعامهم، ويتجسس لهم الأخبار، ولبثوا كذلك زمانًا حتى أخبرهم يمليخا أن الملك يطلبهم، ففزعوا لذلك، وحزنوا، فبينا هم كذلك عند غروب الشمس يتحدثون ويتدارسون، إذ ضرب الله على آذانهم في الكهف.
...
﴿فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (١١)﴾.
[١١] قال الله تعالى: ﴿فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ﴾ أي: أنمناهم إنامة ثقيلة ﴿فِي الْكَهْفِ سِنِينَ﴾ ظرف لـ (ضربنا) ﴿عَدَدًا﴾ نعت (سنين) أي: معدودة، وتخصيص الآذان بالذكر؛ لأنها الجارحة التي منها عِظَمُ فساد النوم، وقلما ينقطع نوم نائم إلا من جهة أذنه، ولا يستحكم نوم إلا مع تعطل السمع.
...
﴿ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (١٢)﴾.
[١٢] وألقي النوم عليهم، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف، فأصابه ما أصابهم، فسمع الملك أنهم بجبل بنجلوس، فألقى الله في نفسه أن يأمر
150
بالكهف فيسد عليهم حتى يموتوا جوعًا فيه، وظنهم أيقاظًا وهم رقود، أراد الله تعالى أن يكرمهم، وأن يجعلهم آية، وكان القوم يُقلبون ذات اليمين وذات الشمال، ثم عمد رجلان كانا مؤمنين في بيت الملك يكتمان إيمانهما اسم أحدهما يندروس، والثاني روناس، فكتبا شأن الفتية وأنسابهم في لوح من رصاص، وجعلاه في تابوت من نحاس، وجعلاه في البنيان، فبقي دقيانوس ما بقي، ثم مات وقومه وقرون بعده، وخلفت الملوك بعد الملوك، ثم مَلَكَ تلك البلاد رجل صالح اسمه نيدوسيس ثمانيًا وعشرين سنة، فتحزب الناس في ملكه، فكانوا أحزابًا، منهم من يؤمن بالله، ومنهم من يكفر ويكذب بالساعة، فبكى الملك الصالح، وتضرع إلى الله حين رأى أهل الباطل يزيدون ويظهرون على أهل الحق، ثم دخل بيته وأغلق بابه، ولبس مُسوحًا وجعل تحته رمادًا، وجعل يتضرع إلى الله تعالى، ويبكي ويدعو الله أن يظهر لهم آية يبين لهم بطلان ما هم عليه، حتى أراد الله أن يظهر على الفتية أصحاب الكهف، ويبين للناس شأنهم، ويجعلهم آية؛ ليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن يستجيب لعبده الصالح، ويجمع كلمة المؤمنين، فألقى في نفس رجل من ذلك البلد الذي به الكهف أن يهدم بنيان لهم (١) الكهف، فيبني حظيرة لغنمه، فهدمه، وحجبه الله بالرعب حتى لا يقدر أن يتقدم حتى ينظر إليهم، وكلبهم دونهم، وأذن الله للفتية أن يجلسوا، فجلسوا مستبشرين، فسلم بعضهم على بعض، حتى كأنما استيقظوا من ساعتهم التي كانوا يستيقظون بها إذا أصبحوا من ليلتهم، قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ﴾ أيقظناهم بعد ما أنمناهم.
(١) "فم" ساقطة من "ت".
151
وقوله: ﴿لِنَعْلَمَ﴾ عبارة عن خروج ذلك الشيء إلى الوجود، وإلا فقد كان الله تعالى علم ﴿أَيُّ الْحِزْبَيْنِ﴾ الفريقين ﴿أَحْصَى﴾ أحفظ ﴿لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا﴾ المعنى: أيهم أضبطُ غاية لأوقات لبثهم.
قال ابن عطية: والظاهر من الآية أن الحزب الواحد هم الفتية، إذ ظنوا لبثهم قليلًا، والحزب الثاني هم أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم، حين كان عهدهم التاريخ بأمر الفتية، قال: وهذا قول الجمهور من المفسرين (١).
وقيل: المراد بالحزبين: المختلفين في مدة لبثهم، وذلك حين تنازع المسلمون الأولون أصحاب الملك نيدوسيس، والمسلمون الآخرون الذين أسلموا حين رأوا أصحاب الكهف في قدر مدة لبثهم في الكهف، فقال المسلمون الأولون: مكثوا ثلاث مئة سنة وتسع سنين، وقال المسلمون الآخرون: بل مكثوا كذا وكذا، وقال آخرون: الله أعلم بما لبثوا.
فلما استيقظ الفتية من نومهم، قاموا إلى الصلاة، فصلوا كالذي كانوا يفعلون، لا يرون في وجوههم ولا في أبدانهم شيئًا ينكرونه، وهم يرون أن ملكهم دقيانوس في طلبهم، فلما قضوا صلاتهم، قالوا لصاحب نفقتهم: أنبئنا ما الذي قال الناس في شأننا عشي أمس عند هذا الجبار؟ وهم يظنون أنهم رقدوا كبعض ما كانوا يرقدون، وقد يخيل إليهم أنهم قد ناموا أطول مما كانوا ينامون حتى تساءلوا بينهم، فقال بعضهم لبعض: كم لبثتم نيامًا؟ قالوا: لبثنا يومًا أو بعض يوم، ثم قالوا: ربكم أعلم بما لبثتم، وكل ذلك
(١) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (٣/ ٥٠٠).
152
في أنفسهم يسير، فقال لهم (١) صاحب نفقتهم: إن الملك أراد قتلكم، أو تذبحوا للطواغيت، فقال كبيرهم: يا إخوتاه! اعلموا أنكم ملاقو الله، فلا تكفروا بعد إيمانكم إذا دعاكم عدو الله، ثم قالوا لصاحب نفقتهم: انطلق إلى المدينة فتسمَّعْ ما يقال بها، وما الذي نُذكر به عند دقيانوس، وتلطف، ولا تشعرن بك أحدًا، وابتع لنا طعامًا فأتنا به، وزدنا على الطعام الذي جئتنا به، فقد أصبحنا جياعًا، ففعل كما كان يفعل، ووضع ثيابه (٢) وأخذ الثياب التي كان يتنكر فيها، وأخذ وَرِقًا من نفقتهم التي كانت معهم التي ضربت بطابع دقيانوس، وانطلق خارجًا، فلما مر بباب الكهف، رأى الحجارة منزوعة عن بابه، فعجب منها، ثم مر ولم يبال بها حتى أتى باب المدينة، فنظر في أعلى الباب علامة أهل الإيمان، فاستخفى وتحول إلى باب آخر، فرأى مثل ذلك، حتى خُيلَ إِليهِ أن المدينة ليست بالذي كان يعرف، ورأى ناسًا يحلفون باسم عيسى، ولم يميز منهم أحدًا، فازداد حيرة، وظن أنه نائم، فسأل عن اسم المدينة، فقيل له: أقسوس، فقال: لعل عقلي ذهب، فدفع الورق إلى البياع ليشتري طعامًا، فعجب البياع من الورق، وطرحها إلى رجل من أصحابه، فجعلوا ينظرون إليها، ويقول بعضهم لبعض: إن هذا رجل قد أصاب كنزًا، وجعل أهل المدينة يقولون: ما رأينا هذا الفتى قط، فحملوه إلى رجلين كانا رأسي المدينة ومدبري أمرها، وهما صالحان، اسم أحدهما أزيوس، والآخر أضطيوس، فنظرا إلى الورق، فعجبا منه، فقال أحدهما: أين الكنز يا فتى؟ فقال: ما وجدت
(١) "لهم" زيادة من "ت".
(٢) "ثيابه" زيادة من "ت".
153
كنزًا، وهذا الورق ورق آبائي، ونقش هذه المدينة وضربها، ولكن والله ما أدري ما شأني، وإني رجل من أهل المدينة، أنا فلان بن فلان، فلم يعرفه أحد، ولا عرف أباه، قالوا: فنقش هذا الورق من ثلاث مئة سنة، وأنت غلام شاب؟! فقال: ما فعل الملك دقيانوس؟ قالوا: ما نعرف على وجه الأرض اليوم هذا الاسم إلا ملك قد هلك، وهلك بعده قرون، قال لهم: فما يصدقني أحد، لقد كنا فتية، وكان الملك أكرهنا على عبادة الأوثان، فهربنا منذ أيام إلى الكهف، وخرجت لأشتري لأصحابي طعامًا، وأتجسس الأخبار، فانطلقوا معي إلى الكهف في جبل بنجلوس؛ لأريكم أصحابي، فلما سمع أريوس ما يقول، قال: يا قوم! لعلَّ هذهِ آية من آيات الله جعلها لكم على يدي هذا الفتى، فانطلقوا بنا معه يرينا أصحابه، فانطلق معه أريوس وأطيطوس، وانطلق معهم أهل المدينة كبيرهم وصغيرهم، فلما سمع أصحاب الكهف الأصوات وجلبة الخيل مصعدة نحوهم، جزعوا وظنوا أنهم رسل الجبار دقيانوس بعث إليهم ليؤتى بهم، فسبق إليهم صاحبهم، وقص عليهم النبأ كله، فعرفوا عند ذلك أنهم كانوا نيامًا بإذن الله، وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس، وتصديقًا للبعث، ثم فتحوا التابوت النحاس الموضوع بباب الكهف، فوجدوا فيه لوحين من رصاص مكتوب فيهما أسماؤهم، وأنهم كانوا فتية آمنوا وهربوا من ملكهم دقيانوس الجبار؛ مخافة أن يفتنهم عن دينهم، فدخلوا هذا الكهف، فلما أخبر بمكانهم، أمر بسد الكهف عليهم، فكتبنا شأنهم وخبرهم ليعلمه من بعدهم إن عثر عليهم، فلما قرؤوه، عجبوا، وحمدوا الله الذي أراهم آية للبعث فيهم، ثم رفعوا أصواتهم بحمد الله وتسبيحه، ثم دخلوا على الفتية الكهف، فوجدوهم جلوسًا مشرقة وجوههم لم تبلَ ثيابهم، وجاء الملك
154
الصالح نيدوسيس حتى وقف عليهم، واعتنقهم، وبكى، فدعوا له، فبينما الملك قائم إذ رجعوا إلى مضاجعهم، فناموا، فتوفى الله أنفسهم، فأمر الملك أن يجعلوا في توابيت الذهب، ثم رآهم في المنام، فقالوا له: إنا لم نخلق من ذهب ولا فضة، وإنما خلقنا من تراب، وإلى التراب نصير، فأمر الملك بتابوت من ساج، فجعلوا فيه، وحجبهم الله حين خرجوا من عندهم بالرعب، فلم يقدر أحد على الدخول إليهم، فأمر الملك، فجُعل على باب الكهف مسجد يصلى فيه، وجعل لهم عيدًا عظيمًا، وأمر أن يؤتى كل سنة. وقد حكى المفسرون والمؤرخون قصة أهل الكهف على وجوه كثيرة بألفاظ مختلفة، والله أعلم (١).
...
﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (١٣)﴾.
[١٣] قال الله تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ﴾ ننزل ﴿عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ﴾ خبر الفتية ﴿بِالْحَقِّ﴾ بالصدق.
﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ﴾ شبان وأحداث، حكم لهم بالفتوة حين آمنوا بلا واسطة، ولذلك قال أهل اللسان: رأس الفتوة الإيمان.
﴿آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ ثبتناهم على ذلك.
...
(١) انظر: "تفسير الطبري" (١٥/ ٢٠٠)، و"الدر المنثور" للسيوطي (٥/ ٣٦٣).
وانظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٧)، وما بعدها.
﴿وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (١٤)﴾.
[١٤] ﴿وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ قويناها على قول الحق، وصبرناها على هجر الأوطان ﴿إِذْ قَامُوا﴾ بين يدي الملك ديقيانوس حين أمرهم بالسجود للأصنام وعبادة غير الله تعالى ﴿فَقَالُوا﴾ مخلصين رادين عليه ﴿رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا﴾ ولئن دعونا إلهًا غيره ﴿لَقَدْ قُلْنَا إِذًا﴾ قولًا ﴿شَطَطًا﴾ جورًا، والشطط: هو الإفراط في الظلم.
...
﴿هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (١٥)﴾.
[١٥] ثم أنكروا حال قومهم فقالوا: ﴿هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ﴾ تعالى.
﴿آلِهَةً لَوْلَا﴾ هَلَّا ﴿يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ﴾ على عبادة الأصنام ﴿بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ﴾ حجة ظاهرة ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ﴾ فزعم أن معه إلهًا شريكًا؟!
...
﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (١٦)﴾.
[١٦] ثم قال بعضهم لبعض: ﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ﴾ أي:
اعتزلتم قومكم ومعبودهم ﴿إِلَّا اللَّهَ﴾ فإنكم لم تعتزلوا عبادته، المعنى: إذ بعدتم عن قومكم ومرادهم.
﴿فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ﴾ فالجؤوا إليه.
﴿يَنْشُرْ﴾ يبسط ﴿لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ بأن يسهلها عليكم ويعيذكم من عدوكم. قرأ أبو عمرو (يَنْشُر لَكمْ) بإدغام الراء في اللام من رواية السوسي، واختلف عنه من رواية الدوري، والوجهان صحيحان عن أبي عمرو (١) ﴿وَيُهَيِّئْ﴾ يسهل ﴿لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا﴾ ما يرتفق به الإنسان، قالوأ ذلك توكلًا على الله. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر: (مَرْفِقًا) بفتح الميم وكسر الفاء، والباقون: بكسر الميم وفتح الفاء، ومعناهما واحد.
...
﴿وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (١٧)﴾.
[١٧] ﴿وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ﴾ قرأ ابن عامر، ويعقوب: (تَزْوَرُّ) بإسكان الزاي وتشديد الراء من غير ألف؛ مثل: تحمرُّ، وقرأ الكوفيون: بفتح الزاي وتخفيفها وألف بعدها وتخفيف الراء، أصله: تتزاور، فحذفت إحدى التاءين تخفيفًا، وقرأ الباقون: بتشديد الزاي وإثبات الألف، أصله تتزاور، قلبت التاء الثانية زايًا، ثم أدغمت،
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ١٨)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٨٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٥٠).
157
والقراءات بمعنى واحد (١)؛ أي: تميل وتعدل عن كهفهم.
﴿ذَاتَ الْيَمِينِ﴾ ظرف لـ (تزاور)، والمعنى: نحو الجهة المسماة باليمين.
﴿وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ﴾ تجاوزهم، وتعدل عنهم.
﴿ذَاتَ الشِّمَالِ﴾ وأصل القرض: القطع، ومنه سمي المقراض؛ لأنه يقطع به.
﴿وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ﴾ أي: متسع من مكان (٢) الكهف، يصل إليهم النسيم، ويدفع عنهم كرب الغار ووخمه، ولا تصل إليهم الشمس عند طلوع ولا غروب.
﴿ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ﴾ عجائبه الدالة على قدرته، ثم مدحهم فقال:
﴿مَنْ يَهْدِ اللَّهُ﴾ بأن فتح له طريق الهداية فسلكها ﴿فَهُوَ الْمُهْتَدِ﴾ أي: المخلص في إيمانه الذي أصاب الفلاح. أثبت نافع وأبو جعفر وأبو عمرو الياء في (المهتدي) وصلًا، وأثبتها يعقوب وصلًا ووقفًا، وحذفها الباقون في الحالين (٣).
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٨٨)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٢)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٨)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣١٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٥٢).
(٢) "مكان" ساقطة من "ت".
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٩١)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣١٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٥٣).
