تفسير سورة ق

التفسير الواضح
تفسير سورة سورة ق من كتاب التفسير الواضح .
لمؤلفه محمد محمود حجازي .

سورة ق
وهي مكية كلها عند الكثير،
وفي رواية لمسلم عن أم هشام بنت حارثة قالت: لقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ هذه السورة كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس
وفي رواية أخرى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ في صلاة الأضحى والفطر ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ واقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ.
وهي كغيرها من السور المكية تعرضت للبعث ومنكريه، وضربت الأمثال بالأنبياء وأممهم وكيف كانت عاقبتهم، ثم تعرضت لخلق الإنسان ونهايته، ولأحوال يوم القيامة وما فيها من جنة ونار، ونعيم وجحيم، ويتخلل ذلك ذكر بعض آيات الله الشاهدة على إمكان البعث وأنه في قدرته، فمحور الكلام في هذه السورة يدور حول إمكان البعث وإثباته.
إنكارهم للبعث والدليل عليه [سورة ق (٥٠) : الآيات ١ الى ١١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤)
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩)
وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١)
516
المفردات:
ق تقرأ هكذا. قاف بإسكان الفاء، وهي قراءة حفص المشهورة.
عَجِيبٌ العجيب: الأمر الذي يتعجب منه، وكذلك العجاب والأعجوبة.
رَجْعٌ أى: رجوع. تَنْقُصُ: تأكل. مَرِيجٍ: مضطرب.
فُرُوجٍ: شقوق تعيبها. زَوْجٍ: صنف من النبات. بَهِيجٍ: يحصل به السرور. مُنِيبٍ: راجع إلى الله وتواب. جَنَّاتٍ: جمع جنة وهي البستان.
الْحَصِيدِ: ما يحصد كالشعير والقمح وغيرهما. باسِقاتٍ: طويلات.
نَضِيدٌ: متراكب بعضه فوق بعض.
المعنى:
لقد افتتح الله هذه السورة الكريمة بحرف من حروف المعجم، ثم بالكلام على القرآن الكريم، وهذا هو الشأن العام في السور المكية المفتتحة بالحروف التي لا تزال سرّا بين الله والنبي فالله ورسوله أعلم بها..
ولقد أقسم الحق- تبارك وتعالى- بالقرآن المجيد على أنك يا محمد جئت منذرا بالبعث، فشكوا في صدقك، ويا ليتهم ظلوا في شكهم يتحيرون بل جزموا بخلاف ذلك وأنكروا البعث مطلقا حتى جعلوا إثبات البعث من الأمور العجيبة بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ.
517
وفي وصف القرآن بالمجيد بيان لاشتماله على المكارم الدينية والدنيوية التي تكفل السعادة لمن اتبعها في الدارين، ولعل وصف القرآن بذلك لأنه كلام الإله المجيد الرحمن الرحيم ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ...
هؤلاء الكفار عجبوا لأن جاءهم رسول منهم ينذرهم بالبعث، فأنكر الله عليهم تعجبهم مما ليس بعجب «١»، وهو أن ينذرهم رجل منهم قد عرفوا فيه العدالة والصدق والأمانة حتى لقبوه بالأمين، ومن كان كذلك لم يكن إلا ناصحا لقومه عطوفا عليهم رائدا لهم غير كاذب عليهم- كما أقروا له بذلك قبل البعثة- ومثل هذا الرجل إذا رأى خطرا عليهم أنذرهم به، والنبي صلّى الله عليه وسلّم أنذرهم بما هو غاية في المخاوف، ونهاية في المتاعب لو ظلوا على شركهم، والله- سبحانه وتعالى- ينكر عليهم تعجبهم مما أنذرهم به من البعث مع علمهم بقدرة الله- تعالى- على خلق السموات والأرض وما بينهما، وإقرارهم له بأنه خلق العالم أولا، والعقل شاهد عدل بإمكان البعث بل لا بد منه ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالحسنى، وليجزي الذين أساءوا بالسوء.
فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ وتلك حكاية لتعجبهم «٢» والإشارة لكونه صلّى الله عليه وسلّم منذرا بالقرآن، والكلام عن هؤلاء الكفار أولا بالإضمار في قوله: بَلْ عَجِبُوا ثم بالإظهار في قوله: فَقالَ الْكافِرُونَ للإشارة إلى تعيينهم بما أسند إليهم أولا، والتسجيل عليهم بالكفر ثانية.
