تفسير سورة النبأ

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة النبأ من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
وتسمى سورة النبأ مكية وهي أربعون أو إحدى وأربعون آية ومائة وثلاثة وسبعون كلمة وسبعمائة وسبعون حرفاً.
﴿ بسم الله ﴾ الذي له الملك كله ﴿ الرحمن ﴾ الذي عم الوجود بفضله ﴿ الرحيم ﴾ الذي تمحضت أولياؤه جنته.

وقوله تعالى :﴿ عم ﴾ أصله عن ما على أنه حرف جر دخل على ما الاستفهامية وأدغمت النون في الميم وحذفت ألف ما، كقوله فيم واستعمال الأصل قليل. ومنه قول حسان :
على ما قام يشتمني لئيم كخنزير تمرّغ في رماد
ومعنى هذا الاستفهام تفخيم الشأن كأنه قال عن أي شيء ﴿ يتساءلون ﴾، ونحوه قولك : زيد ما زيد جعلته لانقطاع قرينه وعدم نظيره كأنه شيء خفي عليك، فأنت تسأل عن جنسه وتفحص عن جوهره كما تقول : ما الغول، وما العنقاء تريد أي شيء هو من الأشياء هذا أصله، ثم جرد للعبارة عن التفخيم حتى وقع في كلام من لا تخفى عليه خافية، ولذا لما وقف البزي ألحق الميم هاء السكت بخلاف عنه، والضمير في يتساءلون لأهل مكة، كانوا يتساءلون عن البعث فيما بينهم. وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما دعاهم إلى التوحيد وأخبرهم بالبعث بعد الموت وتلا عليهم القرآن جعلوا يتساءلون بينهم فيقولون : ماذا جاء به محمد، ويسألون الرسول والمؤمنين عنه استهزاء، وقيل : الضمير للمسلمين والكافرين جميعاً وكانوا جميعاً يتساءلون عنه، أما المسلم فليزداد خشية واستعداداً، وأما الكافر فليزداد استهزاء.
ثم ذكر أن تساؤلهم عماذا ؟ فقال تعالى :﴿ عن النبأ العظيم ﴾ قال مجاهد والأكثرون : هو القرآن، دليله قوله تعالى :﴿ قل هو نبأ عظيم ﴾ [ ص : ٦٧ ] وقال قتادة : هو البعث.
فإن قيل : إذا كان الضمير يرجع للكافر، فكيف يكون قوله تعالى :﴿ الذي هم ﴾ أي : بضمائرهم مع ادعائهم أنها أقوى الضمائر ﴿ فيه مختلفون ﴾ مع أنّ الكفار كانوا متفقين على إنكار البعث ؟ أجيب : بأنا لا نسلم اتفاقهم على ذلك بل كان فيهم من يثبت المعاد الروحاني وهم جمهور النصارى، وأما المعاد الجسماني فمنهم من يقطع القول بإنكاره ومنهم من يشك، وأما إذا كان المتسائل عنه القرآن فقد اختلفوا فيه كثيراً وقيل : المتسائل عنه نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى :﴿ كلا ﴾ ردع للمتسائلين هزؤاً، ﴿ سيعلمون ﴾ ما يحل بهم على إنكارهم له.
وقوله تعالى :﴿ ثم كلا سيعلمون ﴾ تأكيد وجيء فيه بثم للإيذان بأن الوعيد الثاني أشدّ من الأول. وقال الضحاك : الأولى للكفار والثانية للمؤمنين، أي : سيعلم الكافرون عاقبة تكذيبهم وسيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم.
ثم أومأ تعالى إلى القدرة على البعث بقوله تعالى :﴿ ألم نجعل ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ الأرض مهاداً ﴾ أي : فراشاً كالمهد للصبيّ وهو ما يمهد له فينوّم عليه تسمية للممهود بالمصدر كضرب الأمير.
﴿ والجبال ﴾ أي : التي تعرفون شدّتها وعظمها. ﴿ أوتاداً ﴾ أي : تثبت بها الأرض كما تثبت الخيام بالأوتاد، والاستفهام للتقرير، فيستدل بذلك على قدرته على جميع الممكنات. وإذا ثبت ذلك ثبت القول بصحة البعث، وإنه قادر على تخريب الدنيا بسماواتها وكواكبها وأرضها وعلى إيجاد عالم الآخرة.
