تفسير سورة فاطر

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة فاطر من كتاب لطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ
قوله جل ذكره :﴿ بسم الله الرحمان الرحيم ﴾.
" بسم الله " كلمة سماعها يوجب روحا لمن كان يشاهد الإتقان، ويوجب لوحا لمن كان بوصف البيان ؛ فالروح من وجود الإحسان، واللوح من شهود السلطان، وكل مصيب، ولكل من الحق نصيب.

قوله جل ذكره :﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ ﴾.
استحق المدحَ والثناءَ على انفراده بالقدرة على خلق السماوات والأَرض.
﴿ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُوِْلِي أجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاَثُ وَرُبَاعُ يَزِيدُ فِيالْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ﴾ :
تَعَرَّف إلى العباد بأفعاله، ونَدَبَهم إلى الاعتبار بها، فمنها ما نعلم منه ذلك معاينةً كالسماوات والأرض وغيرها، ومنها ما سبيلُ الإيمانِ به الخبرُ والنقلُ - لا بدليل العقل - والملائكةُ مِنْ ذلك ؛ فلا نتحقق كيفيّة صُوَرِهم وأجنحتهم، وكيف يطيرون بأجنحتهم الثلاثة أو الأربعة، ولكن على الجملة نعلم كمال قدرته، وصِدْقَ كلمته.
قوله :﴿ يَزِيدُ فِي الخَلْقِ مَا يَشَاءُ ﴾ : قيل الخُلُقُ الَحَسَنُ، وقيل الصوتُ الحَسَنُ، وقيل الصوتُ الحَسَنُ وقيل مَلاَحَةُ العينين، وقيل الكياسة في الخِيَرَة، وقيل الفصاحة في المنطق، وقيل الفهم عن الله، ويقال السخاء والجود، ويقال الرضا بالتقدير، ويقال علو الهمة، ويقال التواضع، ويقال العفة عند الفقر، ويقال الظرف في الشمائل، ويقال أن تكون مُحَبَّباً إلى القلوب، ويقال خفة الروح، ويقال سلامة الصدر من الشرور، ويقال المعرفة بالله بلا تأمُّل برهان، ويقال الشوق إلى الله، ويقال التعطُّف على الخَلْقِ بجملتهم، ويقال تحرُّر القلوب من رِقِّ الحدثنان بجملته، ويقال ألا يَطْلُبَ لنفسه منزلةً في الدارين.
قوله جل ذكره :﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾.
المُوَسَّعُ عليه رِزْقهُ لا يُضَيَّقُ عليه غيرُ الله، والمحرومُ لا يُوَسعُ عليه غيرُ الله.
ويقال : ما يلج في قلوب العارفين من أنوار التحقيق لا سحابَ يستره، ولا ضياءَ يقهره.
ويقال : ما يلزم قلوبَ أوليائه من اليقين فلا مُزِيلَ له، وما يُغْلَق على قلوب الأَعداء من أبواب الذكر فلا فاتحَ له غيره - سبحانه.
ويقال الذي يقرنه بقلوب أوليائه وأحوالهم من التيسير فلا مُمْسِكَ له، والذي يمنعه عن أعدائه - بما يُلْقيهم فيه من انغلاق الأمور واستصعابها - فلا مُيَسِّرَ له من دونه.
قوله جل ذكره :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴾.
مَنْ ذَكَرَ النِّعمةَ فصاحبُ عبادةٍ، ونائِلُ زيادة، ومَنْ ذَكَرَ المُنْعِمَ فصاحبُ إرادةٍ، ونائِلُ زيادة. . . ولكنْ فرقٌ بين زيادة وزيادة ؛ ذل زيادته في الدارين عطاؤه، وهذا زيادته لقاؤه : اليوم سِرَّاً بِسِرٍّ من حيث المشاهدة، وغداً جَهْراً بِجَهْرٍ من حيث المعاينة.
والنعمة على قسمين : ما دَفَعَ عنه من المِحَن، وما نَفَعَ به من المِنَن ؛ فَذِكْرُه لما دَفَعَ عنه يوجِبُ دوامَ العصمة، وذكره لم نَفَعَه به يوجب تمام النعمة.
﴿ هَلْ مِنَ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ. . . ﴾ ؟ وفائدة هذا التعريف أنه إذا عَرَفَ أنه لا رازق غيره لم يُعلِّقْ قلبَه بأحدٍ في طلب شيءٍ، ولم يتذلل في ارتفاقٍ لمخلوقٍ، وكما لا يرى رِزْقَه من مخلوقٍ لا يراه من نفسه أيضاً ؛ فيتخلَّصُ من ظلمات تدبيره واحتياله، ومن تَوَهُّم شيءٍ من أمثاله وأشكاله، ويستريح لشهود تقديره، ولا محالة يُخْلِصُ في توكله وتفويضه.
قوله جل ذكره :﴿ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾.
هذه تسليةٌ للرسول صلى الله عليه وسلم، وتسهيلٌ للصبر عليه ؛ فإذا عَلِمَ أن الأنبياء عليهم السلام استقبلهم مثلما استقبله، وأنَّهم صَبَرُوا وأنَّ اللَّهَ كفاهم، فهو يسلك سبيلَهم ويقتدي بهم، وكما كفاهم عَلِمَ أنه أيضاً يكفيه. وفي هذا إشارة للحكماء وأرباب القلوب في موقفهم من العوامِّ والأجانبِ عن هذه الطريقة، فإنهم لا يقبلون منهم إلا القليل، بينما أهل الحقائق أبداً منهم في مقاساة الأذى إلا بستر حالهم عنهم.
والعوامُّ أقرب إلى هذه الطريقة من القُرَّاءِ المتقشفين، ومن العلماء الذين هم لهذه الأصول ينكرون.
