وتسمى سورة فصلت وسورة المصابيح وهي
أربع وخمسون آية
وقيل : ثلاث وخمسون. قال القرطبي : وهي مكية في قول الجميع. قال ابن عباس : أنها نزلت بمكة. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو يعلى والحاكم وصححه. وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل. وابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال : اجتمع قريش يوما فقالوا : انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر. فيأت هذا الرجل الذي قد فرق جماعتنا. وشتت أمرنا. وعاب ديننا فليكلمه. ولينظر ماذا يرد عليه ؟ فقالوا : ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة. فقالوا : أئت يا أبا الوليد. فأتاه فقال يا محمد أنت خير أم عبد الله ؟ أنت خير أم عبد المطلب ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبدت. وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك، أما والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك، فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا، وأن في قريش كاهنا، والله ما تنتظر إلا مثل صيحة الحبلى، أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف، يا رجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا. وإن كان إنما بك الباءة فأختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فرغت ؟ قال نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بسم الله الرحمن الرحيم : حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته حتى بلغ : فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود : فقال عتبة حسبك حسبك ما عندك غير هذا ؟ قال لا، فرجع إلى قريش فقالوا : ما وراءك ؟ قال : ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمونه به إلا كلمته، قالوا فهل أجابك ؟ قال : والذي نصبها بنية ما فهمت شيئا مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود.
قالوا ويلك، يكلمك الرجل بالعربية. وما تدري ما قال : قال : لا والله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة.
وأخرج أبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن ابن عمر قال :( لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم. على عتبة بن ربيعة حم أتى أصحابه فقال : يا قوم أطيعوني في هذا اليوم وأعطوني بعده، فوالله لقد سمعت من هذا الرجل كلاما ما سمعت أذني قط كلاما مثله : وما دريت ما أرد عليه ). وفي هذا الباب روايات تدل على اجتماع قريش وإرسالهم عتبة بن ربيعة. وتلاوته صلى الله عليه وسلم، أول هذه السورة عليه.
ﰡ
وانتصاب: (قُرْآنًا عَرَبِيًّا) على الاختصاص أو على المدح قاله الأخفش أي أريد بهذا الكتاب المفصل قرآناً من صفته كيت وكيت أو على الحال أي فصلت آياته حال كونه قرآناً وقيل على المصدرية أي يقرؤه قرآناً وقيل مفعول ثان لفصلت، وقيل: على إضمار فعل يدل عليه فصلت أي فصلناه قرآناً عربياً.
(لقوم يعلمون) معانيه ويفهمونها، وهم أهل اللسان العربي، وإنما خصوا بالذكر لأنهم يفهمونها بلا واسطة، لكون القرآن بلغتهم، وغيرهم لا يفهمها إلا بواسطتهم. قال الضحاك: أي يعلمون أن القرآن منزل من عند الله، وقال مجاهد أي يعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل واللام متعلقة بمحذوف صفة أخرى لقرآناً، أو متعلقة بفصلت، والأول أولى، وكذلك:
(فأعرض أكثرهم) أي الكفار عما اشتمل عليه من النذارة (فهم لا يسمعون) سماعاً ينتفعون به لإعراضهم عنه
(فاعمل) أي استمر على دينك وهو التوحيد (إننا عاملون) أي مستمرون على ديننا، وهو الإشراك، وقال الكلبي: اعمل في هلاكنا فإنا عاملون في هلاكك، وقال مقاتل: إعمل لإلهك الذي أرسلك فإنا نعمل لآلهتنا التي نعبدها، وقيل: فاعمل لآخرتك فإنا عاملون لدنيانا، أو فاعمل في إبطال أمرنا فإنا نعمل في إبطال أمرك، ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عن قولهم هذا فقال:
قرأ الجمهور يوحي مبنياً للمفعول وقرأ الأعمش والنخعي مبنياً للفاعل، أي يوحي الله إليّ، قيل: ومعنى الآية أني لا أقدر على أن أحملكم على الإيمان قسراً فإني بشر مثلكم، ولا امتياز لي عنكم إلا أني أوحي إلي التوحيد، والأمر به، فعلى البلاغ وحده، فإن قبلتم رشدتم؛ وإن أبيتم
(فاستقيموا إليه) عداه بإلى لتضمنه معنى: توجهوا والمعنى وجهوا استقامتكم إليه بالطاعة، ولا تميلوا عن سبيله (واستغفروه) لما فرط منكم من الذنوب والشرك، وما أنتم عليه من سوء العقيدة والعمل ثم هدد المشركين وتوعدهم فقال:
(وويل للمشركين) ثم وصفهم بقوله:
وقال الفراء: كان المشركون ينفقون النفقات ويسقون الحجيج ويطعمونهم فحرموا ذلك على من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ فنزلت فيهم هذه الآية، وإنما جعل منع الزكاة مقروناً بالكفر بالآخرة لأن أحب الشيء إلى الإنسان ماله، وهو شقيق روحه، فإذا بذله في سبيل الله فذلك أقوى دليل على استقامته، وثباته وصدق نيته، ونصوح طويته، وما خدع المؤلفة قلوبهم إلا بلمظة من الدنيا ففرت عصبيتهم، ولانت شكيمتهم، وما ارتدت بنو حنيفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا بمنع الزكاة (١)، وتخويف شديد من منعها، حيث جعل المنع من أوصاف المشركين وقرن الكفر بالآخرة.
(وهم بالآخرة هم كافرون) معطوف على: لا يؤتون الزكاة، داخل معه في حيز الصلة؛ أي منكرون للآخرة جاحدون لها، والمجيء بضمير
_________
(١) سقط من الأصل: فتعصبت لهم الحروب وجوهدوا، وفيه بعث للمؤمنين على أداء الزكاة.
الفصل لقصد الحصر.
ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم، أن يوبخهم ويقرعهم فقال:
(لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين) والمعنى لتكفرون بمن شأنه هذا الشأن العظيم وقدرته هذه القدرة الباهرة، قيل: اليومان هما يوم الأحد ويوم الاثنين، وقيل: خلقهن في نوبتين كل نوبة أسرع مما يكون في يوم، وقيل: المراد مقدار يومين لأن اليوم الحقيقي إنما يتحقق بعد وجود الأرض والسماء ذكرهما تعليماً للأناة، ولو أراد أن يخلقهما في لحظة لفعل.
(وبارك فيها) أي جعلها مباركة كثيرة الخير بما خلق فيها من المنافع للعباد قال السدي: أنبت فيها شجرها (وقدر فيها أقواتها) قال الحسن وعكرمة والضحاك: قدر فيها أرزاق أهلها، وما يصلح لمعايشهم من التجارات والأشجار والمنافع، جعل في كل بلدة ما لم يجعله في الأخرى، ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة والأسفار من بلد إلى بلد وقيل قدر البُر لأهل قطر من الأرض والتمر لأهل قطر آخر، وكذلك سائر الأقوات.
قيل: إن الزرع أكثر الحرف بركة لأن الله وضع الأوقات في الأرض، وقال ابن عباس أي شق الأنهار، وغرس الأشجار، ووضع الجبال، وأجرى البحار، وجعل في هذه ما ليس في هذه وفي هذه ما ليس في هذه، وقال قتادة ومجاهد: خلق فيها أنهارها وأشجارها ودوابها.