تنبيه : مهاداً مفعول ثان لأنّ الجعل بمعنى التصيير، ويجوز أن يكون بمعنى الخلق فتكون حالاً مقدّرة.
﴿ وخلقناكم ﴾ أي : بما دل على ذلك من مظاهر العظمة ﴿ أزواجاً ﴾ أي : أصنافاً ذكوراً وإناثاً وقيل : ألواناً.
﴿ وجعلنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ نومكم سباتاً ﴾ أي : راحة لأبدانكم. قال الزجاج : السبات أن ينقطع عن الحركة والروح فيه. وقيل : معناه جعلنا نومكم قطعاً لأعمالكم وقيل : المسبوت الميت من السبت وهو القطع لأنه مقطوع عن الحركة والنوم أحد التوفيتين.
وقوله تعالى :﴿ وجعلنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ الليل ﴾ أي : بعد ذهاب الضياء حتى كأنه لم يكن ﴿ لباساً ﴾ فيه استعارة أي : يستركم عن العيون بظلمته كما إذا أردتم هرباً من عدوّ أو بياتاً له أو إخفاء ما لا تحبون الاطلاع عليه من كثير من الأمور. قال الشاعر :
وكم لظلام الليل عندي من يد تخبر أنّ المانوية تكذب
ولما جعل النوم موتاً جعل اليقظة معاشاً فقال تعالى :﴿ وجعلنا ﴾ أي : بما لنا من القدرة التامّة ﴿ النهار ﴾ أي : الذي آيته الشمس ﴿ معاشاً ﴾ أي : حياة تبعثون فيه عن نومكم، أو وقت معاش تتقلبون فيه في حوائجكم ومكاسبكم لتحصيل ما تعيشون به فمعاشاً على هذا اسم زمان.
﴿ وبنينا ﴾ بما لنا من الملك التامّ ﴿ فوقكم سبعاً ﴾ أي : سبع سماوات وقوله تعالى :﴿ شداداً ﴾ جمع شديدة أي : قوية محكمة لا يؤثر فيها مرور الزمان لا فطور فيها ولا فروج. ونظيره قوله تعالى :﴿ وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً ﴾ [ الأنبياء : ٣٢ ].
﴿ وجعلنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة مما لا يقدر عليه غيرنا ﴿ سراجاً ﴾ أي : منيراً متلألئاً ﴿ وهاجاً ﴾ أي : وقاداً وهي الشمس.
﴿ وأنزلنا ﴾ أي : بما لنا من كمال الأوصاف ﴿ من المعصرات ﴾ أي : السحاب إذا أعصرت أي : شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر، كقولك : أجز الزرع أي : حان أن يجز، وأعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض.
وعن الحسن وقتادة : هي السماوات، وتأويله أنّ الماء ينزل من السماء إلى السحاب فكأنّ السماوات عصرن. وقيل : من الرياح التي حان لها أن تعصر السحاب. وقيل : الرياح ذوات الأعاصير، وإنما جعلت مبدأ للإنزال لأنها تنشئ السحاب وتدرّ أخلافه. ﴿ ماء ثجاجاً ﴾ أي : منصباً بكثرة يقال : ثجه وثج بنفسه. وفي الحديث :«أفضل الحج العج والثج » أي : رفع الصوت بالتلبية وصب دماء الهدي، وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مثجاً يسيل غرباً، يعني : يثج الكلام ثجاً في خطبته.
﴿ لنخرج ﴾ أي : بعظمتنا التي ربطنا بها المسببات بالأسباب ﴿ به ﴾ أي : بذلك الماء ﴿ حباً ﴾ أي : نجماً ذا حب مما يتقوّت به كالحنطة والشعير والأرز ﴿ ونباتاً ﴾ أي : ما يعتلف به كالتبن والحشيش، كما قال تعالى :﴿ كلوا وارعوا أنعامكم ﴾ [ طه : ٥٤ ] ﴿ والحب ذو العصف والريحان ﴾ [ الرحمن : ١٢ ].