قوله جل ذكره :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾.
وَعْدُ اللَّهِ حقٌّ في كل ما أخبر به أنه يكون، فَوعْدُه في القيامة حقٌ، ووعده لِمَنْ أطاعه بكفاية الأمور والسلامة حقٌّ، ووعده للمطيعين في الآخرة بوجود الكرامة حقٌّ، وللعاصين بالندامة حقٌّ، فإذا عَلِمَ العبدُ ذلك استعدَّ للموت، ولم يهتم بالرزق، فيكفيه اللَّهُ شُغْلَه، فينشط العبدُ في استكثار الطاعة ثقةً بالوعد، ولا يُلِمُّ بالمخالفات خوفاً من الوعيد.
قوله جل ذكره :﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾.
عدواةُ الشيطان بدوام مخالفته ؛ فإنَّ مِنَ الناس مَنْ يعاونه بالقول ولكن يوافقه بالفعل، ولن تقوى على عداوته إلا بدوام الاستغاثة بالربِّ، وتلك الاستغاثة تكون بصدق الاستعانة. والشيطانُ لا يفتر في عداوتك، فلا تَغْفَلْ أنت عن مولاك لحظةً فيبرز لك عدوُّك ؛ فإنه أبداً متمكِّنٌ لك.
﴿ إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ ﴾ وحِزْبه هم المُعرِضون عن الله، المشتغلون بغير الله، الغافلون عن لله. ودليلُ هذا الخطاب : إن الشيطانَ عدوُّكم فأبغضوه واتخذوه عدواً، وأنا وَلِيُّكُم. وحبيبُكم فأَحِبُّوني وارْضَوْا بي حبيباً.
قوله جل ذكره :﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾.
الذين كفروا لهم عذابٌ مُعَجَّلٌ وعذابٌ مُؤَجَّلٌ، فَمُعَجَّلُه تفرقةُ قلوبهم وانسداد بصائرهم ووقاحة هِمَّتِهم حتى أنهم يرضون بأن يكون الصنمُ معبودَهم. وأمَّا عذاب الآخرة فهو ما لا تخفى على مسلم - على الجملة - صعوبتُه.
وأَمَّا ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ﴾ فلهم مغفرةٌ أي سَتْرٌ لذنوبهم اليومَ، ولولا ذلك لافتضحوا، ولولا ذلك لَهَلَكُوا.
﴿ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ : والأجرُ الكبيرُ اليومَ سهولةُ العبادةِ ودوامُ المعرفة، وما يناله في القلب من زوائد اليقين وخصائص الأحوال. وفي الآخرة : تحقيقُ السُّؤْلِ ونَيْلُ ما فوق المأمول.
قوله جل ذكره :﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾.
معنى الآية : أفمن زين له سوءُ عمله فرآه حسناً كمن ليس كذلك ؟ لا يستويان !
ومعنى ﴿ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ﴾ أن الكافرَ يَتَوَهَّمُ أَنَّ عملَه حَسَنٌ، قال تعالى :
﴿ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يَحْسِنُونَ صُنْعاً ﴾[ الكهف : ١٠٤ ].
ثم الراغبُ في الدنيا يجمع حلالَها وحرامَها، ويحوّش حُطَامها، ولا يفكر في زوالها، ولا في ارتحاله عنها قبل كمالها ؛ فلقد زين له سوء عمله والذي يتبع شهواته ويبيع مؤبد راحاته في الجنة بساعة فلقد زين له سوء علمه. وإن الذين يُؤَثِرُ على ربِّه شيئاً من المخلوقات لَهُوَ من جملتهم. والذي يتوهَّمُ أنه إذا وَجَدَ نجاتَه ودرجاتِه في الجنة - وأنَّ هذا يكفيه. . فقد زُيِّن له سوءُ عمله حيث يتغافل عن حلاوة المناجاة. والذي هو في صحبة حظوظه ولا يُؤْثِرُ حقوق اللهِ فلقد زين له سوء عمله فرآه حسناً.
﴿ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ﴾ : يعني إذا عَرَفْتَ حقَّ التقدير، وعَلِمْتَ أنهم سقطوا من عين الله، ودَعَوْتَهم جَهْراً، وَبذلَتْ لهم نُصْحاً، فاستجابتُهم ليست لك، فلا تَجْعَلْ على قلبك من ذلك مشقةً ولا عناءً.
قوله جل ذكره :﴿ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ﴾.
أجرى سُنَّتَه بأنه يُظْهِرُ فَضْلَه في إحياء الأرض بالتدريج ؛ فأولاً يرسل الرياح ثم يأتي بالسحاب، ثم يوجِّه ذلك السحاب إلى الموضع الذي يريد له تخصيصاً كيف يشاء، ويُمْطِرُ هناك كيف يشاء. كذلك إذا أراد إحياءَ قلبِ عبدٍ بما يسقيه وينزل عليه من أَمطار عنايته، فيُرْسِلُ أولاً رياحَ الرجاء، ويزعج بها كوامنَ الإرادة، ثم ينشىء فيها سُحُبَ الاهتياج، ولوعةَ الانزعاج، ثم يجود بمطرٍ يُنْبِتُ في القلب أزهارَ البَسْطِ، وأَنوارَ الرَّوْح، فيطيب لصاحِبه العَيْشُ إلى أن تمَّ لطائفُ الأنْسِ.
قوله جل ذكره :﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ ﴾.
