تفسير سورة فاطر

الهداية الى بلوغ النهاية
تفسير سورة سورة فاطر من كتاب الهداية الى بلوغ النهاية المعروف بـالهداية الى بلوغ النهاية .
لمؤلفه مكي بن أبي طالب . المتوفي سنة 437 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة فاطر مكية١
١ هي كذلك في جامع البيان ١٤/٣١٩ وتفسير البغوي ٥/٢٩٦ والكشاف للزمخشري ٣/٥٩٥ والمحرر الوجيز ١٣/١٥٣ والجامع للقرطبي ١٤/٣١٨ وتفسير الخازن ٥/٢٩٦ وتفسير ابن كثير ٣/٥٤٧ والبرهان للزركشي ١/١٩٣ والدر المنثور ٧/٣ وفتح القدير ٤/٣٣٧ وروح المعاني ٢٢/١٦١.

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة فاطر
مكية
قوله تعالى ذكره: ﴿الحمد للَّهِ فَاطِرِ السماوات والأرض﴾ إلى قوله: ﴿كَذَلِكَ النشور﴾.
أي: الشكر الكامل والثناء الجميل لله الذي ابتدع خلق السماوات والأرض وابتدأهما.
قال ابن عباس: ما كنت أدري ما فاطر حتى اختصم أعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي ابتدأتها.
ثم قال: ﴿جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً﴾ أي: أرسلهم إلى من يشاء من خلقه وفيما شاء وبما شاء من أمره ونهيه، والرسل هم ها هنا: جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت صلى الله عليهم وسلم.
ومعنى ﴿أولي أَجْنِحَةٍ﴾ أي: أصحاب أجنحة، منهم من له اثنان، ومنهم من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة، أربعة من كل جانب، وهو قوله/: ﴿مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ﴾، قاله قتادة وغيره.
5947
وإنما تتصرف هذه الأعداد لعلتين، وذلك أنه معدول عن اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة، والثانية أنه عدل في حال النكرة. وقيل: العلة الثانية أنه صفة.
ثم قال تعالى: ﴿يَزِيدُ فِي الخلق مَا يَشَآءُ﴾ أي: يزيد في خلق الملائكة وفي عدد أجنحتها وغير ذلك ما يشاء.
وقال الزهري: هو حُسْنُ الموت. فيكون ﴿وَرُبَاعَ﴾ وقفاً كافياً على القول الأول، وتماماً على القول الثاني.
وقال قتادة: هو مَلاحَةٌ في العينين.
وروي عن ابن شهاب أنه قال: " سأل رسول الله جبريل ﷺ أن يتراءَى لَهُ في صُورَته، فقال له جبريل: لا تُطيقُ ذلك، إِنِّي أحبُّ أَنْ تَفْعَلَ فَخَرَجَ رسول الله إلى المصلّى فأتاهُ جبريل على صورته فَغَشِيَ على رسول الله ﷺ حين رآه. ثم أفاق وجبريل ﷺ مُسْنِدُهُ واضِعٌ إِحْدَى يديه على صدره والأخرى بين كتفيه، فقال رسول
5948
الله: سبحان الله ما كنت أرَى شَيْئاً مِنَ الخَلْقِ هَكَذا. فقال جبريل ﷺ: فكيف لو رأيْتَ إِسْرَافِيل ﷺ، إنَّ لهُ لاثني عشر جناحاً منها جناح في المشرق وجناح في المغرب، وإن العرش لعلى كاهليه وأنه ليتضاءل الأحيان من عظمة حتى يعود مثل الوَصَعِ - وَالوَصَعُ عُصْفُورٌ صَغيرٌ - حتى ما يحمِلُ عرْشَهُ إلاّ عظمَته " ذكر هذا الحديث علي بن سعيد.
وقال ابن عباس في قوله: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً﴾ [النبأ: ٣٨]: إنّ الرّوح ملك يقوم وحده صفاً مثل جميع ملائكة السماوات، له ألف وجه، في كل وجه ألف لسان، كل لسان يسبّح الله بثنتين وسبعين لغة، ليس منها لغة تشبه الأخرى، لو أن الله تعالى أَسْمَعَ صوته أهل الأرض لخرجت أرواحهم من أجسامهم من شدّة صوته، ولو سُلِّطَ على السماوات السبع والأرضين السبع لأدخلهنّ في فيه من أحد شدقيه، يذكر الله في كل يوم مرتين فإذا ذكر الله خرج من فيه من النور قطع كأمثال الجبال العظام، لولا أن الملائكة الذين من حول العرش يذكرون الله لا حترقوا من ذلك النور الذي يخرج من فيه، موضع قدميه مسيرة سبعة آلاف سنة، له ألف جناح، فإذا كان يوم القيامة قام هو
5949
وحده صفاً وقامت الملائكة صفاً واحداً فيكون مثل صفوفهم.