(في) تتمة (أربعة أيام) أي في يوم الثلاثاء والأربعاء باليومين
وقال أبو البقاء: ولعل زيادة مدة الأرض على مدة السماء جرياً على ما يتعارف من أن بناء السقف أخف من بناء البيت، وقيل: للتنبيه على أن الأرض هي المقصودة بالذات لما فيها من الثقلين وكثرة المنافع، وقيل: لما فيها من الابتلاء بالمعاصي، والمجاهدات والمجادلات والمعالجات.
عن ابن عباس أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فسألته عن خلق السموات والأرض، فقال " خلق الله الأرض في يومين الأحد والاثنين، وخلق الجبال وما فيهن من منافع يوم الثلاثاء وخلق يوم الأربعاء الشجر والحجر والماء والمدائن والعمران والخراب فهذه أربعة أيام فقال تعالى: قل أئنكم لتكفرون إلى قوله للسائلين، وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم، والشمس والقمر والملائكة إلى ثلات ساعات بقين منه، فخلق من أول ساعة من هذه الثلاث الآجال حين يموت من مات، وفي الثانية ألقى فيها من كل شي مما ينتفع به، وفي الثالثة خلق آدم وأسكنه الجنة، وأمر إبليس بالسجود له، وأخرجه منها في آخر ساعة قالت اليهود ثم ماذا يا محمد؟ قال: ثم استوى على العرش، قالوا قد أصبت لو أتممت. قالوا ثم استراح، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، غضباً شديداً فنزل: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ) أخرجه ابن جرير والنحاس في ناسخه وأبو الشيخ في العظمة
ولكن في حديث مسلم عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، بيدي فقال: " خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء وخلق الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة في آخر الخلق فيما بين العصر إلى الليل ". وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس أيضاًً قال: " إن الله خلق يوماً فسماه الأحد ثم خلق ثانياً فسماه الاثنين، ثم خلق ثالثاً فسماه الثلاثاء، ثم خلق رابعاً فسماه الأربعاء ثم خلق خامساً فسماه الخميس، وذكر نحو ما تقدم ". وأخرج أبو الشيخ عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " إن الله فرغ من خلقه في ستة أيام " وذكر نحو ما تقدم.
وانتصاب (سواء) على أنه مصدر مؤكد لفعل محذوف هو صفة للأيام، أي استوت الأربعة سواء، بمعنى استواء، ويجوز أن يكون منتصباً على الحال من الأرض أو من الضمائر الراجعة إليها قرأ الجمهور بنصب سواء، وقرأ زيد بن علي والحسن وغيرهما بخفضه على أنه صفة للأيام وقرىء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، قال الحسن: المعنى في أربعة أيام مستوية تامة لا تزيد ولا تنقص، وقوله:
(للسائلين) متعلق بسواء أي مستويان للسائلين أو بمحذوف كأنه قيل هذا الحصر للسائلين في كم يوم خلقت الأرض وما فيها؟ أو متعلق بقدر أي قدر فيها أقواتها لأجل الطالبين المحتاجين إليها قال الفراء: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى وقدر فيها أقواتها سواء للمحتاجين في أربعة أيام، واختار هذا ابن جرير.
ثم لما ذكر سبحانه خلق الأرض وما فيها ذكر كيفية خلقه للسموات فقال
والجواب أن الخلق ليس عبارة عن الإيجاد والتكوين فقط، بل هو عبارة عن التقدير أيضاًً، فالمعنى قضى أن يحدث الأرض في يومين بعد إحداث السماء وعلى هذا يزول الاشكال، وقال الشوكاني بعد ذكر هذا الاستشكال.
إن ثم ليست للتراخي الزماني (١) فالجمع ممكن بأن الأرض خلقها متقدم على خلق السماء، ودحوها بمعنى بسطها هو أمر زائد على مجرد خلقها، فهي متقدمة خلقاً متأخرة دحواً، وهذا ظاهر انتهى.
ولعله يأتي عند تفسيرنا لقوله: (والأرض بعد ذلك دحاها) زيادة إيضاح للمقام إن شاء الله تعالى، وقد تقدم هذا الجمع في سورة البقرة ولكن خلق ما في الأرض لا يكون إلا بعد دحوها فالإشكال باق، وعلى هذا لا يتفضى عن الإشكال إلا بما ذكر في ثم؛ أو أن بعد بمعنى قبل أو بمعنى مع.
(وَهِيَ دُخَانٌ) هو ما ارتفع من لهب النار ويستعار لما يرى من بخار الأرض، قال المفسرون هذا الدخان هو بخار الماء، وقياس جمعه في القلة أدخنة، وفي الكثرة دخيان، وهي من باب التشبيه الصوري لأن صورتها صورة الدخان في رأى العين، وخص سبحانه الاستواء إلى السماء مع كون الخطاب المترتب على ذلك متوجهاً إليها وإلى الأرض، كما يفيده قوله: (فَقَالَ لَهَا
_________
(١) سقط من الأصل: بل للتراخي الرتبى فيندفع الإشكال من أصله، وعلى تقدير ينها للتراخي الزماني.
قال الواحدي: قال المفسرون: إن الله سبحانه قال: أما أنت يا سماء فأطلعي شمسك وقمرك ونجومك، وأما أنت يا أرض فشققي أنهارك وأخرجي ثمارك ونباتك، قاله ابن عباس، قرأ الجمهور ائتيا أمراً من الإتيان وقرىء آتيا قالتا آتينا، بالمد فيهما، وهو من المؤاتاة وهي الموافقة أي لتوافق كل منكما الأخرى لما يليق بها، وإليه ذهب الرازي والزمخشري، أو من الإيتاء وهو الإِعطاء قاله ابن عباس، فوزنه على الأول فاعلا كقاتلا، وعلى الثاني أفعلا كأكرما، وطوعاً وكرهاً مصدران في موضع الحال، أي طائعتين أو مكرهتين، وقرىء كرهاً بالضم.
قال الزجاج: أطيعا طاعة أو تكرهان كرهاً، قيل: ومعنى هذا الأمر لهما التسخير والحصول والوقوع أي كونا فكانتا، كما قال تعالى: (إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) فالكلام من باب التمثيل لتأثير قدرته واستحالة امتناعهما أو من باب الاستعارة التخييلية.
(قالتا أتينا طائعين) أي أتينا أمرك منقادين وجمعهما جمع من يعقل لخطابهما بما يخاطب به العقلاء، وجمع الأمر لهما في الإخبار عنه لا يدل على جمعه في الزمان، بل قد يكون القول لهما متعاقباً، قال القرطبي: قال أكثر أهل العلم إن الله سبحانه خلق فيهما الكلام فتكلمتا كما أراد سبحانه، وقيل هو تمثيل لظهور الطاعة منهما وتأثير القدرة الربانية فيهما، والأول أولى، قال أبو نصر السكسي فنطق من الأرض موضع الكعبة، ونطق من السماء بحيالها، فوضع الله فيه حرمة.
(في يومين) الخميس والجمعة، وفرغ منها في آخر ساعة منه، وفيها خلق آدم. قال المحلي ولذلك لم يقل هنا سواء، ووافق ما هنا آيات خلق السموات والأرض في ستة أيام، والمعنى أنه مضى من المدة ما لو حصل هناك فلك وشمس لكان المقدار مقدراً بيومين، والمشهور أن الأيام الستة بقدر أيام الدنيا، وقيل بقدر ستة آلاف سنة حكاه القرطبي، قال مجاهد ويوم من الستة الأيام (كألف سنة مما تعدون).