مَنْ كان يريد العزة بنفسه فَلْيَعْلَمْ أَنَّ العزةَ بجملتها لله، فليس للمخلوق شيءٌ من العِزَّة. ويقال مَنْ كان يريد العزةَ لنفسه فللَّه العِزَّةُ جميعاً، أي فليطلبها من الله، وفي آية أخرى أثبت العزة للَّهِ ولرسوله وللمؤمنين، وقال ها هنا ﴿ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً ﴾ ؛ وَوَجْهُ الجميع بينها أن عِزَّ الربوبية لله وَصْفاً، وعزَّ الرسول، وعزّ المؤمنين لهم فضلاً من الله ولطفاً ؛ فإذاً العِزَّةُ لله جميعاً. وعزُّه سبحانه - قُدْرتَُه. أو ويقال العزيز هو القاهر الذي لا يُقْهَرُ ؛ فيكون من صفات فعله على أول القولين. . ومن صفات ذاته على القول الآخر. ويقال العزيز هو الذي لا يُوصَلُ إليه مِنْ قولِهم : أرضٌ عَزاز إذا لم تستقر عليها الأقدام، فيرجع معناه إلى جلال سلطانه.
ويقال العزيز الذي لا مِثْلَ له ؛ من قولهم ؛ عَزَّ الطعام في اليد. فيرجع إلى استحقاقه لصفات المجد والعلو.
قوله :﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ﴾ : الكلم الطيب هو الصادرُ عن عقيدةٍ طيبةٍ- يعني الشهادتين- عن إخلاص. وأراد به صعودَ قَبُولٍ، لأنَّ حقيقةَ الصعود في اللغة بمعنى الخروج- ولا يجوز في صفة الكلام.
﴿ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾ : أي يقبله. ويقال العملُ الصالحُ يرفع الكَلِمَ الطيب. ويقال الكَلِمُ الطيبُ ما يكون موافقاً للسُّنَّة، ويقال هو ما يشهد بِصِحَّتِه الإذنُ والتوقيف. ويقال هو نُطْقُ القلبِ بالثناء على ما يستوجبه الربُّ. ويقال هو ما يكون دُعاءً للمسلمين. ويقال ما يتجرد حقاً للحقِّ ولا يكون فيه حَظٌّ للعبد. ويقال ما هو مُسْتَخْرَجٌ من العبد وهو فيه مفقود. ويقال هو بيانُ التنصُّل وكلمة الاستغفار.
ويقال العمل الصالح ما يصلح للقبول، ويقال الذي ليس فيه آفة ولا يُطْلَبُ عليه عِوَضٌ.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ ﴾.
أي يَقْلِبُ عليهم مَكْرَهم فيما يتوهمونه من خيرٍ لهم يَقْلِبُه محنةً عليهم. ويقال : تَخْلِيَتُه إياهم ومَكْرَهم - مع قدرته على عصمتهم، وكَوْنُه لا يعصمهم هي عذابهم الشديد.
قوله جل ذكره :﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾.
ذَكَّرَهم نِسْبَتَهم لئلا يُعْجَبوا بحالتهم، ثم إن ما يُتَّخَذُ من الطين سريعُ التغيُّر، قليلُ القوة في المُكث، لكنه يَقْبَلُ الانجبار بالماء إذ تنجبر به طينته ؛ فإذا جاد الحقُّ عليه بماء الجودِ أعاده بعد انكساره بالذنوب.
وإذا كان لا يَخْفى عليه - سبحانه - شيءٌ من أحوالهم في ابتداء خَلْقَتِهِم، فَمَنْ يُبالِ أَنْ يَخْلُقَ مَنْ يعلم أنه يَعْصي فلا يبالي أَنْ يغفِرَ لِمَنْ رآه يعصي.
قوله جل ذكره :﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾.
لا تستوي الحالتان : هذه إقبالٌ على الله، واشتغالٌ بطاعته، واستقلال بمعرفته. . . وهذه إِعْراضٌ عن الله، وانقباضٌ عن عبادته، واعتراض - على الله - في قسمته وقبضته. هذه سبب وصاله، وهذه سببُ هَجْرِه وانفصاله، وفي كلِّ واحدةٍ من الحالتين يعيش أهلها، ويُزْجِي أصحابُها وقتَها. ولا يستوي الوقتان : هذا بَسطٌ وصاحبُه في رَوْح، وهذا قبضٌ وصاحبه في نَوْح. هذا خوفٌ وصاحبه في اجتياح، وهذا رجاءٌ وصاحبه في ارتياح. هذا فَرْقٌ وصاحبُه بوصف العبودية، وهذا جَمْعٌ وصاحبُه في شهود الربوبية.
﴿ وَمِن كُلٍّ تأْكُلُونَ لَحْماً طَريًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ﴾ : كذلك كُلٌّ يتقرَّبُ في حالته لربِّه، ويتزَيَّنُ على بابه، وهو حِلْيَتُه التي بها يتحلّى من طَرَبٍ أو حَرَبٍ، من شَرَفٍ أو تَلْفٍ.
قوله جل ذكره :﴿ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ﴾.
تغلب النَّفْسُ مرةً على القلب، ويغلب القلبُ مرةً على النَّفْس. وكذلك القبضُ والبسط فقد يستويان، ومرةً يغلب القبضُ على البسطَ، ومرةً يغلب البسطُ على القبض، وكذلك الصحو والسُّكْرُ، وكذلك الفناء والبقاء.
وسَخّرَ شموسَ التوحيد وأقمارَ المعرفة على ما يريد من إظهاره على القلوب.
﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ﴾ : فأروني شظيةً من النفي أو الإثبات لما تدعونه من دونه ! وإِذْ لم يُمْكِنْكُم ذلك. . فَهَلاَّ أَقْرَرْتُم، وفي عبادته أخلصتم، وعن الأَصنام تَبَرَّأْتُم ؟.
قوله جل ذكره :﴿ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾.