وقد روى مالك أن النبي ﷺ قال: " إنَّ اللهَ أَذِنَ لي أنْ أتحدَّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنَ الملائِكَةِ: إنّ بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ وَعَاتِقِهِ ليَخْفِقُ الطَّيْرُ سبعِينَ عاماً ".
ثم قال: ﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي: يقدر على ما يشاء من الزيادة في الخلق والنقص منه وعلى غير ذلك من الأشياء كلها.
ثم قال تعالى: ﴿مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا﴾ أي: ما يعطي الله للناس من خي فلا ممسك له، وما يحبس من ذلك فلا مرسل له من بعده، له الأمر ومفاتيح الخير بيده يفعل ما يشاء. وقيل: هو في المطر يرسله متى يشاء.
وقيل: هو في الدعاء.
ثم قال: ﴿العزيز﴾ أي: في نقمته ممن انتقم منه من خلقه بحبسه رحمته عنه.
﴿الحكيم﴾ في تدبيره خلقه. وقيل: الرحمة هنا الغيث.
ثم قال تعالى: ﴿يا أيها الناس اذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ﴾ هذا خطاب للمشركين، أي: اذكروا تفضُّلَ الله عليكم وتدبّروا أنه لا يرزقكم من السماء والأرض أحد غيره فيجب لكم ألاّ تعبدوا غيره. ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ أي لا معبود غيره، يرزقكم المطر من السماء والنبات من الأرض. ومن رفع " غير " جعله نَعْتاً لخالقٍ " على الموضع.
5950
وقد ذكر اليزيدي أنه على التقديم والتأخير، وأن المعنى: هل غَيْرُ الله من خالق. ويجوز أن يرفع " غير " بفعله فيكون تقدير الكلام: هل من خالق إلاّ الله. فلما جعلت " غير " موضع إلاّ، رفعت كإعراب الاسم الذي بعد إلاّ.
ومن خفض جعله نَعْتاً ل " خالقٍ " على اللفظ. ويجوز النصب على الاستثناء.
ثم قال: ﴿فأنى تُؤْفَكُونَ﴾ أي: فمن أي وجه تصرفون عن خالقكم ورازقكم، أي: من أين يقع لكم التكذيب بتوحيد الله وإنكار البعث.
قال حميد الطّويل: قلت للحَسَنِ: من خلق الشّر؟ فقال: سبحان الله/ هل من خالق غير الله. قال: خلق الخير والشّر.
5951
ثم قال تعالى: ﴿وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور﴾ هذا تسلية للنبي ﷺ، أي: إن يكذبك يا محمد هؤلاء المشركون بالله من قومك، فإن ذلك سنة أمثالهم من كفرةِ الأمم من قبلهم في تكذيبهم الرُّسُلَ.
قال قتادة: يُعزِّي نبيّه ﷺ كما تسعمون.
ثم قال: ﴿وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور﴾ أي: يرجع أمرك وأمرهم فيجازيهم على فعلهم.
ثم قال: ﴿يا أيها الناس إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا﴾ أي: إن وعدَ الله لكم بالعذاب على كفركم حق فلا يعرّنكُمْ ما أنتم فيه من العيش والمال في الدنيا، أي: لا يخدعنكم ذلك.
ثم قال: ﴿وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بالله الغرور﴾ أي: لا يخدعنّكم بالله الشيطان فيُعَنِّيكم بأن لا حساب ولا عقاب ولا بعث، فيحملكم ذلك على الإصرار على الكفرة، قاله ابن عباس وقتادة.
وقال ابن جبير: الغرور الحياة الدنيا ونعيمها، يشتغل الإنسان بها عن عمل الآخرة حتى يقول: ﴿يَقُولُ ياليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ [الفجر: ٢٤]. وقُرِئَ " الغُرورُ " بالضمّ على أنه جمغ غارّ، كما يقال جالس وجُلوس فيكون معناه كمعنى الأول.
5952
وقيل: هو جمغ غرّ وغَرّ مصدر.