(وأوحى في كل سماء أمرها) قال قتادة والسدي أي خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وأفلاكها، وما فيها من الملائكة والبحار والبرد والثلج. وقيل المعنى أوحى فيها ما أراده وما أمر به، والإيحاء قد يكون بمعنى الأمر كما في قوله (بأن ربك أوحى لها) وقوله (وإذ أوحيت إلى الحواريين) أي أمرتهم، وهو أمر تكوين، قال ابن عباس " ولله على كل سماء بيت نحج إليه
(وزينا السماء الدنيا) أي التي تلي الأرض (بمصابيح) أي بكواكب مضيئة متلألئة عليها كتلألؤ المصابيح، وفيه التفات إلى نون العظمة لإِبراز مزيد العناية بالتزيين المذكور.
(وحفظاً) أي وحفظناها حفظاً أو خلقنا المصابيح زينة وحفظاً والأول أولى. قال أبو حيان في الوجه الثاني هو تكلف عدول عن السهل البين، والمراد بالحفظ حفظها من الشياطين الذين يسترقون السمع (ذلك) أي ما وقع وتقدم ذكره (تقدير العزيز العليم) أي البليغ القدرة الكثير العلم.
(فقل أنذرتكم) أي خوفتكم، وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الإنذار المنبىء عن تحقق المنذر به (صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) أي عذاباً مثل عذابهم، والمراد بالصاعقة العذاب المهلك من كل شيء، قال المبرد: الصاعقة المرة المهلكة لأي شيء كان، والصاعقة في الأصل هي الصيحة التي يحصل بها الهلاك أو قطعة نار تنزل من السماء معها رعد شديد، والمراد بها هنا مطلق العذاب. لكن بالنظر إلى الصاعقة الأولى، وأما الثانية فالمراد بها حقيقتها، قرأ الجمهور صاعقة بالألف في الموضعين، وقرىء صعقة فيهما، وقد تقدم بيان معنى الصاعقة والصعقة في البقرة.
(من بين أيديهم ومن خلفهم) أي أتوهم من كل جانب، وعملوا
وقيل: المعنى جاءتهم الرسل المتقدمون والمتأخرون على تنزيل مجيء كلامهم ودعوتهم إلى الحق منزلة مجيء أنفسهم، فكأن الرسل قد جاؤوهم وخاطبوهم بقولهم:
(ألا تعبدوا إلا الله) أي بأن لا تعبدوا على أنها مصدرية أو تفسيرية أو مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف، ثم ذكر سبحانه ما أجابوا به الرسل فقال: (قالوا) أي عاد وثمود مخاطبين لهود وصالح: (لو شاء ربنا لأنزل) أي لأرسل إلينا (ملائكة) ولم يرسل إلينا بشراً من جنسنا، ثم صرحوا بالكفر ولم يتلعثموا فقالوا: (فإنا بما أرسلتم به كافرون) أي كافرون بما تزعمونه من أن الله أرسلكم إلينا لأنكم بشر مثلنا لا فضل لكم علينا، فكيف اختصكم برسالته دوننا.
وقد تقدم دفع هذه الشبهة الدحضة التي جاؤوا بها في غير موضع، وفيه تغليب المخاطب على الغائب، فغلبوا هوداً وصالحاً على من قبلهما من الرسل، فكأنهم قالوا: فإنا كافرون بكما وَبِمَنْ دعوتمونا إلى الإيمان به ممن قبلكما من الرسل.
ولما ذكر عاد وثمود إجمالاً ذكر ما يختص بكل طائفة من الطائفتين تفصيلاً فقال:
(أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة) الاستفهام للاستنكار عليهم والتوبيخ، أي أولم يعلموا بأن الله أشد منهم قدرة وأوسع منهم قوة؟ فهو قادر على أن ينزل بهم من أنواع عقابه ما شاء، يقول كن فيكون، وقال (خلقهم)، ولم يقل خلق السموات، والأرض، لأن هذا أبلغ في تكذيبهم في ادعاء انفرادهم بالقوة، فإنهم حيث كانوا مخلوقين فبالضرورة أن خالقهم أشد قوة منهم.
ثم بين سبحانه وقت نزول ذلك العذاب عليهم فقال:
(فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ) أي نكدات مشئومات ذوات نحوس عليهم، قال مجاهد وقتادة: كن آخر شوال من يوم الأربعاء إلى يوم الأربعاء، وذلك (سبع ليال وثمانية أيام حسوماً) قيل: وما عذب قوم إلا في يوم الأربعاء، وقيل: نحسات باردات، حكاه الثعلبي، وقيل: متتابعات، وقيل: شداد، وقيل: ذوات غبار وتراب ثائر، لا يكاد يبصر فيه. قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو نحسات بإسكان الحاء على أنه جمع نحس، وقرأ الباقون بكسرها، واختار أبو حاتم الأولى لقوله (في يوم نحس مستمر)، واختار أبو عبيد الثاني (لنذيقهم) أي لكي نذيقهم.
(عذاب الخزي في الحياة الدنيا) والخزي هو الذل والهوان بسبب ذلك الاستكبار، وهو في الأصل صفة المعذب، وإنما وصف به العذاب على الإِسناد المجازي للمبالغة، فهو من إضافة الموصوف إلى صفته أي العذاب الخزي، ولهذا جاء:
قال الفراء معنى الآية دللناهم على مذهب الخير بإرسال الرسل. قال الشيخ أبو منصور يحتمل ما ذكر من الهداية التبيين، وخلق الاهتداء فيهم، فصاروا مهتدين، ثم كفروا بعد ذلك وعقروا الناقة لأن الهدي المضاف إلى الخلق يكون بمعنى البيان والتوفيق، وخلق فعل الاهتداء، فأما الهدي المضاف إلى الخلق فيكون بمعنى البيان لا غير.
وقال صاحب الكشاف فيه فإن قلت أليس معنى قولك هديته جعلت فيه الهدي؟ والدليل عليه قولك هديته فاهتدى بمعنى تحصيل البغية وحصولها، كما تقول ردعته فارتدع فكيف ساغ استعماله في الدلالة المجردة؟ قلت للدلالة على أنه مكنهم فأزاح عللهم، ولم يبق لهم عذر فكأنه حصل البغية فيهم بتحصيل ما يوجبها ويقتضيها اهـ وإنما تمحل بهذا لأنه لا يتمكن من أن يفسره بخلق الاهتداء لأنه يخالف مذهبه الفاسد.
قرأ الجمهور ثمود بالرفع، ومنع الصرف، وقرىء بالرفع والصرف، وقرىء بالنصب والصرف، وقرىء بالنصب والمنع، فأما الرفع فعلى الابتداء وهو الفصيح وأما النصب فعلى الاشتغال، وأما الصرف فعلى تفسير الاسم بالأب أو الحي، وأما المنع فعلى تأويله بالقبيلة.
(فاستحبوا العمى على الهدى) أي اختاروا الكفر على الإيمان قال أبو العالية اختاروا العمى على البيان، وقال السدي اختاروا المعصية على الطاعة
(فهم يوزعون) أي يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا ويجتمعوا، كذا قال قتادة والسدي وغيرهما، وبه قال ابن عباس أي يستوقف سوابقهم حتى يلحق بهم تواليهم، وهي عبارة عن كثرة أهل النار، وأصله من وزعته أي كففته، وقد سبق تحقيق معناه في سورة النمل مستوفى، وعن ابن عباس قال: يدفعون، وقيل يساقون.