إنْ استعنْتُم بأصنامكم لا يُعينوكم، وإنْ دَعَوْتُموهم لا يسمعوا دعاءكم، ولو سَمِعُوا على جهة ضَرْبَ المَثَلِ لا يستجيبون لكم ؛ لأنهم لا يَمْلِكُون نَفْعَ أنفسِهم. فكيف يَمْلِكون نَفْعَ غيرهم ؟ !
﴿ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ﴾ : لا يؤمنون إلا في ذلك الوقت، ولكن لا ينفعهم الإيمانُ بعد زوال التكليف.
قوله جل ذكره :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾.
الفقر على ضربين : فقر الخِلْقة وفقر الصفة ؛ فأمَّا فقر الخِلْقَة فهو عامٌّ لكلِّ أحدٍ ؛ فكلُّ مخلوقٍ مفتقرٌ إلى خالقه، فهو قد حَصَلَ من العَدَمَ، فهو مفتقر إليه ليبديه وينْشيه، ثم بعد ذلك مفتقرٌ - في حال بقائه إليه - لِيُديمَه ويقيه. فاللَّهُ - سبحانه - غنيٌّ، والعبدُ فقير ؛ العبدُ فقيرٌ بعينه واللَّهُ غنيٌّ بعينه.
وأمَّا فقر الصفة فهو التجرُّد، ففقرُ العوامِ التجرُّدُ من المال، وفقر الخواص التجرد من الأعلال لِيَسْلَمَ لهم الفقر.
والفقر على أقسام : فقر إلى الله، وفقر إلى شيء هو من الله ؛ معلوم أو مرسوم وغير ذلك. ومَنْ افتقر إلى شيءٍ استغنى بوجود ذلك الشيء ؛ فالفقيرُ إلى اللَّه هو الغنيُّ بالله، والافتقار إلى الله لا يخلو من الاستغناء بالله، فالمفتقر إلى الله مُسْتَغْنٍ بالله، والمستغني بالله مفتَقِرٌ إلى الله.
ومن شرف الفقر اقترانه بالتواضع والخضوع، ومن آفات الغنى امتزاجُه بالتكُّبر، وشَرَفُ العبد في فقره، وكذلك ذُلُّه في توهمه أنه غنيٌّ :-
وإِذا تذلَّلَتْ الرِّقابُ تَقَرُّباً مِنَّا إليكَ فعِزُّها في ذُلِّها
ومن الفقر المذموم، أن يَسْتُرَ الحقُّ على صاحبه مواضعَ فقره إلى ربِّه، ومن الفقر المحمود أن يُشْهِدَه الحقُّ مواضعَ فَقْرِه إليه.
ومن شرط الفقير المخلص ألا يملكَ شيئاً ويملك كلَّ شيءٍ.
ويقال : الفقير الصادق الذي لا يملكه شيء.
ومن آداب الفقير الصادق إظهارُ التَّشَكُّرِ عند كمالِ التكَسُّر. ومن آداب الفقر كمال المعنى وزوال الدعوى. ويقال الشكر على البلوى والبعد عن الشكوى.
وحقيقة الفقر المحمود تجرُّد السِّرِّ عن المعلولات وإفراد القلب بالله.
ويقال : الفقر المحمود العَيْشُ مع الله براحة الفراغ على سَرْمَدِ الوقتِ من غير استكراه شيءٍ منه بكلِّ وجْهٍ.
قوله :﴿ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ ﴾ : الإشارة منه أن يُعْطِي حتى يُحْمَد.
ويقال الغنيُّ إذا أظهر غِنَاه لأحدٍ فإمَّا للمفاخرة أو للمكاثرة - وجَلَّ قَدْرُ الحقِّ عن ذلك- وإمَّا ليجود ويتفضَّل على أحدٍ.
ويقال : لا يقول لنا أَنتم الفقراءُ للإزرار بنا - فإنَّ كَرَمَه يتقدَّسُ عن ذلك - وإنما المقصود أنه إذا قال : والله الغني، وأنتم الفقراء أنه يجود علينا.
ويقال إذا لم تَدَّعِ ما هو صفته - من استحقاق الغِنَى- أولاك ما يُغْنِيك، وأعطاكَ فوق ما يكفيك.
قوله جل ذكره :﴿ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ﴾.
عَرَّفَكَ أنه غنيٌّ عنك، وأشهدك موضع فقرك إليه، وأَنه لا بُدَّ لك منه، فما القصد من هذا لا إرادته لإكرامك وإيوائك في كَنَفِ إنعامه.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٦:قوله جل ذكره :﴿ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ﴾.
عَرَّفَكَ أنه غنيٌّ عنك، وأشهدك موضع فقرك إليه، وأَنه لا بُدَّ لك منه، فما القصد من هذا لا إرادته لإكرامك وإيوائك في كَنَفِ إنعامه.

قوله جلّ ذكره :﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾.
كُلٌّ مُطَالَبٌ بعمله، وكلٌّ محاسَبٌ عن ديوانه، ولكلِّ معه شأن، وله مع كلِّ أحدٍ شأن. ومن العبادات ما تجري فيه النيابة ولكن في المعارف لا تجري النيابة ؛ فلو أن عبداً عاصياً منهمكاً في غوايته فاتته صلاةٌ مفروضةٌ، فلو قضى عنه ألفُ وليٍّ وألفُ صَفِيِّ تلك الصلاةَ الواحدةَ عن كل ركعةًٍ ألفَ ركعةٍ لم تُقْبلْ منه إِلاَّ أنْ يجيءَ هو : معاذ الله أن نأخذ إلا مِمَّن وجدنا متاعنا عنده ! فعتابُك لا يجري مع غيرِك والخطابُ الذي معك لا يسمعه غيرُك :
فَسِرْ أو أَقِمْ وَقْفٌ عليكَ محبتي مكانُكَ من قلبي عليكَ مصونُ
قوله جلّ ذكره :﴿ إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾.