158
وذم ضدهم فقال: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ﴾ أي: يضلله تعالى بخذلانه.
﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا﴾ يرشده إلى فلاحه.
﴿وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (١٨)﴾.
[١٨] ﴿وَتَحْسَبُهُمْ﴾ يا محمد ﴿أَيْقَاظًا﴾ جمع يَقُظ؛ كعضُد؛ أي: منتبهين؛ لأنهم كانت أعينهم مفتحة في نومهم ﴿وَهُمْ رُقُودٌ﴾ نيام، جمع راقد، ويتنفسون مع ذلك ولا يتكلمون ﴿وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ﴾ مرة للجنب الأيمن، ومرة للجنب الأيسر.
قال ابن عباس: "كانوا يقلبون في السنة مرة من جانب إلى جانب؛ لئلا تأكل الأرض لحومهم" (١)، ويقال: كان يوم عاشوراء يوم تقلبهم.
﴿وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ﴾ مادٌّ يديه ﴿بِالْوَصِيدِ﴾ والوصيد: العتبة التي لباب الكهف، أو موضعها حيث ليست على الأصح، وقيل: هو فناء الباب، والباب الموصد: هو المغلق، وأكثر أهل التفسير على أنه كان من جنس الكلاب.
قال ابن عباس: "كان كلبًا أنمر، واسمه قطمير" (٢)، وقيل كان أسدًا،
(١) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (٥/ ٣٦٦).
(٢) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (٥/ ٣٧٣).
159
ويسمى الأسد كلبًا، فكانوا إذا انقلبوا انقلب موافقة لهم، وهو مثلهم في النوم واليقظة.
﴿لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ﴾ أي: لو نظرت إليهم يا محمد.
﴿لَوَلَّيْتَ﴾ لرجعت هيبة وخوفًا.
﴿مِنْهُمْ فِرَارًا﴾ هاربًا؛ لما ألبسهم الله من الهيبة حتى لا يصل إليهم أحد حتى يبلغ الكتاب أجله فيوقظهم الله من رقدتهم.
﴿وَلَمُلِئْتَ﴾ قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير: بتشديد اللام الثانية، والباقون بتخفيِفها، وأبو جعفر وأبو عمرو يبدلان الهمز ياءً، وكلها لغات بمعنى: لامتلأْتَ (١).
﴿مِنْهُمْ رُعْبًا﴾ خوفًا؛ لما ألبسهم الله من الهيبة، ولعظم أجرامهم، وانفتاح عيونهم، ولوحشة مكانهم. قرأ ابن عامر، والكسائي، وأبو جعفر، ويعقوب: (رُعُبًا) بضم العين، والباقون: بإسكانها (٢).
وعن ابن عباس قال: "غزونا مع معاوية نحو الروم، فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف، فقال معاوية: لو كشف لنا عن هؤلاء، فنظرنا إليهم، فقال ابن عباس: قد منع ذلك من هو خير منك، فقال: ﴿لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا﴾، فبعث معاوية ناسًا فقال: اذهبوا فانظروا، فلما
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٨٩)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٣)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٢٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣١٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٥٤ - ٣٥٥).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٩١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢١٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٥٥).
160
دخلوا الكهف، بعث الله عليهم ريحًا، فأخرجتهم" (١).
...
﴿وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (١٩)﴾.
[١٩] ﴿وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ﴾ أي: كما أنمناهم هذه المدة بقدرتنا، مثلَ ذلك أيقظناهم ﴿لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ﴾ عن حالهم وما جرى لهم.
﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ﴾ وهو رئيسهم مكشلمينا: ﴿كَمْ لَبِثْتُمْ﴾ في نومكم؛ لأنهم استكثروا طول نومهم. قرأ نافع، وابن كثير، وعاصم، ويعقوب، وخلف: (لَبِثْتُمْ) (لَبِثْتَ) بإظهار الثاء عند التاء حيث وقع، والباقون: بالإدغام (٢).
﴿قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا﴾ لأنهم دخلوا الكهف طلوع الشمس، وبعثهم الله آخر النهار، فلما رأوا الشمس، قالوا: ﴿أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ فلما نظروا إلى
(١) انظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (٢/ ٣٠١)، و"تغليق التعليق" لابن حجر (٤/ ٢٤٤)، و"الدر المنثور" للسيوطي (٥/ ٣٦٦). قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (٣/ ٧٦): "ولم يخبرنا بمكان هذا الكهف في أي البلاد من الأرض، إذ لا فائدة لنا فيه، ولا قصد شرعي، وقد تكلف بعض المفسرين فذكروا فيه أقوالًا، والله أعلم بأي بلاد الله هو، ولو كان لنا فيه مصلحة دينية لأرشدنا الله تعالى ورسوله إليه، وقد أعلمنا الله بصفته، ولم يعلمنا بمكانه".
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٧٩)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٨٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٥٥).
أظفارهم وأشعارهم، تيقنوا أن لبثهم أكثر من يوم.
فثم: ﴿قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ﴾ يعني: يمليخا ﴿بِوَرِقِكُمْ﴾ قرأ أبو عمرو، وحمزة، وخلف، وأبو بكر عن عاصم، وروح عن يعقوب (بِوَرْقِكُمْ) بإسكان الراء، والباقون: بكسرها (١)، والقراءتان معناهما واحد، وهي الفضة، مضروبة كانت أو غير مضروبة، المعنى: فأرسلوا واحدًا منكم بفضتكم ﴿هَذِهِ﴾ المعدة للنفقة ﴿إِلَى الْمَدِينَةِ﴾ التي خرجنا منها، وهي المسماة في الإسلام طرسوس، وكان اسمها في الجاهلية أقسوس.
﴿فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا﴾ يعني: أي أهلها ﴿أَزْكَى طَعَامًا﴾ أحل وأطيب؛ لأنهم كان فيهم من يذبح للطواغيت ﴿فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ﴾ بشيء.
﴿مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ﴾ يترفَّق في الشراء، وفي طريقه، وفي دخوله (٢) المدينة حتى لا يطلع عليه.
﴿وَلَا يُشْعِرَنَّ﴾ يعلمن ﴿بِكُمْ أَحَدًا﴾ من الناس.
...
﴿إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (٢٠)﴾.
[٢٠] ﴿إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا﴾ يطلعوا ﴿عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ﴾ يقتلوكم، قيل:
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٨٩)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٣)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٢١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣١٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٥٥ - ٣٥٦).
(٢) "وفي دخوله" ساقطة من "ت".
كان من عادتهم القتل بالحجارة، وهو أخبث القتل.
﴿أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ﴾ يردوكم إلى دينهم ﴿وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا﴾ لن تسعدوا لا في الدنيا ولا في الآخرة إن رجعتم إلى دينهم.
...
﴿وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (٢١)﴾.
[٢١] ﴿وَكَذَلِكَ﴾ أي: وكما أنمناهم وأيقظناهم لحكمة.
﴿أَعْثَرْنَا﴾ أطلعنا ﴿عَلَيْهِمْ﴾ لحكمة، وهي ﴿لِيَعْلَمُوا﴾ قوم نيدوسيس.
﴿أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ﴾ بالبعث ﴿حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا﴾ لأن الكفار منهم كانوا ينكرون البعث والحساب، المعنى: ليعلموا أنَّ القادر على إنامة هؤلاء هذه المدة، وإبقائهم بلا غذاء قادر على إحياء الموتى وحشرهم.
﴿إِذْ﴾ أي: واذكر إذ ﴿يَتَنَازَعُونَ﴾ أي: المسلمون والكافرون ﴿بَيْنَهُمْ﴾ بين المتنازعين ﴿أَمْرَهُمْ﴾ أمر الفتية ﴿فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا﴾ والتنازع في البنيان، فقال المسلمون: نبني عليهم مسجدًا يصلي فيه الناس؛ لأنهم على ديننا، وقال المشركون: نبني عليهم كنيسة؛ لأنهم من أهل نسبنا، فلما لم يتحقق المتنازعون ذلك قالوا:
﴿رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ﴾ قرأ السوسي عن ابن عمرو: (أَعْلَمْ بِهِمْ) (أَعْلَمْ بِعِدَّتِهِمْ) وشبهه بإسكان الميم عند الباء إذا تحرك ما قبلها تخفيفًا لتوالي الحركات، فتخفى إذ ذاك بغنة، فإن سكن ما قبلها، ترك ذلك
إجماعًا (١). فغلب المؤمنون كما أخبر تعالى في قوله:
﴿قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ﴾ وهم نيدوسيس الملك وأصحابه:
﴿لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ﴾ لنجعلن على باب الكهف.
﴿مَسْجِدًا﴾ فجعلوا ثَمَّ مسجدًا يُصلى عليه.
**
﴿سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (٢٢)﴾.
[٢٢] ﴿سَيَقُولُونَ﴾ أي: نصارى نجران حين ناظروا النبي - ﷺ - في عدد أصحاب الكهف: ﴿ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ وهذا قول السيد، وكان يعقوبيًّا، وقيل: اليهود ﴿وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ وهذا قول العاقب، وكان نسطوريًّا.
﴿رَجْمًا﴾ مصدرة أي: ظنًّا وحسدًا، وهو يستعار من الرجم؛ كأن الإنسان يرمي الموضع المشكل المجهول عنده يظنه المرة بعد المرة يرجمه؛ عسى أن يصيب ﴿بِالْغَيْبِ﴾ من غير يقين.
﴿وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ وهذا قول المسلمين، فصدقهم الله تعالى، والواو في قوله: (وثامنهم) واو عطف دخلت في آخر
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٧٨ - ٢٧٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٥٧ - ٣٥٨).
164
إخبار عن عددهم؛ لتفصل أمرهم، وتدل على أن هذه نهاية ما قيل، ولو سقطت، لصح الكلام، ولو كانت فيما قبل من قوله (ورابعهم) (وسادسهم)، لصح الكلام (١)؛ لأن الجملة الثانية إذا التبست بالأولى، جاز إثبات الواو وحذفها، ولا يجوز حذف الواو إذا لم ترتبط الثانية بالأولى.
﴿قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ﴾ أمر الله تعالى نبيه في هذه الآية أن يردَّ علمَ عدتهم إليه عز وجل. قرأ الكوفيون، وابن عامر، ويعقوب: (رَبِّيْ) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (٢).
﴿مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ أخبر تعالى أن عالم ذلك من البشر قليل، والمراد به قوم من أهل الكتاب، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: "أنا من ذلك القليل، وكانوا سبعة، وثامنهم كلبهم" (٣).
قال ابن عطية: ويستدل على هذا من الآية بأن القرآن لما حكى قول من قال: ثلاثة وخمسة، قرن بالقول: إنه رجم بالغيب، فقدح ذلك فيها، ثم حكى هذه المقالة، ولم يقدح فيها بشيء (٤).
﴿فَلَا تُمَارِ﴾ أي: لا تجادل ﴿فِيهِمْ﴾ في أهل الكهف ﴿إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا﴾
(١) قوله: "ولو كانت فيما... لصح الكلام" زيادة من "ت".
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٠٢)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣١٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٥٨).
(٣) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (٢/ ٣٦٦)، والعقيلي في "الضعفاء" (٤/ ٤٢٢)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (٦١١٣).
(٤) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (٣/ ٥٠٨).
165
إلا جدال عالم متيقن (١)؛ لأنه تعالى عرفك الحق من ذلك. قرأ الدوري عن الكسائي: (تمار) بالإمالة بخلاف عنه (٢).
﴿وَلَا تَسْتَفْتِ﴾ أي: لا تسأل ﴿فِيهِمْ﴾ في أصحاب الكهف ﴿مِنْهُمْ﴾ من أهل الكتاب ﴿أَحَدًا﴾ عن قصتهم؛ لأنك خبير بذلك.
...
﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا﴾.
[٢٣] ولما سئل - ﷺ - عن ذي القرنين والروح وأهل الكهف، فقال: "غدًا أخبركم"، ولم يستثن، نزل: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ﴾ (٣) أي: لأجل شيء تهم به.
﴿إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا﴾ أي: فيما يُستقبل من الزمان، لا اليوم الذي يلي يومك.
...
﴿إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (٢٤)﴾.
[٢٤] ﴿إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ في الكلام حذف يقتضيه الظاهر، تقديره: إلا أن تقول: إلا أن يشاء الله، أو إلا أن تقول: إن شاء الله، فالمعنى: إلا أن تذكر مشيئة الله.
(١) "عالم متيقن" زيادة من "ت".
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٨٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٥٨).
(٣) انظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (٢/ ٣٣١).
166
﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ﴾ بالاستغفار ﴿إِذَا نَسِيتَ﴾ الاستثناء.
قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن: معناه إذا نسيت الاستثناء، ثم ذكرت، فاستثن (١)، وجوز ابن عباس الاستثناء في اليمين إلى سنة ما لم يحنث، وعن الحسن وطاوس: ما دام في المجلس، واتفق الأئمة الأربعة على أن الاستثناء في اليمين بالله تعالى لا ينفع ويسقط الكفارة إلا أن يكون متصلًا باليمين لفظًا أو حكمًا، واختلفوا في الاستثناء في الطلاق والعتق (٢)، فقال أبو حنيفة والشافعي: يجوز، واشترط الشافعي أن ينوي الاستثناء قبل فراغ اليمين، وقال مالك وأحمد: لا يجوز الاستثناء فيهما.
واختلفوا في الاستثناء من غير الجنس، فقال أحمد، ومحمد بن الحسن، وزفر: لا يصح، وأكثر الشافعية والمالكية: يلزم صحة استثناء ثوب وغيره، والأشهر عن أبي حنيفة صحته من مكيل وموزون من أحدهما فقط، واستثناء الكل باطل بالاتفاق، وكذا الأكثر من عدد مسمى عند الإمام أحمد، وأبي يوسف، وابن الماجشون من المالكية، وقال الأئمة الثلاثة: يصح، ولا يصح الاستثناء إلا نطقًا إلا في يمين خائف بنطقه بالاتفاق، وإذا تعقب الاستثناء جملًا بواو العطف، وصلح عوده إلى كل واحدة، فللجميع عند الأئمة الثلاثة إلا لمانع؛ كبعد مفردات، وعند أبي حنيفة للأخيرة، والاستثناء من النفي إثبات، وبالعكس عند الشافعية والمالكية والحنابلة؛ خلافًا للحنفية في الأولى، ولبعضهم فيهما.
﴿وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي﴾ يدلني.
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٢٣).
(٢) "والعتق" زيادة من "ت".
167
﴿لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا﴾ أي: يثبتني على طريق هو أقرب إليه وأرشد، والإشارة بهذا إلى الاستدراك الذي يقع من ناسي الاستثناء. قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (يَهْدِيَني) بإثبات الياء حالة الوصل، وابن كثير ويعقوب بإثباتها في الوصل والوقف، وحذفها الباقون في الحالين (١).
...
﴿وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (٢٥)﴾.
[٢٥] ﴿وَلَبِثُوا﴾ يعني: أصحاب الكهف ﴿فِي كَهْفِهِمْ﴾ نيامًا أحياء.
﴿ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا﴾ هذا إخبار من الله سبحانه عن مدة لبثهم في الكهف، وهو الأصح. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (ثَلاَثَ مِئَةِ) بغير تنوين على الإضافة، والباقون: بالتنوين، وأبدلوا السِّنين من (ثَلاَثِ مِئَةٍ) (٢).
...
﴿قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (٢٦)﴾.
[٢٦] وقوله: ﴿قُلِ﴾ معناه: أن الأمر في مدة لبثهم كما
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٨٩)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣١٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٥٨ - ٣٥٩).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٩٠)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٣)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٢٥)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٨٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٥٩).
