تفسير سورة النازعات

فتح البيان
تفسير سورة سورة النازعات من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ
سورة النازعات
وتسمى سورة الساهرة خمس أو ست وأربعون آية وهي مكية بلا خلاف قال ابن عباس نزلت بمكة وعن ابن الزبير مثله.

(وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا) أقسم سبحانه بهذه الأشياء التي ذكرها وهي الملائكة التي تنزع أرواح العباد عن أجسادهم كما ينزع النازع في القوس فيبلغ بها غاية المد، وكذا المراد بالناشطات والسابحات والسابقات والمدبرات، يعني الملائكة (١)، والعطف مع اتحاد الكل لتنزيل التغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي، وإنما جاءت هذه الأقسام بلفظ التأنيث والكل وصف للملائكة مع أنهم ليسوا إناثاً لأن المقسم به طوائف من الملائكة، والطوائف جمع طائفة وهي مؤنثة، وهذا قول الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
وقال السدي: النازعات هي النفوس حين تغرق في الصدور، وقال مجاهد: هي الموت ينزع النفس، وقال قتادة: هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق، من قولهم نزع إليه إذا ذهب، أو من قولهم نزعت بالحبل أي أنها تغرب وتغيب وتطلع من أفق آخر، وبه قال أبو عبيدة والأخفش وابن كيسان.
وقال عطاء وعكرمة: النازعات القسي تنزع بالسهام، وإغراق النازع في القوس أن يمده غاية المد حتى ينتهي به إلا النصل، وقيل أراد بالنازعات
_________
(١) ذكر ابن كثير أن الصحيح في قوله: (والنازعات غرقاً): الملائكة، قال: يعنون حين تنزع أرواح بني آدم، فمنهم من تأخذ روحه بعسر فتغرقه في نزعها، ومنهم من تأخذ روحه بسهولة وكأنما حلته من نشاط، وهو قوله: (والناشطات نشطاً).
51
الغزاة الرماة، وانتصاب غرقاً على أنه مصدر محذوف الزوائد أي إغراقاً، والناصب له ما قبله لملاقاته له في المعنى أي إغراقاً في النزع حيث تنزعها من أقاصي الأجساد، أو على الحال أي ذوات إغراق يقال أغرق في الشيء يغرق فيه إذا أوغل فيه وبلغ غايته، وعن علي قال: هي الملائكة تنزع أرواح الكفار، وعن ابن عباس قال: هي أنفس الكفار تنزع ثم تنشط ثم تغرق في النار وقال ابن مسعود الملائكة الذين يلون أنفس الكفار.
52
(و) معنى (الناشطات نشطاً) أنها تنشط النفوس أن تخرجها من الأجساد كما ينشط العقال من يد البعير إذا حل عنه حلاً رفيقاً، ونشط الرجل الدلو في البئر إذا أخرجها، والنشاط الجذب بسرعة، ومنه الأنشوطة للعقدة التي يسهل حلها.
قال أبو زيد نشطت الحبل أنشطه نشطاً عقدته، وأنشطته أي حللته وأنشطت الحبل أي مددته، قال الفراء أنشط العقال أي حل ونشط أي ربط الحبل في يديه، قال الأصمعي بئراً نشاط أي قريبة القعر يخرج الدلو منها بجذبة واحدة، وبئر نشوط وهي التي لا يخرج منها الدلو حتى ينشط كثيراً، وقال مجاهد هو الموت ينشط نفس الإنسان، وبه قال ابن عباس، وقال السدي: هي النفوس حين تنشط من القدمين، وقال عكرمة وعطاء: هي الأوهاق التي تنشط السهام، وقال قتادة والحسن والأخفش هي النجوم تنشط من أفق إلى أفق أي تذهب.
قال في الصحاح والناشطات نشطاً يعني النجوم من برج إلى برج كالثور الناشط من بلد إلى بلد والهموم تنشط بصاحبها، وقال أبو عبيدة وقتادة هي الوحوش حين تنشط من بلد إلى بلد، وقيل الناشطات لأرواح المؤمنين والنازعات لأرواح الكافرين لأنها تجذب روح المؤمن برفق، وتجذب روح الكافر بعنف.
وقوله نشطاً مصدر وكذا سبحاً وسبقاً، قال علي: هي الملائكة تنشط
52
أرواح الكفار ما بين الأظفار والجلد حتى تخرجها، وعن معاذ بن جبل قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لا تمزق الناس فتمزقك كلاب النار، قال الله والناشطات نشطاً أتدري ما هو؟ قلت يا نبي الله ما هو؟ قال: كلاب في النار تنشط اللحم والعظم " أخرجه ابن مردويه.
53
(والسابحات سبحاً) هي الملائكة تسبح في الأبدان لإخراج الأرواح كما يسبح الغواص في البحر لإخراج شيء منه، يعني الملائكة يقبضون أرواح المؤمنين يسلونها سلاً رفيقاً ثم يدعونها حتى تستريح ثم يستخرجونها كالسابح في الماء يتحرك فيه برفق ولطافة.
وقال مجاهد وأبو صالح: هي الملائكة ينزلون من السماء مسرعين لأمر الله كما يقال للفرس الجواد سابح إذا أسرع في جريه، وقال مجاهد: أيضاًً السابحات الموت يسبح في نفوس بني آدم، وقيل هي الخيل السابحة في الغزو، وقال قتادة والحسن هي النجوم تسبح في أفلاكها كما في قوله: (وكل في فلك يسبحون) وقال عطاء هي السفن تسبح في الماء. وقيل هي أرواح المؤمنين تسبح شوقاً إلى الله، وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه هي الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين بين السماء والأرض.