وقيل: هو مصدر، وفيه بُعْدٌ لأن الفعل مُتعدٍّ ولم يأتِ في مصدر المتعدّي فعومل إلاّ في أشياء مسموعة مثل لزمته لزوماً ونهكه المرض نهوكاً.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ﴾ أي: إن الشيطان الذي نهيتكم ألاّ يخدعكم ويغرّكم لكم عدو.
﴿فاتخذوه عَدُوّاً﴾ أي: أنزلوه منزلة العدو لكم واحذروه ولا تطيعوه، فإنما يدعو من أطاعه وهم حزبه.
﴿لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السعير﴾ أي: من المخلّدين في نار جهنّم.
ويقال: السعير: الطبقة السادسة من جهنم لأنها سبع طباق، وطبقة تحت طبقة، لكل طبقة باب، كما قال: لها سبعة أبواب. فكل باب تحت الباب الذي فوقه أعاذنا الله منها.
وعدو هنا بمعنى معاد، فيجوز تثنيته وجمعه وتأنيثه، فإن جعلته بمعنى النسب لم تجمع ولم تثن ولم يؤنث.
وعلى هذا قال تعالى: ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي﴾ [الشعراء: ٧٧].
ثم قال تعالى: ﴿الذين كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ يعني عذاب النار.
5953
ثم قال تعالى: ﴿والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ الآية، أي: آمنوا بالله ورسله وكتبه وعملوا بطاعته. ﴿لَهُم مَّغْفِرَةٌ﴾ أي: ست على ذنوبهم. ﴿وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾: الجنة، قاله قتادة وغيره.
ثم قال تعالى: ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ [فَرَآهُ حَسَناً﴾ مَنْ: رُفِعَ بالابتداء، وخبره محذوف، والتقدير: أفمن زين له سوء عمله] فرآه حسناً ذهبت نفسك عليهم حسرات.
والمعنى: أن الله نهى نبيه ﷺ أن يغتمّ بمن كفر به وألاّ يحزن عليهم، وهذا مثل قوله: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ﴾ [الكهف: ٦] أي: قاتلها.
وقال الأصمعي في قول النبي ﷺ: " أَهْلُ اليَمَنِ هُمْ أَرَقُ قُلُوباً وَأَبْخَعُ طَاعَةً " إنّ معنى " أبخع ": أنصح، قال: وباخع نفسك من هذا، كأ، هـ من شدّة نصحه لهم قاتل نفسه.
5954
قيل: التقدير في خبر الابتداء: أفمن زيّن له سوء عمله فرآه حسناً كمن هداه الله، ودلّ على هذا المحذوف قوله بعد ذلك: ﴿يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾.
ويدل على المحذوف في القول الأول: ﴿فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ﴾. فلا يحسن الوقف على هذين القولين على " حسناً "، وتقف على القول الثاني على ﴿وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾.
ولا تقف على القول الأول إلاّ على ﴿حَسَرَاتٍ﴾. والمعنى زين له الشيطان سوء عمله فأراه إياه حسناً.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ أي: ذو علم بعملهم ومحصيه عليهم ومجازيهم به.
ثم قال تعالى: ﴿والله الذي أَرْسَلَ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً﴾ أي: الله الذي أرسل الرياح فتجمع سحاباً وتجيء به وتخرجه، قاله أبو عبيدة.
ثم قال تعالى: ﴿فَسُقْنَاهُ﴾ أي نسوقه.
﴿إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ﴾ أي: مجدب لا نبات فيه. ﴿فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ أي: فنحيي به الأرض بعد جدوبها وننبت فيها الزرع بعد المَحْلِ.
﴿كَذَلِكَ النشور﴾ أي: كذلك ينشر الله الموتى بعد ابتلائهم في قبورهم فيحييهم.
روى أبو الزعراء عن عبد الله أنه قال: يكون بين النفختين ما شاء الله أن
5955
يكون، فليس من بني آدم خلق إلاّ وفي الأرض منه شيء، قال فيرسل الله جلّ ذكره ماء من تحت العرش مَنِيًّا كَمَنِيِّ الرّجلِ فتَنْبَتُ أجسادهم وَلحُمانُهُم/ من ذلك ما تَنبُتُ الأرض من الثرى، ثم قرأ: ﴿الله الذي يُرْسِلُ الرياح﴾ [الروم: ٤٨] الآية. قال: ثم يقوم ملك الصُّورِ بين السماء والأرض فينفخ فيها فتنطلق كل نفس إلى جسدها فتدخل فيه.
قوله تعالى ذكره: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ العزة فَلِلَّهِ العزة جَمِيعاً﴾ إلى قوله: ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.