الإنذار هو الإعلام بموضع المخافة، والخشيةُ هي المخافة ؛ فمعنى الآية، لا ينفع التخويف إلاَّ لمن صَاحَبَ الخوفَ - وطيرُ السماءِ على أشكالها تَقَعُ.
قوله جل ذكره :﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ﴾.
كما لا يستوي الأعمى والبصير لا تستوي الظلمات والنور، ولا يستوي الظلُّ والحرور، ولا الأحياء والأموات. . وكذلك لا يستوي الموصول بنا والمشغول عنَّا، والمجذوبُ إلينا، والمحجوبُ عنَّا، ولا يستوي مَنْ اصطفيناه في الأزل ومن أشقيناه بحكم الأزل، ولا يستوي من أشهدناه حقَّنا ومن أغفلنا قلبه عن ذِكْرِنا :
أحبابنا شتان : وافٍ وناقِضُ *** ولا يستوي قطُّ مُحِبٌّ وباغِضُ
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٩:قوله جل ذكره :﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ﴾.
كما لا يستوي الأعمى والبصير لا تستوي الظلمات والنور، ولا يستوي الظلُّ والحرور، ولا الأحياء والأموات.. وكذلك لا يستوي الموصول بنا والمشغول عنَّا، والمجذوبُ إلينا، والمحجوبُ عنَّا، ولا يستوي مَنْ اصطفيناه في الأزل ومن أشقيناه بحكم الأزل، ولا يستوي من أشهدناه حقَّنا ومن أغفلنا قلبه عن ذِكْرِنا :
أحبابنا شتان : وافٍ وناقِضُ *** ولا يستوي قطُّ مُحِبٌّ وباغِضُ

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٩:قوله جل ذكره :﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ﴾.
كما لا يستوي الأعمى والبصير لا تستوي الظلمات والنور، ولا يستوي الظلُّ والحرور، ولا الأحياء والأموات.. وكذلك لا يستوي الموصول بنا والمشغول عنَّا، والمجذوبُ إلينا، والمحجوبُ عنَّا، ولا يستوي مَنْ اصطفيناه في الأزل ومن أشقيناه بحكم الأزل، ولا يستوي من أشهدناه حقَّنا ومن أغفلنا قلبه عن ذِكْرِنا :
أحبابنا شتان : وافٍ وناقِضُ *** ولا يستوي قطُّ مُحِبٌّ وباغِضُ

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٩:قوله جل ذكره :﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ﴾.
كما لا يستوي الأعمى والبصير لا تستوي الظلمات والنور، ولا يستوي الظلُّ والحرور، ولا الأحياء والأموات.. وكذلك لا يستوي الموصول بنا والمشغول عنَّا، والمجذوبُ إلينا، والمحجوبُ عنَّا، ولا يستوي مَنْ اصطفيناه في الأزل ومن أشقيناه بحكم الأزل، ولا يستوي من أشهدناه حقَّنا ومن أغفلنا قلبه عن ذِكْرِنا :
أحبابنا شتان : وافٍ وناقِضُ *** ولا يستوي قطُّ مُحِبٌّ وباغِضُ

قوله جل ذكره :﴿ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ﴾.
أي وما من أمةٍ ممن كانوا من قبلك إلاَّ بعثنا فيهم نذيراً، وفي وقتك أرسلناك إلى جميع الأمم كافةً بالحقِّ.
﴿ بَشِيراً وَنَذِيراً ﴾ : تضمنت الآية بيانَ أنه لم يُخْلِ زماناً ولا قوماً مِنْ شَرْعٍ. وفي وقته صلى الله عليه وسلم أَفرده بأَنْ أرسله إلى كافة الخلائق، ثم قال على جهة التسلية والتعزية له.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٣:قوله جل ذكره :﴿ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ﴾.
أي وما من أمةٍ ممن كانوا من قبلك إلاَّ بعثنا فيهم نذيراً، وفي وقتك أرسلناك إلى جميع الأمم كافةً بالحقِّ.
﴿ بَشِيراً وَنَذِيراً ﴾ : تضمنت الآية بيانَ أنه لم يُخْلِ زماناً ولا قوماً مِنْ شَرْعٍ. وفي وقته صلى الله عليه وسلم أَفرده بأَنْ أرسله إلى كافة الخلائق، ثم قال على جهة التسلية والتعزية له.

قوله جل ذكره :﴿ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ﴾.
أي لو قابلوك بالتكذيب فتلك سُنّتُهم مع كلِّ نبي ؛ وأن أَصَرُّوا على سُنَّتِهم في الغيِّ فلن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تبدِيلاً في الانتقام والخزي.
قوله جلّ ذكره :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهِ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَراتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدُ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ﴾.
بيَّنَ في هذه الآية وأمثالها أن تخصيصَ الفعل بهيئاته وألوانه من أدلة قصد الفاعل وبرهانه، وفي إتقانِ الفعلِ وإِحكامه شهادة على عِلْمِ الصانِع وأعلامِه.
وكذلك ﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالأَنْعَامِ ﴾ : بل جميع المخلوقات متجانس الأعيان مختلف، وهو دليل ثبوت مُنْشِيها بنعت الجلال.
قوله جلّ ذكره :﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العْلَمَآؤاْ ﴾.
" إنما " كلمة تحقيق تجري من وجهٍ مجرى التحديد أي التخصيص والقَصْر، فَمَنْ فَقَدَ العِلْمَ بالله فلا خشيةَ له من الله.
والفرق بين الخشية والرهبة أنَّ الرهبةَ خوفٌ يوجِبُ هَرَبَ صاحبه فيجري في هربه، والخشية إذا حصلت كَبَحَت جماحَ صاحبها فيبقى مع الله، فقدمت الخشية على الرهبة في الجملة.