(فالسابقات سبقاً) هم الملائكة على قول الجمهور كما سلف، قال مسروق ومجاهد: تسبق الملائكة الشياطين بالوحي إلى الأنبياء، وقال أبو روق هي الملائكة سبقت ابن آدم بالخير والعمل الصالح. وروي نحوه عن مجاهد، وقال مقاتل هي الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة، وقال الربيع هي أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة شوقاً إلى الله، وقال علي كرم الله وجهه: هي الملائكة يسبق بعضها بعضاً بأرواح المؤمنين إلى الله تعالى، وقال مجاهد: أيضاًً هو الموت يسبق الإنسان، وقال قتادة والحسن ومعمر: هي النجوم يسبق بعضها في السير بعضاً.
وقال عطاء: هي الخيل التي تسبق إلى الجهاد، وقيل هي الأرواح التي تسبق الأجساد إلى الجنة أو النار.
53
قال الجرجاني عطف السابقات بالفاء لأنها مسببة عن التي قبلها أي واللاتي يسبحن فيسبقن. تقول قام فذهب، فهذا يوجب أن يكون القيام سبباً للذهاب، ولو قلت قام وذهب بالواو، لم يكن القيام سبباً للذهاب، قال الواحدي: وهذا غير مطرد في قوله الآتي:
54
(فالمدبرات أمراً) لأنه يبعد أن يجعل السبق سبباً للتدبير.
قال الرازي ويمكن الجواب عما قاله الواحدي بأنها لما أمرت سبحت فسبقت فدبرت ما أمرت بتدبيره، فتكون هذه أفعالاً يتصل بعضها ببعض، كقوله قام زيد فذهب فضرب عمراً.
ولما سبقوا في الطاعات وسارعوا إليها ظهرت أمانتهم ففوض إليهم التدبير.
ويجاب عنه بأن السبق لا يكون سبباً للتدبير كسببية السبح للسبق، والقيام للذهاب ومجرد الإتصال لا يوجب السببية والمسببية.
والأولى أن يقال العطف بالفاء في المدبرات طوبق به ما قبله من عطف السابقات بالفاء ولا يحتاج إلى نكتة كما احتاج إليها ما قبله لأن النكتة إنما تطلب لمخالفة اللاحق للسابق لا لمطابقته وموافقته.
(فالمدبرات أمراً) قال علي هي الملائكة تدبر أمر العباد من السنة إلى السنة. وعنه يدبرون ذكر الرحمن وأمره، وقال ابن عباس ملائكة يكونون مع ملك الموت يحضرون الموتى عند قبض أرواحهم فمنهم من يعرج بالروح، ومنهم من يؤمن على الدعاء، ومنهم من يستغفر للميت حتى يصلى عليه ويدلى في حفرته، قال القشيري أجمعوا على أن المراد هنا الملائكة.
وقال الماوردي فيه قولان: (أحدهما) الملائكة وهو قول الجمهور، والثاني إنها الكواكب السبع، حكاه خالد بن معدان عن معاذ بن جبل، وفي تدبيرها الأمر وجهان (أحدهما) تدبر طلوعها وأفولها (الثاني) تدبر ما قضاه الله فيها من الأحوال.
54
ومعنى تدبير الملائكة للأمر نزولها بالحلال والحرام وتفصيلهما والفاعل للتدبير في الحقيقة وإن كان هو الله عز وجل لكن لما نزلت الملائكة به وصفت به، وقيل إن الملائكة لما أمرت بتدبير أهل الأرض في الرياح والأمطار وغير ذلك قيل لها مدبرات.
قال عبد الرحمن بن ساباط تدبير أمر الدنيا إلى أربعة من الملائكة جبريل وميكائيل وعزرائيل وإسرافيل، أما جبريل فموكل بالرياح والجنود، وأما ميكائيل فموكل بالقطر والنبات، وأما عزرائيل فموكل بقبض الأنفس، وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم.
وجواب القسم بهذه الأمور التي أقسم الله بها محذوف أي والنازعات وكذا وكذا لتبعثن. قال الفراء وحذف لمعرفة السامعين به ويدل عليه قوله (أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً) وقيل إن جواب القسم لقوله (إن في ذلك لعبرة لمن يخشى) أي أن في يوم القيامة وذكر موسى وفرعون لعبرة لمن يخشى، قال ابن الأنباري وهذا قبيح لأن الكلام قد طال بينهما.
وقيل جواب القسم (هل أتاك حديث موسى) لأن المعنى قد أتاك وهذا ضعيف جداً.
وقيل الجواب
55
(يوم ترجف الراجفة) على تقدير ليوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة.
قال السجستاني: يجوز أن يكون هذا من التقديم والتأخير كأنه قال فإذا هم بالساهرة والنازعات، قال ابن الأنباري وهذا خطأ لأن الفاء لا يفتتح بها الكلام والأول أولى.
وقال الكرخي الفاء فيهما للدلالة على ترتبهما بغير مهلة، وهو من عطف المقسم به والمعطوف بالواو من عطف الصفات بعضها على بعض، والعطف مع اتحاد الكل بتنزيل التغاير العنواني منزلة التغاير الذاتي للإشعار بأن كل واحد من الأوصاف المعدودة من معظمات الأمور حقيق بأن يكون على حياله
55
مناطاً لاستحقاق موصوفه للإجلال والإعظام بالإقسام به من غير انضمام الأوصاف الأخر إليه.
(يوم ترجف الراجفة) انتصاب هذا الظرف بالجواب المقدر للقسم أو بإضمار اذكر، والراجفة المضطربة، يقال رجف يرجف إذا اضطرب، والمراد هنا الصيحة العظيمة التي فيها تردد واضطراب كالرعد وهي النفخة الأولى التي يموت بها جميع الخلائق، قاله ابن عباس.
56
(تتبعها الرادفة) هي النفخة الثانية التي تكون عند البعث، قاله ابن عباس وبينهما أربعون سنة، فاليوم واسع للنفختين وغيرهما فصح ظرفيته للبعث الواقع عقب الثانية، وسميت رادفة لأنها ردفت النفخة الأولى، كذا قال جمهور المفسرين وقال ابن زيد: الراجفة الأرض، والرادفة الساعة، وقال مجاهد الراجفة الزلزلة تتبعها المرادفة الصيحة، وقيل الراجفة اضطراب الأرض والرادفة الزلزلة.