أي: من كان يريد العزّة بعبادة الأوثان والأصنام فإن لله العزّة جميعاً، قاله مجاهد.
وقال قتادة: معناه: من كان يريد أن يتعزز فليتعزز بطاعة الله. وقال الفراء: معنه من كان يريد علم العزة فإنها لله جميعاً، أي: كلها له.
وقيل المعنى: من كان يريد العزّة التي لا ذلة تعقبها فهي لله، لأنّ العزّة إذا أعقبتها ذلة فهي ذلة إذ قصاراها للذلة.
5956
و " جميعاً " منصوب على الحال. أي: إن العزة في حال اجتماعها، له في الدنيا والآخرة.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ﴾ أي: إلى الله يصعد ذكر العبد ربّه، ويرفع ذكر العبد ربَّه العمل الصالح، وهو العمل بطاعة الله.
ويُقال: الكلم الطيب هو لا إله إلاّ الله، يرفعه عمل الفرائض، فإذا قال العبد لا إله إلاّ الله نظرت الملائكة إلى عمله، فإن كان عمله موافقاً لقوله صعدا جميعاً ولهما دوي كدوي النحل حتى يقف بين يدي الله تعالى، فنظر إلى قائلها نظرة لا يَيْؤُسُ بعدها أبداً، وإذا كان عمله مخالفاً لقوله، وقف حتى يموت من عمله.
قال عبد الله: إنّا إذا حدثناكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله تعالى، إن العبد المسلم إذا قال: سبحان الله وبحمده الحمد لله لا إله إلاّ الله والله أكبر تبارك الله، أخذهن ملك فجعلهنّ تحت جناحه ثم يصعد بهنّ إلى السماء فلا يَمُرُّ بِهِنَّ على جَمْعٍ نم الملائكة إلاّ استغفروا لقائلهنّ، ثم قرأ عبد الله:
﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ﴾.
وقال كعب: إن لسبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر لدويًّا حول العرش كدويّ النحل يذكرن بصاحبهنّ. والعمل في الخزائن.
قال ابن عباس: ﴿الكلم الطيب﴾ ذكر الله، و ﴿والعمل الصالح﴾ أداء فرائضه فمن ذكر الله في أداء فرائضه، حمل عمله ذكر الله فصعد به إلى الله سبحانه.
5957
ومن ذكر الله ولم يؤدّ فرائضه رُدَّ كلامه على عمله فكان أولى به. وكذلك قال الحسن وابن جبير ومجاهد وأبو العالية والضحاك وقال شهر بن حوشب: " الكلم الطيب " القرآن، و " العمل الصالح " يرفع القرآن. أي التوحيد يرفع القرآن.
روي عن ابن مسعود أنه قال: إذا حدثناكم بحديث آتيناكم بتصديقه من كتاب الله تعالى: خمس ما قالهنّ عبد مسلم إلاّ قبض عليهن ملكٌ فجعلهنّ تحت جناحه فيصعد بهن لا يمر بهنّ على جمع من الملائكة إلاّ استغفروا لقائلهن حتى يجيء بها الرحمن: الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلاّ الله والله أكبر وتبارك وتعالى، ثم قرأ: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ﴾.
5958
وعن قتادة أنه قال: العمل الصالح يرفعه الله. ويجب على القول أن يكون الاختيار نصب " العملَ الصالحَ ".
وقيل: إن المعنى: والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب. ويجب أيضاً على هذا التأويل أ، يكون الاختيار نصب " العمل الصالح "، ولم يقرأ به أحد غير عيسى بن عمر.
وما تقدم عند هذين من التأويلات لا يلزم فيها نصب " العمل " لأن الضمير لا يعود على العمل.
ثم قال: ﴿والذين يَمْكُرُونَ السيئات﴾ أي يكتسبونها.
﴿لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ يعني عذاب جهنم.
ثم قال: ﴿وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ﴾ أي: وعمل هؤلاء المشركين هو يبطل ويهلك لأنه لم يكن لله.
قال قتادة: يبور: يفسد. يقال بار، يبور إذا هلك.
وقال شهر بن حوشب: هم أصحاب الرياء.
5959
وقال أبو اسحاق: وقد بيّن الله مكرهم في سورة الأنفال فقال: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ﴾ [الأنفال: ٣٠].
" الكلم الطيب " وَقْفٌ إلاّ على قراءة من نصب " والعمل ".