وقال الكرخي: ينطقها الله تعالى كإنطاق اللسان فتشهد. وليس نطقها بأغرب من نطق اللسان عقلاً، وإيضاحه أن البنية ليست شرطاً للحياة والعلم والقدرة فالله تعالى قادر على خلق العقل والقدرة والنطق في كل جزء من أجزاء هذه الأعضاء.
قال مقاتل تنطق جوارحهم بما كتمت ألسنهم من عملهم بالشرك.
والمراد بالجلود هي جلودهم المعروفة في قول أكثر المفسرين. وقيل: المراد بها الجوارح مطلقاً، فالعطف من قبيل عطف العام على الخاص. وقال السدي وعبيد الله بن أبي جعفر والفراء: أراد بالجلود الفروج وهو من باب الكنايات كما قال تعالى: (لا تواعدوهن سراً) أراد النكاح، وقال تعالى: (أو جاء أحد منكم من الغائط) والمراد قضاء الحاجة، وفي الحديث: " أول ما يتكلم من الآدمي فخذه وكفه "، وعلى هذا التقدير تكون الآية وعيداً شديداً في إتيان الزنا لأن مقدمة الزنا إنما تحصل بالفخذ والأول أولى.
ووجه تخصيص الثلاثة بالشهادة دون غيرها مع أن الحواس خمسة، وهي السمع والبصر والشم والذوق واللمس، وآلة اللمس هي الجلد، ما ذكره الرازي أن الذوق داخل في اللمس من بعض الوجوه، لأن إدراك الذوق إنما يتأتى بأن تصير جلدة اللسان مماسة لجرم الطعام، وكذلك الشم لا يتأتى حتى تصير جلدة الأنف مماسة لجرم المشموم فكانا داخلين في حس اللمس انتهى.
وإذا عرفت من كلامه هذا وجه تخصيص الثلاثة بالذكر عرفت منه وجه تخصيص الجلود بالسؤال كما قال:
(قالوا) مجيبين لهم معتذرين: (أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء) مما ينطق من مخلوقاته، فشهدنا عليكم بما عملتم من القبائح، وقيل: المعنى ما نطقنا باختيارنا بل أنطقنا الله والأول أولى، والمعنى أن نطقنا ليس بعجيب من قدرة الله الذي قدر على إنطاق كل حيوان.
(وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون) قيل: هذا من تمام كلام الجلود، وقيل إنه من كلام الملائكة، وقيل: مستأنف من كلام الله، والمعنى أن من قدر على خلقكم وإنشائكم ابتداء قدر على إعادتكم ورجعكم إليه، ولعل صيغة المضارع مع أن هذه المحاورة بعد البعث والرجوع لما أن
وأخرج عبد الرزاق وأحمد والنسائي وابن أبي حاتم والحاكم وصححه، والبيهقي في البعث عن معاوية ابن حيدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تحشرون ههنا وأوما بيده إلى الشام مشاة وركباناً وعلى وجوهكم، وتعرضون على الله وعلى أفواهكم الفدام وأول ما يعرب عن أحدكم فخذه وكفه وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كنتم تستترون " الخ.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: " كنت مستتراً بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفر قرشي وثقفيان أو ثقفي وقرشيان، كثير لحم بطونهم قليل فقه قلوبهم، فتكلموا بكلام لم أسمعه فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع كلامنا هذا؟ فقال الآخر: إن لنا آنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه، وإنا إذا لم نرفعه لم يسمعه، فقال الآخر إنه إن سمع منه شيئاًً سمعه كله، قال: فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: وما كنتم تستترون أن
(ولكن ظننتم) عند استتاركم من الناس مع عدم استتاركم من أعضائكم (أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون) من المعاصي فاجترأتم على فعلها قيل: كان الكفار يقولون: إن الله لا يعلم ما في أنفسنا، ولكن يعلم ما نظهر دون ما نسر، قال قتادة: الظن هنا بمعنى العلم، وقيل: أريد بالظن معنى مجازي يعم معناه الحقيقي، وما هو فوقه من العلم.
(فأصبحتم من الخاسرين) أي الكاملين في الخسران، قال المحققون الظن قسمان أحدهما حسن والآخر قبيح، فالحسن أن يظن بالله عز وجل: الرحمة والفضل والإحسان، قال صلى الله عليه وسلم، حكاية عن الله عز وجل: " أنا عند ظن عبدي بي " (١).
وأخرج أحمد وأبو داود والطيالسي وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود وابن ماجة وابن حبان وابن مردويه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى، فإن قوما قد أرداهم سوء ظنهم بالله، فقال الله وذلكم ظنكم " (٢) الآية، والظن القبيح أن يظن أنه تعالى يعزب عن علمه بعض هذه الأفعال، وقال قتادة الظن نوعان مرد ومنج، فالمنجي قوله: (إني ظننت أني ملاق حسابيه)، وقوله: (الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم)، والمردي هو قوله: (وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم) ثم أخبر عن حالهم فقال:
_________
(١) البخاري ٨/ ٤٣١ - أحمد ٣٦١٤/ ٣٨٧٥ والترمذي ٢/ ١٥٢ والطبري ٢٤/ ١٠٩.
(٢) مسلم ٤/ ٢٢٠٦.
والمعنى أنهم إن يسألوا أن يرجع بهم إلى ما يحبون لم يرجع لأنهم لا يستحقون ذلك قال الخليل تقول استعتبته فاعتبني أي استرضيته فأرضاني ومعنى الآية إن يطلبوا الرضا لم يقع الرضا عنهم بل لا بد لهم من النار قرأ الجمهور يستعتبوا بفتح التحتية وكسر التاء الفوقية الثانية مبنياً للفاعل ومن المعتبين بفتح الفوقية اسم مفعول وقرىء يُستعتبوا مبنياً للمفعول وقرىء من المعتبين اسم فاعل أي أنهم إن أقالهم الله وردهم إلى الدنيا لم يعملوا بطاعته كما في قوله سبحانه (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه).
(فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم) فإن المعنى زينوا لهم ما بين أيديهم من أمور الدنيا وشهواتها وحملوهم على الوقوع في معاصي الله بانهماكهم فيها وزينوا لهم ما خلفهم من أمور الآخرة فقالوا لا بعث ولا حساب ولا جنة ولا نار وقال الزجاج ما بين أيديهم ما عملوه وما خلفهم ما عزموا على أن يعملوه وروي عنه أيضاًً أنه قال ما بين أيديهم من أمر الآخرة وما خلفهم من أمر الدنيا بأن الدنيا قديمة ولا صانع إلا الطبائع والأفلاك.
(وحق عليهم القول) أي وجب وثبت عليهم العذاب وتحقق مقتضاه وهو قوله سبحانه (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) (في أمم) أي كائنين في جملة أمم وقيل في بمعنى مع أي مع أمم من الأمم الكافرة ولا حاجة إلى بدل حرف من حرف مع إمكان بقائه على بابه والمعنى الأمم التي (قد خلت) ومضت (من قبلهم من الجن والإنس) على الكفر (إنهم كانوا خاسرين) تعليل لاستحقاقهم العذاب قاله الكرخي.
وقد تقدم الكلام في اللغو في سورة البقرة (لعلكم تغلبون) أي لكي تغلبوا فيسكتوا، عن ابن عباس قال " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بمكة إذا قرأ القرآن يرفع صوته فكان المشركون يطردون الناس عنه ويقولون (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون) وكان إذا أخفى قراءته لم يسمع من يحب أن يسمع القرآن فأنزل الله (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) " أخرجه ابن أبي حاتم.