والخوف قضية الإيمان، قال تعالى :﴿ وَخافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [ آل عمران : ١٧٥ ] فالخشية فضية العلم، والهيبة توجب المعرفة.
ويقال خشية العلماء من تقصيرهم في أداء حقِّه. ويقال من استيحائهم من اطلاع الحق.
ويقال حَذَراً من أن يحصلِ لهم سوءُ أدبٍ وتَرْكُ احترامٍ، وانبساطٌ في غير وقته بإطلاق لَفْظٍ، أو تَرَخُّصٍ بِتَرْكِ الأَوْلى.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٧:قوله جلّ ذكره :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهِ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَراتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدُ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ﴾.
بيَّنَ في هذه الآية وأمثالها أن تخصيصَ الفعل بهيئاته وألوانه من أدلة قصد الفاعل وبرهانه، وفي إتقانِ الفعلِ وإِحكامه شهادة على عِلْمِ الصانِع وأعلامِه.
وكذلك ﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالأَنْعَامِ ﴾ : بل جميع المخلوقات متجانس الأعيان مختلف، وهو دليل ثبوت مُنْشِيها بنعت الجلال.
قوله جلّ ذكره :﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العْلَمَآؤاْ ﴾.
" إنما " كلمة تحقيق تجري من وجهٍ مجرى التحديد أي التخصيص والقَصْر، فَمَنْ فَقَدَ العِلْمَ بالله فلا خشيةَ له من الله.
والفرق بين الخشية والرهبة أنَّ الرهبةَ خوفٌ يوجِبُ هَرَبَ صاحبه فيجري في هربه، والخشية إذا حصلت كَبَحَت جماحَ صاحبها فيبقى مع الله، فقدمت الخشية على الرهبة في الجملة.
والخوف قضية الإيمان، قال تعالى :﴿ وَخافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [ آل عمران : ١٧٥ ] فالخشية فضية العلم، والهيبة توجب المعرفة.
ويقال خشية العلماء من تقصيرهم في أداء حقِّه. ويقال من استيحائهم من اطلاع الحق.
ويقال حَذَراً من أن يحصلِ لهم سوءُ أدبٍ وتَرْكُ احترامٍ، وانبساطٌ في غير وقته بإطلاق لَفْظٍ، أو تَرَخُّصٍ بِتَرْكِ الأَوْلى.

قوله جل ذكره :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ﴾.
الذين يستغرق جميعَ أوقاتِهم قيامُهم بذكر الله وبحقِّه، وإتيانُهم بأنواع العبادات وصنوف القُرَبِ فَلَهم القَدْرُ الأجَلُّ من التقريب، والنصيبُ الأوفر من الترحيب. وأما الذين أحوالهم بالضدِّ فَمَنَالُهم على العكس. أُولئك هم الأَولياءُ الأعِزَّةُ، وهؤلاء هم الأعداءُ الأذِلَّة.
قوله جل ذكره :﴿ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾.
ما عَرًَّفْنَاك - من اختيارنا لك وتخصيصنا إياك، وتقديمنا لك على الكافة- فعلى ما أخبرناك، وأنشدوا :
لا أبتغي بَدَلاً سواكِ خليلةً فَثِقِي بقولي والكِرَامُ ثِقَاتُ
قوله جل ذكره :﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴾.
﴿ أَوْرَثْنَا ﴾ : أي أعطينا الكتاب - أي القرآن - الذين اصطفينا من عبادنا، وذكر الإعطاءَ بلفظِ الإِرثِ توسُّعاً.
﴿ اصْطفَيْنَا ﴾ : أي اخترنا. ثم ذكر أقسامَهم، وفي الخبر أنه لمَّا نزلت هذه الآية قال عليه السلام :" أمتي وربِّ الكعبة " ثلاث مرات.
وفي الآية وجوهٌ من الإشارة : فمنها أنه لمَّا ذكر هذا بلفظ الميراثِ فالميراثُ يقتضى صحة النَّسَبِ على وجهٍ مخصوص، فَمَنْ لا سبَبَ له فلا نَسَبَ له، ولا ميراثَ له.
ومحلُّ النَّسبِ ها هنا المعرفة، ومحلُّ السبب الطاعة. وإن قيل محلُّ النَّسبِ فَضْلُه، ومحل السبب فِعْلُك ؛ فهو وَجْهٌ. ويصحُّ أن يقال محلُّ النسبِ اختياره لك بدءاً ومحلُّ السببِ إحسانُه لك تالياً.
ويقال أهلُ النسب على أقسام :- الأقوى، والأدنى كذلك في الاستحقاق.
ويقال جميع وجوه التملُّك لا بُدَّ فيها من فعْل للعبد كالبيع، أَمَّا ما يُمْلَك ُ بالهِبَةَ فلا يحصل إلا بالقبول والقسمة، ولا يحصل الاستحقاق إلا بالحضور والمجاهدة وغير ذلك. والوصية لا تُسْتَحقُّ إلا بالقبول، وفي الزكاة لا بُدَّ من قبول أهل السُّهْمَانِ، والميراث لا يكون فيه شيء من جهة الوارث وفعله، والنَّسبُ ليس من جملة أفعاله.
ويقال الميراث يُسْتَحقُّ بوجهين : بالفرض والتعصيب، والتعصيبُ أقوى من الفرض ؛ لأنه قد يستحق به جميع المال، ثم الميراث يبدأ بذوي الفروض ثم ما يتبقى فللعَصَبَةِ.
﴿ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقُ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ : تكلموا في الظالم، فمنهم من قال هو الأَفضل، وأرادوا به من ظَلَمَ نَفْسَه لكثرة ما حَمَّلَها من الطاعة.