ثم قال تعالى: ﴿والله خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ﴾ أي: خلق آدم الذي هو أبوكم من تراب، ثم خلقكم يا ذرّيته من نطفة الرجل والمرأة ﴿ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً﴾ أي أجناساً. / وقيل: معناه: زوج الأنثى للذكر. قاله قتادة وغيره.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ﴾ أي: هو عالم يوقت حمله ووقت وضعه وما هو أذكر أم أنثى.
ثم قال: ﴿وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ﴾ أي: ما يطول في عمر أحد ولا ينقص غيره من مثل ما عمره إلاّ في كتاب قبل أن تحمل به أمة، وقبل أن تضعه، يجعل عمر هذا طويلاً وعمر هذا أنقص منه، فلا يزاد في ذلك ولا ينقص منه.
وقال ابن عباس قولاً معناه: ليس أحد قضى الله له طول عمر ببالغ دون ذلك، ولا أحد قضى الله له قصر عمر ببالغ أطول من ذلك، كل في كتاب مبين. يعني اللوح المحفوظ، وهذا هو القول الأول بعينه.
5960
وكذلك قال الضحاك وابن زيد.
قال ابن زيد: أن الإنسان يعيش مائة سنة، والآخر يموت حين يولد.
وهو مذهب الفراء، فالها تعود على غير المعمر، والمعنى: وما يعمر من إنسان تعمر ولا ينقص من ذلك العمر من عمر إنسان آحر إلاّ وهو في كتاب مبين.
ويجوز أن تكون تعود على المعمر على حذف، والتقدير: وما يعمر من معمّر ولا ينقص آخر من مثل عمر المعمر الأول إلاّ في كتاب. وقال ابن عباس وابن جبير: المعنى: ما يعمر من إنسان ولا ينقص من عمر ذلك الإنسان إلاّ في كتاب، أي كلّما نقص من عمر ابن آدم فهو في كتاب، أي يكتب نقص من عمره يوم، نقص شهر، نقص سنة، في كتاب آخر إلى أن يستوفى أجله فيموت.
قال ابن جبير: ما مضى من عمره فهو النقصان، وما يستقبل فهو الذي يعمره، وهذا اخيار أبي إسحاق وقوله.
وكان كعب الأحبار يذهب إلى أن الإنسان يجوز أن يزاد في عمره ما لم يحضر الأجل.
وروي أنه لما طُعِنَ عُمر رضي الله عنهـ قال: لو شاء الله لزاد في أجله فأنكر عليه ذلك
5961
المسلمون، وقالوا: إن الله جلّ ذكره يقول: ﴿فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [النحل: ٦١]، فقال: وإن الله يقول: ﴿وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ﴾.
وقيل: إن معنى الآية: لن يكون بحكم أن عمرَ الإنسان مائة سنة إن أطاع الله وتسعون إن عصاه فأيّهما بلغ فهو في كتاب.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ﴾ أي: إحصاء أعمار خلقه عليه يسير سهل.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿وَمَا يَسْتَوِي البحران هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ﴾. أي ما يعتدلان. والفرات: أعذب العذب، والملح الأجاج: ماء البحر.
والأجاج: المر وهو أشد المياه ملوحة في مرارة.
ثم قال: ﴿وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً﴾ أي: ومن كل البحار، يعني الحم الحوت وغيره من صيد البحرين.
ثم قال تعالى: ﴿وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا﴾ يعني اللؤلؤ والمرجان.
فقال: ﴿وَمِن كُلٍّ﴾، فَعَمَّ، هما إنما يخرجان من الملح، كما قال: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ﴾ [الرحمن: ٢٢] أي من أحدهما، هذا قول أبي اسحاق.
وقيل: إن الأصداف التي منها الدُّرُّ وغيره إنما تستخرج من المواضع التي فيها
5962
الماء العذاب والملح نحو العيون.
وقال المبرد: قوله: ﴿وَمِن كُلٍّ﴾ يراد به الملحق خاصة كما قال تعالى: ﴿جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ﴾ [القصص: ٧٣]، وكما تقول: لو رأيت الحسن والحجاج لرأيت خيراً كثيراً تريد به الحسن خاصة.
والمعنى على قول المبرد: ومن كل الملح تستخرجون.
ثم قال تعالى: ﴿وَتَرَى الفلك فِيهِ مَوَاخِرَ﴾.
قال قتادة: تجري مقبلة ومدبرة. يقال: مخَرَتِ السفينة مَخْراً إذا خرقت الماء.
قال ابن عباس: " مواخر " جواري، يعني في الملح خاصة، فلذلك قال " فيه ".