ذكرنا، فإن نازعوك فيها، فأجبهم وقل:
﴿اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا﴾ أي: هو أعلم منكم، وقد أخبر بمدة لبثهم.
وعن علي رضي الله عنه أنه قال: "عند أهل الكتاب أنهم لبثوا ثلاث مئة شمسية، والله ذكر ثلاث مئة قمرية، والتفاوت بين الشمسية والقمرية في كل مئة سنة ثلاث سنين، فيكون في ثلاث مئة تسع سنين، فلذلك قال: وازدادوا تسعًا" (١).
﴿لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي: هو المختص بعلم ما غاب فيهما.
﴿أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ﴾ أي: ما أبصرَ اللهَ وأسمعَه! فلا يغيب عنه شيء ﴿مَا لَهُمْ﴾ أي: لأهل السموات والأرض ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ أي: من دون الله ﴿مِنْ وَلِيٍّ﴾ يتولى أمورهم.
﴿وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا﴾ فليس لأحد أن يحكم بحكم لم يحكم به الله. قرأ ابن عامر: (وَلاَ تشرِكْ) بالخطاب وجزم الكاف على النهي، وقرأ الباقون: بالغيب، ورفع الكاف على الخبر؛ أي: لا يشركُ الله في حكمه (٢).
...
﴿وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (٢٧)﴾.
[٢٧] ولما قيل للنبي - ﷺ -: ﴿ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا﴾ [يونس: ١٥]،
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٢٦)، و"تفسير ابن كثير" (٣/ ٨٠).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٩٠)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٣)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٢٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٦٠).
نزل: ﴿وَاتْلُ﴾ واقرأ يا محمد ﴿مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ﴾ أي: القرآن، واعمل به.
﴿لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ﴾ لا نقص في قوله. قرأ أبو عمرو، ورويس عن يعقوب: ﴿مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ﴾ بإدغام اللام الأولى في الثانية (١).
﴿وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا﴾ ملجأ يلجأ إليه.
...
﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (٢٨)﴾.
[٢٨] ولما طلب عيينة بن حصن الفزاري وأصحابه من النبي - ﷺ - إبعاد أبي ذر وأصحابه من الفقراء من مجلسه؛ لرثاثة حالهم؛ ليجلسوا إليه، نزل: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ﴾ (٢) أي: احبسها.
﴿مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾ طرفي النهار. قرأ ابن عامر: ﴿بِالْغَدَاةِ﴾ بضم الغين وإسكان الدال وواو بعدها، وقرأ الباقون: بفتح الغين والدال وألف بعدها (٣).
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٧٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٦٠).
(٢) انظر: "تفسير الطبري" (١٥/ ٢٣٤)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٧٠)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٢٧)، و"الدر المنثور" للسيوطي (٥/ ٣٨٠).
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٩٠)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٦١).
﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ تعالى، لا يبتغون عرضًا من الدنيا.
﴿وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ﴾ لا تجاوزهم نظرك إلى غيرهم ﴿تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أي: لا تطرد الفقراء لفقرهم ورثاثة حالهم، ولا تمل إلى الأغنياء لجمالهم وغناهم. قرأ أبو عمرو (تُرِيد زينَةَ) بإدغام الدال في الزاي (١).
﴿وَلَا تُطِعْ﴾ في طردهم ﴿مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ﴾ هو عيينة وأصحابه ﴿عَنْ ذِكْرِنَا﴾ عن القرآن والتوحيد ﴿وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾ في الشرك وطلب الشهوات.
﴿وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ سرفًا وتضييعًا.
...
﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (٢٩)﴾.
[٢٩] ﴿وَقُلِ﴾ يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا ﴿الْحَقُّ﴾ خبر مبتدأ محذوف تقديره: الذي أنبأتكم به الحق ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ بترك طرد المؤمنين، ثم خيرهم تهديدًا، فقال: ﴿فَمَنْ شَاءَ﴾ الإيمان ﴿فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ﴾ الكفر ﴿فَلْيَكْفُرْ﴾ المعنى: لستُ بطارد المؤمنين لهواكم، فاعملوا ما شئتم.
﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا﴾ هيأنا ﴿لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا﴾ والسرادق: هو ما أحاط بالبناء من الستر ﴿وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا﴾ من العطش ﴿يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ﴾
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٧٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٦١).
هو القيح والدم الأسود ﴿يَشْوِي الْوُجُوهَ﴾ ينضجها ﴿بِئْسَ الشَّرَابُ﴾ المهل ﴿وَسَاءَتْ﴾ قبحت النار ﴿مُرْتَفَقًا﴾ أي: مجلسًا جامعًا، أو متكأ، وأصل الارتفاق: نصبُ المرفق تحت الخد.
...
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (٣٠)﴾.
[٣٠] ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾ أي: لا نضيع أعمالهم، بل نثيبهم بها.
...
﴿أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (٣١)﴾.
[٣١] فإن قيل فأين جواب قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ قيل: جوابه قوله: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ وأما قوله: ﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ﴾ فكلام معترض، والعدن: الإقامة، يقال: عدنَ فلان بالمكان: إذا أقام به، وسميت عدنًا؛ لخلود المؤمنين فيها.
﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا﴾ يلبسون في الجنة.
﴿مِنْ أَسَاوِرَ﴾ واحدها سوار، وهو ما يُلبس في الذراع ﴿مِنْ ذَهَبٍ﴾ (من) الأولى للابتداء، والثانية للبيان صفة لأساور، وتنكيرها لتعظيم حسنها من الإحاطة به ﴿وَيَلْبَسُونَ﴾ قرأ أبانُ عن عاصم: بكسر الباء،
والباقون: بفتحها (١) ﴿ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ﴾ جمع سندسة، وهو رفيع الديباج ﴿وَإِسْتَبْرَقٍ﴾ ثخينه، وهو فارسي معرب ﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ﴾ جمع أريكة، وهي السرير في الحجلة، وهي ستر كالبيت، ولا تكون أريكة إلا إذا اجتمعا؛ كما هو هيئة المتنعمين. قرأ أبو جعفر: (مُتَّكِينَ) و (مُتَّكُونَ) وشبهه بغير همز حيث وقع، والباقون: بالهمز (٢).
﴿نِعْمَ الثَّوَابُ﴾ أي: نعم الجزاء الجنة ﴿وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا﴾ مجلسًا ومقرًا.
...
﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (٣٢)﴾.
[٣٢] ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا﴾ أي: مثل حال هؤلاء المؤمنين والكافرين بحال.
﴿رَجُلَيْن﴾ وكانا أخوين في بني إسرائيل، مؤمن اسمه يهودا، وكافر واسمه قطروس، ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار، فتشاطرا، فاشترى الكافر بها ضياعًا وعقارًا، وصرفها المؤمن في وجوه الخير، وآل أمرهما إلى ما أخبر الله تعالى به في قوله:
﴿جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ﴾ بستانين ﴿مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ﴾ أي: جعلناه محيطًا بالجنتين ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا﴾ وسطهما ﴿زَرْعًا﴾ يقتات به؛ أي: جمعت
(١) انظر: "البحر المحيط" لأبي حيان (٦/ ١٢٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٦٢).
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (١/ ٣٩٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٦٢).
هذه الأرض أنواع الثمرات وأصناف الأقوات، ولم يكن بين الجنتين موضع خراب.
...
﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (٣٣)﴾.
[٣٣] ﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ﴾ مبتدأ، خبره ﴿آتَتْ أُكُلَهَا﴾ أعطت ثمرها. قرأ نافع، وابنُ كثير، وأبو عمرٍو: (أُكْلَها) بإسكان الكاف والباقون: بضمها (١) ﴿وَلَمْ تَظْلِمْ﴾ أي: تنقص ﴿مِنْهُ شَيْئًا﴾ بل أتت به في غاية الكمال ﴿وَفَجَّرْنَا﴾ شققنا. قرأ يعقوب (وَفَجَرْنَا) بتخفيف الجيم، والباقون: بالتشديد (٢) ﴿خِلَالَهُمَا﴾ وسطهما ﴿نَهَرًا﴾ يجري بينهما؛ ليزيد بهاؤهما.
...
﴿وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (٣٤)﴾.
[٣٤] ﴿وَكَانَ لَهُ﴾ لصاحب البستان ﴿ثَمَرٌ﴾ قرأ أبو عمرو: (ثُمْرٌ) بضم الثاء وإسكان الميم، وقرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وابن عامرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: بضم الثاء والميم، وقرأ أبو جعفرٍ، وعاصم،
(١) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢١٦)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٩٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٢٦٣).
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٣١)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٩٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٢٣٦).
ويعقوبُ: بفتحهما (١)، فمن قرأ بالضم، فهي الأموال الكثيرة المثمرة من كل صنف، جمع ثمار، ومن قرأ بالفتح، جمع ثمرة، وما يخرجه الشجر من الثمار المأكولة.
﴿فَقَالَ﴾ الكافر صاحب البستان ﴿لِصَاحِبِهِ﴾ المؤمن ﴿وَهُوَ يُحَاوِرُهُ﴾ يراجعه في الكلام ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا﴾ لإقباله على الدنيا، وتركه الآخرة ﴿وَأَعَزُّ نَفَرًا﴾ عشيرة. قرأ نافع، وأبو جعفر: (أَنَا أَكْثَرُ) بالمد (٢).
...
﴿وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (٣٥)﴾.
[٣٥] ﴿وَدَخَلَ﴾ الكافر.
﴿جَنَّتَهُ﴾ التي لا جنة له سواها، ولا حظَّ له في الجنة التي وعد المتقون، ولم يقل: جنتيه؛ لأن المراد ما هو جنته، وأخذ بيد أخيه المسلم يطوف به فيها، ويفاخره بها.
﴿وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ﴾ بالكفر ﴿قَالَ﴾ إعجابًا:
﴿مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ﴾ تهلك ﴿هَذِهِ﴾ الجنة ﴿أَبَدًا﴾ لطول أمله.
...
(١): انظر "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٩٠)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٣)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٣١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣١٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٦٣ - ٣٦٤).
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٩٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٦٤).
﴿وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (٣٦)﴾.
[٣٦] ﴿وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً﴾ كائنة.
﴿وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي﴾ كما تزعم.
﴿لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا﴾ أي: مرجعًا؛ فإنه لم يعطني الجنة في الدنيا، إلا ليعطيني في الآخرة أفضل منها. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وابن عامر: (مِنْهُمَا) بميم بعد الهاء على التثنية؛ أي: من الجنتين، وكذلك هي في مصاحفهم، وقرأ الباقون: بحذف الميم على الإفراد، أراد: جنته، وكذلك هي في مصاحفهم (١).
...
﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (٣٧)﴾.
[٣٧] ﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ﴾ المسلم ﴿أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ﴾ أي: أباك آدم؟ لأنه خلق من تراب.
﴿ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ أي: مَنِيٍّ ﴿ثُمَّ سَوَّاكَ﴾ عدلك وكمَّلك ﴿رَجُلًا﴾ بشرًا ذكرًا.
...
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٩٠)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٣)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٣٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٦٤ - ٣٦٥).
﴿لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (٣٨)﴾.
[٣٨] ﴿لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي﴾ قرأ أبو جعفر، وابن عامر، ورويس عن يعقوب: (لَكِنَّا) بإثبات الألف بعد النون في الحالين، وحذفها الباقون وصلًا، ولا خلاف في إثباتها في الوقف إتباعًا للرسم، وأصله: لكن أنا، فحذفت الهمزة طلبًا للتخفيف؛ لكثرة استعماله، ثم أدغمت إحدى النونين في الأخرى، قال الكسائيُّ: فيه تقديم وتأخير، مجازه: لكن الله هو ربي (١).
﴿وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا﴾ قرأ الكوفيون، وابن عامر، ويعقوب: (بِرَبِّيْ) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (٢).
...
﴿وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (٣٩)﴾.
[٣٩] ﴿وَلَوْلَا﴾ أي: هَلَّا.
﴿إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ﴾ عند دخولها ﴿مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ أي: الأمرُ ما شاء الله، وتشكره على إنعامه عليك، وقلت: ﴿لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾ اعترافًا بالعجز على نفسك، والقدرة لله.
ثم قال: ﴿إن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا﴾ فتكبرتَ عليَّ. قرأ أبو عمرو،
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٩١)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٣)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٣٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣١١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٦٥).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٤٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣١٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٦٦ - ٣٦٧).
وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف: (إِذ دخَلْتَ) بإدغام الذال في الدال، والباقون: بالإظهار (١).
...
﴿فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (٤٠)﴾.
[٤٠] ﴿فَعَسَى﴾ فلعل ﴿رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ﴾ يعطيني في الآخرة ﴿خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ﴾ في الدنيا ﴿وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا﴾ أي: على جنتك ﴿حُسْبَانًا﴾ مرامي، جمع حسبانة، وهي الصواعق ﴿مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا﴾ أرضًا ﴿زَلَقًا﴾ يزلق عليها؛ لملاستها.
...
﴿أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (٤١)﴾.
[٤١] ﴿أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا﴾ غائرًا في الأرض لا سبيل له.
﴿فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا﴾ أي: إن طلبته لم تجده، تلخيصه: أرجو أن أُرزق أفضلَ من جنتك، وأن تهلك جنتك. قرأ أبو عمرو، وأبو جعفر، وقالونُ عن نافع: (إِنْ تَرَنِي) بإثبات الياء وصلًا، ويعقوب بإثباتها وصلًا ووقفًا، وحذفها الباقون في الحالين (٢)، وقرأ نافع، وأبو جعفر: (أَنَا أَقَلَّ)
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٨٠)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٩٠)، "ومعجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٦٧).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٩١)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣١٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٦٧).
بالمد كما تقدم في (أَنَا أَكْثَرُ) [الآية: ٣٤]، وأثبت نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو الياء في (يُؤْتيَنِي) وصلًا، وأثبتها ابن كثير ويعقوب وصلًا ووقفًا، وحذفها الباقون في الحالين (١).
...
﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (٤٢)﴾.
[٤٢] ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ﴾ بالهلاك، فهلكت ثمرته. قرأ أبو عمرو: ﴿بِثَمَرِهِ﴾ بضم الثاء وإسكان الميم، وقرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف، ورويس عن يعقوب: بضم الثاء والميم، وقرأ أبو جعفر، وعاصم، وروح عن يعقوب: بفتحهما (٢).
﴿فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ﴾ هو التصفيق وتقليبهما ظهرًا لبطن تندمًا ﴿عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا﴾ أي: في عمارتها ﴿وَهِيَ خَاوِيَةٌ﴾ ساقطة ﴿عَلَى عُرُوشِهَا﴾ سقوفها، يعني: أن السقوف وقعت، ثم تهدمت الحيطان عليها، فهي خاوية، والحيطان على العروش، وتعطف على (يُقَلِّبُ).
﴿وَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا﴾ قرأ الكوفيون، وابن عامر، ويعقوب: بإسكان الياء، والباقون بفتحها (٣).
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٩١)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٧)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٩٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٦٨).
(٢) وقد تقدم قريبًا.
(٣) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٤٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري =
﴿وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (٤٣)﴾.
[٤٣] قال الله تعالى: ﴿وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ﴾ جماعة.
﴿يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ من عذابه.
﴿وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا﴾ ممتنعًا بنفسه من العذاب. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (يَكُن لَهُ) بالياء على التذكير للفصل بـ (له)، وقرأ الباقون: بالتاء مؤنثًا؛ لتأنيث (فئة) (١).
