تفسير سورة الشعراء

التفسير المنير
تفسير سورة سورة الشعراء من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

الموحدين، وبراءته من أفعال المشركين، والرد على افترائهم وزعمهم أن القرآن من تنزل الشياطين التي تتنزل على كل أفّاكّ أثيم، وإعلامهم بأن الغاوين الضالين هم أتباع الشعراء، وليسوا المؤمنين الصلحاء المجاهدين.
فضلها:
ورد في فضل هذه السورة خبران: الأول عن ابن عباس، والثاني عن البراء.
روى ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أعطيت السورة التي تذكر فيها البقرة من الذّكر الأول، وأعطيت طه، وطسم من ألواح موسى، وأعطيت فواتح القرآن، وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش، وأعطيت المفصّل نافلة».
وروى البراء بن عازب أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة، وأعطاني المبين مكان الإنجيل، وأعطاني الطواسين مكان الزبور، وفضلني بالحواميم والمفصّل، ما قرأهن نبي قبلي» «١».
تكذيب المشركين بالقرآن وإنذارهم وإثبات وحدانية الله
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١ الى ٩]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤)
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩)
(١) تفسير القرطبي: ١٣/ ٨٧.
120
الإعراب:
فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ فَظَلَّتْ في موضع جزم بالعطف على نُنَزِّلْ.
وأَعْناقُهُمْ: اسمها، وخاضِعِينَ: خبرها.
وإنما قال خاضِعِينَ لأنه أراد بالأعناق الرؤساء، أي فظلت الرؤساء خاضعين لها، أو بتقدير مضاف محذوف، أي فظلت أصحاب الأعناق.
البلاغة:
فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ كناية عن الذل والهوان الذي يلحقهم.
فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وعيد وتهديد.
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ استفهام للتوبيخ على إهمال النظر في دلائل وجود الله وتوحيده.
المفردات اللغوية:
طسم تقرأ طا، سين، ميم، مع إدغام السين في الميم والمراد بهذه الأحرف الهجائية كما بينا سابقا الإشارة إلى إعجاز القرآن الكريم، وتحدي العرب بالإتيان بمثله، مع أنه مركب من الحروف الهجائية التي تتركب منها لغتهم، وينطق بها كل عربي، وهم أساطين البيان وفرسان الفصاحة والبلاغة. وعليه، فهي حروف تنبيه مثل ألا ونحوها، ويا للنداء.
تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ أي هذه الآيات في هذه السورة، أو آيات القرآن كله، هي آيات القرآن الظاهر إعجازه وصحته، والمظهر الحق من الباطل، وإضافة آياتُ إلى الْكِتابِ بمعنى من لَعَلَّكَ يا محمد، ولعل: هنا يراد بها الاستفهام المقصود به الإنكار والإشفاق، أي أشفق على نفسك بتخفيف هذا الغم. باخِعٌ نَفْسَكَ قاتلها أو مهلكها غما وحزنا. أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي من أجل عدم إيمان قومك أهل مكة. وأصل البخع: أن يبلغ بالذّبح البخاع: وهو عرق في فقرات الرقبة، مبالغة في الذبح. إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً دلالة ملجئة إلى الإيمان، أو بلية قاسرة عليه. فَظَلَّتْ بمعنى المضارع، أي تظل
121
وتدوم. أَعْناقُهُمْ أي أصحابها، كما يكنى عن النفس بالوجه، ولما وصفت الأعناق بصفات العقلاء وهو الخضوع أجريت مجراهم، وجمعت الصفة جمع العقلاء وهي: خاضعين، أي منقادين، وأصل الكلام: فظلوا لها خاضعين.
ذِكْرٍ تذكير وموعظة، وهو القرآن. مِنَ الرَّحْمنِ بوحيه إلى نبيه. مُحْدَثٍ مجدّد إنزاله لتكرار التذكير وتنويع التقرير. إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ إلا جددوا إعراضا عنه وإصرارا على ما كانوا عليه فَقَدْ كَذَّبُوا به أي بالذكر بعد إعراضهم، وأمعنوا في تكذيبه، بحيث أدى بهم إلى الاستهزاء به. فَسَيَأْتِيهِمْ أي سيحل بهم العذاب إما في الدنيا كيوم بدر، وإما يوم القيامة. أَنْبؤُا عواقب. ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من أنه كان حقا أم باطلا.
أَوَلَمْ يَرَوْا أو لم ينظروا إلى عجائبها. كَمْ أَنْبَتْنا أي كثيرا. مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ صنف محمود كثير المنفعة، وهو صفة لكل ما يحمد ويرضي. إِنَّ فِي ذلِكَ إن في إنبات تلك الأصناف. لَآيَةً دلالة على أن منبتها تام القدرة والحكمة، سابغ النعمة والرحمة. وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ في علم الله تعالى، فلا ينفعهم أمثال هذه الآيات العظام. الْعَزِيزُ ذو العزة الغالب القادر على الانتقام من الكفرة. الرَّحِيمُ حيث أمهلهم. أو العزيز في انتقامه ممن كفر، الرحيم لمن تاب وآمن.
التفسير والبيان:
طسم، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ أي هذا القرآن مكون من أحرف عربية، مثل الطاء والسين والميم، يقصد بها تحدي العرب به ليأتوا مثله، فإذا عجزوا دل على أنه كلام الله الموحى به إلى نبيه. وهذه آيات القرآن البيّن الواضح الجلي الذي يفصل بين الحق والباطل والغي والرشاد.
لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أأنت يا محمد مهلك نفسك حزنا وأسفا على عدم إيمان قومك برسالتك؟! وهذه تسلية من الله لرسوله في عدم إيمان من لم يؤمن به من الكفار، كما قال تعالى: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فاطر ٣٥/ ٨] وقال سبحانه: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف ١٨/ ٦].
122
إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً، فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ أي إن الله قادر على كل شيء، فلو نشاء لأنزلنا عليهم من السماء آية تضطرهم إلى الإيمان قهرا، وتقسرهم عليه، فتصبح رقابهم خاضعة ذليلة منقادة لما نريد، أو يصبح كبراؤهم ورؤساؤهم منقادين، ولكنا لا نفعل ذلك لأنا لا نريد من أحد إلا الإيمان عن اختيار وطواعية ورضا، لا بالقسر والإكراه، كما قال سبحانه: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً، أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس ١٠/ ٩٩] وقال عز وجل: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً [هود ١١/ ١١٨]. وأضحت سنتنا إرسال الرسل إلى البشر، وإنزال الكتب عليهم، ليؤمنوا عن بيّنة واقتناع.
لكن الكفار ممعنون في الكفر، موغلون في الضلال، معاندون معرضون، فقال: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ أي كلما جاءهم كتاب من السماء أعرض عنه أكثر الناس، وما الهدف من تجديد إنزال الكتب الإلهية إلا تكرار التذكير، وتنويع البيان، للتأمل وإعمال الفكر، والهداية والإصلاح، غير أنه كلما جدد الله لهم موعظة وتذكيرا جددوا إعراضا وتكذيبا كما قال:
فَقَدْ كَذَّبُوا، فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي فقد كذب أولئك المشركون بما جاءهم من الذّكر والحق، ثم بادروا إلى الاستهزاء، فسيعلمون نبأ هذا التكذيب والاستهزاء في المستقبل، كما قال تعالى: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص ٣٨/ ٨٨] وقال: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [يس ٣٦/ ٣٠].
ثم إنهم أعرضوا عن التفكير في آيات الله الكونية وآثاره المشاهدة فقال:
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ أي أولم ينظروا إلى
123
الأرض التي خلقها الله، وأنبت فيها من كل صنف كثير النفع من الزروع والثمار، فيستدلوا بذلك على عظمة سلطان الله، وباهر قدرته، فهو موجود واحد قادر على كل شيء من هداية القوم وغيرها.
والجمع بين كَمْ وكُلِّ لدلالة كُلِّ على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل، ودلالة كَمْ على أن هذا المحيط متكاثر، فجمع بين الكثرة والإحاطة.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي في ذلك الإنبات لدلالة على قدرة الخالق للأشياء، وقدرته على البعث والإحياء، ومع هذا ما آمن أكثر الناس، بل كذبوا به وبرسله وكتبه، وخالفوا أمره، وارتكبوا نهيه.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي وإن ربك أيها الرسول لهو القادر على كل ما يريد، القاهر الغالب الذي قهر كل شيء وغلبه، الرحيم بخلقه، فلا يعجل على من عصاه، بل يمهله ويؤجله، لعله يرجع عن غيه، ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- إن القرآن الكريم كلام الله المعجز الواضح الجلي الذي أبان الحق وزيّف الباطل، وقرر الأحكام، ودعا إلى الهدى والرشاد.
٢- لا حاجة بك أيها النبي إلى الإسراف في الأسى والحزن على تكذيب القوم وإعراضهم عن رسالتك، وعدم إيمانهم بالقرآن ودعوة الإسلام.
٣- إن الله جلت قدرته قادر على إنزال معجزة ظاهرة تجبرهم على الإيمان، ولكنه لم يفعل لأن سنته وحكمته اقتضت جعل الإيمان اختياريا لا قسر فيه ولا
124
إكراه: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ، قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [البقرة ٢/ ٢٥٦].
٤- بالرغم من تجدد المواعظ والمذكّرات فإن المشركين أعرضوا عن الهدى، وكذبوا بالمنزل على الأنبياء، فسوف يأتيهم عاقبة ما كذبوا، والذي استهزءوا به.
ويلاحظ أنه تعالى وصف الكفار بالإعراض عن القرآن المنزل أولا، وبالتكذيب ثانيا، والإنكار إلى درجة الاستهزاء ثالثا.
٥- احتجت المعتزلة بقوله تعالى: مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ على خلق القرآن فقالوا: الذكر هو القرآن، لقوله تعالى: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ [الأنبياء ٢١/ ٥٠] وبيّن في هذه الآية أن الذكر محدث، فيلزم منه أن القرآن محدث، والجواب: أن الحدوث إنما هو لهذه الألفاظ المتلوة بالوحي الحاصل، أما أصل القرآن الذي هو كلام الله فهو قديم قدم الله تعالى.
٦- نبّه الله تعالى بقوله أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ.. على عظمته وقدرته، وأنهم لو رأوا بقلوبهم ونظروا ببصائرهم، لعلموا أن الله هو الذي يستحق أن يعبد، إذ هو القادر على كل شيء، لذا قال: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً أي إن فيما ذكر من الإنبات في الأرض لدليلا واضحا على أن الله قادر، ولكن، وما أكثر الناس بمصدقين، لما سبق من علمي فيهم، وإن الله هو المنيع المنتقم من أعدائه، الرحيم بأوليائه.
125
القصة الأولى قصة موسى وهارون عليهما السلام مع فرعون وقومه
- ١- امتنان فرعون على موسى بتربيته
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٠ الى ٢٢]
وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤)
قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩)
قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢)
الإعراب:
وَإِذْ نادى إِذْ: ظرف منصوب متعلق بفعل مقدر، تقديره: واتل عليهم إذ نادى.
فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ الجار والمجرور في موضع نصب لأنه يتعلق بمحذوف في موضع الحال، تقديره: فأرسلني مضموما إلى هارون.
126
نَّا رَسُولُ
قال سُولُ
بالإفراد، لأنه أراد بالرسول الجنس، فوحّد، أو أن يكون سُولُ
بمعنى رسالة، أي إنا ذوا رسالة ربّ العالمين، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا.. أي بأن أرسل معنا، فحذف حرف الجر، وهي تحذف معها كثيرا.
أَنْ عَبَّدْتَ إما بدل مرفوع من نِعْمَةٌ وإما منصوب بتقدير: لأن عبدت، ثم حذف حرف الجر، لطول الكلام بصلة أَنْ طلبا للتخفيف.
البلاغة:
وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي بينهما مقابلة.
ُولُ
أَرْسِلْ جناس اشتقاق.
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ جناس ناقص، لاختلاف الشكل واتحاد الحروف.
أَلَمْ نُرَبِّكَ.. إيجاز بالحذف، تقديره: فأتيا فرعون فقالا له ذلك، فقال لموسى: أَلَمْ نُرَبِّكَ.
فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ كذلك إيجاز بالحذف، أي فأرسل جبريل إلى هارون واجعله نبيا يؤازرني ويعاضدني.
المفردات اللغوية:
وَإِذْ نادى متعلق بفعل مقدر، أي اذكر أو اتل يا محمد لقومك. إِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى ليلة رأى النار والشجرة. أَنِ ائْتِ بأن ائت رسولا. الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ بالكفر واستعباد بنى إسرائيل وذبح أولادهم. قَوْمَ فِرْعَوْنَ بدل من الْقَوْمَ الأول أو عطف بيان له. أَلا يَتَّقُونَ الله بطاعته، فيوحدوه، والاستفهام إنكاري، وهو استئناف أتبعه إرساله إليهم للإنذار، تعجيبا له من إفراطهم في الظلم واجترائهم عليه، وفيه مزيد الحثّ على التقوى. وَيَضِيقُ صَدْرِي من تكذيبهم لي. وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي بأداء الرسالة، للعقدة التي فيه. فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ أي أرسل جبريل إلى أخي هارون معي، ليكون نبيا. وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ لهم علي تبعة ذنب، فحذف المضاف، والمراد قتل القبطي، وإنما سماه ذنبا على زعمهم. فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ به، وكان القتل قبل أداء الرسالة.
كَلَّا كلمة زجر وردع، أي ثق بالله، ولا تخف منهم، فلا يقتلونك. فَاذْهَبا أنت وأخوك، فيه تغليب الحاضر على الغائب، وهو معطوف على الفعل الذي دلّ عليه كَلَّا كأنه قيل: ارتدع يا موسى عما تظن، فاذهب أنت والذي طلبته ليكون معك نبيا وهو هارون.
127
بِآياتِنا معجزاتنا. إِنَّا مَعَكُمْ يعني موسى وهارون وفرعون، أو أجريا مجرى الجماعة.
مُسْتَمِعُونَ ما تقولون وما يقال لكم وما يجري بينكما وبينه، فأجعل لكما الغلبة عليه.
َّا رَسُولُ
أي إن كلّا منا رسول من الله إليك، أو أراد به الجنس أو ضمنه معنى الإرسال والرسالة. أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا أي بأن أرسل معنا إلى الشام، قالَ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا أي فأتياه فقالا له ما ذكر، فقال فرعون لموسى: ألم نكن ربّيناك في منازلنا. وَلِيداً طفلا صغيرا، سمي بذلك لقربه من الولادة بعد فطامه. وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ أي ثلاثين سنة، يلبس من ملابس فرعون، ويركب من مراكبه، وكان يسمى ابنه. ثم خرج إلى مدين عشر سنين، ثم عاد إليهم يدعوهم إلى الله ثلاثين، ثم بقي بعد الإغراق لفرعون وقومه خمسين. وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وهي قتل القبطي، وبّخه به معظما إياه، بعد ما عدّد عليه نعمته. وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ الجاحدين لنعمتي عليك بالتربية وعدم الاستعباد. وهو حال من تاء فَعَلْتَ.
قالَ: فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ أي قال موسى: فعلتها حينئذ وأنا من المخطئين أو من الجاهلين، قبل أن يؤتيني الله العلم والرسالة، لأنه لم يتعمد قتله. فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ خرجت من بينكم إلى مدين. فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً حكمة وعلما. تَمُنُّها تمنّ بها، أي وتلك التربية نعمة تمتن علي بها ظاهرا، وهي في الحقيقة تعبيدك بني إسرائيل وذبح أبنائهم، أي اتخذتهم عبيدا، ولم تستعبدني، لا نعمة لك بذلك لظلمك باستعبادهم. وقدر بعضهم أول الكلام همزة استفهام للإنكار، أي أو تلك نعمة تمنها علي وهي أن عبدت؟ والمعنى: تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها علي، وأنك لم تستعبدني.
المناسبة:
هذه القصة التي ترددت في القرآن كثيرا في سور عديدة «١» يراد من ذكرها هنا تسلية النبي صلّى الله عليه وسلم عما يلقاه من قومه من صدود وإعراض وتكذيب، فبعد أن ذكر الله تعالى تكذيب المشركين برسالته وإنذارهم وإثبات وحدانية الله لهم بإنبات النبات، ذكر قصة موسى مع فرعون وقومه الذين كذبوه مع إثبات نبوته بالمعجزات البينات، ولما لم تغن الآيات والنذر، حاق بالمكذبين سوء العذاب، وأغرقهم الله في اليم، جزاء جحودهم وتكذيبهم.
(١) ذكرت قصة موسى في البقرة، والأعراف، ويونس، وهود، وطه، والشعراء، والنمل، والقصص، وغافر (المؤمن)، والسجدة (فصلت)، والنازعات، بأساليب مختلفة.
128
التفسير والبيان:
يبدأ الله تعالى القصة من بدء بعثة موسى بن عمران عليه السلام وتكليم ربّه له ومناجاته إياه من جانب الطور الأيمن، فيقول:
وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ أي، اذكر يا محمد لقومك حين نادى الله موسى من جانب الطور الأيمن بالوادي المقدس طوى، وكلمه وناجاه، وأرسله واصطفاه، وأمره بالذهاب إلى فرعون وملئه القوم الظالمين أنفسهم بالشرك واستعباد بني إسرائيل وذبح أولادهم، فيدعوهم إلى عبادة الله وحده، وتخلّيهم عن فكرة تأليه فرعون.
وقال الله لموسى تعجيبا من حالهم: ألا يتقونني، ألا يخافون بطشي وانتقامي في الآخرة، ويحذرون عصياني وعذابي على كفرهم وبغيهم. وقوله:
أَلا يَتَّقُونَ كلام مستأنف، أتبعه تعالى إرساله إليهم للإنذار وتسجيل الظلم عليهم، وأمنهم العواقب وقلة خوفهم.
والنداء الذي سمعه موسى عليه السلام من الله تعالى هو كلام الله القديم المنزه عن مشابهة الحروف والأصوات، مع أنه مسموع، على رأي أبي الحسن الأشعري.
وقال أبو منصور الماتريدي: الذي سمعه موسى عليه السلام كان نداء من جنس الحروف والأصوات «١».
قالَ: رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ، وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي أي قال موسى مجيبا ربّه: يا ربّ، إني أخشى تكذيبهم لي، فأحزن ويضيق صدري تأثرا وتألما بما يعملون، ولا ينطلق لساني بما يجب علي من أداء الرسالة، بل أتلعثم، وأخي هارون أفصح مني لسانا، وأقوى بنيانا.
(١) تفسير الرازي: ٢٤/ ١٢١
129
فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ أي فاجعل هارون نبيا مثلي، أو أرسل جبريل عليه السلام له بالوحي ليكون معي نبيا ورسولا، يؤازرني ويعاضدني، فتتحقق أعباء الرسالة على الوجه الأكمل. وسبب آخر هو:
وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ أي ولهم آل القبط علي تبعة جرم بقتل قبطي خطأ قبل الرسالة أدى إلى خروجي من مصر، فأخاف إن كنت وحدي أن يقتلوني بسبب ذلك، وحينئذ لا يحصل المقصود من البعثة، وأما هارون فليس متهما بشيء، فيتحقق المقصود من البعثة. وهذا إيماء إلى أن الخوف قد يطرأ على الأنبياء كما يطرأ على غيرهم من البشر، وقد وقع مثل هذا لنبينا، حتى طمأنه الله بقوله: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة ٥/ ٦٧].
والخلاصة: هذه أعذار سأل الله إزاحتها عنه، وأسباب لبعثة هارون معه إلى فرعون وقومه، بدأ بخوف التكذيب من فرعون وملئه، ثم ثنّى بضيق الصدر تأثرا وتألما، ثم ثلّث بعدم انطلاق اللسان، وأما هارون فهو أفصح لسانا، وأهدأ بالا، ثم ربّع بوجود تبعة الذنب وهو جرم القتل خطأ قبل النبوة، فخاف أن يبادروا إلى قتله، فيفوت أداء الرسالة ونشرها. ويجمع مطالبه أمران: طلب دفع السوء أو الشر أو التقصير عنه، وإرسال هارون معه.
فأجابه الله إليها فقال:
قالَ: كَلَّا، فَاذْهَبا بِآياتِنا، إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ أي قال الله له:
ارتدع يا موسى عما تظن، ولا تخف من شيء، فإنهم لا يقدرون على قتلك، وأجابه إلى المطلب الثاني بقوله: فَاذْهَبا أي اذهب أنت وأخوك الذي طلبته وهو هارون إلى فرعون وملئه بآياتنا ومعجزاتنا الدالة على صدقكما، وأنا ناصركما ومعينكما، كما قال تعالى: لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه ٢٠/ ٤٦] أي إنني معكما بحفظي وكلاءتي ونصري وتأييدي، وقوله: إِنَّا يريد
130
نفسه تعالى، وقوله: مُسْتَمِعُونَ أي سامعون ما يقولون وما يجاوبون، وإنما أراد بذلك تقوية قلبيهما، وأنه يعينهما ويحفظهما.
فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا: إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ، أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ أي فاذهبا إلى فرعون، فقولا له بلين ورفق: إننا رسولا ربّ العالمين أرسلنا الله لك ولقومك أي أرسل كلا منا إليك، فأطلق حرية بني إسرائيل، ليعبدوا ربّهم في أرض الله الواسعة، ويعودوا معنا إلى الأرض المقدسة:
فلسطين.
وجاء لفظ الرسول هنا مفردا، وفي آية أخرى مثنى إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ [طه ٢٠/ ٤٧] لأن الرسول يطلق على الواحد وغيره، لأنه اسم جنس، أو لأنه بمعنى الرسالة، أي إنا ذوا رسالة ربّ العالمين، أو لأنهما على شريعة واحدة وإخوة كأنهما رسول واحد، أو كل واحد منا رسول.
فأعرض عنهما فرعون، ونظر إلى موسى وأجابه بازدراء وتقريع معاتبا إياه بأمرين:
الأول:
قالَ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً، وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ؟ أي في الكلام حذف، وهو أنهما أتياه وقالا ما أمر الله به، فعند ذلك قال فرعون:
ما هذا هو المؤمل منك، أأنت الذي ربيناك صغيرا في بيوتنا وعلى فراشنا، ولم نقتلك من جملة من قتلنا، وأنعمنا عليك مدة من السنين- قيل: لبث عندهم ثلاثين سنة- ثم تقابل الإحسان بكفر النعمة، وتبادرنا بما تقول؟ ومتى كان هذا الذي تدعيه؟
131
الثاني:
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ أي وقتلت أيضا رجلا منا، وهو ذلك القبطي الذي وكزته فقضيت عليه، وهو من أتباعي، فإنه كان خباز فرعون، وكنت من جاحدي النعمة، وهذا لا يليق في أخلاق الرجال من الوفاء وردّ الجميل.
فأجاب موسى عن قضية القتل، وترك أمر التربية المعلومة الظاهرة والتي لم ينكرها موسى، لأن الرسول مطالب بتبليغ الرسالة سواء كان المرسل عليه أنعم عليه أم لا، والإعراض عن مثل هذا الكلام أولى، إذ لا مكابرة فيه.
قالَ: فَعَلْتُها إِذاً، وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ أي قال موسى لفرعون: فعلت تلك الفعلة السيئة وهي قتل القبطي في تلك الحال، وأنا من المخطئين لا المتعمدين قبل أن يوحى إلى وينعم الله علي بالرسالة والنبوة كمن يقتل خطأ من غير تعمد للقتل، أو: وأنا من الجاهلين بأن ضربتي تؤدي إلى القتل، فإني تعمدت الوكز دفاعا وتأديبا، فأدى ذلك إلى القتل، وهو ما يسمى في القوانين الحديثة بالضرب المفضي إلى الموت. أي إن القتل الذي تعاتبني عليه لم يكن مقصودا مني.
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ، فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً، وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ أي فولّيت هاربا إلى مدين خوفا من بأسكم، حين أخبرني رجل، فقال لي:
إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ [القصص ٢٨/ ٢٠] وجاء أمر آخر وهو أن الله منحني فهما وعلما وحكمة «١»، وأرسلني إليك، فإن أطعته سلمت، وإن خالفته هلكت.
(١) قال الرازي: الأقرب أن الحكم غير النبوة، والنبوة مفهومة من قوله: وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ فالمراد بالحكم: العلم، ويدخل في العلم: العقل والرأي والعلم بالدين الذي هو التوحيد.
132
ثم أجاب موسى عن فضل التربية لفرد والإساءة إلى جماعة وهم بنو إسرائيل فقال: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي وما أحسنت إلي وربيتني إلا وقد أسأت إلى بني إسرائيل قومي، فجعلتهم عبيدا وخدما، يقومون في أعمالك وأعمال رعيتك الشاقة، فهل الإحسان إلى رجل واحد منهم له قيمة بالنظر إلى الإساءة إلى مجموعهم؟ فليس ما ذكرته شيئا بالنسبة إلى ما فعلت بهم.
فقوله: عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ معناه اتخذتهم عبيدا لك مستذلّين. وإنما جمع الضمير في مِنْكُمْ وخِفْتُكُمْ مع إفراده في تَمُنُّها وعَبَّدْتَ لأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده، ولكن منه ومن ملئه المؤتمرين بقتله، بدليل قوله تعالى المتقدم: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ وأما الامتنان فمنه وحده وكذلك التعبيد «١»
فقه الحياة أو الأحكام:
هذا هو الفصل الأول من قصة موسى وهارون مع فرعون وملئه، ويستفاد منه ما يأتي:
١- كان إرسال موسى وأخيه هارون إلى فرعون الطاغية الجبار الذي ادعى الألوهية، ومعه قومه الظالمون بالشرك واستعباد الضعفاء إعذارا وإنذارا، حتى لا يبقى لهم ولأمثالهم حجة يتذرعون بها للجهل بحقيقة الإيمان والدين.
٢- في قوله: أَلا يَتَّقُونَ حثّ شديد على التقوى لمن تدبر وتأمل ووعى المستقبل المنتظر.
٣- قدّر موسى خطورة المهمة وأداء الرسالة التي كلف بها إلى فرعون فسأل ربّه أمرين: أن يدفع عنه شرهم، وأن يرسل معه هارون نبيا، فأجابه الله تعالى
(١) الكشاف: ٢/ ٤٢٢.
133
إلى الأمرين، فهدّأ خوفه وروعه، وأمره بالثقة بالله تعالى، وأيّده بنصره وعونه، وجعل أخاه رسولا مثله، ليؤازره ويعاونه، كما قال تعالى: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، هارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه ٢٠/ ٢٩- ٣٢]، وقال سبحانه: فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي [القصص ٢٨/ ٣٤].
قال القرطبي: وكأن موسى أذن له في هذا السؤال، ولم يكن ذلك استعفاء من الرسالة، بل طلب من يعينه. ففي هذا دليل على أن من لا يستقل بأمر، ويخاف من نفسه تقصيرا، أن يأخذ من يستعين به عليه، ولا يلحقه في ذلك لوم «١».
٤- لا بدّ من اتخاذ الأسباب لكل مهمة خطيرة أو غير خطيرة، فذلك مأمور به شرعا، كما أن الحذر مطلوب، وتقدير المخاطر مما يوجبه الشرع والعقل.
٥- لم يتردد موسى وأخوه هارون بعد هذا التأييد الإلهي من الذهاب إلى فرعون الظالم، وأعلنا له أنهما رسولان إليه من ربّ العالمين، وهذا واجب التبليغ الذي لا بدّ فيه من الجرأة والشجاعة والصبر، حتى إنه ذكر أن فرعون لم يأذن لهما سنة في الدخول عليه، ثم أذن استهزاء، فدخلا عليه وأدّيا الرسالة.
٦- كان مطلب موسى وهارون بعد إعلان الرسالة والدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك مطلبا عدلا، وهو إخلاء سبيل بني إسرائيل حتى يسيروا مع هذين الرسولين إلى فلسطين، وإنهاء عهد الاستعباد، فإن فرعون استعبدهم أربع مائة سنة، وكانوا في ذلك الوقت ست مائة وثلاثين ألفا.
٧- إن حادثة قتل القبطي من قبل موسى عليه السلام كانت قبل النبوة في
(١) تفسير القرطبي: ١٣/ ٩٢.
134
عهد الشباب، بدليل قوله بعدئذ: فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً، وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ، وحدثت تلك الحادثة خطأ من غير تعمد القتل، وجهلا بأن الوكزة تؤدي إلى القتل. وقد أجاب موسى عليه السلام فرعون عن ذلك أولا.
٨- قوله تعالى: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ مختلف في معناه وفائدته:
- قال السدي والطبري والفراء: هذا الكلام من موسى عليه السلام على جهة الإقرار بالنعمة، كأنه يقول: نعم، وتربيتك نعمة عليّ من حيث عبّدت غيري وتركتني، ولكن لا يدفع ذلك رسالتي.
- وقال قتادة وغيره: هو من موسى عليه السلام على جهة الإنكار، أي أتمنّ عليّ بأن ربيتني وليدا، وأنت قد استعبدت بني إسرائيل وقتلتهم؟ أي ليست بنعمة، لأن الواجب كان ألا تقتلهم ولا تستعبدهم، فإنهم قومي، فكيف تذكر إحسانك إليّ على الخصوص؟! وقال الأخفش والفراء أيضا: فيه تقدير استفهام، أي أو تلك نعمة؟! - وقال الضحّاك: إن الكلام خرج مخرج التبكيت، والتبكيت يكون باستفهام وبغير استفهام، والمعنى: لو لم تقتل بني إسرائيل لربّاني أبواي، فأي نعمة لك علي! فأنت تمنّ عليّ بما لا يجب أن تمنّ به.
والظاهر لي هو المعنى الثاني، وهو ما جريت عليه في أثناء التفسير.
135
- ٢- الجدل بين موسى وفرعون في إثبات وجود الله
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢٣ الى ٣١]
قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧)
قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١)
البلاغة:
أَلا تَسْتَمِعُونَ صيغة تعجيب.
إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ التأكيد بأنّ واللام لتشكك السامع وتردده.
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ بينهما طباق.
إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قال موسى ذلك في بدء مناظرته لفرعون وقومه بطريق التلطف والملاينة طمعا في إيمانهم، ثم لما رأى عنادهم ومغالطتهم وبخهم بقوله: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ وهذا مقابل لقول فرعون: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ.
المفردات اللغوية:
قالَ فِرْعَوْنُ لموسى. وَما رَبُّ الْعالَمِينَ أي وما حقيقته وأيّ شيء هو الذي قلت:
إنك رسوله. قالَ: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا لما لم يكن للخلق سبيل إلى معرفة حقيقته تعالى، وإنما يعرفونه بصفاته، أجابه موسى عليه السلام بأنه خالق السموات والأرض وما بينهما، وهو أظهر خواصه وآثاره. إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ بأنه تعالى خلق ذلك، فآمنوا به
136
وحده، أو إن كنتم ذوي قلوب موقنة وأبصار نافذة، والمعنى: إن كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدي إليه النظر الصحيح، نفعكم هذا الجواب، وإلا لم ينفع.
قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ قال فرعون لأشراف قومه أَلا تَسْتَمِعُونَ جوابه الذي لم يطابق السؤال، سألته عن حقيقة رب العالمين، فذكر أفعاله، أو يزعم أنه رب السموات وهي متحركة بذواتها وغير محتاجة إلى مؤثر، وهذا مذهب الدهرية، وفيه تعجب من نسبة الربوبية إلى غيره.