والأَكثرون : إنَّ السابقَ هو الأفضل، وقالوا : التقديم في الذكر لا يقتضي التقديم في الرتبة، ولهذا نظائر كثيرة.
ويقال قَرَنَ باسم الظالم قرينةً وهي قوله :" لنفس "، وقرن باسم السابق قرينةً وهي قوله :﴿ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ ؛ فالظالمُ كانت له زَلَّة، والسابق كانت له صولة، فالظالم رَفَعَ زلَّتَه بقوله : لنفسه، والسابق كَسَرَ صولتَه بقوله : بإذن الله.
كأنه قال : يا ظالمُ ارفعْ رأسَك، ظَلَمْتَ ولكن على نفسك، ويا سابقُ اخفض رأسَك ؛ سَبَقْتَ - ولكن بإذن الله.
ويقال إنَّ العزيزَ إذا رأى ظالماً قَصَمَه، والكريمَ إذا رأى مظلوماً أَخَذَ بيده، كأنه قال : يا ظالم، إِنْ كان كونُكَ ظالماً يوجِبُ قَهْرَك، فكوْنُكَ مظلوماً يوجِبُ الأخذَ بيدك.
ويقال الظالمُ مَنْ غَلَبَتْ زَلاَّتُه، والمقتصدُ مَنْ استوت حالاته، والسابقُ مَنْ زادت حسناته.
ويقال الظالمُ مَنْ زهد في دنياه، والمقتصدُ مَنْ رغب في عقباه، والسابقُ مَنْ آثر على الدارين مولاه.
ويقال الظالمُ مَنْ نَجَمَ كوكبُ عقله، والمقتصدُ مَنْ طَلَعَ بَدْرُ عِلْمه، والسابقُ من ذَرَّتَ شمسُ معرفته.
ويقال الظالمُ مَنْ طَلَبَه، والمقتصدُ مَنْ وَجَدَه، والسابق مَنْ بقي معه.
ويقال الظالِمُ مَنْ تَرَكَ المعصية، والمقتصد مَنْ تَرَكَ الغفلة، والسابق مَنْ تَرَك العلاقة.
ويقال الظالمُ مَنْ جاد بمالِه، والمقتصد مَنْ لم يبخلْ بِنفْسِه، والسابق مَنْ جاد بروحه.
ويقال الظالمُ مَنْ له علم اليقين، والمقتصد مَنْ له عين اليقين، والسابق مَنْ له حق اليقين.
ويقال الظلم صاحب المودة، والمقتصد الخلّة، والسابق صاحب المحبة.
ويقال الظالم يترك الحرام، والمقتصد يترك الشُّبهة، والسابق يترك الفضل في الجملة.
ويقال الظالمُ صاحبُ سخاء، والمقتصد صاحب جود، والسابق صاحب إيثار.
ويقال الظالم صاحب رجاء، والمقتصدُ صاحبُ بَسْط، والسابق صاحب أُنْس.
ويقال الظالم صاحب خوف، والمقتصد صاحب خشية، والسابق صاحب هيبة.
ويقال الظالم له المغفرة، والمقتصد له الرحمة والرضوان، والسابق له القربة والمحبة.
ويقال الظالم صاحب الدنيا، والمقتصد طالب العُقْبى، والسابق طالب المولى.
ويقال الظالم طالب النجاة، والمقتصد طالب الدرجات، والسابق صاحب المناجاة.
ويقال الظالم أَمِنَ من العقوبة، والمقتصد فاز بالمثوبة، والسابق متحقق بالقربة.
ويقال الظالم مضروبٌ بسَوْطِ الحِرْصِ، مقتولٌ بسيف الرغبة، مضطجع على باب الحسرة. والمقتصدُ مضروبٌ بسوط الندامة، مقتولٌ بسيف الأسف، مضطجع على باب الجود.
والسابقُ مضروبٌ بسوط التواجد، مقتول بسيف المحبة، مُضْطَجِعٌ على باب الاشتياق.
ويقال الظالم صاحب التوكل، والمقتصد صاحب التسليم، والسابق صاحب التفويض.
ويقال الظالم صاحب تواجد، والمقتصد صاحب وَجْد، والسابق صاحب وجود.
ويقال الظالم صاحبُ المحاضرة، والمقتصد صاحب المكاشفة، والسابق صاحب المشاهدة.
ويقال الظالم يراه في الآخرة بمقدار أيام الدنيا في كل جمعة مرةَ، والمقتصد يراه في كل يوم مرةً، والسابق غر محجوبٍ عنه ألبتةَ.
ويقال الظالم مجذوبٌ إلى فِعْلِه الذي هو فضله، والمقتصد مكاشَفٌ بوصفه الذي هو عِزُّه، والسابقُ المستهلَكُ في حقِّه الذي هو وُجُودُه.
قوله :﴿ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴾ لأنه ذكر الظالم مع السابق.
قوله جل ذكره :﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ﴾.
نَبّهَ على أن دخولهم الجنة لا باستحقاقٍ بل بفضله، وليس في الفضل تمييز.
قوله جل ذكره :﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ﴾.
تحققوا بحقائق الرضا، والحَزَنُ سُمِّي حَزَناً لُحزُونةِ الوقتِ على صاحبه وليس في الجنة حزونة وإنما هو رضاً واستبشار.
ويقال ذلك الحزن حزن خوف العاقبة. ويقال هو دوام المراعاة خشية أن يحصل سوءُ الأدب. ويقال هو سياسة النفس.
﴿ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ ﴾ للعصاة، ﴿ شَكُورٌ ﴾ للمطيعين. قَدَّمَ ما للعاصين رفقاً بهم لضعف أحوالهم.
قوله جل ذكره :﴿ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ﴾.