ثم أكدوا تعجبهم من الإيمان بالبعث فقالوا: أإذا متنا وكنا ترابا نبعث؟!! أى: حين نموت ونصير ترابا نرجع؟ إن ذلك رجوع بعيد جدّا عن الأوهام والعقول والواقع.
ترى أن أساس إنكارهم للبعث وتعجبهم منه أنهم يظنون أن إعادة الجسم بعد التفرق والانحلال والصيرورة إلى تراب أمر بعيد جدّا بل هو محال، ومن الذي يجمع الجزئيات بعد تفرقها في التراب أو ذهابها في بطون السباع والوحوش والأسماك؟ ومن الذي يحصى
(١) - لأن قوله تعالى: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ بل للإضراب الإبطالى مع تقدير استفهام إنكارى لعجبهم هذا.
(٢) - والفاء للتفصيل مثلها في قوله تعالى: وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ.
518
كل هذا حتى لا يفلت منه جزئى؟ إن ذلك لرجع بعيد جدا!! فيرد الله عليهم بأبلغ رد وآكده: ببيان علمه الشامل، وقدرته الكاملة، وضرب الشواهد المادية والأمثال على ذلك قد علم ربكم الذي خلقكم ورزقكم، وخلق ما أظلكم وما حملكم قد علم علما أكيدا ما تأكل الأرض من لحومكم وعظامكم، وما يتفرق منها في كل ناحية وهو العليم بكل شيء المحيط بكل ما في السموات وما في الأرض. وعنده كتاب حافظ لتفصيل كل شيء، ولعل المراد بالكتاب تمثيل علمه تعالى بالكليات والجزئيات والأشكال والألوان وبكل شيء أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [سورة الملك آية ١٤].
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ وهذا إضراب- أفاده لفظ بل- بل جاء بعد الإضراب الأول للدلالة على أنهم جاءوا بأفظع وأشنع من تعجبهم السابق بالإنذار، والمعنى أن هؤلاء كذبوا بالحق الذي هو القرآن أو النبوة مع قيام الشواهد المحسوسة والمعقولة على ذلك، التي لا تقبل شكا، كذبوا به بمجرد مجيئه من غير تفكير ولا روية وهذا تكذيب أفظع وأشد من الأول، فهم في أمر مضطرب حيث أنكروا النبوة على الإطلاق مرة، ومرة قالوا: إنه لا يستحقها إلا رجل غنى، ومرة قالوا: إن النبي ساحر وتارة كاذب، وأخرى كاهن، وهذا شأن المتردد الذي يبنى حكمه على غير أساس.
وهذه مظاهر قدرته تعالى شاهدة عليهم: أغفلوا فلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بناها الله بقدرة قادرة وسواء قلنا: إنها جرم- وهو الأصح- أو قلنا بغير ذلك فهي بلا شك قد بنيت بإحكام، ورفعت بدقة كاملة وقدرة واسعة. وكيف زينها بنجوم للناظرين، وليس لها فروج، وليس فيها شقوق، ولا عيوب.
أفلم ينظروا أيضا إلى الأرض كيف بسطها وكورها، وألقى فيها رواسى شامخات وأنبت فيها نباتا حسنا من كل صنف يأخذ الألباب، ويستهوى القلوب، ويسر الناظرين فعل ذلك كله تبصرة وذكرى لكل عبد تواب منيب وأنزل من السماء ماء مباركا كثير الخير والبركة، كثير النفع والخيرات، فأنبت منه جنات وعيونا، وزروعا وكروما، وأنبت به حب الزرع الذي يحصد كالبر والشعير والأرز وغيره، وانظر إلى النخل الباسقات الفارعات، لها طلع قد صف بعضه فوق بعض بنظام دقيق.
519
كل ذلك جعله رزقا لعباده، فهل يليق منهم الكفر والتكذيب؟! وانظر إلى الماء وقد أحيا به بلدة ميتة لا نبات بها، أحياها بالخضرة والنبات بين عشية أو ضحاها، إن الذي قدر على ذلك كله ليس عليه بعزيز أن يعيد خلقكم للبعث والثواب، ومثل ذلك المتقدم الخروج من القبور للبعث والحساب، وما ذلك على الله بعزيز..!