ثم توعدهم سبحانه على ذلك فقال:
وفي هذا تعريض بمن لا يكون عند كلام الله المجيد خاضعاً خاشعاً متفكرا متدبراً وتهديد ووعيد لمن يصدر عنه عند سماعه ما يشوش على القارىء ويخلط عليه القراءة فانظر إلى عظمة القرآن وتأمل في هذا التغليظ والتشديد وأشهد لمن عظمه وأجل قدره وألقى إليه السمع وهو شهيد بالفوز العظيم والأجر الكبير.
قال مقاتل يعني القرآن يجحدون أنه من عند الله وعلى هذا يكون التعبير عن اللغو بالجحود لكونه سبباً له إقامة للسبب مقام المسبب.
قال تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإِنس والجن) وقال (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه وأرضاه - هو ابن آدم الذي قتل أخاه وإبليس أي لأنهما سنا المعصية لبني آدم، قرأ الجمهور: أرنا بكسر الراء وقرىء: بسكونها وهما لغتان بمعنى واحد.
وقال الخليل إذا قلت أرني ثوبك بالكسر فمعناه بصرنيه وبالسكون أعطنيه (نجعلهما تحت أقدامنا) في النار أي ندوسهما بأقدامنا لنشتفي منهما وليكونا وقاية بيننا وبينها فتخف عنا حرارتها نوع خفة و (ليكونا من الأسفلين) فيها مكاناً أو ليكونا من الأذلين المهانين وقيل ليكونا أشد عذاباً منا قال الزجاج ليكونا في الدرك الأسفل وممن هو دوننا ثم لما ذكر سوء عقاب الكافرين وما أعده لهم ذكر حسن حال المؤمنين وما أنعم به عليهم فقال:
(ثم استقاموا) أي داموا وثبتوا على التوحيد ولم يلتفتوا إلى إله غير الله وثم للتراخي في الزمان من حيث أن الاستقامة أمر يمتد زمانه أفاده أبو السعود وقال الخطيب ثم لتراخي الرتبة في الفضيلة فإن الثبات على التوحيد ومصححاته إلى الممات في علو رتبته أمر لا يرام إلا بتوفيق ذي الجلال والإكرام قال جماعة من الصحابة والتابعين معنى الاستقامة إخلاص العمل لله تعالى.
وقال قتادة وابن زيد ثم استقاموا على طاعة الله وقال الحسن استقاموا على أمر الله فعملوا بطاعته واجتنبوا معاصيه وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى ماتوا وقال الثوري عملوا على وفاق ما قالوا وقال الربيع أعرضوا عما سوى الله وقال الفضيل بن عياض زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية.
عن أنس قال: " قرأ علينا رسول الله ﷺ هذه الآية قال: قد قالها ناس من الناس ثم كفر أكثرهم فمن قالها حين يموت فهو ممن استقام عليها " أخرجه الترمذي والنسائي والبزار وأبو يعلى وغيرهم وقال أبو بكر الصديق الاستقامة أن لا يشركوا بالله شيئاً وعنه قال لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان قال أبو حيان قال ابن عباس نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق وعن بعض الصحابة قال ثم استقاموا على فرائض الله.
وعن عمر بن الخطاب قال: استقاموا بطاعة الله لم يروغوا روغان الثعلب وأخرج أحمد وعبد بن حميد والدارمي والبخاري في تاريخه ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان عن سفيان بن عبد الله الثقفي أن رجلاً قال: " يا رسول الله مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحداً بعدك. قال: قل
(تتنزل عليهم الملائكة) من عند الله بالبشرى التي يريدونها من جلب نفع أو دفع ضر أو رفع حزن قال ابن زيد ومجاهد تتنزل عليهم عند الموت وقال مقاتل وقتادة إذا قاموا من قبورهم للبعث وقال وكيع البشرى في ثلاثة مواطن عند الموت وفي القبر وعند البعث قال البيضاوي أو في حياتهم فيما يعرض لهم من الأحوال تأتيهم بما يشرح صدورهم ويدفع عنهم الخوف والحزن.
(أن لا تخافوا ولا تحزنوا) أن هي المخففة أو المفسرة أو الناصبة ولا على الوجهين الأولين ناهية وعلى الثالث نافية والمعنى لا تخافون مما تقدمون عليه من أمور الآخرة ولا تحزنوا على ما فاتكم من أمور الدنيا من أهل وولد ومال.
قال مجاهد لا تخافوا الموت ولا تحزنوا على أولادكم فإن الله خليفتكم عليهم وقال عطاء لا تخافوا رد ثوابكم فإنه مقبول ولا تحزنوا على ذنوبكم فإني أغفرها لكم والظاهر عدم تخصيص تنزل الملائكة عليهم بوقت معين وعدم تقييد نفي الخوف والحزن بحالة مخصوصة كما يشعر به حذف المتعلق في الجميع والخوف غم يلحق النفس لتوقع مكروه في المستقبل والحزن غم يلحقها لفوات نفع في الماضي.
(وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) بها على ألسنة الرسل في الدنيا فإنكم واصلون إليها مستقرون بها خالدون في نعيمها ثم بشرهم سبحانه بما هو أعظم من ذلك كله فقال
_________
(١) مسلم ١/ ٦٥ - السيوطي في الدر ٥/ ٣٦٣.
وقال السدي نحن الحفظة لأعمالكم في الدنيا وأنصاركم وأحباؤكم وأولياؤكم في الآخرة وقيل أنهم يشفعون لهم في الآخرة ويتلقونهم بالكرامة وقال النسفي رحمه الله كما أن الشياطين قرناء العصاة والكافرين فكذلك الملائكة أولياء المتقين وأحباؤهم في الدارين (ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم) من صنوف الكرامات واللذات وأنواع النعم (ولكم فيها ما تدعون) أي تتمنون افتعال من الدعاء بمعنى الطلب.
وقد تقدم بيان معنى هذا في قوله (ولهم ما يدعون) مستوفى، والفرق بين الجملتين أن الأولى باعتبار شهوات أنفسهم، والثانية باعتبار ما يطلبونه، أعم من أن يكون مما تشتهيه أنفسهم أولاً، إذ لا يلزم أن يكون كل مطلوب مشتهى، كالفضائل العلمية، وإن كان الأول أعم أيضاً من وجه بحسب حال الدنيا فالمريض لا يريد ما يشتهيه ويضر مرضه إلا أن يقال التمني أعم من الإرادة، وقال الرازي: الأقرب عندي أن قوله: (ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم) إشارة إلى الجنة الروحانية المذكورة في قوله (دعواهم فيها سبحانك اللهم) الآية.
وانتصاب
وقال عكرمة وقيس بن أبي حازم ومجاهد: نزلت في المؤذنين قالت عائشة الداعي إلى الله المؤذن والعمل الصالح ركعتان فيما بين الأذان والإقامة وعنها قالت: ما أرى هذه الآية نزلت إلا في المؤذنين، ويجاب عن هذا بأن الآية مكية والأذان إنما شرع بالمدينة والأولى حمل الآية على العموم كما يقتضيه اللفظ، ويدخل فيها من كان سبباً لنزولها دخولاً أولياً، فكل من جمع بين دعاء العباد إلى ما شرعه الله وعمل عملاً صالحاً، وهو تأدية ما فرضه الله عليه مع اجتناب ما حرمه عليه.