وأصل الرجفة الحركة، وليس المراد التحرك هنا فقط بل الراجفة هنا مأخوذة من قولهم رجف الرعد يرجف رجفاً ورجيفاً إذا ظهر صوته، ومنه سميت الأراجيف لإضطراب الأصوات بها وظهور الأصوات فيها، ومحل تتبعها الرادفة النصب على الحال من الراجفة.
والمعنى لتبعثن يوم النفخة الأولى حال كون النفخة الثانية تابعة لها، وعن أبيّ بن كعب قال: " كان رسول الله ﷺ إذا ذهب ربع الليل قام فقال: يا أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه " أخرجه أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وغيرهم.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ " ترجف الأرض رجفاً وتزلزل بأهلها وهي التي يقول الله (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) يقول مثل السفينة في البحر تكفأ بأهلها مثل القنديل المعلق بأرجائها. أخرجه أبو الشيخ وابن مردويه والديلمي.
56
قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (٨) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (٩) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (١٠) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (١١) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (١٣) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (١٥) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (١٦) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (١٩)
57
(قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ) قلوب مبتدأ ويومئذ منصوب بواجفة. وواجفة صفة لقلوب وهو المسوغ للإبتداء بالنكرة أي قلوب مضطربة خائفة قلقة خافقة لما عاينت من أهوال يوم القيامة، قال جمهور المفسرين. أي خائفة وجلة، وقال ابن عباس: وجلة متحركة، وقال السدي زائلة عن أماكنها نظيره (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ) وقال المؤرج: قلقة مستوفزة، وقال المبرد: مضطربة يقال وجف القلب يجف وجيفاً إذا خفق كما يقال وجب يجب وجيباً، والإيجاف السير السريع فأصل الوجيف إضطراب القلب، وقال ابن عباس: خائفة.
(أبصارها) مبتدأ ثان وخبره (خاشعة) والجملة خبر الأول، في الكلام حذف مضاف تقديره أبصار أصحاب القلوب ذليلة، والضمير راجع إلى أصحاب القلوب فهو من الإستخدام والمراد أنها تظهر عليهم الذلة والخشوع عند معاينة أهوال يوم القيامة، كقوله (خاشعين من الذل) قال عطاء يريد أبصار من مات على غير الإسلام ويدل على هذا أن السياق في منكري البعث.
(يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ) هذا حكاية لما يقوله المنكرون للنعت في الدنيا إستهزاء وإنكاراً للبعث إذا قيل لهم أنكم تبعثون، أي أنرد إلى أول حالنا وإبتداء أمرنا فنصير أحياء بعد موتنا، يقال رجع فلان في حافرته أي رجع من حيث جاء والحافرة عند العرب إسم لأول الشيء وإبتداء الأمر، ومنه قولهم رجع فلان على حافرته أي على الطريق الذي جاء منه، يقال النقد عند
57
الحافرة أي عند الحالة الأولى وهي الصفقة، ويقال اقتتل القوم عند الحافرة أي عند أول ما التقوا، وسميت الطريق التي جاء منها حافرة لتأثيره فيها بمشيه فيها فهي حافرة بمعنى محفورة، وقيل الحافرة العاجلة.
والمعنى إنا لمردودون إلى الدنيا وقيل الحافرة جمع حافر بمعنى القدم أي أنمشي أحياء على أقدامنا ونطأ بها الأرض، وقيل فاعلة بمعنى مفعولة، وقيل على النسب أي ذات حفر، والمراد الأرض، وقيل الحافرة الأرض التي يحفر فيها قبورهم، والمعنى إنا لمردودون في قبورنا أحياء، كذا قال الخليل والفراء وبه قال مجاهد، وقال ابن زيد: الحافرة النار، واستدل بقوله (تلك إذاً كرة خاسرة) قال ابن عباس في الحافرة أي الحياة وعنه قال خلقاً جديداً، قرأ الجمهور في الحافرة، وقرأ أبو حيوة في الحفرة.
ثم زادوا في الاستبعاد بقولهم
58
(أئذا كنا عظاماً نخرة) أي بالية متفتتة يقال نخر العظم بالكسر إذا بلي، وهذا تأكيد لإنكار البعث أي كيف نرد أحياء ونبعث إذا كنا عظاماً نخرة، والعامل في " إذا " مضمر يدل عليه مردودون أي أئذا كنا عظاماً بالية نرد ونبعث مع كونها أبعد شيء من الحياة.
قرأ الجمهور نخرة، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر ناخرة، واختار الأولى أبو عبيدة وأبو حاتم، والثانية الفراء وابن جرير وأبو معاذ النحوي.
قال أبو عمرو بن العلاء: الناخرة التي لم تنخر بعد أي لم تبل ولا بد أن تنخر، وقيل هما بمعنى، تقول العرب نخر الشيء فهو ناخر ونخر، وطمع فهو طامع وطمع ونحو ذلك، قال الأخفش هما جميعاً لغتان أيهما قرأت فحسن.
وقيل الناخرة التي أكلت أطرافها وبقيت أوساطها، والنخرة التي فسدت كلها، وقال مجاهد نخرة أي مرفوتة كما في قوله (رفاتاً) وقيل الناخرة المجوفة التي تمر فيها الريح فتنخر أي تصوت، وقد قرىء إذا كنا وأإذا كنا بالإستفهام وبعدمه.
58
ثم ذكر سبحانه عنهم قولاً آخر قالوه فقال
59
(قالوا تلك إذاً كرة خاسرة) أي رجعة ذات خسران لما يقع على أصحابها من الخسران، والمعنى أنهم قالوا إن رددنا بعد الموت لنخسرن بما يصيبنا بعد الموت مما يقوله محمد، وهذا إستهزاء منهم، وقيل معنى خاسرة كاذبة أي ليست بكائنة كذا قال الحسن وغيره، وقال الربيع بن أنس: خاسرة على من كذب بها، وقال قتادة ومحمد بن كعب: أي لئن رجعنا بعد الموت لنخسرن بالنار، وإنما قالوا هذا لأنهم أوعدوا بالنار، والكرة الرجعة والجمع كرات.