...
﴿هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (٤٤)﴾.
[٤٤] ﴿هُنَالِكَ﴾ أي: في ذلك الوقت، وهي اسم مكان، ويستعمل في الزمان.
﴿الْوَلَايَةُ﴾ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: بكسر الواو، يعني: السلطان والملك، وقرأ الباقون: بفتح الواو (٢)، بمعنى: النصرة والتولي؛ لقوله تعالى: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: ٢٥٧].
﴿لِلَّهِ الْحَقِّ﴾ قرأ أبو عمرو، والكسائي: (الْحَقُّ) بالرفع صفة للولاية، وقرأ الباقون: بالجر صفة لله (٣).
= (٢/ ٣١٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٦٦ - ٣٦٧).
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٩٢)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٣)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٩٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٦٩).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٩٢)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٣)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٣٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٦٩ - ٣٧٠).
(٣) المصادر السابقة.
﴿هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا﴾ أفضل جزاءً لأهل طاعته.
﴿وَخَيْرٌ عُقْبًا﴾ أي: عاقبة للمؤمنين، المعنى: ثواب الله تعالى للمؤمنين في الآخرة أفضل من غيره. قرأ عاصم، وحمزة، وخلف: (عُقْبا) بإسكان القاف (١).
...
﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (٤٥)﴾.
[٤٥] ﴿وَاضْرِبْ﴾ يا محمد ﴿لَهُمْ﴾ لقومك.
﴿مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ﴾ يعني: المطر ﴿فَاخْتَلَطَ بِهِ﴾ أي: تكاثف بسبب نزوله ﴿نَبَاتُ الْأَرْضِ﴾ وامتزج الماء بالنبات حتى روي وحَسُن.
﴿فَأَصْبَحَ﴾ عن قريب ﴿هَشِيمًا﴾ أي: مهشومًا، تهشَّم: تكسر.
﴿تَذْرُوهُ﴾ تفرقه.
﴿الرِّيَاحُ﴾ فتذهب به، المعنى: شبه الدنيا بما فيها منها بنبات حسن، فيبس فتكسر، ففرقته الريح، فانعدم. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (الرِّيحُ) بغير ألف على الإفراد، وقرأ الباقون: بألف بعد الياء على الجمع (٢).
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٩٢)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٣)، و "تفسير البغوي" (٣/ ٣٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٧١).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٧٨)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٢٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٧١).
﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من السعادة والشقاوة، والإنشاء والإفناء ﴿مُقْتَدِرًا﴾ قادرًا.
...
﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (٤٦)﴾.
[٤٦] ثم زهَّد تعالى فيها، ووبخ المفتخرين بها، فقال: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ﴾ التي يفتخر بها عيينةُ وأصحابهُ الأغنياء.
﴿زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ يتجمَّل بهما فيها (١).
﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ﴾ عند الجمهور هي قول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ﴿خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ﴾ من المال والبنين ﴿ثَوَابًا﴾ جزاءً.
﴿وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ أي: ما يتعلق بها من الأمل.
...
﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (٤٧)﴾.
[٤٧] ﴿وَيَوْمَ﴾ أي: واذكر يوم.
﴿نُسَيِّرُ الْجِبَالَ﴾ وتسييرها: إزالتها من أماكنها، وتسييرها كما يسير السحاب؛ كما قال تعالى: ﴿وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ﴾ [النمل: ٨٨]. قرأ أبو عمرو، وابن عامر، وابن كثير: (تُسَيَّرُ) بالتاء وضمها وفتح الياء، ورفع
(١) في "ت": "فيهما".
﴿الْجِبَالَ﴾ مجهولًا، وقرأ الباقون: بالنون وضمها وكسر الياء (١)، ونصب (الجبالَ) مفعول (نسير) خبر عن الله تعالى.
﴿وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً﴾ ظاهرة ليس فيها ما يستظل به من شجر ولا بناء، قد ذهب عنها كل ما كان عليها.
﴿وَحَشَرْنَاهُمْ﴾ أي: جمعنا المؤمنين والكافرين إلى الموقف والحساب.
﴿فَلَمْ نُغَادِرْ﴾ أي: نترك ﴿مِنْهُمْ أَحَدًا﴾ إلا قذفته الأرض.
...
﴿وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (٤٨)﴾.
[٤٨] ﴿وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا﴾ أي: مصطفِّين، فثَمَّ يقال لهم:
﴿لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾، فرادى حفاةً عراةً، لا شيء معكم من المال والولد، ولما خرج من قصة إلى قصة، أضربَ فقال:
﴿بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا﴾ تجازون وتحاسبون فيه، يقوله لمنكر البعث. قرأ الكسائي، وهشام (بَل زعَمْتُمْ) بإدغام اللام في الزاي، والباقون بالإظهار (٢).
...
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٩٣)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٤)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٣٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٧٢).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٨٠)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٩١)، "ومعجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٧٣).
﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (٤٩)﴾
[٤٩] ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ﴾ الذي كتبت فيه أعمالهم ﴿فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ﴾ خائفين ﴿مِمَّا فِيهِ﴾ من الذنوب.
﴿وَيَقُولُونَ﴾ عند معاينة ما فيه من القبائح:
﴿يَاوَيْلَتَنَا﴾ يا هلاكنا! ينادون هلكتهم التي هلكوها من بين الهلكات ﴿مَالِ هَذَا الْكِتَابِ﴾ تعجبًا من شأنه. وقف أبو عمرو، والكسائي بخلاف عنه على الألف دون اللام من قوله: ﴿فَمَالِ هَؤُلَاءِ﴾ في النساء [الآية: ٧٨]، ﴿مَالِ هَذَا الْكِتَابِ﴾ هنا، و ﴿مَالِ هَذَا الرَّسُولِ﴾ في الفرقان [الآية: ٧]، ﴿فَمَالِ الَّذِينَ﴾ في سأل [الآية: ٣٦]، ووقف الباقون (فمال) على اللام إتباعًا للخط، بخلاف عن الكسائي (١)، قال ابن عطية: ومنعه قوم جملة؛ لأنها حرف جر، فهي بعض المجرور، وهذا كله بحسب ضرورة وانقطاع نفس، وأما أن يختار أحد الوقف فيما ذكرناه ابتداء، فلا (٢)، انتهى.
﴿لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً﴾ عن جلبها (٣) ﴿وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا﴾ عدَّها وأثبتها.
قال ابن عباس: "الصغيرة التبسم، والكبيرة القهقهة" (٤).
(١) وقد تقدم عنهم ذلك في سورة النساء.
(٢) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (٢/ ٨١).
(٣) في "ت": "تصدر عن جانبها".
(٤) رواه ابن أبي الدنيا في "الصمت وآداب اللسان" (٢٩٠)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (٦/ ١٣٧)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (٧٤١٤).
﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا﴾ من خير وشر ﴿حَاضِرًا﴾ مكتوبًا لا يغيب منه شيء ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ لا يؤاخذ أحدًا بجرم لم يعمله.
...
﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (٥٠)﴾.
[٥٠] ﴿وَإِذْ﴾ أي: واذكر يا محمد إذ.
﴿قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ قرأ أبو جعفر (للملائكةُ) بضم التاء حالة الوصل إتباعًا، وروي عنه إشمام كسرتها الضم، والوجهان صحيحان عنه (١)، وتقدم الكلام على ذلك، وعلى تفسير السجود مستوفىً في سورة البقرة عند تفسير نظير هذه الآية.
﴿فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ﴾ استثناء متصل ﴿كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾ قال ابن عباس: "كان من حي من الملائكة يقال لهم: الجن، خُلقوا من نار السموم" (٢)، وتقدم في سورة البقرة أنه كان من الملائكة، لا من الجن على الأصح.
وقوله تعالى: ﴿كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾ أي: من الملائكة الذين هم خزنة الجنة، قال ابن عطية: ولا خلاف أن إبليس كان من الملائكة في المعنى؛
(١) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢١٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٧٣).
(٢) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (١/ ٢٠١).
إذ كان مقترنًا (١) بالأمر والنهي مرسلًا والملك مشتق من الملائكة، وهي الرسالة، فهو في عداد الملائكة يتناوله قول: (اسجدوا) (٢)، وقيل: كان من الجن حقيقة، لأن له ذرية، والملائكة لا ذرية لهم.
﴿فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ أي: خرج عن طاعته.
﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ﴾ الهمزة للإنكار دخلت على فاء العطف، والواو لآدم وذريته، والهاء للخبيث، وتقديره: أفتتخذون إبليس وذريته.
﴿أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ﴾ أي: أعداء.
﴿بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا﴾ من الله إبليسُ وذريته.
...
﴿مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (٥١)﴾.
[٥١] ﴿مَا أَشْهَدْتُهُمْ﴾ أي: ما أحضرتهم، يعني: إبليس وذريته، وقيل: جميع الخلق. قرأ أبو جعفر: (مَا أَشْهَدْنَاهُمْ) بالنون والألف على الجمع للعظمة؛ أي: أحضرناهم، وقرأ الباقون: بالتاء مضمومة من غير ألف على ضمير المتكلم (٣).
﴿خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ﴾ فأستعين بهم على خلقها، وأشاورهم فيها.
(١) في "ت": "متصرفًا".
(٢) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (٣/ ٥٢٢).
(٣) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٤٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣١١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٧٤).
﴿وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ﴾ عن الدين.
﴿عَضُدًا﴾ أعوانًا أعتضد بهم. قراعة العامة: (وَمَا كُنْتُ) بضم التاء، وقرأ أبو جعفر: بفتحها خطابًا للنبي - ﷺ - (١)؛ أي: لا يجوز ذلك الاعتضاد بأحد من المضلين.
...
﴿وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (٥٢)﴾.
[٥٢] ﴿وَيَوْمَ﴾ أي: واذكر يوم ﴿يَقُولُ﴾ قرأ حمزة: (نَقُولُ) بالنون، يخبر تعالى عن نفسه، وقرأ الباقون: بالياء (٢)؛ أي: يقول هو تعالى ثَمَّ للكفار: ﴿نَادُوا شُرَكَائِيَ﴾ بزعمكم؛ يعني: الأوثان ﴿الَّذِينَ زَعَمْتُمْ﴾ أنهم يشفعون لكم.
﴿فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا﴾ لم يجيبوا، ولم يشفعوا.
﴿لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا﴾ أي: مهلكا بينهم وبين آلهتهم.
...
﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (٥٣)﴾.
[٥٣] ﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ﴾ قرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر،
(١) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣١١)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٩١)، و "معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٧٤).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٩٣)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٤)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٤٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٧٥).
وخلف، وورش، وابن ذكوان: (رأى) بإمالة الراء والهمزة حيث وقع، وافقهم أبو عمرو في إمالة الهمزة فقط، وروي عن السوسي أربعة أوجه: فتح الراء والهمزة، وكسرهما، وفتح الراء وكسر الهمزة، وعكسه، وروي عن أبي بكر وجهان: كسر الراء وفتح الهمزة، وكسرهما، وروي عن حمزة: كسر الراء وفتح الهمزة، والباقون بفتحهما جميعًا (١).
﴿فَظَنُّوا﴾ أيقنوا ﴿أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا﴾ داخلوها.
﴿وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا﴾ معدلًا وانصرافًا.
...
﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (٥٤)﴾.
[٥٤] ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾ من كل جنس يحتاجون إليه ليتذكروا ويتعظوا.
﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ﴾ والمراد: جميع الناس، وهو الأصح.
﴿أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾ خصومة، المعنى: أن الإنسان أكثر جدالًا من غيره.
عن علي رضي الله عنه: أن رسول الله - ﷺ - طرقه وفاطمة ليلة، فقال: "ألا تُصلِّيان؟ " فقال علي: يا رسول الله ا! إن أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف رسولُ الله - ﷺ - حين قال ذلك، ولم يرجع إليه بشيء،
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٨١)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٩١)، "ومعجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٧٥ - ٣٧٦).
ثم سمعه علي وهو مولٍّ يضرب فخذه وهو يقول (١): ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾ (٢).
...
﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (٥٥)﴾.
[٥٥] ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى﴾ القرآن والرسولُ - ﷺ - ﴿وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ﴾ من الذنوب.
﴿إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ﴾ تقديره: وما منع الناسَ الإيمانَ والاستغفارَ إلا انتظارُ إتيان مثل.
﴿سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ﴾ يعني: سنتنا في إهلاكهم؛ من الغرق والصيحة والظلة (٣) والريح وغير ذلك.
﴿أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا﴾ قرأ الكوفيون، وأبو جعفر: (قُبُلًا) بضم القاف والباء، جمع قبيل؛ أي: أصنافًا، وقرأ الباقون: بكسر القاف وفتح الباء، يعني: مقابلة عيانًا (٤).
(١) "وهو يقول" ساقطة من "ت".
(٢) رواه البخاري (١٠٧٥)، كتاب: أبواب التهجد، باب: تحريض النبي - ﷺ - على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب، ومسلم (٧٧٥)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح.
(٣) في "ت" "الظلمة".
(٤) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٩٣)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٤)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٤٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣١١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٧٦).
﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (٥٦)﴾.
[٥٦] ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ للمؤمنين والكافرين.
﴿وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ﴾ باقتراح الآيات تعنتًا، والسؤالِ عن قصة أهل الكهف.
﴿لِيُدْحِضُوا﴾ ليبطلوا ﴿بِهِ الْحَقَّ﴾ من إدحاض القدم، وهو إزلاقها.
﴿وَاتَّخَذُوا آيَاتِي﴾ أي: القرآن ﴿وَمَا أُنْذِرُوا﴾ به من العذاب ﴿هُزُوًا﴾ سخرية. قرأ حمزة وخلف (هُزْؤًا) بجزم الزاي حيث وقع، والباقون: بضمها، وحفص: بإبدال الهمزة واوًا (١).
...
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (٥٧)﴾.
[٥٧] ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ﴾ بالقرآن.
﴿فَأَعْرَضَ عَنْهَا﴾ تولى وترك العمل بها.
﴿وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ من الكفر والمعاصي.
﴿إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً﴾ أغطية.
﴿أَنْ يَفْقَهُوهُ﴾ أي: لئلا يفهموا القرآن.
﴿وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾ ثقلًا عن سماع الحق.
(١) سلفت في تفسير الآية (٦٧) من سورة البقرة.
﴿وَإِنْ تَدْعُهُمْ﴾ يا محمد ﴿إِلَى الْهُدَى﴾ والمراد: من حقت عليه الشقاوة ﴿فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا﴾ لأنهم لا يفقهون ولا يسمعون.
...
﴿وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (٥٨)﴾.
[٥٨] ﴿وَرَبُّكَ الْغَفُورُ﴾ للمؤمنين.
﴿ذُو الرَّحْمَةِ﴾ لهم خاصة في الآخرة والرحمة في الدنيا؛ بمعنى: النعمة، فهي تعمُّ المسلمَ والكافرَ.
﴿لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ﴾ في الدنيا ﴿بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ﴾ فيها.
﴿بَلْ لَهُمْ﴾ أي: لهلاكهم ﴿مَوْعِدٌ﴾ يعني: البعث.
﴿لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا﴾ منجاة. قرأ أبو جعفر، وورش عن نافع: ﴿يُؤَاخِذُهُمْ﴾ (تُوَاخِذُنِي) بفتح الواو بغير همز، والباقون: بالهمز (١).
...
﴿وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (٥٩)﴾.
[٥٩] ﴿وَتِلْكَ الْقُرَى﴾ المتقدمة؛ كقرى عاد وثمود وغيرهم.
﴿أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا﴾ بالتكذيب؛ كقريش.