وكان من المسلمين ديناً لا من غيرهم، فلا شيء أحسن منه ولا أوضح من طريقته، ولا أكثر ثواباً من عمله، قيل: وللدعوة إلى الله مراتب الأولى
ثم بين سبحانه الفرق بين محاسن الأعمال ومساويها فقال:
(ادفع بالتي هي أحسن) استئناف مبين لحسن عاقبة الحسنة، أي ادفع السيئة إذا جاءتك من المسيء بأحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات، ومنه مقابلة الإساءة بالإحسان، والذنب بالعفو، والغضب بالصبر، والإغضاء عن الهفوات، والاحتمال للمكروهات، قال ابن عباس أمر المسلمين بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل: والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم وقال ابن عباس القه بالسلام وقال مجاهد وعطاء: بالتي هي أحسن يعني بالسلام إذا لقي من
والمعنى أن الحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما، فخذ بالحسنة التي هي أحسن من أختها إذا اعترضتك حسنتان فادفع بها السيئة التي ترد عليك من بعض أعدائك، كما لو أساء إليك رجل إساءة فالحسنة أن تعفو عنه والتي هي أحسن أن تحسن إليه مكان إساءته إليك، مثل أن يذمك فتمدحه، أو يقتل ولدك فتفتدي ولده من يد عدوه، ووضع التي هي أحسن موضع الحسنة ليكون أبلغ في الدفع بالحسنة، لأن من دفع بالحسنى هان عليه الدفع بما دونها.
(فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) هذه هي الفائدة الحاصلة من الدفع بالتي هي أحسن، والمعنى أنك إذا فعلت ذلك الدفع صار العدو كالصديق، والبعيد عنك كالقريب منك، وقال مقاتل: نزلت في أبي سفيان ابن حرب كان معادياً للنبي صلى الله عليه وسلم، فصار له ولياً بالمصاهرة التي وقعت بينه وبينه، ثم أسلم فصار ولياً في الإسلام، حميماً بالمصهارة، وقيل غير ذلك، والأولى حمل الآية على العموم.
(وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) في الثواب والخير، أو من الخلق الحسن وكمال النسب، وهذا أنسب. وقال قتادة: الحظ العظيم الجنة أي ما يلقاها إلا من وجبت له الجنة، وقيل الضمير في يلقاها عائد إلى الجنة، وقيل راجعة إلى كلمة التوحيد، قرأ الجمهور، يلقاها من التلقية، وقرىء تلاقاها من الملاقاة ثم أمر سبحانه بالاستعاذة من الشيطان فقال:
وجملة: (إنه هو السميع العليم) تعليل لما قبلها، أي السميع لكل ما يسمع، ومنه استعاذتك، والعليم بكل ما يعلم ومنه فعلك وأحوالك، ومن كان كذلك فهو يعيذ من استعاذ به، وقال هنا بزيادة هو وأل، وفي الأعراف بدونهما، لأن ما هنا متصل بمؤكد بالتكرار وبالحصر، فناسب التأكيد بما ذكر، وما في الأعراف خلي عن ذلك، فجرى على القياس من كون المسند إليه معرفة والمسند نكرة.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سليمان بن صرد قال: استب
ثم شرع سبحانه في بيان بعض آياته البديعة، الدالة على كمال قدرته وقوة تصرفه للاستدلال بها على توحيده فقال:
(واسجدوا لله الذي خلقهن) أي هذه الأربعة المذكورة، لأن جمع ما لا يعقل حكمه حكم جمع الإناث، أو الآيات، أو الشمس والقمر، لأن الاثنين جمع عند جماعة من الأئمة. قال السمين: وإنما عبر عن الأربع بضمير الإناث مع أن فيها ثلاثة مذكرة والعادة تغليب المذكر على المؤنث، لأنه لما قال: ومن آياته فنظم الأربعة في سلك الآيات صار كل واحد منها آية فعبر عنها بضمير الإناث في قوله: خلقهن.
(إن كنتم إياه تعبدون) قيل: كان ناس يسجدون للشمس والقمر كالصابئين في عبادتهم الكواكب، ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود لله، فنهوا عن ذلك، فهذا وجه تخصيص ذكر السجود بالنهي عنه،
وهذه الآية من آيات السجود بلا خلاف، وإنما اختلفوا في موضع السجدة فقيل: موضعها عند قوله (إن كنتم إياه تعبدون)، لأنه متصل بالأمر، وقيل عند قوله (وهم لا يسأمون) لأنه تمام الكلام، وعن ابن عباس أنه كان يسجد بآخر الآيتين من حم السجدة، وكان ابن مسعود يسجد بالأولى منهما، وعن ابن عمر أنه كان يسجد بالأولى ويسجد بالآية الأخيرة.
(وربت) انتفخت وعلت قبل أن تنبت، قاله مجاهد وغيره أي تصدعت عن النبات بعد موتها، وعلى هذا ففي الكلام تقديم وتأخير
وقد تقدم تفسير هذه الآية مستوفى في سورة الحج، وقيل اهتزت استبشرت بالمطر وربت انتفخت بالنبات، وقيل تشققت فارتفع ترابها. وخرج منها النبات وسما في الجو مغطياً لوجهها، وتشعبت عروقه وغلظت سوقه، فصار يمنع سلوكها على ما كانت فيه من السهولة، وتزخرفت بذلك النبات كأنها بمنزلة المختال في زيه. لما كانت قبل ذلك كالذليل، وقرأ أبو جعفر وخالد ربأت (إن الذي أحياها لمحيي الموتى) بالبعث والنشور (إنه على كل شيء قدير) لا يعجزه شيء كائناً ما كان.
(لا يخفون علينا) بل نحن نعلمهم فنجازيهم بما يعملون، قيل: نزلت في أبي جهل، ثم بين كيفية الجزاء والتفاوت بين المؤمن والكافر فقال: (أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) الاستفهام
وظاهر الآية العموم اعتباراً بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهو تمثيل للكافر والمؤمن، وقيل: المراد بمن يلقى في النار أبو جهل، ومن يأتي آمناً النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل حمزة وقيل عمر بن الخطاب وقيل: أبو سلمة بن عبد الأسود المخزومي، وقال ابن عباس: أبو جهل ابن هشام ومن يأتي آمناً يوم القيامة أبو بكر الصديق. وعن بشير بن تميم قال: نزلت في أبي جهل وعمار بن ياسر، وعن عكرمة مثله، وكان الظاهر أن يقال أم من يدخل الجنة؟ وعدل عنه للتصريح بأمنهم، وانتفاء الخوف عنهم، قاله الكرخي. وترسم (أم) مفصولة من (من) اتباعاً للمصحف الإمام.
(اعملوا) هذا أمر تهديد، أي اعملوا من أعمالكم التي تلقيكم في النار (ما شئتم) فهو مجازيكم على كل ما تعملون، قال الزجاج: لفظه لفظ الأمر، ومعناه الوعيد، وقال ابن عباس: هذا لأهل بدر خاصة (إنه بما تعملون بصير) لا تخفى عليه منه خافية فيجازيكم عليه.
ثم وصفه بأنه حق لا سبيل للباطل إليه بوجه من الوجوه فقال:
(تنزيل من حكيم حميد) خبر مبتدأ محذوف، أو صفة أخرى لكتاب ثم سلى سبحانه رسوله ﷺ عما كان يتأثر له من أذية الكفار فقال
(إن ربك لذو مغفرة) لمن يستحق مغفرته من الموحدين الذين تابعوك وتابعوا من قبلك من الأنبياء (وذو عقاب أليم) للكفار المكذبين المعادين لرسل الله، وقيل: لذو مغفرة للأنبياء وذو عقاب لأعدائهم.