قالَ: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قال موسى: إنه رب جميع الخلائق وإنه رب المشرق والمغرب، وهذا وإن كان داخلا فيما قبله الذي استوعب به الخلائق كلها، فإنه تخصيص بعد تعميم، لأنه أقرب إلى الناظر وأوضح عند التأمل. إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ أسأله عن شيء ويجيبني عن آخر، وسماه رسولا على سبيل السخرية.
قالَ: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما قال موسى: إنه الرب الذي تشاهدون آثاره كل يوم، فيأتي بالشمس من المشرق، ويحركها على مدار غير مدار اليوم الذي قبله، حتى يبلغها إلى المغرب على وجه نافع ينتظم به أمور الكائنات. إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ إن كان لكم عقل علمتم ألا جواب لكم فوق ذاك. إنه بقوله السابق: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ لاينهم أولا، ثم لما رأى شدتهم وخشانتهم عارضهم بمثل مقالتهم.
قالَ: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قال فرعون، عدولا إلى التهديد عن المحاجة والمناظرة، وهكذا شأن المعاند المحجوج. وهذا دليل على ادعائه الألوهية وإنكاره للصانع. واللام في المسجونين للعهد، أي ممن عرفت حالهم في سجوني، فإن سجنه كان شديدا، يحبس الشخص في مكان تحت الأرض وحده، لا يبصر ولا يسمع فيه أحدا، حتى يموت، فكان ذلك أشد من القتل.
قالَ: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ أي قال له موسى: أتفعل ذلك ولو جئتك ببرهان على رسالتي يعني المعجزة. والواو في قوله: أَوَواو الحال، دخلت عليها همزة الاستفهام. قالَ: فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي قال فرعون له: فائت به إن كنت صادقا في أن لك بينة، أو في دعواك النبوة، فإن مدعي النبوة لا بد له من حجة.
المناسبة:
لما سمع فرعون جواب موسى عما طعن به فيه وهو القتل والتربية، ورأى أن موسى وهارون مصران على دعوتهما إلى توحيد الله، وطلبهما إخراج بني إسرائيل من مصر، شرع في الاعتراض على الدعوى، فبدأ بالاستفسار عن حقيقة المرسل
137
للأنبياء، علما بأن فرعون لم يقل لموسى: وما ربّ العالمين إلا وقد دعاه موسى إلى طاعة رب العالمين، بدليل ما تقدم من قوله: أْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا: إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ.
التفسير والبيان:
هذه مناظرة بين موسى وفرعون حول الإله، فلما قال موسى وهارون لفرعون: إنا أرسلنا إليك من رب العالمين لهدايتك إلى الحق وتوحيد الله، وتفوّقا عليه بالحجة، لجأ إلى المعارضة، وأصرّ على جحوده وتمرده وطغيانه، فقال:
قالَ فِرْعَوْنُ: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ أي قال فرعون لموسى: وما حقيقة رب العالمين الذي أرسلك؟ ومن هذا الذي تزعم أنه رب العالمين غيري؟ وسبب السؤال أنه كان يقول لقومه: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص ٢٨/ ٣٨] فجحدوا الإله الصانع جلّ وعلا، واعتقدوا أنه لا رب لهم سوى فرعون.
فأجابه موسى عليه السلام:
قالَ: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي قال موسى: هو خالق ومالك السموات والأرض وما فيهما من كواكب ونجوم، وبحار وجبال وأنهار وأشجار، وإنسان وحيوان ونبات، وما بينهما من الهواء والطير وما يحتوي عليه الجو، إن كانت لكم قلوب موقنة، وأبصار نافذة، الجميع عبيد له، خاضعون ذليلون، خلق الأشياء كلها، وهو المتصرف فيها. أو إن كنتم موقنين بإسناد هذه المحسوسات إلى موجود واجب الوجود لذاته، فاعرفوا أنه هو الله، وأنه لا يمكن تعريفه إلا بآثاره. ونظير الآية قوله: قالَ: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى قالَ: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: ٢٠/ ٤٩- ٥٠].
138
فلم يعجبه الجواب والتفت إلى خاصته ورؤساء دولته قائلا لهم على سبيل التهكم والاستهزاء والتكذيب لموسى فيما قاله:
قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ: أَلا تَسْتَمِعُونَ أي قال فرعون لحاشيته: ألا تعجبون من قوله وزعمه أن لكم إلها غيري، وأ لا تستمعون لتخريفه وتهربه من الجواب؟
أسأله عن حقيقة رب العالمين، فيذكر أفعاله وآثاره.
فذكر موسى جوابا آخر أخص مما ذكر وأدل على المراد، لأنه واقع حسي مشاهد لهم:
قالَ: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ أي إنه تعالى خالقكم وخالق آبائكم المتقدمين الذين كانوا قبل فرعون وزمانه، والمقصود أن التغير من وجود إلى عدم وبالعكس دليل الحدوث، فأنتم محدثون، كنتم بعد العدم، وآباؤكم ماتوا بعد أن كانوا موجودين، وأنتم مثلهم على الطريق، أما الإله الواجب لذاته فهو الباقي الذي لا يطرأ عليه الفناء، ولا أول لوجوده ولا آخر، فهو إذن الإله.
فلما حار فرعون ولم يجد جوابا مقنعا، لجأ إلى عقلية الصبية والاتهام الرخيص:
قالَ: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ أي قال فرعون لقومه: إن رسولكم ليس له عقل، لا يفهم السؤال، فضلا عن أن يجيب عنه، وهو يخلط في كلامه، ويدعي أن هناك إلها غيري.
فعدل موسى إلى طريق ثالث أوضح من الجواب الثاني فقال:
قالَ: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ أي قال موسى:
إنه الله تعالى رب طلوع الشمس وظهور النهار، ورب غروب الشمس وزوال النهار، وهو الذي جعل المشرق مشرقا تطلع منه الكواكب، والمغرب مغربا
139
تغرب فيه الكواكب، ثوابتها وسياراتها، مع انتظام مداراتها، فهذا الذي يغير ويبدل، وينظم ويدبر تدبيرا مستمرا كل يوم هو الله، بل هو الذي يدبر الكون كله، لا أنتم، إن كان لكم عقل تدركون به ظواهر الكون، وهذا مناسب لقولهم واتهامهم بأنه مجنون. فإن كان هذا الذي يزعم أنه ربكم وإلهكم صادقا، فليعكس الأمر، وليجعل المشرق مغربا، والمغرب مشرقا.
وهذا الطريق في الاستدلال على وجود الله هو الذي سلكه إبراهيم الخليل عليه السلام مع نمروذ، فإنه استدل أولا بالإحياء والإماتة، وهو بعينه الذي أجاب به موسى هنا بقوله: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ فأجابه نمروذ بقوله:
أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة ٢/ ٢٥٨] فقال إبراهيم: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ، فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ، فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ [البقرة ٢/ ٢٥٨] وهو الذي ذكره موسى هنا بقوله: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ.
ولما غلب موسى فرعون بحجته، اتجه كأهل السلطة في كل زمان ومكان إلى التهديد والوعيد باستخدام القوة والقهر والسلطان، فقال:
قالَ: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ أي قال فرعون:
لئن ألّهت غيري، لجعلتك في عداد المسجونين الذين يزجّ بهم كما تعلم في قيعان السجون تحت الأرض، ويتركون حتى يموتوا، وكان سجنه أشد من القتل.
فقابل موسى التهديد والتخويف بالمعجزات الخارقة للعادة بعد أن لم تفلح الأدلة العقلية، فقال:
قالَ: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ أي قال موسى: أتفعل هذا وهو السجن، ولو أتيتك بحجة بيّنة، وبرهان قاطع واضح على صدق دعواي النبوة؟
وهي المعجزة الدالة على وجود الله تعالى.
140
قالَ: فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قال فرعون: فأت بهذا الشيء الذي يشهد لك، والدليل الواضح على دعوى الرسالة، فكل من يدعي النبوة عليه تأييد دعواه، ظنا منه أنه سيعارضه.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه مناظرة حاسمة في شأن إثبات وجود الله بين موسى عليه السلام وفرعون الطاغية الجبار.
يتبين منها النزعة المادية عند الماديين والملحدين، الذين يريدون رؤية الله تعالى بالعين المجردة أو لمسه بالحس المجاور، كشأن بقية المواد، لذا استفهم فرعون عن حقيقة رب العالمين، فأتى موسى عليه السلام بالصفات الدالة على الله من مخلوقاته، التي لا يشاركه فيها مخلوق لأن حقيقة الله لا يدركها أحد، ولأن المادة المجسدة محدثة، والله تعالى هو خالقها وموجدها.
وكان جواب موسى الأول أن الله هو خالق السموات والأرض وما بينهما، فهو المالك والمتصرف وخالق الأشياء كلها، العالم العلوي وما فيه من الكواكب الثوابت والسيارات النيّرات، والعالم السفلي وما فيه من بحار وقفار وجبال وأشجار وحيوانات ونبات وثمار، وما بين ذلك من الهواء والطير وغيرهما.
وخلق الأشياء هو الدليل القاطع على وجود الله: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل ١٦/ ١٧].
فلما أدرك فرعون عجزه عن الإيجاد والخلق، قال: أَلا تَسْتَمِعُونَ؟
مستخدما أسلوب الإغراء والتعجب من غرابة المقالة التي تصادم المقرر في عقيدة القوم أن فرعون ربهم ومعبودهم، كالفراعنة المتقدمين.
ثم أتى موسى عليه السلام ثانيا بدليل يفهمونه عنه من الحس والمشاهدة التي
141
يطلبونها، فقال: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ أي أن الله خالقهم وخالق آبائهم الأوائل، فانحدارهم من آباء فنوا، ووجودهم بعد أن لم يكونوا، دليل على أنه لا بدّ لهم من مغيّر، فهم محدثون، ولا بد لهم من مكوّن وهم مخلوقون.
لم يجد فرعون جوابا، فلجأ إلى التهكم والاستخفاف واتهم موسى بالجنون لأنه لا يجيب عما سأله تماما.
فأجابه موسى ثالثا بقوله: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ أي إن الله هو مسيّر نظام الكون كله، ومحرك هذا العالم بأجمعه في نظام بديع لا يعرف الخلل والاضطراب، ومالك جميع أنحاء الأرض، أما فرعون فيملك بلدا واحدا، لا سلطان له على غيره، فهل من عقل يدرك هذا، وهل من إدراك يؤدي بهم إلى ضرورة الإيمان بصاحب الملك المطلق، وأن المالك الجزئي عبث وسفه وجنون أن يكون إلها، فمن إله بقية العالم؟
ولما هزم فرعون أمام حجة موسى، لم يجد بدا من استخدام السلطة الإرهابية، فتوعد موسى بالسجن، وذلك عين الضعف، مع أنه كما يروى كان سجنه أشد من القتل، وكان إذا سجن أحدا، لم يخرجه من سجنه حتى يموت، فكان مخوفا.
ولكن التأييد الإلهي أشد نفاذا وإرهابا وإقناعا، ولا يجدي معه توعد فرعون، ويهون أمامه كل مخاوف الدنيا، فحينئذ طلب موسى عليه السلام إثبات صدق دعواه النبوة بالمعجزة الخارقة للعادة التي لا تحدث إلا على يد نبي أو رسول بإحداث الله تعالى وإيجاده، فقبل فرعون إظهار تلك المعجزة، ظنا منه أنه سيبطلها، ويأتي بما يعارضها.
142
- ٣- معجزة موسى عليه السلام ووصف فرعون لها بالسحر
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٣٢ الى ٣٧]
فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦)
يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧)
الإعراب:
أَرْجِهْ فعل أمر، أي أخر أمره وأمر أخيه، يقال: أرجأته وأرجيته، أي أخرته.
وسكّنت الهاء لأنه أجرى الوصل مجرى الوقف. وقرئ بكسر الهاء من غير إشباع، اكتفاء بالكسرة عن الياء، وقرئ بكسر الهاء والإشباع، وقرئ بالضم دون الإشباع على الأصل، وبالضم دون الإشباع، اكتفاء بالضمة عن الواو.
المفردات اللغوية:
ثُعْبانٌ ذكر الحيات. مُبِينٌ ظاهر ثعبانيته بلا تمويه ولا تخييل، كما يفعل السحرة. وَنَزَعَ يَدَهُ أخرجها من جيبه. بَيْضاءُ ذات شعاع يكاد يغشى الأبصار ويسدّ الأفق. لِلنَّاظِرِينَ خلاف ما كانت عليه من ظاهرة الجلد واللحم والعظم. لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ للأشراف والرؤساء المستقرين حوله، فهو ظرف وقع موقع الحال. إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ فائق في علم السحر. فَماذا تَأْمُرُونَ بهره سلطان المعجزة حتى أنساه دعوى الربوبية إلى الاستعانة بائتمار القوم وتنفيرهم عن موسى، وفيه استشعار بتغلبه واستيلائه على ملكه.
أَرْجِهْ وَأَخاهُ أخر أمرهما، وقيل: احبسهما. وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ أرسل في أنحاء البلاد شرطا يحشرون (يجمعون) السحرة. سَحَّارٍ عَلِيمٍ خبير بفن السحر يتفوق على موسى ويفضله.
143
التفسير والبيان:
بعد أن وافق فرعون على إظهار موسى عليه السلام معجزته، أظهرها، فقال تعالى: فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ أي رمى موسى عصاه من يده، فانقلبت ثعبانا واضحا ظاهرا، لا لبس فيه، ولا تمويه ولا تخييل. روي أنه لما انقلبت حية، ارتفعت في السماء قدر ميل، ثم انحطت مقبلة إلى فرعون، وجعلت تقول: يا موسى، مرني بما شئت، ويقول فرعون: يا موسى، أسألك بالذي أرسلك إلا أخذتها، فعادت عصا «١».
والسبب في قوله هنا: ثُعْبانٌ مُبِينٌ وفي آية أخرى: فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى [طه ٢٠/ ٢٠] وفي آية ثالثة: كَأَنَّها جَانٌّ [القصص ٢٨/ ٣١] : أن الحية اسم الجنس، ثم إنها لكبرها صارت ثعبانا، وشبهها بالجان لخفتها وسرعتها.
ولما أتى موسى عليه السلام بهذه الآية قال له فرعون: هل غيرها؟ قال:
نعم، وهذا في الآية التالية:
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ أي أدخل موسى يده في جيبه، ثم أخرجها، فإذا هي بيضاء تلمع وتتلألأ للناظرين، لها شعاع كالشمس، يكاد يغشى الأبصار، ويسدّ الأفق.
ومع هذا كله، أراد فرعون تعمية الأمر، فبادر بشقاوته إلى التكذيب والعناد، فذكر أمورا ثلاثة:
١- قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ: إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ أي قال لحاشيته من القادة وأشراف قومه الذين حوله: إن هذا الرجل لبارع في السحر، يريد بذلك وصف فعله بأنه سحر لا معجز. ثم هيجهم وحرضهم على مخالفته والكفر به فقال:
(١) تفسير الرازي ٢٤/ ١٣١، الكشاف ٢/ ٤٢٤.
144
٢، ٣- يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ، فَماذا تَأْمُرُونَ؟ أي يريد إخراجكم من وطنكم، ويتغلب عليكم بسحره، وبما يلقيه بينكم من العداوات، فيفرق جمعكم، ويكثر أعوانه وأنصاره، ويغلبكم على دولتكم، ويأخذ معه بني إسرائيل، فأشيروا علي فيه ماذا أصنع به؟ إني متبع لرأيكم ومنقاد لقولكم، وهذا أسلوب يستنفر حماسهم وجهودهم وتوحيد كلمتهم لمطاردته والتغلب عليه، فاتفقوا على جواب واحد وهو:
قالُوا: أَرْجِهْ وَأَخاهُ، وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ، يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ أي قال مستشاروه بعد أن تشاوروا فيما يفعلون: أخر أمره ومناظرته وأخاه ولا تتعجل في عقابهما لوقت اجتماع السحرة، بأن تجمعهم من أنحاء البلاد، فتبعث في أرجاء مملكتك جامعين يحشرون السحرة، ويأتونك بكل خبير في السحر ماهر فيه، فيقابلون موسى بنظير ما جاء به، فتغلبه أنت ويكون لك النصر والتأييد عليه.
وكان هذا من تسخير الله تعالى لموسى وأخيه، ليجتمع الناس في صعيد واحد، وتظهر آيات الله وحججه وبراهينه على الناس جهارا نهارا.
وقيل: معنى أَرْجِهْ احبسه، روي أن فرعون أراد قتله، ولم يكن يصل إليه، فقالوا له: لا تفعل، فإنك إن قتلته أدخلت على الناس في أمره شبهة، ولكن أرجئه وأخاه إلى أن تحشر السحرة ليقاوموه، فلا يثبت له عليك حجة، ثم أشاروا عليه بإنفاذ حاشرين يجمعون السحرة، ظنا منهم بأنهم إذا كثروا غلبوه، وكشفوا حاله.
ويلاحظ أنهم عارضوا قوله: إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ بقولهم: بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فجاءوا بكلمة الإحاطة وبصيغة المبالغة، ليطيبوا قلبه، وليسكنوا بعض قلقه.
145
فقه الحياة أو الأحكام:
كانت معجزة موسى عليه السلام العصا واليد، فألقى عصاه من يده، فانقلبت ثعبانا وهو أعظم ما يكون من الحيّات، وأدخل يده في جيبه ثم أخرجها، فإذا هي تلألأ، كأنها قطعة من الشمس، لكن كان بياضها نورانيا كالقمر.
فوصف فرعون تلك المعجزة لقومه بأنها من قبيل السحر، لا من قبيل المعجزة، وحرضهم على اتخاذ خطة للغلبة على موسى وأخيه، حتى لا يأخذ البلاد من أيديهم.
وهنا جاء دور المزايدة كما يفعل أتباع الرؤساء اليوم، فأشاروا على فرعون بجمع مهرة السحرة من أرجاء البلاد، ليقابلوه بنظير ما جاء به موسى، وتتحقق لفرعون الغلبة والنصرة عليه.
ولكن كان في هذا الجمع مفاجأة إلهية أدت إلى إيمان السحرة جميعا بإله موسى وهارون.
- ٤- إيمان السحرة بالله في المبارزة الحاسمة في مشهد عظيم
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٣٨ الى ٥١]
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢)
قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧)
رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١)
146
الإعراب:
قالُوا: آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ بدل اشتمال من فَأُلْقِيَ أو حال بإضمار: قد.
رَبِّ مُوسى وَهارُونَ بدل للتوضيح.
المفردات اللغوية:
لِمِيقاتِ ما وقت به من ساعات يوم معين، وهو وقت الضحى من يوم الزينة الذي حدده موسى عليه السلام. والميقات يطلق على الميقات الزماني كأشهر الحج، والميقات المكاني وهو مواقيت الإحرام. وَقِيلَ لِلنَّاسِ: هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ الاستفهام للحث على مبادرتهم إلى الاجتماع.
لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ لعلنا نتبعهم في دينهم إن غلبوا، والترجي على تقدير غلبتهم، ليستمروا على دينهم، فلا يتبعوا موسى، فالمقصود الأصلي ألا يتبعوا موسى، لا أن يتبعوا السحرة، فساقوا الكلام مساق الكناية لأنهم إذا اتبعوهم لم يتبعوا موسى عليه السلام.
قالَ: نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ أي التزم لهم الأجر والقربة عنده زيادة عليه إن غلبوا. أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ لم يرد به الأمر بالسحر والتمويه، بل الإذن في تقديم ما هم فاعلوه لا محالة، توسلا به إلى إظهار الحق. بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ أقسموا بعزة فرعون، أي قوته على أن الغلبة لهم، لفرط اعتقادهم في أنفسهم وإتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من السحر.
تَلْقَفُ تبتلع. ما يَأْفِكُونَ ما يقلبونه عن وجهه، بتمويههم وتزويرهم، فيخيلون حبالهم وعصيهم أنها حيات تسعى. فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ لعلمهم بأن مثله لا يتأتى بالسحر، وفيه دليل على أن منتهى السحر تمويه وتزويق، يخيل شيئا لا حقيقة له. وإنما بدّل الخرور بالإلقاء ليشاكل ما قبله، ويدل على أنهم لما رأوا ما رأوا لم يتمالكوا أنفسهم، فكأنهم أخذوا وطرحوا على
147
وجوههم، وأنه تعالى ألقاهم بما تعهدهم به من التوفيق. رَبِّ مُوسى وَهارُونَ فيه إشعار بأن موجب إيمانهم ما أجراه الله على يدي موسى وهارون لعلمهم بأن ما شاهدوه من العصا لا يتأتى بالسحر.
قالَ: آمَنْتُمْ لَهُ قال فرعون أآمنتم لموسى. آذَنَ لَكُمْ أنا. إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ إن المسؤول هو كبيركم موسى الذي علمكم شيئا دون شيء، ولذلك غلبكم، وتواطأتم على ما حدث. أراد بذلك التلبيس على قومه لئلا يعتقدوا أنهم آمنوا عن بصيرة وظهور حق. فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وبال ما فعلتم، وما ينالكم مني.
لا ضَيْرَ لا ضرر علينا في ذلك وفيما يلحقنا من عذاب الدنيا. إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ أي إنا راجعون في الآخرة بعد موتنا إلى الله ربنا بأي وجه كان، فالصبر على الإيمان محاء للذنوب موجب للثواب والقرب من الله تعالى. إِنَّا نَطْمَعُ نرجو. أَنْ كُنَّا بأن كنا أو لأن. أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ في زماننا.
التفسير والبيان:
أراد فرعون وقومه القبط أن يطفئوا نور الله بأفواههم، فأبى الله إلا أن يتم نوره، ولو كره الكافرون، وهذا شأن الإيمان والكفر، والحق والباطل، ما تواجها وتقابلا إلا غلب الإيمان الكفر: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ، فَيَدْمَغُهُ، فَإِذا هُوَ زاهِقٌ، وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء ٢١/ ١٨]، وَقُلْ: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ، إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [الإسراء ١٧/ ٨١].
وهذا مشهد من مشاهد الصراع بين الحق والباطل، قال تعالى:
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ جمع السحرة وجاؤوا من أقاليم مصر، في اليوم المخصص للقاء موسى، وهو وقت الضحى من يوم الزينة (العيد) كما حدد موسى: قالَ: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ، وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [طه ٢٠/ ٥٩] والميقات: ما وقت به الزمان أو المكان، ومنه مواقيت الإحرام.
وكان السحرة أسحر الناس وأصنعهم وأشدهم تخييلا في ذلك، وكانوا هم الفئة المثقفة، وكانوا جمعا كثيرا، قيل: كانوا اثني عشر ألفا، وقيل أكثر، والله أعلم
148
بعددهم. قال ابن إسحاق: وكان أمرهم راجعا إلى أربعة منهم وهم رؤساؤهم وهم:
سابور وعاذور وحطحط ومصفى.
وأراد موسى عليه السلام أن تقع تلك المبارزة يوم عيد لهم، ليكون ذلك أمام حشد عظيم، ولتظهر حجته عليهم أمام الجموع الغفيرة، وهذا كله من لطف الله تعالى في إظهار أمر موسى عليه السلام.
وَقِيلَ لِلنَّاسِ: هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ؟ أي طلب من الناس الاجتماع، وحثهم قوم فرعون على الحضور لمشاهدة ما يحدث من الجانبين، ثقة من فرعون بالغلبة، وهم أرادوا ذلك حتى لا يؤمن أحد بموسى، وموسى عليه السلام رغب أيضا في هذا التجمع لتعلو كلمة الله، وتتغلب حجة الله على حجة الكافرين.
لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ أي وقال قائلهم: إنا نرجو أن يتغلب السحرة، فنستمر على دينهم، ولا نتبع دين موسى. ولم يقولوا: نتبع الحق، سواء كان من السحرة أو من موسى لأن الرعية على دين ملكهم.
فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ: أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ. قالَ: نَعَمْ، وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ أي لما قدم السحرة إلى مجلس فرعون، وقد جمع حوله وزراءه ورؤساء دولته وجنود مملكته، قالوا: هل لنا أجر من مال أو غيره إن تغلبنا على موسى، قال: نعم لكم الأجر، وزيادة على ذلك أجعلكم من المقربين عندي ومن جلسائي، فهم ابتدؤوا بطلب الجزاء: وهو إما المال وإما الجاه، فبذل لهم كلا الأمرين.
وبعدئذ تحاوروا مع موسى على البادئ بالإلقاء، فجعلهم أولا كما قال تعالى:
قالَ لَهُمْ مُوسى: أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ، فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ، وَقالُوا: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ أي أذن لهم موسى بالبدء بالإلقاء، وقال: ألقوا ما تريدون إلقاءه من العصي والحبال، ثقة منه بأن الله غالبة ومؤيده، وليكون
149
ما يلقونه طعمة لعصاه، بعد أن عرضوا عليه أن يبدأ أولا بالإلقاء، فألقوا ما معهم من الحبال المطلية بالزئبق، والعصي المحشوة به، وقالوا: بعزة فرعون أي بقوته وجبروته إنا لنحن المتغلبون عليه.
فلما حميت الشمس، تحركت العصي والحبال، وامتلأت الساحة بالحيات والثعابين، وخيل إلى موسى أنها تسعى، وسحروا أعين الناس، واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم، كما قال تعالى: فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى، فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى، قُلْنا: لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى [طه ٢٠/ ٦٦- ٦٨] وقال سبحانه: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ، وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ. [الأعراف ٧/ ١١٦]. وحينئذ ابتهج فرعون وقومه، واعتقدوا أن السحرة غلبوا، وأن عصا موسى لن تفعل شيئا أمام آلاف الحيات.
فأمره الله أن يلقي عصاه:
فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ، فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ أي فلما ألقى موسى عصاه، فإذا هي تبتلع من كل بقعة ما قلبوا صورته وزيفوا حاله بتمويههم وتخييلهم أنها حيات تسعى، فلم تدع منه شيئا، كما قال تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ، فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ. فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف ٧/ ١١٧- ١١٨].
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ أي فخرّ السحرة ساجدين بلا شعور لأنهم أدركوا أن ما فعله موسى فوق قدرة البشر، وأنه من فعل إليه الكون رب موسى وهارون، فلم يتمالكوا أنفسهم إلا ووجدوها ساجدة لهذا الإله، أما هم فقد بذلوا أقصى ما لديهم من علم وطاقة، وما هو منتهى فعل السحرة من تخييل وتمويه.
150
وفاعل الإلقاء في فَأُلْقِيَ أو نائب الفاعل هو الله عز وجل بما رزقهم من التوفيق، أو هو إيمانهم، أو ما عاينوا من المعجزة الباهرة. ويجوز عدم تقدير فاعل لأن ألقوا بمعنى خروا وسقطوا.
والتعبير بالإلقاء إشارة إلى الدهشة التي اعترتهم، حتى لكأنهم أخذوا فطرحوا وسقطوا ساجدين لله. ثم أعلنوا ما وقر في صدورهم:
قالُوا: آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ، رَبِّ مُوسى وَهارُونَ أي قال السحرة:
صدقنا واعترفنا برب العالمين الذي دعا إليه موسى وهارون، مفضلين الإيمان على الكفر، والحق على الباطل، غير عائبين بعزة فرعون وجبروته وباطله، ولا طامعين بأجره وقربته ومنافعه.
وهذا دليل على إسقاط ربوبية فرعون، وأن سبب الإيمان هو ما رأوه من معجزة الرسولين: موسى وهارون عليهما السلام.
ولما رأى فرعون ما حدث أسقط في يده، وتحير في أمره، فلجأ إلى التهديد والوعيد شأن العتاة الظالمين، حتى لا تسقط هيبته أمام شعبه، وتتداعى أركان حكمه وسلطانه، ويفعل الناس مثل فعل السحرة الكثيرين، فإنه توقع الغلبة، ففوجئ بالهزيمة المنكرة، ولكن لم تفلح تهديداته في السحرة شيئا، وأصروا على الإيمان بالله تعالى، لانكشاف الحقيقة لهم، وقال لإنقاذ موقفه:
أولا- قالَ: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ قال فرعون للسحرة: أتؤمنون بموسى قبل استئذاني، وكيف تخرجون عن طاعتي، وأنا الحاكم المطاع؟! وفي هذا إيهام أن مسارعتكم إلى الإيمان به دالة على ميلكم إليه، وأنكم متهمون بالتواطؤ معه، فربما قصروا في إتقان السحر.
وإنما قال لَهُ لا (به) لأنه الذي يدعو إليه موسى وهارون.
151
ثانيا- إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ وهذا تصريح بما رمز إليه أولا، فإنكم فعلتم ذلك بتواطؤ بينكم وبينه، وقصّرتم في السحر، ليظهر أمر موسى.
وهذا تلبيس على القوم وتضليل لهم لئلا يعتقدوا أن إيمان السحرة حق، ومبالغة في التنفير عن موسى عليه السلام، ومكابرة ظاهرة الضعف، فإنهم لم يجتمعوا بموسى قبل الموعد أصلا، فكيف يكون هو كبيرهم الذي علمهم السحر؟! ثالثا- فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وبال ما فعلتم، وما ينالكم مني من عقاب.
وهذا وعيد مطلق وتهديد شديد.
رابعا- لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ، وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ أي توعدهم بتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف بقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، والصلب بعد ذلك جميعا. وليس في الإهلاك أشد من ذلك.
فأجابوه بما يدل على صلابة الإيمان بوجهين:
الأول- قالُوا: لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ الضر والضير واحد، أي لا حرج ولا ضرر علينا من ذلك، ولا نبالي به، فكل إنسان ميت، ولو بعد حين، والمرجع إلى الله عز وجل، وهو لا يضيع أجر من أحسن عملا، ولا يخفى عليه ما فعلت بنا، وسيجزينا على ذلك أتم الجزاء، وهذا دليل على أنهم ما آمنوا رغبة في ثواب أو رهبة من عقاب، وإنما مقصودهم مرضاة الله تعالى، ولهذا قالوا:
الثاني- إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ وهذا إشارة منهم إلى الكفر والسحر، أي إنا نأمل أن يغفر لنا ربنا ذنوبنا وما أكرهتنا عليه من السحر، من أجل أن كنا أول المؤمنين الذين شهدوا هذا الموقف، أو بسبب أنا بادرنا قومنا من القبط إلى الإيمان. فما كان من فرعون إلا أن قتلهم جميعا. والطمع في هذا الموضع يحتمل اليقين، كقول إبراهيم:
152
وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء ٢٦/ ٨٢] ويحتمل الظن لأن المرء لا يعلم ما سيحصل في المستقبل.
ونظير الآية: قالُوا: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ، وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ، إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا. إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ، وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى [طه ٢٠/ ٧٢- ٧٣].
فقه الحياة أو الأحكام:
كان اجتماع السحرة مع موسى عليه السلام للمبارزة أمام فرعون وملئه في مشهد عظيم خلده التاريخ، تبين فيه موقف أهل الحق والإيمان بالله، وموقف الأفاكين والمبطلين.
اجتمع الناس يوم عيد للقبط هو يوم الزينة، كما حدد موسى عليه السلام:
قالَ: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ، وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [طه ٢٠/ ٥٩] وحرض بعضهم بعضا على الحضور، ورجوا أو تأملوا غلبة السحرة على موسى وأخيه هارون.