وقوله
(فإنما هي زجرة واحدة) تعليل لما يدل عليه ما تقدم من استبعادهم لبعث العظام النخرة وإحياء الأموات، والمعنى لا تستبعدوا ذلك فإنما هي زجرة واحدة وكان ذلك الإحياء والبعث، والمراد بالزجرة الصيحة وهي النفخة الثانية التي يكون البعث بها، وقيل أن الضمير في (إنما هي) راجع إلى المرادفة المتقدم ذكرها التي يعقبها البعث وسميت هذه النفخة زجرة لأنه يفهم منها النهي عن التخلف والمنع منه، وعبارة الخطيب وعبر بالزجرة لأنها أشد من النهي لأنها صيحة لا يتخلف عنها القيام أصلاً.
(فإذا هم بالساهرة) أي فإذا الخلائق الذين قد ماتوا ودفنوا أحياء على وجه الأرض، قال الواحدي المراد بالساهرة وجه الأرض وظاهرها في قول الجميع، قال الفراء سميمت بهذا الإسم لأن فيها نوم الحيوان وسهرهم، وقيل لأنه يسهر في فلاتها خوفاً منها فسميت بذلك، قال في الصحاح الساهرة وجه الأرض، ومنه قوله (فإذا هم بالساهرة) وقال الساهرة أرض بيضاء، وقيل أرض من فضة لم يعص الله فيها، وقيل الساهرة الأرض السابعة يأتي بها الله سبحانه فيحاسب عليها الخلائق.
وقال سفيان الثوري: الساهرة أرض الشام أو أرض مكة أو أرض القيامة، وقال قتادة هي جهنم، أي فإذا هؤلاء الكفار في جهنم، وإنما قيل لها ساهرة لأنهم لا ينامون فيها لاستمرار عذابهم، وقال ابن عباس هي وجه
59
الأرض وفي لفظ الأرض كلها ساهرة.
وجملة
60
(هل أتاك حديث موسى) مستأنفة مسوقة لتسلية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تكذيب قومه، وأنه يصيبهم مثل ما أصاب من كان قبلهم ممن هو أقوى منهم، ومعنى (هل أتاك) قد جاءك وبلغك، وهذا على تقدير أن قد سمع من قصص فرعون وموسى ما يعرف به حديثهما، وعلى تقدير أن هذا أول ما نزل عليه في شأنهما فيكون المعنى على الإستفهام إذ لا وجه لحملة على الإقرار حينئذ أي هل أتاك حديثه؟ أنا أخبرك به.
(إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى) الظرف متعلق بحديث لا بأتاك لاختلاف وقتيهما، وقد مضى من خبر موسى وفرعون في غير موضع ما فيه كفاية.
والواد المقدس المبارك المطهر غاية الطهر بتشريف الله له بإنزال النبوة فيه المفيضة للبركات، قال الفراء (طوى) واد بين المدينة ومصر سمي طوى لأنه طوى فيه الشر عن بني إسرائيل أو لأن موسى طواه بالليل إذ مر به فارتفع إلى أعلى الوادي، وقيل واد بالشام عند الصور بين أيلة ومصر، وهو معدول من طاو كما عدل عمر من عامر، قاله الفراء، قال: والصرف أحب إلي إذ لم أجد في المعدول نظيراً له.
وقيل طوى معناه بالعبرانية يا رجل فكأنه قيل يا رجل، وقيل المعنى أن الوادي المقدس بورك فيه مرتين والأول أولى، وقد مضى تحقيق القول فيه، قرىء طوى بالتنوين وتركه وهما سبعيتان، قال الجوهري طوى اسم موضع بالشام تكسر طاؤه وتضم ويصرف ولا يصرف، فمن صرفه جعله إسم واد ومكان وجعله نكرة، ومن لم يصرفه جعله بلدة وبقعة وجعله معرفة.
(إذهب إلى فرعون) قيل هو على تقدير القول، وقيل هو تفسير للنداء أي ناداه نداء هو قوله إذهب، وقيل هو على حذف (أن) المفسرة ويؤيده قراءة ابن مسعود (أن اذهب) لأن في النداء معنى القول.
60
وجملة (إنه طغى) تعليل للأمر أو لوجوب الإمتثال أي جاوز الحد في العصيان والفساد والتكبر والكفر بالله، قال الرازي ولم يبين أنه طغى في أي شيء فقيل تكبر على الله وكفر به، وقيل تكبر على الخلق واستعبدهم.
61
(فقل هل لك أن تزكى) أي قل له بعد وصولك إليه هل لك رغبة إلى التزكي وهو التطهر من الشرك، وأصله تتزكى، قرأ الجمهور بالتخفيف، وقرأ نافع وابن كثير بتشديد الزاي على إدغام التاء في الزاي.
قال أبو عمرو ابن العلاء معنى قراءة التخفيف تكون زكياً مؤمناً، ومعنى قراءة التشديد الصدقة، وفي الكلام مبتدأ مقدر تتعلق به إلى، والتقدير هل لك رغبة أو توجه أو سبيل إلى التزكي، ومثل هذا قولهم هل لك في الخير يريدون هل لك رغبة في الخير، وقال ابن عباس: هل لك أن تقول لا إله إلا الله، وقيل معناه هل لك أن تسلم وتصلح العمل، أمر عليه السلام أن يخاطبه بالإستفهام الذي معناه العرض ليستدعيه بالتلطف ويستنزله بالمداراة من عتوه، وهذا نوع تفصيل لقوله (فقولا له قولاً ليِّناً لعله يتذكر أو يخشى).
(وأهديك إلى ربك فتخشى) أي أرشدك إلى عبادته وتوحيده فتخشى عقابه، والفاء لترتيب الخشية على الهداية لأن الخشية لا تكون إلا من مهتد راشد، قال ابن عطاء الخشية أتم من الخوف، لأنها صفة العلماء في قوله تعالى (إنما يخشى الله من عباده العلماءُ) أي العلماء به رواه السلمي.