﴿وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ﴾ أي: لإهلاكهم ﴿مَوْعِدًا﴾ أجلًا. قرأ أبو بكر
(١) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٩٢)، و"محجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٧٧).
عن عاصم: (لِمَهْلَكِهِمْ) بفتح الميم واللام التي بعد الهاء، وقرأ حفصٌ عنه: بفتح الميم وكسر اللام، وهو مصدر هلك، ومعنى القراءتين: جعلنا لوقت هلاكهم، وقرأ الباقون: بضم الميم وفتح اللام على المعنى الأول، وهو مصدر أهلك يهلك (١).
...
﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (٦٠)﴾.
[٦٠] ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى﴾ هو ابن عمران على الأصح ﴿لِفَتَاهُ﴾ وخادمه هو يوشع بن نون عليه السلام، كان يتبعه ويخدمه، ويأخذ منه العلم.
﴿لَا أَبْرَحُ﴾ لا أزال أسير.
﴿حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ﴾ ملتقى العذب والمالح، [وقيل: المراد: المكان الجامع لملتقى بحري فارس والروم مما يلي الشرق] (٢)، وقيل غير ذلك، وقالت فرقة: البحران كناية عن موسى والخضر؛ فإن موسى عليه السلام كان بحر علم الظاهر، والخضر بحر علم الباطن، قال ابن عطية: وهذا قول ضعيف (٣). قرأ أبو عمرو: (لاَ أَبْرَح حَتَّى) بإدغام الحاء الأولى في الثانية (٤).
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٩٣)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٤)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٤٢ - ٤٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٧٨ - ٣٧٩).
(٢) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".
(٣) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (٣/ ٥٢٨).
(٤) انظر: "غيث النفع" للصفاقسي (ص: ٢٨١)، "ومعجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٧٩ - ٣٨٠).
﴿أَوْ أَمْضِيَ﴾ أسير ﴿حُقُبًا﴾ زمانًا غير محدود، وجمعه أحقاب، والحقب أقل زمان، وقيل: ثمانون سنة.
...
﴿فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (٦١)﴾.
[٦١] ﴿فَلَمَّا بَلَغَا﴾ أي: موسى وفتاه.
﴿مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا﴾ أي: بين البحرين، وهو الموضع الذي وعد موسى أن يجتمع فيه بالخضر، وفيه الصخرة، وفيه عين الحياة التي لا يصيب ماؤها ميتًا إلا حيي.
﴿نَسِيَا حُوتَهُمَا﴾ الذي تزودا به، فأصابه شيء من برد ماء العين، فعاش ﴿فَاتَّخَذَ﴾ الحوت ﴿سَبِيلَهُ﴾ طريقه. قرأ أبو عمرو: (فَاتَّخَذَ سبِيلَهُ) بإدغام الذال في السين في الحرفين (١).
﴿فِي الْبَحْرِ سَرَبًا﴾ مسلكًا يسرب فيه من قوله: ﴿وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ﴾ الرعد: ١٠]، وإنما كان الحوت مع يوشع، فنسي موسى أن يطلبه ويتعرف حاله، ونسي يوشع أن يذكر له ما رأى من حياته ووقوعه في البحر.
وملخص القصة: ما روي عن أُبيِّ بنِ كعب: أنه سمع رسول الله - ﷺ - يقول: "إن موسى قام خطيبًا في بني إسرائيل، فسئل: أيُّ الناسِ أعلمُ؟ قال: أنا، فعتِبَ الله عليه؛ إذ لم يردَّ العلمَ إليه، فأوحى الله إليه أن لي عبدًا بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى: يا ربِّ فكيف لي به؟ قال:
(١) المصدران السابقان.
تأخذ معك حوتًا، فتجعله في مِكْتل، فحيثما فقدت الحوت، فهو ثَمَّ، فأخذ حوتًا، فجعله في مكتل، ثم انطلق، فانطلق معه فتاه يوشع بن نون عليه السلام، حتى إذا أتيا الصخرةَ التي عند مجمع البحرين، وضعا رؤوسَهما فناما، واضطرب الحوت في المِكْتل حين أصابه بردُ الماء، فخرج منه، فسقط في البحر، فعلم يوشع بأمره، وأمسك الله جِرْيَة الماء عن الحوت، فصار عليه مثلُ الطاق، فصار للحوت سربًا، فلما استيقظ موسى، نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقيةَ يومِهما وليلتِهما" (١).
...
﴿فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (٦٢)﴾.
[٦٢] ﴿فَلَمَّا جَاوَزَا﴾ مجمع البحرين ﴿قَالَ﴾ موسى ﴿لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا﴾ الغداء: ما يعد للأكل أول النهار، والعشاء: آخره ﴿لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا﴾ الذي سرنا بعد مجاوزة الصخرة ﴿نَصَبًا﴾ تعبًا، ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به؛ ليتذكر الحوت، ويرجع إلى مطلبه.
...
﴿قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (٦٣)﴾.
(١) رواه البخاري (٤٤٤٨)، كتاب: التفسير، باب: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ﴾، ومسلم (٢٣٨٠)، كتاب: الفضائل، باب: من فضائل الخضر -عليه السلام-، عن أبي كعب رضي الله عنه.
[٦٣] ﴿قَالَ﴾ فتاه: ﴿أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ﴾ يعني: التي رقد عندها موسى.
﴿فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ﴾ عند الصخرة.
﴿وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ﴾ أي: ما أنساني ذكرَه إلا الشيطانُ، وهو اعتذار عن نسيانه بشغل الشيطان له بوساوسه. قرأ الكسائي: (أَنْسانِيه) بالإمالة، وقرأ حفص عن عاصم: (أَنْسَانِيهُ إِلَّا) بضم الهاء في الوصل، والباقون: بكسرها (١).
﴿وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ﴾ قال ابن عباس: "أي: اتخذ موسى طريق الحوت في البحر عجبًا، فكان للحوت سربًا، ولموسى وفتاه عجبًا" (٢)، وقيل: هو جواب من موسى ليوشع حين قال له: ﴿وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ﴾ فقال موسى: ﴿عَجَبًا﴾ أي: أعجب عجبًا، قال ابن زيد: "أي شيء أعجب من حوت كان دهرًا من الدهور يؤكل منه، ثم صار حيًّا، ويبس له الماء، قال: وكان شق حوت" (٣).
...
﴿قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (٦٤)﴾.
[٦٤] ﴿قَالَ﴾ موسى: ﴿ذَلِكَ﴾ أي: أمر الحوت ﴿مَا كُنَّا نَبْغِ﴾ أي:
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٩٤)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٤)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٤٦)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (١/ ٣٠٥)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٩٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٨٠ - ٣٨١).
(٢) تقدم تخريجه قريبًا في حديث أبي بن كعب رضي الله عنه.
(٣) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٤٦).
نطلب؛ لأنه وعد وجود الخضر حيث ينسى بعض متاعه. قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو، والكسائي: (نَبْغِي) بإثبات الياء وصلًا، وحذفها تخفيفًا وإتباعًا لخط المصحف، وقرأ ابن كثير، ويعقوب: بإثباتها وصلًا ووقفًا، وحذفها الباقون في الحالين (١).
﴿فَارْتَدَّا﴾ رجعا ﴿عَلَى آثَارِهِمَا﴾ يقتصَّانِ الأثرَ الذي جاءا فيه.
﴿قَصَصًا﴾ مصدر.
...
﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (٦٥)﴾.
[٦٥] فأتيا الصخرة ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا﴾ وهو الخضر على الصحيح، واسمه: بليا بن ملكان بن يقطر بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، وكان أبوه ملكًا، والخضر لقب له، سمي به لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إنَّما سُمِّي خضرًا؛ لأنه جلس على فَروةٍ بيضاءَ، فاهتزَّت تحته خضرًا" (٢)، وترك الملك زهدًا في الدنيا، وقال مجاهد: سمي خضرًا؛ لأنه إذا صلى اخضَّر ما حوله (٣)، فأتاه
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٩١ - ٤٠٣)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣١٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٨١).
(٢) رواه البخاري (٣٢٢١)، كتاب: الأنبياء، باب: حديث الخضر مع موسى -عليهما السلام-.
(٣) انظر: "تاريخ دمشق" لابن عساكر (١٦/ ٤٠٢)، و"الدر المنثور" للسيوطي (٥/ ٤٢٠).
موسى وهو مسجًى بثوب مستلقيًا على قفاه، فسلم عليه، فقال: وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل، والخضر نبي عند الجمهور، وقيل: هو عبد صالح غير نبي، قال ابن عطية: والآية تشهد بنبوته لأن بواطن أفعاله هل كانت إلا بوحي إليه (١).
﴿آتَيْنَاهُ رَحْمَةً﴾ نبوة وشفقة ﴿مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾ وهو علم الباطن اللدني، فقال: يا موسى! أنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه أنا.
...
﴿قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (٦٦)﴾.
[٦٦] ﴿قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى﴾ شرطِ.
﴿أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ علمًا يرشدني. قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (تُعَلِّمَنِي) بإثبات الياء وصلًا، وابن كثير، ويعقوب: بإثباتها وصلًا ووقفًا، والباقون: بحذفها في الحالين (٢)، وقرأ أبو عمرو، ويعقوب: (رَشَدًا) بفتح الراء والشين، والباقون: بضم الراء وإسكان الشين، وهما لغتان (٣).
(١) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (٣/ ٥٢٩).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٩١)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣١٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٨٢).
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٩٤)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٤)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٤٨)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣١١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٨٢).
﴿قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٦٧)﴾.
[٦٧] ولما قال موسى هذا، قال له الخضر: كفى بالتوراة علمًا، وببني إسرائيل شغلًا، فقال موسى: الله أمرني بذلك، فحينئذ ﴿قَالَ﴾ الخضر:
﴿إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ لأنك ترى ما تنكره. قرأ حفص عن عاصم: (مَعِيَ) بفتح الياء في الأحرف الثلاثة، والباقون: بإسكانها (١).
...
﴿وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (٦٨)﴾.
[٦٨] ثم عذر الخضر موسى في عدم صبره، فقال: ﴿كَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا﴾ علمًا، قال ابن عطية: كان علم الخضر معرفة بواطن قد أوحيت إليه لا تعطي ظواهر الأحكام أفعاله بحسبها، وكان علم موسى عليه السلام علم الأحكام والفتيا بظواهر أقوال الناس وأفعالهم (٢).
...
﴿قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (٦٩)﴾.
[٦٩] ﴿قَالَ﴾ موسى: ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا﴾ إنما استثنى؛ لأنه لم يثق من نفسه بالصبر، وهذه عادة الأنبياء والأولياء. قرأ أبو جعفر: (سَتَجِدُنِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (٣).
﴿وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا﴾ لا أخالفك فيما تأمر.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٠٢)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٩٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٨٢).
(٢) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (٣/ ٥٢٩).
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٢٠)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٧)، =
﴿قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (٧٠)﴾.
[٧٠] ﴿قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي﴾ فلا تبدأني بالسؤال ﴿عَنْ شَيْءٍ﴾ أنكرتَهُ مني.
﴿حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا﴾ حتى أبتدئك بذكره، وأوضح لك علته. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر: (تَسْأَلنِّي) بفتح اللام وتشديد النون مكسورة مع إثبات الياء بعدها؛ لأن نون التوكيد المشددة التي يبنى معها (١) الفعل على الفتح دخلت على نون الوقاية، فحذفت، وبقيت نون التوكيد مكسورة للياء بعدها، وروي عن ابن ذكوان راوي ابن عامر حذف الياء في الحالين استغناء بالكسرة عنها، وقرأ الباقون: بإسكان اللام وتخفيف النون مكسورة؛ لأنه لم يلحق الفعل نون التوكيد، وأثبتوا الياء في الحالين إتباعًا لخط المصحف (٢)، فلما شرط الخضر على موسى ذلك، قَبِلَ شَرطَه.
...
﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (٧١)﴾.
[٧١] ﴿فَانْطَلَقَا﴾ يمشيان على ساحل البحر فمرت بهما سفينة، فاستحملا صاحبَها، فحملهما بغير أجر.
﴿حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ﴾ وبلغا اللُّجَّ.
= و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣١٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٨٣)، وقرأ بفتح الياء -أيضًا- نافع.
(١) في "ت": "معه".
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٤٧).
﴿خَرَقَهَا﴾ الخضر؛ بأن أخذ فأسًا، فاقتلع لوحًا أو لوحين من ألواحها من قبل البحر، فسدَّ موسى الخرقَ بثيابه، و ﴿قَالَ﴾ للخضر:
﴿أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا﴾ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (لِيَغْرَقَ) بالياء مفتوحة وفتح الراء (أَهُلُهَا) برفع اللام فاعلًا، وقرأ الباقون: بالتاء مضمومة وكسر الراء ونصب (أَهْلَها) مفعولًا خطابًا للخضر (١).
﴿لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا﴾ عظيمًا منكرًا، والإمر في كلام العرب: الداهية، وأصله كل شيء جديد كبير، وروي أن الماء لم يدخلها، وروي أن الخضر أخذ قدحًا من زجاج، ورقع به خرق السفينة.
وفي الآية دليل على أن الوصيَّ له أن ينقص مال اليتيم إذا رآه صلاحًا؛ مثل أن يخاف على ريعه ظالمًا، فيخرب بعضه، قال أبو يوسف: لو طمع السلطان في مال اليتيم، فصالحه الوصيُّ من مال اليتيم على الأقل مما طمع، لم يضمن؛ لأنه مأمور بحفظ مال اليتيم ما أمكنه، والحكم في المسألة كذلك بالاتفاق، والله أعلم.
...
﴿قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٧٢)﴾.
[٧٢] ﴿قَالَ﴾ الخضر: ﴿أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ تذكير لما ذكره قبل.
...
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٩٥)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٤)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٤٩)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٩٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٢٨٤).
﴿قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (٧٣)﴾.
[٧٣] ﴿قَالَ﴾ موسى: ﴿لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ﴾ بنسياني. وتقدم مذهب أبي جعفر وورش في (لاَ تُواخِذْنِي) عند قوله: (لَوْ يُواخِذُهُمْ).
﴿وَلَا تُرْهِقْنِي﴾ تغشيني، يقال: رهقه: إذا غشيه.
﴿مِنْ أَمْرِي عُسْرًا﴾ أي: لا تعسر علي متابعتك.
عن النبي - ﷺ -: "أن الأولى كانت من موسى نسيانًا، والثانية شرطًا، والثالثة عهدًا" (١). قرأ أبو جعفر: (عُسُرًا) (يُسُرًا) بضم السين فيهما حيث وقع (٢).
...
﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (٧٤)﴾.
[٧٤] ﴿فَانْطَلَقَا﴾ بعد خروجهما من السفينة.
﴿حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا﴾ لم يبلغ الحنث يلعب مع الصبيان، أحسنهم وجهًا، فأضجعه الخضر، فذبحه بالسكين ﴿فَقَتَلَهُ﴾، قال رسول الله - ﷺ -: "إن الغلام الذي قتله الخضر طُبع كافرًا، ولو عاش، لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا" (٣).
(١) رواه البخاري (٢٥٧٨)، كتاب: الشروط، باب: الشروط مع الناس بالقول، عن أبي بن كعب رضي الله عنه.
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢١٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٨٤ - ٣٨٥).
(٣) رواه مسلم (٢٦٦١)، كتاب: القدر: باب: معنى: "كل مولود يولد على الفطرة"، عن أبي بن كعب رضي الله عنه.
