مكية، وهي مائة وإحدى عشرة آية.
ﰡ
﴿سبحان الذي﴾ براءة من السُّوء ﴿أسرى بعبده﴾ سيَّر محمَّداً عليه السَّلام ﴿من المسجد الحرام﴾ يعني: مكَّة ومكَّةُ كلُّها مسجد ﴿إلى المسجد الأقصى﴾ وهو بيت المقدس وقيل له الأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام ﴿الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ بالثِّمار والأنهار ﴿لنريه من آياتنا﴾ وهو ما أُري في تلك اللَّيلة من الآيات التي تدلُّ على قدرة الله سبحانه ثمَّ ذكر أنَّه سبحانه أكرم موسى عليه السَّلام أيضاً قبله بالكتاب فقال:
﴿وآتينا موسى الكتاب﴾ التَّوراة ﴿وجعلناه هدىً لبني إسرائيل﴾ دللناهم به على الهدى ﴿أن لا تتخذوا﴾ فقلنا: لا تتخذوا وأن زائدة والمعنى: لا تتوكَّلوا على غيري ولا تتَّخذوا من دوني ربَّاً
﴿ذرية﴾ يا ذريَّةَ ﴿مَنْ حملنا مع نوح﴾ يعني: بني إسرائيل وكانوا ذرية ن كان في سفينة نوح عليه السَّلام وفي هذا تذكيرٌ بالنِّعمة إذْ أنجى آباءهم من الغرق ثمَّ أثنى على نوحٍ فقال: ﴿إِنَّهُ كَانَ عبداً شكوراً﴾ كان إذا أكل حمد الله وإذا لبس ثوباً حمد الله
﴿وقضينا إلى بني إسرائيل﴾ أوحينا إليهم وأعلمناهم في كتابهم ﴿لتفسدنَّ في الأرض مرتين﴾ بالمعاصي وخلاف أحكام التَّوراة ﴿ولتعلن علواً كبيراً﴾ لتتعظمنَّ ولتبغُنَّ
﴿فإذا جاء وعد أولاهما﴾ يعني: أوَّل مرَّة في الفساد ﴿بعثنا عليكم﴾ أرسلنا عليكم وسلَّطنا ﴿عباداً لنا﴾ يعني: جالوت وقومه ﴿أولي بأسٍ شديد﴾ ذوي قوَّةٍ شديدةٍ ﴿فجاسوا خلال الديار﴾ تردَّدوا وطافوا وسط منازلهم ليطلبوا مَنْ يقتلونهم ﴿وكان وعداً مفعولاً﴾ قضاءً قضاه الله تعالى عليهم
﴿ثمَّ رددنا لكم الكرَّة عليهم﴾ نصرناكم ورددنا الدَّولة لكم عليهم بقتل جالوت ﴿وأمددناكم بأموالٍ وبنين﴾ حتى عاد أمركم كما كان ﴿وجعلناكم أكثر نفيراً﴾ أكثر عدداً من عدوِّكم
﴿إن أحسنتم﴾ أَيْ: وقلنا: إن أحسنتم ﴿أحسنتم لأنفسكم﴾ إن أطعتم الله فيما بقي عفا عنكم المساوئ ﴿وإنْ أسأتم﴾ بالفساد وعصيان الأنبياء وقتلهم ﴿فلها﴾ فعليها يقع الوبال ﴿فإذا جاء وعد الآخرة﴾ المرَّة الأخيرة من إفسادكم وجواب (إذا) محذوف على تقدير: بعثناهم ﴿لِيَسُوْءُوْا وجوهكم﴾ وهو أنَّه عليهم بختنصر فسبى وقتل وخرب ومعنى لِيَسُوْءُوْا وجوهكم: ليخزوكم خزياً يظهر أثره في وجوهكم كبسي ذراريكم وإخراب مساجدكم ﴿وليتبروا ما علوا﴾ وليدمِّروا ويُخرِّبوا ما غلبوا عليه
﴿عسى ربكم﴾ وهذا أيضاً ممَّا أُخبروا به فِي كتابهم والمعنى: لعلَّ ربكم ﴿أن يرحمكم﴾ ويعفو عنكم بعد انتقامه منكم يا بني إسرائيل ﴿وإن عدتم﴾ بالمعصية ﴿عدنا﴾ بالعقوبة هذا في الدنيا وأما في الآخرة فقد ﴿جعلنا جهنم للكافرين حصيراً﴾ أَيْ: سجناً ومحبساً
﴿إنَّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم﴾ يرشد إلى الحالة التي هي أعدل وأصوب وهي توحيد الله تعالى والإِيمان برسله ﴿ويبشر المؤمنين﴾ بأنَّ ﴿لهم أجراً كبيراً﴾ وأنَّ أعداءهم معذَّبون في الآخرة
﴿وأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عذابا أليما﴾
﴿ويدع الإِنسان﴾ الآية ربَّما يدعو الإنسان على نفسه عند الغضب والضَّجر وعلى ولده وأهله بما لا يحبُّ أن يستجاب له كما يدعو لنفسه بالخير ﴿وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولا﴾ يعجل في الدُّعاء بالشَّرِّ كعجلته في الدُّعاء بالخير
﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ﴾ علامتين تدلاَّن على قدرة خالقهما ﴿فمحونا﴾ طمسنا ﴿آية الليل﴾ نورها بما جعلنا فيها من السَّواد ﴿وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً﴾ مُضيئةً يُبصر فِيها ﴿لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ لتبصروا كيف تتصرَّفون في أعمالكم ﴿وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ بمحو آية اللَّيل ولولا ذلك ما كان يُعرف اللَّيل من النَّهار وكان لا يتبيَّن العدد ﴿وكل شيء﴾ ممَّا يُحتاج إليه ﴿فصلناه تفصيلاً﴾ بينَّاه تبييناً لا يلتبس معه بغيره
﴿وكلَّ إنسان ألزمناه طائره في عنقه﴾ كتبنا عليه ما يعمل من خيرٍ وشرٍّ ﴿ونخرج له﴾ ونُظهر له ﴿يوم القيامة﴾ صحيفة عمله منشورةً
﴿اقرأ كتابك﴾ أَيْ: يُقال له: اقْرَأْ كِتَابَكَ ﴿كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ مُحاسباً يقول: كفيتَ أنت في محاسبة نفسك
﴿من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه﴾ ثواب اهتدائه لنفسه ﴿وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ على نفسه عقوبة ضلاله ﴿وَلا تَزِرُ وازرة وزر أخرى﴾ وذلك أنَّ الوليد بن المغيرة قال: اتَّبعوني وأنا أحمل أوزاركم فقال الله تعالى: ﴿وَلا تَزِرُ وازرة وزر أخرى﴾ أي: لا تحمل نفس ذنب غيرها ﴿وما كنا معذبين﴾ أحداً ﴿حتى نبعث رسولاً﴾ يُبيِّن له ما يجب عليه إقامةً للحجَّة
﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا﴾ أمرناهم على لسان رسولٍ بالطَّاعة وعنى بالمترفين: الجبَّارين والمُسلَّطين والملوك وخصَّهم بالأمر لأنَّ غيرهم تبعٌ لهم
﴿ففسقوا فيها﴾ أَيْ: تمرَّدوا في كفرهم والفسق فِي الكفر: الخروج إلى أفحشه ﴿فحقَّ عليها القول﴾ وجب عليها العذاب ﴿فدمرناها تدميراً﴾ أهلكناها إهلاك استئصال
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾
﴿من كان يريد العاجلة﴾ بعلمه وطاعته وإسلامه الدُّنيا ﴿عجلنا له فيها ما نشاء﴾ القدر الذي نشاء ﴿لمن نريد﴾ أن نعجِّل له شيئاً ثمَّ يدخل النَّار في الآخرة ﴿مذموماً﴾ ملوماً ﴿مدحوراً﴾ مطروداً لأنَّه لم يرد الله سبحانه بعمله
﴿ومن أراد الآخرة﴾ الجنَّة ﴿وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا﴾ عمل بفرائض الله ﴿وهو مؤمن﴾ لأنَّ الله سبحانه لا يقبل حسنةً إلاَّ من مؤمنٍِ ﴿فأولئك كان سعيهم مشكوراً﴾ تُضاعف لهم الحسنات
﴿كلاً﴾ من الفريقين ﴿نمدُّ﴾ نزيد ثمَّ ذكرهما فقال: ﴿هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك﴾ يعني: الدُّنيا وهي مقسومةٌ بين البرِّ والفاجر ﴿وما كان عطاء ربك محظوراً﴾ ممنوعاً في الدُّنيا من المؤمنين والكافرين ثمَّ يختصُّ المؤمنين في الآخرة
﴿انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض﴾ في الرِّزق فمن مُقلٍّ ومُكثرٍ ﴿وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً﴾ من الدُّنيا لأنَّ درجات الجنَّة يقتسمونها على قدر أعمالهم
﴿ولا تجعل﴾ أَيُّها الإِنسان المخاطب ﴿مع الله إلهاً آخر فتقعد مذموماً﴾ ملوماً ﴿مخذولاً﴾ لا ناصر لك
﴿وقضى﴾ وأمر ﴿وقضى ربك أن لا تعبدوا إلاَّ إيَّاه وبالوالدين إحساناً﴾ وأمرَ إحساناً بالوالدين ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا﴾ يقول: إن عاش أحد والديك حتى يشيب ويكبر أو هما جميعاً ﴿فلا تقل لهما أف﴾ (لا تقل لهما رديئاً) من الكلام ولا تستثقلنَّ شيئاً من أمرهما ﴿ولا تنهرهما﴾ لا تواجههما بكلامٍ تزجرهما به ﴿وقل لهما قولاً كريماً﴾ ليِّناً لطيفاً
﴿واخفض لهما جناح الذل﴾ ألن لهما جانبك واخضع لهما ﴿من الرحمة﴾ أَيْ: من رقَّتك عليهما وشفقتك ﴿وقل ربِّ ارحمهما كما ربياني﴾ مثل رحمتهما إيَّاي فِي صغري حتى ربَّياني ﴿صغيراً﴾
﴿ربكم أعلم بما في نفوسكم﴾ بما تُضمرون من البِرِّ والعقوق ﴿إن تكونوا صالحين﴾ طائعين لله ﴿فإنَّه كان للأوابين﴾ الرَّاجعين عن معاصي الله تعالى ﴿غفوراً﴾ يغفر لهم ما بدر منهم وهذا فيمن بدرت منه بادرةٌ وهو لا يُضمر عقوقاً فإذا رجع عن ذلك غفر الله له ثمَّ أنزل في برِّ الأقارب وصلة ارحامهم بالإِحسان إليهم قوله:
﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ﴾ ممَّا جعل الله لهما من الحقِّ في المال ﴿ولا تبذر تبذيراً﴾ يقول: لا تنفق في غير الحقِّ
﴿إنَّ المبذرين﴾ المنفقين فِي غير طاعة الله ﴿كَانُوا إِخْوَانَ الشياطين﴾ لأنهم يوافقهم فيما يأمرهم به ثمَّ ذمَّ الشَّيطان بقوله: ﴿وكان الشيطان لربه كفوراً﴾ جاحداً لنعم الله وهذا يتضمنَّ أنَّ المُنفق فِي السَّرف كفور
﴿وإمَّا تعرضنَّ عنهم﴾ الآية كان النبي ﷺ إذا سأله فقراء الصَّحابة ولم يكن عنده ما يعطيهم أعرض عنهم حياءً منهم وسكت وهو قوله: ﴿وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ﴾ انتظار الرِّزق من الله تعالى يأتيك ﴿فقل لهم قولاَ ميسوراً﴾ ليِّناً سهلاً وكان إذا سُئل ولم يكن عنده ما يُعطي قال: يرزقنا الله وإيَّاكم من فضله
﴿ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك﴾ لا تُمسكها عن البذل كلَّ الإِمساك حتى كأنَّها مقبوضة إلى عنقك لا تنبسط بخيرٍ ﴿ولا تبسطها كلَّ البسط﴾ في النفقة والعطيَّة ﴿فتقعد ملوماً﴾ تلوم نفسك وتُلام ﴿محسوراً﴾ ليس عندك شيء من قولهم: حسرتُ الرَّجل بالمسألة: إذا أفنيتَ جميع ما عنده نزلت هذه الآية حين وهب رسول الله ﷺ قميصه ولم يجد ما يلبسه للخروج فبقي في البيت
﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾ يوسع على مَنْ يشاء ويُضيِّق على مَنْ يشاء ﴿إنَّه كان بعباده خبيراً بصيراً﴾ حيث أجرى رزقهم على ما علم فِيهِ صلاحهم
﴿وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ﴾ سبق تفسيره في سورة الأنعام وقوله: ﴿خطأ﴾ أي: إثما
﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سبيلا﴾
﴿وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بالحق﴾ بكفرٍ بعد إسلام أو زنا بعد إحصانٍ أو قتل نفسٍ بتعمُّدٍ ﴿ومَنْ قتل مظلوماً﴾ أَيْ: بغير إحدى هذه الخصال ﴿فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ﴾ وارثه ﴿سلطاناً﴾ حجَّةً في قتل القاتل إن شاء أو أخذ الدِّية أو العفو ﴿فلا يسرف في القتل﴾ فلا يتجاوز ما حدَّ له وهو أن يقتل بالواحد اثنين أو غير القاتل ممَّنْ هو من قبيلة القاتل كفعل العرب في الجاهليَّة ﴿إنَّه﴾ إنَّ الوليَّ ﴿كَانَ مَنْصُورًا﴾ بقتل قاتل وليِّه والاقتصاص منه وقيل: ﴿إنَّه﴾ إنَّ المقتول ظلماً ﴿كان منصوراً﴾ في الدُّنيا بقتل قاتله وفي الآخرة بالثَّواب
﴿وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أحسن﴾ يعني: الأكل بالمعروف وذكرنا هذا في سورة الأنعام ﴿وأوفوا بالعهد﴾ وهو كلُّ ما أمر ونهى عنه ﴿إنَّ العهد كان مسؤولاً﴾ عنه
﴿وأوفوا الكيل﴾ أتمُّوه ﴿إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم﴾ بأقوم الموازين ﴿ذلك خيرٌ﴾ أقرب إلى الله تعالى ﴿وأحسن تأويلاً﴾ عاقبةً
﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ لا تقولنَّ في شيءٍ بما لا تعلم ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أولئك كان عنه مسؤولاً﴾ أَيْ: يسأل الله العباد فيم استعملوا هذه الحواس
﴿ولا تمش في الأرض مرحاً﴾ أَيْ: بالكبر والفخر ﴿إنَّك لن تخرق الأرض﴾ لن تثقبها حتى تبلغ آخرها ولا تطاول الجبال والمعنى: إنَّ قدرتك لا تبلغ هذا المبلغ فيكون ذلك صلة إلى الاختيال يريد: إنَّه ليس ينبغي للعاجز أن يذبخ ويستكبر
﴿كُلُّ ذَلِكَ﴾ إشارةٌ إلى جميع ما تقدَّم ذكره مما به ونهى عنه ﴿كان سَيِّئُهُ﴾ وهو ما حرَّم الله سبحانه ونهى عنه
﴿ذلك﴾ يعني: ما تقدَّم ذكره ﴿ممَّا أوحى إليك ربك من الحكمة﴾ من القرآن ومواعظه وباقي الآية مفسَّر في هذه السُّورة ثمَّ نزل فيمن قال من المشركين: الملائكة بنات الله:
﴿أفأصفاكم ربكم بالبنين﴾ أَيْ: آثركم وأخلص لكم البنين دونه وجعل لنفسه البنات ﴿إنكم لتقولون قولاً عظيماً﴾
﴿ولقد صرَّفنا﴾ بيَّنَّا ﴿في هذا القرآن من كلِّ مثل﴾ يوجب الاعتبار به والتَّفكُّر فيه ﴿ليذكروا﴾ ليتَّعظوا ويتدبَّروا ﴿وما يزيدهم﴾ ذلك البيان والتَّصريف ﴿إلاَّ نفوراً﴾ من الحقِّ وذلك أنَّهم اعتقدوا أنَّها شُبَهٌ وحيلٌ فنفروا منها أشدَّ النُّفور
﴿قل﴾ للمشركين: ﴿لو كان معه﴾ مع الله ﴿آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي العرش سبيلاً﴾ إذا لا بتغت الآلهة أن تزيل ملك صاحب العرش
﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾
﴿تُسَبِّحُ له السماوات﴾ الآية المراد بالتَّسبيح في هذه الآية الدلالة عل أنَّ الله سبحانه خالقٌ حكيمٌ مبرَّأٌ من الأسواء والمخلوقون والمخلوقاتُ كلُّها تدلُّ على هذا وقوله: ﴿وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ مخاطبة للكفَّار لأنَّهم لا يستدلُّون ولا يعتبرون
﴿وإذا قرأت القرآن﴾ الاية نزلت في قومٍ كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه إذا قرأ القرآن فحجبه الله تعالى عن أعينهم عند قراءة القرآن حتى كانوا يمرُّون به ولا يرونه وقوله: ﴿مستوراً﴾ معناه: ساتراً
﴿وجعلنا على قلوبهم أكنة﴾ سبق تفسيره في سورة الأنعام ﴿وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده﴾ قلت: لا إله إلا الله وأنت تتلو القرآن ﴿ولوا على أدبارهم نفور﴾ أعرضوا عنك نافرين
﴿نحن أعلم بما يستمعون به﴾ نزلت حين دعا علي رضي الله عنه أشراف قريش إلى طعام اتَّخذه لهم ودخل عليهم النبي ﷺ وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى الله سبحانه وهم يقولون فيما بينهم متناجين: هو ساحرٌ وهو مسحورٌ فأنزل الله تعالى: ﴿نحن أعلم بما يستمعون به﴾ أَيْ: يستمعونه أخبر الله سبحانه أنَّه عالمٌ بتلك الحال وبذلك الذين كان يستمعونه ﴿إذ يستمعون﴾ إلى الرَّسول ﴿وَإِذْ هُمْ نجوى﴾ يتناجون بينهم بالتَّكذيب والاستهزاء ﴿إذ يقول الظالمون﴾ المشركون: ﴿إن تتبعون﴾ ما تتبعون ﴿إِلا رَجُلا مسحوراً﴾ مخدوعاً أن اتَّبعتموه
﴿انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ﴾ بَيَّنوا لك الأشباه حين شبَّهوك بالسَّاحر والكاهن والشَّاعر ﴿فضلوا﴾ بذلك عن طريق الحق ﴿فلا يستطيعون سبيلاً﴾ مخرجاً
﴿وقالوا أإذا كنا عظاماً﴾ بعد الموت ﴿ورفاتاً﴾ وتراباً أَنُبعث ونخلق خلقاً جديداً؟
﴿قل كونوا حجارة أو حديداً﴾ الآية معناها يقول: قدِّروا أنَّكم لو خُلقتم من حجارةٍ أو حديدٍ أو كنتم الموت الذي هو أكبر الأشياء في صدورهم لأماتكم الله ثمَّ أحياكم لأنَّ القدرة التي بها أنشأكم بها يُعيدكم وهذا معنى قوله: ﴿فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فطركم﴾ خلقكم ﴿أول مرَّة فسينغضون إليك رؤوسهم﴾ يُحرِّكونها تكذيباً لهذا القول ﴿ويقولون متى هو﴾ ؟ أَي: الإِعادة والبعث ﴿قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا﴾ يعني: هو قريب
﴿أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فسينغضون إليك رؤوسهم وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قريبا﴾
﴿يوم يدعوكم﴾ بالنداء الذي يسمعكم هو النَّفخة الأخيرة ﴿فتستجيبون﴾ تجيبون ﴿بحمده﴾ وهو أنَّهم يخرجون من القبور يقولون: سبحانك وبحمدك حمدوا حين لا ينفعهم الحمد ﴿وَتَظُنُّونَ إِنْ لبثتم إلاَّ قليلاً﴾ استقصروا مدَّة لبثهم في الدُّنيا أو في البرزخ مع ما يعلمون من طول لبثهم فِي الآخرة
﴿وقل لعبادي﴾ المؤمنين: ﴿يقولوا التي هي أحسن﴾ نزلت حين شكا أصحاب النَّبيِّ ﷺ إليه أذى المشركين واستأذنوه في قتالهم فقيل له: قل لهم: يقولوا للكفَّار الكلمة التي هي أحسن وهو أن يقولوا: يهديكم الله ﴿إن الشيطان﴾ هو الذي يفسد بينهم
﴿ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم﴾ يوقفكم فتؤمنوا ﴿أو إن يشأ يعذبكم﴾ بأن يميتكم على الكفر ﴿وما أرسلناك عليهم وكيلاً﴾ ما وكل إليك إيمانهم فليس عليك إلاَّ التَّبليغ
﴿وربك أعلم بمَنْ في السماوات والأرض﴾ لأنَّه هو خالقهم ﴿ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض﴾ عن علمٍ بشأنهم ومعنى تفضيل بعضهم على بعض: تخصيص كلِّ واحد منهم بفضيلة دون الآخر ﴿وآتينا داود زبوراً﴾ أَيْ: فلا تنكروا تفضيل محمد عليه السَّلام وإعطاءه القرآن فقد جرت بهذا في النَّبيين
﴿قل ادعوا الذين زعمتم﴾ الآية ابتلى الله سبحانه قريشاً بالقحط سنين فشكوا ذلك إلى النبي ﷺ فأنزل الله تعالى: ﴿قل ادعوا الذين زعمتم﴾ ادَّعيتم أنَّهم آلهةٌ ﴿من دونه﴾ ثمَّ أخبر عن الآلهة فقال: ﴿فَلا يَمْلِكُونَ كشف الضر﴾ يعني: البؤس والشِّدة ﴿عنكم ولا تحويلاً﴾ من السَّقم والفقر إلى الصَّحة والغنى ثمَّ ذكر أولياءَه فقال:
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ﴾ يتضرَّعون إلى الله تعالى في طلب الجنَّة ﴿أيُّهم﴾ هو ﴿أقرب﴾ إلى رحمة الله سبحانه يبتغي الوسيلة إليه بصالح الأعمال
﴿وإن من قرية﴾ الآية أَيْ: وما من أهل قريةٍ إلاَّ ستهلك إمَّا بموت وإمَّا بعذاب يستأصلهم أمَّا الصَّالحة فبالموت وأمَّا الطَّالحة فبالعذاب ﴿كان ذلك في الكتاب مسطوراً﴾ مكتوباً في اللَّوح المحفوظ
﴿وما منعنا أن نرسل بالآيات﴾ لمَّا سأل المشركون النبي ﷺ أن يوسع لهم مكة ويجعل الصَّفا ذهباً أتاه جبريل عليه السَّلام فقال: إن شئت كان ما سألوا ولكنَّهم إن لم يؤمنوا لم يُنظروا وإن شئت استأنيت بهم فأنزل الله تعالى هذه الآية ومعناها: أنَّا لم نرسل بالآيات لئلا يُكذِّب بها هؤلاء كما كذب الذين من قبلهم فيستحقُّوا المعاجلة بالعقوبة ﴿وآتينا ثمود الناقة مبصرة﴾ آيةً مُضيئةً بيِّنةً ﴿فظلموا بها﴾ جحدوا أنَّها من الله سبحانه ﴿وما نرسل بالآيات﴾ أَي: العبر والدِّلالات ﴿إلاَّ تخويفاً﴾ للعباد لعلَّهم يخافون القادر على ما يشاء
﴿وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ﴾ أَيْ: فهم في قبضته وقدرته يمنعك منهم حتى تبلِّغ الرِّسالة ويحول بينك وبينهم أن يقتلوك ﴿وما جعلنا الرؤيا التي أريناك﴾ يعني: ما أُري ليلة أُسري به وكانت رؤيا يقظة ﴿والشجرة الملعونة في القرآن﴾ وهي شجرة الزَّقوم ﴿إلاَّ فتنةً للناس﴾ فكانت الفتنة في الرُّؤيا أنَّ بعضهم ارتدَّ حين أعلمهم بقصَّة الإسراء وازداد الكفَّار تكذيباً وكانت الفتنة في الزَّقوم أنَّهم قالوا: إنَّ محمداً يزعم أنَّ فِي النار شجراً والنَّار تأكل الشَّجر وقالوا: لا نعلم الزَّقوم إلاَّ التَّمر والزُّبد فأنزل الله تعالى في ذلك: ﴿إنا جعلناها فتنة للظالمين﴾ الآيات ﴿ونخوفهم﴾ بالزَّقوم فما يزدادون إلاَّ كبراً وعتوَّاً
﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا﴾
﴿قال﴾ يعني: إبليس ﴿أرأيتك﴾ أَيْ: أرأيت والكاف توكيدٌ للمخاطبة ﴿هذا الذي كرَّمت عليّ﴾ فضَّلته يعني: آدم عليه السَّلام ﴿لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ﴾ لأستأصلنَّهم بالإغواء ولأستولينَّ عليهم ﴿إلاًّ قليلاً﴾ يعني: ممَّن عصمه الله تعالى
﴿قال﴾ الله: ﴿اذهب﴾ إنِّي أنظرتك إلى يوم القيامة ﴿فمن تبعك﴾ أطاعك ﴿منهم﴾ من ذُرِّيَّتِهِ ﴿فإنَّ جهنم جزاؤكم جزاءً موفوراً﴾ وافراً
﴿واستفزز من استطعت منهم﴾ أَيْ: أزعجه واستخفَّه إلى إجابتك ﴿بصوتك﴾ وهو الغناء والمزامير ﴿وأجلب عليهم﴾ وصحْ ﴿بخيلك ورجلك﴾ واحثثهم عليهم بالإِغواء وخيلُه: كلُّ راكبٍ في معصية الله سبحانه وتعالى وَرَجِلُه: كلُّ ماشٍ على رجليه في معصية الله تعالى ﴿وشاركهم في الأموال﴾ وهو كلُّ ما أُخذ بغير حقٍّ ﴿والأولاد﴾ وهو كلُّ ولد زنا ﴿وعدهم﴾ أن لا جنَّة ولا نار ولا بعث ولا حساب وهذه الأنواع من الأمر كلُّها أمر تهديد قال الله تعالى: ﴿وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا﴾
﴿إنَّ عبادي﴾ يعني: المؤمنين ﴿ليس لك عليهم سلطانٌ﴾ حجَّةٌ في الشِّرك ﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا﴾ لأوليائه يعصمهم من القبول مِن إبليس
﴿ربكم الذي يزجي﴾ يسيِّر ﴿لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾ في طلب التِّجَارة ﴿إنه كان بكم﴾ بالمؤمنين ﴿رحيماً﴾
﴿وإذا مسَّكم الضرُّ﴾ خوف الغرق ﴿في البحر ضلَّ﴾ زال وبطل ﴿من تدعون﴾ من الآلهة ﴿إلاَّ إياه﴾ إلاَّ الله ﴿فلما نجاكم﴾ من الغرق وأخرجكم ﴿إلى البر أعرضتم﴾ عن الإيمان والتَّوحيد ﴿وكان الإِنسان﴾ الكافر لربِّه ﴿كفوراً﴾ لنعمة ربِّه جاحداً ثمًّ بيَّن أنَّه قادر أن يهلكهم فِي البرِّ فقال:
﴿أفأمنتم﴾ يريد: حيث أعرضتم حين سلمتم من هول البحر ﴿أن يخسف بكم﴾ يُغيِّبكم ويذهبكم فِي ﴿جانب البَرِّ﴾ وهو الأرض ﴿أو يرسل عليكم حاصباً﴾ عذاباً يحصبهم أَيْ: يرميهم بحجارةٍ ﴿ثمَّ لا تجدوا لكم وكيلاً﴾ مانعاً ولا ناصراً
﴿أم أمنتم أن يعيدكم﴾ فِي البحر ﴿تارةً﴾ مرةً ﴿أخرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصفاً﴾ ريحاً شديدةً تقصف الفلك وتكسره ﴿فيغرقكم بما كفرتم﴾ بكفركم حيث سلمتم المرة الأولى ﴿ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا﴾ ثائراً ولا ناصرا والمعنى: لا تجدوا مَنْ يتًّبعنا بإنكار ما نزل بكم
﴿ولقد كرَّمنا﴾ فضَّلنا ﴿بني آدم﴾ بالعقل والنُّطق والتَّمييز ﴿وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ﴾ على الإِبل والخيل والبغال والحمير ﴿و﴾ في ﴿البحر﴾ على السُّفن ﴿ورزقناهم من الطيبات﴾ الثِّمار والحبوب والمواشي والسَّمن والزُّبد والحلاوى ﴿وَفَضَّلْنَاهُمْ على كثير ممن خلقنا﴾ يعني: البهائم والدَّوابَّ والوحوش
﴿يوم ندعو﴾ يعني: يوم القيامة ﴿كلَّ أناسٍ بأمامهم﴾ بنبيِّهم وهو أن يقال: هاتوا مُتَّبعي إبراهيم عليه السَّلام هاتوا مُتبَّعي موسى عليه السلام هاتوا متبعي محمد عليه السلام فيقول أهل الحقِّ فيأخذون كتبهم بأيمانهم ثمَّ يقال: هاتوا مُتَّبِعي الشَّيطان هاتوا مُتَّبعي رؤساء الضَّلالة وهذا معنى قول ابن عباس: إمام هدى وإمام ضلالة ﴿ولا يظلمون﴾ ولا ينقصون ﴿فتيلاً﴾ من الثَّواب وهي القشرة التي في شقِّ النَّواة
﴿من كان في هذه أعمى﴾ في الدُّنيا أعمى القلب عمَّا يرى من قدرتي في خلق السَّماء والأرض والشَّمس والقمر وغيرهما ﴿فهو في الآخرة﴾ في أمر الآخرة ممَّا يغيب عنه ﴿أعمى﴾ أشدُّ عمىً ﴿وأضلُّ سبيلاً﴾ وأبعد حجَّةً
﴿وإن كادوا﴾ الآية نزلت فِي وفد ثقيف أتوا رسول الله صلى الله عليه وقالوا: متِّعنا باللاَّت سنةً وحرِّمْ وادينا كما حرَّمت مكَّة فإنَّا نحبُّ أن تعرف العربُ فضلنا عليهم فإنْ خشيت أن تقول العرب: أعطيتهم ما لم تعطنا فقل: الله أمرني بذلك وأقبلوا يلحُّون على النبي ﷺ فأمسك رسول الله ﷺ عنهم وقد همَّ أنْ يعطيهم ذلك فأنزل الله: ﴿وإن كادوا﴾ همُّوا وقاربوا ﴿ليفتنونك﴾ ليستزلُّونك ﴿عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ يعني: القرآن والمعنى: عن حكمه وذلك أنَّ فِي إعطائهم ما سألوا مخالفةً لحكم القرآن ﴿لتفتري علينا غيره﴾ أَيْ: لتختلق علينا أشياء غير ما أوحينا إليك وهو قولهم: قل الله أمرني بذلك ﴿وإذاً﴾ لو فعلت ما أرادوا ﴿لاتخذوك خليلاً﴾
﴿وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ﴾ على الحقِّ بعصمتنا إيَّاك ﴿لقد كدت تركن﴾ تميل ﴿إليهم شيئاً﴾ ركوناً ﴿قليلاً﴾ ثمَّ توعَّد على ذلك لو فعله فقال:
﴿إذاً لأذقناك ضعف الحياة﴾ ضِعْفَ عذاب الدُّنيا ﴿وضعف الممات﴾ وضعف عذاب الآخرة يعني: ضعف ما يعذِّب به غيره
﴿وإن كادوا لَيَسْتَفزٌّونَكَ﴾ يعني: اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ الأنبياء بُعثوا بالشَّام فإنْ كنت نبيَّاً فالحق بها فإنَّك إنْ خرجتَ إليها آمنَّا بك فوقع ذلك في قلبه لحبِّ إيمانهم فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية ومعنى ليستفزونك: ليزعجونك ﴿من الأرض﴾ يعني: المدينة ﴿وإذا لا يلبثون خلافك إلاَّ قليلاً﴾ أعلم الله سبحانه أنَّهم لو فعلوا ذلك لم يلبثوا حتى يستأصلوا كسنَّتنا فيمن قبلهم وهو قوله:
﴿سنة من قد أرسلنا قبلك﴾ الآية يقول: لم نرسل قبلك رسولاً فأخرجه قومه إلاَّ أهلكوا ﴿ولا تجد لسنتنا تحويلاً﴾ لا خُلف لسنَّتي ولا يقدر أحدٌ أن يقلبها
﴿أقم الصلاة﴾ أَيْ: أدمها ﴿لدلوك الشمس﴾ من وقت زوالها ﴿إلى غسق الليل﴾ إقباله بظلامه فيدخل في هذا صلاة الظُّهر والعصر والعشاءين ﴿وقرآن الفجر﴾ يعني: صلاة الفجر سمَّاها قرآناً لأنَّ الصَّلاة لا تصحُّ إلاَّ بقراءة القرآن ﴿إنَّ قرآن الفجر كان مشهوداً﴾ تشهده ملائكة اللَّيل وملائكة النَّهار
﴿ومن الليل فتهجد﴾ فصلِّ ﴿به﴾ بالقرآن ﴿نافلة لك﴾ زيادةً لك في الدَّرجات لأنه غُفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر فما عمل من عملٍ سوى المكتوبة فهو نافلة له من أجل أنَّه لا يعمل ذلك في كفَّارة الذُّنوب ﴿عسى أن يبعثك ربك﴾ عسى من الله واجبٌ ومعنى يبعثك ربُّك: يقيمك ربُّك في مقامٍ محمودٍ وهو مقام الشَّفاعة يحمده فيه الخلق
﴿وقل ربِّ أدخلني﴾ لمَّا أمر النبي ﷺ بالهجرة أُنزلت عليه هذه الآية ومعناها: أدخلني المدينة إدخال صدق أَيْ: إدخالاً حسناً لا أرى فيه ما أكره ﴿وأخرجني﴾ من مكة إخراج صدق لا ألتفت إليها بقلبي ﴿واجعل لي من لَدُنْكَ سلطاناً نصيراً﴾ قوَّة القدرة والحجَّة حتى أُقيم بهما دينك
﴿وقل جاء الحق﴾ الإِسلام ﴿وزهق الباطل﴾ واضمحلَّ الشِّرك ﴿إن الباطل﴾ الشِّرك ﴿كان زهوقاً﴾ مضمحلاً زائلاً أُمر النبي ﷺ أن يقول هذا عند دخول مكَّة يوم الفتح
﴿وننزل من القرآن﴾ أَيْ: من الجنس الذي هو قرآن ﴿ما هو شفاء﴾ من كلِّ داءٍ لأنَّ الله تعالى يدفع به كثيراً من المكاره ﴿ورحمةٌ للمؤمنين﴾ ثوابٌ لا انقطاع له في تلاوته ﴿ولا يزيد﴾ القرآن ﴿الظالمين﴾ المشركين ﴿إلاَّ خساراً﴾ لأنَّهم يكفرون به ولا ينتفعون بمواعظه
﴿وإذا أنعمنا على الإنسان﴾ يريد: الوليد بن المغيرة ﴿أعرض﴾ عن الدُّعاء والابتهال فلا يبتهل كابتهاله في البلاء والمحنة ﴿ونأى بجانبه﴾ بعد نفسه عن القيام بحقوق نعم الله تعالى ﴿وإذا مسه الشر﴾ أصابه المرض والفقر ﴿كان يؤوسا﴾ يائساً عن الخير ومن رحمة الله سبحانه لأنَّه لا يثق بفضل الله تعالى على عباده
﴿قل كلٌّ يعمل على شاكلته﴾ على مذهبه وطريقته فالكافر يعمل ما يشبه طريقته من الإِعراض عند الإِنعام واليأس عند الشدَّة والمؤمن يفعل ما يشبه طريقته من الشكر عند الرَّخاء والصَّبر والاحتساب عند البلاء ألا ترى أنَّه قال: ﴿فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً﴾ أَيْ: بالمؤمن الذي لا يُعرض عند النِّعمة ولا ييئس عند المحنة
﴿ويسألونك﴾ يعني: اليهود ﴿عن الروح﴾ والرُّوح: ما يحيا به البدن سألوه عن ذلك وحقيقته وكيفيَّته وموضعه من البدن وذلك ما لم يُخبر الله سبحانه به أحداً ولم يُعط علمه أحداً من عبادِه فقال ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ أَيْ: من علم ربِّي أَيْ: إنَّكم لا تعلمونه وقيل: من خلق ربِّي أيْ: إنَّه مخلوقٌ له ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا﴾ وكانت اليهود تدَّعي علم كل شيء بما في كتابهم فقيل لهم: وما أوتيتم من العلم إلاَّ قليلاً بالإِضافة إلى علم الله تعالى
﴿ولئن شئنا لنذهبنَّ بالذي أوحينا إليك﴾ لنمحونَّه من القلوب ومنت الكتب حتى لا يوجد له أثر ﴿ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلا﴾ لا تجد مَنْ نتوكل عليه فِي ردِّ شيءٍ منه
﴿إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾ لكنَّ الله رحمك فأثبت ذلك فِي قلبك وقلوب المؤمنين ﴿إِنَّ فضله كان عليك كبيراً﴾ حيث جعلك سيِّد وَلدِ آدم وأعطاك المقام المحمود
﴿قل لئن اجتمعت الإنس والجن﴾ الآية لمَّا تحدَّاهم رسول الله ﷺ بالقرآن وعجزوا عن معارضته أنزل الله: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يأتوا بمثل هذا القرآن﴾ في نظمه وبلاغته ﴿لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظهيراً﴾ مُعيناً مثل ما يتعاون الشعراء على بيت شعرٍ فيقيمونه
﴿ولقد صرَّفنا﴾ بَيَّنّا ﴿للناس في هذا القرآن﴾ لأهل مكَّة ﴿من كلِّ مثل﴾ من الأمثال التي يجب بها الاعتبار ﴿فَأَبَى أكثر الناس﴾ أكثر أهل مكَّة ﴿إلاَّ كفوراً﴾ جحوداً للحقِّ واقترحوا من الآيات ما ليس لهم وهو قوله تعالى:
﴿وقالوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ﴾ لن نصدِّقك ﴿حَتَّى تَفْجُرَ﴾ تشقق ﴿لنا من الأرض ينبوعاً﴾ عيناً من الماء وذلك أنَّهم سألوه أَن يجريَ لهم نهراً كأنهار الشَّام والعراق
﴿أو تكون لك جنَّة﴾ الآية هذا أيضاً كان فيما اقترحوا عليه
﴿أو تسقط السماء كما زعمت﴾ أنَّ ربَّك إن شاء فعل ذلك ﴿كسفاً﴾ أَيْ: قطعاً ﴿أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً﴾ تأتي بهم حتى نراهم مقابلةً وعياناً
﴿أو يكون لك بيتٌ من زخرف﴾ من ذهبٍ فكان فيما اقترحوا عليه أن يكون له جنَّاتٌ وكنوزٌ وقصورٌ من ذهبٍ ﴿أو ترقى في السماء﴾ وذلك أن عبد الله بن أبي أُميَّة قال: لا أؤمن بك يا محمَّد أبداً حتى تتَّخذ سلماً إلى السماء ثمَّ ترقى فِيهِ وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي بنسخةٍ منشورةٍ معك ونفر من الملائكة يشهدون لك أنَّك كما تقول فقال الله سبحانه: ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رسولاً﴾ أَيْ: إنَّ هذه الأشياء ليس في قوى البشر
﴿وما منع الناس﴾ يعني: أهل مكَّة ﴿أن يؤمنوا﴾ أَيْ: الإِيمان ﴿إذ جاءهم الهدى﴾ البيان وهو القرآن ﴿إلاَّ أن قالوا﴾ إلاَّ قولهم فِي التَّعجب والإِنكار: ﴿أَبَعَثَ اللَّهُ بشراً رسولاً﴾ أَيْ: هلاَّ بعث مَلَكاً فقال الله تعالى:
﴿قل لو كان في الأرض﴾ بدل الآدميين ﴿ملائكة يمشون مطمئنين﴾ مستوطنين الأرض ﴿لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً﴾ يريد: إنَّ الأبلغ في الأداء إليهم بشر مثلهم وقوله تعالى:
﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كان بعباده خبيراً بصيرا﴾
﴿ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً﴾ يمشيهم الله سبحانه على وجوههم عُمياً لا يرون شيئاً يسرُّهم ﴿وَبُكْمًا﴾ لا ينطقون بحجَّةٍ ﴿وصماً﴾ لا يسمعون شيئاً يسرُّهم ﴿كلما خبت﴾ أَيْ: سكن لهبها ﴿زدناهم سعيراً﴾ نادرا تتسعر
﴿ذلك جزاؤهم﴾ هذه الآية مفسَّرة في هذه السُّورة
﴿أَوَلَمْ يروا﴾ أَوَلَمْ يعلموا ﴿أنَّ الله الذي خلق السماوات والأرض قادرٌ على أن يخلق مثلهم﴾ أَيْ: يخلقهم ثانياً وأراد ب ﴿مثلهم﴾ إيَّاهم وتمَّ الكلام ثمَّ قال: ﴿وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلا لا ريب فيه﴾ يعني: أجل الموت وأجل القيامة ﴿فأبى الظالمون﴾ المشركون ﴿إلاَّ كفوراً﴾ جحوداً بذلك الأجل وهو البعث والقيامة
﴿قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي﴾ خزائن الرِّزق ﴿إذاً لأمسكتم﴾ لبخلتم ﴿خشية الإنفاق﴾ أن تتفقوا فتفقروا ﴿وكان الإِنسان قتوراً﴾ بخيلاً ثمَّ ذكر قصَّة موسى عليه السَّلام وما آتاه من الآيات وإنكار فرعون ذلك فقال:
﴿ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات﴾ وهي العصا واليد وفلق البحر والطمسة وهي قوله: ﴿ربَّنا اطمسْ على أموالِهم﴾ والطُّوفان والجراد والقُمَّل والضفادع والدَّم ﴿فاسأل﴾ يا محمد ﴿بني إسرائيل﴾ المؤمنين من قريظة والنَّضير ﴿إذا جاءهم﴾ يعني: جاء آباءَهم وهذا سؤال استشهاد ليعرف اليهود صحَّة ما يقول محمَّد عليه السَّلام بقول علمائهم ﴿فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ: إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مسحوراً﴾ ساحراً فقال موسى عليه السَّلام:
﴿لقد علمت ما أنزل هؤلاء﴾ الآيات ﴿إلاَّ رب السماوات والأرض بصائر﴾ عبراً ودلائل ﴿وإني لأظنك﴾ لأعلمك ﴿يا فرعون مثبوراً﴾ ملعوناً مطروداً
﴿فأراد﴾ فرعون ﴿أن يستفزهم﴾ يخرجهم يعني: موسى وقومه ﴿من الأرض﴾ أرض مصر وقوله:
﴿فإذا جاء وعد الآخرة﴾ يريد: يوم القيامة ﴿جئنا بكم لفيفاً﴾ مُجتمعين مُختلطين
﴿وبالحق أنزلناه﴾ أَيْ: أنزلنا القرآن بالدِّين القائم والأمر الثَّابت ﴿وبالحق نزل﴾ وبمحمَّد نزل القرآن أَيْ: عليه نزل كما تقول: نزلتُ بزيدٍ
﴿وقرآناً فرقناه﴾ قطعناه آيةً وسورةً سورةً في عشرين سنة ﴿لتقرأه على الناس على مكث﴾ تودة وَتَرسُّلٍ ليفهموه ﴿وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلا﴾ نجوماً بعد نجومٍ وشيئاً بعد شيءٍ
﴿قل﴾ لأهل مكَّة: ﴿آمَنُوا﴾ بالقرآن ﴿أَوْ لا تؤمنوا﴾ به وهذا تهديد أَيْ: فقد أنذر الله وبلَّغ رسوله ﴿إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ﴾ من قبل القرآن يعني: ناساً من أهل الكتاب حين سمعوا ما أنزل على النبي ﷺ خرُّوا سُجَّداً وقوله:
﴿إن كان وعد ربنا لمفعولاً﴾ أَيْ: وعده بإنزال القرآن وبعث محمِّد عليه السَّلام لمفعولاً
﴿ويخرون للأذقان يبكون﴾ كرَّر القول لتكرُّر الفعل منهم ﴿ويزيدهم﴾ القرآن ﴿خشوعاً﴾
﴿قل ادعوا الله﴾ الآية كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: يا الله يا رحمان فسمع ذلك أبو جهل فقال: إنَّ محمداً ينهاناً أن نعبد إلهين وهو يدعو إلهاً آخر مع الله يقال له الرَّحمن فأنزل الله سبحانه: ﴿قل﴾ يا محمد ﴿ادعوا الله﴾ يا معشر المؤمنين ﴿أو ادعوا الرحمن﴾ إن شئتم قولوا: يا الله وإن شئتم قولوا: يا رحمان ﴿أياً ما تدعوا﴾ أَيَّ أسماءِ اللَّهِ تَدْعُوا ﴿فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ ﴿وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ﴾ بقراءتك فيسمعها المشركون فيسبُّوا القرآن ﴿ولا تخافت بها﴾ ولا تُخفها عن أصحابك فلا تسمعهم ﴿وابتغِ بين ذلك سبيلاً﴾ اسلك طريقاً بين الجهر والمخافتة وقوله:
﴿ولم يكن له وليٌّ من الذل﴾ لم يكن وليٌّ ينصره ممَّن استّذلَّه من البشر ﴿وكبره تكبيراً﴾ عظمه عظمةً تامَّةً