وعن الواسطي: أوائل العلم الخشية ثم الإجلال ثم الهيبة ثم التعظيم ثم الفناء (١) وعن بعضهم من تحقق بالخوف ألهاه خوفه عن كل مفروح به، وألزمه الكمد إلى أن يظهر له الأمن من خوفه، ذكره الكرخي.
_________
(١) الفناء اصطلاح صوفي لا يعرفه الإسلام.
61
فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصَى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (٢٢) فَحَشَرَ فَنَادَى (٢٣) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (٢٥) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (٢٦) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (٢٧) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (٣٠) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (٣١) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (٣٢) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (٣٣)
62
(فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى) هذه الفاء هي الفصيحة لإفصاحها عن كلام محذوف يعني فذهب فقال له ما قال مما حكاه الله في غير موضع، وأجاب عليه بما أجاب إلى أن قال: إن كنت جئت بآية فأت بها فعند ذلك أراه الآية الكبرى.
واختلف فيها ما هي فقيل العصا، وقيل يده وقيل فلق البحر، وقيل هي جميع ما جاء به من الآيات التسع، والأول أولى ثم اليد، والأكثرون على أنه أراهما له، وأطلق عليهما الآية الكبرى لاتحادهما معنى أو أراد بالكبرى العصا وحدها لأنها كانت مقدمة على الأخرى.
ولا ينافي هذا قوله في الآية الأخرى (ولقد أريناه آياتنا كلها) وكل آياته كبرى لأن الإخبار هنا عما أراه له أول ملاقاته إياه وهو العصا واليد، ثم أردف ذلك برؤية الكل.
ولا مساغ لحمل الآية على مجموع معجزاته فإن ما عدا هاتين الآيتين من الآيات التسع إنما ظهر على يده عليه السلام بعد ما غلب السحرة على مهل في نحو من عشرين سنة كما في سورة الأعراف، ولا ريب في أن هذا مطلع القضية وأمر السحرة مترقب بعده.
(فكذب وعصى) أي فلما أراه الآية الكبرى كذب فرعون بموسى وبما جاء به وعصى الله عز وجل بعد ظهور الآية وتحقق الأمر فلم يطعه.
(ثم أدبر) أي تولى وأعرض عن الإيمان، وأتى بثم لأن إبطال الأمر ونقضه يقتضي زماناً طويلاً (يسعى) أي يعمل بالفساد في الأرض ويجتهد في معارضة ما جاء به موسى، وقيل أدبر هارباً من الحية يسعى خوفاً منها، وقال الرازي معنى أدبر يسعى أقبل يسعى كما يقال أقبل يفعل كذا أي أنشأ يفعل كذا فوضع أدبر موضع أقبل، لئلا يوصف بالإقبال، ويسعى حال من الضمير في أدبر.
(فحشر) أي فجمع جنوده للقتال والمحاربة أو جمع السحرة للمعارضة أو جمع الناس للحضور ليشاهدوا ما يقع أو جمعهم ليمنعوه من الحية (فنادى
فقال أنا ربكم الأعلى) أي قال لهم بصوت عال أو أمر من ينادي بهذا القول بعد ما قال له موسى ربي أرسلني إليك، والمعنى أنه لا رب فوقي، قال عطاء كان صنع لهم أصناماً صغاراً وأمرهم بعبادتها، وقال أنا رب أصنامكم، وقيل أراد بكونه ربهم أنه قائدهم وسائدهم والأول أولى لقوله في آية أخرى (ما علمت لكم من إله غيري).
(فأخذه الله نكال الآخرة والأولى) النكال نعت مصدر محذوف أي أخذه أخذ نكال أو هو مصدر لفعل محذوف أي أخذه الله فنكله نكال الآخرة والأولى، أو مصدر مؤكد لمضمون الجملة، ويجوز أن يكون انتصاب نكال على أنه مفعول له أي أخذه الله لأجل نكال، ويجوز أن ينتصب بنزع الخافض أي بنكال، ورجح الزجاج أنه مصدر مؤكد، قال لأن معنى أخذه الله نكل الله به فأخرج من معناه لا من لفظه.
وقال الفراء أي أخذه الله أخذاً نكالاً أي للنكال، والنكال اسم لما جعل نكالاً للغير أي عقوبة له، يقال نكل فلان بفلان إذا عاقبه وأصل الكلمة من الإمتناع، ومنه النكول عن اليمين، والنكل القيد، والمراد بنكال الآخرة عذاب النار، ونكال الأولى عذاب الدنيا بالغرق، وقال مجاهد عذاب أول عمره وآخره، وقال قتادة: الآخرة قوله (أنا ربكم الأعلى) والأولى تكذيبه لموسى، وقيل الآخرة قوله (أنا ربكم الأعلى) والأولى قوله (ما
63
علمت لكم من إله غيري) قاله ابن عباس وكان بين الكلمتين أربعون سنة، قاله ابن عمرو (١).
_________
(١) قال ابن كثير: (فأخذه الله نكال الآخرة والأولى) أي: انتقم الله منه انتقاماً جعله به عبرة ونكالاً لأمثاله من المتمردين في الدنيا (ويوم القيامة بئس الوفد المرفود) كما قال تعالى: (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون) قال: وهذا هو الصحيح في معنى الآية أن المراد بقوله: (نكال الآخرة والأولى) أي الدنيا والآخرة.
64
(إن في ذلك) أي فيما ذكر من قصة فرعون وما فعل به (لعبرة) عظيمة (لمن) شأنه أن (يخشى) الله ويتقيه ويخاف عقوبته ويحاذر غضبه.
(أأنتم أشد خلقاً أم السماء) أي أخلقكم بعد الموت وبعثكم أشد عندكم وفي تقديركم أم خلق السماء، والخطاب لكفار مكة والمقصود به التوبيخ لهم والتبكيت لأن من قدر على خلق السماء التي لها هذا الجرم العظيم، وفيها من عجائب الصنع وبدائع القدرة ما هو بيّن للناظرين، كيف يعجز عن إعادة الأجسام التي أماتها بعد أن خلقها أول مرة، ومثل هذا قوله سبحانه (لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس) وقوله (أليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم).
ثم بيّن سبحانه كيفية خلق السماء فقال (بناها) أي جعلها كالبناء المرتفع فوق الأرض
(رفع سمكها) أي أعلاه في الهواء، وهذا بيان للبناء، أو جعل مقدار ذهابها وارتفاعها في سمت العلو رفيعاً مسيرة خمسمائة عام، يقال سمكت الشيء أي رفعته في الهواء وسمك الشيء سموكاً ارتفع قال الفراء كل شيء حمل شيئاًً من البناء أو غيره فهو سمك، وبناء مسموك وسنام سامك أي عال والسموكات السموات.
وقال ابن جزي: السمك غلظ السماء وهو الإرتفاع الذي بين السطح السفلي الأسفل الذي يلينا، وسطحها الأعلى الذي يلي ما فوقها، قال البغوي: رفع سمكها أي سقفها ولينظر ما المراد بسقفها، ويمكن أن يقال
64
سقف كل سماء هو السماء التي فوقها كما أن السماء الدنيا سقف للأرض تأمل.
قال الكسائي والفراء والزجاج: تمّ الكلام عند قوله بناها لأنه من صلة السماء والتقدير أم السماء التي بناها فحذف التي، ومثل هذا الحذف جائز.
ومعنى (فسواها) جعلها مستوية الخلق معتدلة الشكل لا تفاوت فيها ولا اعوجاج ولا فطور، ولا فروج ولا شقوق
65
(وأغطش ليلها) الغطش الظلمة بلغة أنمار أي جعله مظلماً يقال أغطش الليل وأغطشه الله كما يقال أظلم الليل وأظلمه الله، ورجل أغطش وامرأة غطشى لا يهتديان.
قال الراغب وأصله من الأغطش وهو الذي في عينه عمش، ومنه فلاة غطشى لا يهتدى فيها والتغاطش التعامي، وأضاف الليل إلى السماء لأن الليل يكون بغروب الشمس، والشمس مضافة إلى السماء.
(وأخرج ضحاها) أي أبرز نهارها المضيء بإضاءة الشمس وعبر عن النهار بالضحى لأنه أشرف أوقاته وأطيبها، وأضافه إلى السماء لأنه يظهر بظهور الشمس، وهي منسوبة إلى السماء.
(والأرض بعد ذلك) أي بعد خلق السماء (دحاها) بسطها يقال دحا يدحو دحوا ودحى يدحي دحياً أي بسط ومد فهو من ذوات الواو والياء فيكتب بالألف والياء ويقال لعش المنعامة أدحى لأنه مبسوط على الأرض، قال أمية ابن الصلت:
دحوت البلاد فسويتها... وأنت على طيها قادر
قيل دحيت من مكة بعد خلق السماء بألفي عام (١).
_________
(١) قال ابن كثير ٤/ ٩٢: أما خلق الأرض، فقبل خلق السماء بالنص، وبهذا أجاب ابن عباس رضي الله عنهما فيما ذكره البخاري. انظر " صحيح البخاري " ٨/ ٤٢٧، ٤٢٨. ثم قال ابن كثير ٤/ ٤٦٨: ولكن إنما دحيت الأرض بعد خلق السماء، بمعنى أنه أخرج ما كان فيها بالقوة إلى الفعل، قال: وهذا معنى قول ابن عباس وغير واحد، واختاره ابن جرير.
65
ولا معارضة بين هذه الآية وبين ما تقدم في سورة فصلت من قوله (ثم استوى إلى السماء) بل الجمع بأنه سبحانه خلق الأرض أولاً غير مدحوة ثم خلق السماء ثم دحى الأرض، وقد قدمنا الكلام على هذا مستوفى هنالك، وقدمنا أيضاًً بحثاً في هذا في أول سورة البقرة عند قوله (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً) وذكر بعض أهل العلم أن (بعد) بمعنى مع كما في قوله (عتل بعد ذلك زنيم) وقيل (بعد) بمعنى قبل كقوله (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر) أي من قبل الذكر، والجمع الذي ذكرناه أولى وهو قول ابن عباس وغير واحد واختاره ابن جرير.
وعن ابن عباس أن رجلاً قال له آيتان في كتاب الله تخالف إحداهما الأخرى، فقال إنما أتيت من قبل رأيك قال اقرأ (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ -حتى بلغ- ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) وقوله (والأرض بعد ذلك دحاها) قال خلق الله الأرض قبل أن يخلق السماء ثم خلق السماء ثم دحى الأرض بعد ما خلق السماء وإنما قوله (دحاها) بسطها، وعنه قال دحاها أن أخرج منها الماء والمرعى وشقق فيها الأنهار وجعل فيها الجبال والرمال والسبل والآكام وما بينهما في يومين.
قرأ الجمهور بنصب الأرض على الاشتغال وقرىء بالرفع على الابتداء.
ثم فسر سبحانه الدحو فقال:
66
(أخرج منها ماءها ومرعاها) فجرت من الأرض الأنهار والبحار والعيون، والمرعى النبات الذي يرعى والمرعى مصدر سمي أي رعيها وهو في الأصل موضع الرعي، واستعير الرعي للإنسان على سبيل التجوز.
قال الشهاب: والمرعى ما يأكله الحيوان غير الإنسان فأريد به مجازاً
66
مطلق المأكول للإنسان وغيره، فهو مجاز مرسل من باب استعمال المقيد في المطلق انتهى، وهو استعارة تصريحية حيث شبه أكل الناس برعي الدواب أو فيه جمع بين الحقيقة والمجاز، وقال الكرخي يجوز أن يكون استعارة معنوية.
والظاهر أنه تغليب لأن قوله الآتي (متاعاً لكم ولأنعامكم) وارد عليه ومن حقه أن تغلب ذوو العقول على الأنعام فعكس تجهيلاً لأن الكلام مع منكري الحشر بشهادة قوله (أأنتم أشد خلقاً) كما مر كأنه قيل أيها المعاندون الداخلون في زمرة البهائم الملزوزون في قرنها في تمتعكم بالدنيا وذهولكم عن الأخرى.
والجملة إما بيان وتفسير لدحاها لأن السكنى لا تتأتى بمجرد البسط بل لا بد من تسوية أمر المعاش من المأكل والمشرب، وإما في محل نصب على الحال.
67
(والجبال أرساها) أي أثبتها في الأرض وجعلها كالأوتاد للأرض لتثبت وتستقر وأن لا تميد بأهلها، قرأ الجمهور بنصب الجبال على الاشتغال، وقرىء بالرفع على الابتداء، قيل ولعل وجه تقديم ذكر إخراج الماء والمرعى على إرساء الجبال مع تقدم الارساء عليه الاهتمام بأمر المأكل والمشرب.
(متاعاً) أي منفعة (لكم ولأنعامكم) من البقر والإبل والغنم، وانتصاب متاعاً على المصدرية أي متعكم بذلك متاعاً أو هو مصدر من عير لفظه لأن قوله (أخرج منها ماءها ومرعاها) بمعنى متع بذلك أو على أنه مفعول له أي فعل ذلك لأجل التمتع وإنما قال لكم ولأنعامكم لأن فائدة ما ذكر من الدحو وإخراج الماء والمرعى كائنة لهم ولأنعامهم، والمرعى يعم ما يأكله الناس والدواب.
67
فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (٣٧) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (٤١) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (٤٣) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (٤٤) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (٤٦)
68
(فإذا جاءت الطامة) أي الداهية التي تعلو سائر الدواهي (الكبرى) أي العظمى التي تطم على سائر الطامات، فالوصف بالكبرى تأسيس لا تأكيد فهي أكبر من داهية فرعون، وهي قوله (أنا ربكم الأعلى).
وهذا شروع في بيان أحوال معادهم إثر بيان أحوال معاشهم، والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها كما ينبىء عنه لفظ المتاع، وفي الكرخي وخص ما هنا بالطامة موافقة لما قبله من داهية فرعون، ولذلك وصفت بالكبرى، موافقة لقوله (فأراه الآية الكبرى) بخلاف ما في عبس فإنه لم يتقدمه شيء من ذلك فخصت بالصاخة وإن شاركت الطامة في أنها النفخة الثانية لأنها الصوت الشديد والصوت يكون بعد الطم فناسب جعل الطم للسابقة، والصخ للاحاقة انتهى.
قال الحسن وغيره: هي النفخة الثانية، وقال الضحاك وغيره: هي القيامة سميت بذلك لأنها تطم على كل شيء لعظم هولها قال المبرد: الطامة عند العرب الداهية التي لا تستطاع، وإنما أخذت فيما أحسب من قولهم طم الفرس طميماً إذا استفرغ جهده في الجري، وطم الماء إذا ملأ النهر كله.
وقال غيره هو من طم السيل الركية أي دفنها، والطم الدفن.
قال مجاهد وغيره: الطامة الكبرى هي التي تسلم أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار، قال ابن عباس: الطامة اسم من أسماء يوم القيامة،
68
وجواب " إذا " قيل هو قوله (فأما من طغى) وقيل محذوف أي فإن الأمر كذلك أو عاينوا أو علموا أو أدخل أهل النار النار، وأهل الجنة الجنة، وقدره بعضهم بقوله كان من عظائم الشؤون ما لم تشاهده العيون.
وقال أبو البقاء العامل فيها جوابها وهو معنى
69
(يوم يتذكر الإنسان ما سعى) لأنه منصوب بفعل مضمر أي أعني يوم يتذكر أو يوم يتذكر بكون كيت وكيت، وقيل إن الظرف بدل من " إذا " وقيل هو بدل من الطامة الكبرى، ومعنى، تذكر الإنسان ما سعى أنه يتذكر ما عمله من خير أو شر لأنه يشاهده مدوناً في صحائف أعماله، و " ما " مصدرية أو موصولة.
(وبُرزت الجحيم لمن يرى) معطوف على (جاءت) أي أظهرت النار المحرقة إظهاراً بيناً مكشوفاً لا تخفى على أحد، قال مقاتل فكشف عنها الغطاء فينظر إليها الخلق، وقيل لمن يرى من الكفار لا من المؤمنين.
والظاهر أنها تبرز لكل راء، فأما المؤمن فيعرف برؤيتها قدر نعمة الله عليه بالسلامة منها، وأما الكافر فيزداد غماً إلى غمه وحسرة إلى حسرته.
قرأ الجمهور لمن يرى بالتحتية وقرأت عائشة ومالك بن دينار وعكرمة وزيد بن علي: بالفوقية أي لمن تراه الجحيم، أو لمن تراه أنت يا محمد، وقرأ ابن مسعود لمن رأى على صيغة الفعل الماضي.
(فأما من طغى) أي جاوز الحد في الكفر والمعاصي
(وآثر الحياة الدنيا) أي قدمها على الآخرة باتباع الشهوات المحرمات ولم يستعد لها ولا عمل عملها
(فإن الجحيم هي المأوى) أي مأواه، والألف واللام عوض عن المضاف إليه، وهذا عند الكوفيين، وعند سيبويه وعند البصريين هي المأوى له، ولا بد من أحد هذين التأويلين في الآية لأجل العائد من الجملة الواقعة خبراً عن المبتدأ الذي هو من طغى، وحسن عدم ذكر ذلك العائد كون الكلمة وقعت فاصلة ورأس آية، والمعنى أنها منزله الذي ينزله ومأواه الذي يأوي إليه لا غيرها.