العبرة من سير الأولين [سورة ق (٥٠) : الآيات ١٢ الى ١٥]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥)
المفردات:
الرَّسِّ: البئر التي لم تطو. الْأَيْكَةِ: وهي الغيضة سموا بها تُبَّعٍ هو تبع الحميرى وكان مؤمنا وقومه كفار. أَفَعَيِينا العي: العجز، تقول: عييت بالأمر: إذا لم تعرف وجهه.
المعنى:
هكذا الرسل جميعا جاءوا بالتوحيد وإثبات البعث، وكذبتهم، أممهم أى:
أكثرهم، فاستحقوا العقاب الشديد من الله، فانظروا يا آل مكة موقفكم من رسولكم الذي أرسل إليكم.
كما كذب المشركون من العرب بالبعث كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب البئر المعروفة، قيل: هم قوم شعيب، وكذبت قوم ثمود، وقوم عاد، وفرعون وقومه،
وقوم لوط الذين كانوا إخوانه، وقوم تبع الحميرى، وقد مضى قبل ذلك قصص هؤلاء في غير موضع، كل كذب الرسل فيما أرسلوا من أجله، وخاصة أمر البعث، فوجب عليهم وعيد ربك، وحقت عليهم كلمة العذاب.
أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ؟ وهذا استئناف مقرر لصحة البعث الذي حكيت أحوال المنكرين له، والمعنى: أقصدنا الخلق الأول- أى بدء الخلق- فعجزنا عنه حتى يتوهم عجزنا عن الإعادة؟! إنهم معترفون بذلك، وأن الله هو الذي خلق الخلق أولا، فلا وجه لإنكارهم البعث، بل هم في خلط وشبهة من هذا الخلق الثاني، أى:
البعث..
تقوى الله والخوف من عذابه يوم القيامة [سورة ق (٥٠) : الآيات ١٦ الى ٣٥]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠)
وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢) وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥)
الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥)
521
المفردات:
ما تُوَسْوِسُ الوسوسة: الصوت الخفى، ومنه وسواس الحلي، أى: صوت الحلية، والمراد هنا حديث النفس. حَبْلِ الْوَرِيدِ: هو عرق في صفحة العنق.
يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ: يأخذ ويثبت الملكان الموكلان بالإنسان. قَعِيدٌ: جالس.
رَقِيبٌ عَتِيدٌ الرقيب: الحافظ للأعمال المراقب لها، والعتيد: الحاضر الذي لا يغيب. سَكْرَةُ الْمَوْتِ: شدته التي تذهب بالعقل. تَحِيدُ: تنفر وتهرب. سائِقٌ وَشَهِيدٌ أى: ملكان أحدهما يسوقه إلى المحشر والآخر يشهد عليه. حَدِيدٌ أى: حاد قوى. عَتِيدٌ أى: مهيأ لجهنم. عَنِيدٍ: معاند ومجانب للحق. مُعْتَدٍ: ظالم متخط للحق. مُرِيبٍ: شاك في الله وفي أخباره. ما أَطْغَيْتُهُ: ما أوقعته في الطغيان. وَأُزْلِفَتِ: قربت.
أَوَّابٍ: كثير الرجوع إلى الله. حَفِيظٍ: كثير الحفظ لحدود الله.
مُنِيبٍ: مقبل على الطاعة. مَزِيدٌ: زيادة.
المعنى:
يقول الله- جل جلاله-: ولقد خلقنا الإنسان وأبدعنا صورته، وأكملنا خلقته، ونحن نعلم السر وأخفى، ونعلم ما توسوس به نفسه، وما يستكن في ضميره، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فالله يعلم ما يخفيه الإنسان ويكنه في نفسه، من الخواطر
522
وحديث النفس، ولا غرابة في ذلك، فهو أقرب إلينا من حبل الوريد، وهذا تمثيل لكمال القرب، مع أن الله منزه عن الحلول في مكان وزمان، فهو قرب علم به وإحاطة بأحواله كلها فكأن ذاته قريبة منه «١».