﴿ دَارَ الْمُقَامَةِ ﴾ : أي دار الإقامة، لا يبغون عنها حولا، ولا يتمنون منها خروجاً.
﴿ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ﴾ : إذا أرادوا أن يَرَوْا مولاهم لا يحتاجون إلى قَطْع مسافةٍ، بل غُرَفِهم يلقون فيها تحيةً وسلاماً، فإذا رأوه لم يحتاجوا إلى تقليب حدقةٍ أَو تحديق مقلة في جهة ؛ يَرَوْنه كما هُمْ بلا كيفية.
قوله جل ذكره :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ﴾.
لا حياة يَتَمَتَّعُون بها، ولا موتَ يستريحون به، وهم مقيمون في العذاب والحجاب، لا يفتر عنهم العذاب، وتُرْفَعُ عنهم العقوبة.
قوله جل ذكره :﴿ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ﴾.
يقولون :﴿ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ﴾، فيقال لهم أو لم نعمركم. . . ؟
أَمَا جاءكم النذيرُ قبل أن تبلغوا زمان المشيب ؟
ويقال : ألم تستوفوا مدة الإمهال في النظر ؟
﴿ وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ ﴾ : الرسل، ويقال ضعف الشيخوخة، ويقال سقوط السِّنِّ، ويقال تَقَوُّسُ الظَّهْر.
قوله جل ذكره :﴿ إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾.
أي عالِم بإخلاص المخلصين، وصدق الصادقين، ونفاق المنافقين، وجَحْدِ الكافرين.
عالِمٌ بِمَنْ يريد بالناس السوءَ وبمَنْ يُحْسِنُ باللَّهِ الظنَّ.
قوله جل ذكره :﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا ﴾.
أهلُ كلِّ عصرٍ خليفٌ عَمَن تقدمهم ؛ فَمٍنْ قومٍ هم لِسَلَفِهم حَمَال، ومِنْ قوم أراذل وأنذال ؛ فالأفاضلُ زمانهم لهم محنة، والأراذل هم لزمانهم محنة. وقد قالوا :
يومٌ وحَسْبُ الدهرِ من أَجْلِه حَيَّا غدٌ والْتَفَتَ الأمسُ
قوله جل ذكره :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورً ﴾.
كَرّرَ إشهادَهم عَجْزَ أصنامهم، ونَقْصَ مَنْ اتخذوهم آلهة من أوثانهم ؛ ليُسَفِّهَ بذلك آراءَهم، وليُنَبِّهَهُم إلى ذميم أحوالِهم وأفعالِهم، وخِسَّةِ هِمَمِهم، ونُقْصانِ عقولهم.
ثم أخبر أنهم لا يأتون بشيءٍ مما به يُطَالَبُونَ، وليس لهم صواب عمَّا يُسْأَلُون.
قوله جل ذكره :﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾.
أمسكها بقدرته، وأتقنهما بحكمته، ورتَّبهما بمشيئته، وخلَقَ أهلَهما على موجب قضيته، فلا شبيهَ في أبقائهما وإفنائهما يُسَاهِمُه، ولا شريكَ في وجودِهما ونظامهما يُقَاسمُه.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً اسْتِكْبَاراً فِى الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ ﴾.
ليس لقولهم تحقيق، ولا لِعَهدْهِم وضمانهم توثيق، وما يَعِدُون من أَنفسهم فصريحُ زُورٍ، وما يُوهِمُون مِنْ وفائهم فَصِرْفُ تغريرٍ. . وكذلك المريدُ في أوان نشاطه تُمَنِّيه نَفْسُه فتظاهر أمام مَنْ تقدِّمه حالاً بأنه عاهد الله، وأنه أَكَّدَ عقده مع الله. . فإذا عَضتْه شهوتُه، وأراد الشيطانُ أن يكذبه صَرَعَه بكيده، وأركسه في هوة غَيِّه، ومُنْيَةِ نَفْسِه ؛ فيسودُّ وَجْهُه، وتذهب عند اللَّهِ وجاهتُه.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٢:قوله جلّ ذكره :﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً اسْتِكْبَاراً فِى الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ ﴾.
ليس لقولهم تحقيق، ولا لِعَهدْهِم وضمانهم توثيق، وما يَعِدُون من أَنفسهم فصريحُ زُورٍ، وما يُوهِمُون مِنْ وفائهم فَصِرْفُ تغريرٍ.. وكذلك المريدُ في أوان نشاطه تُمَنِّيه نَفْسُه فتظاهر أمام مَنْ تقدِّمه حالاً بأنه عاهد الله، وأنه أَكَّدَ عقده مع الله.. فإذا عَضتْه شهوتُه، وأراد الشيطانُ أن يكذبه صَرَعَه بكيده، وأركسه في هوة غَيِّه، ومُنْيَةِ نَفْسِه ؛ فيسودُّ وَجْهُه، وتذهب عند اللَّهِ وجاهتُه.

قوله جل ذكره :﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ﴾.
في الجملة ما خاب له وليٌّ، وما ربح له عدوٌّ، ولا ينال الحقيقةَ مَنْ انعكس قَصْدُه، بل يرتدُّ عليه كَيْدُه ؛ وهو سبحانه يُدَمِّر عل أعدائه تدميراً ويوسع لأوليائه فضلاً كبيراً.
قوله جل ذكره :﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ﴾.
لو عَجَّلَ لهم ما يستوجبونه من الثواب والعقاب لم تَفِ أعمارُهم القليلةُ به، وما اتسعت أيامُهم القصيرة له، فأَخَّرَ ذلك ليومِ الحَشْرِ. . . فإِنَّه طويلٌ. واللَّهُ على كل شيءٍ قديرٌ، وبأمورِ عبادِه خبيرٌ بصير.
Icon