وبوادر الهزيمة كانت قائمة، فالسحرة أرادوا التفوق والغلبة لهدف دنيوي إما المال وإما الجاه، ووعدهم فرعون بالأمرين معا، وأما موسى وأخوه عليهما السلام فأرادوا نصرة الحق، وإثبات صدق النبوة والرسالة، وإعلاء كلمة الله، فأيدهما الله بنصره لأن المعجزة أمر خارق للعادة، مصدرها الإرادة الإلهية، وشتان بين قدرة الله وقدرة البشر! ومن علائم الهزيمة: ابتداء السحرة بإلقاء حبالهم وعصيهم لتكون طعمة لعصا موسى عليه السلام، بالرغم من انشداه الناس وانبهارهم بها، روي عن ابن عباس: أنهم لما ألقوا حبالهم وعصيهم، وقد كانت الحبال مطلية بالزئبق،
153
والعصي مجوفة مملوءة بالزئبق، فلما حميت اشتدت حركتها، فصارت كأنها حيات تدب من كل جانب من الأرض، فهاب موسى عليه السلام ذلك، فقيل له: ألق ما في يمينك فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ثم فتحت فاها، فابتلعت كل ما رموه من حبالهم وعصيهم، حتى أكلت الكل، ثم أخذ موسى عصاه، فإذا هي كما كانت، فلما رأى السحرة ذلك قالوا لفرعون: كنا نساحر الناس، فإذا غلبناهم بقيت الحبال والعصي، وكذلك إن غلبونا، ولكن هذا حق، فسجدوا وآمنوا برب العالمين.
أما عدد السحرة والحبال والعصي فليس فيها رواية ثابتة، والذي يدل عليه القرآن أنها كانت كثيرة، من حيث حشروا من كل بلد، ولأن فرعون اطمأن إلى الغلبة بهذا الجمع الغفير.
ومن أمارات الهزيمة: أن السحرة قالوا حين الإلقاء: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ، إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ أي قطعوا بالغلبة، أما موسى فألقى باسم الله وعزته.
والمفاجأة العظمى الأخرى غير نصر المعجزة لموسى عليه السلام هي إيمان السحرة بالله عز وجل، فخروا ساجدين لله تعالى لأنهم كانوا عالمين بمنتهى السحر، فلما رأوا أن عصا موسى تبتلع كل ما صنعوا من تخييل وتمويه، وشاهدوا أن ذلك خارج عن حدّ السحر، علموا أنه ليس بسحر.
وقد أعلنوا إيمانهم الجازم بالله عز وجل غير عائبين بتهديدات فرعون الجبار العاتي، وفضلوا الموت استشهادا في سبيل هذا الإيمان، مع تقطيع الأيدي والأرجل والصلب، على العودة إلى مستنقع الكفر وضلال السحر، وخلد القرآن الكريم موقفهم الصلب الثابت رضي الله عنهم، بأمرين:
الأول- التفاني في حب الله وابتغاء مرضاته، وأنهم ما آمنوا رغبة في ثواب أو
154
رهبة من عقاب: قالُوا: لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ وهذا أعلى درجات الصديقين.
الثاني- التخلص من تبعات الماضي الذميم القائم على الكفر والسحر: إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا فكانوا بذلك السباقين إلى الإيمان في بيئة تغصّ بالكفر أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ.
- ٥- نجاة موسى وقومه وإغراق فرعون وجنده
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٥٢ الى ٦٨]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦)
فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١)
قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨)
الإعراب:
أَنْ أَسْرِ في موضع نصب ب أَوْحَيْنا وتقديره: بأن أسر، فحذفت الباء، فاتصل الفعل به.
155
لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ إنما جمع قَلِيلُونَ وإن كان لفظ لَشِرْذِمَةٌ مفردا، حملا على المعنى لأن الشرذمة جماعة من الناس، موافقة لرؤوس الآي، ولو أفرد لكان جائزا حملا على اللفظ.
كَذلِكَ فيه ثلاثة أوجه: النصب بفعل مقدر أي أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفنا. والجر على أنه وصف لمقام، أي مقام مثل ذلك المقام الذي كان لهم، والرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك. مُشْرِقِينَ حال لقوم فرعون.
فَانْفَلَقَ معطوف على جملة فعلية محذوفة، تقديرها: ضرب البحر فانفلق، ويجوز حذف الجملة الفعلية، كما يجوز حذف الجملة الاسمية، كقولهم: زيد أبوه منطلق وعمرو، أي وعمرو أبوه منطلق، مثل: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ أي واللائي لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر.
البلاغة:
فَانْفَلَقَ إيجاز بالحذف، أي فضرب البحر فانفلق.
كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ تشبيه مرسل مجمل، ذكرت أداة الشبه وحذف وجه الشبه، أي كالجبل في رسوخه وثباته.
المفردات اللغوية:
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أي بعد سنين أقامها في مصر يدعو شعبها بآيات الله إلى الحق، فلم يزيدوا إلا عتوا وفسادا وإعراضا. أَنْ أَسْرِ أي سر بهم ليلا، وأسر: من سرى بمعنى أسرى:
سار ليلا، وقد أمر موسى بالتوجه إلى البحر. إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ يتبعكم فرعون وجنوده، وهو علة الأمر بالإسراء، فإذا اتبعوكم مصبحين قبل وصولكم إلى البحر أنجيكم وأغرقهم، إذ إنهم يسيرون وراءكم، ويدخلون في مساركم في البحر. فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ حين أخبر بسيرهم. فِي الْمَدائِنِ قيل: كان له ألف مدينة، واثنا عشر ألف قرية. حاشِرِينَ جامعين العساكر ليتبعوهم.
لَشِرْذِمَةٌ طائفة. قَلِيلُونَ قللهم بالنظر إلى كثرة جيشه، قيل: كان بنو إسرائيل ست مائة وسبعين ألفا، ومقدمة جيش فرعون سبع مائة ألف، كل رجل على حصان، وعلى رأسه خوذة، أما الجيش فهو مليون وخمس مائة ألف، والتحديد بهذه الأعداد محل نظر لم يثبت، والظاهر أنه من مجازفات بني إسرائيل. وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ أي لفاعلون ما يغيظنا. وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ وإنا لجميع مستعدون في حذر وحزم في الأمور. وقرئ: حذرون أي متيقظون.
فَأَخْرَجْناهُمْ أي فرعون وقومه من مصر ليلحقوا موسى وقومه، أي هيأنا في أنفسهم دواعي الخروج وحملناهم عليه. جَنَّاتٍ بساتين كانت على جانبي النيل. وَعُيُونٍ أنهار
156
جارية في الدور من النيل. وَكُنُوزٍ أموال كنزوها أو خزنوها في الأرض. وَمَقامٍ كَرِيمٍ أي قصور عالية ومنازل فخمة. كَذلِكَ أي مثل ذلك الإخراج أخرجناهم، أو كذلك إخراجنا كما وصفنا. وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ بعد إغراق فرعون وقومه. فَأَتْبَعُوهُمْ لحقوهم.
مُشْرِقِينَ داخلين وقت شروق الشمس.
فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ تقاربا بحيث رأى كل منهما الآخر. لَمُدْرَكُونَ لملحقون، يدركنا جمع فرعون، ولا طاقة لنا به. قالَ موسى. كَلَّا أي لن يدركونا. إِنَّ مَعِي رَبِّي بالحفظ والنصرة. سَيَهْدِينِ طريق النجاة منهم.
أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ أي البحر الأحمر (القلزم) أو النيل. فَانْفَلَقَ أي فضرب، فانشق اثني عشر فرقا بينها مسالك. فِرْقٍ قطعة من البحر. كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ كالجبل الضخم الثابت، فدخلوا في شعابها، كل سبط في شعب، لم يبتل منها أحد. وَأَزْلَفْنا قرّبنا.
ثَمَّ هناك. الْآخَرِينَ فرعون وقومه، حتى دخلوا وراءهم مداخلهم، وسلكوا مسالكهم.
وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ بحفظ البحر على تلك الهيئة إلى أن عبروا. ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ فرعون وقومه، بإطباق البحر عليهم، لما تمّ دخولهم في البحر، وخروج بني إسرائيل منه. إِنَّ فِي ذلِكَ الإغراق. لَآيَةً لعظة وعبرة. وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وما تنبه عليها أكثرهم، إذ لم يؤمن بها أحد ممن بقي. مصر من القبط غير آسية امرأة فرعون، وأبيها (حزقيل) مؤمن ال فرعون، ومريم بنت ذا موسى التي دلت على عظام يوسف عليه السلام، وكذلك بنو إسرائيل بعد النجاة سألوا بقرة يعبدونها، واتخذوا العجل، وقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة ٢/ ٥٥]. الْعَزِيزُ المنتقم من أعدائه. الرَّحِيمُ بالمؤمنين، فأنجاهم من الغرق.
مقدمة لخروج بني إسرائيل من مصر:
ذكر المفسرون أنه لما طال مقام موسى عليه السلام ببلاد مصر، وأقام بها حجج الله وبراهينه على فرعون وملئه، وهم في ذلك يكابرون ويعاندون، لم يبق لهم إلا العذاب والنكال، فأمر الله تعالى موسى عليه السلام أن يخرج ببني إسرائيل ليلا من مصر، وأن يمضي بهم حيث يؤمر، ففعل موسى عليه السلام ما أمره به ربه عزّ وجلّ. خرج بهم بعد ما استعاروا من قوم فرعون حليا كثيرا، قائلين لهم: إن لنا في هذه الليلة عيدا. وكان خروجه بهم وقت طلوع القمر.
157
وكان موسى عليه السلام سأل عن قبر يوسف عليه السلام، فدلته امرأة عجوز من بني إسرائيل عليه، فاحتمل تابوته معهم لأن يوسف عليه السلام قد أوصى بذلك إذا خرج بنو إسرائيل أن يحتملوه معهم.
التفسير والبيان:
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ: أوحى الله إلى موسى أن يسير ليلا باتجاه البحر مع قومه بني إسرائيل، ففعل موسى، وقد أخبره الله أن فرعون وقومه سيتبعونهم، حتى إذا تبعوهم مصبحين، تقدموا عليهم ولم يدركوهم قبل وصولهم إلى البحر، فيدخلون فيه، ثم يلحقهم في مسالكهم فرعون وجنده، فيطبقه عليهم ويغرقهم.
وكانت إقامة بني إسرائيل في مصر ٤٣٠ سنة، وليلة الخروج هي عيد الفصح عندهم إلى الأبد. وكان عددهم كما روي عن ابن عباس ست مائة ألف ماش من الرجال.
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ أي فلما أصبح فرعون وقومه وعلم بخروج بني إسرائيل، غاظه ذلك واشتد غضبه على بني إسرائيل، فأرسل سريعا في مدائن مصر من يحشر الجند كالنقباء والحجّاب.
واستخدم فرعون أسلوب التعبئة المعنوية لتحريض قومه على الخروج معه، فوصف بني إسرائيل بثلاث صفات:
١- إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ إن بني إسرائيل لطائفة قليلة، فيسهل متابعتهم وأسرهم أو قتلهم أو إعادتهم إلى العبودية.
٢- وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ أي أنهم في كل آونة يغيظوننا ويضايقوننا، بالفتنة والشغب، وقد ذهبوا بأموالنا، وخرجوا عن عبوديتنا، وخالفوا ديننا.
158
٣- وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ أي وإن جميعنا قوم آخذون حذرنا وأهبتنا ومستعدون بالسلاح، وإني أريد إبادتهم واستئصالهم.
فجمع الجموع الغفيرة، ولا يوجد رواية ثابتة تحصي عددهم، ولا عدد بني إسرائيل، لكن من المؤكد أن عددهم كان أقل من عدد جند فرعون.
فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ أي فجعلنا في قلوبهم داعية الخروج، وخرجوا من النعيم إلى الجحيم، وتركوا البساتين الخضراء، والرياض الغناء، والأنهار الجارية والأموال المكنوزة المخزونة في الأرض والمنازل العالية والدور الفخمة والملك والجاه العظيم في الدنيا.
كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ أي كان الأمر حقا كما قلنا، وكذلك كان إخراجنا كما وصفنا، وورثنا بني إسرائيل تلك الثروات، وتحولوا من العبودية إلى الحرية والاستقلال والترف والنعيم، كما قال تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها [الأعراف ٧/ ١٣٧]، وقال سبحانه: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ، وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً، وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ [القصص ٢٨/ ٥].
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ أي وصلوا إليهم عند شروق الشمس على خليج السويس. وفي هذه الآونة ظهرت المخاوف على بني إسرائيل، فقال تعالى:
فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ، قالَ أَصْحابُ مُوسى: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ أي فلما رأى كل من الفريقين صاحبه، قال بنو إسرائيل وقد أيقنوا بالهلاك: إن فرعون وجنوده لحقوا بنا وسيقتلوننا، أو إنا لمتابعون وسنموت على أيديهم.
فطمأنهم موسى عليه السلام وهدّأ نفوسهم قائلا:
قالَ: كَلَّا، إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ قال موسى: كلا لا يدركوننا، إن
159
معي ربي بالحفظ والنصرة سيهديني إلى طريق النجاة والخلاص منهم، وسينصرني عليهم وأوحى الله إلى موسى:
فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ، فَانْفَلَقَ، فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ أي أمر الله موسى بضرب البحر بعصاه، فضربه بها، ففيها سلطان الله الذي أعطاه، فانفلق اثني عشر طريقا، وصارت كل قطعة من الماء المجوز عن الانسياب الواقف عن التحرك كالجبل الشامخ الكبير، وكانت الطرق الجافة بالهواء والشمس بعدد أسباط بني إسرائيل، لكل سبط منهم طريق، كما قال تعالى: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى [طه ٢٠/ ٧٧].
وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ أي وقرّبنا من البحر هنالك الآخرين وهم فرعون وجنوده، فتبعوهم.
وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ أي أنجينا موسى وبني إسرائيل ومن اتبعهم على دينهم، فلم يهلك منهم أحد، وأغرق فرعون وجنوده، ولم يبق منهم أحد.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً أي إن في هذه القصة وما فيها من العجائب لعبرة وعظة وآية دالة على قدرة الله تعالى وعلى صدق موسى عليه السلام، وعلى إنجاء عباد الله المؤمنين وإهلاك الكافرين.
وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي ولم يؤمن أكثر من بقي في مصر من القبط، وكذلك لم يؤمن أكثر بني إسرائيل، فإن هذه المعجزة تحمل على الإيمان، ومع ذلك كذب بنو إسرائيل، واتخذوا العجل إلها، وقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة.
وفي هذا تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلم عما أغمه وأحزنه من تكذيب قومه، مع قيام
160
الأدلة والمعجزات على الإيمان بالله والرسل.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي وإن الله تعالى لهو المنتقم من أعدائه، الرحيم بأوليائه المؤمنين. وهذا بشارة بالنصر للنبي صلّى الله عليه وسلم في المستقبل القريب.
فقه الحياة أو الأحكام:
في هذا الفصل الخامس والأخير من قصة موسى وفرعون حسم الموقف حسما يظهر قدرة الله تعالى في أحلك الساعات وأشد الأزمات، ويبين مدى ضعف الاعتماد على القوة البشرية الظالمة في مواجهة قدرة الله تعالى واختراعه، أما عصا موسى فمجرد ضربها ليس بفارق للبحر إلا بما اقترن به من إظهار القدرة الإلهية، وهذا ما يجب التبصر به بالنسبة للكافرين غير المؤمنين الهازئين بتأثير العصا في فلق البحر اثني عشر طريقا يبسا.
ومن حكمته تعالى أن يستدرج الظالمين إلى الهاوية والهلاك، فيغرقهم جميعا ليكون عبرة للمعتبر، وأن يقود جيش الإيمان بقيادة نبيهم إلى ساحل النجاة، ليظهر فضله، وتمام نعمته عليهم، وكان بإمكان الله تعالى أن يهلك فرعون وجنوده في قلب مملكته وفي أرض دولته.
وإظهارا لتلك الحكمة وسنته تعالى في عباده لإنجاء المؤمنين المصدقين من أوليائه، المعترفين برسالة رسله وأنبيائه، وإهلاك الكافرين المكذبين لهم من أعدائه، أمر موسى عليه السلام أن يخرج ببني إسرائيل ليلا وسماهم عباده لأنهم آمنوا بموسى، وأوحى إليه أن فرعون وجنوده سيتبعونهم ليردوهم إلى بلاد مصر، لإبقائهم عبيدا أرقاء.
فجمّع فرعون عساكره، وأعد جيشه في اليوم التالي لمسيرة موسى ببني إسرائيل ليلا، مستنفرا القوى العسكرية بأن هؤلاء طائفة قليلة حقيرة، وأنهم
161
أعداء لنا لمخالفتهم ديننا وذهابهم بأموالنا التي استعاروها كما تقدم بيانه، وأننا مجتمع أخذنا حذرنا وأسلحتنا.
وكان هذا الاستنفار تجريدا لهم من أرض مصر وما فيها من أشجار وأنهار ومنازل عالية، وجعل ممتلكاتهم إرثا مشروعا لبني إسرائيل الذين كانوا عبيدا أذلاء مستضعفين في مصر. قال الحسن وغيره: رجع بنو إسرائيل إلى مصر بعد هلاك فرعون وقومه. وقيل: أراد بالوراثة هنا ما استعاروه من حليّ آل فرعون بأمر الله تعالى. قال القرطبي: وكلا الأمرين حصل لهم، والحمد لله، أي فقد عادوا إلى مصر وأصبحوا قادتها وسادتها وملاكها.
وتبع فرعون وقومه بني إسرائيل حين أشرقت الشمس. وكان سبب تأخر فرعون وقومه إما اشتغالهم بدفن بناتهم الأبكار الذين ماتوا في تلك الليلة بسبب وباء وقع فيهم، وإما لأن سحابة أظلتهم وظلمة أعاقتهم، فما تقشعت عنهم حتى أصبحوا.
فلما تقابل الجمعان بحيث يرى كل فريق صاحبه، خاف أصحاب موسى، وقالوا: لقد قرب منا العدو ولا طاقة لنا به، فالعدو وراءنا والبحر أمامنا، وساءت ظنونهم، وقالوا لموسى على جهة التوبيخ والجفاء: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ فردّ عليهم قولهم وزجرهم وذكّرهم وعد الله سبحانه بالهداية والظفر، قائلا لهم:
كَلَّا لم يدركوكم إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ أي معي بالنصر على العدو، وسيدلني على طريق النجاة.
فلما عظم البلاء واشتدّ خوف بني إسرائيل، ورأوا من الجيوش ما لا طاقة لهم بها، أمر الله تعالى موسى أن يضرب البحر بعصاه لأنه تعالى أراد أن تكون الآية متصلة بموسى ومتعلقة في الظاهر بفعل يفعله، وإلا فضرب العصا ليس بفارق للبحر، ولا معين على ذلك بذاته إلا بما اقترن به من قدرة الله تعالى
162
واختراعه، وجعل هذا من معجزات موسى عليه السلام.
ولما انفلق صار فيه اثنا عشر طريقا على عدد أسباط بني إسرائيل، ووقف الماء بينها كالجبل العظيم، وكأنه جمّد، فصار البحر طريقا يبسا بتأثير رياح لفحتها وجففتها وجعلتها كوجه الأرض، كما قال تعالى: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً، لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى [طه ٢٠/ ٧٧].
وقرّب الله فرعون وقومه إلى البحر، والغيظ يملأ نفوسهم، ونار الحقد تغلي في قلوبهم كالمراجل، وأنجى موسى ومن معه أجمعين، ثم لما صار الآخرون في وسط البحر أطبقه عليهم وأغرقهم جميعا.
إنها آية وأي آية! عظة للمتعظ وعبرة للمعتبر المتأمل، حقا، إن الذي حدث في البحر آية عجيبة من آيات الله العظام الدالة على قدرته، وعلى صدق موسى عليه السلام من حيث كان معجزة له، وعلى اعتبار المعتبرين به أبدا.
وفي هذا تحذير شديد من الإقدام على مخالفة أمر الله تعالى، وأمر رسوله، ويكون فيه اعتبار وتسلية لمحمد صلّى الله عليه وسلم الذي كان يغتم بتكذيب قومه مع ظهور المعجزات، فلا تعجب يا محمد من تكذيب أكثر قومك لك، واصبر على إيذائهم، فلعلهم أن يصلحوا، لذا قال تعالى عقيب ذلك:
وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ سواء من قوم فرعون أو من قوم موسى، فإنه لم يؤمن من قوم فرعون إلا مؤمن آل فرعون واسمه حزقيل، وابنته آسية امرأة فرعون، ومريم بنت ذا موسى العجوز التي دلت على قبر يوسف الصديق عليه السلام. وأما قوم موسى فبعد أن نجوا، عبدوا العجل، وقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً!! [البقرة ٢/ ٥٥].
163
القصة الثانية قصة إبراهيم عليه السلام
- ١- التنديد بعبادة الأصنام وبيان صفات الرّب المستحق للعبادة
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٦٩ الى ٨٢]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣)
قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨)
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢)
الإعراب:
إِذْ قالَ بدل من قوله نَبَأَ إِبْراهِيمَ.
هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ فيه مضاف محذوف، أي هل يسمعون دعاءكم إذ تدعون.
فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ عَدُوٌّ: اسم مفرد يؤدي معنى الجمع. ورَبَّ الْعالَمِينَ: منصوب على الاستثناء المنقطع لأنه سبحانه ليس من أعداء إبراهيم.
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ الَّذِي مبتدأ، وفَهُوَ يَهْدِينِ خبره، والفاء للسببية.
164
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ عطف على الَّذِي المتقدم، وخبره محذوف.
وتقديره: والذي هو يطعمني ويسقيني، فهو يهدين. وكذلك كل ما جاء بعدها من الَّذِي إلى قوله: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي... خبره: «فهو يهدين» مقدرا.
البلاغة:
يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ بينهما طباق، وكذلك بين يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ.
وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ أسند المرض لنفسه مراعاة للأدب تأدبا مع الله لأن الشر لا ينسب إليه تعالى أدبا، وإن كان المرض والشفاء كلاهما من الله، فلم يقل: أمرضني.
المفردات اللغوية:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ على مشركي العرب ومنهم كفار مكة وأمثالهم. نَبَأَ خبر مهم.
ما تَعْبُدُونَ؟ سألهم ليريهم أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة. نَعْبُدُ أَصْناماً صرحوا بالفعل. فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ أي: ندوم مقيمين على عبادتها، وزادوا هذا الجواب على قولهم:
نَعْبُدُ تبجحا وافتخارا به، وإظهارا لما في نفوسهم من الابتهاج. إِذْ تَدْعُونَ حين تدعون.
أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ حين تعبدونهم. أَوْ يَضُرُّونَ أي يضرونكم إن لم تعبدوهم. ومجيئه مضارعا مع إِذْ على حكاية الحال الماضية استحضارا لها. كَذلِكَ يَفْعَلُونَ مثل فعلنا، لم يجدوا جوابا إلا التمسك بالتقليد. وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ التقدم لا يدل على الصحة، ولا ينقلب به الباطل حقا.
عَدُوٌّ لِي لا أعبدهم، والمراد أنهم أعداء لعابديهم لأنهم يتضررون من جهتهم، لكنه صوّر الأمر في نفسه تعريضا لهم، فإنه أنفع في النصح من التصريح، وإشعارا بأنها نصيحة بدأ بها نفسه، ليكون أدعى إلى القبول. وإفراد لفظ العدو لأنه في الأصل مصدر أو بمعنى النسب أي عدوي، أجراه على النسب. إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ لكن ربّ العالمين فإني أعبده، استثناء منقطع.
فَهُوَ يَهْدِينِ إلى الدين لأنه يهدي كل مخلوق لما خلق له من أمور المعاش والمعاد، هداية مطردة من مبدأ إيجاده إلى منتهى أجله، يتمكن بها من جلب المنافع ودفع المضارّ، كما قال تعالى: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الأعلى ٨٧/ ٣] وتبدأ الهداية في الإنسان من وقت هداية الجنين إلى امتصاص دم الطمث من الرحم، وتنتهي إلى طريق الجنة والتنعم بلذائذها. أَطْمَعُ أرجو. يَوْمَ الدِّينِ الجزاء.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى في أول السورة شدة حزن محمد صلّى الله عليه وسلم بسبب كفر
165
قومه، ذكر قصة موسى عليه السلام ليعرف محمد أن مثل تلك المحنة حصلت لموسى فيكون ذلك تسلية له، ثم ذكر عقبها قصة إبراهيم عليه السلام ليعرف محمد أيضا أن حزن إبراهيم كان أشد من حزنه لأنه يرى أباه وقومه في النار، وهو لا يتمكن من إنقاذهم، وكل ذلك إشارة إلى أن معارضة الرسل من أقوامهم أمر قديم ومستمر، فلا داعي للغم والحزن.
التفسير والبيان:
هذا هو الفصل الأول من قصة إبراهيم إمام الحنفاء عليه السلام مع قومه، موضوعه الإنكار على قومه عبادة الأصنام مع الله عزّ وجلّ، وتبيان صفات الربّ الذي يجب أن يعبد، فقال تعالى:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ، إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ أي واتل يا محمد على أمتك خبر إبراهيم عليه السلام، ليقتدوا به في الإخلاص والتوكل على الله، وعبادته وحده لا شريك له، والتبري من الشرك وأهله، فإن الله تعالى آتى إبراهيم رشده من صغره إلى كبره، ولما شبّ أنكر على قومه عبادة الأصنام، وقال لأبيه وقومه: ما الذي تعبدونه؟ ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ ليلفت نظرهم إلى أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة في شرع ولا عقل.
فأجابوه مقرين بعبادة الأصنام، ومظهرين لما في نفوسهم من الابتهاج والافتخار بها: قالُوا: نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ أي قال قوم إبراهيم:
نعبد هذه الأصنام، وندوم مقيمين على عبادتها في الليل والنهار.
فناقشهم في جدوى تلك العبادة متعجبا من فعلهم:
قالَ: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ؟ أي قال إبراهيم: هل يسمعون دعاءكم حين تدعونهم، وهل يجلبون لكم نفعا أو يدفعون
166
عنكم ضررا؟ إذ ما الفائدة من عبادة لا هدف لها؟ فهل تفكرون قليلا، وتتأملون كثيرا فيما تفعلون؟ وكيف تستجيزون أن تعبدوا ما هذا وصفه؟
قالُوا: بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ لم يجدوا جوابا مقنعا يرد حجة إبراهيم إلا التمسك بالتقليد الأعمى للآباء والأجداد، وليس لهم حجة مقبولة لتسويغ عبادتها وتقديسها. وهذا من أقوى الأدلة على فساد التقليد في العقائد ووجوب الاعتماد على الاستدلال العقلي المقنع لأن الله أورد ذلك ذما لطريقة الكفار وإنكارا لمنهجهم.
فتقوّى إبراهيم في تقريعهم وتوبيخهم وتحديهم، فسألهم:
أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ أخبروني عن حال ما تعبدونه، أنتم وآباؤكم وأجدادكم الغابرون من قديم الزمان إلى الآن، هل حققت هذه العبادة شيئا، وهل استحقت تلك الأصنام الجمادات التي لا تسمع ولا تنطق عبادة العابدين؟ فإن كان لهذه الأصنام تأثير، فلتجلب إليّ الإساءة والأذى، فإني عدو لها لا أعبدها، ولا أبالي بها، ولا أفكر فيها. وهذا استهزاء منه بعبدة الأصنام، وتحد صارخ لصحة ما يعبدون.
لكن ربّ العالمين الذي خلقني ورزقني، وهو وليي في الدنيا والآخرة هو الذي أعبده وأنحني إجلالا لعظمته وعزته، فعبادتي للأصنام عبادة للعدو، لذا اجتنبتها، وآثرت عبادة من بيده الخير كله. وهذا نصيحة لنفسه، فيكون ذلك أدعى لهم إلى القبول، وأبعث على الاستماع منه.
وهذا نظير قول نوح عليه السلام: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ، ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً، ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ [يونس ١٠/ ٧١] وقول هود عليه السلام: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً، ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ، إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ، ما مِنْ دَابَّةٍ
167
إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ
[هود ١١/ ٥٤- ٥٦].
ثم أكد إبراهيم أنه لا يعبد إلا المتصف بهذه الأوصاف الخمسة وهي:
١- الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ أي هو الخالق المبدع الموجد الذي خلقني وغيري من المخلوقات، وهو الذي يهديني دائما لما فيه الخير في الدنيا والآخرة، كما قال: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الأعلى ٨٧/ ٢- ٣] أي الخالق الذي قدر قدرا، وسوى المخلوق في أحسن تقويم، وهدى الخلائق إليه، فكلّ يجري على ما قدر له، فبالخلق والهداية يحصل جميع المنافع لكل منتفع.
٢- وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ أي هو خالقي ورازقي بما يسّر من الأسباب السماوية والأرضية، فأنزل الماء، وأحيى به الأرض، وأخرج به من الثمرات المختلفة رزقا للعباد، وأوجد الأنعام وغيرها، فوفر للإنسان الطعام والشراب وغيرهما من كل ما يتصل بالرزق.
٣- وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ أي وإذا طرأ علي مرض، فهو تعالى الذي ينعم علي بالشفاء منه. ويلاحظ أنه نسب المرض إلى نفسه ولم يقل:
أمرضني، تأدبا مع الله، وإن كان المرض والشفاء من الله عزّ وجلّ جميعا وكلاهما يحدث بقدر الله وقضائه، كما قال تعالى آمرا المصلي أن يقول: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة ١/ ٦] ثم قال: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ..
[الفاتحة ١/ ٧] أسند الإنعام والهداية إلى الله تعالى، وحذف فاعل الغضب أدبا وأسند الضلال إلى البشر، وكما قال فتى موسى: وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ [الكهف ١٨/ ٦٣]، وكما قالت الجن: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً [الجن ٧٢/ ١٠]. وهنا أضاف إبراهيم المرض إليه، أي إذا وقعت في مرض، فإنه لا يقدر على شفائي أحد غير الله بما يقدر من الأسباب الموصلة إليه.
168
٤- وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ أي وهو الذي يحيي ويميت، لا يقدر على ذلك أحد سواه، فإنه هو الذي يبدئ ويعيد، والمراد منه الإماتة في الدنيا، والإعادة والبعث في الآخرة، بدليل عطفه ب ثُمَّ.
٥- وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ أي وهو الذي أرجو أن يستر ذنبي يوم القيامة، فإنه لا يقدر على غفران الذنوب في الدنيا والآخرة إلا هو، كما قال: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ؟ [آل عمران ٣/ ١٣٥]. وإنما قال أَطْمَعُ مع أنه صلّى الله عليه وسلم كان قاطعا بذلك لأنه لا يجب على الله لأحد شيء، فاستعمال الرجاء والظن للدلالة على أن الثواب ورفع العذاب فضل من الله ونعمة.
وأسند إلى نفسه الخطيئة، مع أن الأنبياء منزهون عن الخطايا قطعا، مريدا بذلك تسمية ما صدر عنه من عمل هو خلاف الأولى خطيئة، استعظاما له. وعلّق مغفرة الخطيئة بيوم الدين، وإنما تغفر في الدنيا لأن أثرها يظهر يوم الدين.
وقال: لِي في قوله: أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي لبيان أن غفرانه لي ولأجلي، لا لأجل أمر عائد إليه البتة. والخلاصة: أن هذا من إبراهيم عليه السلام إظهار للعبودية، وإن كان يعلم أنه مغفور له.
جاء في صحيح مسلم عن عائشة: «قلت: يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟ قال: لا ينفعه، إنه لم يقل يوما: ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين».
ويوم الدين: هو يوم الجزاء حيث يجازي العباد بأعمالهم.
169
فقه الحياة أو الأحكام:
إن إيراد قصة إبراهيم عليه السلام هنا كان لتنبيه المشركين على فرط جهلهم إذا رغبوا عن اعتقاد إبراهيم ودينه، وهو أبوهم، وليسرّى «١» عن النبي صلّى الله عليه وسلم مما وقع فيه من همّ وغم وحزن لإعراض قومه عن الإيمان برسالته.
وتتضمن القصة نقاشا حادا بين سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام وبين أبيه وقومه في فائدة عبادة الأصنام، حرصا على عدم إضاعة جهودهم سدى، فإن العبادة تكون عادة لفائدة، ويدرك كل عاقل أن هذه الأصنام الجمادات لا تأتي بخير أو رزق، ولا تملك لأحد خيرا، كما لا تدفع عنه ضرا إن عصيت، فإذا لم ينفعوكم أيها الوثنيون ولم يضروا، فما معنى عبادتكم لها؟
ولما وجدوا هذه الحجة مقنعة وقاطعة في الإفهام وإثبات المراد، لجؤوا إلى التمسك بالتقليد للآباء والأجداد من غير حجة ولا دليل. وفي هذا دلالة كافية على ذم التقليد وفساده في شأن العقائد، وأنه لا بد في تكوينه وإثباته من الاعتماد على الدليل المقنع المنطقي.
فأكد إبراهيم الخليل قوله السابق، وأفهم هؤلاء القوم الجهلة بأن عبادة هذه الأصنام ضرر محض لعابديها، وأنه لا تنبغي العبادة إلا لله ربّ العالمين من الإنس والجن والملائكة، فمن عبده انتفع ودفع الضرر عن نفسه في الدنيا والآخرة، ومن أنعم وجب أن يطاع ولا يعصى.
ثم إن صفات هذا المعبود بحق تستوجب عبادته والتقرب إليه، فهو الخالق الهادي المرشد إلى الدين الحق، وهو الذي يرزق الطعام والشراب وغيرهما من المنافع، لا غيره، وهو الشافي المعافي، وهو المميت والمحيي، أي الموجد من العدم،
(١) سرّي عنه، وانسرى عنه الهم: انكشف.
170
ثم المفني، ثم الباعث البعث، وهو غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، الفعال لما يشاء.
- ٢- دعاء إبراهيم عليه السلام دعاء المخلصين الأوّابين
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٨٣ الى ٨٩]
رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧)
يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩)
البلاغة:
وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ استعارة، استعار اللسان للذكر الجميل والثناء الحسن.
المفردات اللغوية:
حُكْماً فهما وعلما بالخير وعملا به وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ الكاملين في الصلاح وهم الأنبياء، والمراد: وفقني للأعمال التي تجعلني في زمرة الصالحين البعيدين عن صغائر الذنوب وكبائرها. لِسانَ صِدْقٍ ثناء حسنا وصيتا طيبا في الدنيا يبقى أثره إلى يوم الدين، بتوفيقي للعمل الصالح، حتى يقتدي بي الناس. فِي الْآخِرِينَ الذين يأتون بعدي إلى يوم القيامة.
مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ في الآخرة، أي ممن يعطاها ويتمتعون بها، كما يتمتع الناس بميراث الدنيا. وَاغْفِرْ لِأَبِي بأن توفقه للهداية والإيمان وتتوب عليه، فتغفر له لأن المغفرة مشروطة بالإسلام، فهذا دعاء لأبيه بالإسلام. إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ طريق الحق أي المشركين. وهذا قبل أن يتبين له أنه عدو لله. وَلا تُخْزِنِي لا تهنّي، من الخزي: وهو الهوان، أو من الخزاية وهي الحياء. يَوْمَ يُبْعَثُونَ أي الناس، فالضمير للعباد لأنهم معلومون أو للضالين. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ أي مخلصا سليم القلب من الكفر والنفاق وميل للمعاصي، وهو قلب المؤمنين.
171
المناسبة:
بعد أن أثنى إبراهيم عليه السلام على ربه وعظم شأنه، وعدّد نعمته من لدن خلقه وإنشائه إلى حين وفاته، مع ما يرجى في الآخرة من رحمته، أتبع ذلك بالدعاء بدعوات المخلصين، وابتهل إليه ابتهال الأوّابين، وهذا على ما هو مطلوب من تقديم الثناء على الدعاء.
التفسير والبيان:
سأل إبراهيم الخليل ربّه أمورا في هذه الدعوات تجعله من الأخيار المصطفين، للتعليم والاقتداء به، وتلك الأمور هي:
١- رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً أي امنحني يا رب علما وفهما ومعرفة تنير بها قلبي للتعرف على صفاتك، وإدراك الحق والصواب لأعمل به.
٢- وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ أي وفقني لطاعتك، لأنتظم في زمرة الكاملين في الصلاح المنزهين عن الذنوب كلها صغيرها وكبيرها، واجعلني مع الصالحين في الدنيا والآخرة، كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلم عند الاحتضار: «اللهم في الرفيق الأعلى» قالها ثلاثا.
وقال صلّى الله عليه وسلم في دعائه: «اللهم أحينا مسلمين، وأمتنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مبدّلين».
وقد أجاب الله دعاء إبراهيم كما قال: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [العنكبوت ٢٩/ ٢٧].
٣- وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ أي واجعل لي ذكرا جميلا بعدي، أذكر به في الدنيا، بتوفيقي للعمل الصالح، فيقتدى بي في الخير.
فأجاب الله دعاءه كما قال: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ، كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات ٣٧/ ١٠٨- ١١٠].
172
قال مجاهد وقتادة: اللسان الصدق: يعني الثناء الحسن.
وقد اتفقت الملل على محبة إبراهيم عليه السلام وجعله قدوة في الدين.
وبعد أن طلب سعادة الدنيا، طلب ثواب الآخرة، فقال:
٤- وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ أي واجعلني من أهل الجنة الذين يتمتعون بخيراتها ونعيمها، كما يتمتع الوارث بإرث غيره في الدنيا.
وبعد أن طلب لنفسه السعادة الدنيوية والأخروية طلبها لأبيه ولي نعمته وسبب وجوده، فقال:
٥- وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ كما قال: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ [إبراهيم ١٤/ ٤١] أي اغفر له ذنوبه ووفقه للتوبة والإسلام، فإنه ضالّ عن طريق الهدى والحق، أي إنه مشرك. وهذا وفاء بما وعده من قبل، وقبل أن يتبين أنه عدو لله، كما قال تعالى: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ، تَبَرَّأَ مِنْهُ، إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة ٩/ ١١٤].
ثم طلب الستر التام في الآخرة فقال:
٦- وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ أي لا تفضحني بعتاب على ما فرطت، أو بنقص منزلة عن وارث، وأجرني من الخزي والهوان يوم القيامة ويوم يبعث الخلائق أولهم وآخرهم. وهذا مبالغة منه صلّى الله عليه وسلم في تحري الكمال والسلامة والنجاة، في يوم شديد الأهوال، وصفه فقال:
يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ أي ذلك اليوم الذي لا يقي المرء من عذاب الله ماله، ولو افتدى بملء الأرض ذهبا، ولا أولاده ولو افتدى بمن على الأرض جميعا، وإنما ينفع يومئذ الإيمان بالله تعالى،
173
وإخلاص الدين له، والتبري من الشرك وأهله. فالمراد بالقلب السليم: هو الخالي من العقائد الفاسدة والأخلاق المرذولة والميل إلى المعاصي، وعلى رأسها الكفر والشرك والنفاق، وقال سعيد بن المسيب رحمه الله: القلب السليم: هو القلب الصحيح وهو قلب المؤمن لأن قلب الكافر والمنافق مريض، قال الله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة ٢/ ١٠].
فقه الحياة أو الأحكام:
جمع إبراهيم الخليل عليه السلام في دعائه هذا خيري الدنيا والآخرة، فطلب أن يؤتيه الله علما وفهما ومعرفة بالله عز وجل وبحدوده وأحكامه. ثم طلب أن يخلد ذكره الجميل في الدنيا، ويمنح الثناء الحسن بالتوفيق لصالح العمل، وقال ابن عباس: هو اجتماع الأمم عليه، ثم سأل الله أن يكون من أهل الجنة الذين يتمتعون بنعيمها.
روى أشهب عن مالك قال: قال الله عز وجل وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ: لا بأس أن يحبّ الرجل أن يثنى عليه صالحا، ويرى في عمل الصالحين إذا قصد به وجه الله تعالى، وقد قال الله تعالى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه ٢٠/ ٣٩] وقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا [مريم ١٩/ ٩٦] أي حبا في قلوب عباده، وثناء حسنا. فنبه تعالى بقوله: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء ٢٦/ ٨٤] على استحباب اكتساب ما يورث الذكر الجميل، فهو الحياة الثانية.
وفي هذا دليل على الترغيب في العمل الصالح الذي يكسب الثناء الحسن،
قال النبي صلّى الله عليه وسلم- فيما يرويه مسلم والبخاري في الأدب وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن أبي هريرة-: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له».
174
ثم سأل الله تعالى أن يوفق أباه، ويهديه للإسلام والإيمان، ويخرجه من الشرك، لأن أباه وعده في الظاهر أن يؤمن به، فاستغفر له لهذا، فلما بأن أنه لا يفي بما قال، تبرأ منه.
وختم إبراهيم دعاءه بالستر التام والسلامة والنجاة فقال: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ أي لا تفضحني على رؤوس الأشهاد، أو لا تعذبني يوم القيامة.
ثبت في البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن إبراهيم يرى أباه يوم القيامة، عليه الغبرة والقترة»
والغبرة هي القترة.
وفي البخاري أيضا عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «يلقى إبراهيم أباه، فيقول: يا ربّ، إنك وعدتني ألا تخزني يوم يبعثون، فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين».
ووصف إبراهيم يوم القيامة بأنه يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون أحدا، ولكن ينفع القلب السليم وهو الخالص من الشك والشرك. أما الذنوب فلا يسلم منها أحد، وهذا رأي أكثر المفسرين.
وخص القلب بالذكر لأنه الذي إذا سلم سلمت الجوارح، وإذا فسد فسدت الجوارح.
ومن المعلوم أن ذكر الله تعالى على الدوام من أهم حالات وأسباب ترويض القلوب على السلامة والخلوص من الأوصاف الذميمة، والاتصاف بالأوصاف الجميلة،
جاء في الأثر أو الحديث القدسي عن الله تعالى فيما رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري: «من شغله القرآن عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين».
وأخرج أحمد والترمذي وابن ماجه عن ثوبان قال: لما نزلت وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ الآية، قال بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لو علمنا أيّ المال خير اتخذناه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أفضله لسان ذاكر، وقلب شاكر، وزوجة صالحة تعين المؤمن على إيمانه».
175
والخلاصة: أن هذه الأدعية من أبي الأنبياء وإمام الحنفاء تستهدف التوجيه والتعليم والاتباع والالتزام، فما علينا إلا تردادها والعمل بها.
- ٣- أوصاف يوم القيامة وثواب الله وعقابه وندم المشركين على ضلالهم
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٩٠ الى ١٠٤]
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤)
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩)
فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤)
الإعراب:
أَجْمَعُونَ إما تأكيد للجنود إن جعل مبتدأ، وخبره ما بعده، وإما تأكيد للضمير هُمْ وما عطف عليه.
تَاللَّهِ إِنْ مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف أي إنه.
فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً، فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: فتح أن لوقوعها بعد لو وإنما فتحت بعد لو لأنها لا يقع بعدها إلا الفعل، وهو فعل لا يجوز إظهاره، وتقديره: لو وقع أن لنا كرة. ونكون: منصوب على جواب التمني بالفاء بتقدير «أن» لأن «لو» في معنى التمني.
176
البلاغة:
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ووَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ بينهما مقابلة.
لِلْمُتَّقِينَ لِلْغاوِينَ مُبِينٍ الْعالَمِينَ شافِعِينَ الْمُؤْمِنِينَ سجع ومراعاة للفواصل أواخر الآيات.
تَعْبُدُونَ يَنْتَصِرُونَ الْغاوُونَ أَجْمَعُونَ يَخْتَصِمُونَ الْمُجْرِمُونَ سجع ومراعاة فواصل أيضا.
المفردات اللغوية:
وَأُزْلِفَتِ قرّبت ليدخلوها بحيث يرونها من الموقف. وَبُرِّزَتِ أظهرت وجعلت بارزة لهم بحيث يرون أهوالها. لِلْغاوِينَ الكافرين الضالين عن طريق الحق. أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، مِنْ دُونِ اللَّهِ قيل لهم على سبيل التوبيخ: أين آلهتكم الذين تزعمون أنهم شفعاؤكم من غير الله من الأصنام. هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ بدفع العذاب عنكم. أَوْ يَنْتَصِرُونَ بدفعه عن أنفسهم لأنهم وآلهتهم يدخلون النار، كما قال: فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ ألقوا فيها على وجوههم، الآلهة وعبدتها. وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أتباعه ومطيعوه من عصاة الثقلين: الجن والإنس. مُبِينٍ بيّن. قالُوا أي الغاوون. وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ يتخاصمون مع معبوديهم، على أساس أن الله ينطق الأصنام، فتخاصم العبدة، ويؤيده الخطاب في قوله: إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ أي نجعلكم مساوين له في استحقاق العبادة. قال البيضاوي: ويجوز أن تكون الضمائر للعبدة، كما في قالُوا والخطاب للمبالغة في التحسر والندامة، والمعنى: أنهم مع تخاصمهم في مبدأ ضلالهم معترفون بانهماكهم في الضلالة، متحسرون عليها. وَما أَضَلَّنا عن الهدى. إِلَّا الْمُجْرِمُونَ الشياطين أو آباؤنا الذين اقتدينا بهم. فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ كما للمؤمنين من الملائكة والأنبياء.
صَدِيقٍ صادق في وده. حَمِيمٍ يهمه أمرنا. وجمع الشافع ووحد الصديق لكثرة الشفعاء في العادة وقلة الصديق، أو لإطلاق الصديق على الجمع كالعدو لأنه في الأصل مصدر كالحنين والصهيل. كَرَّةً رجعة إلى الدنيا وقوله: فَلَوْ للتمني، أقيم مقام «ليت» لتلاقيهما في معنى التقدير، ونكون: جواب التمني. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً فيما ذكر من قصة إبراهيم لَآيَةً لحجة وعظة لمن أراد أن يستبصر بها ويعتبر. وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ أكثر قومه مُؤْمِنِينَ به. الْعَزِيزُ القادر على تعجيل الانتقام. الرَّحِيمُ بالإمهال لكي يؤمنوا، هم أو أحد من ذريتهم.
177
المناسبة:
بعد أن دعا إبراهيم عليه السلام بدعوات المخلصين الأوابين، وختمها بألا يخزيه الله يوم البعث، وصف يوم القيامة، وما فيه من ثواب وعقاب، وندم المشركين وحسرتهم على ما كانوا فيه من الضلال، وتمني الكرّة إلى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا.
التفسير والبيان:
وصف إبراهيم عليه السلام يوم القيامة بثلاثة أوصاف هي:
١- وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ. وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ أي إن ذلك اليوم هو اليوم الذي قرّبت وأدنيت فيه الجنة للمتقين السعداء، ينظرون إليها، ويدخلون فيها، تعجيلا للبشارة والمسرّة بما عملوا في الدنيا من صالحات الأعمال، كما قال تعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ، غَيْرَ بَعِيدٍ [ق ٥٠/ ٣١].
وهو اليوم الذي أظهرت فيه النار وجعلت بارزة مكشوفة للضالين عن الحق الكافرين الأشقياء، بحيث يرونها، ويعلمون أنهم مواقعوها، تعجيلا للغم والحسرة على شقاوتهم في الدنيا، كما قال تعالى: وَقِيلَ: الْيَوْمَ نَنْساكُمْ، كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا، وَمَأْواكُمُ النَّارُ، وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ [الجاثية ٤٥/ ٣٤] وقال سبحانه: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الملك ٦٧/ ٢٧].
ثم يسأل أهل النار تقريعا وتوبيخا، فيقال لهم:
٢- وَقِيلَ لَهُمْ: أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، مِنْ دُونِ اللَّهِ، هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ؟ أي أين آلهتكم التي عبدتموها من دون الله من تلك الأصنام والأنداد، هل ينفعونكم بنصرتهم لكم ويمنعونكم من العذاب، وهل ينفعون أنفسهم
178
بانتصارهم ودفع العذاب عنهم؟ لا يحصل كلا الأمرين، فإنهم وآلهتهم وقود النار، وحصب جهنم، هم لها واردون، كما قال:
فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ، وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ أي فدهوروا فيها، أي الآلهة غير المؤمنة وعبدتهم، والقادة وأتباعهم يلقون فيها إلقاء مكررا، بعضهم على بعض، كما يلقى معهم متّبعو إبليس من عصاة الإنس والجن أجمعين، أولهم وآخرهم. وتقديم إلقاء الآلهة ليشاهد الغاوون سوء حالهم، وييأسوا من النجاة.
٣- قالُوا- وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ-: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ أي قال أهل الغواية، وهم في حال الغيظ الشديد من المخاصمة والمحاجة بينهم وبين الآلهة المعبودة والشياطين الداعية لتلك العبادة: والله لقد كنا في ضلال عن الحق واضح بيّن حين نجعلكم أيها الأصنام والأحجار والملائكة وبعض البشر متساوين في استحقاق العبادة وإطاعة الأمر مع رب العالمين من الإنس والجن: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [ص ٣٨/ ٦٤].
وهذا خطاب في الحقيقة بدليل قولهم:
وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ أي والحق أنه ما دعانا إلى ذلك الخطأ العظيم إلا المجرمون من الشياطين والقادة والرؤساء، كما قال تعالى: وَقالُوا: رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا، فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [الأحزاب ٣٣/ ٦٧]. وقد أفلسنا اليوم من وعودهم الكاذبة والآمال المعقودة كما قال:
فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ أي فليس لنا اليوم شفيع يشفع، ولا صديق ودود قريب يهمه أمرنا، من الذين كنا نعدهم شفعاء وأصدقاء لأنهم كانوا يعتقدون في أصنامهم أنهم شفعاؤهم عند الله تعالى، وكان لهم أصدقاء من شياطين الإنس يعدونهم بالنجاة والإنقاذ، كما قال تعالى: فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ
179
فَيَشْفَعُوا لَنا، أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ
[الأعراف ٧/ ٥٣] وقال سبحانه: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف ٤٣/ ٦٧].
فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي ليت لنا رجعة إلى الدنيا، فنؤمن بالله ربنا وحده لا شريك له، ونؤمن برسله الكرام، ونعمل صالحا غير الذي كنا نعمل، ولكن ذلك كذب ومراوغة، كما أخبر تعالى عنهم بخلاف ذلك، وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الأنعام ٦/ ٢٨] وقال سبحانه أيضا: وَلَوْ رَحِمْناهُمْ، وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ، لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [المؤمنون ٢٣/ ٧٥].
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً، وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي في ذلك المذكور من قصة إبراهيم، ومحاجته لقومه، وإقامة الحجج عليهم في التوحيد، وتغلبه عليهم، وفي مخاصمة أهل النار، لعظة وعبرة، ودلالة واضحة جلية على أن:
لا إله إلا الله، وألا معبود سواه، ولا رب غيره، وما كان أكثر قوم إبراهيم بمؤمنين بالله وبرسوله.
وفي هذا تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم عما يلقاه من تكذيب قومه وإعراضهم عن دعوته، مع إقامة الأدلة، وظهور المعجزات.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي وإن ربك الذي أحسن إليهم بإرسالك لهم لهدايتهم، لقادر على الانتقام منهم، ورحيم بهم إذ لم يعجل إهلاكهم، ورحيم بالمؤمنين الطائعين.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات الكريمة تصوير تام شامل لليوم الآخر، ووصف موجز ليوم القيامة بما فيه من ثواب المتقين وعقاب العصاة الكافرين، وندم المشركين على ضلالهم في الدنيا.
180
وهو تصوير محبّب، ووصف جذاب يأخذ بمجامع القلوب، فالجنة تقرّب وتدنى للمتقين فتتعلق بها نفوسهم ويأخذهم الفرح والحبور، وتعمهم الغبطة، وجهنم تبرز وتكشف للكافرين الذين ضلوا عن الهدى، وتظهر لأهلها قبل أن يدخلوها حتى يستشعروا الروع والحزن، فيبدو منها عنق، فإذا زفرت زفرة بلغت القلوب منها الحناجر، كما يستشعر أهل الجنة الفرح، لعلمهم أنهم يدخلون الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا.
ويقال لأهل جهنم تقريعا وتوبيخا: أين آلهتكم من الأصنام والأنداد التي كنتم تعبدونها من دون الله، هل ينصرونكم وينجونكم من عذاب الله، وهل ينتصرون لأنفسهم؟! إنهم يقلبون على رؤوسهم، ويدهورون في النار، ويلقى بعضهم على بعض، الآلهة المعبودة وعابدوها وجنود إبليس أجمعون، وهم من كان من ذريته، وكل من دعاه إلى عبادة الأصنام ونحوها فاتّبعه.
حينئذ لا يجد هؤلاء الكفرة مناصا من الإقرار بكفرهم، ويقول الإنس والشياطين والغاوون والمعبودون المتخاصمون في جهنم: والله إننا كنا في ضلال مبين، أي في خسار وتبار وحيرة عن الحق بينة، إذ اتخذنا مع الله آلهة، فعبدناها كما يعبد الإله الحق، ونجعلها مساوية في العبادة لرب العالمين، وهذه الآلهة لا يستطيعون الآن نصرنا ولا نصر أنفسهم، ولقد أضلنا الشياطين الذين زينوا لنا عبادة الأصنام، أو أسلافنا الذين قلدناهم، قال أبو العالية وعكرمة:
الْمُجْرِمُونَ: إبليس وابن آدم القاتل: هما أوّل من سنّ الكفر والقتل وأنواع المعاصي.
فليس لنا شفعاء يشفعون لنا من الملائكة والنبيين والمؤمنين، ولا صديق مشفق علينا. قال الزمخشري رحمه الله: وجمع الشافع لكثرة الشافعين، ووحّد
181
الصديق لقلته، أي أن الشفعاء يكثرون عادة عند المحنة، وإن لم يكن هناك سبق معرفة، وأما الصديق المخلص في وداده فقليل نادر.
ويتمنون الأماني حين لا ينفعهم التمني، ويقولون: ولو حدث لنا رجوع إلى الدنيا، لآمنا حتى يكون لنا شفعاء. يقولون ذلك حين تشفع الملائكة والمؤمنون.
قال جابر بن عبد الله، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليقول في الجنة: ما فعل فلان وصديقه في الجحيم؟ فلا يزال يشفع له حتى يشفّعه الله فيه، فإذا نجا قال المشركون: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ».
وقال الحسن البصري: ما اجتمع ملأ على ذكر الله، فيهم عبد من أهل الجنة إلا شفعه الله فيهم، وإن أهل الإيمان ليشفع بعضهم في بعض، وهم عند الله شافعون مشفّعون.
وختمت الآيات ببيان العبرة والعظة، فقال تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً، وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي إن في المذكور من قصة إبراهيم واختصام أهل النار وحسرتهم على ضلالهم لعبرة وعظة مؤثرة، ولم يكن أكثر قوم إبراهيم، بل ولا أكثر الناس بمؤمنين بالله ورسله، ولكن الله هو المنتقم الجبار الذي ينتقم من المعاندين الكفرة، الرحيم بالناس إذ لم يعجل لهم الانتقام، وإنما أمهلهم لعلهم يعودون إلى دائرة الحق والإيمان والتوبة.
القصة الثالثة قصة نوح عليه السلام مع قومه
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٠٥ الى ١٢٢]
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤)
إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩)
ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢)
182
البلاغة:
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ في قوله: الْمُرْسَلِينَ: مجاز مرسل، من قبيل إطلاق الكل وإرادة البعض، فإنه أراد بالمرسلين نوحا، وذكره بصيغة الجمع تعظيما له، وتنبيها على أن من كذب رسولا، فقد كذب جميع المرسلين.
فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً استعارة تبعية، استعار المفتاح للحاكم، والفتح للحكم لأنه يفتح المنغلق من الأمر، والمعنى: احكم بيننا وبينهم بحكمك العادل.
المفردات اللغوية:
قَوْمُ اسم لا واحد له من لفظه، كرهط ونفر، يذكر ويؤنث، وتذكيره باعتبار لفظه، وتأنيثه باعتبار معناه الْمُرْسَلِينَ المراد به نوح عليه السلام، عبر عنه بصيغة الجمع تعظيما له، ولأن من كذب رسولا فقد كذب جميع المرسلين، لاشتراكهم برسالة التوحيد، أو لأنه لطول لبثه فيهم كأنه رسل. أَخُوهُمْ أي أخوة نسب أو جنس لا أخوة دين لأنه كان منهم. أَلا تَتَّقُونَ الله، فتتركوا عبادة غيره. رَسُولٌ أَمِينٌ مشهور بالأمانة فيكم، وأمين على تبليغ ما أرسلت به.
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ فيما آمركم به من توحيد الله وإطاعته. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ على تبليغه. إِنْ أَجْرِيَ ما ثوابي إلا على الله. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ كرره للتأكيد. أَنُؤْمِنُ لَكَ أنصدق لقولك. وَاتَّبَعَكَ وفي قراءة: وأتباعك. الْأَرْذَلُونَ السفلة، الأقلون جاها ومالا، كأهل الحرف والمهن الوضيعة من الحاكة والأساكفة ونحوهم، جمع أرذل، والرذالة: الخسة والدناءة. وهذا من سخافة عقولهم وقصور نظرهم على المادة وحطام الدنيا، وإشارة إلى أن اتّباعهم ليس عن نظر وبصيرة، وإنما هو لتوقع مال ورفعة، لذلك قال: وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي لا علم لي بأنهم عملوه إخلاصا، أو طمعا في شيء، وما على إلا اعتبار الظاهر.
183
إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ أي ما حسابهم على بواطنهم إلا على الله، فإنه المطلع عليها، لو تعلمون ذلك، ولكنكم تجهلون، فتقولون ما لا تعلمون. إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي ما أنا إلا بيّن الإنذار، وهذا كالعلة لما سبق، فما أنا إلا رجل مبعوث لإنذار المكلفين عن الكفر والمعاصي، سواء كانوا أعزاء أو أذلاء، فكيف يليق بي طرد الفقراء لاستتباع الأغنياء؟! لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ عما تقول لنا. مِنَ الْمَرْجُومِينَ المقتولين أو المضروبين بالحجارة، أو من المشتومين. قالَ: رَبِّ، إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ قال نوح ذلك، إظهارا لسبب الدعاء عليهم وهو تكذيب الحق. فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً أي فاحكم بيني وبينهم حكما. وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي نجني من شؤم عملهم. الْفُلْكِ يطلق على الواحد والجمع. الْمَشْحُونِ المملوء بالناس والحيوان. ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ أي بعد إنجائهم. الْباقِينَ من قومه. لَآيَةً عبرة شاعت وتواترت.
المناسبة:
لما قص الله تعالى على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلم قصة موسى وإبراهيم، أتبعه بذكر قصة أبي البشر الثاني نوح عليه السلام، ثم خبر هود، وصالح، ولوط وشعيب فيما يأتي بعد، والهدف من كل ذلك واحد، وهو تسلية رسوله فيما يلقاه من قومه، وبيان لسنة الله في عقاب المكذبين، فإن أقوام هؤلاء جميعا كذبوا رسلهم، فعوقبوا، وقومك يا محمد كمن سبقهم، فلا تجزع ولا تحزن ولا تغتم. وقد تقدم تفصيل نبأ نوح في سورتي الأعراف وهود.
التفسير والبيان:
هذا قصص نوح عليه السلام مع قومه، فهو أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد أن عبدت الأصنام والأنداد، فنهاهم عن ذلك وحذرهم من وبيل عقاب ربهم، ومكث فيهم ألف سنة إلا خمسين، فكذبه قومه، واستمروا على ما هم عليه من الوثنية، ونزّل الله تكذيبهم له منزلة تكذيب جميع المرسلين، فقال:
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ: أَلا تَتَّقُونَ؟ أي كذب قوم نوح رسل الله أي نوحا نفسه فيما جاءهم به من الهداية لتوحيد الله
184
وإنهاء عبادة الأصنام، حين قال لهم نوح أخوهم: ألا تخافون الله في عبادتكم غيره؟ ألا تحذرون عقابه على كفركم به؟
وجعل تكذيب نوح تكذيبا للرسل جميعا لأن من كذب رسولا، فقد كذب جميع الرسل. وإنما قال: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ لأن القوم مؤنث، وتصغيرها قويمة. وقال: أَخُوهُمْ لأنه كان منهم، كما تقول العرب: يا أخا بني تميم، أي يا واحدا منهم.
وبعد أن خوفهم نوح من سوء فعلهم، وصف نفسه بأمرين:
الأول- إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ أي إني رسول من الله إليكم، أمين فيما بعثني الله به، أبلغكم رسالات ربي، دون زيادة ولا نقص.
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ أي خافوا عذاب الله، وأطيعوني فيما آمركم به من توحيد الله وعبادته وطاعته. وإنما قدم الأمر بتقوى الله تعالى على الأمر بطاعته لأن تقوى الله علة لطاعته، وهي أساس الطاعة ومبعثها، فلولا الخوف من الله تعالى ما أطاعه الناس.
الثاني- وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أي لا أطلب منكم جزاء على نصحي لكم، بل أدخر ثواب ذلك عند الله تعالى.
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ أي فقد وضح لكم صدقي ونصحي وأمانتي فيما بعثني الله به، وائتمنني عليه. وكرر ذلك للتأكيد عليهم، وتقريره في نفوسهم لأن التقوى والطاعة أساس الدين، لكن جعل علة الأول كونه أمينا فيما بينهم، وعلة الثاني حسم طمعه عنهم.
ولما لم يجدوا سبيلا للتخلص من حجته وعدم إمكان الطعن بها، أوردوا شبهة واهية فقالوا: قالُوا: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ؟ أي إنهم قالوا: لا نؤمن
185
لك ولا نتبعك، ونتأسى في ذلك بهؤلاء الأراذل السفلة في المجتمع، فإنهم أراذلنا، وضعاف الناس، وفقراء القوم، ونحن السادة أهل الجاه والثروة والنفوذ!! وهذه شبهة في نهاية السقوط والضعف، فإن نوحا عليه السلام بعث هاديا لجميع الناس، لا فرق بين غني وفقير، ووجيه ووضيع، وحسيب ومغمور، وسيد ومسود، ولا يبحث الرسول عادة عن هويات المؤمنين ومنازلهم، لذا قال:
قالَ: وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي قال نوح: لا علم لي بأعمال هؤلاء وحرفهم ومهنهم، ولا أنقب عنهم أو أبحث أو أفحص أمورهم الداخلية، وإنما ليس لي إلا الظاهر، فأقبل منهم تصديقهم إياي، وأترك سرائرهم إلى الله عز وجل، وحسابهم على ربهم، لا علي، كما قال:
إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ أي إن كان لهم عمل شيء، فما حسابهم علي، وإنما على ربي، فالله محاسبهم ومجازيهم عليه، وما أنا إلا منذر، لا محاسب ولا مجاز، لو تشعرون ذلك بأن كنتم ذوي شعور مرهف وحس صادق وعقل واع، ولكنكم تجهلون، فتنساقون مع الجهل حيث سيّركم ووجهكم.
والقصد من ذلك تبديد شبهتهم، وإنكار تسمية المؤمن رذلا، وإن كان أفقر الناس وأوضعهم نسبا، فإن الغنى غنى الدين، والنسب نسب التقوى.
ثم ردّ على ما فهم من مطلبهم بإبعاد هؤلاء وطردهم من مجلسه، فقال:
وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي ليس من شأني ولا من مبدئي ورسالتي طرد هؤلاء الذين آمنوا بربهم واتبعوني وصدقوني، إنما بعثت نذيرا، فمن أطاعني واتبعني وصدقني، كان مني وأنا منه، سواء كان شريفا أو وضيعا، جليلا أو حقيرا، وإني أخوّف من كذبني ولم يقبل مني، فمن قبل فهو القريب، ومن رد فهو البعيد.
فلما أفحمهم بجوابه، لم يجدوا بدا من اللجوء إلى التهديد:
186
قالُوا: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ أي قال قوم نوح له:
لئن لم تنته عن دعوتك إيانا إلى دينك، لنرجمنك بالحجارة. وهذا تخويف منهم بالقتل بالحجارة، فعندئذ دعا عليهم بعد اليأس من إيمانهم دعوة استجاب الله منه، بعد أن أذن له، فقال:
قالَ: رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ، فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً، وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي قال نوح: يا رب، إن قومي كذبوني في دعوتي إياهم إلى الإيمان بك، فاحكم بيني وبينهم حكما عدلا تنصر به أهل الحق، وتهلك أهل الباطل والضلال، ونجني من العذاب مع من آمن برسالتي وصدق بدعوتي، كما جاء في آية أخرى: فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر ٥٤/ ١٠].
ويلاحظ أنه ليس الغرض من هذا إخبار الله تعالى بالتكذيب، لعلمه أن الله عالم الغيب والشهادة أعلم، ولكنه أراد أني لا أدعوك عليهم لإيذائي، وإنما أدعوك لأجلك ولأجل دينك، ولأنهم كذبوني في وحيك ورسالتك.
والمراد من هذا الحكم في قوله: فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً إنزال العقوبة عليهم لأنه قال عقبه: وَنَجِّنِي.
فأجاب الله دعاءه فقال:
فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ أي أنجينا نوحا ومن آمن بدعوته، فوحد الله وأطاعه، وهجر عبادة الأصنام، وأنقذناهم بسفينة مملوءة بالناس والأمتعة وأجناس الحيوان. ثم أغرقنا بعد إنجائهم قومه الآخرين الذين بقوا على كفرهم، وخالفوا أمره. روي أن الناجين كانوا ثمانين، أربعين رجلا وأربعين امرأة.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي إن في إنجاء المؤمنين
187
وإغراق الكافرين لعبرة وعظة لكل من صدق أو كذب بالرسل، وإن من سنتنا دائما إنجاء الرسل وأتباعهم، وإهلاك الذين كذبوا برسالتهم.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي وإن ربك الله لهو القوي الغالب المنتقم ممن كفر به وخالف أمره، الرحيم بمن أطاعه وأناب إليه وتاب، فلا يعاقبه.
فقه الحياة أو الأحكام:
الوثنية وعبادة الأصنام تقارن عادة وجود الشعوب البدائية، فهي في الغالب عقيدتهم، لذا كان نوح عليه السلام أول رسول للناس بعد ظهور هذه العقيدة. والبدائية والمادية وسخف العقل وسطحية التفكير أمور متلازمة، لذا كان الإصرار على عبادة شيء من دون الله هو الظاهرة الشائعة، وكانت مهمة الأنبياء المتقدمين عسيرة وصعبة.
فهذا نوح عليه السلام مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين يدعوهم إلى توحيد الله والتخلي عن عبادة الأصنام، فكذبوه وآذوه، بالرغم من أنه أكد لهم أنه رسول أمين صادق فيما بلغهم عن الله تعالى، وقد عرفوا أمانته وصدقه من قبل، كمحمد صلّى الله عليه وسلم في قريش، وبالرغم من تخويفهم من عقاب الله قائلا لهم مرة: ألا تتقون الله في عبادة الأصنام؟ ومرة: فاتقوا الله وأطيعوني أي استتروا بطاعة الله تعالى من عقابه، وأطيعوني فيما آمركم به من الإيمان، ولا طمع لي في مالكم، وما جزائي إلا على رب العالمين.
ولكن تذرعوا بشبهة واهية للبقاء على عنادهم وكفرهم، ودفعهم الغرور والاستكبار إلى الترفع عن الإيمان بسبب تصديق فئة ضعيفة برسالة نوح، ليسوا من الوجهاء ولا من الأثرياء، وإنما من طبقة المهنيين والحرفيين. وهذا قول الكفرة، فإن تعلم الصناعات مما رغب به الدين، وليست الحرفة عيبا، وإنما هي
188
شرف وعزة، يستغني بها الإنسان عن الآخرين، فلا يفهمن أحد خطأ أن الدين ينتقص من قدر هؤلاء، وإنما الذي انتقصهم هم الأغنياء المترفون.
ويؤكد ذلك جواب نوح عليه السلام لهم وهو: قالَ: وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي إنني لم أكلف العلم بأعمالهم، إنما كلفت أن أدعوهم إلى الإيمان، والاعتبار بالإيمان، لا بالحرف والصنائع، وليس للحرفة أو الصنعة تأثير في ميزان الدين، وكذلك النظر في الدعوة إلى الله إلى الظاهر، لا إلى الباطن.
ثم أجابهم بجواب آخر: إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ أي لو شعرتم أن حسابهم على ربهم، لما عبتموهم بصنائعهم.
وجواب ثالث: وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ أي لخساسة أحوالهم وأشغالهم كما تتصورون، وكأنهم طلبوا منه طرد الضعفاء، كما طلبته قريش. إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ أي إن الله ما أرسلني أخص ذوي الغنى دون الفقراء، إنما أنا رسول للناس جميعا، أبلغكم ما أرسلت به، فمن أطاعني فذلك السعيد عند الله، وإن كان فقيرا.
ولما تغلب نوح عليه السلام على قومه بالحجة العقلية والمنطق الصريح، لجؤوا إلى التهديد شأن كل العتاة، فقالوا: قالُوا: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ أي لئن لم تنته عن سب آلهتنا وعيب ديننا لنقتلنك بالحجارة، أو لنسبنك ونشتمنك. قال الثّماليّ: كل «مرجومين» في القرآن فهو القتل إلا في مريم: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ [١٩/ ٤٦].
وبعد أن يئس من إيمانهم، دعا عليهم بالعذاب، طالبا حكم الله العدل فيهم، فأنجاه ومن معه من المؤمنين في السفينة المملوءة بالناس والدواب وغير ذلك، ثم أغرقهم الله أجمعين.
إن في ذلك لآية وأي آية، وعبرة وعظة، وكان أكثرهم كافرين، والله هو القادر المنتقم من كل مكذّب بالله ورسله، رحيم بمن آمن وأطاع.
189
وهاتان الآيتان الواردتان للعبرة والعظة هما اللتان ختمت بهما قصة إبراهيم عليه السلام لأنهما بيت القصيد من القصة.
القصة الرابعة قصة هود عليه السلام مع قومه
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٢٣ الى ١٤٠]
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧)
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢)
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧)
وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠)
الإعراب:
تَعْبَثُونَ الجملة حال من ضمير: تَبْنُونَ.
المفردات اللغوية:
كَذَّبَتْ عادٌ أنثه باعتبار القبيلة، وهو في الأصل اسم أبي القبيلة الأكبر، ويعبر عن القبيلة عادة باسم الأب، أو ببني فلان. رِيعٍ مكان مرتفع آيَةً علامة أو علما بارزا
190
للمارة تَعْبَثُونَ تفعلون ما لا فائدة فيه أصلا، كاللعب مَصانِعَ مجامع الماء ومآخذه، وقيل:
قصورا مشيدة وحصونا لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ أي كأنكم تخلدون فيها لا تموتون، ولعل هنا: للتشبيه وَإِذا بَطَشْتُمْ بضرب أو قتل، والبطش: الأخذ بالعنف جَبَّارِينَ متسلطين عاتين بلا رأفة ولا شفقة، ولا قصد تأديب فَاتَّقُوا اللَّهَ بترك هذه الأشياء وَأَطِيعُونِ فيما أدعوكم إليه فإنه أنفع لكم.
أَمَدَّكُمْ أنعم عليكم أو سخر لكم أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ كرره للتأكيد والتنبيه على دوام الإمداد، والوعيد على تركه بالانقطاع عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ في الدنيا والآخرة، فإنه كما قدر على الإنعام، قدر على الانتقام سَواءٌ عَلَيْنا مستو عندنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ أصلا، أي لا نرعوي لوعظك عما نحن عليه. والوعظ: كلام لطيف يلين القلب بذكر الوعد والوعيد.
إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ أي ما هذا الذي خوفتنا به إلا خلق المتقدمين وكذب الأولين وعادتهم وطبيعتهم ونحن بهم مقتدون، فلا حساب ولا بعث، والمراد: عادتهم في اعتقاد ألا بعث وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ على ما نحن عليه فَكَذَّبُوهُ بالعذاب فَأَهْلَكْناهُمْ بسبب التكذيب في الدنيا بريح صرصر.
المناسبة:
هذه قصة أخرى للعظة والعبرة، هي قصة هود عليه السلام الذي دعا قومه إلى توحيد الله وطاعته، وحذرهم من عقابه، وهم في الزمان بعد قوم نوح، كما قال تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ، وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً [الأعراف ٧/ ٦٩] وكانوا يسكنون الأحقاف: وهي جبال الرمل قرب حضرموت في بلاد اليمن. وكانوا أولي طول مديد وبأس وشدة، ورخاء ونعيم، بسبب كثرة الأرزاق والأموال والأنهار والزروع والثمار، لكنهم مع ذلك كانوا يعبدون غير الله تعالى، وكذبوا نبيهم هودا عليه السلام، فأهلكهم.
التفسير والبيان:
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ: أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ
191
أي كذبت قبيلة عاد رسالة الرسل المرسلين من عند الله، حين قال لهم هود عليه السلام: ألا تتقون الله، وتخافون عذابه، إني لكم رسول أمين على رسالتي التي هي من عند الله، فاتقوا الله فيما أمر ونهى، وأطيعوني فيما آمركم وأنهاكم عنه، يصلح حالكم، وتسعدون في دنياكم وأخراكم، ولا أطلب منكم على تبليغ رسالتي أجرا ولا مالا، ولا أبتغي بذلك سلطانا ولا جاها، إن أجري وجزائي إلا على ربي لو علمتم ذلك، ولكنهم كذبوه وآذوه.
وهذه المقالة بعينها جاءت على لسان نوح وهود وصالح ولوط وشعيب للتنبيه على وحدة رسالة الأنبياء الداعية إلى توحيد الله وطاعته، وترك عبادة ما سواه.
ثم تكلم معهم هود عليه السلام على ثلاثة أمور:
١- أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ أي أتعمرون في كل مكان مرتفع بنيانا محكما هائلا باهرا، يكون علامة على القوة والعزة والغنى تفاخرا، وإنما تفعلون ذلك عبثا لمجرد اللعب واللهو وإظهار القوة، لا للحاجة إليه، لذا أنكر عليهم لأنه تضييع للزمان، وإتعاب الأبدان في غير فائدة، واشتغال بما لا يجدي في الدنيا ولا في الآخرة.
٢- وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ أي وتتخذون قصورا مشيدة وحصونا، لكي تقيموا فيها أبدا، كأنكم مخلدون في الدنيا، أو ترجون الخلد في الدنيا، مع أنكم زائلون عنها، كما زال من كان قبلكم. وقيل: المصانع: مآخذ الماء.
روى ابن أبي حاتم رحمه الله أن أبا الدرداء رضي الله عنه، لما رأى ما أحدث المسلمون في غوطة دمشق من البنيان ونصب الشجر، قام في مسجدهم، فنادى:
يا أهل دمشق، فاجتمعوا إليه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ألا تستحيون،
192
ألا تستحيون؟ تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون، وتأملون ما لا تدركون، إنه قد كانت قبلكم قرون يجمعون فيوعون، ويبنون فيوثّقون، ويأملون فيطيلون، فأصبح أملهم غرورا، وأصبح جمعهم بورا، وأصبحت مساكنهم قبورا، ألا إن عادا ملكت ما بين عدن وعمّان خيلا وركابا، فمن يشتري مني ميراث عاد بدرهمين؟! ٣- وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ أي إنكم مع ذلك السرف والحرص، تعاملون غيركم معاملة الجبارين لأنكم قوم قساة غلاظ عتاة متجبرون.
والخلاصة: أن اتخاذ الأبنية العالية يدل على حب العلو، واتخاذ المصانع يدل على حب البقاء، والجبارية تدل على حب التفرد بالعلو، فهم أحبوا العلو وبقاء العلو والتفرد بالعلو، وهذه صفات الإله، وهي ممتنعة الوصف للعبد، فدل ذلك على حب الدنيا، والخروج عن حد العبودية، والحوم حول ادعاء الربوبية.
وفي هذا تنبيه على أن حب الدنيا رأس كل خطيئة، وعنوان كل كفر ومعصية، لذا قال:
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ أي فاحذروا عقاب الله، واعبدوا ربكم، وأطيعوا رسولكم، فذلك أدوم لكم وأنفع، إذ لا خلود لأحد في هذه الدنيا.
ثم ذكّرهم نعم الله عليهم تفصيلا، فقال:
وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ، أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ، وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ أي اتقوا عقاب الله الذي أمدكم بنعم وفيرة، ورزقكم أنواع الحيوانات المأكولة والأولاد الكثيرة، والبساتين الغنّاء والأنهار العذبة الفياضة، فاجعلوا مقابل هذه النعم عبادة الله الذي أنعم بها.
193
إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي إني أخشى عليكم إن كذبتم وخالفتم وأصررتم على الكفر عذاب يوم شديد الأهوال.
وقد دل هذا على أنه دعاهم إلى الإيمان بالله بالحسنى وبالترغيب والترهيب، والتخويف والبيان، بما هو النهاية في ذلك، فكان جوابهم:
قالُوا: سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ أي يستوي عندنا وعظك لنا وتحذيرك إيانا، وعدم وعظك أصلا، فإنا لا نرجع عما نحن عليه، كقوله تعالى: وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ، وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [هود ١١/ ٥٣]. وقال الله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة ٢/ ٦]. وذريعتهم في عدم إيمانهم هي:
إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ، وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أي ما جئت به اختلاق الأولين وافتراؤهم وكذبهم، كما قالوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أو ما هذا الدين الذي نحن عليه إلا دين الأولين من الآباء والأجداد، ونحن تابعون لهم، سالكون سبيلهم، نعيش كما عاشوا، ونموت كما ماتوا، ولا بعث ولا معاد، ولا ثواب ولا عقاب ولا حساب، ولا جنة ولا نار، وما نحن بمعذّبين أبدا لأنه ليس الأمر كما تقول.
فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ أي فكانت النتيجة أنهم كذبوا هودا عليه السلام فيما أتى به، واستمروا على تكذيبه ومخالفته وعناده، فأهلكهم الله بريح صرصر عاتية، أي ريح شديدة الهبوب ذات برد شديد جدا، فكان سبب إهلاكهم من جنس عملهم، فإنهم كانوا أعتى شيء وأجبره، فسلط الله عليهم ما هو أعتى منهم وأشد قوة، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ، إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ [الفجر ٨٩/ ٦- ٧] وهم عاد الأولى، كما قال تعالى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى [النجم ٥٣/ ٥٠] وهم من نسل إرم بن سام بن نوح، وذات العماد: الذين كانوا
194
يسكنون العمد، وليست إرم بلدا. وقال تعالى: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَقالُوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً، وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ [فصلت ٤١/ ١٥]. وقد حصبت الريح كل شيء لهم كما قال تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها [الأحقاف ٤٦/ ٢٥].
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي إن في إهلاك عاد بسبب تكذيبها رسولها لعبرة لكل الأقوام فيما أتيتهم به من رسالة الله، وما كان أكثر هؤلاء المهلكين بمؤمنين في سابق علمنا، وإن ربك لهو المنتقم من أعدائه، الرحيم بالمؤمنين من عباده إن تابوا وأصلحوا.
فقه الحياة أو الأحكام:
تبين من هذه القصة ما يلي:
١- لقد كان موقف هود عليه السلام من قومه موقف الحكيم الحليم المتلطف بهم، فبالرغم من أنهم وصفوه بالسفاهة والجنون، ترفّع عن اتهامهم، واكتفى بالقول: قالَ: يا قَوْمِ، لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ، وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الأعراف ٧/ ٦٧].
٢- إن أسلوب الداعية يجب أن يكون لطيفا دون تنفير، فقد سلك هود عليه السلام هذا الأسلوب، فذكّر قومه بالنعم التي أنعم الله بها عليهم، وحثهم على شكرها، والإيمان بالله المنعم كفاء ما أنعم، فهو الذي يجب أن يعبد ويشكر ولا يكفر.
٣- إن التجبر أو العتو أو الطغيان لا يأتي بخير، وكل من ظن أن جبروته يحقق له كل ما يريد فهو غرّ جاهل، فهؤلاء قبيلة عاد الأولى توافرت لهم القوة البدنية الفائقة، والطول المديد، والنعمة السابغة، من الأموال والبساتين
195
والأنهار، والحصون المشيدة والمباني الضخمة والزروع والثمار، ولكنهم لما طغوا وبغوا، وعاملوا الناس معاملة الجبابرة، وأصروا على كفرهم وعنادهم، عاقبهم الله بما هو أشد من جبروتهم، وأرسل عليهم ريحا باردة عاتية، فدمرت كل شيء لهم إذ أين قوة البشر من قوة الله وقدرته؟! ٤- إذا استولى الكفر والعناد والكبرياء على قلب الإنسان، لم يبق أمل في نفوذ هداية الله إليه، ولم يعد يحسّ فيه بتقوى الله، ولا يقدّر وجوب طاعته:
قالُوا: سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ.
٥- يعتمد عبدة الأوثان في اعتقادهم وعبادتهم على ما توارثوه عن الأسلاف، ويسيطر الفكر المادي على أذهانهم، فينظرون إلى الحياة نظرة المتمتع المترفه فيها، ثم يرتحل عنها: حياة ثم موت، ولا بعث.
٦- يرى المتأمل كيف أهلك الله من كذّب رسوله، فليحذر الناس في كل زمان ومكان من عصيان الرسل وتكذيبهم، ولكن مع الأسف لا يتعظ أكثر الناس بهذا، ويبقون في كفرهم وعدم إيمانهم، ويهملون النظر إلى قدرة الله القادر على الانتقام من كل أحد.
القصة الخامسة قصة صالح عليه السلام مع قومه
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٤١ الى ١٥٩]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥)
أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠)
وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥)
وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩)
196
الإعراب:
فارِهِينَ حال من واو تَنْحِتُونَ.
هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ شِرْبٌ مرفوع بالظرف، على مذهب سيبويه والأخفش لأنه قد جرى وصفا على النكرة، والظرف إذا وقع وصفا ارتفع به ما بعده، كالفعل.
البلاغة:
وَأَطِيعُونِ استعار الطاعة التي هي انقياد الآمر لامتثال الأمر.
يُفْسِدُونَ وَلا يُصْلِحُونَ بينهما طباق.
الْمُرْسَلِينَ تَتَّقُونَ أَمِينٌ أَطِيعُونِ الْعالَمِينَ عُيُونٍ توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات، وكذلك هَضِيمٌ مَعْلُومٍ عَظِيمٍ الرَّحِيمُ.
إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مبالغة لأن المسحّر مبالغة عن المسحور.
المفردات اللغوية:
إِنْ أَجْرِيَ ما أجري أَتُتْرَكُونَ إما إنكار لأن يتركوا مخلدين في نعيمهم، وإما تذكير بالنعمة في تخلية الله إياهم فِي ما هاهُنا من الخيرات والنعيم طَلْعُها أول ما يطلع من ثمر النخل، وما يأتي بعده يسمى خلالا، ثم بلحا، ثم بسرا، ثم رطبا، ثم تمرا هَضِيمٌ نضيج لطيف
197
لين وَتَنْحِتُونَ النحت: النّجر والبري والتسوية فارِهِينَ بطرين، من الفره: وهو شدة الفرح، أو حاذقين بنحتها من الفراهة: وهي النشاط، فإن الحاذق يعمل بنشاط وطيب قلب، وقرئ: فرهين، أي بطرين وهو أبلغ وَأَطِيعُونِ فيما أمرتكم به الْمُسْرِفِينَ العاصين يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالمعاصي وَلا يُصْلِحُونَ بطاعة الله، وأتى به لبيان أن فسادهم فساد خالص ليس معه شيء من الصلاح. الْمُسَحَّرِينَ المغلوب على عقولهم بكثرة السحر مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك الرسالة شِرْبٌ نصيب من الماء عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ عظم اليوم لعظم ما يحل فيه، وهو أبلغ من تعظيم العذاب فَعَقَرُوها رموها بسهم ثم قتلوها، وأسند العقر إلى كلهم لأن عاقرها إنما عقر برضاهم، ولذلك عذبوا جميعا نادِمِينَ على عقرها خوفا من حلول العذاب، لا توبة من ذنوبهم، أو عند حلول العذاب، ولذلك لم ينفعهم فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ الموعود به، فهلكوا.
وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ قال البيضاوي: في نفي الإيمان عن أكثرهم في هذا المعرض إيماء بأنه لو آمن أكثرهم أو شطرهم، لما أخذوا بالعذاب، وإن قريشا إنما عصموا من مثله ببركة من آمن منهم.
المناسبة:
لما قص الله على رسوله قصة هود عليه السلام وعاد، أتبعه بقصة صالح عليه السلام وثمود، وقد كانوا عربا مثل عاد، يسكنون مدينة الحجر التي بين وادي القرى والشام أي على طريق المدينة، ومساكنهم معروفة مشهورة، كانت قريش في رحلة الصيف يمرون عليها، وهم ذاهبون إلى الشام، ومرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بهم حين أراد غزو الشام، فوصل إلى تبوك ليتأهب لذلك. وكانوا بعد عاد وقبل الخليل عليه السلام.
دعاهم نبيهم صالح إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأن يطيعوه فيما بلّغهم من الرسالة، فأبوا عليه وكذّبوه وخالفوه، فأخذهم عذاب الزلزلة، فزلزلت بهم الأرض، ولم تبق منهم أحدا، كما قال تعالى: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [الحاقة ٦٩/ ٥].
198
التفسير والبيان:
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ قد عرفنا أن هذه المقالة مشابهة لما سبقها من مقالة نوح وهود عليهما السلام.
والمعنى: أن قبيلة ثمود كذبت برسالة نبيهم صالح عليه السلام حين قال لهم: ألا تتقون عقاب الله، فتؤمنوا به وتوحدوه وتعبدوه، وتطيعوني فيما بلغتكم من الرسالة، فإني رسول من عند الله تعالى، أمين على رسالته التي أرسلها معي إليكم، ولا أطلب على نصحي وتبليغي عوضا ولا جزاء، فما جزائي إلا على الله الذي أرسلني، وهو يتولاني في الدنيا والآخرة.
ثم وعظهم، وحذرهم نقم الله أن تحل بهم، وذكّرهم بأنعم الله عليهم فيما رزقهم من الطيبات، وفجّر لهم العيون والأنهار، وأنبت لهم الزروع والثمرات، وجعلهم في أمن من المحذورات، فقال مخاطبا لهم بأمور ثلاثة:
١- أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ، فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ؟ أي أتظنون أنكم في الدنيا مخلّدون في النعيم، وأنكم تتركون في دياركم آمنين، متمتعين في الجنات والعيون، والنخيل ذات الرطب الهضيم اللين اللطيف، والزروع والثمار، وتطمعون في ذلك، وتظنون ألا دار للجزاء على الأعمال؟ لا يعقل أن تبقوا على الشرك والكفر، وأنتم ترفلون في هذه النعم، وتتمتعون بهذه الخيرات.
وقوله: فِي ما هاهُنا آمِنِينَ أي في الذي استقر في هذا المكان من النعيم، ثم فصّله وفسره بقوله:
199
٢- وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ أي وتتخذون بيوتا في الجبال حاذقين في نحتها وبنائها، بطرين فرحين أشرين بها، متنافسين في عمارتها، من غير حاجة إلى السكنى فيها. فاتقوا الله حق التقوى، وأقبلوا على ما ينفعكم في الدنيا والآخرة، من عبادة ربكم الذي خلقكم ورزقكم.
ويلاحظ أن الغالب على قوم هود الذين تقدم وصفهم هو اللذات المعنوية وهي طلب الاستعلاء والبقاء والتفرد والتجبر، والغالب على قوم صالح هو اللذات الحسية المادية، وهي طلب المأكول والمشروب والمساكن الطيبة الحصينة.
٣- وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ، الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ أي ولا تطيعوا أمر الذين أسرفوا على أنفسهم بالمعاصي وارتكاب الخطايا والترف والمجون، وهم كبراؤهم ورؤساؤهم الدعاة لهم إلى الشرك والكفر ومخالفة الحق، وهم الرهط التسعة في أرض ثمود المشار إليهم في آية أخرى: وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ، يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، وَلا يُصْلِحُونَ
[النمل ٢٧/ ٤٩]. وإنما قال وَلا يُصْلِحُونَ بعد قوله يُفْسِدُونَ لبيان أن فسادهم خالص، ليس معه شيء من الصلاح، على عكس حال بعض المفسدين المخلوطة أعمالهم ببعض الصلاح.
فأجابوا نبيهم صالحا عليه السلام حين دعاهم إلى عبادة ربهم عز وجل بقولهم: قالُوا: إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ أي قال قومه: ثمود، الذي يغلب على الظن أنك أصبحت من المغلوب على عقولهم بكثرة السحر، وصرت من المسحورين، أي إنك في قولك هذا مسحور لا عقل لك، فلا يسمع لرأيك ولا لنصحك.
ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا، فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي إنك بشر مثلنا، فكيف أوحي إليك دوننا، وتكون نبيا لنا؟ كما قالوا في آية أخرى:
200
أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا؟ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ، سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ [القمر ٥٤/ ٢٥- ٢٦]. وهذا بمنزلة ما كانوا يذكرون في الأنبياء أنهم لو كانوا صادقين، لكانوا من جنس الملائكة.
ثم اقترحوا عليه آية يأتيهم بها ليعلموا صدقه بما جاءهم به من ربهم، وهو أن يخرج لهم الآن من هذه الصخرة ناقة عشراء (حامل لعشرة أشهر) صفتها كذا وكذا، فما كان منه إلا أن أخذ عليهم نبي الله صالح العهود والمواثيق: لئن أجابهم إلى ما سألوا ليؤمنن به وليتبعنه، فأعطوه ذلك، فقام نبي الله صالح عليه السلام، فصلى، ثم دعا الله عز وجل أن يجيبهم إلى سؤالهم، فانفطرت تلك الصخرة التي أشاروا إليها عن ناقة عشراء، على الصفة التي وصفوها، فآمن بعضهم، وكفر أكثرهم. «١»
قالَ: هذِهِ ناقَةٌ، لَها شِرْبٌ، وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ أي إن النبي صالح عليه السلام قال مجيبا طلبهم إرسال آية تكون دليلا على صدقه: الدليل هو ناقة الله هذه، فهي الآية والمعجزة الدالة على صدقي، ترد ماءكم يوما، ويوما تردونه أنتم.
وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي وإياكم أن تصيبوها بأذى من ضرب أو قتل أو غير ذلك، فيصيبكم عذاب شديد. وقد عظم اليوم لحلول العذاب فيه، ووصف اليوم بالعظم أبلغ من وصف العذاب لأن الوقت إذا عظم بسبب العذاب، كان موقعه من العظم أشد.
فَعَقَرُوها، فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ، فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ أي ذبحوا الناقة، ثم ندموا على فعلهم عند معاينة العذاب، أي حين علموا أن العذاب نازل بهم، فنالهم
(١) تفسير ابن كثير: ٣/ ٣٤٤، تفسير القرطبي: ١٣/ ١٣٠، وهذا مرويّ عن ابن عباس، وربما كان الأمر محتاجا إلى رواية موثقة ثابتة السند ليجب علينا الاعتقاد بذلك. [.....]
201
عذاب الله وهو أن أرضهم زلزلت زلزالا شديدا، وجاءتهم صيحة عظيمة اقتلعت القلوب من محالها، وأتاهم من الأمر ما لم يكونوا يحتسبون، وأصبحوا في ديارهم جاثمين.
والذي حدث أن الناقة مكثت لديهم حينا من الزمان، ترد الماء، وتأكل الورق والمرعى، وينتفعون بلبنها، يحلبون منها ما يكفيهم شربا وريا، فلما طال عليهم الأمد، وحضر أشقاهم، تمالؤوا على قتلها وعقرها. روي أن مسطعا ألجأها إلى مضيق في شعب، فرماها بسهم، فأصاب رجلها، فسقطت، ثم ضربها قدار.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً، وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي إن في ذلك المذكور من قصة صالح عليه السلام، وتكذيب قومه ثمود لرسالته، واعتدائهم على معجزة الناقة لآية وعبرة وعظة، وأي آية أعظم من هذا؟ إنهم كذبوا رسولهم فلم يؤمنوا به، واغتروا بما لهم ومتعتهم الدنيوية، واعتدوا على الناقة، فنزل بهم العذاب، ولم يكن أكثرهم مؤمنين بالله ورسله، وإن ربك لهو المنتقم من أعدائه، الرحيم بأوليائه المؤمنين إن تابوا وأنابوا إليه.
وهذه الخاتمة بذاتها هي خاتمة قصة نوح وهود لأن القصد منها واحد، وهو العظة والاعتبار بحال المكذبين.
يقال: إنه ما آمن به من تلك الأمم إلا ألفان وثمان مائة رجل وامرأة.
فقه الحياة أو الأحكام:
كانت قبيلة ثمود تسكن في الحجر «١» وهي ذوات نخل وزروع ومياه، ومبان جبلية شاهقة فخمة، وكانوا معمّرين لا يبقى البنيان مع أعمارهم، إلا أنهم اغتروا بمالهم وجاههم، فكذبوا رسولهم صالحا عليه السلام، فقرعهم ووبخهم، وقال:
أتظنون أنكم باقون في الدنيا بلا موت؟.
(١) الحجر: واد بين المدينة والشام.
202
وأمرهم بتقوى الله عز وجل وهي امتثال أمره واجتناب نهيه، وحذرهم من إطاعة أمر كبرائهم ورؤسائهم الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
فاتهموه بأنه مسحور لا عقل له، ونفوا عنه الرسالة لأنه بشر مثلهم فكيف يوحى إليه دونهم، ويكون نبيا غيرهم؟ ثم طالبوه بالإتيان بمعجزة حسية تدل على صدقه، فأيده الله بالناقة العظيمة التي لا مثيل لها، فكانت تشرب ماء نهير صغير كله في يوم، ثم تدرّ لهم الحليب، فيحلبون منها ما شاؤوا في اليوم التالي.
ولكن أبطرتهم النعمة، وأساؤوا إلى أنفسهم، وتواطؤوا على عقرها، حبّا في الإساءة ذاتها، فعقرها رجل منهم اسمه «قدار» ثم ندموا على عقرها لما أيقنوا بالعذاب، ولكن لم ينفعهم الندم عند معاينة العذاب، كما قال تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ: إِنِّي تُبْتُ الْآنَ... [النساء ٤/ ١٨] فأهلكهم الله بالزلزلة والصيحة بسوء فعلهم وقبح كفرهم.
القصة السادسة قصة لوط عليه السلام مع قومه
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٦٠ الى ١٧٥]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤)
أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩)
فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥)
203
الإعراب:
نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ على حذف مضاف، أي عقوبة ما يعملون من الفاحشة، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
البلاغة:
أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ استفهام إنكار وتقريع وتوبيخ.
قالَ مِنَ الْقالِينَ جناس ناقص، الأول من القول، والثاني من القلى مصدر قلى:
أبغض بغضا شديدا.
المفردات اللغوية:
أَخُوهُمْ الذي يعايشهم في السكن والبلد، لا في الدين والنسب لأنه ابن أخي إبراهيم من أرض بابل الذُّكْرانَ الذكور مِنَ الْعالَمِينَ من الناس لَكُمْ لأجل استمتاعكم مِنْ أَزْواجِكُمْ أي أقبالهن عادُونَ متجاوزون الحدود الشرعية والعقلية والفطرية السليمة من الحلال إلى الحرام لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ عن إنكارك علينا مِنَ الْمُخْرَجِينَ المطرودين المنفيين من بلدنا الْقالِينَ المبغضين لفعلكم غاية البغض أو أشد البغض مِمَّا يَعْمَلُونَ أي من عذاب أو عقوبة أو شؤم عملهم.
وَأَهْلَهُ أي أهل بيته والمتبعين له على دينه، أخرجه الله من بينهم وقت حلول العذاب بهم إِلَّا عَجُوزاً هي امرأة لوط فِي الْغابِرِينَ الباقين في العذاب، أصابها حجر في الطريق فأهلكها لأنها كانت مائلة إلى القوم، راضية بفعلهم، وقيل: كانت فيمن بقي في القرية، فإنها لم تخرج مع لوط دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ أهلكناهم أشد إهلاك وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً قيل: أمطر الله عليهم حجارة، فأهلكهم فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ مطرهم، واللام فيه للجنس، حتى يصح وقوع المضاف إليه فاعل (ساء) والمخصوص بالذم محذوف، وهو مطرهم.
204
المناسبة:
هذه قصة أخرى كسابقاتها للعبرة والعظة، هي قصة لوط بن هاران بن آزر، وهو ابن أخي إبراهيم الخليل عليه السلام، بعثه الله تعالى إلى أمة عظيمة في عهد إبراهيم، تسكن من قطاع الأردن سدوم وأعمالها التي أهلكها الله وهي عمورة وثلاثة مدن أخرى، وجعل مكانها بلاد الغور المتاخمة لجبال بيت المقدس، والمحاذية لبلاد وجبال الكرك والشوبك، والمجاورة للبحر الميت «بحيرة لوط» فدعاهم إلى عبادة الله عز وجل وحده، لا شريك له، وأن يطيعوا رسولهم الذي بعثه الله إليهم، ونهاهم عن معصية الله، وارتكاب ما ابتدعوه من الفواحش، مما لم يسبقهم إليه أحد من العالمين، من إتيان الذكور دون الإناث.
التفسير والبيان:
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ: أَلا تَتَّقُونَ؟ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أي إن قوم لوط كذبوا نبيهم المرسل إليهم ومن كذّب رسولا فقد كذب جميع المرسلين، حين قال لهم لوط عليه السلام: ألا تتقون عذاب الله بترك معاصيه، فإني رسول لكم مؤتمن على تبليغ رسالته، فاتقوا الله بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، وأطيعوني فيما آمركم به من عبادة الله وحده، وإتيان النساء بالزواج وما أنهاكم عنه من ارتكاب الفواحش، ولا أطلب منكم أجرا أو جزاء على تبليغ رسالتي، فما جزائي إلا على الله رب الإنس والجن وجميع العوالم في الأرض والسماء.
ثم وبخهم وقرعهم وأنكر عليهم ظاهرة الفحش الشنيعة قائلا: أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ، وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ أي كيف تقدمون على شيء شاذ جدا، أترتكبون هذه المعصية الشنيعة؟ وهو إتيان
205
الذكور من الناس، وهو كناية عن وطء الرجال، وكانوا يفعلون ذلك بالغرباء، وسماه الله تعالى فاحشة، فقال: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ [الأعراف ٧/ ٨٠] وتتركون إتيان نسائكم اللاتي جعلهن الله للاستمتاع الطبيعي بهن، كما قال تعالى: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة ٢/ ٢٢٢].
بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ أي لكن أنتم قوم متجاوزون الحد في الظلم وفي جميع المعاصي، ومنها هذه الفعلة الشنيعة.
وقوله: بَلْ إضراب، بمعنى الانتقال من شيء إلى شيء، لا أنه إبطال لما سبق من الإنكار عليهم وتقبيح أفعالهم. والمراد: بل أنتم أحق بأن توصفوا بالعدوان، حيث ارتكبتم مثل هذه الفاحشة.
ولما نهاهم عن هذا الفعل القبيح توعدوه وهددوه:
قالُوا: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ أي قال قوم لوط له:
لئن لم تنته عن دعواك النبوة، وعن الإنكار علينا فيما نأتيه من الذكور، وهو ما جئتنا به، لنطردنك وننفينك من هذه البلدة التي نشأت فيها، ونبعدنك من بيننا، كما أبعدنا من نهانا قبلك، كما قال تعالى: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا: أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ، إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ [النمل ٢٧/ ٥٦].
فأجابهم بأن إبعاده لا يمنعه من الإنكار عليهم والتبرؤ منهم لما رأى أنهم لا يرتدعون عما هم فيه، وأنهم مستمرون على ضلالتهم، فقال:
إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ أي إني من المبغضين بغضا شديدا لعملكم، فلا أرضاه ولا أحبه، وإني بريء منكم، وإن هددتموني وأوعدتموني بالطرد. وكونه بعض القالين يدل على أنه يبغض هذا الفعل ناس غيره، هو بعضهم، وقوله:
مِنَ الْقالِينَ أبلغ من أن يقول: إني لعملكم قال.
206
وفيه تنبيه على أن هذا الفعل موجب للبغض، حتى يبغضه الناس.
ثم دعا الله بإنجائه من سوء فعلهم قائلا:
رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ أي يا ربّ، خلّصني من عقوبة ما يعملون من المعاصي، ونجني من شؤم أعمالهم.
والخلاصة: أنهم لما توعدوه بالإخراج، أخبرهم ببغض عملهم، ثم دعا ربّه بالنجاة من سوء فعلهم. فأجاب الله دعاءه:
فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ أي فنجيناه وأهل بيته ومن آمن به جميعا ليلا من عقوبة عملهم ومعاصيهم، إلا امرأة عجوزا هي امرأته، وكانت عجوز سوء لم تؤمن بدين لوط، بقيت مع القوم ولم تخرج، فهلكت، كما قال سبحانه: إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ [هود ١١/ ٨١] لأنها كانت راضية بسوء أفعالهم، وتنقل إليهم الأخبار.
ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ، وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً، فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ أي ثم أهلكنا القوم الآخرين الباقين الذين انغمسوا في المنكرات، وكفروا بالله الذي خلقهم، ولم يؤمنوا برسله، وأنزلنا عليهم العذاب الذي عمّ جميعهم، وأمطرنا عليهم حجارة من سجّيل منضود، فبئس هذا المطر مطر المهلكين المنذرين بالهلاك. قال قتادة: أمطر الله على شذاذ القوم حجارة من السماء فأهلكهم.
وقال مقاتل: خسف الله بقوم لوط، وأرسل الحجارة على من كان خارجا من القرية، ولم يكن فيها مؤمن إلا بيت لوط. وقال وهب بن منبّه: أنزل الله عليهم الكبريت والنار، أي فجر الله فيها البراكين النارية. والْمُنْذَرِينَ لم يرد بهم قوما بأعيانهم، إنما هو للجنس، والمخصوص بالذم محذوف وهو مطرهم.
والخلاصة: أن عقابهم كان زلزالا شديدا جعل بلادهم عاليها سافلها، وكان
207
مصحوبا بكبريت ونار وحجارة من السماء، فأحرقت قراهم، كما قال تعالى:
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها، وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [هود ١١/ ٨٢] فالعقوبة: هي الزلزال والبركان.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً، وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وهذه هي العبرة والخاتمة التي ختمت بها القصة، كما ختمت بها قصص الأنبياء المتقدمين، والمعنى: إن في تلك القصة لعبرة وعظة لكل متأمل، حيث أهلك الله العصاة الموغلين في المعصية، وهم اللوطيون، ونجى المؤمنين الصالحين الذين أنكروا تلك الفاحشة، وكانت امرأة لوط من الهالكين لتواطؤها مع قومها، ومحبتها فعلهم، ولم تنفعها صلتها بالنبي لوط عليه السلام لأن لكل امرئ ما اكتسب من الإثم، وما كان أكثر هؤلاء القوم بمؤمنين، بل كانوا وإن ربك لهو المنتقم من أعدائه، الرحيم بأوليائه المؤمنين التائبين.
فقه الحياة أو الأحكام:
إن الكفر بالله تعالى ورسله، والشذوذ الجنسي (اللواط) وترك الاستمتاع الطبيعي الحلال من طريق الزواج بالنساء، مدعاة للانتقام الإلهي، والعقاب الشديد في الدنيا والآخرة.
ومهمة النبي لوط عليه السلام كانت صعبة جدا في علاج هذا الأمر المتأصل المستعصي في قومه، فأنكر عليهم أشد الإيمان، ووبّخهم أشد التوبيخ، ووصفهم بأنهم قوم موغلون في العدوان وتجاوز حدود الله، وأعلن بغضه الشديد لعملهم، بالرغم من تهديدهم له بالطرد والإبعاد من بلدهم.
ولما يئس لوط عليه السلام من إيمان هؤلاء القوم بالله، والتطهر من فعل الفاحشة الشنيعة، دعا ربه بأن ينجيه وأهله من عذاب عملهم، وألا يصيبه من عذابهم، وهذا يتضمن الدعاء عليهم، ولا يدعو النبي على قومه إلا بإذن من ربه.
208
فأجاب الله دعاءه، ونجاه وأهل بيته ومن آمن معه أجمعين من العقاب الأليم الذي أنزله بهم، إلا امرأته العجوز بقيت في عذاب الله تعالى.
وكان العقاب الدنيوي هو الإهلاك بالخسف والحصب، أي بالزلزال والبركان، فأمطر الله عليهم الحجارة، بأن خسف جبريل عليه السلام بقريتهم وجعل عاليها سافلها، ثم أتبعها الله بالحجارة.
إن في ذلك لآية وأي آية، والعاقل من اتعظ بغيره، ولم يكن من قوم لوط مؤمن إلا بيت لوط وابنتاه، والله قادر على الانتقام من أعدائه، وهو في الوقت نفسه رحيم بأوليائه المؤمنين.
القصة السابعة قصة شعيب عليه السلام مع قومه
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٧٦ الى ١٩١]
كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠)
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥)
وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١)
209
الإعراب:
الْأَيْكَةِ معرّف بالألف واللام، ومجرور بالإضافة، يقرأ بالهمزة وبتخفيفها، وهو الوجه ويقرأ بلام أصلية مفردة «ليكة» بالنصب: اسم بلد، على أنه ممنوع من الصرف للتعريف (العلمية) والتأنيث، ووزنه «فعلة». والواقع أن أصل: «ليكة» : الأيكة، فنقلت حركة الهمزة إلى اللام تخفيفا ثم حذفت، فاستغني عن همزة الوصل، وصارت الكلمة «ليكة». وكتبت هنا وفي سورة «ص» بغير ألف اتباعا للفظ.
البلاغة:
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ إطناب لأن وفاء الكيل نهي عن الخسران.
المفردات اللغوية:
الْأَيْكَةِ غيضة شجر كثير ناعم ملتف، قرب مدين، بعث الله إلى أهلها شعيبا عليه السلام، كما بعث إلى مدين، ولم يكن منهم نسبا، وكان أجنبيا منهم، ولذلك قال: إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ ولم يقل «أخوهم».
جاء في الحديث: «إن شعيبا أخا مدين أرسل إليهم، وإلى أصحاب الأيكة».
أَوْفُوا الْكَيْلَ أتموه مِنَ الْمُخْسِرِينَ الناقصين حقوق الناس بالتطفيف.
بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ الميزان السوي أو العدل وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ لا تنقصوهم من حقهم شيئا وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ أي لا تفسدوا أشد الإفساد بالقتل والغارة وقطع الطريق، يقال: عثا في الأرض: أفسد فيها، ومُفْسِدِينَ حال مؤكدة لمعنى عاملها وَالْجِبِلَّةَ أي ذوي الجبلة، أي الخلقة والطبيعة، يقال: جبل فلان على كذا، أي خلق، والمراد: أنهم كانوا على خلقة عظيمة الْأَوَّلِينَ من تقدمهم من الخلائق الْمُسَحَّرِينَ المغلوبين على عقولهم بكثرة السحر.
وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا أتوا بالواو للدلالة على أنه جامع بين وصفين متنافيين للرسالة، مبالغة في تكذيبه، أي المسحور البشر وَإِنْ نَظُنُّكَ إِنْ مخففة من الثقيلة، واسمها
210
محذوف، أي إنه لَمِنَ الْكاذِبِينَ في دعواك كِسَفاً جمع كسفة أي قطعة (وزنا ومعنى) والمراد قطع عذاب. الظُّلَّةِ السحابة التي أظلتهم بعد حر شديد أصابهم، فاجتمعوا تحتها، ثم أمطرتهم نارا فاحترقوا جميعا.
إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إلى قوله الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ هي مقالة الأنبياء السابقين نفسها.
المناسبة:
هذا آخر القصص السبع المذكورة في هذه السورة باختصار، تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم عما يلقاه من إعراض قومه، فيغتم ويحزن، وتهديدا للمكذبين به، وإعلاما باطراد نزول العذاب على تكذيب الأمم بعد إنذار الرسل به، واقتراحهم له استهزاء وعدم مبالاة به.
وهي قصة شعيب عليه السلام مع قومه أهل مدين: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً ومع أهل الأيكة، وهم قوم كانوا أصحاب غيضة وشجر وزرع وثمر، بعثه الله إليهم، لإصلاح الوضع الاجتماعي المتردي فيهم، وهو بخس الكيل والميزان وتطفيفه، والإفساد الشديد في الأرض، فنصحهم بإيفاء الكيل والميزان، وألا يعثوا في الأرض مفسدين، فكذبوه، فأهلكهم الله بعذاب يوم الظلة.
التفسير والبيان:
كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أي كذب أصحاب الغيضة وهي الشجر الكثير الملتفّ، وكانت قرب مدين، وقال ابن كثير: «أصحاب الأيكة: هم أصحاب مدين على الصحيح» «١». كذبوا رسولهم الذي بعث إليهم، وهو شعيب عليه السلام.
(١) تفسير ابن كثير: ٣/ ٣٤٥.
211
كذبوه حين قال لهم شعيب: ألا تتقون عذاب الله؟! بالإيمان به وبرسوله وبالامتناع عن معاصيه. ولم يقل «أخوهم شعيب» لأنه كما يرى الزمخشري والبيضاوي والرازي لم يكن منهم نسبا. ورأى ابن كثير أنه تعالى قطع نسب الأخوة بينه وبينهم، للمعنى الذي نسب إليهم وهو عبادة الأيكة وهي شجرة، وإن كان أخاهم نسبا.
وحثهم بإخلاص على اتباع رسالته مطمئنا لهم بصراحة أنه رسول إليهم مرسل من عند الله، أمين على تبليغ الرسالة بكاملها، فاتقوا الله وخافوه بامتثال أمره واجتناب نهيه، وأطيعوني فيما آمركم به وأنهاكم عنه، وما أطلب منكم أجرا وجزاء ماديا أو معنويا كجاه أو سلطان أو رياسة على تبليغي الرسالة، فما جزائي إلا على الله الذي أرسلني إليكم.
نصحهم بهذه النصائح الأساسية في رسالته، ثم أمرهم بأشياء قائلا:
١- إيفاء الكيل والميزان: أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ أي إذا بعتم فأتموا الكيل والميزان، ولا تكونوا ممن ينتقص الناس حقوقهم، وإذا اشتريتم فلا تزيدوا في الوزن والكيل طمعا بأموال الناس، كما لو بعتم، أي أن الواجب يقتضي المساواة في الأخذ والعطاء، فخذوا كما تعطون، وأعطوا كما تأخذون.
وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ أي وزنوا بالميزان العادل السوي، ونظير الآية قوله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ [المطففين ٨٣/ ١- ٤] فهذا نهي عن التطفيف في الكيل والوزن، يشمل المساواة في الأخذ والعطاء والبيع والشراء.
ثم نهاهم عن الظلم والبخس نهيا عاما في كل حق فقال:
212
٢- عدم إنقاص الحقوق: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ أي ولا تنقصوهم أموالهم أو حقوقهم في أي شيء مكيل أو موزون، مذروع أو معدود، فشمل كل المقادير، وأوجب العدل في المقاييس عامة، كيلا أو وزنا أو مساحة أو قدرا، كذلك شمل حقوقهم الأدبية والمعنوية كالحفاظ على الكرامة والعرض، قال الرازي: وهذا عام في كل حق يثبت لأحد ألا يهضم، وفي كل ملك ألا يغصب مالكه، ولا يتصرف فيه إلا بإذنه تصرفا شرعيا. ثم نهاهم عن الإفساد في الأرض بجميع أنواعه فقال:
٣- عدم الإفساد: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ أي ولا تفسدوا أشد الإفساد في الأرض كقطع الطريق والغارة والنهب والسلب والقتل وإهلاك الزرع وغير ذلك من أنواع الفساد التي كانوا يفعلونها.
٤- تقوى الله: وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ أي وخافوا بأس الله الذي تفضل عليكم بخلقكم وخلق من تقدمهم من ذوي الخلقة المتقدمين، من آبائهم الذين انحدروا منهم وكانوا في الظاهر سبب وجودهم وخلقهم، ومنهم أصحاب البأس والقوة والمال كقوم هود وقوم صالح. وهذا كما قال موسى عليه السلام سابقا: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [الشعراء ٢٦/ ٢٦].
فأجابوه بالطعن في رسالته من ناحيتين، ثم بالاستخفاف بالوعيد والتهديد. أما الطعن فهو:
١- إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا أي ما أنت إلا رجل مسحور مغلوب على عقله، فلا يسمع لقولك، ولا يؤبه لنصحك. وهذا مثلما أجابت به ثمود رسولها، تشابهت قلوبهم، واتفقت منازع الكفر فيهم.
ثم قالوا له: إنك مثلنا بشر، فما الذي فضّلك علينا، وجعلك نبيا ورسولا دوننا؟!. وأتوا بالواو في قولهم وَما للتعبير عن قصدهم معنيين كلاهما مناف
213
للرسالة في تقديرهم: السحر والبشرية. وإذا تركت الواو فلم يقصدوا إلا معنى واحدا، وهو كونه مسحرا، ثم قرروا كونه بشرا مثلهم.
٢- وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ أي ويغلب على ظننا أنك ممن تعمد الكذب فيما يقول، ولست ممن أرسلك الله إلينا.
وأما الاستخفاف بالتهديد فهو:
فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي إن كنت صادقا في تهديدك ووعيدك بأننا سنعذب، فأنزل علينا قطعا من السحاب فيها نوازل العذاب. وما كان طلبهم ذلك إلا لتصميمهم على الجحود والتكذيب والعناد واستبعادهم وقوع العذاب. وبعبارة أخرى: إن كنت صادقا أنك نبي، فادع الله أن يسقط علينا كسفا من السماء. والسماء: السحاب أو المظلة.
وهذا شبيه بما قالت قريش للنبي صلّى الله عليه وسلم فيما أخبر الله عنهم في قوله تعالى:
وَقالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً إلى أن قالوا: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً، أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الإسراء:
١٧/ ٩٠- ٩٢] وقوله سبحانه: وَإِذْ قالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال ٨/ ٣٢].
وهم بهذا ظنوا أنه إذا لم يقع العذاب ظهر كذبه، فأجابهم شعيب عليه السلام: قالَ: رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ أي قال شعيب: الله ربي أعلم بعملكم، فيجازيكم عليه، إما عاجلا وإما آجلا، وأما أنا فلا قدرة لي على إنزال العذاب، فإن كنتم تستحقون ذلك جازاكم به، وهو غير ظالم لكم.
وهذا دليل على أنه لم يدع عليهم، بل فوض الأمر في التعذيب إلى الله تعالى، فلما استمروا في التكذيب أنزل الله عليهم العذاب على ما اقترحوا من عذاب يوم الظّلّة، فقال تعالى:
214
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ، إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي فلما أصروا على التكذيب واستمروا عليه، جوزوا بعذاب الظلة وهو أنهم أصيبوا بحر عظيم، أخذ بأنفاسهم، لا ينفعهم ظل ولا ماء، فاضطروا إلى الخروج إلى البرية، فأظلتهم سحابة، وجدوا لها بردا ونسيما، فاجتمعوا تحتها، فأمطرت عليهم نارا، فاحترقوا جميعا. وهذا كما حكى الله تعالى بقوله: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا: سَحابٌ مَرْكُومٌ [الطور ٥٢/ ٤٤].
إن ذلك العذاب عذاب شديد الهول، عظيم الوقع، أدى إلى الإفناء:
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً، وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي في تلك القصة البليغة لعبرة وعظة يا أهل مكة وغيركم من الكفار، تلك العبرة الدالة بوضوح على صدق الرسل، ومجيء العذاب بتوقيت الله، وما كان أكثر قوم شعيب بمؤمنين.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي وإن الله ربك يا محمد لهو القادر على الانتقام من الكافرين، الرحيم بعبادة المؤمنين.
وهذه هي الخاتمة بذاتها التي ختمت بها القصص السبع المذكورة في هذه السورة للدلالة على وجوب استنباط العظة والعبرة من كل قصة، وكلها دليل قاطع على أن القرآن كلام الله الذي يخبر وحده عن الغيب: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يوسف ١٢/ ١١١].
فقه الحياة أو الأحكام:
تكرر في المناسبة والتفسير بيان الهدف العام من هذه القصة وغيرها من القصص السابقة، وكان مجموعها في هذه السورة سبعا، فإن الله تعالى أنزل في قرآنه هذه القصص تسلية لرسوله محمد صلّى الله عليه وسلم، وإزالة للحزن عن قلبه، بسبب صدود الناس عن دعوته، وهي تسرية دائمة لكل داعية مخلص، حتى لا ييأس
215
ولا يعجز، ولا يلين ولا يقف عن السير في دعوته، فيستمر ثابت الخطا، ماضي العزم، رافع الرأس معتزا بما يقوم به.
والخلاصة: أن السبب في تشابه بداية هذه القصص وآخرها: هو التأكيد وتقرير المعاني في النفوس وتثبيتها في الصدور.
وفهم من هذه القصص أن الله هو الذي أنزل العذاب على المكذبين لرسله، وأنه إنما أنزله عليهم جزاء وفاقا على كفرهم، لا ظلما ولا تشفيا ولا ثارا، وإنما لإرساء معالم الحق، وتوطيد صرح العدل بين الخلائق.
ويلاحظ أن جميع الأنبياء متفقون على أصول الرسالات من الدعوة إلى توحيد الله، واحترام الفضائل ومحاربة الرذائل، ثم يقوم كل واحد منهم بمعالجة الظواهر المرضية، والأوضاع الشاذة عند قومه، فهذا هود عليه السلام ينكر على قومه العبث بالبناء، والطمع في الدنيا كأنهم مخلدون، والبطش بطش الجبارين وغير ذلك من النزعات المعنوية المغالية وهذا صالح عليه السلام ينكر على قومه إقامة البيوت في الجبال بطرين أشرين مستكبرين، حريصين على الملذات الحسية المادية وهذا لوط عليه السلام يستنكر الفاحشة الشنيعة وهي إتيان الذكور في أدبارهم، وترك إتيان النساء الأزواج في أقبالهن وهذا شعيب ينكر على قومه الظلم الاجتماعي بسرقة أموال الناس وإهدار حقوقهم بتطفيف الكيل والميزان، فيأمرهم بإيفاء الكيل والوزن كاملا غير زائد ولا ناقص، وبألا يبخسوا الناس أشياءهم، وألا يعثوا في الأرض فسادا، وأن يتقوا الله الذي خلقهم وخلق آباءهم العظام الأولين. ومن أنعم بهذه النعم كان هو المستحق للعبادة، لكنهم قوم ظالمون كافرون بالقيم والأخلاق الاجتماعية، مستصغرون وعيد الرسل، مستخفون بنصحهم ووعظهم.
وإنما كان جواب هؤلاء الرسل واحدا على صيغة واحدة: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ لأنهم متفقون على الأمر بالتقوى، والطاعة والإخلاص في العبادة،
216
والامتناع عن أخذ الأجر على تبليغ الرسالة.
واتفق هؤلاء الرسل على الترفع عن مقابلة إساءة أقوامهم لهم واتهاماتهم الباطلة، والصبر على الدعوة، وتفويض الأمر الحازم الحاسم بإنزال العذاب وغيره إلى الله عز وجل، ليبقوا في مرتبة البشرية التي ظنها الكفرة نقصا، وهي في الحقيقة عنوان العبودية لله عز وجل.
وأما صفة عذاب قوم شعيب وإهلاكهم، فإن الله أبانها في ثلاثة مواطن، كل موطن بصفة تناسب ذلك السياق، ففي الأعراف ذكر أنهم أخذتهم الرجفة، فأصبحوا في دارهم جاثمين لأنهم قالوا: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا، أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [٨٨] فأرجفوا نبي الله ومن اتبعه، فأخذتهم الرجفة.
وفي سورة هود قال: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ [٦٧] ولأنهم استهزءوا بنبي الله في قولهم: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا، أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا، إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [٨٧] قالوا ذلك على سبيل التهكم والازدراء، فناسب أن تأتيهم صيحة تسكتهم، فقال: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ الآية.
وهاهنا قالوا: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ الآية على وجه التعنت والعناد، فناسب أن يحقق عليهم ما استبعدوا وقوعه: فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ، إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: إن الله سلّط عليهم الحر سبعة أيام، حتى ما يظلهم منه شيء، ثم إن الله تعالى أنشأ لهم سحابة، فانطلق إليها أحدهم، فاستظل بها، فأصاب تحتها بردا وراحة، فأعلم بذلك قومه، فأتوها جميعا، فاستظلوا تحتها، فأججت عليهم نارا «١».
(١) تفسير ابن كثير: ٣/ ٣٤٦.
217
إنزال القرآن من عند الله لإنذار المشركين وبشارة المؤمنين
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٩٢ الى ٢١٢]
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦)
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١)
فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦)
ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١)
إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢)
الإعراب:
بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ متعلق بنزل، ويجوز أن يتعلق بالمنذرين، أي لتكون من المنذرين بلغة العرب.
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ أَنْ يَعْلَمَهُ اسم يكن، وآيَةً خبر مقدم، ولَهُمْ متعلق بحال، والتقدير: أولم يكن لهم علم بني إسرائيل آية لهم. ويَكُنْ يقرأ بالياء والتاء. وعلى قراءة التاء تكون: آية خبر: تكن، والتاء لتأنيث القصة، وأَنْ يَعْلَمَهُ في موضع رفع مبتدأ، ولَهُمْ خبر مقدم، والتقدير: أولم تكن القصة علم بني إسرائيل آية لهم.
الْأَعْجَمِينَ جمع أعجمي، وهو من لا يتكلم بالعربية، أصله: أعجمين، فاستثقلوا
218
اجتماع الأمثال، فحذفوا الياء الثانية من ياءي النسب، ثم حذفوا الياء الأولى لالتقاء الساكنين، مثل حذفهم ياءي النسب في «الأشعرين ومقتدين والياسين».
ما أَغْنى عَنْهُمْ ما إما استفهامية في موضع نصب ب أَغْنى وإما نافية، وما «الثانية» في موضع رفع ب أَغْنى.
ذِكْرى إما منصوب على المصدر، أي ذكّرنا ذكرى، وإما منصوب على الحال، وإما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: إنذارنا ذكرى.
البلاغة:
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ التأكيد بإن واللام لدفع شبهة المتشككين في صحة نزول القرآن.
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ الاستفهام للتوبيخ والتبكيت.
يَعْلَمَهُ عُلَماءُ جناس اشتقاق.
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ مجاز مرسل، أي من أهل قرية، من إطلاق المحل وإرادة الحال.
المفردات اللغوية:
الرُّوحُ الْأَمِينُ هو جبريل عليه السلام، فإنه أمين على وحي الله تعالى عَلى قَلْبِكَ على روحك لأنه مركز الإدراك والتكليف دون الجسد مِنَ الْمُنْذِرِينَ عما يؤدي إلى عذاب من فعل أو ترك بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ واضح المعنى، لئلا يقولوا: ما نصنع بما لا نفهمه؟ وقوله:
مِنَ الْمُنْذِرِينَ معناه من الذين أنذروا بلغة العرب، وهم خمسة: هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسلام، إذا تعلق قوله بِلِسانٍ بالمنذرين. وأما إذا تعلق بنزل فمعناه نزله باللسان العربي لينذر به لأنه لو نزله باللسان الأعجمي لقالوا له: ما نصنع بما لا نفهمه؟ فيتعذر الإنذار به، فتنزيله بالعربية التي هي لسانك ولسان قومك لأنك تفهمه ويفهمه قومك.
وَإِنَّهُ أي القرآن المنزل على محمد لَفِي زُبُرِ كتب جمع زبور الْأَوَّلِينَ كالتوراة والإنجيل أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أي أولم يكن لكفار مكة دليلا وبرهانا على صحة القرآن، أو نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم: «أن يعلمه علماء بني إسرائيل» أن يعرفه هؤلاء العلماء، كعبد الله بن سلام وأصحابه ممن آمنوا، فإنهم يخبرون بذلك، بما هو مذكور في كتبهم.
فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ قرأه محمد عليه السلام على كفار مكة ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ما صدقوا به
219
أنفة من اتباعه، ولفرط عنادهم واستكبارهم كَذلِكَ سَلَكْناهُ أدخلناه، أي مثل إدخالنا التكذيب به أدخلنا التكذيب به في قلوب المجرمين أي كفار مكة بقراءة النبي صلّى الله عليه وسلم، وضمير أدخلناه عائد للكفر المدلول عليه بقوله: ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ وهو يدل على أن الكفر بخلق الله تعالى، وقيل: يعود الضمير للقرآن، أي أدخلناه في قلوبهم، فعرفوا معانيه وإعجازه، ثم لم يؤمنوا به عنادا. حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ الملجئ إلى الإيمان.
بَغْتَةً فجأة في الدنيا والآخرة لا يَشْعُرُونَ بإتيانه مُنْظَرُونَ مؤخرون لنؤمن به، ويقولون ذلك تحسرا وتأسفا أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ؟ فيقولون: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال ٨/ ٣٢]، فَأْتِنا بِما تَعِدُنا [الأعراف ٧/ ٧٠ وهود ١١/ ٣٢ والأحقاف ٤٦/ ٢٢] أَفَرَأَيْتَ أخبرني ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ من العذاب ما أَغْنى عَنْهُمْ ما استفهامية بمعنى أي شيء، أو نافية، أي لم يغن عنهم تمتعهم المتطاول في دفع العذاب أو تخفيفه.
لَها مُنْذِرُونَ رسل تنذر أهلها إلزاما للحجة ذِكْرى تذكرة وعظة لهم وَما كُنَّا ظالِمِينَ في إهلاكهم بعد إنذارهم. وهو رد لقول المشركين وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ أي بالقرآن الشَّياطِينُ كما زعم المشركون أنه من قبيل ما تلقي الشياطين على الكهنة وَما يَنْبَغِي لَهُمْ أي ما يتيسر ولا يتسنى ولا يصح لهم أن يتنزلوا به وَما يَسْتَطِيعُونَ أي ما يقدرون على ذلك إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لكلام الملائكة لَمَعْزُولُونَ أي لممنوعون بالشهب لأن نفوسهم خبيثة شريرة بالذات لا تقبل ذلك.
سبب النزول: نزول الآية (٢٠٥)
أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ... :
أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جهضم قال: «رئي النبي صلّى الله عليه وسلم، كأنه متحير، فسألوه عن ذلك، فقال: ولم، ورأيت عدوي يكون من أمتي بعد؟ فنزلت: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ، ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ، ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ فطابت نفسه».
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى قصص الأنبياء تسلية لرسوله، ووعدا له بالفوز
220
والغلبة، وإنذارا للمشركين من تكذيبه، حتى لا يهلكوا كما أهلك المكذبون السابقون، أردفه ببيان ما يدل على نبوته صلّى الله عليه وسلم من تنزيل القرآن المعجز على قلب نبيه صلّى الله عليه وسلم. كذلك لتتناسب خاتمة السورة مع فاتحتها التي افتتحت بالحديث عن إعراض المشركين عما يأتيهم من الذّكر: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ، فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [٥- ٦].
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن خواص الكتاب الذي أنزله على رسوله محمد صلّى الله عليه وسلم بأنه وحي من عند الله، بلسان عربي، وللدلالة على نبوته صلّى الله عليه وسلم، وذلك من وجهين:
الدليل الأول:
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ أي إن القرآن الذي تقدم ذكره في أول السورة:
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ هو كلام الله المنزل على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلم لأنه لفصاحته كان معجزا، فكان تنزيله من ربّ العالمين، كما أن فيه إخبارا عن القصص الماضية من غير تعليم، وذلك لا يكون إلا بوحي من الله تعالى. نزل به جبريل الأمين على الوحي والرسالة، ذو المكانة عند الله، المطاع في الملأ الأعلى، على قلبك أي على روحك المدركة الواعية، وفهمك إياه، سالما من الدنس والزيادة والنقص، لتنذر به قومك والعالم كله بأس الله ونقمته على من خالفه وكذبه، وتبشر به المؤمنين المتبعين له بالجنة والنعيم المقيم في الآخرة، وكان إنزاله باللسان العربي الفصيح الكامل الشامل، ليكون بيّنا واضحا قاطعا للعذر، مقيما للحجة، دليلا على الحق، هاديا إلى الرشاد، مصلحا أحوال العباد.
221
وقوله عَلى قَلْبِكَ دليل على أن القرآن محفوظ، وأن الرسول صلّى الله عليه وسلم متمكن منه، وثابت في وعيه لأن القلب موضع التمييز، ومركز الحواس الروحية، ومحل الإدراك والوعي، كما قال تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ق ٥٠/ ٣٧]،
وقال صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه الصحيحان: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب».
وندد تعالى بأن قلوب الكفار مغلقة، فقال: أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد ٤٧/ ٢٤]، وقال: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج ٢٢/ ٤٦].
وقوله: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ توبيخ للمشركين في مكة وتقريع لهم وتحريض على الإيمان به، فإنهم كذبوه لا لعسر فهمه، فهو بلغتهم، وإنما بسبب العناد والاستكبار والأنفة.
وقوله: مِنَ الْمُنْذِرِينَ يدخل تحت الإنذار الدعاء إلى كل واجب من علم وعمل، والمنع من كل قبيح لأنه في كلا الحالين يوجد الخوف من العقاب.
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أي وإن ذكر هذا القرآن والتنويه به لموجود في كتب المتقدمين المأثورة عن أنبيائهم الذين بشروا به في قديم الدهر وحديثه، عملا بالميثاق الذي أخذ به عليهم، وعبر عنه آخرهم وهو عيسى مبشرا بأحمد: وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ: يا بَنِي إِسْرائِيلَ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ، وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف ٦١/ ٦] والزبر هنا: هي الكتب، وهي جمع زبور، ومنها زبور داود أي كتابه. وكذلك جميع الكتب السابقة المنزلة على الأنبياء بشرت بالنبي صلّى الله عليه وسلم وبأنه سينزل عليه قرآن يشهد بصدقها، ويهيمن عليها: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ، وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ، فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ
[البقرة ٢/ ٨٩]. وقال سبحانه أيضا: وَأَنْزَلْنا
222
إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ، وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ
[المائدة ٥/ ٤٨].
والخلاصة: إن هذه الآيات تتضمن أدلة ثلاثة على أن القرآن من عند الله:
وهي كونه منزلا على قلب النبي الأمي الذي لم يسبق له علم بشيء منه، والذي وعاه وحفظه وأنذر به، وكونه بلسان عربي مبين تحدى به العرب على أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور، بل بسورة منه، فعجزوا، مما يدل على أنه من عند الله، لا من عند محمد، وكونه منوها به ومبشرا به في الكتب السماوية السابقة. وإذا ثبت كون القرآن من عند الله، ثبتت نبوة النبي المصطفى صلّى الله عليه وسلم.
الدليل الثاني على نبوته صلّى الله عليه وسلم وصدقه:
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ؟ أي أوليس يكفيهم شاهد على صدقه أن علماء بني إسرائيل يجدون ذكر هذا القرآن في كتبهم التي يدرسونها من التوراة والإنجيل، وبيان صفة النبي صلّى الله عليه وسلم ومبعثه وأمته، كما أخبر بذلك من آمن منهم، كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي، وكان مشركو قريش يذهبون إليهم ويسألونهم عن ذلك ويتعرفون منهم هذا الخبر. ذكر الثعلبي عن ابن عباس: أن أهل مكة بعثوا إلى أحبار يثرب يسألونهم عن النبي صلّى الله عليه وسلم، فقالوا: هذا أوانه، وذكروا نعته. «١»
وقال الله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ، يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ.. الآية [الأعراف ٧/ ١٥٧].
وهذا يدل دلالة واضحة على نبوته صلّى الله عليه وسلم لأن تطابق الكتب الإلهية على إيراد نعته ووصفه يدل قطعا على نبوته.
(١) البحر المحيط: ٧/ ٤١.
223
وبعد أن بيّن الله تعالى بالدليلين المذكورين نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم وصدق لهجته، بيّن بعدئذ أن هؤلاء الكفار لا تنفعهم الدلائل ولا البراهين، فقال:
وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ أي ولو فرضنا أننا أنزلنا هذا القرآن على بعض الأعاجم، وهم الذين لا ينطقون باللغة العربية، فضلا عن أن يقدروا على نظم مثله، فقرأه عليهم فصيحا معجزا متحدى به، لكفروا به أيضا، كما جاء في آية أخرى: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوافُصِّلَتْ آياتُهُ [فصلت ٤١/ ٤٤]، وذلك بحجة عدم فهمهم له.
أما العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، وسمعوه وفهموه وعرفوا فصاحته وإعجازه، فلا عذر لهم في عدم الإيمان به.
وعلى هذا، الأمر سيّان، فسواء أنزلنا هذا القرآن على رجل عربي بلسان عربي مبين، فسمعوه وفهموه وعرفوا فصاحته وإعجازه، أو أنزلناه على أعجمي لا يحسن العربية لكفروا به.
وهذا دليل ملموس على تعنت كفار قريش وعنادهم وشدة كفرهم، مع أنهم عرفوا الحق، وأدركوا سرّ فصاحة القرآن وبلاغته، ولكنهم تجاهلوه عصبية وأنفة واستكبارا. وفيه أيضا تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وتخفيف لأحزانه لإعراض قومه عن الإيمان برسالته.
ثم أكد الله تعالى هذا الموقف المتعنت فقال:
كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ أي أدخلناه ومكنّاه، والمعنى: مثل إدخالنا التكذيب به بقراءة الأعجمي على العرب، أدخلنا التكذيب به في قلوب المجرمين كفار قريش. والمقصود أنه مهما فعلنا من إنزال القرآن على عربي أو أعجمي، فلا سبيل إلى أن يتغيروا عما هم عليه من الجحود والإنكار، فإن الكفر به والتكذيب له متمكن في قلوبهم، فلا ينفعهم في اقتلاع الكفر من
224
نفوسهم أي وسيلة علاج أو إصلاح، كما قال تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ، فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ، لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام ٦/ ٧].
وهذا أيضا مما يفيد تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلم لأنه إذا عرف هذا الرسول إصرارهم على الكفر، وأنه تمّ القضاء به لسبق علم الله بموقفهم المتصلب الذي لا يتغير، حصل له اليأس من إيمانهم والاطمئنان على سلامة موقفه منهم، وأنه لا ضير عليه في ذلك.
وزاد في التأكيد والتوضيح والبيان فقال:
لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ أي إنهم يظلون كافرين، غير مؤمنين بالحق، جاحدين له في قلوبهم، لا يزالون على التكذيب به، حتى يعاينوا العذاب الشديد الألم.
ثم أخبر الله تعالى عما هو أشد من العذاب وهو مجيئه فجأة، فقال:
فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي إن هذا العذاب يأتي أولئك المكذبين بالقرآن فجأة، دون أن يشعروا بمجيئه، وحينئذ يتحسرون، كما قال تعالى:
فَيَقُولُوا: هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ؟ مؤخرون، أي إنهم يتمنون حينئذ تأخير العذاب قليلا حينما يشاهدونه، ليتداركوا ما فاتهم، ويعملوا في زعمهم بطاعة الله تعالى، ولكن لا ينفعهم الندم ولن يؤجلوا لأنهم يعلمون ألا ملجأ في الآخرة، وإنما يذكرون ذلك استرواحا.
ومع هذا البيان والإنذار تغلب عليهم الحماقة والجهل، فيطلبون تعجيل العذاب، فقال: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ؟ أي كيف يطلبون تعجيل
225
العذاب، بقولهم: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ [الشعراء ٢٦/ ١٨٧]، وقولهم: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا [الأعراف ٧/ ٧٠]، وهم عند نزول العذاب يطلبون التأجيل والتأخير، فهم قوم متناقضون.
وهذا إنكار عليهم وتهديد لهم، فإنهم كانوا يقولون للرسول صلّى الله عليه وسلم تكذيبا واستبعادا: ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ [العنكبوت ٢٩/ ٢٩].
ثم بيّن الله تعالى أن استعجال العذاب على وجه التكذيب إنما يحدث منهم ليتمتعوا في الدنيا، فقال:
أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ، ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ، ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ أي لو فرض أيها المخاطب أننا لو أطلنا في عيشهم ليتمتعوا من نعيم الدنيا طوال سنين، ثم جاءهم العذاب الموعود به فجأة، فلا يجدي أي شيء عنهم ولا ما كانوا فيه من النعيم، ولا يخفف من عذابهم، ولا يدفعه عنهم لأن مدة التمتع في الدنيا مهما طالت متناهية قليلة، ومدة العذاب في الآخرة غير متناهية، كما قال تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها [النازعات ٧٩/ ٤٦]، وقال سبحانه: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ، وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ [البقرة ٢/ ٩٦]، وقال عزّ وجلّ: وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى [الليل ٩٢/ ١١].
عن ميمون بن مهران أنه لقي الحسن البصري في الطواف بالكعبة، فقال له:
عظني، فلم يزد على تلاوة هذه الآية، فقال ميمون: لقد وعظت فأبلغت. «١»
وفي الحديث الصحيح: «يؤتى بالكافر فيغمس في النار غمسة، ثم يقال له:
هل رأيت خيرا قط؟ هل رأيت نعيما قط؟ فيقول: لا والله يا ربّ، ويؤتى
(١) تفسير الرازي: ٢٤/ ١٧١.
226
بأشد الناس بؤسا كان في الدنيا، فيصبغ في الجنة صبغة، ثم يقال له: هل رأيت بؤسا قط، فيقول: لا والله يا ربّ»
أي كأن شيئا لم يكن.
ثم أخبر الله تعالى عن قانون عدله التام الدائم في خلقه، وهو أنه لا يعذب قوما إلا بعد إنذار، ولا يهلك أمة إلا بعد إعذار وبيان الحجة، وبعثة الرسل، فقال:
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ، ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ أي وما أهلكنا قرية من القرى إلا بعد إرسالنا إليهم رسلا ينذرونهم من عذابنا على كفرهم، ويبشرونهم بالنعيم إن آمنوا وأطاعوا، وذلك تذكرة لهم وتنبيه إلى ما يجب عليهم، ولم نكن في أي حال ظالمين لهم في عقابهم، وإنما أصروا على الكفر والجحود وعبادة غيرنا.
وهذا المبدأ شهير مكرر في القرآن، مثل قوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء ١٧/ ١٥]، وقوله سبحانه: وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا، وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ [القصص ٢٨/ ٥٩].
ثم ردّ الله تعالى على المشركين الذين كانوا يقولون: إن محمدا كاهن، وإن ما أنزل عليه من القرآن مثلما تلقي الشياطين على الكهنة، فقال:
وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ، وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ، إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ أي إن القرآن العظيم لم تلق به الجن والشياطين كسائر ما ينزل على الكهنة، ولا يتيسر لهم ولا يسهل ولا يتمكنون من ذلك، فهم عن سمع الملائكة التي تنزل بالوحي مرجومون بالشهب، معزولون عن استماع كلام أهل السماء.
فهذا الإنزال يمتنع عليهم من ثلاثة أوجه «١» :
(١) تفسير ابن كثير: ٣/ ٣٤٩.
227
أحدها:
أنه ليس هو من بغيتهم ولا من مطلبهم لأن من سجاياهم الفساد وإضلال العباد، وفي القرآن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو هدى ونور وبرهان عظيم، فبينه وبين الشياطين منافاة عظيمة، وتغاير شديد.
الثاني:
أنّه لو انبغى لهم لما استطاعوا تحمله، كما قال تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر ٥٩/ ٢١].
الثالث:
أنه لو انبغى لهم واستطاعوا حمله، وتأديته لما وصلوا إليه لأنهم بمعزل عن استماع القرآن حال نزوله، لأن السماء ملئت حرسا شديدا وشهبا، في مدة إنزال القرآن على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلم يخلص أحد من الشياطين إلى استماع حرف واحد منه، لئلا يشتبه الأمر.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
١- القرآن الكريم: كلام الله القديم المنزل بواسطة جبريل الأمين على قلب النبي صلّى الله عليه وسلم باللسان العربي المبين، والذي أعلنت عن نزوله كتب الأنبياء المتقدمين. نزل به جبريل عليه السلام إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فتلاه عليه، ووعاه قلبه منه، ورسخ في عقله رسوخا كالنقش في الحجر، قال تعالى: قُلْ: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ، فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ.. [البقرة ٢/ ٩٧]، وقال سبحانه:
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ
[القيامة ٧٥/ ١٦- ١٩].
228
ونزوله بلغة العرب لئلا يقولوا: لسنا نفهم ما تقول. وبشّرت بنزوله كتب الأنبياء المتقدمين، كما بشّرت ببعثة محمد صلّى الله عليه وسلم.
٢- أثبتت الآيات نبوة النبي محمد صلّى الله عليه وسلم، لأنه مع كونه أميّا بهر العالم ببلاغة القرآن وفصاحته، وإخباره عن المغيبات، وإثرائه الحياة بأنظمة سديدة رصينة لا تقبل الطعن ولا النقد، وهذا العطاء الإلهي دليل قاطع على النبوة. كما أن من الأدلة على النبوة علم أهل الكتاب بأوصاف النبي صلّى الله عليه وسلم ونعوته، سواء من أسلموا أو لم يسلموا.
وإنما صحت شهادة أهل الكتاب وصارت حجة على المشركين لأنهم كانوا يرجعون إليهم في شؤون الدين، يسألونهم عن مدى تطابق القرآن مع ما أخبرت به كتبهم الدينية.
٣- إن مهمة النبي صلّى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء هي الإنذار لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ويدخل في الإنذار الدعوة إلى كل واجب من علم وعمل، والمنع من كل قبيح.
٤- إن كفر المشركين من أهل مكة بالقرآن مجرد عناد واستكبار، دون دليل ولا برهان، وإنما على العكس علموا بأنه الحق ثم جحدوه، وكان تحدي القرآن لهم بالإتيان بمثل سورة منه حجة عليهم، فهو منزل بلغتهم، فسمعوه وفهموه وعرفوا فصاحته، وأنه معجز لا يعارض بكلام مثله، وانضم إلى ذلك بشارة كتب الله السالفة به، فلم يؤمنوا به وجحدوه عنادا وأنفة ومكابرة، وسموه- زورا وبهتانا- شعرا تارة، وسحرا أخرى.
ولو نزل هذا القرآن على رجل ليس بعربي اللسان (أعجمي) فقرأه على كفار قريش بغير لغة العرب، لما آمنوا ولقالوا: لا نفقه ما نسمع. فهذا إلزام
229
لهم، وإنكار عليهم، وفضح لأحوالهم لأن القرآن نزل بلغتهم فهم أولى الناس بالإيمان به.
وقد عبّر القرآن الكريم عن هذا الموقف المتعنت بقوله تعالى: كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ أي إن الذي منعهم من الإيمان، وإعلان الكفر بالقرآن والتكذيب به هو الإصرار على ما هم عليه والحفاظ على رياساتهم ومصالحهم المادية، حتى أصبح ذلك مدخلا سالكا في قلوبهم، خلقا غير قابل للتغيير والتبديل، بمنزلة أمر جبلوا عليه وفطروا، كما يقال: فلان مجبول على الشّح، والمراد تمكن الشّح فيه.
ولا يتصور إيمانهم بالقرآن والنبي صلّى الله عليه وسلم إلا حين مشاهدة العذاب المؤلم ومعاينته، ومجيئه فجأة دون أن يشعروا به، وهو إما عذاب الدنيا، وإما عذاب الساعة (القيامة) وحينئذ يقولون: هل نحن مؤخرون وممهلون، إنهم يطلبون الرجعة إلى الدنيا فلا يجابون إليها.
ومعنى التعقيب في قوله تعالى: فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً،... فَيَقُولُوا كما ذكر الزمخشري: ليس ترادف رؤية العذاب ومفاجأته وسؤال التأخير فيه في الوجود، وإنما المعنى ترتبها في الشدة، كأنه قيل: لا يؤمنون بالقرآن حتى تكون رؤيتهم للعذاب، فما هو أشد منها وهو لحوقه بهم فجأة، فما هو أشد منه، وهو سؤالهم التأخير. ومثال ذلك: أن تقول لمن تعظه: إن أسأت مقتك الصالحون، فمقتك الله، فإنك لا تقصد بهذا الترتيب: أن مقت الله يوجد عقيب مقت الصالحين، إنما قصدك إلى ترتيب شدة الأمر على المسيء، وأنه يحصل له بسبب الإساءة مقت الصالحين، فما هو أشد من مقتهم، وهو مقت الله «١».
٥- كان جزاء هذا الموقف المتعنت لكفار قريش تبكيتهم بالإنكار عليهم
(١) الكشاف: ٢/ ٤٣٧
230
والتهكم على أمر آخر، وهو: كيف يستعجل العذاب المعرّضون للعذاب؟ ثم يشنع القرآن عليهم ويوبخهم على حبهم إطالة الاستمتاع بالدنيا، فذلك العذاب المنتظر والهلاك كائن لا محالة، ولا يغني عنهم الزمان الذي كانوا يمتعونه.
عن الزهري: إن عمر بن عبد العزيز كان إذا أصبح، أمسك بلحيته، ثم قرأ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ، ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ، ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ.
٦- اقتضت عدالة الله ورحمته ألا يهلك قوما أو يعذب أهل قرية إلا بعد إرسال الرسل المنذرين لهم بأس الله وعذابه، فإذا جاء العذاب أو العقاب، لم يكن الله ظالما في تعذيبهم، حيث قدم الحجة عليهم وأعذر إليهم.
٧- القرآن- كما تقدم- نزل به الروح الأمين من عند الله تعالى، ولم تنزل به الشياطين، فإنه لا يتيسر لهم إنزاله، ولا يستطيعون تحمله وتأديته، ولا يتمكنون من اختلاسه واستراقه لأنهم معزولون عن سمع ملائكة السماء برمي الشهب عليهم فتحرقهم.
٨- محل العقل: ورد في الآية أن القرآن منزل على قلب النبي صلّى الله عليه وسلم فهل المراد بالقلب العضو المعروف في الجانب الأيسر من الإنسان أم العقل الكائن في الدماغ؟ المعروف لدى علماء الطب والتشريح المعاصر أن محل العقل الدماغ.
أما العلماء القدماء فانقسموا فريقين: فريق يرى أن محل العقل القلب، وفريق آخر يرى أن محل العقل الدماغ «١».
واستدل الفريق الأول بالأدلة التالية:
الأول- قوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها؟ [الحج ٢٢/ ٤٦]،
(١) تفسير الرازي: ٢٤/ ١٦٧.
231
، وقوله: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها [الأعراف ٧/ ١٧٩]، وقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ، وَهُوَ شَهِيدٌ [ق ٥٠/ ٣٧] أي عقل، أطلق عليه اسم القلب لأنه محله.
الثاني- أنه تعالى أضاف أضداد العلم إلى القلب، وقال: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة ٢/ ١٠] خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [البقرة ٢/ ٧] قُلُوبُنا غُلْفٌ، بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ [النساء ٤/ ١٥٥] يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ [التوبة ٩/ ٦٤] يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح ٤٨/ ١١] كَلَّا، بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ [المطففين ٨٣/ ١٤] أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد ٤٧/ ٢٤]، فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج ٢٢/ ٤٦] دلت هذه الآيات على أن موضع الجهل والغفلة هو القلب، فوجب أن يكون موضع العقل والفهم أيضا هو القلب.
الثالث- إذا أمعن الإنسان في الفكر وغيره أحس من قلبه ضيقا وضجرا حتى كأنه يتألم بذلك، مما يدل على أن موضع العقل هو القلب، فوجب أن يكون المكلف هو القلب لأن التكليف مشروط بالعقل والفهم.
الرابع- أن القلب أول الأعضاء تكونا، وآخرها موتا.
واحتج الفريق الثاني القائل بأن العقل في الدماغ بما يأتي:
الأول- أن الحواس التي هي آلات الإدراك نافذة إلى الدماغ دون القلب، أي إن الدماغ محل الإحساس.
الثاني- أن الأعصاب آلات الحركات الاختيارية نافذة من الدماغ دون القلب، أي إن الدماغ مركز التنبيه العصبي.
232
الثالث- أن الآفة إذا حلت في الدماغ اختل العقل، مثل الجنون والنزف الدماغي.
الرابع- جرى العرف على أن من أريد وصفه بقلة العقل، قيل: إنه خفيف الدماغ، خفيف الرأس.
الخامس- أن العقل أشرف أجزاء الإنسان، فيكون مكانه أشرف، والأعلى هو الأشرف، وذلك في الدماغ، لا القلب.
ورأيي هو ترجيح الرأي الثاني لأن العلم الحديث أجري مئات التجارب على الدماغ وما فيه من مخ ومخيخ، فوجد أنه محل العقل والإحساس والتنبيه والذاكرة وغير ذلك من وظائف الدماغ، فدل على أنه هو محل العقل. أما الآيات القرآنية المتقدمة التي يفهم منها كون العقل في القلب، فذلك من قبيل الإطلاق العرفي السائد في الكلام، والذي يراد به العقل، فيقال: لا قلب عنده، أي لا عقل.
أما القيم الأدبية أو الأخلاقية: فمحلها القلب باعتباره المعبر عن النفس الإنسانية التي لا حياة فيها إلا بالقلب.
ثم إن المعاني المتقدمة التي تختص بالقلوب، ويراد بها المعاني العقلية كالنية والمعلومات والمعارف، قد تنسب إلى الصدر تارة، وإلى الفؤاد أخرى. أما الصدر: فلقوله تعالى: وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ [العاديات ١٠٠/ ١٠]، وقوله:
وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ [آل عمران ٣/ ١٥٤]، وقوله: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [الملك ٦٧/ ١٣]، إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ [آل عمران ٣/ ٢٩].
وأما الفؤاد فقوله تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ [الأنعام ٦/ ١١٠].
233
آداب الداعية وواجباته
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢١٣ الى ٢٢٠]
فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧)
الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠)
البلاغة:
فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلم بأسلوب التهييج والإلهاب، لما عرف عنه من زيادة إخلاص وتقوى.
وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ استعارة مكنية، حذف منها المشبه به، ورمز إليه بشيء من لوازمه، شبّه التواضع ولين الجانب بخفض الطائر جناحه عند إرادة الهبوط، فأطلق على المشبه اسم الخفض.
المفردات اللغوية:
فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ إن فعلت شيئا مما دعوك إليه، وهذا تهييج للنبي صلّى الله عليه وسلم وإلهاب لزيادة الإخلاص، وتحذير لسائر المكلفين. عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ هم بنو هاشم وبنو المطلب، وقد أنذرهم جهارا، كما روى البخاري ومسلم، وبدأ بالأقرب منهم فالأقرب لأن الاهتمام بشأنهم أهم،
روى أحمد ومسلم وغيرهما أنه صلّى الله عليه وسلم: «لمّا نزلت هذه الآية، صعد الصفا، وناداهم فخذا فخذا، حتى اجتمعوا إليه، فقال: لو أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلا، أكنتم مصدّقي؟ قالوا: نعم، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد».
وَاخْفِضْ جَناحَكَ ألن جانبك. مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الموحدين، ولِمَنِ: بيانية أو للتبيين. فَإِنْ عَصَوْكَ ولم يتبعوك أي عشيرتك. بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ من عبادة غير الله، أي مما تعملونه أو من أعمالكم. وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ أي فوض إلى الله جميع أمورك، فهو الذي يقدر على قهر أعدائه ونصر أوليائه.
234
حِينَ تَقُومُ
إلى التهجد (صلاة الليل). وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ تغير أحوالك في أركان الصلاة، قائما وقاعدا وراكعا وساجدا. فِي السَّاجِدِينَ المصلين. وإنما وصف الله تعالى ذاته بعلمه بحال نبيه التي بها يستأهل ولايته، بعد أن وصف تعالى نفسه بأن من شأنه قهر أعدائه ونصر أوليائه، تحقيقا للتوكل، وتطمينا لقلبه عليه. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لما تقوله. الْعَلِيمُ بما تنويه.
سبب النزول:
أخرج ابن جرير الطبري عن ابن جريج قال: لما نزلت: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ بدأ بأهل بيته وفصيلته، فشقّ ذلك على المسلمين فأنزل الله: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
المناسبة:
بعد أن بالغ الله تعالى في تسلية رسوله أولا بقصص الأنبياء وما تبعها، ثم أقام الحجة على نبوته ثانيا، ثم أجاب عن سؤال المنكرين، أمره بعد ذلك بما يتعلق بالتبليغ والرسالة، فرتب له طريق الإنذار بدءا بالأقرب فالأقرب.
والرفق بالمؤمنين، ثم ختم وصاياه له بالتوكل عليه تعالى وحده.
سيرته صلّى الله عليه وسلم في التبليغ:
وردت أحاديث كثيرة توضح كيفية قيامه صلّى الله عليه وسلم بإبلاغ رسالته والدعوة إلى ربّه، منها:
ما رواه أحمد ومسلم عن عائشة قالت: «لما نزلت: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا فاطمة بنت محمد، يا صفية بنت عبد المطلب، يا بني عبد المطلب، لا أملك لكم من الله شيئا، سلوني من مالي ما شئتم».
ومنها:
ما رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أنزل الله عزّ وجلّ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ أتى
235
النبي صلّى الله عليه وسلم الصفا، فصعد عليه، ثم نادى: «يا صباحاه» فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه، وبين رجل يبعث رسوله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، يا بني لؤي، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم، صدقتموني؟» قالوا: نعم، قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب: تبّا لك سائر اليوم، أما دعوتنا إلا لهذا؟ وأنزل الله تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ، وَتَبَّ [المسد ١١١/ ١].
ومنها:
ما رواه أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم قريشا، فعمّ وخصّ، فقال: «يا معشر قريش، أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني كعب، أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار. يا فاطمة بنت محمد، أنقذي نفسك من النار، فإني والله، لا أملك لكم من الله شيئا، ألا إن لكم رحما، وسأبلّها ببلالها»
يريد: أصلكم في الدنيا ولا أغني عنكم من الله شيئا.
التفسير والبيان:
تضمنت هذه الآيات أوامر أربعة للنبي صلّى الله عليه وسلم تتعلق بتبليغ رسالته وهي:
١- فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ أي اعبد الله وحده لا شريك له، واحذر أن تدعو أو تعبد معه إلها غيره، فإن العبادة لا تكون إلا لله وحده بإخلاص، والشرك رأس المعاصي.
وهذا حثّ للرسول صلّى الله عليه وسلم على زيادة الإخلاص في العبادة، فالله يعلم أنه لا يكون ذلك منه، ثم إنه بدأ بالأمر به لأنه قائد الأمة، فكان ذلك في الحقيقة
236
توجيها وخطابا لغيره من الناس لأن من شأن الحكيم إذا أراد أن يؤكد خطاب الغير أن يوجهه إلى الرؤساء في الظاهر، وإن كان المقصود بذلك هم الأتباع.
والخلاصة: أنه بدأ بالرسول صلّى الله عليه وسلم فتوعده إن دعا مع الله إلها آخر، ثم أمره بدعوة الأقرب فالأقرب، فقال:
٢- وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ أي خوف أقاربك في العشيرة بأس الله وعذابه لمن أشرك به سواه.
وهذا جزء من مهمته بإنذار البشر كافة من عذاب الله، كما قال تعالى:
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ، مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الأنعام ٦/ ٩٢]، وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها، وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ [الشورى ٤٢/ ٧]، تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان ٢٥/ ١].
ويأتي التبشير عادة مع الإنذار، كما ذكر في آيات كثيرة، منها: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ، وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا [مريم ١٩/ ٩٧]، ومنها:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ، وَسِراجاً مُنِيراً [الأحزاب ٣٣/ ٤٥- ٤٦].
وروى مسلم عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار».
ثم أمره ربه بالرفق بالمؤمنين، فقال:
٣- وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي ألن جانبك وارفق بأتباعك الذين آمنوا بك وصدقوك، فذلك أطيب لقلوبهم.
فَإِنْ عَصَوْكَ، فَقُلْ: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ أي فإن عصاك أحد ممن
237
أنذرتهم من عشيرتك وغيرهم، فقل: إني بريء من أعمالكم التي ستجازون عليها يوم القيامة.
٤- وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ أي وفوض جميع أمورك إلى الله القوي القاهر الغالب القادر على الانتقام من أعدائه، الرحيم بأوليائه، الذي يراك حين تقوم للصلاة بالناس، ويرى أحوالك متقلبا من قائم إلى قاعد، وراكع إلى ساجد، فيما بين المصلين.
وعبّر عنهم بالساجدين لأن العبد أقرب ما يكون من ربّه، وهو ساجد.
والمقصود أن الله مؤيدك وحافظك وناصرك ومظفرك ومعلي كلمتك، ومعتن بك في جميع أحوالك التي منها الصلاة وما فيها من قيام وركوع وسجود، كما قال تعالى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ، فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطور ٥٢/ ٤٨].
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي إن ربك هو السميع لأقوال عباده، العليم بأفعالهم وحركاتهم وسكناتهم ونواياهم، كما قال تعالى: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ، وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ، وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ [يونس ١٠/ ٦١].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- المساواة أمام التكاليف الشرعية دون استثناء أحد: فإذا أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو القائد والقدوة بإخلاص العبادة لله تعالى، وبالبدء بإنذار أقاربه، كان غيرهم مطالبا بجميع التكاليف الشرعية بالأولى، وكان الإنذار لمن عداهم أشد تأثيرا وأجدى نفعا، وهو دليل على إلغاء جميع الامتيازات لأحد في الإسلام، فلا يعفى شخص وإن كان حاكما ولا حاشيته من الالتزام بتطبيق شرع الله ودينه.
238
٢- دلت الآية: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ والأحاديث المتقدمة على أن القرب في الأنساب لا ينفع، مع إهمال الأسباب والتفاني في الأعمال الصالحة.
ودلت أيضا على جواز صلة المؤمن الكافر وإرشاده ونصيحته
لقوله صلّى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: «إن لكم رحما سأبلّها ببلالها»
وقوله عزّ وجلّ: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة ٦٠/ ٨].
٣- إن الإحسان إلى الأتباع من حسن السياسة، ومما يحقق فوائد جمّة، لذا أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم بالتواضع وإلانة الجانب لأتباعه المؤمنين برسالته، المستقيمين على منهج الحق وتقوى الله. فإن عصوا وخالفوا أمره، فإنه صلّى الله عليه وسلم بريء من معصيتهم إياه لأن عصيانهم إياه عصيان لله عزّ وجلّ، باعتبار أنه صلّى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بما يرضي ربه، ومن تبرأ منه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقد تبرأ الله منه.
٤- التوكل على الله من أصول الإيمان وخصائصه في الإسلام، وقد أمر الله نبيه بتفويض أمره إلى ربه العزيز الذي لا يغالب، الرحيم الذي لا يخذل أولياءه.
٥- إن الله تعالى عاصم نبيه من كل سوء، حافظه من كل مكروه، ناصره على أعدائه، معتن بأمره كله، يعلم بكل أنشطته وأعماله، فهو يراه حين يقوم إلى الصلاة، ويراه قائما وراكعا وساجدا لأنه سبحانه السميع لأقوال عباده جميعا، العليم بجميع حركاتهم وسكناتهم.
٦- قال ابن عباس في قوله تعالى: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ أي تنقله وسلالته في أصلاب الآباء: آدم ونوح وإبراهيم حتى أخرجه نبيا.
وقد استدل الشيعة بهذه الآية على أن آباء النبي صلّى الله عليه وسلم كانوا مؤمنين، كما استدلوا على ذلك بالخبر التالي في
قوله صلّى الله عليه وسلم: «لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات».
239
الرد على افتراء المشركين بأن النبي كاهن أو شاعر
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢٢١ الى ٢٢٧]
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥)
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧)
الإعراب:
أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ أَيَّ منصوب على المصدر ب يَنْقَلِبُونَ وتقديره: أي انقلاب ينقلبون. ولا يجوز نصبه ب سَيَعْلَمُ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله لأن الاستفهام له صدر الكلام، وإنما يعمل فيه ما بعده.
البلاغة:
أَفَّاكٍ أَثِيمٍ كلاهما صيغة مبالغة على وزن فعّال وفعيل، أي كثير الكذب كثير الفجور.
يَقُولُونَ ويَفْعَلُونَ وانْتَصَرُوا وظُلِمُوا بين كلّ طباق.
فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ استعارة تمثيلية، شبه حال الشعراء بإفراطهم في المديح والهجاء واسترسال الخيال بالتائه في الصحراء الذي هام على وجهه، فهو لا يدري أين يسير.
مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ جناس اشتقاق.
يَهِيمُونَ، يَنْقَلِبُونَ، يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ سجع لمراعاة الفواصل وخواتيم الآيات.
المفردات اللغوية:
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ أخبركم يا أهل مكة وأمثالكم. تَنَزَّلُ أي تتنزل، ثم حذفت إحدى التاءين من الأصل. أَفَّاكٍ كذاب. أَثِيمٍ فاجر، مثل مسيلمة الكذاب وغيره من الكهنة، وهما صيغة مبالغة، أي كثير الإفك والكذب، كثير الذنوب والفجور. يُلْقُونَ السَّمْعَ أي
240
الأفاكون من الشياطين يصغون أشد الإصغاء إلى الشياطين، فيتلقون منهم ما أكثره كذب وزور من الظنون والأمارات. وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ فسره بعضهم بالكل لقوله تعالى: كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ قال البيضاوي: والأظهر أن الأكثرية باعتبار أقوالهم، على معنى أن هؤلاء قل من يصدق منهم فيما يحكي عن الجني. وقيل: تعود الضمائر للشياطين، أي يلقون ما سمعوه من الملائكة إلى الكهنة، ويضمون إلى المسموع كذبا كثيرا، وكان هذا قبل أن حجبت الشياطين عن السماء.
وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أي الضالون المائلون عن منهج الاستقامة، فهم مذمومون، وهذا للمقارنة بينهم وبين المؤمنين، فالشعراء يتبعهم الضالون في شعرهم، فيقولون به، ويروونه عنهم، أما أتباع محمد صلّى الله عليه وسلم فليسوا كذلك. أَلَمْ تَرَ تعلم. فِي كُلِّ وادٍ من أودية الكلام وفنونه، والوادي: الشّعب. يَهِيمُونَ يمضون أو يسيرون حائرين، فيجاوزون الحد مدحا وهجاء لأن أكثر مقدماتهم خيالات لا حقيقة لها، وأغلب كلماتهم في الباطل. يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ أي يكذبون فيقولون: فعلنا وهم لم يفعلوا.
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا.. أي من الشعراء. وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً لم يشغلهم الشعر عن الذكر. وَانْتَصَرُوا بهجوهم الكفار. مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا بهجو الكفار لهم مع جملة المؤمنين، فليسوا بمذمومين، لقوله تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء ٤/ ١٤٨] وقوله سبحانه: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة ٢/ ١٩٤]. مُنْقَلَبٍ مرجع. يَنْقَلِبُونَ يرجعون بعد الموت، وهو تهديد شديد لأن قوله: سَيَعْلَمُ وعيد بليغ، وقوله: الَّذِينَ ظَلَمُوا على الإطلاق والتعميم، وقوله:
أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ فيه إبهام وتهويل.
سبب النزول:
نزول الآية (٢٢٤) وما بعدها: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: تهاجى رجلان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أحدهما من الأنصار، والآخر من قوم آخرين، وكان مع كل واحد منهما غواة من قومه، وهم السفهاء، فأنزل الله: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ الآيات.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة قال: لما نزلت وَالشُّعَراءُ إلى قوله:
241
ما لا يَفْعَلُونَ قال عبد الله بن رواحة: قد علم الله أني منهم، فأنزل الله:
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ السورة.
وأخرج ابن جرير والحاكم عن أبي حسن البرّاد قال: لما نزلت وَالشُّعَراءُ الآية، جاء عبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت، فقالوا: يا رسول الله، والله لقد أنزل الله هذه الآية، وهو يعلم أنا شعراء، هلكنا، فأنزل الله: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا الآية، فدعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فتلاها عليهم.
المناسبة:
هذا عود على بدء، فبعد أن أبان الله تعالى استحالة تنزل الشياطين بالقرآن (الآية ٢١٠ وما بعدها) وأثبت أنه تنزيل من رب العالمين، أردف ذلك بأن الشياطين تتنزل على كل كذاب فاجر، لا على الرسول الصادق الأمين، فهو ليس من فئة الكهنة الذين يستمعون إلى الشياطين، كما أنه ليس من فئة الشعراء الغارقين في الخيال، الهائمين في كل واد من فنون القول والكلام، من غير ترجمة للحقيقة، ولا صدق في القلب، وقناعة في العقل، والرسول صلّى الله عليه وسلم لا ينطق إلا بالحق ولا يتكلم إلا بالصدق.
ولما كان إعجاز القرآن من جهة المعنى واللفظ، وقد قدح المشركون في المعنى بأنه مما تنزلت به الشياطين، وفي اللفظ بأنه من جنس كلام الشعراء، فإنه تعالى ردّ على القسمين، وبيّن منافاة القرآن لهما، ومخالفة حال الرسول صلّى الله عليه وسلم لحال أصحابهما، فهو ليس بكاهن ولا بشاعر.
التفسير والبيان:
هذه الآيات تتضمن نفي فريتين عن القرآن وعن الرسول صلّى الله عليه وسلم، وهما
242
الكهانة والشعر، فليس القرآن الكريم من جنس ما تتلقاه الكهنة عن الشياطين، وليس هو من الشعر في شيء، كما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس كاهنا ولا شاعرا.
أما الفرية الأولى فوصفها تعالى ثم ردّ عليها فقال:
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ؟ أي هل أخبركم خبرا حقيقيا، نافعا لكم في قاموس المعرفة والعلم، على من تنزل عليه الشياطين من الكهان ونحوهم من الكذبة الفسقة؟
وكان للكهانة تأثير كبير عند العرب في الجاهلية، ولكهانهم مركز مهم، لقطع النزاع، وفض المشكلات من الأمور، مثل هند بنت عتبة أم معاوية بن أبي سفيان، وفاطمة الخثعمية.
وهذه الآيات رد على من زعم من المشركين أن ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلم ليس بحق، وأنه شيء افتعله من تلقاء نفسه، أو أنه أتاه به رئيّ من الجن، أي مسّ، وبيان قاطع بأن ما جاء به هذا الرسول صلّى الله عليه وسلم إنما هو من عند الله، وأنه تنزيله ووحيه، نزل به ملك كريم، أمين عظيم، وأنه ليس من قبل الشياطين، والجواب من وجهين:
١- تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ أي إن الشياطين تنزل على كل كذوب، فاجر فاسق في أفعاله، من الكهنة المتنبئة، مثل شقّ بن رهم، وسطيح بن ربيعة، ومسيلمة وطليحة، ومن الكفار الذين يدعون إلى طاعة الشيطان، ومحمد صلّى الله عليه وسلم كان يدعو إلى لعن الشيطان والبراءة عنه. وأما الكهنة فالغالب عليهم الكذب، ومحمد صلّى الله عليه وسلم فيما أخبر عنه من المغيبات لم يظهر عليه إلا الصدق.
٢- يُلْقُونَ السَّمْعَ، وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ أي يصغي الكهنة الأفاكون سمعهم إلى الشياطين، فيلقون وحيهم الزائف إليهم، ويتلقفون منهم ما أكثره كذب
243
وزور من الظنون والأمارات، فأكثر الشياطين كاذبون فيما يوحون به إليهم، لأنهم يسمعونهم ما لم يسمعوا، كما أن أكثر الأفاكين كاذبون، يفترون على الشياطين ما لم يوحوا به إليهم، فيكون أكثر ما يحكمون به باطلا وزورا.
وقيل: يعود الضمير إلى الشياطين، أي يلقون إلى أوليائهم الكهنة المسموع من الملائكة، مما يختطفونه من بعض الكلمات، مما اطلعوا عليه من المغيبات، قبل أن يحجبوا بالرجم، ويبعدوا عن التقاط الكلام من الملأ الأعلى، ثم يوحون به إلى أوليائهم، ويضمون إلى المسموع كذبا كثيرا.
والخلاصة: أن الواقع خير شاهد، يوضح كالشمس الفرق بين النبي صلّى الله عليه وسلم والكهنة، فكل ما أخبر به النبي عن ربه كان صادقا مطابقا للواقع ولم يعرف عنه في سيرته الطويلة المدى إلا الصدق، وأكثر ما يخبر به الكهنة كذب يتنافى مع الواقع، ولم يعرف عن الكهنة إلا الكذب، لذا مجّهم التاريخ، ورفضهم العقل، ولم يعد يصدق أباطيلهم وترهاتهم إلا السّذّج البسطاء من الأولاد والنساء وبعض الكبار السطحيين.
وبعد أن بيّن الله تعالى الفرق بين محمد صلّى الله عليه وسلم وبين الكهنة، بين الفرق بينه صلّى الله عليه وسلم وبين الشعراء، ردا على الكفار القائلين: لم لا يجوز أن يقال: إن الشياطين تنزل بالقرآن على محمد، كما أنهم ينزلون بالكهانة على الكهنة وبالشعر على الشعراء، جريا على ما هو المعتاد بأن لكل كاهن وشاعر شيطانا، فقال:
وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أي أن الشعراء يتبعهم الضالون، ضلّال الإنس والجن، المنحرفون عن جادة الحق والاستقامة، أما أتباع محمد صلّى الله عليه وسلم فهم المهتدون المستقيمون القائمون على منهج الحق والإيمان بالله وعبادته والاستقامة على أمره. ثم بيّن الله تعالى تلك الغواية بأمرين:
١- أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ أي ألم تعلم أن الشعراء يخوضون في كل
244
فن من الكلام، ويتناقضون مع أنفسهم، فقد يمدحون الشيء بعد أن ذموه، وبالعكس، وقد يعظمونه بعد أن استحقروه وبالعكس، وذلك يدل على أنهم لا يقصدون إظهار الحق، ولا إعلان الصدق، فهم قوم خياليون عاطفيون، أما محمد صلّى الله عليه وسلم فلا يقول إلا الحق ولا يأمر إلا بالصدق، ويدعو إلى طريق واحد وهو الدعوة إلى الله تعالى، والترغيب في الآخرة، والإعراض عن الدنيا غير المفيدة.
٢- وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ أي أن أكثر قولهم الكذب، فإنهم يتبجحون بأقوال وأفعال لم تصدر عنهم، وهذا أيضا من علامات الغواة، فإنهم يرغّبون في الجود ويرغبون عنه، وينفّرون عن البخل ويصرّون عليه، ويقدحون في الأعراض لأدنى سبب، ولا يرتكبون إلا الفواحش، أما النبي محمد صلّى الله عليه وسلم فعلى خلاف ذلك، لا يأمر بالشيء إلا وقد فعله، ولا ينهى عن الشيء إلا وقد اجتنبه، يأمره ربه بإخلاص العبادة له أولا: فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ولا يستثني قرابته من شيء من التكاليف الشرعية أو المدنية أو السياسية: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. فمنهج الشعراء مخالف لحال النبوة، فإنها طريقة واحدة لا يتبعها إلا الراشدون، ودعوة الأنبياء واحدة، وهي الدعاء إلى توحيد الله وعبادته والترغيب في الآخرة والصدق «١».
ثم استثنى الله تعالى من الشعراء من اتصف بصفات أربع هي الإيمان، والعمل الصالح، وذكر الله وتوحيده، ونصرة الحق وأهله، فقال:
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا، وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً، وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا أي إلا الذين صدقوا بالله ورسوله، وعملوا الأعمال الصالحة، وذكروا الله كثيرا في كلامهم أو شعرهم، ودافعوا عن النبي ودينه وقاوموا الشرك وأهله، مثل حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك،
(١) البحر المحيط: ٧/ ٤٩.
245
وكعب بن زهير الذين ردوا على الكفار الذين كانوا يهجون المؤمنين. ومثلهم بعدئذ البوصيري رحمه الله وأحمد شوقي في مدائحه النبوية ونحوهم.
وقيل: المراد بهذا الاستثناء عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن مالك وكعب بن زهير لأنهم كانوا يهجون قريشا،
وعن كعب بن مالك «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال له: اهجهم، فو الذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من رشق النبل»
وكان يقول لحسان بن ثابت: «قل وروح القدس معك».
ثم ختم الله تعالى السورة بالتهديد الشديد والوعيد الأكيد، فقال:
وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ أي إن الذين ظلموا أنفسهم بالكفر وأعرضوا عن تدبر هذه الآيات، والتأمل في هذه البينات الفارقة بين نبوة النبي وكهانة الكهان وشعر الشعراء، سيعلمون أي مرجع يرجعون إليه بعد الموت لأن مصيرهم إلى النار، وهو أقبح مصير، ومرجعهم إلى العقاب، وهو شر مرجع.
ذكر الجمهور أن المراد من الآية الزجر عن الطريقة التي وصف الله بها هؤلاء الشعراء. قال الرازي: والأول- أي هذا الرأي- أقرب إلى نظم السورة من أولها إلى آخرها. ثم قال ابن كثير: والصحيح أن هذه الآية عامة في كل ظالم، كما قال ابن أبي حاتم، ومن الوقائع الشهيرة في الاستشهاد بهذه الآية ما قالته عائشة:
«كتب أبي في وصيته سطرين: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما وصّى به أبو بكر بن أبي قحافة عند خروجه من الدنيا حين يؤمن الكافر، وينتهي الفاجر، ويصدق الكاذب، إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، فإن يعدل فذاك ظني به، ورجائي فيه، وإن يجر ويبدل فلا أعلم الغيب: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ».
قال القرطبي: والفرق بين المنقلب والمرجع: أن المنقلب: الانتقال إلى ضد ما هو فيه، والمرجع: هو العود من حال هو فيها إلى حال كان عليها، فصار كل مرجع منقلبا، وليس كل منقلب مرجعا، ذكره الماوردي.
246
فقه الحياة أو الأحكام:
حسمت الآيات الفرق بين النبوة وبين الكهانة والشعر، فالنبوة حق وصدق، والنبي موحى إليه من عند ربه، والقرآن كلام الله الذي نزل به جبريل الأمين على قلب النبي صلّى الله عليه وسلم.
ولا يمكن للشياطين أن تتنزل بالقرآن ولا تستطيعه ولا تنسجم معه، فهو يدعو إلى الإيمان والهداية والحق والاستقامة، أما الشياطين فتدعو إلى الكفر والضلال والباطل والفساد والانحراف.
والشياطين تتنزل على كل أفّاك (كذوب) أثيم (فاجر في أفعاله) والكهنة يصغون السمع إلى الشياطين، وأكثر الكهنة والشياطين كاذبون في أخبارهم وأقوالهم. أما الأنبياء فينزل جبريل الأمين عليهم بالوحي الصادق الذي لا مرية فيه بكونه من رب العالمين.
والشعراء الماجنون يتّبعهم ضلال الجن والإنس الزائغون عن الحق، وهذا دليل على أن الشعراء أيضا غاوون لأنهم لو لم يكونوا غاوين، ما كان أتباعهم غواة. أما النبي فيتبعه صلحاء الجن والإنس لأنه يدعو إلى الخير والصلاح والبر والتقوى.
والدليل على غواية أغلب الشعراء أمران: أنهم في كل لغو يخوضون، ولا يتبعون سنن الحق لأن من اتّبع الحق وعلم أنه يكتب عليه ما يقوله تثبّت، ولم يكن هائما على وجهه، لا يبالي بما قال وأن أكثرهم يكذبون، فيدلون بكلامهم على الكرم والخير ولا يفعلونه.
لكن هناك أيضا شعراء صالحون هم المتصفون بالأوصاف الأربعة التالية:
وهي الإيمان بالله الحق وبنبيه المرسل، والقيام بالعمل الصالح الذي يرضي الله،
247
وذكر الله كثيرا في كلامهم، والانتصار من الظالم بعد ظلمه، والانتصار يكون بالحق وحده وبما حدّه الله عز وجل، فإن تجاوز ذلك فقد انتصر بالباطل. ثم حذر القرآن وهدد من انتصر بظلم، فإنه سيعلم الظالمون كيف يخلصون من بين يدي الله عز وجل، فالظالم ينتظر العقاب، والمظلوم ينتظر النصرة.
موقف الإسلام من الشعر:
ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلم أحاديث في الشعر، منها ما أقره، ومنها ما ذمّه، فمن الأحاديث التي ذمّت الشعر:
ما روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه «١» خير من أن يمتلئ شعرا».
ومن الأحاديث التي مدحت الشعر
ما رواه أحمد وأبو داود عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن من البيان سحرا، وإن من الشعر حكما».
ويمكن التوفيق بين الحديثين بحمل الأول على الشعر المذموم الرديء المردود، كالشعر الذي يتكلم في الغزل الخليع، ويشبّب بالنساء والغلمان، والذي يدعو إلى الفجور والفسق، وإن كان فنا رائعا في الأدب. ومنه شعر الشاعر الذي يتخذ الشعر طريقا للتكسب، فيفرط في المدح إذا أعطي، وفي الهجو والذم إذا منع، فيؤذي الناس في أموالهم وأعراضهم. ومثل هذا، كلّ ما يكتسبه بالشعر حرام، وكل ما يقوله من ذلك حرام عليه، ولا يحل الإصغاء إليه، بل يجب الإنكار عليه، ولا يحل إعطاؤه شيئا لأن ذلك عون على المعصية، فإن لم يجد من ذلك بدا أعطاه للضرورة بنية وقاية العرض، فما وقى به المرء عرضه كتب له به صدقة.
(١) ورى القيح جوفه يريه وريا: أكله. والقبح: المدّة يخالطها دم.
248
ومنه شعر الهجاء الذي لم يقصد به هجو الكفار ونصرة الإسلام والمسلمين، فإن كان انتصارا لمن هجا المسلمين، وشبب بأعراضهم جاز، وكان مستحسنا لقوله تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء ٤/ ١٤٨].
ويحمل الحديث الآخر على الشعر الممدوح الحسن المقبول الذي قصد به إظهار الحق، وإيراد الحكمة، وتعليم الجاهل، ونصرة المظلوم والحق، والدفاع عن الوطن، والذود عنه بجيد الكلام، ونحو ذلك من كل ما فيه نفع، وتربية للنفوس، وتهذيب للعقول، وتوحيد الصفوف.
وهذا التوفيق بين الحديثين ما هو إلا نوع من وسطية الإسلام المعروفة، والاعتدال في الأشياء كلها
روى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الشعر بمنزلة الكلام، حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام». «١»
وردد هذا المعنى كبار الأئمة وعلماء اللغة والأدب، فقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: الشعر نوع من الكلام: حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام، يعني أن الشعر ليس يكره لذاته، وإنما يكره لمضمونه، وقد كان عند العرب عظيم الأثر والموقع.
وقال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: ولا ينكر الحسن من الشعر أحد من أهل العلم ولا من أولي النّهى، وليس أحد من كبار الصحابة وأهل العلم وموضع القدوة إلا وقد قال الشعر، أو تمثّل به أو سمعه، فرضيه ما كان حكمة أو مباحا، ولم يكن فيه فحش ولا خنا ولا لمسلم أذى، فإذا كان كذلك فهو والمنثور من القول سواء، لا يحل سماعه ولا قوله. والخلاصة: إن من الشعر ما يجوز إنشاده، ومنه ما يكره أو يحرم.
(١) رواه البخاري في الأدب والطبراني في الأوسط عن عبد الله بن عمرو، وأبو يعلى عن عائشة، وهو حسن.
249
ومن الأمثال الرائدة والنماذج الطيبة للشعر الذي أقره النبي صلّى الله عليه وسلم ما يأتي:
١-
روي مسلم من حديث عمرو بن الشّريد عن أبيه قال: ردفت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوما، فقال: هل معك من شعر أمية بن أبي الصّلت شيء؟
قلت: نعم، قال: هيه، فأنشدته بيتا، فقال: هيه، ثم أنشدته بيتا فقال:
هيه، حتى أنشدته مائة بيت.
قال القرطبي: وهذا دليل على جواز حفظ الأشعار المتضمنة للحكمة والمعاني المستحسنة شرعا وطبعا وعقلا، أي والداعية إلى فضائل الأخلاق. وإنما استكثر النبي صلّى الله عليه وسلم من شعر أمية لأنه كان حكيما ألا ترى
قوله صلّى الله عليه وسلم: «وكاد أمية بن أبي الصّلت أن يسلم».
٢- فأما ما تضمن ذكر الله وحمده والثناء عليه، فذلك مندوب إليه، وكذلك مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقد مدحه العباس،
فقال له: «لا يفضض الله فاك»
ومنه الدفاع عن النبي صلّى الله عليه وسلم، فقد أقر حسّان بن ثابت على ذلك،
ثبت في الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لحسان: «اهجهم- أو هاجهم- وجبريل معك» أو «قل وروح القدس معك».
وروى الإمام أحمد عن كعب بن مالك أنه قال للنبي صلّى الله عليه وسلم: قد أنزل الله في الشعراء ما أنزل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأنّ ما ترمونهم به نضح النّبل» أو «اهجهم، فو الذي نفسي بيده لهو أشدّ عليهم من رشق النّبل».
٣-
روى مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم على المنبر يقول: «أصدق كلمة- أو أشعر كلمة- قالتها العرب قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل».
أما الشعر المذموم الذي لا يحل سماعه وصاحبه ملوم: فهو المتكلم بالباطل، حتى يفضّلوا أجبن الناس على عنترة، وأشحّهم على حاتم، وأن يبهتوا البريء،
250
ويفسقوا التقيّ، وأن يفرطوا في القول بما لم يفعله المرء، رغبة في تسلية النفس وتحسين القول، كالمكثر من اللغط والهذر والغيبة وقبيح القول. وهذا المعنى هو الذي أشار إليه البخاري في صحيحة بعنوان (باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر).
لكن قد يكون الشعر حراما كما بينا في أغراضه وفي أمثلة الشعر المذموم، وقد يكون كفرا كهجو النبي صلّى الله عليه وسلم، سواء كان قليلا أو كثيرا. وأما هجو غير النبي صلّى الله عليه وسلم من المسلمين فهو محرم قليله وكثيره.
قال ابن العربي: أما الاستعارات والتشبيهات فمأذون فيها، وإن استغرقت الحدّ، وتجاوزت المعتاد. ثم قال: وبالجملة، فلا ينبغي أن يكون الغالب على العبد الشعر حتى يستغرق قوله وزمانه، فذلك مذموم شرعا «١».
وقد أنهى الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه مشكلة تكسب الشعراء بشعرهم، فلم يعطهم العطايا المعتادة، وكشف حقائقهم، وساسهم بمنطق الشرع وعدله، فأعطى الفرزدق أربعة آلاف درهم، لئلا يعرض لأحد من أهل المدينة بمدح ولا هجاء، ومنح الأحوص أحد شعراء المدينة مائة دينار، على أن يكف عن هجاء أبي بكر بن عبد العزيز بن مروان، وعاقب الشاعر جرير بالرغم من مدحه، مع عمرو بن لجأ التيمي، لما تهاجيا وتقاذفا، وغضب على شاعر الخلاعة والعزل والتشبيب بالنساء عمر بن أبي ربيعة، ونفاه إلى دهلك، لكثرة تعرضه لنساء الأشراف وبناتهم «٢».
(١) أحكام القرآن: ٣/ ١٤٣٤ وما بعدها.
(٢) الخليفة الراشد العادل عمر بن عبد العزيز للمؤلف ٦٢ وما بعدها، المرجع السابق: ٣/ ١٤٣٠.
251

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة النمل
مكية، وهي ثلاث وتسعون آية.
تسميتها:
سميت سورة النمل لإيراد قصة وادي النمل فيها، ونصيحة نملة منها بقية النمل بدخول جحورهن، حتى لا يتعرضن للدهس من قبل جند سليمان عليه السلام دون قصد، ففهم سليمان الذي علمه الله منطق الطير والدواب كلامها، وتبسم ضاحكا من قولها، ودعا ربه أن يلهمه شكره على ما أنعم به عليه.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر صلة هذه السورة بما قبلها من وجوه:
١- أنها كالتتمة لها في بيان بقية قصص الأنبياء، وهي قصة داود وسليمان عليهما السلام.
٢- أن فيها تفصيلا لما أجمل في سورة الشعراء من القصص النبوي، وهي قصة موسى في الآيات [٧- ١٤] وقصة صالح في الآيات [٤٥- ٥٣] ولوط في الآيات [٥٤- ٥٨].
٣- نزلت هذه السور الثلاث (الشعراء، والنمل، والقصص) متتالية على هذا الترتيب، وذلك كاف في ترتيبها في المصحف على هذا النحو. روي عن
252
ابن عباس وجابر بن زيد في ترتيب نزول السور: أن الشعراء، ثم طس، ثم القصص. كما يوجد تشابه بينها في البداية والافتتاح (طسم، الشعراء، طس، النمل، طسم، القصص) ولعل التشابه بين الأولى والثالثة، والاختلاف الجزئي في الثانية دليل على تأكيد المقصود بهذه الحروف المقطعة وهو تحدي العرب بالقرآن الذي تكوّن من حروف لغتهم المتركبة في جمل، بزيادة أحيانا ونقص أحيانا من تلك الحروف.
٤- كذلك وجد التشابه الموضوعي بينهما في وصف القرآن وتنزيله من عند الله لأنه قال في بداية الشعراء: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ وقال هنا:
تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ وقال في أواخر الشعراء: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وقال هنا: تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ أي الذي هو تنزيل رب العالمين.
٥- تلتقي السورتان في بيان وحدة القصد من القصص القرآني، وهو تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلم عما يلقاه من أذى قومه، وإعراضهم عنه.
مشتملاتها:
هذه السورة المكية تتفق مع أغراض السور المكية في بيان أصول العقيدة:
وهي التوحيد، والنبوة، والبعث، وإثبات كون القرآن الكريم منزلا من عند الله العزيز الحكيم.
وإسهاما في توضيح تلك الأغراض أبانت السورة معجزة النبي محمد صلّى الله عليه وسلم الخالدة، وهي تنزيل القرآن المجيد هدى ورحمة وبشرى للمؤمنين، ثم سردت وقائع مثيرة من قصص الأنبياء: موسى، وداود، وسليمان، وصالح، ولوط، عليهم السلام، تبين مدى ما تعرّض له موسى وصالح ولوط من أذى أقوامهم، وتكذيبهم برسالاتهم، وإنزال العقاب الأليم بهم، وتنبّه إلى ما أنعم الله به على
253
داود وسليمان من النعم العظمى، بهبة النبوة والملك والسلطان، وتسخير الجن والإنس والطير، وإذعان الملكة بلقيس لدعوة سليمان.
وفي هذا حكمة بالغة لأصحاب السلطة هي اتخاذ السلطان والنفوذ سبيلا للدعوة إلى الله جل جلاله.
وتلا ذلك بيان الأدلة والبراهين على وجود الله وتوحيده من خلق الكون:
سمائه وأرضه، بره وبحره، وإلهام الإنسان الإفادة من كنوز الأرض، والهداية في ظلمات البر والبحر، وإمداده بالأرزاق الوفيرة، ومفاجأته بأهوال يوم القيامة ومغيبات الأحداث، وسعة علم الله، وتعاقب الليل والنهار.
وأنكرت السورة بعدئذ على المشركين تكذيبهم بالبعث والحشر والنشور، وألزمت بني إسرائيل بالاحتكام إلى القرآن في خلافاتهم وخصوماتهم، وتحدثت عن أشراط الساعة، كخروج دابة الأرض، وحشر فوج من كل أمة، وتسيير الجبال، ثم ذكّرت بالنفخ في الصور لجمع الناس ومجيئهم داخرين صاغرين لله تعالى.
وختمت السورة بتصنيف الناس إلى سعداء أبرار، وأشقياء فجار، وجزاء كلّ بما يستحق خيرا أو شرا، وإعلام المشركين بوجوب عبادة الله وحده، والتخلي عن عبادة الأصنام والأوثان، والالتزام بمنهج القرآن ودستوره في الحياة لأنه نور وهداية، ومن اهتدى فلنفسه ومن ضلّ فعليها، وتعريفهم بآيات الله العظمى في وقت لا ينفعهم فيه شيء غير الإيمان بالله وحده، وتعرضهم للجزاء الحتمي عن جميع أعمالهم.
والخلاصة: أن ما ذكر في هذه السورة يدعو إلى المبادرة إلى الإيمان بالله تعالى ربا وإلها لا شريك له، والتصديق بالبعث طريقا لإنصاف الخلائق، واتخاذ القرآن نبراسا ودستورا للحياة الإنسانية.
254
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إلخ، فهو تفصيل بعد إجمال.