والفُلْكُ جمع فَلَك كأسَدٍ وأُسُدٍ، وَوَثَنٍ وَوُثْنٍ.
ثم قال تعالى: ﴿لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ﴾ أي: في السفن يطلبون الرزق بالأسفار فيها.
﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أي: تشكرون على تسخيره إياها لكم وعلى غير ذلك.
قوله تعالى ذكره: ﴿يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار﴾ إلى قوله: ﴿إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ﴾.
5963
أي: يزيد من الليل في النهار، ومن النهر في الليل. وأصل الإيلاج الدخول. فالمعنى يدخل مِنْ هذا في هذا، وَمِنْ هذا في هذا.
قال ابن عباس: هو انتقاص أحدهما من الآخر.
ثم قال: ﴿وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ أي: سخرهما في الجري نعمة منه وفضلاً لتعلموا عدد السنين/ والحساب، والليل من النهار، يجريان لوقت معلوم لا يتقدمانه ولا يتأخران عنه.
قال قتادة: لا يقصر دونه ولا يتعداه.
وقيل: الأجل المسمى هنا: القيامة.
ثم قال: ﴿ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ﴾ أي: الذي يفعل هذه الأفعال هو الله معبودكم الذي لا تصلح العبادة إلاّ له.
ثم قال: ﴿لَهُ الملك﴾ أي: له الملك التام، كل ما في سلطانه وملكه يفعل ما يشاء.
ثم قال: ﴿والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ﴾ أي: الأوثان والأصنام التي تعبدون من دون الله لا تملك شيئاً من ذلك ولا مقدار قطمير فما فوقه، وهي القشرة الرقيقة التي على النواة.
وقال ابن عباس: قَطمير هو الجلد الذي يكون على ظهر النواة.
5964
وقال مجاهد: لفافة النواة كسحاة البيضة.
وقال قتادة: هو الذي على رأس النواة.
وقال جرير عن بعض رجاله: هو القمع الذي على رأس الثمرة ثم ق ل: ﴿إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ﴾ يعني الأصنام لأنها جمادات لا روح لها.
ثم قال: ﴿وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ﴾ أي: لو كان لها روح فسمعت لم تستجب، إذ هي ليست ممن ينطبق وليس كل ما سمع ينطق. فكيف تعبدون من هذه حالة وتتركون عيادة من خلقكم وأنعم عليكم بتسخير الليل والنهار والشمس والقمر وغير ذلك من نعمه.
قال قتادة: ﴿وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ﴾ أي: ما قبلوا ذلك عنكم ولا نفعوكم فيه.
ثم قال: ﴿وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ﴾ أي: تتبرأ آلهتكم التي كنتم تعبدون في الدنيا من أن تكون لله شركاء.
قال قتادة: معناه يكفرون بشرككم إياهم، ولا يرضون به ولا يقرّون به. وهو
5965
قوله: ﴿مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ﴾ [يونس: ٢٨].
ثم قال: ﴿وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ فالله جلّ ذكره هو الخبير أن هذا سيكومن في القيامة.
ثم قال: ﴿يا أيها الناس أَنتُمُ الفقرآء إِلَى الله والله هُوَ الغني الحميد﴾ أي: أنتم ذووا الحاجة إلى الله فإياه فاعبدوه، والله هو الغني عن عبادتكم إياه وعن غير ذلك، (المحمد) على نعمه فله الحمد والشكر بكل حال.
﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾ أي: يهلككم لأنه أنشأكم من غير حاجة به إليكم. ﴿وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ أي: بخلق سواكم يطيعونه.
﴿وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ﴾ أي: وما ذهابكم والإتيان بخلق جديد بعزيز على الله، أي شديد عليه، بل ذلك هيّن سهل.
ثم قال تعالى: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى﴾ أي: لا تحمل نفس حاملة حِمْلَ نفس أخرى، يعني من الذنوب والآثام.
روي أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي، قال لمن أسلم من بني مخوم: ارجعوا إلى دينكم القديم وأنا أحمل عنكم أوزاركم. وفيه نزلت:
5966
﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ موسى * وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى * أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى﴾ [النجم: ٣٦ - ٣٨].
ثم هذا كله عام في من ادّعى أن يحمل ذنب غيره لا يجوز له شيء من ذلك ولا ينتفع به المحمول عنه.
ثم قال: ﴿وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ﴾ أي: إن تدع نفس مثقلة بالأوزار والذنوب إلى أن يحمل غيرها عنها من ذلك شيئاً، لا يحمل أحد عنها من ذلك شيئاً، ولو كان المدعو ذا قرابة من الداعي.
قال بن عباس: لا يؤخذ أحد بذنب أحد.
قال عكرمة: بلغني أن اليهودي والنصراني يرى الرجل يوم القيامة فيقول: [" ألم أكن قد أسديت إليك يداً؟]، ألم أكن قد أحسنت إليكم؟، فيقول: بلى، فيقول: انفعني، فلا يزال المسلم حتى ينقص من عذابه، وإن الرجل ليأتي إلى أبيه يوم القيامة فيقول: ألم أكن بك باراً وعليك مشفقاً وإليك محسناً؟ وأنت ترى ما أنا فيه، فهب لي حسنة من حسناتك أو تحمّل عني سيئة، فيقول: إن الذي سألتني ليسير ولكني أخاف مثل ما تخاف، وإن الأب ليقول لابنه مثل ذلك، فيرد عليه نحواً من هذا، وإن الرجل ليقول لزوجته: ألم أكن حسن العشرة لك؟ فتحمّلي عني خطيئة لعلي ألْحق، فتقول: إن ذلك ليسير ولكني أخاف مما تخاف منه، ثم تلا عكرمة: ﴿وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا﴾ الآية. وهذا القول أيضاً هو قول مجاهد وقتادة.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب﴾ أي: إنما تنذر يا محمد الذين
5967
يخافون/ عقاب الله يوم القيامة من غير معاينة منهم لذلك، لكن آمنوا بما جئتهم به من الخير بذلك عن الله وصدقوا به.
قال قتادة: معناه يخشون النار والحساب، وإنما خصّ هؤلاء بلإنزار، وإن كان ﷺ نذيراً لجميع الخلق لأنهم هم الذين ينتفعون بذلك.
ثم قال تعالى: ﴿وَأَقَامُواْ الصلاة﴾ أي: أدوا فروضها في أوقاتها بحدودها.
ثم قال: ﴿وَمَن تزكى فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ﴾ أي: ومن تطهر من دنس الكفر والمعاصي بالتوبة إلى الله، فإنما يتطهر لنفسه، أي على نفسه يعود نفع تزكيته لأنه يكسبها رضى الله جلّ ذكره والفوز بالنجاة من النار والحلول بالجنة.
قال قتادة: ومن يعمل صالحاً فإنما يعمل لنفسه، فهو مثل قوله: ﴿مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا﴾
[فصلت: ٤٦].
ثم قال: ﴿وَإِلَى الله المصير﴾ أي: رجوع كل عامل عملاً إلى الله تعالى فيجازيه عليه.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير﴾ أي: الكافر والمؤمن.
أي: ﴿وَلاَ الظلمات وَلاَ النور﴾ الكفر والإيمان.
﴿وَلاَ الظل وَلاَ الحرور﴾. أي: الجنة والنار.
5968
قال الأخفش: لا زائدة في " ولا النور " و " لا الحرور ".
وقيل: إن " لا " لها فائدة في دخولها مع الواو خلاف خروجها وذلك أنها تدل على أن كل واحد من الاثنين لا يتساويان، فإذا قلت لا يستوي الأعمى ولا البصير، فمعناه لا يساوي الأعمى البصير ولا البصير الأعمى.
وإذا قلت [لا يستوي الأعمى والبصير، فمعنها لا يساوي الأعمى البصير].
وليس فيه دلالة على أن البصير لا يساوي الأعمى، وهذا القول فيه دخَلٌ. لأن من لم تساوه لم يساوك، فدخول لا مثل خروجها.
قيل: معنى الآية: لا يستوي الأعمى عن دين الله الكافر به، والبصير في دين الله المتبع له، ولا ظلمات الكفور ونور الإسلام.
وقال ابن عباس: الظل الجنة، والحرور: النار، والظلمات: الضلالة، والنور: الهدى.
وقيل: الظل ضد الحر، والحرور الحر الدائم، والسموم لا يكون إلاّ بالنهار،
5969
والحر بالنهار والليل، هذا قول الفراء.
وقال رؤبة: الحرور بالليل، والسموم بالنهار.
قال: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأحيآء وَلاَ الأموات﴾ أي: الأحياء القلوب بالإيمان، والأموات القلوب بغلبة الكفر عليها، فلا تعقل عن الله شيئاً..
قال ابن عباس: هذا كله مثل ضربه الله لأهل الطاعة والمعصية.