﴿ وجنات ﴾ أي : بساتين تجمع أنواع الأشجار والنبات المقتات وغيره ﴿ ألفافاً ﴾ أي : ملتفة بالشجر جمع لفيف كشريف وأشراف. وقيل : هو جمع الجمع، يقال : جنة لفاء وجمعها لف بضم اللام وجمع الجمع ألفاف. وقيل : لا واحد له كالأوزاع والأخياف. وقيل : الواحد لف. قال صحاب الإقليد أنشدني الحسن بن علي الطوسي :
جنة لف وعيش مغدق *** وندامى كلهم بيض زهر
وقال الزمخشري : ولو قيل : هو جمع ملتفة بتقدير حذف الزوائد لكان قولاً وجيهاً.
﴿ إن يوم الفصل ﴾ أي : بين الخلائق ﴿ كان ﴾ أي : في علم الله تعالى وفي حكمه كوناً لا بدّ منه ﴿ ميقاتاً ﴾ أي : وقتاً للثواب والعقاب، أو وقتاً توقت به الدنيا وتنتهي عنده مع ما فيها من الخلائق.
وقوله تعالى :﴿ يوم ينفخ في الصور ﴾ أي : القرن بدل من يوم الفصل أو بيان له، والنافخ إسرافيل عليه السلام أو من أذن الله تعالى له في ذلك ﴿ فتأتون ﴾ أي : بعد القيام من القبور إلى الموقف ﴿ أفواجاً ﴾ أي : جماعات مختلفة.
وعن معاذ أنه سأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :«يا معاذ سألت عن أمر عظيم من الأمور ثم أرسل عينيه باكياً، وقال : تحشر عشرة أصناف من أمّتي، بعضهم على صورة القردة، وبعضهم على صورة الخنازير، وبعضهم منكسون أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها، وبعضهم عمياً، وبعضهم صماً بكماً، وبعضهم يمضغون ألسنتهم فهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم، يتقذرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلبون على جذوع من نار، وبعضهم أشد نتناً من الجيف، وبعضهم ملبسون جباباً سابغة من قطران لازقة بجلودهم.
ثم فسر هؤلاء بقوله : فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس يعني : النمام، وأما الذين على صورة الخنازير فأهل السحت، وأما المنكبون على وجوههم فأكلة الربا، وأما العمي فالذين يجورون في الحكم، وأما الصم البكم فالمعجبون بأعمالهم، وأما الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين خالف قولهم فعلهم، وأما الذين قطعت أيديهم وأرجلهم فهم الذين يؤذون الجيران، وأما المصلبون على جذوع من نار فالسعاة بالناس إلى السلطان، وأما الذين أشدّ نتناً من الجيف فالذين يتبعون الشهوات واللذات ويمنعون حق الله تعالى في أموالهم، وأما الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والفخر والخيلاء » ا. ه. وقد تكلم في صحة هذا الحديث نعوذ بالله تعالى من هؤلاء ونسأله التوفيق لنا ولأحبابنا، فإنه كريم جواد لا يردّ من سأله.
﴿ وفتحت السماء ﴾ أي : شققت لنزول الملائكة ﴿ فكانت أبواباً ﴾ فإن قيل : هذه الآية تقتضي أنّ السماء بجملتها تصير أبواباً ؟ أجيب : بوجوه أوّلها : أنّ تلك الأبواب لما كثرت صارت كأنها ليست إلا أبواباً مفتحة، كقوله تعالى :﴿ وفجرنا الأرض عيوناً ﴾ [ القمر : ١٢ ] كأنّ كلها عيون تتفجر.
ثانيها : أنه على حذف مضاف، أي : فكانت ذات أبواب. ثالثها : أن الضمير في قوله تعالى :﴿ فكانت أبواباً ﴾ يعود إلى مضمر، والتقدير فكانت تلك المواضع المفتوحة أبواباً، وقيل : الأبواب الطرق والمسالك أي : تكشط فينفتح مكانها وتصير طرقاً لا يسدها شيء، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف التاء بعد الفاء والباقون بتشديدها.