ومع كمال العلم بالإنسان، وتمام الإحاطة بأحواله، ونفاذ قدرته عليه، وكل به ملكين يكتبان ويحصيان عليه عمله، إلزاما للحجة، وقطعا للمعذرة.
فالله أقرب إليه من حبل الوريد حين يتلقى المتلقيان اللذان يأخذان عنه ويحصيان عليه، أحدهما عن يمينه يكتب الحسنات، والآخر عن شماله يكتب السيئات، ما يلفظ الإنسان من قول، ولا يعمل من عمل إلا لديه ملكان موصوفان بأنهما رقيبان وعتيدان، فكل منهما رقيب، أى: حافظ للأعمال متتبع لأمور الإنسان، يحصيها ويسجلها، وكل منهما عتيد، أى: حاضر مهيأ معد لذلك.
وقال بعض العلماء: في هذه الآية رهبة وهيبة وخوف وفزع لقوم، وسكون وأنس وطمأنينة لقوم آخرين، فهنيئا للعاملين المؤمنين، وبؤسا وهلاكا للكافرين والفاسقين!! ويا حسرة على العصاة والمذنبين! حيث ينزل بهم الموت وفزعه، فتراهم سكارى من هول ما يلاقونه وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ نعم كل إنسان يلاقيه الموت وشدته وتغمره غمرته التي تغلب عقله، وتلهيه عمن حوله، ويشغله عن ماله وولده، وعند ذلك يظهر له الحق، ويتضح له الأمر، ويدرك مكانه، ويرى عمله وأن ما جاءت به الرسل من الإخبار بالبعث والثواب والعقاب حق لا شك فيه ولا مراء، تلك مواقف شديدة على غير المؤمنين، أما المؤمنون فعند سكرات الموت يبشون ويفرحون لما يرون من مقدمات الخير الذي ينتظرهم.
ذلك هو الموت وما فيه، الذي كنت أيها الكافر منه تحيد وعنه تميل.
ونفخ في الصور النفخة الثانية ليقوم الناس لرب العالمين، ذلك الوقت الذي أوعد الله به الكفار والعصاة، وانظر- رعاك الله- إلى قوله: وجاءت كل نفس معها سائق
(١) - فيه إشارة إلى أنه تجوز عن قرب العلم بقرب الذات.
523
وشهيد، أى: سائق يسوقها إلى نتيجة عملها، وشاهد يشهد لها بعملها ويقال لها:
تالله لقد كنت أيها الإنسان في غفلة من هذا الذي نزل بك- وكل إنسان وله اشتغال ما عن الآخرة- فكشفنا عنك غطاءك، وأزلنا عنك غفلتك التي كانت عندك في الدنيا، بانهماكك في المحسوسات، واشتغالك بالماديات، وقصر نظرك عليها، فبصرك اليوم حاد وقوى تدرك به ما غفلت عنه أو أنكرته في الدنيا.
وقال قرينه- وهو شيطانه الذي قيض له في الدنيا-: هذا- والإشارة إلى نفس الشخص الكافر- الذي عندي وفي ملكي عتيد لجهنم، أى: قد هيأته لها بإغوائى وإضلالى «١»، فيقال للموكل به من الملائكة: ألقيا في جهنم كل كفار معاند للحق مجانب له، مناع للخير، معتقد ظالم، شاك في دينه مرتاب في ربه، الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه- والأمر للسائق والشهيد كما مضى- في العذاب الشديد.
وحينما يلقى الكافر في جهنم يقول: يا رب أطغانى الشيطان وأضلنى!! فيقول الشيطان «٢» : ربنا ما أطغيته ولا أضللته ولكن كان هو في ضلال بعيد الغور، فأنا وسوست له وزينت له السوء فقط، وهو الذي ارتكب الإثم بنفسه بعد اختياره له وقصده، وبعد ما جاء التحذير له من السماء مرارا، فيا رب: ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد يستحق معه هذا العقاب، فيقول الله: لا تختصموا لدى، والحال أنى قدمت لكم بالوعيد، وهو القرآن، وأنذرتكم على ألسنة الرسل، وحذرتكم من سوء العاقبة مرارا، ودعوتكم إلى الخير جهارا.