69
ثم ذكر القسم الثاني من القسمين فقال:
70
(وأما من خاف مقام ربه) أي حذر مقامه بين يدي ربه يوم القيامة لعلمه بالمبدأ والمعاد، قال الربيع مقامه يوم الحساب، قال قتادة يقول إن لله عز وجل مقاماً قد خافه المؤمنون، وقال مجاهد هو خوفه في الدنيا من الله عز وجل مواقعة الذنب فيقلع عنه، نظيره قوله (ولمن خاف مقام ربه جنتان) والأول أولى.
(ونهى النفس) الأمارة بالسوء (عن الهوى) أي زجرها من الميل إلى المعاصي والمحارم التي تشتهيها، قال مقاتل هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه للحساب فيتركها، والهوى ميل النفس إلى شهواتها
(فإن الجنة هي المأوى) أي المنزل الذي ينزله والمكان الذي يأوي إليه لا غيرها.
(يسألونك) يا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - (عن الساعة أيان مرساها) أي متى وقوعها وقيامها، قال الفراء أي منتهى قيامها كرسو السفينة، قال أبو عبيدة ومرسى السفينة حين تنتهي، والمعنى يسألونك عن الساعة متى يقيمها الله، وقد مضى بيان هذا في سورة الأعراف.
(فيم أنت من ذكراها) أي في أي شيء أنت يا محمد من ذكر القيامة والسؤال عنها والمعنى لست في شيء من علمها وذكرها إنما يعلمها الله سبحانه، وهو استفهام إنكار ورد لسؤال المشركين عنها أي فيم أنت من ذلك حتى يسألوك عنها ولست تعلمها وأنت آخر الأنبياء وعلامة من علاماتها فلا معنى لسؤالهم عنها فكفاهم ذلك دليلاً على دنوها ووجوب الاستعداد لها، والأول أولى.
عن علي بن أبي طالب قال: " كان النبي ﷺ يسأل عن الساعة فنزلت فيم أنت من ذكراها " أخرجه ابن مردويه.
وعن عائشة قالت: ما زال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسأل عن الساعة حتى أنزل الله فيم أنت من ذكراها الخ فانتهى فلم يسأل عنها " أخرجه البزار وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه.
70
وعن طارق بن شهاب قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر ذكر الساعة حتى نزلت هذه الآية فكف عنها " أخرجه عبد بن حميد والنسائي وابن جرير وغيرهم.
وعن ابن عباس: " أن مشركي مكة سألوا النبي ﷺ فقالوا متى الساعة استهزاء منهم، فأنزل الله (يسألونك عن الساعة أيان مرساها) يعني مجيئها فيم أنت من ذكراها يعني ما أنت ممن علمها يا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -
71
(إلى ربك منتهاها) يعني منتهى علمها " أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه، قال السيوطي: بسند ضعيف.
وعن عائشة قالت: " كانت الأعراب إذا قدموا على النبي ﷺ يسألوه عن الساعة فينظر إلى أحدث إنسان منهم فيقول إن يعش هذا قامت عليكم ساعتكم "، أخرجه ابن مردويه.
وجملة (إلى ربك منتهاها) مستأنفة أي منتهى علمها فلا يوجد علمها عند غيره وهذا كقوله: (قل إنما علمها عند ربي) وقوله: (إن الله عنده علم الساعة) فكيف يسألونك عنها ويطلبون منك بيان وقت قيامها.
(إنما أنت منذر من يخشاها) أي مخوف لمن يخشى قيام الساعة وذلك وظيفتك ليس عليك غيره من الإخبار بوقت قيام الساعة ونحوه مما استأثر لله بعلمه إذ لا مدخل لتعيين وقتها في الإنذار، فإن محض الإنذار لا يتوقف على علم المنذر بوقت قيامها، فقصر حاله على الإنذار فلا يتعداه إلى علم الوقت وخص الإنذار بمن يخشى لأنهم المنتفعون بالإنذار، وإن كان منذراً لكل مكلف من مسلم وكافر.
قرأ الجمهور بإضافة منذر إلى ما بعده، وقرىء بالتنوين قال الفراء كلاهما صواب كقوله بالغ أمره وموهن كيد الكافرين، قال أبو علي الفارسي يجوز أن تكون الإضافة للماضي نحو ضارب زيد أمس، وقال الزمخشري التنوين هو الأصل والإضافة تخفيف، وكلاهما يصلح للحال والاستقبال.
(كأنهم) أي كفار قريش (يوم يرونها) أي يوم يرون الساعة ويعاينوها (لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها) أي يستقصرون مدة لبثهم ويزعمون أنهم لم يلبثوا إلا قدر آخر نهار أو أوله، أو قدر الضحى الذي يلي تلك العشية، والمراد تقليل مدة الدنيا كما قال لم يلبثوا إلا ساعة من نهار، وقيل لم يلبثوا في قبورهم.
قال الفراء والزجاج: المراد بإضافة الضحى إلى العشية إضافته إلى يوم العشية على عادة العرب يقولون آتيك الغداة أو عشيتها، وآتيك العشية أو غداتها فتكون العشية في معنى آخر النهار، والغداة في معنى أول النهار، وزاد زاده أن الضحى والعشية لما كانتا من يوم واحد كان بينهما ملابسة مصححة لإضافة إحداهما إلى الأخرى.
قال المحلي: وحسن الإضافة وقوع الكلمة فاصلة أي من الفواصل.
والجملة تقرير لما يدل عليه الإنذار من سرعة مجيء المنذر به، والعشية هي من الزوال إلى غروب الشمس، والضحى هو البكرة إلى الزوال.
72
سورة عبس
وتسمى سورة السفرة وسورة الأعمى، وهي إحدى أو اثنتان وأربعون آية وهي مكية في قول الجميع وعن ابن عباس - رضي الله عنه - نزلت بمكة، وعن ابن الزبير - رضي الله عنه - مثله.
73

بسم الله الرحمن الرحيم

عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (٢) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (٨) وَهُوَ يَخْشَى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣)
75
Icon