﴿ وسيرت الجبال ﴾ أي : ذهب بها عن أماكنها ﴿ فكانت سراباً ﴾ أي : لا شيء كما أنّ السراب كذلك يظنه الرائي ماء وليس بماء، قال الرازي : إنّ الله تعالى ذكر أحوال الجبال بوجوه مختلفة ويمكن الجمع بينها بأن نقول أول أحوالها الاندكاك وهو قوله تعالى :﴿ وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة ﴾ [ الحاقة : ١٤ ] والحالة الثانية : أن تصير كالعهن المنفوش وهو قوله تعالى :﴿ وتكون الجبال كالعهن المنفوش ﴾ [ القارعة : ٥ ] والحالة الثالثة : أن تصير كالهباء وهو قوله تعالى :﴿ وبست الجبال بساً ٥ فكانت هباء منبثاً ﴾ [ الواقعة : ٥ ٦ ] الحالة الرابعة : أن تنسف لأنها مع الأحوال المتقدّمة قارة في مواضعها فترسل عليها الرياح فتنسفها عن وجه الأرض، فتطيرها في الهواء وهو قوله تعالى :﴿ ويسألونك عن الجبال قل ينسفها ربي نسفاً ﴾ [ طه : ١٠٥ ]
الحالة الخامسة : أن تصير سراباً أي : لا شيء كما يرى السراب من بعد. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائيّ بإدغام تاء التأنيث في السين والباقون بالإظهار.
﴿ إنّ جهنم ﴾ أي : النار التي تلقى أصحابها متجهمة لهم بغاية ما يكرهون ﴿ كانت مرصاداً ﴾ أي : ترصد الكفار أو موضع رصد يرصد فيه خزنة النار الكفار أو خزنة الجنة المؤمنين ليحرسوهم من فيحها في مرورهم عليها، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّ على جسر جهنم سبع محابس يسأل العبد عند أوّلها عن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن جاء بها تامّة جاز إلى الثاني فيسأل عن الصلاة، فإن جاء بها تامّة جاز إلى الثالث فيسأل عن الزكاة فإن جاء بها تامة جاز إلى الرابع فيسأل عن الصوم، فإن جاء به تاماً جاز إلى الخامس فيسأل عن الحج فإن جاء به تاماً جاز إلى السادس فيسأل عن العمرة، فإن جاء بها تامة جاز إلى السابع فيسأل عن المظالم، فإن خرج منها وإلا فيقال : انظروا إن كان له تطوّع أكملوا أعماله، فإذا فرغ انطلق به إلى الجنة.
وأما الكافر فهو مستمرّ فيها كما قال تعالى :﴿ للطاغين ﴾ أي : الكافرين ﴿ مآبا ﴾ أي : مرجعاً يرجعون إليه.
وقرأ حمزة ﴿ لابثين فيها ﴾ بغير ألف بين اللام والباء الموحدة والباقون بألف وهما لغتان والأولى أبلغ قاله البيضاوي.
وقوله تعالى :﴿ أحقاباً ﴾ جمع حقب والحقب الواحد ثمانون سنة، كل سنة اثنا عشر شهراً كل شهر ثلاثون يوماً كل يوم ألف سنة، روي ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال مجاهد : الأحقاب ثلاثة وأربعون حقباً. وقال الحسن : إنّ الله تعالى لم يجعل لأهل النار مدّة بل قال :﴿ لابثين فيها أحقاباً ﴾ فوالله ما هو إلا أنه إذا مضى حقب دخل آخر إلى الأبد، فليس للأحقاب عدّة إلا الخلود، روي عن عبد الله أنه قال : لو علم أهل النار أنهم يلبثون في النار عدد حصى الدنيا لفرحوا و لو علم أهل الجنة أنهم يلبثون في الجنة عدد حصى الدنيا لحزنوا. وقال مقاتل بن حبان : الحقب الواحد سبعة عشر ألف سنة. قال : وهذه الآية منسوخة نسختها ﴿ فلن نزيدكم إلا عذاباً ﴾ [ النبأ : ٣٠ ] يعني : أنّ العدد قد ارتفع والخلود قد دخل وعلى تقدير عدم النسخ فهو من قبيل المفهوم فلا يعارض المنطوق الدال على خلود الكفار، ويجوز أن يراد ﴿ لابثين فيها أحقاباً ﴾.