وقال الرازي في لوامحه. هي كياء كرسي ويختي، وفرق بينهما الشيخ، والأعجم ضد الفصيح وهو الذي لا يبين كلامه، ويقال للحيوان غير الناطق أعجم، وقيل المراد هلا فصلت آياته فجعل أعجمياً لإفهام العجم وبعضها عربياً لإفهام العرب، قال ابن عباس: يقول لو جعلنا القرآن أعجمياً ولسانك يا محمد عربي لقالوا أعجمي وعربي تأتينا به مختلفاً أو مختلطاً هَلاَّ بينت آياته فكان القرآن مثل اللسان يقول، فلم نفعل لئلا يقولوا فكانت حجة عليهم قرأ أبو بكر وحمزة والكسائي أأعجمي بهمزتين مخففتين وقرىء بهمزة واحدة وقرىء بتسهيل الثانية بين بين:
ثم أمر الله سبحانه رسوله ﷺ أن يجيبهم فقال:
(قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء) أي يهتدون به إلى الحق ويستشفون
(والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر) أي صمم عن سماعه، وفهم معانيه ولهذا تواصوا باللغو فيه والموصول مبتدأ خبره في آذانهم وقر، والموصول الثاني عطف على الأول، ووقر عطف على هدى، عند من جوز العطف على معمولي عاملين مختلفين والتقدير هو للأولين هدى وشفاء وللآخرين وقر في آذانهم.
(وهو عليهم عمى) وذلك لتصامهم عن سماعه، وتعاميهم عما يريهم من الآيات، قال قتادة: عموا عن القرآن وصموا عنه. وقال السدي عميت قلوبهم عنه والمعنى وهم عليه ذو عمى، ووصف بالمصدر للمبالغة، وقيل: المعنى والوقر عليهم عمى، أي ظلمة وشبهة، قرأ الجمهور عمى بفتح الميم منونة على أنه مصدر.
وقرأ ابن عباس وعبد الله بن الزبير وعمرو بن العاص وابن عمر بكسر الميم منونة على أنه إسم منقوص على أنه وصف به مجازاً. وقرىء بكسر الميم وفتح الياء على أنه فعل ماض، واختار أبو عبيدة القراءة الأولى.
(أولئك) أي الذين لا يؤمنون (ينادون من مكان بعيد) مثل حالهم باعتبار عدم فهمهم للقرآن بحال من ينادي من مسافة بعيدة لا يسمع من يناديه منها، قال الفراء: تقول للرجل الذي لا يفهم كلامك أنت تنادي من مكان بعيد، ففيه استعارة تمثيلية، وقال الضحاك ينادون يوم القيامة بأقبح أسمائهم من مكان بعيد وقال مجاهد من مكان بعيد من قلوبهم.
(ولولا كلمة سبقت من ربك) في تأخير العذاب عن المكذبين بالقرآن من أمتك وإمهالهم كما في قوله: (ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى) (لقضى بينهم) بتعجيل العذاب لمن كذب منهم قال قتادة أي سبق لهم من الله حين وأجل هم بالغوه.
(وإنهم لفي شك منه مريب) أي من كتابك المنزل عليك وهو القرآن ومعنى الشك المريب الموقع في الريبة والشديد الريبة، وقيل: إن المراد اليهود، وأنهم في شك من التوراة مريب، والأولى أولى.
وقال الكرخي: ليس بذي ظلم أشار به إلى أن ظلام ليس على بابه، وقد تقدم الكلام على معنى هذه الآية في سورة آل عمران عند قوله: (وأن الله ليس بظلام للعبيد) وفي سورة الأنفال أيضاًً ثم أخبر سبحانه أن علم القيامة ووقت قيامها لا يعلمه غيره فقال:
والأكمام جمع كم بكسر الكاف، وهو روي الثمرة، ويطلق على كل ظرف لمال أو غيره، قال أبو عبيدة أكمامها أوعيتها، وهي ما كانت فيه الثمرة واحدها: كم وكمة، قال الراغب: الكم ما يغطي اليد من القميص وما يغطي الثمرة وجمعه أكمام، وهذا يدل على أن الكم بضم الكاف لأنه جعله مشتركاً بين كم القميص وكم الثمرة، ولا خلاف في كم القميص أنه بالضم، ويمكن أن يقال: إن في الكم الذي هو وعاء الثمر لغتين، قرأ الجمهور من ثمرة بالإفراد على إرادة الجنس، وقرىء بالجمع للاختلاف في أنواع الثمار، قاد قتادة من أكمامها حين تطلع.
(وما تحمل من أنثى) حملاً في بطثها (ولا تضع) ذلك الحمل (إلا بعلمه) أي علم الله سبحانه والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال، أي ما
(ويوم يناديهم) أي ينادي الله سبحانه المشركين، وذلك يوم القيامة فيقول لهم: (أين شركائي) الذين كنتم تزعمون أنهم شركائي في الدنيا، من الأصنام وغيرها، فادعوهم الآن فليشفعوا لكم، أو يدفعوا عنكم العذاب وهذا على طريقة التهكم بهم والتقريع لهم، وأضافهم إلى نفسه على زعمهم الباطل، والعامل في يوم محذوف أي اذكر.
(قالوا) أي يقولون، فالماضي بمعنى المضارع (آذناك) أي اعلمناك قال ابن عباس يقال: آذن يؤذن إذا أعلم أي أعلمناك وقيل: أخبرناك، قال النسفي: وهو الأظهر إذ الله تعالى كان عالماً بذلك، وإعلام العالم محال إنما الإخبار للعالم بالشيء يتحقق بما علم به إلا أن يكون المعنى إنك علمت من قلوبنا الآن أنا لا نشهد تلك الشهادة الباطلة لأنه إذا علمه من نفوسهم فكأنهم أعلموه انتهى.
(ما منا من شهيد) يشهد بأن لك شريكاً، وذلك أنهم لما عاينوا القيامة تبرأوا من الشركاء، وتبرأت منهم تلك الأصنام التي كانوا يعبدونها، وقيل: لهم بأنهم كانوا محقين، والأول أولى.
(وإن مسه الشر) أي البلاء والشدة والفقر والمرض (فيئوس) من روح الله (قنوط) من رحمته، واليأس من صفة القلب وهو قطع الرجاء، والقنوط إظهار آثاره على ظاهر البدن، والحال المحلي يقتضي ترادفهما، وبه قال بعضهم فالجمع بينهما للتأكيد، وقيل يؤوس من إجابة دعائه قنوط بسوء الظن بربه، وقيل يؤوس من زوال ما به من المكروه، قنوط بما يحصل له من ظن دوامه وهما صيغتا مبالغة تدلان على أنه شديد اليأس، عظيم القنوط وبولغ فيه من طريقين من طريق بناء فعول كما أشرنا ومن طريق التكرير مع ما في القنوط
قال مجاهد: معناه هذا بعملي وأنا محقوق به، أو هذا لي دائماً لا يزول (وما أظن الساعة قائمة) أي ما أظنها تقوم كما يخبرنا بها الأنبياء أو لست على يقين من البعث، وهذا خاص بالكافرين والمنافقين، فيكون المراد بالإنسان المذكور في صدر الآية الجنس باعتبار غالب أفراده، لأن اليأس من رحمة الله والقنوط من خيره والشك في البعث لا يكون إلا من الكافرين أو المتزلزلين في الدين المتظهرين بالإسلام المبطنين للكفر.