ما يبدل القول لدى، ولا معقب لحكمي، وقد حكمت بتخليد الكافر في النار وتعذيب العاصي بها على حسب عمله، ولن يغير هذا الحكم، وما ربك بذي ظلم للعباد.
(١) - وإعراب هذه الآية «هذا ما لدى عتيد» يجوز في (ما) أن تكون موصوفة و (عتيد) صفتها و (لدى) متعلق به و (ما) هذه خبر اسم الإشارة، ويجوز أن تكون (ما) موصولة مبتدأ و (لدى) صلتها و (عتيد) خبرها والجملة خبر اسم الإشارة.
(٢) - فصلت هذه الجملة لأنها واقعة جواب سؤال مقدر تقديره: ماذا قال الشيطان ردّا على اتهام الكافر له؟
وعطف قوله: وَقالَ قَرِينُهُ على ما قبله لأن إرادة الجمع بينها وبين ما قبلها وهي وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها... مطلوبة، ولا مانع من العطف لاتحادهما خبرا وإنشاء.
524
واذكر يوم نقول لجهنم: هل امتلأت جوانبك الفسيحة بمن دخلك من المذنبين؟
فتقول جوابا على هذا السؤال: هل من زيادة.
أى: لا أسع أكثر من ذلك فإنى قد امتلأت «١».
ثم لما فرغ من بيان حال الكفار شرع في بيان حال المؤمنين يوم القيامة فقال ما معناه: وأزلفت الجنة وقربت للمتقين تقريبا غير بعيد فهم يشاهدونها ويرون فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ويقال لهم: هذا ما توعدون أيها المتقون فهو لكم ولكل أواب كثير التوبة والرجوع إلى الله محافظ على حدوده ومحارمه لا يقربها، وهو من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب، ويقال للمتقين:
ادخلوها بسلام، أى: سالمين من كل خوف، ذلك يوم الخلود، لهم فيها ما يشاءون، وما يدعون، ولدي ربك الكريم مزيد من الفضل والإكرام.
«وبعد» : أليس في ذكر أحوال يوم القيامة، وما يلاقيه الإنسان فيها، جزاء على أعماله التي تحصيها الملائكة الكرام الكاتبون، بعد تصدير الآية بما يثبت لله القدرة القادرة والعلم التام بكل شيء أليس هذا كله مما يثبت عقيدة البعث، ويقوى الإيمان به؟ ويدعو إلى اقتفاء أثر المؤمنين به الذين ينعمون في الجنة التي أعدت لهم، وعند ربك فوق هذا كله مزيد من الفضل والإحسان لمن يؤمن بالله واليوم الآخر.
تهديد لمنكري البعث وختام السورة [سورة ق (٥٠) : الآيات ٣٦ الى ٤٥]
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠)
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥)
(١) - الاستفهام الأول للتقرير، فالله يقررها بأنها امتلأت، أى: يجعلها تقر بذلك، والاستفهام الثاني بمعنى النفي، وهو جواب الاستفهام الأول. [.....]
525
المفردات:
قَرْنٍ القرن: الأمة والجماعة المتقدمة، سميت بذلك لأنها تتقدم غيرها كالقرن يتقدم الحيوان. فَنَقَّبُوا التنقيب: التنقير عن الأمر والبحث والطلب، وقرئ فنقبوا، أى: خرقوا في البلاد ودوخوا فيها غيرهم، والمراد طافوا في البلاد من أقصاها إلى أقصاها طلبا للتجارة أو هربا من الموت. مَحِيصٍ: مهرب. لُغُوبٍ أى: تعب وإعياء. وَأَدْبارَ السُّجُودِ يقال: أدبر الشيء إدبارا: إذا ولى، وقرئ: وإدبار جمع دبر، والمراد بعد السجود، أى: الصلاة. الصَّيْحَةَ أى:
صيحة البعث. تَشَقَّقُ أصله: تتشقق، والمراد: تتفتح، ويخرجون من قبورهم.
يَسِيرٌ: سهل. بِجَبَّارٍ: تجبرهم على الإيمان.
526
المعنى:
كثيرا من الأمم السابقة «١»، والقرون الماضية قبلكم أهلكناهم بعذاب شديد عاجل لما كذبوا الرسل، وكفروا بالبعث، وقد كانت تلك الأمم أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا، وأصحاب تجارات ومصانع، هؤلاء اشتد بطشهم فنقبوا البلاد، وأكثروا فيها الفساد، وقيل: أكثروا في السفر والترداد والبحث والطلب عن المال والتجارة، فانظر هل من محيص أو محيد عن الله ولقائه؟ لا مناص منه ولا ملجأ إلا إليه، فاعتبروا أيها المنكرون وآمنوا أيها المشركون.
إن في ذلك لذكرى وعبرة لمن كان له قلب يعقل به فيرى الحسن حسنا والقبيح قبيحا، لأن من لا يتعظ بالمواعظ كأنه لا قلب له لمن كان له قلب يعقل أو أصغى بسمعه إصغاء من يريد أن يعرف الحق من غير تعصب، وهو شهيد، أى: حاضر بروحه وعقله لا بجسمه فقط، وكثيرا ما نعى الله على الكفار عدم استفادتهم لأن على قلوبهم الأقفال، وأنهم يحضرون بأجسادهم فقط أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها؟ ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما من عجائب في ستة أيام، وهو القادر على خلقها في لحظة، وما مسنا بعد ذلك إعياء ولا تعب، قيل: نزلت ردّا على اليهود الذين يقولون: إن الله استراح يوم السبت واستلقى على العرش بعد أن خلق الدنيا طلبا للراحة، وإذا كان هذا خلقه فكيف نستبعد عليه البعث؟!! ولقد ختم الله السورة بعلاج من حكيم خبير، علاجا لمن يدعو إلى الخير ويصاب بالأذى من قومه. ويجازى على الحسنة بالسيئة، ليس لهذا علاج إلا الصبر وأن يحتسب أجره عند الله، ويفوض أمره إليه، والله بصير بالعباد، وهو مع المؤمنين بالنصر والتأييد إن كانوا مؤمنين حقا.
اصبر يا محمد على ما يقولون، واستعن على ذلك بالتسبيح والصلاة، وتقوية الروح باللقاء المعهود مع خالق هذا الوجود، في الصلاة والمناجاة والتسبيح والتكبير، وسبح
(١) - «كم» خبرية منصوبة بأهلكنا، و «من قرن» تمييز لها، وجملة «هم أشد» صفة لقرن، والفاء في قوله:
«فنقبوا» عاطفة على المعنى مع إفادة السببية.
527
حامدا ربك شاكرا له فضله ونعمه، مهما أصابك من سوء، سبحه قبل طلوع الشمس في وقت السحر. وقبل الغروب ومن الليل فسبحه، وأدبار كل صلاة، وخصت هذه الأوقات بالذكر لأنها أوقات تظهر فيها عظمة الله، وجلاله، وقدرته على إحياء هذا الوجود بعد سكونه، وعلى إماتته في الغروب بعد هذه الحركة والضجيج والحرارة والنور،
وفي صحيح الحديث أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقول دبر كل صلاة مكتوبة: «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت، وهو على كلّ شيء قدير، اللهمّ لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ».
واستمع- أيها الإنسان- لما أخبرك به من حال يوم القيامة، وفي ذلك تهويل وتعظيم لشأن المخبر به، والمحدث عنه: يوم ينادى المنادى يخرجون من القبور، يوم يسمعون الصيحة بالحق، ذلك هو يوم الخروج.
إنا نحن نحيى ونميت في الدنيا، لا يشاركنا في ذلك أحد، وإلينا وحدنا المصير، اذكر يوم تتشقق عنهم الأرض مسرعين إلى مكان الحشر، ذلك حشر ونشر علينا يسير وسهل.
أيها الرسول: نحن أعلم بما يقولون، وسنجازيهم على ذلك كله، فلا يهمنك أمرهم وما أنت عليهم بجبار تجبرهم على الإيمان، ولست عليهم بمسيطر، إن أنت إلا رسول عليك البلاغ فقط فذكر إنما أنت مذكر، ذكر بالقرآن، فإنه لا ينتفع به إلا من يخاف الوعيد، ويؤمن بالغيب، وفيه استعداد للخير.
528
Icon