﴿ لا يذقون ﴾ أي : غير ذائقين ﴿ فيها ﴾ أي : النار ﴿ برداً ولا شراباً إلا حميماً وغساقاً ﴾ ثم يبدّلون بعد الأحقاب غير الحميم والغساق من جنس آخر من العذاب، ويجوز أن يكون جمع حقب من حقب عامنا إذا قل مطره وخيره، وحقب فلان إذا أخطأ الرزق فهو حقب وجمعه أحقاب فيتنصب حالاً عنهم يعني : لابثين فيها حقبين جهدين، وقوله تعالى :﴿ لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً ﴾ تفسير له والاستثناء منقطع يعني : لا يذوقون فيها برداً. قال عطاء والحسن : أي : راحة وروحاً، أي : ينفس عنهم حرّ النار ولا شراباً يسكن من عطشهم ولكن يذوقون فيها حميماً أي : ماء حارًّا غاية الحرارة وغساقاً وهو ما يسيل من صديد أهل النار فإنهم يذوقونه وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّ البرد النوم ومثله، قال الكسائي وأبو عبيدة : تقول العرب منع البرد البرد أي : أذهب البرد النوم، قال الشاعر :
فلو شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخاً ولا بردا
وقرأ حمزة والكسائيّ وجعفر بتشديد السين والباقون بتخفيفها. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الغساق الزمهرير يحرقهم ببرده.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٤:﴿ لا يذقون ﴾ أي : غير ذائقين ﴿ فيها ﴾ أي : النار ﴿ برداً ولا شراباً إلا حميماً وغساقاً ﴾ ثم يبدّلون بعد الأحقاب غير الحميم والغساق من جنس آخر من العذاب، ويجوز أن يكون جمع حقب من حقب عامنا إذا قل مطره وخيره، وحقب فلان إذا أخطأ الرزق فهو حقب وجمعه أحقاب فيتنصب حالاً عنهم يعني : لابثين فيها حقبين جهدين، وقوله تعالى :﴿ لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً ﴾ تفسير له والاستثناء منقطع يعني : لا يذوقون فيها برداً. قال عطاء والحسن : أي : راحة وروحاً، أي : ينفس عنهم حرّ النار ولا شراباً يسكن من عطشهم ولكن يذوقون فيها حميماً أي : ماء حارًّا غاية الحرارة وغساقاً وهو ما يسيل من صديد أهل النار فإنهم يذوقونه وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّ البرد النوم ومثله، قال الكسائي وأبو عبيدة : تقول العرب منع البرد البرد أي : أذهب البرد النوم، قال الشاعر :
فلو شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخاً ولا بردا
وقرأ حمزة والكسائيّ وجعفر بتشديد السين والباقون بتخفيفها. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الغساق الزمهرير يحرقهم ببرده.

جوزوا بذلك ﴿ جزاء وفاقاً ﴾ أي : موافقاً لعملهم قال مقاتل : وافق العذاب الذنب فلا ذنب أعظم من الكفر ولا عذاب أعظم من النار.
وقوله تعالى :﴿ إنهم كانوا لا يرجون حساباً ﴾ بيان لما وافقه هذا الجزاء أي : لا يخافون أن يحاسبوا. والمعنى : أنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث ولا أنهم يحاسبون.
﴿ وكذبوا بآياتنا ﴾ أي : بما جاءت به الأنبياء عليهم السلام، وقيل : القرآن وقرأ ﴿ كذاباً ﴾ غير الكسائيّ بالتشديد أي : تكذيباً، قال الفراء : وهي لغة يمانية فصيحة يقولون في مصدر التفعيل فعال. وقال الزمخشري : وفعال في باب فعل كله فاش في كلام فصحاء من العرب لا يقولون غيره، وسمعني بعضهم أفسر آية فقال : لقد فسرتها فساراً ما سمع بمثله. وقرأ الكسائيّ بالتخفيف مصدر كذب بدليل قول الشاعر :
فصدقته وكذبتها *** والمرء ينفعه كذابه
قال الزمخشري : وهو مثل قوله :﴿ أنبتكم من الأرض نباتاً ﴾ [ نوح : ١٧ ] يعني : وكذبوا بآياتنا فكذبوا كذاباً، أو تنصبه بكذبوا لأنه يتضمن معنى كذبوا ؛ لأنه كل مكذب بالحق كاذب، وإن جعلته بمعنى المكاذبة فمعناه وكذبوا بآياتنا فكاذبوا مكاذبة، أو كذبوا بها مكاذبين لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين وكان المسلمون عندهم كاذبين فبينهم مكاذبة، أو لأنهم يتكلمون بما هو إفراط في الكذب فعل من يغالب في أمر فبلغ فيه أقصى جهده.
﴿ وكل شيء ﴾ أي : من الأعمال وغيرها ﴿ أحصيناه ﴾ أي : ضبطناه، وقوله تعالى :﴿ كتاباً ﴾ فيه وجهان أحدهما : أنه مصدر في موضع إحصاء والإحصاء والكتب يتشاركان في معنى الضبط، ثانيهما : أن يكون حالاً بمعنى مكتوباً في اللوح المحفوظ كقوله تعالى :﴿ وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ﴾ [ يس : ١٢ ]. وقيل : أراد ما تكتبه الملائكة الموكلون بالعباد بأمر الله تعالى إياهم بالكتابة لقوله تعالى :﴿ وإن عليكم لحافظين ١٠ كراماً كاتبين ﴾ [ الانفطار : ١٠ ١١ ] والجملة اعتراض.
وقوله تعالى :﴿ فذوقوا فلن نزيدكم ﴾ أي : شيئاً من الأشياء في وقت من الأوقات ﴿ إلا عذاباً ﴾ تسبب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات، قال الرازي : وفي هذه الآية مبالغات منها لن للتأكيد ومنها الالتفات، ومنها إعادة قوله تعالى :﴿ فذوقوا ﴾ بعد ذكر العذاب، قال أبو بردة : سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن أشدّ آية في القرآن ؟ فقال صلى الله عليه وسلم :«قوله تعالى :﴿ فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً ﴾ » أي :﴿ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب ﴾ [ النساء : ٥٦ ] و﴿ كلما خبت زدناهم سعيراً ﴾ [ الإسراء : ٩٧ ]. .
ولما ذكر تعالى ما للكافرين أتبعه بذكر ما للمؤمنين فقال تعالى :﴿ إنّ للمتقين مفازاً ﴾ أي : مكان فوز في الجنة.
وقوله تعالى :﴿ حدائق ﴾ أي : بساتين فيها أنواع الأشجار المثمرة بدل من مفازاً بدل الاشتمال أو البعض أو بيان له وقوله تعالى :﴿ وأعناباً ﴾ أي : كروماً عطف على مفازاً.
﴿ وكواعب ﴾ أي : جواري تكعب ثديهنّ جمع كاعب ﴿ أتراباً ﴾ أي : على سنّ واحد جمع ترب بكسر التاء وسكون الراء وقيل : الأتراب اللدات.
﴿ وكأساً دهاقاً ﴾ أي : خمراً مالئة محالها وفي القتال ﴿ وأنهار من خمر ﴾ والدهاق المترعة ودهق الحوض ملأه حتى قال : قطني، وقال ابن عباس : مترعة مملوءة. وقال عكرمة : صافية.
﴿ لا يسمعون فيها ﴾ أي : الجنة في وقت ما عند شرب الخمر وغيره من الأحوال ﴿ لغواً ﴾ أي : لغطاً يستحق أن يلغى بأن يكون ليس له معنى، وقوله تعالى :﴿ ولا كذاباً ﴾ قرأه بالتخفيف الكسائي وبالتشديد الباقون، أي : تكذيباً من واحد لغيره بخلاف ما يقع في الدنيا عند شرب الخمر.
﴿ جزاء من ربك ﴾ أي : المحسن إليك بما أعطاك جزاهم بذلك جزاء. وقوله تعالى :﴿ عطاء ﴾ بدل من جزاء وهو اسم مصدر وجعله الزمخشري منصوباً بجزاء نصب المفعول به، وردّه أبو حيان بأنه جعل جزاء مصدراً مؤكداً لمضمون الجملة التي هي ﴿ إنّ للمتقين ﴾ قال : والمصدر المؤكد لا يعمل لأنه لا ينحل لحرف مصدري والفعل ولا نعلم في ذلك خلافاً ﴿ حساباً ﴾ أي : كافياً وافياً يقال : أحسبت فلاناً أي : أعطيته ما يكفيه حتى قال حسبي. وقال ابن قتيبة أي : عطاء كثيراً، وقيل : جزاء بقدر أعمالهم.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ﴿ رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن ﴾ برفع رب والرحمن وابن عامر وعاصم بخفضهما والآخران بخفض الأول ورفع الثاني.
أما رفعهما فمن أوجه : أحدها : أن يكون رب خبر مبتدأ مضمر أي : هو رب والرحمن كذلك، أو مبتدأ خبره لا يملكون، ثانيها : أن يجعل رب مبتدأ والرحمن خبره، ولا يملكون خبراً ثانياً أو مستأنفاً، ثالثها : أن يكون ربّ مبتدأ والرحمن نعته، ولا يملكون خبر رب. رابعها : أن يكون رب مبتدأ والرحمن مبتدأ ثانٍ ولا يملكون خبره، والجملة خبر الأوّل، وحصل الربط بتكرير المبتدأ بمعناه وهو رأي الأخفش، ويجوز أن يكون لا يملكون حالاً وتكون لازمة.
وأما جرّهما فعلى البيان والنعت أو يجعل رب السماوات تابعاً للأوّل والرحمن تابعاً للثاني، وأما جرّ الأوّل فعلى التبعية للأوّل. ورفع الثاني، فعلى الابتداء والخبر الجملة الفعلية وهي لا يملكون أي : الخلق. ﴿ منه ﴾ أي : من الله تعالى ﴿ خطاباً ﴾ والضمير في لا يملكون لأهل السماوات والأرض أي : ليس في أيديهم ما يخاطب به الله، ويأمر به في أمر الثواب والعقاب خطاب واحد يتصرفون فيه تصرّف الملاك، فيزيدون فيه أو ينقصون منه أولا يملكون أن يخاطبوا بشيء من نقص العذاب أو زيادة في الثواب إلا أن يهب لهم ذلك ويأذن لهم فيه.
وقوله تعالى :﴿ يوم ﴾ متعلق بلا يملكون أو لا يتكلمون ﴿ يقوم الروح والملائكة ﴾ وقوله تعالى :﴿ صفاً ﴾ حال أي : مصطفين، والروح أعظم خلقاً من الملائكة وأشرف منهم وأقرب من رب العالمين، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هو ملك عظيم ما خلق الله تعالى بعد العرش خلقاً أعظم منه، فإذا كان يوم القيامة قام هو وحده صفاً وقامت الملائكة كلهم صفاً واحداً، فيكون عظم خلقه مثلهم، وقال الشعبي : هو جبريل عليه السلام، وقيل : ملك موكل على الأرواح.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : الروح ملك أعظم من السماوات ومن الجبال ومن الملائكة وهو في السماء الرابعة يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة يخلق من كل تسبيحة ملك يجيء يوم القيامة صفاً وحده.
وقال مجاهد وقتادة رضي الله عنهم : الروح خلق على صورة بني آدم وليسوا بناس يقومون صفاً والملائكة صفاً هؤلاء جند وهؤلاء جند. وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : خلق على صورة بني آدم وما ينزل من السماء ملك إلا معه واحد منهم، وقال الحسن رضي الله عنه : هو بنو آدم ورواه قتادة عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال : هذا ما كان يكتمه ابن عباس، وقيل : هو جند من جنود الله تعالى ليسوا ملائكة، لهم رؤوس وأيد وأرجل يأكلون الطعام. وقيل : أرواح بني آدم، وقال زيد بن أسلم : هو القرآن، وقرأ ﴿ وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ﴾ [ الشورى : ٥٢ ] وإذا كان هؤلاء ﴿ لا يتكلمون ﴾ وهم من أفضل الخلق وأشرفهم وأكثرهم طاعة وأقربهم منه تعالى لا يملكون التكلم، فما ظنك بمن عداهم من أهل السماوات والأرض، ويجوز رجوع الضمير للخلق أجمعين.
﴿ إلا من أذن له ﴾ أي : في الكلام إذناً خاصاً ﴿ الرحمن ﴾ أي : الملك الذي لا تكون النعمة إلا منه ﴿ وقال ﴾ قولاً ﴿ صواباً ﴾ في الدنيا أي : حقاً من المؤمنين والملائكة وهما شريطتان : أن يكون المتكلم مأذوناً له في الكلام، وأن يتكلم بالصواب فلا يشفع لغير مرتضى. لقوله تعالى :﴿ ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ﴾ [ الأنبياء : ٢٨ ]
وقيل : القول الصواب لا إله إلا الله.
﴿ ذلك ﴾ أي : المشار إليه لبعد مكانته وعظم رتبته وعلوّ منزلته ﴿ اليوم الحق ﴾ أي : الكائن لا محالة وهو يوم القيامة ﴿ فمن شاء اتخذ إلى ربه ﴾ أي : المحسن إليه ﴿ مآباً ﴾ أي : مرجعاً وسبيلاً لطاعته ليسلم من العذاب في ذلك اليوم، فإنّ الله تعالى جعل لهم قوة واختياراً، ولكن لا يقدر أحد منهم على مشيئة شيء إلا بمشيئة الله تعالى.
﴿ إنّا ﴾ أي : على ما لنا من العظمة ﴿ أنذرناكم ﴾ أي : يا كفار مكة ﴿ عذاباً قريباً ﴾ أي : عذاب يوم القيامة الآتي وكل آت قريب، وقوله تعالى :﴿ يوم ﴾ ظرف لعذاباً بصفته ﴿ ينظر المرء ﴾ أي : كل امرئ سواء كان مؤمناً أو كافراً نظراً لا مرية فيه ﴿ ما ﴾ أي : الذي ﴿ قدمت يداه ﴾ أي : كسبه في الدنيا من خير وشرّ، وقال الحسن رضي الله عنه : أراد بالمرء المؤمن أي : يجد لنفسه عملاً، وأما الكافر فلا يجد لنفسه عملاً فيتمنى أن يكون تراباً، ولأنه تعالى قال :﴿ ويقول الكافر ﴾ فعلم أنه أراد بالمرء المؤمن وقيل : هو الكافر لقوله تعالى :﴿ إنا أنذرناكم ﴾ فيكون الكافر ظاهراً وضع موضع الضمير لزيادة الذمّ. ومعنى ﴿ ما قدّمت يداه ﴾ من الشرّ كقوله تعالى :﴿ ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق ٩ ذلك بما قدمت يداك ﴾ [ الحج : ٩ ١٠ ] وما يجوز أن تكون استفهامية منصوبة بقدّمت أي : ينظر أي شيء قدّمت يداه أو موصولة منصوبة بينظر يقال : نظرته بمعنى نظرت إليه والراجع إلى الصلة محذوف.
وقال مقاتل رضي الله عنه : نزل قوله تعالى :﴿ يوم ينظر المرء ما قدّمت يداه ﴾ في أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي، و ﴿ ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً ﴾ في أخيه الأسود بن عبد الأسد وقال الثعلبي : سمعت أبا القاسم بن حبيب يقول : الكافر هنا إبليس، وذلك أنه عاب آدم عليه السلام بأنه خلق من تراب وافتخر بأنه خلق من نار، فإذا عاين يوم القيامة ما فيه آدم وبنوه من الثواب والراحة ورأى ما هو فيه من الشدّة والعذاب تمنى أنه كان بمكان آدم فيقول ﴿ يا ليتني كنت تراباً ﴾. قال : ورأيته في بعض التفاسير.
قال البغويّ : قال أبو هريرة رضي الله عنه فيقول التراب : لا ولا كرامة لكل من جعلك مثلي. وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : يحشر الخلق كلهم من دابة وطائر وإنسان ثم يقال للبهائم والطير : كونوا تراباً، فعند ذلك يقول الكافر ﴿ يا ليتني كنت تراباً ﴾ أي : فلا أعذب وقيل : معنى ﴿ يا ليتني كنت تراباً ﴾ أي : لم أبعث. وقال أبو الزناد : إذا قضي بين الناس وأمر بأهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار قيل لسائر الأمم ولمؤمني الجنّ : عودوا تراباً فيعودون تراباً فعند ذلك يقول الكافر حين يراهم :﴿ يا ليتني كنت تراباً ﴾، وقال ليث بن أبي سليم مؤمنو الجنّ يعودون تراباً. وقال عمر بن عبد العزيز ومجاهد وغيرهما : مؤمنو الجنّ حول الجنة في ربض ورحاب وليسوا فيها، والذي عليه الأكثر أنهم مكلفون مثابون ومعاقبون كبني آدم، وقيل : يحشر الله تعالى الحيوان غير مكلف حتى يقتص للجماء من القرناء ثم يردّه تراباً فيودّ الكافر حاله.
Icon