(ولئن) لام قسم (رجعت إلى ربي) على تقدير صدق ما يخبرنا به الأنبياء من قيام الساعة وحصول البعث والنشور (إن لي عنده للحسنى) جواب القسم لسبقه الشرط، أي للحالة الحسنى من النعمة والكرامة، فظن أنه استحق خير الدنيا بما فيه من الخير واستحق خير الآخرة بذلك الذي اعتقده في نفسه، وأثبته لها، وهو اعتقاد باطل، وظن فاسد، وقد تضمن الكلام مبالغات حيث أكد بالقسم، وإن، وتقديم الظرفين، والعدول إلى صيغة التفضيل إذ الحسنى تأنيث الأحسن.
(فلننبئن الذين كفروا بما عملوا) أي لنخبرنهم به يوم القيامة وهذا جواب لقول الكافر ولئن رجعت إلى آخره، أي ليس الأمر كما يزعم وإنما له
(وإذا مسه الشر) أي البلاء والجهد والفقر والمرض (فذو) أي فهو ذو (دعاء عريض) أي كثير، والعرب تستعمل العرض والطول في الكثرة مجازاً يقال: أطال فلان في الكلام وأعرض في الدعاء إذا أكثر، فهو مستعار مما له عرض متسع، للإشعار بكثرته، فإن العريض يكون ذا أجزاء كثيرة، والاستعارة تخييلية، شبه الدعاء بأمر يوصف بالامتداد، ثم ثبت له العرض قاله الكرخي والطول أطول الامتدادين، فإذا كان عرضه كذلك فما ظنك بطوله، أفاده أبو السعود.
والمعنى أنه إذا مسه الشر تضرع إلى الله واستغاث به أن يكشف عنه ما نزل به، واستكثر من ذلك فذكره في الشدة ونسيه في الرخاء، واستغاث به عند نزول النقمة، وتركه عند حصول النعمة وهذا صنيع الكافرين، ومن كان غير ثابت القدم من المسلمين قال الشهاب فإن قلت: كونه يدعو دعاء طويلاً عريضاً ينافي وصفه قبل هذا بأنه يؤوس قنوط، لأن الدعاء فرع الطمع والرجاء، وقد اعتبر في القنوط ظهور أثر اليأس، فظهور ما يدل على الرجاء يأباه، قلت: يمكن دفع المنافاة بحمله على عدم اتحاد الأوقات والأحوال انتهى، أو لعل هذا شأن بعض غير البعض الذي حكى عنه اليأس والقنوط، أو شأن الكل في بعض الأوقات، ذكره أبو السعود.
(إن كان) القرآن (من عند الله) كما قلت (ثم كفرتم به) أي كذبتم به، ولم تقبلوه ولا عملتم بما فيه (من أضل ممن هو في شقاق) خلاف (بعيد) عن الحق أي لا أحد أضل منكم لفرط شقاوتكم، وشدة عداوتكم والأصل أي شيء أضل منكم فوضع من هو في شقاق موضع الضمير لبيان حالهم في المشاقة، وأنها السبب الأعظم في ضلالهم.
(وفي أنفسهم) قال ابن زيد: في الآفاق آيات السماء وفي أنفسهم حوادث الأرض وقال مجاهد في الآفاق فتح القرى التي يسر الله فتحها لرسول الله ﷺ وللخلفاء من بعده وأنصار دينه في آفاق الدنيا، وبلاد المشرق والمغرب عموماً، وفي ناحية المغرب خصوصاً من الفتوح التي لم
وقال قتادة والضحاك في الآفاق يعني أقطار السموات والأرض من الشمس والقمر والنجوم والليل والنهار والرياح والأمطار والرعد والبرق والصواعق والنبات والأشجار والجبال والبحار وغير ذلك وفي أنفسهم من لطيف الصنعة وبديع الحكمة، حتى في سبيل الغائط والبول فإن الرجل يأكل ويشرب من مكان واحد، ويتميز ذلك خارجاً من مكانين، وحتى في عينيه اللتين ينظر بهما من الأرض إلى السماء مسيرة خمسمائة عام، وفي أذنيه اللتين يفرق بهما بين الأصوات المختلفة وغير ذلك من بديع حكمة الله تعالى فيه.
فإن قيل: قوله سنريهم الخ يقتضي أنه إلى الآن ما أطلعهم على تلك الآيات وسيطلعهم عليها بعد ذلك، مع أن الآيات المذكورة قد اطلعوا عليها وهي منهم نصب العين، والجواب أن المراد على هذا سنريهم أسرار آياتنا الخ فالآيات وإن اطلعوا عليها بالفعل لكن سرها وحكمها لم يطلعوا عليه قاله الكرخي.
وعن ابن جريج في الآية قال أمسك المطر عن الأرض كلها. وفي أنفسهم قال البلايا التي تكون في أجسامهم وقال ابن عباس كانوا يسافرون فيرون آثار عاد وثمود فيقولون والله لقد صدق محمد صلى الله عليه وسلم، وما أراهم في أنفسهم قال الأمراض وقيل في كونهم نطفاً إلى غير ذلك من انتقال أحوالهم، كما تقدم في سورة المؤمنين بيانه.
(حتى يتبين لهم أنه الحق) الضمير راجع إلى القرآن وقيل إلى الإسلام الذي جاءهم به رسول الله ﷺ وقيل إلى ما يريهم الله
وقد حرف الوجودية هذه الآية الكريمة بحملها على اتحاد الخلق والخالق تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً (أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد) الجملة مستأنفة لتوبيخهم وتقريعهم على ترددهم في شأن القرآن، وعنادهم المحوج إلى إيراد وعدم اكتفائهم بإخباره تعالى، والمعنى أولم يغنهم، ولم يكفهم عن الآيات الموعودة، المبينة لحقية القرآن أنه سبحانه شهيد على جميع الأشياء وقيل المعنى أولم يكف بربك يا محمد أنه شاهد على أعمال الكفار، والباء زائدة، وهذا هو الراجح وقيل: أولم يكف بربك شاهداً على أن القرآن منزل من عنده؟ والشهيد بمعنى العالم أو هو بمعنى الشهادة التي هي الحضور، قال الزجاج: ومعنى الكفاية ههنا أن الله عز وجل قد بين لهم ما فيه كفاية في الدلالة والمعنى أولم يكف ربك أنه على كل شيء شهيد شاهد للأشياء لا يغيب عنه شيء ما.
_________
(١) زاد المسير ٢٦٩.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سورة الشورىوتسمى سورة حم عسق وسورة شورى من غير ألف ولام وسورة حم عسق وهي ثلاثة وخمسون آية.
وهي مكية كلها، قاله ابن عباس وابن الزبير، وكذا قال الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وروي عن ابن عباس وقتادة أنها مكية إلا أربع آيات منها نزلت بالمدينة (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) إلى آخرها، وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ونعيم ابن حماد والخطيب عن أرطأة ابن المنذر حديثاً طويلاً في تفسير حم عسق وهو حديث لا يصح ولا يثبت وما أظنه إلا من الموضوعات المكذوبات، والحامل لواضعه عليه ما يقع لكثير من الناس من عداوة الدول والحط من شأنهم والإزراء عليهم وكذا ما أخرجه أبو يعلى وابن عساكر عن أبي معاوية قال السيوطي بسند ضعيف وقلت بل بسند موضوع ومتن مكذوب.
وقد قال ابن كثير في الحدث الأول: إنه غريب عجيب منكر وفي الثاني إنه أغرب من الأول وعندي أنهما موضوعان مكذوبان.
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (١) عسق (٢) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣)