تفسير سورة القمر

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة القمر من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

للغَة: ﴿الأجداث﴾ جمع جدث وهو القبر ﴿مُّهْطِعِينَ﴾ مسرعين يقال: أهطع في سيره أي أسرع ﴿مُّنْهَمِرٍ﴾ انهمر الماء نزل بقوة عزيراً ﴿وَدُسُرٍ﴾ الدُّسر: المسامير التي تُشدُّ بها السفينة جمع دِسار ككتاب وكُتب قال في الصحاح: الدِّسار واحد الدُسرُ وهي خيوط تشد بها ألواح السفينة ويقال هي المسامير ﴿مُّدَّكِرٍ﴾ متعظ خائف وأصله مذتكر قلبت التاء دالاً ثم أدغمت الذال فيها فصارت مدّكر ﴿صَرْصَراً﴾ الصرصر: الشديدة الصوت مع البرد مأخوذ من صرير الباب وهو تصويته ﴿أَعْجَازُ﴾ جمع عجز وهو مؤخر الشيء ﴿مُّنقَعِرٍ﴾ المنقعر: المنقلع من أصله يقال: قعرت الشجرة قعراً قلعتها من أصلها فانقعرت ﴿وَسُعُرٍ﴾ جنون من قولهم ناقة مسعورة كأنها من شدة نشاطها مجنونة قال الشاعر:
تُخالُ بها سُعراً إِذا هزَّها... ﴿أَشِرٌ﴾ الأشر: البطر ورجل أشر أي بطر أبطرته النعمة.
265
التفسِير: ﴿اقتربت الساعة وانشق القمر﴾ أي دنت القيامة وقد انشق القمر ﴿وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ﴾ أي وإِن ير كفار قريش علامة، واضحة ومعجزة ساطعة، تدل على صدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعرضوا عن الإِيمان ﴿وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ﴾ أي ويقولوا هذا سحرٌ دائم، سحر به محمداً أعيننا قال المفسرون: إِن كفار مكة قالوا للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إن كانت صادقاً فشقَّ لنا القمر فرقتين، ووعدوه بالإِيمان إن فعل، وكانت ليلة بدر، فسأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ربَّه أن يعطيه ما طلبوا، فانشقَّ القمر نصف على جبل الصفا، ونصفٌ على جبل قيقعان المقابل له، حتى رأوا حراء بينهما، فقالوا: سحرنا محمد، ثم قالوا: إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم!! فقال أبو جهل: اصبروا حتى تأتينا أهل البوادي فإِن أخبروا بانشقاقه فهو صحيح، وإِلا فقد سحر محمد أعيننا، فجاءوا فأخبروا بانشقاق القمر فقال أبو أبو جهل والمشركون: هذا سحرٌّ مستمر أي دائم فأنزل الله ﴿اقتربت الساعة وانشق القمر وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ﴾ قال الخازن: وانشقاقٌ القمر من آيات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الظاهرة، ومعجزاته الباهرة، يدعل عليه ما أخرجه الشيخان عن أنس «أن أهل مكة سألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه يُريهم آية، فأراهم انشقاق القمر مرتين» وما روي عن ابن مسعود قال «انشق القمر على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شقتين فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: اشهدوا» وما روي عن جبير بن مطعم قال «انشق القمر على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فصار فرقتين، فقالت قريش: سحر محمد أعيننا فقال بعضهم: لئن كان سحرنا فما يستطيع أن يسحر الناس كلهم، فكاتنوا يتلقون الركبان فيخبرونهم بأنهم قد رأوه فيكذبونهم»
فهذه الأحاديث الصحيحة، وقد وردت بهذه المعجزة العظيمة، مع شهادة القرآن العظيم بذلك، فإنه أدل دليل وأقوى مثبتٍ له وإمكانه لا يشك فيه مؤمن، وقيل في معنى الآية، ينشق القمر يوم القيامة، وهذا قول باطل لا يصح، وشاذ لا يثبت، لإِجماع المفسرين على خلافه، ولأن الله ذكره بلفظ الماضي ﴿وانشق القمر﴾ وحمل الماضي على المستقبل بعيد ﴿وَكَذَّبُواْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ﴾ أي وكذبوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وما عاينوا من قدرة الله تعالى في انشقاق القمر، واتبعوا ما زين لهم الشيطان من الباطل ﴿وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ﴾ أي وكل أمرٍ من الأمور منتهٍ إلى غاية يستقر عليها لا محالة إِن خيراً فخير، وإِن شراً فشر قال مقاتل: لكل حديثٍ منتهى وحقيقة ينتهي إِليها وقال قتادة: إِن الخير يستقر بأهل الخير، والشر يستقر بأهل الشر، وكل أمرٍ مستقر بأهله ﴿وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ الأنبآء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ﴾ أي ولقد جاء هؤلاء الكفار من أخبار الأمم الماضية المكذبين للرسل، ما فيه واعظ لهم عن التمادي في الكفر والضلال ﴿حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ﴾ أي هذا القرآن حكمة بالغة، بلغت النهاية في الهداية والبيان ﴿فَمَا تُغْنِ النذر﴾ أي أيَّ شيءٍ تُغنى النُذُر عمن كتب الله عليه الشقاوة، وختم على سمعه وقلبه؟! قال المفسرون: المعنى لقد جاءهم القرآن وهو حكمة تامة قد بلغت الغاية، فماذا تنفع الإِنذارات والمواعيد لقومٍ أصموا آذانهم عن سماع كلام الله؟ كقوله تعالى {وَمَا تُغْنِي الآيات والنذر
266
عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} [يونس: ١٠١] ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ﴾ أي فأعرض يا محمد عن هؤلاء المجرمين وانتظرهم ﴿يَوْمَ يَدْعُ الداع إلى شَيْءٍ نُّكُرٍ﴾ أي يوم يدعو إٍسرافيل إلى شيءٍ منكر فظيع، تنكره النفوس لشدته وهوله، وهو يوم القيامة وما فيه من البلاء والأهوال ﴿خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ﴾ أي ذليلةً أبصارهم لا يستطيعون رفعها من شدة الهول ﴿يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث﴾ أي يخرجون من القبور ﴿كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ﴾ أي كأنهم في انتشارهم وسرعة إِجابتهم للداعي جرادٌ منتشر في الآفاق، لا يدرون أين يذهبون من الخوف والحيرة قال ابن الجوزي: وإِنما شبههم بالجراد المنتشر، لأن الجراد لا جهة له يقصدها، فهم يخرجون من القبور فزعين ليس لأحدٍ منهم جهة يقصدها، والداعي هو إِسرافيل ﴿مُّهْطِعِينَ إِلَى الداع﴾ أي مسرعين مادّي أعناقهم إِلأى الداعي لا يتلكئون ولا يتأخرون ﴿يَقُولُ الكافرون هذا يَوْمٌ عَسِرٌ﴾ أي يقول الكافرون هذا يوم صعبٌ شديد قال الخازن: وفيه إشارة إِلى أنَّ ذلك اليوم يومٌ شديد على الكفارين لا على المؤمنين كقوله تعالى ﴿عَلَى الكافرين غَيْرُ يَسِيرٍ﴾ [المدثر: ١٠].. ثم ذكر تعالى وقائع الأمم المكذبين وما حلَّ بهم من العذاب والنكال تسلية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تحذيراً لكفار مكة فقال: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ أي كذب قبل قومك يا محمد قومُ نوح ﴿فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وازدجر﴾ أي فكذبوا عبدنا نوحاً وقالوا إِنه مجنون، وانتهروه وزجروه عن دعوى النبوة بالسب والتخويف والوعيد بقولهم
﴿لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يانوح لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين﴾ [الشعراء: ١١٦] قال في البحر: لم يقنعوا بتكذيبه حتى نسبوه إلى الجنون أي أنه يقول ما لا يقبله عاقل وذلك مبالغة في تكذيبهم، وإنما قال ﴿عَبْدَنَا﴾ تشريفاً له وخصوصية بالعبودية ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر﴾ أي فدعا نوح ربه وقال يا ربّ إني ضعيف عن مقاومة هؤلاء المجرمين، فانتقم لي منهم وانتصر لدينك قال أبو حيان: وإنما دعا عليهم بعدما ئيس منهم وتفاقم أمرهم، وكان الواحد من قومه يخنقه إِلى أن يخر مغشياً عليه وهو يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ﴿فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ﴾ أي فأرسلنا المطر من السماء منصباً بقوة وغزارة قال أبو السعود: وهو تمثيلٌ لكثرة الامطار وشدة انصبابها ﴿وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً﴾ أي جعلنا الأرض كلها عيوناً متفجرة بالماء ﴿فَالْتَقَى المآء على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾ أي فالتقى ماء السماء وماء الأرض على حالٍ قد قدَّرها الله في الأزل وقضاها بإِهلاك المكذبين غرقاً قال قتادة: قضي عليهم في أم الكتاب إِذا كفروا أن يُغرقوا ﴿وَحَمَلْنَاهُ على ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ﴾ أي وحملنا نوحاً على السفينة ذات الألواح الخشبية العريضة المشدودة بالمسامير قال في البحر: وذات الألواح والدُّسر هي السفينة التي أنشأها نوح عليه السلام، ويفهم من هذين الوصفين أنها «السفينة» فهي صفة تقوم مقام الموصوف وتنوبعنه ونحوه: قميصي مسرودة من حديد أي درع، وهذا من فصيح الكلام وبديعه، ولو جمعت بين الصفة والموصوف لم يكن بالفصيح، والدُّسُر: المسامير ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾ أي تسير على وجه الماء بحفظنا وكلاءتنا وتحت رعايتنا ﴿جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ﴾ أي أغرقنا قوم نوح انتصاراً لعبدنا نوح لأنه كان قد كُذِّب وجُحد فضله قال الألوسي: أي فعلنا ذلك جزاء لنوح
267
لأنه كان نعمة أنعمها الله على قومه فكفروها، وكذلك كلُ نبيٍ نعمةٌ من الله تعالى على أمته ﴿وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً﴾ أي تركنا تلك الحادثة «الطوفان» عبرة ﴿فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ أي فهل من معتبر ومتعظ؟ ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ استفهام تهويل وتعجيب أي فكيف كان عذابي وإِنذاري لمن كذب رسلي، ولم يتعظ بآياتي؟ ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ﴾ أي والله لقد سهلنا القرآن للحفظ والتدبر والاتعاظ، لما اشتمل عليه من أنواع المواعظ والعبر ﴿فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ أي فهل من متعظٍ بمواعظه، معتبرٍ بقصصه وزواجره؟ مقال الخازن: وفيه الحث على تعليم القرآن والاشتغال به، لأنه قد يسره الله وسهله على من يشاء من عباده، بحيث يسهل حفظه للصغير والكبير، والعربي والعجمي قال سعيد بن جبير: يرسناه للحفظ والقراءة، وليس شيء من كُتب الله تعالى يُقرأ كلُّه ظاهراً إلا القرآن، وبالجملة فقد جعل الله القرآن مهيئاً ومسهلاً لمن أراد حفظه وفهمه أو الاتعاظ به، فهو رأس سعادة الدنيا والآخرة ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ أي كذبت عادٌ رسولهم هوداً فكيف كان إنذاري لهم بالعذاب؟ ثم شرع في بيان ما حلَّ بهم من العذاب الفظيع المدمر فقال ﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً﴾ أي أرسلنا عليهم ريحاً عاصفة باردة شديدة الهبوب والصوت قال ابن عباس: الصرصر: الشديدة البرد وقال السدي: الشديدة الصوت ﴿فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ﴾ أي في يومٍ مشئوم دائم الشؤم، استمر عليهم بشؤمه فلم يبق منهم أحدٌ إِلا هلك فيه قال ابن كثير: استمر عليهم نحسه ودماره، لأنه يوم اتصل فيه عذابهم الدنيوي بالأخروي ﴿تَنزِعُ الناس﴾ أي تقلع الريح القوم ثم ترمي بهم على رؤسهم فتدقُّ رقابهم وتتركهم ﴿كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ﴾ أي كأنهم أُصول نخلٍ قد انقلعت من مغارسها وسقطت على الأرض، شبهوا بالنخل لطولهم وضخامة أجسامهم فتبقى أجسامهم بلا رءوس كعجز النخلة الملقاة على الأرض ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ تهويلٌ لما حلَّ بهم من العذاب وتعجبٌ من أمره أي كيف كان عذابي وإِنذاري لهم؟ ألم يكن هائلاً فظيعاً؟ ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ ؟ كرره للتنبيه على فضل الله على المؤمنين بتيسير حفظ القرآن أي ولقد سهلنا القرآن للحفظ والفهم، فهل من متعظٍ ومعتبر بزواجر القرآن؟ ثم أخبر تعالى عن قوم ثمود المكذبين لرسولهم صالح عليه السلام فقال ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بالنذر﴾ أي كذبت ثمود بالإِنذارات والمواعظ التي أنذرهم بها نبيهم صالح ﴿فقالوا أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ﴾ أي أنتَّبع إِنساناً مثلنا من آحاد الناس، ليس من الأشراف ولا العظماء، ونحن جماعة كثيرون؟ قال في البحر: قالوا ذلك حسداً منهم واستبعاداً أن يكون نوع البشر بفضل بعضُه بعضاً هذا الفصل، فقالوا: أنكون جمعاً ونتبع واحداً منا؟ ولم يعلموا أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، ويفيض نور الهدى على من رضيه {إِنَّآ إِذاً لَّفِي
268
ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} أي إنا إِذا ابتعناه لفي خطأ وذهابٍ عن الحقِّ واضح، وجنون دائم قال ابن عباس: سُعُر أي جنون من قولهم ناقة مسعورة كأنها من شدة نشاطها مجنونة ﴿أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا﴾ استفهام إِنكاري أي هل خصَّ بالوحي والرسالة وحده دوننا، وفينا من هو أكثر منه مالاً وأحسن حالاً؟ قال الإِمام الفخر: وفي الآية إِشارة إلى ما كانوا ينكرونه بطريق المبالغة، وذلك لأن الإِلقاء إِنزالٌ بسرعة، فكأنهم قالوا: الملك جسيم والسماء بعيدة فكيف ينزل عليه الوحي في لحظة؟ وقولهم «عليه» إنكارٌ آخر كأنهم قالوا: ما أُلقي عليه ذكرٌ أصلاً، وعلى فرض نزوله فلا يكون عليه من بيننا وفينا من هو فوقه في الشرف والذكاء؟ وقولهم ﴿أَأُلْقِيَ﴾ بدلاً من قولهم «أألقى الله» إشارة إِلى أن الإِلقاء من السماء غير ممكن فضلاً عن أن يكون من الله تعالى ﴿بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ﴾ أي بل هو كاذب في دعوى النبوة، متجاوز في حد الكذب، متكبرٌ بطِرٌ يريد العلو علينا، وإِنما وصفوه بأنه ﴿أَشِرٌ﴾ مبالغة منهم في رفض دعواه كأ، هم قالوا نه كذب لا لضرورةٍ وحاجةٍ إلى الخلاص كما يكذب الضعيف، وإنما تكبَّر وبطر وطلب الرياسة عليكم وأراد أن تتبعوه فكذب على الله، فلا يلتفت إِلى كلامه لأنه جمع بين رذيلتين: الكذب والتكبر، وكلٌّ منهما مانع من اتباعه، قال تعالى تهديداً لهم وردّاً لبهتانهم ﴿سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر﴾ أي سيعلمون في الآخرة من هو الكذَّاب الأشر، هل هو صالح عليه السلام أم قومه المكذبون المجرمون؟ قال الألوسي: المراد سيعلمون أنهم هم الكذابون الأشرون، لكنْ أورد ذلك مورد الإِبهام إيماءً إِلى أنه مما لا يكاد يخفى ﴿إِنَّا مُرْسِلُواْ الناقة فِتْنَةً لَّهُمْ﴾ أي مخرجوا الناقة من الصخرة الصماء محنة لهم واختباراً كما شاءوا وطلبوا قال ابن كثيكر: أخرج الله لهم ناقة عظيمة عشراء، من صخرة صماء طبق ما سألوا لتكون حجة الله عليهم في تصديق صالح عليه السلام فيما جاءهم به ﴿فارتقبهم واصطبر﴾ أي فانتظرهم وتبصَّرْ ما يصنعون وما يُصنع بهم، واصبر على أذاهم فإِن الله ناصرك عليهم ﴿وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ المآء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ﴾ أي وأعلِمْهم أنَّ الماء الذي يمرُّ بواديهم مقسومٌ بين ثمود وبين الناقة كقوله تعالى
﴿لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ﴾ [الشعراء: ١٥٥] قال ابن عباس: إِذا كان يوم شربهم لا تشرب الناقةُ شيئاً من الماء وتسقيهم لبناً وكانوا في نعيم، وإِذا كان يوم الناقة شربت الماءك له فلم تُبق لهم شيئاً، وإنما قال تعالى ﴿بَيْنَهُمْ﴾ تغليباً للعقلاء ﴿كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ﴾ أي كل نصيب وحصة من الماء يحضرها من كانت نوبته، فإِذا كان يوم الناقة حضرت القوم شربها، وإِذا كان يومهم حضروا شربهم ﴿فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فتعاطى فَعَقَرَ﴾ أي فنادت قبيلة ثمود أشقى القوم واسمه «قدار بن سالف» لقتل الناقة فتناول الناقة بسيفه فقتلها غير مكترث بالأمر العظيم ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ أي فكيف كان عقابي وإِنذاري لهم؟ ألم يكن فظيعاً شديداً؟! ﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ أي أهلكناهم بصيحة واحدة صاح بها جريل عليه السلام فلم تبق منه عين تطْرف ﴿فَكَانُواْ كَهَشِيمِ المحتظر﴾ أي فصاروا هشيماً متفتتاً كيابس الشجر إِذا بلى وتحطَّم وداسته الأقدام قال الإِمام الجلال: المحتظر هو الذي يجعل لغنمه حظيرةً من
269
يابس الشجر والشوك يحفظهن فيها من الذئاب والسباع، وما سقط من ذلك فداسته فهو الهشيم ﴿وَلَقَد يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ أي يسرناه للحفظ والاتعاظ فه من معتبر؟
270
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى المكذبين من قوم «عاد وثمود» ذكر هنا قوم لوط وقوم فرعون وما حل بهم من العذاب والدمار، تذكيراً لكفار مكة بانتقام الله من أعدائه وأعداء رسله، وختم السورة الكريمة ببيان سنة الله في عقاب الكفرة المجرمين.
اللغَة: ﴿حَاصِباً﴾ الحاصب: الحجارة وقيل: هي الريح الشديد التي تثير الحصباء وهي الحصى ﴿بَطْشاً﴾ عقابنا الشديد ﴿الزبر﴾ الكتب السماوية جمع زبور وهو الكتاب الإِلهي ﴿أدهى﴾ أفطع من الداهية وهي الأمر المنكر العظيم ﴿سُعُرٍ﴾ خسرانٍ وجنون ﴿سَقَرَ﴾ اسم من أسماء جهنم أعاذنا الله منها.
سَبَبُ النّزول: عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: جاء مشركموا قريشٍ يخاصمون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في القدر فنزلت ﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾.
التفسِير: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بالنذر﴾ أي كذبوا بالإِنذارات التي أنذرهم بها نبيهم لوط عليه السلام ﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً﴾ أي أرسلنا عليهم حجارة قذفوا بها من السماء قال ابن كثير: أمر تعالى جبريل فحمل مدائنهم حتى وصل بها إِلى عنان السماء، ثم قلبها عليهم وأرسلها وأُتبعت بحجارةٍ من سجيلٍ منضود، والحاصب هي الحجارة ﴿إِلاَّ آلَ لُوطٍ﴾ أي غير لوطٍ وأتباعه المؤمنين ﴿نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ﴾ أي نجيناهم من الهلاك قُبيل الصبح وقت السَّحر ﴿نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا﴾ أي إِنعاماً منَّا
270
عليهم نجيناهم من العذاب ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ﴾ أي مثل ذلك الجزاء الكريم، نجزي من شكر نعمتنا بالإِيمان والطاعة ﴿وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا﴾ أي ولقد خوفهم لوط عقوبتنا الشديدة، وانتقامنا منهم بالعذاب ﴿فَتَمَارَوْاْ بالنذر﴾ أي فتشككوا وكذبوا بالإِنذار والوعيد ﴿وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ﴾ أي طلبوا منه أن يسلّم لهم أضيافه وهم الملائكة ليفجروا بهم بطريق اللواطة ﴿فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ﴾ أي أعمينا أعينهم وأزلنا أثرها حتى فقدوا أبصارهم قال المفسرون: لما جاءت الملائكة إلى لوط في صورة شبابٍ مردٍ حسان، أضافهم لوط عليه السلام، فجاء قومه يُهرعونن إِليه لقصد الفاحشة بهم، فأعلق لوط دونهم الباب، فجعلوا يحاولون كسر الباب، فخرج عليهم جبريل فضرب أعينهم بطرف جناحه فانطمست أعينهم وعموا ﴿فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ أي فذوقوا عذابي وإِنذاري الذي أنذركم به لوط ﴿وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ﴾ أي جاءهم وقت الصبح عذابٌ دائم متصل بعذاب الآخرة قال الصاوي: وذلك أن جبريل قلع بلادهم فرفعها ثم قلبها بهم وأمطر عليهم حجارة من سجيل، واتصل عذاب الدنيا بعذاب الآخرة فلا يزول عنهم حتى يصلوا إِلى النار ﴿فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ أي فذوقوا أيها المجرمون عذابي الأليم، وإِنذاري لكم على لسان رسولي ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ﴾ أي ولقد يسرنا القرآن للحفظ والتدبير فهل من متعظٍ ومعتبر؟ قال المفسرون: حكمة تكرار ذلك في كل قصة، التنبيهُ على الاتعاض والتدبير في أنباء الغابرين، وللإِشارة إِلى أن تكذيب كل رسولٍ مقتضٍ لنزول العذاب كما كرر قوله
﴿فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن: ١٣] تقريراً للنعم المختلفة المعدودة، فكلما ذكر نعمةً وبَّخ على التكذيب بها ﴿وَلَقَدْ جَآءَ آلَ فِرْعَوْنَ النذر﴾ أي جاء فرعون وقومه الإِنذارات المتكررة فلم يعتبروا قال أبو السعود: صُدّرت قصتهم بالقسم المؤكد لإِبراز كمال الاعتناء بشأنها، لغاية عظم ما فيها من الآيات وكثرتها، وهو ما لاقوه من العذاب، وفرعون رأس الطغيان ﴿كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كُلِّهَا﴾ أي كذَّبوا بالمعجزات التسع التي أعطيها موسى ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ﴾ أي فانتقمنا منهم بإِغراقهم في البحر، وأخذناهم بالعذاب أخذ إِلهٍ غالب في انتقامه، قادرٍ على إِهلاكهم لا يعجزه شيء.. ثم خوَّف تعالى كفار مكة فقال ﴿أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ﴾ ؟ الاستفهام إِنكاري للتقريع والتوبيخ أي أكفاركم يا معشر العرب خيرٌ من أولئكم الكفار الذين أحللت بهم نقمتي مثل قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وقوم فرعون، حتَّى لا أعذبهم؟ قال القرطبي: استفهام إنكار ومعناه النفي أي ليس كفاركم خيراً من كفار من تقدم من الأمم الذين أهلكوا بكفرهم ﴿أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي الزبر﴾ أي أم لكم يا كفار قريش براءة من العذاب في الكتب السماوية المنزلة على
271
الأنبياء؟ ﴿أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ﴾ أي بل أيقولون نحن جمعٌ كثير، واثقون بكثرتنا وقوتنا، منتصرون على محمد؟ قال تعالى رداً عليهم ﴿سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر﴾ أي سيهزم جمع المشركين ويولون الأدبار منهزمين قال ابن الجوزي: وهذا مما أخبر الله به نبيه من علم الغيب، فكات الهزيمةُ يوم بدر ﴿بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ﴾ أي ليس هذا تمام عقابهم بل القيامة موعد عذابهم ﴿والساعة أدهى وَأَمَرُّ﴾ أي أعظم داهيةً وأشدُّ مرارةً من القتل والأسر ﴿إِنَّ المجرمين فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ﴾ أي إِن المجرمين في حيرةٍ وتخبطٍ في الدنيا، وفي نيرانٍ مسعَّةر في الآخرة قال ابن عباس: في خسرانٍ وجنون ﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ﴾ أي يوم يُجرُّون في النار على وجوههم عقاباً وإِذلالاً لهم ﴿ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ﴾ أي يقال لهم: ذوقوا أيها المكذبون عذاب جهنم قال أبو السعود: وسقر علمٌ لجهنم ولذلك لم يُصرف ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ أي إِنا خلقنا كل شيءٍ مقدَّراً مكتوباً في اللوح المحفوظ من الأزل ﴿وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر﴾ أي وما شأننا في الخلق والإِيجاد إِلا مرة واحدة كلمح البصر في السرعة نقول للشيء: كن فيكون قال ابن كثير: أي إِنما نأمر بالشيء مرة واحدة لا نحتاج إِلى تأكيد بثانية، فيكون ذلك موجوداً كلمح البصر لا يتأخر طرفة عين ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ﴾ أي ووالله لقد أهلكنا أشباهكم ونظراءكم في الكفر والضلال من الأمم السالفة ﴿فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ أي فهل من يتذكر ويتعظ؟ ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر﴾ أي وجميع ما فعلته الامم المكذبة من خير وشر مكتوب عليهم، مسجل في كتب الحفظة التي بأيدي الملائكة قال ابن زيد: ﴿فِي الزبر﴾ أي في دواوين الحفظة ﴿وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ﴾ أي وكل صغيرٍ وكبير من الأعمال مسطورٌ في اللوح المحفوظ، مثبتٌ فيه ﴿إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ﴾ أي في جنات وأنهار قال القرطبي: يعني أنهار الماء، والخمر، والعسل، واللبن ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ﴾ أي في مكانٍ مرضي، ومقام حسن ﴿عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾ أي عند ربٍ عظيم جليل، قادرٍ في ملكه وسلطانه، لا يعجزه شيء، وهو الله رب العالمين.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الاستعارة التمثيلية ﴿فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء﴾ [القمر: ١١] شبه تدفق المطر من السحاب بانصباب أنهار انفتحت بها أبواب السماء، وانشق بها أديم الخضراء بطريق الاستعارة التمثيلية.
٢ - جناس الاشتقاق ﴿يَدْعُ الداع﴾.
٣ - الكناية ﴿وَحَمَلْنَاهُ على ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ﴾ [القمر: ١٣] كناية عن السفينة التي تحوي الأخشاب والمسامير.
٤ - التشبيه المرسل والمجمل ﴿كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾ [الحاقة: ٧] ومثله ﴿فَكَانُواْ كَهَشِيمِ المحتظر﴾ [القمر: ٣١].
٥ - صيغة المبالغة ﴿بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ﴾ [القمر: ٢٥] أي كثير الكذب عظيم البطر لأن فعَّال وفعل للمبالغة.
272
٦ - الإطناب بتكرار اللفظ ﴿بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ والساعة أدهى﴾ لزيادة التخويف والتهويل.
٧ - المقابلة بين المجرمين والمتقين ﴿إِنَّ المجرمين فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ﴾ و ﴿إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ﴾.
٨ - الطباق بين ﴿صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ﴾.
٩ - السجع المرصَّع غير المتكلف الذي يزيد في جمال اللفظ وموسيقاه إقرأ مثلاً قوله تعالى ﴿ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر﴾ الخ.
273
Icon