﴿قَالَ﴾ موسى توبيخًا ﴿أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً﴾. قرأ الكوفيون، وابن عامر، وروح عن يعقوب: (زَكِيَّةً) بغير ألف بعد الزاي وتشديد الياء، وقرأ الباقون: بالألف وتخفيف الياء (١)، ومعناهما واحد، مثل: قاسية وقسية؛ أي: طاهرة من الذنوب، وقال أبو عمرو بن العلاء: الزاكية: التي لم تذنب قط، والزكية التي أذنبت ثم تابت ﴿بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾ لم تقتله قصاصًا.
﴿لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا﴾ أي: منكرًا، والنكر: أعظم من الإمر. قرأ نافع، وأبو جعفر، ويعقوب، وابن ذكوان عن ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: (نُكُرًا) بضم الكاف حيث وقع، والباقون: بإسكانها، ومعناهما واحد (٢).
...
﴿قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٧٥)﴾.
[٧٥] ﴿قَالَ﴾ الخضر: ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ لن تطيق معي صبرًا، وزاد هنا: (لَكَ) توبيخًا لموسى؛ لأنه كان في الأولى معذورًا.
...
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٩٥)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٤)، و "تفسير البغوي" (٣/ ٥٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣١٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٨٥).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٩٥)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٤)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٥٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢١٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٨٥).
﴿قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (٧٦)﴾.
[٧٦] ولذلك ﴿قَالَ﴾ موسى: ﴿إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا﴾ بعد هذه المرة.
﴿فَلَا تُصَاحِبْنِي﴾ وفارقني. قرأ روح عن يعقوب بخلاف عنه: (تَصْحَبْنِي) بفتح التاء وإسكان الصاد وفتح الحاء بغير ألف؛ من الصحبة، وقرأ الباقون: (تُصَاحِبْنِي) بالألف وضم التاء وكسر الحاء (١)؛ أي: لا تصحبني نفسك، ولا تزودني شيئًا من علمك.
﴿قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا﴾ قرأ نافع وأبو جعفر: (لَدُنِي) بضم الدال وتخفيف النون، وروى أبو بكر عن عاصم: بتخفيف النون وإشمام الدال الضم بعد إسكانها، وقرأ الباقون: بضم الدال وتشديد النون (٢)، فالقراءة بالتخفيف بحذف النون الأصلية، والإتيان بنون الوقاية، ومن شدد أدخل نون الوقاية على الأصلية، فأدغم. المعنى: قد اتضح عذرك عندي في مفارقتي؛ لأني لم أحفظ وصيتك.
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٥١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣١٣)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٩٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٢٨٦).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٩٦)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٥)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٥١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣١٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٨٦ - ٣٨٧).
قال - ﷺ -: "يرحم (١) الله أخي موسى، استحيا فقال ذلك" (٢).
وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "رحمة الله علينا وعلى موسى -وكان إذا ذكر أحدًا من الأنبياء بدأ بنفسه- لولا أنه عجَّل، لرأى العَجَبَ، ولكنه أخذته من صاحبه ذَمَامةٌ قال: ﴿إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا﴾ فلو صبر، لرأى العجب" (٣).
...
﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (٧٧)﴾.
[٧٧] ﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ﴾ هي إنطاكية ﴿اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا﴾ طلبا منهم ضيافة، وأعاد ذكر الأهل تأكيدًا ﴿فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا﴾ امتنعوا من إطعامهما.
قال قتادة: شر القرى التي لا تضيف الضيف (٤).
وعن أبي هريرة قال: أطعمتهما امرأة من أهل بربر بعد أن طلبا من الرجال فلم يطعموهما، فدعا لنسائهم، ولعن رجالهم (٥).
(١) في "ت": "رحم".
(٢) انظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (٢/ ٣٠٥).
(٣) رواه مسلم (٢٣٨٠)، كتاب: الفضائل، باب: من فضائل الخضر -عليه السلام-، عن أبي بن كعب -رضي الله عنه-.
(٤) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٥٢).
(٥) المرجع السابق، الموضع نفسه.
204
ومذهب أحمد: يجب على المسلم ضيافة المسلم المجتاز به يومًا وليلة بشرط أن يكون مجتازًا في قرية لا مصر، فإن أبي، فللضيف طلبه به عند الحاكم، فإن تعذر، جاز له الأخذ من ماله، ومن مر بثمر في شجر لا حائط عليه ولا ناظر، فله أن يأكل منه ولا يحمل، وكذا الحكم في الزرع، ولبن في الماشية، وهذا من مفردات مذهبه؛ خلافًا للثلاثة.
﴿فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ﴾ يسقط، هذا من مجاز كلام العرب؛ لأن الجدار لا إرادة له، وإنما معناه: قرب ودنا من السقوط، وكان الخضر رأى حائطًا ارتفاعه مئة ذراع قد قارب السقوط، فمسحه بيده.
﴿فَأَقَامَهُ﴾ عدله ﴿قَالَ﴾ موسى:
﴿قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ قرأ أبو عمرو، وابن كثير، ويعقوب: (لَتَخِذْتَ) بتخفيف التاء الأولى وكسر الخاء من غير ألف وصل؛ من تَخِذَ يَتْخَذُ: عمل شيئًا، على وزن لعلمت، فابن كثير، ورويس عن يعقوب يظهران الذال عند التاء، وأبو عمرو يدغمها، وقرأ الباقون: بتشديد التاء الأولى وفتح الخاء وألف وصل، وزن لاكتسبت، فيكون اتخذ افتعل، فحفص عن عاصم يظهر الذال، والباقون يدغمونها، وهما لغتان، مثل اتبع وتبع (١)، المعنى: أن موسى قال للخضر: قد علمت حاجتنا إلى الطعام، فلو طلبت على عملك جعلًا، لدفعنا به ألم الجوع.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٩٦)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٥)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٥٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ١٥ - ١٦ و ٣١٤)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٩٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٨٨ - ٣٨٩).
205
﴿قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (٧٨)﴾.
[٧٨] فثم ﴿قَالَ﴾ الخضر ﴿هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾ أي: لا أصحبك بعد هذا.
﴿سَأُنَبِّئُكَ﴾ سوف أخبرك.
﴿بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ وأنكرتَه عليّ، فقال له موسى: أخبرني بعلم ما لم أستطع عليه صبرًا قبل المفارقة.
...
﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (٧٩)﴾.
[٧٩] فقال: ﴿مَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ﴾ لضعفاء، وكانوا عشرة إخوة: خمسة زَمْنى، وخمسة ﴿يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ﴾ مؤاجرة؛ طلبًا للتكسب ﴿فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا﴾ أجعلها ذات عيب ﴿وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ﴾ أي: قدامهم ملك كافر اسمه الجلندا ﴿يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا﴾.
روي أن الخضر اعتذر إلى القوم، وذكر لهم شأن الملك الغاصب، ولم يكونوا يعلمون بخبره، وقال: أردت إذا هي مرت به أن يدعها لعيبها، فإذا جاوزوا، أصلحوها فانتفعوا بها.
والغصب: هو الاستيلاء على مال الغير قهرًا بغير حق، وهو محرم بالاتفاق.
واختلفوا في الصلاة في المغصوب، فقال أحمد: لا تصح، ولا يسقط
الطلب بها، وقال مالك والشافعي: يصح مع التحريم، فلا يثاب، وقال الحنفية: تكره، وكذا حكم الحج وسائر العبادات مما له حكم من صحة أو فساد، والعقود كالبيع والنكاح ونحوهما.
﴿وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (٨٠)﴾.
[٨٠] ﴿وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا﴾ خِفْنا.
﴿أَنْ يُرْهِقَهُمَا﴾ يغشيهما.
﴿طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾ بأن يطغى عليهما بعقوقهما، أو يحملهما حبُّه على متابعته، وذلك طغيان وكفر.
...
﴿فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (٨١)﴾.
[٨١] ﴿فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا﴾ يعوضهما.
﴿رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً﴾ صلاحًا وتقوى.
﴿وَأَقْرَبَ رُحْمًا﴾ رحمة وعطفًا، ونصبه على التمييز، فأبدلهما الله تعالى جارية تزوجت نبيًّا، فولدت نبيًّا، فهدى الله به أمة. قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (يُبَدِّلَهُمَا) بفتح الباء وتشديد الدال من بَدَّل، وقرأ الباقون: بإسكان الباء وتخفيف الدال من أبدل، وهما لغتان (١)، وفرق بعضهم
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٩٧)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٥)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٥٣)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري =
فقال: التبديل: تغيير شيء أو تغيير حاله وعينُ الشيء قائمة، والإبدال: رفع الشيء ووضع شيء آخر مكانه، وقرأ أبو جعفر، وابن عامر، ويعقوب: (رُحُمًا) بضم الحاء، والباقون: بجزمها، ومعناهما واحد (١).
...
﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (٨٢)﴾.
[٨٢] ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ﴾ وكان اسمهما أصرم وصريم.
﴿وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا﴾ عن أبي الدرداء، عن النبي - ﷺ - قال: "كان ذهبًا وفضة" (٢)، وعن ابن عباس: "كان لوحًا من ذهب مكتوب في أحد جانبيه: عجبًا لمن أيقن بالموت كيف يفرح، عجبًا لمن أيقن بالقدر كيف يحزن، عجبًا لمن أيقن بالرزق كيف يتعب، عجبًا لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، عجبًا لمن أيقن بزوال الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي الآخر: أنا الله وحدي لا شريك لي، خلقت الخير والشر، فطوبى لمن خلقته للخير، وأجريته على يديه، والويل لمن
= (٢/ ٣١٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٨).
(١) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣١٦)، وباقي المصادر في التعليق السابق.
(٢) رواه الترمذي (٣١٥٢)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة الكهف، وقال: غريب، والحاكم في "المستدرك" (٣٣٩٧).
208
خلقته للشر، وأجريته على يديه" (١)، وهذا قول أكثر المفسرين.
﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾ فحُفِظا بصلاح أبيهما في أنفسهما ومالهما، وقيل: كان الجد السابع.
﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا﴾ إيناس رشدهما ﴿وَيَسْتَخْرِجَا﴾ حينئذ ﴿كَنْزَهُمَا رَحْمَةً﴾ نعمة ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ قال أولًا: ﴿فَأَرَدتُّ﴾ ثم قال: ﴿فَأَرَدنَا﴾، ثم قال: ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ﴾ توسعًا في اللغة، قال بعضهم: لما قال الخضر: (فأردت) أُلهم: من أنت حتى تكون لك إرادة؟! فجمع في الثانية، فأُلهم: من أنت وموسى حتى تكون لكما إرادة؟ فخص في الثالثة الإرادة لله (٢) تعالى؛ ليعلم أن الكل إليه.
﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ أي: باختياري، بل بأمر الله وإلهامه.
﴿ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ﴾ أي: ما لم تُطق.
﴿عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ اسطاع واستطاع بمعنى واحد.
ولما فارقه موسى، قال: أوصني، قال: لا تطلب العلم لتُحدِّثَ به، واطلبه لتعمل به.
واختلف في حياة الخضر، فكثير من العلماء ذهب إلى أنه حي، وهو يصلي الجمعة في خمسة مساجد: في المسجد الحرام، ومسجد المدينة، ومسجد بيت المقدس، ومسجد قباء، ومسجد الطور، في كل مسجد جمعة، ويأكل في كل جمعة أكلتين من كمأة وكرفس، ويشرب مرة من ماء
(١) رواه البيهقي في "الزهد" (٢/ ٢١٤).
(٢) في "ت": "بالله".
209
لا زمزم، ومرة من جب سليمان الذي ببيت المقدس، ويغتسل من عين سلوان.
قال الشيخ أبو محمد نصر البندنيجي: سألت الخضر: أين تصلي الصبح؟ فقال: عند الركن اليماني، قال: وأقضي بعد ذلك شيئًا كلفني الله تعالى قضاءه، ثم أصلي الظهر بالمدينة، ثم أقضي شيئًا كلفني الله قضاءه، وأصلي العصر ببيت المقدس، حكى ذلك صاحب "مثير الغرام" (١) وغيره.
وسبب حياته -على ما حكاه البغوي-: أنه شرب من عين الحياة (٢).
وروى المشرف بسنده، وحكاه غيره: أن الخضر وإلياس -عليهما السلام- يصومان شهر رمضان ببيت المقدس (٣)، ويوافيان الموسم كل عام (٤)، وإلياس من أنبياء بني إسرائيل، وذهب قوم إلى أن الخضر ميت؛ لقوله تعالى ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ﴾ [الأنبياء: ٣٤]، وقال - ﷺ - بعدما صلى العشاء ليلة: "أَرَأَيْتَكمْ ليلتكم هذه؛ فإن رأس مئة سنة لا يبقى ممن هو اليوم
(١) اسم "مثير الغرام" أطلق على ثلاثة كتب، وهي:
١ - "مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن" لأبي الفرج ابنِ الجوزي،
و ٢ - "مثير الغرام إلى زيارة القدس والشام" لشهاب الدين المقدسي المتوفى (٧٦٥)،
و ٣ - "مثير الغرام في زيارة الخليل عليه السلام" وإسحاق بن إبراهيم التدمري المتوفى (٨٣٣). انظر: "كشف الظنون" (٢/ ١٥٨٩ - ١٥٩٠).
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٥٥).
(٣) قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (١٠/ ١٩٦): رواه أحمد في "الزهد" بإسناد حسن عن أبي رَواد، وقال السخاوي في "المقاصد الحسنة" (١/ ١٢): وهو معضَل.
(٤) قال الحافظ في "الفتح" (١٠/ ١٩٦): رواه الدارقطني في "الأفراد" من طريق عطاء، عن ابن عباس مرفوعًا، وفي إسناده محمد بن أحمد بن زيد، وهو ضعيف.
210
على ظهر الأرض أحد" (١)، ولو كان الخضر حيًّا، لكان لا يعيش بعده.
...
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (٨٣)﴾.
[٨٣] ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ﴾ هو الإسكندر الذي ملك الدنيا، وكان في زمن سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام، وقيل: اسمه عبد الله، أو مرزبان، وكان عبدًا صالحًا، أحب الله فأحبه الله، وناصح الله فناصحه الله، وهو من ذرية نوح عليه السلام، وسمي ذا القرنين؛ لأنه بلغ قرني الشمس: مشرقها ومغربها، وقيل: بعثه الله إلى قومه، ولم يكن نبيًّا، فأمرهم بالتقوى، فضربوه على قرنه فمات، فأحياه الله تعالى، ثم بعثه مرة أخرى إليهم، فضربوه على قرنه فمات، فأحياه، فسمي ذا القرنين، وقيل غير ذلك.
قال ابن عطية: أحسن الأقوال أنه كان ذا ظفرتين من شعرهما قرناه، فسمي به، والظفائر قرون الرأس (٢).
وروي أن جميع من ملك الدنيا كلها أربعة: مؤمنان، وكافران، فالمؤمنان: سليمان بن داود، والإسكندر، والكافران: نمرود، وبخت نصر.
وتوفي الإسكندر بناحية السواد بشهرزور بعد أن غزا الهند حتى انتهى
(١) رواه البخاري (١١٦)، كتاب: العلم، باب: السهر في العلم، ومسلم (٢٥٣٧)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: قوله - ﷺ -: "لا تأتي مائة سنة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم"، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-.
(٢) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (٣/ ٥٣٨).
إلى البحر المحيط، فهال ذلك ملوك المغرب، فوفدت عليه رسلهم بالانقياد والطاعة، ودخل الظلمات مما يلي القطب الشمالي وبحر الشمس في الجنوب في أربع مئة رجل من أصحابه يطلب عين الحياة، فلم يصبها، فسار فيه ثمانية عشر يومًا، وبنى اثنتي عشرة مدينة سماها كلها إسكندرية، وكانت مملكته اثنتي عشرة سنة، وقيل: ثلاث عشرة، وقيل: أربع عشرة، وكان عمره ستًّا وثلاثين سنة، كذا نقله بعض المؤرخين، وقال الكواشي: قالوا: وعاش ألفًا وست مئة سنة، وحكى البيضاوي قولًا أن سبب تسميته بذي القرنين؛ لأنه انقرض في أيامه قرنان من الناس، والله أعلم (١).
﴿قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ﴾ سأذكر لكم ﴿مِنْهُ﴾ من خبره ﴿ذِكْرًا﴾ خبرًا.
...
﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (٨٤)﴾ [الكهف: ٨٤].
[٨٤] ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ﴾ بأن قويناه.
﴿وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا﴾ أي: من أسباب كل شيء و (٢) أراده.
...
﴿فَأَتْبَعَ سَبَبًا (٨٥)﴾ [الكهف: ٨٥].
[٨٥] ﴿فَأَتْبَعَ سَبَبًا﴾ أي: اقتفى طريقًا موصلًا إلى مراده. قرأ الكوفيون، وابن عامر: (فَأَتْبَعَ) (ثُمَّ أَتْبَعَ) بقطع الهمزة وإسكان التاء في المواضع الثلاثة، أي: أدرك، ولحق، وقرأ الباقون، وهم أهل الحجاز والبصرة:
(١) انظر: "تفسير البيضاوي" (٣/ ٥١٩).
(٢) "و" زيادة من "ت".
بوصل الهمزة وتشديد التاء في الثلاثة (١)؛ أي: سار، يقال: ما زلت أتبعه حتى اتبعته؛ أي: ما زلت أسير خلفه حتى لحقته، والمعنى: سلك طريقًا نحو الغرب.
...
﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (٨٦)﴾ [الكهف: ٨٦].
[٨٦] ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ﴾ قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب، وحفص عن عاصم: (حَمِئَةٍ) بغير ألف بعد الحاء وهمز الياء؛ أي: ذات حمأة، وهو الطين الأسود، وقرأ الباقون: (حَامِيَةٍ) بالألف وفتح الياء من غير همز (٢)، أي: حارة، ولا تنافي بينهما لجواز أن تكون العين جامعة للوصفين.
وسأل معاوية كعب الأحبار: كيف تجد الشمس تغرب؟ قال: في ماء وطين، كذلك نجده في التوراة (٣).
﴿وَوَجَدَ عِنْدَهَا﴾ أي: عند تلك العين.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٩٧)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٥)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٥٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٩ - ١١).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٩٨)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٥)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٥٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣١٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٩ - ١٠).
(٣) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" (٢/ ٤١٢)، والخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي" (٢/ ١٩٧ - ١٩٨). وانظر: "الدر المنثور" للسيوطي (٢/ ٤٥٠ - ٤٥١).
﴿قَوْمًا﴾ كافرين، لباسهم جلود الوحش، وطعامهم ما لَفَظَه البحرُ، فخيَّره الله بين أن يعذبَهم، أو يدعوهم إلى الإيمان كما قال تعالى:
﴿قُلْنَا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ﴾ والمراد منه: الإلهام، لأنه لم يكن نبيًّا على الأصح ﴿إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ﴾ يعني: إما أن تقتلهم إن لم يدخلوا في الإسلام.
﴿وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا﴾ عفوًا؛ أي: خيَّرناك في قتل من لم يؤمن، وفي العفو عنه، أو الأسر بشرط الإيمان.
...
﴿قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (٨٧)﴾ [الكهف: ٨٧].
[٨٧] ﴿قَالَ﴾ الإسكندر: ﴿أَمَّا مَنْ ظَلَمَ﴾ أشرك ﴿فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ﴾ بالقتل في الدنيا.
﴿ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ﴾ في الأخرى ﴿فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا﴾ شديدًا.
...
﴿وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (٨٨)﴾ [الكهف: ٨٨].
[٨٨] ﴿وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى﴾ قرأ يعقوب، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (جَزَاءً الْحُسْنَى) بالنصب والتنوين وكسره للساكنين؛ أي: فله الحسنى جزاء، ونصب (جَزَاءً) على المصدر، وقرأ الباقون: بالرفع من غير تنوين على الإضافة (١)، فالحسنى: الجنة، وأضاف الجزاء إليها.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٩٨)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٥)، =
﴿وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا﴾ أي: لا نأمره بما يصعب عليه، بل بما يسهل.
وتقدم مذهب أبي جعفر في ضم السين من (يُسُرًا)، عند قوله: (عُسُرًا).
...
﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (٨٩)﴾ [الكهف: ٨٩].
[٨٩] ﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا﴾ أي: سلك طريقًا ومنازل.
...
﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (٩٠)﴾ [الكهف: ٩٠].
[٩٠] ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ﴾ أي: موضع طلوعها.
﴿وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ﴾ هم الزنج.
﴿لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا﴾ يخصهم؛ لأن أرضهم لا تحمل بناءً ولا شجرًا، ولهم سروب يغيبون فيها عند طلوعها، ويظهرون منها عند ارتفاعها.
روي أنه وصل إليهم رجل، فرأى أناسًا يفرش أحدهم أذنه ويلبس الأخرى، قال: فبينا أنا عندهم، إذ سمعت شيئًا كالصلصلة، فغشي علَيَّ، فأفقت وهم يمسحونني بالدهن، فلما طلعت الشمس على الماء، إذا هي عليه كهيئة الزيت، فأدخلونا سربًا لهم، فلما ارتفعت، خرجوا إلى البحر يصطادون السمك، فيطرحونه في الشمس، فينضج لهم.
= و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣١٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٠).
﴿كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (٩١)﴾ [الكهف: ٩١].
[٩١] ﴿كَذَلِكَ﴾ أي: كما حكم في القوم الذين هم عند مغرب الشمس، حكم في الذين عند مطلعها كذلك.
﴿وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ﴾ بما عنده من الجند والآلات والعدد والأسباب ﴿خُبْرًا﴾ علمًا.
...
﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (٩٢)﴾ [الكهف: ٩٢].
[٩٢] ﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا﴾ يعني: طريقًا ثالثًا معترضًا بين المشرق والمغرب آخذًا من الجنوب إلى الشمال.
...
﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (٩٣)﴾ [الكهف: ٩٣].
[٩٣] ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ﴾ قرأ أبو عمرو، وابن كثير، وحفص عن عاصم: (السَّدَّيْنِ) بفتح السين، والباقون: بضمها، وهما لغتان معناهما واحد (١)، وقال عكرمة: ما كان من صنعة بني آدم، فهو السد -بالفتح-، وما كان من صنع الله، فهو بالضم- (٢)؛ لأن السد -بالضم- فعل مبني لمفعول، وبالفتح مصدر، وهما الجبلان بين أرمينيا وأذربيجان، فلما
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٩٩)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٥)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٥٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٢).
(٢) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (٥/ ٤٥٩).
وصل إلى السدين ﴿وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا﴾ أي: من ورائهما.
﴿قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا﴾ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (يُفْقِهُونَ) بضم الياء وكسر القاف على معنى: لا يُفهمون غيرهم قولًا، وقرأ الباقون: بفتح الياء والقاف (١)؛ أي: لا يَفهمون كلامَ غيرهم، قال ابن عباس: "لا يفهمون كلام أحد، ولا يفهم الناس كلامهم" (٢).
...
﴿قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤)﴾ [الكهف: ٩٤]
[٩٤] ﴿قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ﴾ أي: قال مترجمهم:
﴿إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ﴾ قرأ عاصم: بهمزهما، والباقون: بغير همز تخفيفًا، وهما اسمان أعجميان مثل هاروت وماروت، وهم من ولد يافث بن نوح، والقراءة بالهمز وعدمه لغتان (٣)، أصلها من أجيج النار، وهو ضوؤها وشررها، شبهوا به؛ لكثرتهم وشدتهم.
قال المؤرخون: أولاد نوح ثلاثة: سام، وحام، ويافث، فسام
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٩٩)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٥)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٥٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣١٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٢).
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٥٩).
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٩٩)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٥ - ١٤٦)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٦٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٣).
217
أبو العرب والعجم والروم، وحام أبو الحبشة والزنج والنوبة، ويافث أبو الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج.
عن ابن عباس: "هم عشرة أجزاء، وولد آدم كلهم جزء" (١)؛ لأنه لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه يحملون السلاح، فمنهم من طوله مئة وعشرون ذراعًا، أو خمسون، ومنهم من طوله وعرضه كذلك، ومنهم من يلتحف بأذنه ويفترش الأخرى.
وروي أنهم على مقدار واحد ذكرهم وأنثاهم، طول أحدهم مثل نصف الرجل المربوع منا.
قال علي -رضي الله عنه-: "منهم من طوله شبر، ومنهم من هو مفرط في الطول، لهم مخالب في موضع الأظفار من أيدينا، وأنياب وأضراس كأضراس السباع، لهم شعر في أجسادهم" (٢).
فلما وصل ذو القرنين إلى أولئك القوم، قالوا له شكاية: إن يأجوج ومأجوج.
﴿مفسدون في الأرض﴾ بالقتل والتخويف وإتلاف الزروع وفعل الخبيث.
﴿فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا﴾ جعلًا نخرجه من أموالنا. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (خَرَاجًا) بفتح الراء وألف بعدها، وهو المال المضروب على الأرض يؤدى في كل مدة، وقرأ الباقون: بإسكان الراء من غير ألف، مصدر خرج (٣)، وهو الجعل كما تقدم أولًا.
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٦٠)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (٥/ ١٩٠).
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٦١)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (٥/ ١٩٠).
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٠٠)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٦)، =
218
﴿عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا﴾ حاجزًا لئلا يصلوا إلينا. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (سَدًّا) بفتح السين، والباقون: بضمها، وهما لغتان (١).
...
﴿قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (٩٥)﴾ [الكهف: ٩٥].
[٩٥] ﴿قَالَ مَا مَكَّنِّي﴾ أي: قَوَّاني ﴿فِيهِ رَبِّي﴾ هو من العلم وطلب ثوابه والمال.
﴿خَيْرٌ﴾ هو أفضل مما تعطونني أنتم. قرأ ابن كثير: (مَكَنَنِي) بنونين مخففتين، الأولى مفتوحة، والثانية مكسورة على الأصل، والباقون: بواحدة مكسورة مشددة على الإدغام (٢)، المعنى: ثواب الله خير من ثوابكم.
﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ﴾ أي: آلة أتقوى بها ﴿أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا﴾ هو أكبر من السد، فجاؤوه بذلك، فحفر ما بين السدين حتى بلغوا الماء.
...
= و"تفسير البغوي" (٣/ ٦٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣١٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٤).
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٩٩)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٦)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٥٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٤).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٥٥)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٦)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٦٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٤).
﴿آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (٩٦)﴾ [الكهف: ٩٦].
[٩٦] ثم قال: ﴿آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى﴾ قِطعه، جمع زبرة. قرأ أبو بكر عن عاصم: (رَدْمًا ائْتُونِي) بكسر التنوين ووصل التنوين مع همزة ساكنة بعده، من باب المجيء، وإذا ابتدأ، كسر همزة الوصل، وأبدل الهمزة الساكنة بعدها ياءً، والباقون: بقطع الهمزة ومدة بعدها في الحالين؛ من الإعطاء، وورش على أصله يلقي حركة الهمزة على التنوين قبلها (١)، فجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب، والبنيان من زبر الحديد بعضها فوق بعض، وجعل بينهما الحطب والفحم.
﴿حَتَّى إِذَا سَاوَى﴾ قرأ أبان عن عاصم: (سَوَّى) بتشديد الواو من غير ألف، وقرأ الباقون: (سَاوَى) بالألف وتخفيف الواو (٢)؛ أي: ملأ.
﴿بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ﴾ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب، وابن عامر: بضم الصاد والدال، وروى أبو بكر عن عاصم: بضم الصاد وإسكان الدال، والباقون: بفتحهما، وكلها لغات (٣)، معناها: الناحيتان من الجبلين؛ لأنهما يتصادفان؛ أي: يتقابلان، فلما ملأ ما بينهما بالزبر والحطب، ووضح حوله منافخ.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٠٠)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٦)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٦٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٥).
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٦٣).
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٠١)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٦)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٦٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٦).
﴿قَالَ انفُخُوا﴾ فنفخوا النار.
﴿حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ﴾ أي: الحديد ﴿نَارًا﴾ أي: كالنار.
﴿قَالَ آتُونِي﴾ قرأ حمزة، وأبو بكر بخلاف عنه: (قالَ ائْتُوني) بوصل الألف وهمزة ساكنة؛ من باب المجيء، وإذا ابتدأ ا، كسرا همزة الوصل، وأبدلا الهمزة الساكنة ياء، والباقون: بقطع الهمزة ومدة بعدها في الحالين من الإعطاء (١) ﴿أُفْرِغْ﴾ أصب.
﴿عَلَيْهِ قِطْرًا﴾ نحاسًا مذابًا، فجعلت النار تأكل الحطب، وتصير النحاس مكان الحطب، حتى لزم الحديد النحاس، وكان طوله مئة فرسخ، وعرضه خمسين ذراعًا، وارتفاعه مئتي ذراع، وقيل غير ذلك.
...
﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (٩٧)﴾ [الكهف: ٩٧].
[٩٧] ﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ﴾ أي: يعلوه من فوقه؛ لملاسته ورفعته.
قرأ حمزة (فما اسطَّاعُوا) بتشديد الطاء، يريد: فما استطاعوا، فأدغم التاء في الطاء، وجمع بين ساكنين وصلًا، قال ابن الجزري: والجمع بينهما في مثل ذلك (٢) جائز مسموع، وقرأ الباقون: بتخفيفها على حذف (٣) التاء ﴿وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا﴾ خَرْقًا؛ لصلابته وسمكه.
...
(١) انظر: "معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٧)، وباقي المصادر في التعليق السابق.
(٢) "في مثل ذلك" زيادة من "ت".
(٣) المصادر السابقة.
﴿قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨)﴾ [الكهف: ٩٨].
[٩٨] فلما فرغ منه ﴿قَالَ هَذَا﴾ أي: السد ﴿رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي﴾ علي وعليكم؛ لعدم خروجهم بسببه ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي﴾ أي: وقت خروجهم.
﴿جَعَلَهُ دَكَّاءَ﴾ قرأ الكوفيون: (دَكَّاءَ) بالمد والهمز من غير تنوين؛ أي: أرضًا ملساء، والباقون: بالتنوين من غير همز (١)؛ أي: مستويًا مع وجه الأرض.
﴿وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا﴾ واجبًا بالثواب والعقاب وغيرهما، هذا آخر كلام ذي القرنين.
روي أنهم يحفرون كل يوم الردم، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذي عليهم: ارجعوا، فستحفرونه غدًا، فيعيده الله كما كان، حتى إذا بلغت مدتهم، حفروا، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غدًا إن شاء الله، فيعودون وهو كهيئته، فيحفرونه، ويخرجون، مقدمتُهم بالشام، وساقتهم بخراسان، فيشربون المياه، وينحصر الناس منهم في حصونهم، ولا يقدرون على إتيان مكة والمدينة وبيت المقدس، ويرمون بسهامهم إلى السماء، فترجع كهيئة الدم، فيقولون: قهرنا أهل الأرض، وعلونا أهل السماء، فيرسل الله تعالى عليهم دودًا في أعناقهم، فيهلكون جميعًا، فيرسل الله عليهم طيرًا، فتلقيهم في البحر، ويرسل مطرًا يغسل الأرض، وخروجهم يكون بعد خروج الدجال وقتلِ عيسى إياه.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٠٢)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٦)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٦٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٨).
﴿وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (٩٩)﴾ [الكهف: ٩٩].
[٩٩] ﴿وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ﴾ أي: بعض يأجوج ومأجوج من وراء السد يوم سد ﴿يَمُوجُ﴾ يضطرب ويختلط ﴿فِي بَعْضٍ﴾ لكثرتهم وعدم خروجهم.
﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ لأن خروج يأجوج ومأجوج من علامات قرب الساعة ﴿فَجَمَعْنَاهُمْ﴾ أي: جميع الخلائق يوم القيامة للحساب.
﴿جَمْعًا﴾ في مكان واحد.
...
﴿وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (١٠٠)﴾ [الكهف: ١٠٠].
[١٠٠] ﴿وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ﴾ أي: أظهرناها.
﴿يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا﴾ حتى يشاهدوها عيانًا.
...
﴿الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (١٠١)﴾ [الكهف: ١٠١].
[١٠١] ﴿الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي﴾ عن القرآن والإيمان به، وقوله (أعينهم) كناية عن البصائر، لا عين الجارحة.
﴿وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا﴾ لذكري؛ لإفراط صممهم عن الحق.
...
﴿أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (١٠٢)﴾ [الكهف: ١٠٢].
[١٠٢] ﴿أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الاستفهام للإنكار ﴿أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي﴾ أي: ملائكتي وعيسى وعزيرًا والشياطين ﴿مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ﴾ المعنى: أفظن
الكافرون اتخاذهم عبادي من دوني أربابًا ينفعهم، أو لا أعذبهم.
﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا﴾ منزلًا، المعنى: جهنم معدة للكافرين كالنزل المعد للضيف. قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (دُونِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (١)، وقرأ الكوفيون، وابن عامر، وروح عن يعقوب: (أَوْلِيَاءَ إِنَّا) بتحقيق الهمزتين، والباقون بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية، وهي أن تجعل بين بين (٢).
...
﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (١٠٣)﴾ [الكهف: ١٠٣].
[١٠٣] ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا﴾ نصب على التمييز؛ أي: بالذين هم أشد الخلق وأعظمهم خسرانًا فيما عملوا.
...
﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (١٠٤)﴾ [الكهف: ١٠٤].
[١٠٤] ﴿الَّذِينَ ضَلَّ﴾ ضاع ﴿سَعْيُهُمْ﴾ عملهم الخير.
﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ لكفرهم؛ كالرهبان؛ فإنهم خسروا دنياهم وآخرتهم.
﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ عملًا ينفعهم؛ لعجبهم، واعتقادهم
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٤٧)، و"الكشف" لمكي (٢/ ٨٢)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٩٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٩).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٨٣)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٩٦)، "ومعجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٩).
أنهم على الحق. قرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، وأبو جعفر: (يَحْسَبُونَ) بفتح السين، والباقون: بكسرها (١).
...
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (١٠٥)﴾ [الكهف: ١٠٥].
[١٠٥] ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾ بالقرآن ﴿وَلِقَائِهِ﴾ بالبعث ﴿فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ بطل اجتهادهم بكفرهم، فلا يثابون على أعمالهم.
﴿فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾ أي: نزدريهم، فلا يكون لهم مقدار، قال - ﷺ -: "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال: اقرؤوا: ﴿فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾ " (٢).
...
﴿ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (١٠٦)﴾ [الكهف: ١٠٦].
[١٠٦] ﴿ذَالِكَ﴾ المذكور من هبوط أعمالهم وخسة قدرهم، مبتدأ ﴿جَزَآؤُهُم﴾ مبتدأ ثان، خبره ﴿جَهَنَّمُ﴾ وهما خبر (ذلك).
﴿بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا﴾ سخرية.
...
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٨٣)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٩١)، "ومعجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢٠).
(٢) رواه البخاري (٤٤٥٢)، كتاب: التفسير، باب: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾، ومسلم (٢٧٨٥)، في أول كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (١٠٧)﴾ [الكهف: ١٠٧]
[١٠٧] ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ﴾ في علم الله.
﴿جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ﴾ وهو وسط الجنة، ومعناه: البستان.
﴿نُزُلًا﴾ قال كعب: "ليس في الجنان جنة أعلى من جنة الفردوس، فيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر" (١).
...
﴿خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (١٠٨)﴾ [الكهف: ١٠٨].
[١٠٨] ﴿خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ﴾ لا يطلبون ﴿عَنْهَا حِوَلًا﴾ تحويلًا.
...
﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (١٠٩)﴾ [الكهف: ١٠٩].
[١٠٩] ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ﴾ أي: ماؤه ﴿مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي﴾ تكتب به، وهي وعده لأوليائه، ووعيده لأعدائه وحكمه، وسمي المداد مدادًا؛ لإمداده الكاتب، وأصله من الزيادة ومجيء الشيء بعد الشيء.
﴿لَنَفِدَ الْبَحْرُ﴾ أي: فني ماؤه ﴿قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ﴾ [أي: تفرغ].
﴿كَلِمَاتُ رَبِّي﴾ أي: علمه وحكمه. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (يَنْفَد) بالياء على التذكير لتقديم الفعل، والباقون: بالتاء على التأنيث (٢)
(١) رواه ابن جرير في "تفسيره" (١٦/ ٣٦).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٠٢)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٦)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٧٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري =
﴿وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ﴾ بمثل ماء البحر ﴿مَدَدًا﴾ زيادة عليه، لينفد أيضًا، ولم تنفد (١) كلماته تعالى، ونصبه تمييز.
...
﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (١١٠)﴾ [الكهف: ١١٠].
[١١٠] ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ﴾ آدمي ﴿مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ منزه عما لا يليق به، وكان كفرهم بعبادة الأصنام، فلذلك خصص هذا الفعل فيما أوحي إليه ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ﴾ يأمل حسن لقائه.
﴿فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا﴾ خالصًا ﴿وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ لا يرائي بعمله.
قال ابن عباس: نزلت في جندب بن زهير العامري، قال للنبي - ﷺ -: إني أعمل العمل لله تعالى، فإذا اطلع عليه، سرني، فقال النبي - ﷺ -: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، ولا يقبل ما شورك فيه"، فنزلت (٢).
وعنه -عليه السلام-: "اتقوا الشِّركَ الأصغرَ"، قالوا: وما الشرك الأصغر؟ قال: "الرياء" (٣).
= (٢/ ٣١٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ٢١).
(١) في "ت": "لنفذ أيضًا، ولم تنفذ".
(٢) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٧١). قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" (٢/ ٣١٣)، غريب.
(٣) رواه الإمام أحمد في "المسند" (٥/ ٤٢٨)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (٦٨٣١)، عن محمود بن لبيد -رضي الله عنه-. ورواه الطبراني في "المعجم الكبير" (٤٣٠١)، عن محمود بن لبيد، عن رافع بن خديج -رضي الله عنه-.
227
وقال - ﷺ -: "من حفظ عشر آياتٍ من أول سورة الكهف، عُصِمَ من فتنة الدجال" (١).
وعنه - ﷺ -: "من قرأ سورةَ الكهف، فهو معصومٌ ثمانيةَ أيامٍ من كل فتنة، فإن خرج الدجال في الأيام الثمانية، عصمه الله من فتنة الدجال" (٢).
وروي عن أسماء بنت يزيد الأنصارية قالت: كان رسول الله - ﷺ - في بيتي، فذكر الدجال، فقال: "آتٍ بين يديه ثلاث سنين: سنة تمسك السماء ثلث قطرها، والأرض ثلث نباتها، والثانية تمسك السماء ثلثي قطرها، والأرض ثلثي نباتها، والثالثة تمسك السماء قطرها كله، والأرض نباتها كله، فلا يبقى ذات ظلف ولا ذات ضرس من البهائم إلا هلك؛ وإن من أشد فتنته أن يأتي الأعرابي فيقول: أرأيت إن أحييت لك إبلك، ألست تعلم أني ربك؟ فيقول: بلى، فيمثل له نحو إبله كأحسن ما تكون ضروعًا، وأعظمه أسنمة، قال: ويأتي الرجل قد مات أخوه، ومات أبوه، فيقول: أرأيت إن أحييت لك أباك، وأحييت لك أخاك، ألست تعلم أني ربك؟ فيقول: بلى، فيمثل له الشياطين (٣) نحو أبيه وأخيه، قالت: ثم خرج رسول الله - ﷺ - لحاجته، ثم رجع والقوم في اهتمام وغم مما حدثهم به، فأخذ بلحمتي الباب، فقال: مهيم أسماء؟ قلت: يا رسول الله! لقد خلعت
(١) رواه مسلم (٨٠٩)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل سورة الكهف وآية الكرسي، عن أبي الدرداء -رضي الله عنه-.
(٢) رواه الضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" (٢/ ٤٩ - ٥٠)، عن علي -رضي الله عنه-.
(٣) في "ت": "الشيطان".
228
أفئدتنا بذكر الدجال، قال: إن يخرج، فأنا حجيجه، وإلا فإن ربي خليفتي على كل مؤمن، قالت أسماء: فقلت: يا رسول الله! والله إنا لنعجنن عجيننا، فما نخبزه حتى نجوع، فكيف بالمؤمنين يومئذ؟ قال: يجزئهم ما يجزئ أهل السماء من التسبيح والتقديس" (١).
ومما ورد في أمر الدجال: ما روي عن الضحاك أنه قال: "الدجال ليس له لحية، وافر الشارب، طول وجهه ذراعان، وقامته في السماء ثمانون ذراعًا، وعرض ما بين منكبيه ثلاثون ذراعًا، ثيابه وخفاه وسرجه ولجامه بالذهب والجوهر، وعلى رأسه تاج مُرصَّع بالذهب والجوهر، هيئته المجوس، وكلامه الفارسية، تطوى له الأرض ولأصحابه طيًّا طيًّا، يطأ مجامعها، ويرد مناهلها إلا المساجد الأربعة: مسجد مكة، ومسجد المدينة، ومسجد بيت المقدس، ومسجد الطور" (٢).
وفي الحديث الشريف: أن عينه اليمنى طافية (٣).
(١) رواه الإمام أحمد في "المسند" (٦/ ٤٥٥)، وعبد الرزاق في "المصنف" (٦/ ٤٥٥)، والطيالسي في "مسنده" (١٦٣٣)، والطبراني في "المعجم الكبير" (٢٤/ ١٥٨).
(٢) لم أقف عليه، غير أن الألوسي في "روح المعاني" (١٥/ ١١) قال: فقد أخرج أحمد في "المسند" أن الدجال يطوف الأرض إلا أربعة مساجد: مسجد المدينة، ومسجد مكة، والأقصى، والطور... اهـ. والصحيح الثابت أنه "ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة، ليس له من نقابها نَقْبٌ إلا عليه الملائكة صافِّين يحرسونها.. " كما رواه البخاري (١٧٨٢)، كتاب: فضائل المدينة، باب: "لا يدخل الدجال المدينة، ومسلم (٢٩٤٣) كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: قصة الجسَّاسة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(٣) رواه البخاري (٣٢٥٦)، كتاب: الأنبياء، باب: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ...﴾، =
229
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قام رسول الله - ﷺ - في الناس، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم ذكر الدجال فقال: "إني لأنذركموه، وما من نبي إلا أنذره قومه، لقد أنذره نوح قومه، ولكنني سأقول لكم فيه قولًا لم يقله نبيٌّ لقومه، تعلمون أنه أعور، وأن الله ليس بأعور" (١).
وعن خالد بن معدان قال: عصمة المؤمنين من المسيح الدجال بيت المقدس (٢).
وعن ربيعة بن يزيد قال: قال رسول الله - ﷺ -: "لا تزالون تقاتلون الكفار حتى تقاتل بقيتكم جنود الدجال ببطن الأردن، بينكم النهر، أنتم غربيه، وهم شرقيه"، قال ربيعة: فقال المحدث من أصحاب رسول الله - ﷺ -: فما سمعت بنهر الأردن إلا من رسول الله - ﷺ - (٣).
والأردن هو نهر الشريعة المذكور في قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ
= ومسلم (١٦٩)، كتاب: الإيمان، باب: ذكر المسيح ابن مريم والدجال، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-.
(١) رواه البخاري (٢٨٩٢)، كتاب: الجهاد والسير، باب: كيف يعرض الإسلام على الصبي، ومسلم (١٦٩)، (٤/ ٢٢٤٥)، كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: ذكر ابن صياد.
(٢) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (١٩٤٤٧)، عن أبي الزاهرية مرفوعًا: "معقل المسلمين من الملاحم دمشق، ومعقلهم من الدجال ببيت المقدس... ".
(٣) رواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (٢٤٥٨)، والطبراني في "مسند الشاميين" (٦٣٨)، والديلمي في "مسند الفردوس" (٧٠٦٦)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (٦٢/ ٣٢٣)، عن نهيك بن صريم -رضي الله عنه-.
230
مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} [البقرة: ٢٤٩]، وهو شرقي بيت المقدس، ومسافته عنه نحو يوم.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "يتبع الدجال من أمتي سبعون ألفًا عليهم التيجان" (١).
ويرويه أبو أمامةَ عن رسول الله - ﷺ - قال: "ومع الدجال يومئذ سبعون ألف يهودي كلهم ذو تاج وسيف مُحَلَّى" (٢).
وروي أن نبي الله عيسى - ﷺ - يأخذ من حجارة بيت المقدس ثلاثة أحجار: الأول منها يقول: باسم إله إبراهيم، والثاني: باسم إله إسحاق، والثالث باسم إله يعقوب، ثم يخرج بمن تبعه من المسلمين إلى الدجال، فإذا رآه، انهزم عنه، فيدركه عند باب لُدّ، فيرميه بأول حجر، فيضعه بين عينيه، ثم الثاني، ثم الثالث، فيقع، فيضربه عيسى فيقتله، فيقتل الدجال واليهود، حتى إن الحجر والشجر ليقولان: يا مؤمن هذا تحتي يهودي، فأته فاقتله (٣).
(١) رواه مسلم (٢٩٤٤)، كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: في بقية من أحاديث الدجال، لكنه قال: "عليهم الطيالسة" بدل "التيجان"، والإمام أحمد في "المسند" (٣/ ٢٢٤)، وغيرهما، لكن عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-.
(٢) رواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (١٢٤٩)، والروياني في "مسنده" (١٢٣٩)، والطبراني في "الأحاديث الطوال" (٤٨)، وتمام الرازي في "فوائده" (٢٦٧)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (٢/ ٢٢٣).
(٣) انظر: تخريج الحديث المتقدم.
231
قال - ﷺ -: "يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم إمامًا مقسطًا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير" (١).
وأما لُدّ، فهي بليدة بأرض فلسطين شمالي مدينة الرملة، مسافتها عن بيت المقدس نحو يوم، والله أعلم.
...
(١) رواه البخاري (٢١٠٩)، كتاب: البيوع، باب: قتل الخنزير، ومسلم (١٥٥)، كتاب: الإيمان، باب: نزول عيسى بن مريم.. ، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
232
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
أصحاب الرقيم قوم آخرون كانوا ثلاثةً خرجوا " وتتمة الكلام مقدار عشرة أسطر، إلا أنها مطموسة.