ثم قال: ﴿إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ﴾ أي: يوقف من يشاء لقبول كتابه فيتعظ به.
﴿وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القبور﴾ أي: لست يا محمد تسمع الموتى كتاب الله فتهديهم به، فكذلك لا تقدر أن تسمعه من أمات قلبه فيهتدي به.
ثم قال تعالى: ﴿إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ﴾ أي: تنذر من أُرسِلت إليه ليس عليك غير ذلك.
قوله تعالى: ﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بالحق بَشِيراً وَنَذِيراً﴾ إلى قوله: ﴿الفضل الكبير﴾.
5970
أي: أرسلناك يا محمد بالدين الحق بشيراً بالجنة لمن أطاعك فآمن، ونذيراً تنذر بالنار من عصاك فكفر بك.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ﴾ أي: وما من أمة كانت قبلك يا محمد إلاّ وقد جاءها نذير ينذرها عذاب الله على الكفر.
قال قتادة كل أمة كان لها رسول.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ أي: إن يكذبك يا محمد مشركوا قومك فقد كذب الذين من قبلهم من الأمم رسلهم، جاءتهم الرسل بالبينات، أي بحجج الله الواضحة ﴿وبالزبر﴾ أي: بالكتاب من عند الله.
﴿وبالكتاب المنير﴾ أي: منير لمن تبينه وتدبره.
ثم قال: ﴿ثُمَّ أَخَذْتُ الذين كَفَرُواْ﴾ اي: أهلكتهم بكفرهم.
﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ أي انظر يا محمد كيف كان تغييري بهم وإنكار لكفرهم، وحلول عقوبتي بهم.
ثم قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا﴾ أي: منها الأحمر والأسود والأصفر.
ثم قال: ﴿وَمِنَ الجبال جُدَدٌ بِيضٌ﴾ أي: طرائق، وهي الجدد جمع جُدّة، وهي الطريقة في الجبل.
قال الأخفش: ليس جُدَد يجمعك على جديد لأنه يلزم أن تقول فيه جُددٌ بالضم،
5971
قال: والجُدَد
ُ جمع جُدَّة.
والجُدَدُ الخطوط تكون في الجبال بيض وسود وحمر. فلذلك قال: ﴿مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا﴾ أي: ألوان الجدد.
ثم قال/: ﴿وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾ أي: وسود غرابيب، فهو مؤخر يراد به التقدم.
والعرب تقول: هو أسود غربيب إذا وصفوه بشدة السواد.
ثم قال: ﴿وَمِنَ الناس والدوآب والأنعام مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ﴾ أي: خلق مختلف ألوانه.
﴿كَذَلِكَ﴾ أي: مثل الجدد، أي كما اختلفت ألوان الطرائق في الجبال، كذلك تختلف ألوان الناس والأنعام وغيرهم، قدرة من الله تعالى ينبه خلقه عليها.
ومن أجل حذف الموصول قال: " ألوانه "، أي: خلق مختلف ألوانه، ولم يقل ألوانهم ولا ألوانها.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء﴾ أي: إنما يخاف الله ويتقي عقابه العلماء بقدرته على ما يشاء وأنه يفعل ما يريد، لأنّ من علم ذلك أيقن بالمعاقبة على المعصية فخاف الله واتقاها.
قال ابن عباس: هم الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير.
5972
وقال قتادة: كفى بالرهبة علماً.
قال مجاهد: إنما العالم من خشي الله.
وقال ابن مسعود: كفى بخشية الله علماً والاغترار به جهلاً.
قال ابن منصور بن زاذان: نُبِّئتث أن بعض من يُلقَى في النّار يتأذى الناس بريحه، فيقال: ويلك ما كنت تعمل؟ أما يكفي ما نحن فيه من الشر حتى ابتلينا بك وينتن ريحك؟ فيقول: كنت عالماً فلم أنتفع بعلمي.
وقال عمران القصير: بلغني أن في جهنّم وادياً تستعيذ منه جهنم كل يوم أربع مائة مرة مخافة أن يرسل عليها فيأكلها، أعد الله ذلك الوادي للمرائين من القراء.
ثم قال: ﴿إِنَّ الله عَزِيزٌ﴾ أي: عزيز في انتقامه.
﴿غَفُورٌ﴾ للذنوب لمن تاب وأطاع.
5973
﴿كَذَلِكَ﴾ تمام حسن عند الجميع، و ﴿أَلْوَانُهَا﴾ تمام، و ﴿العلماء﴾ تمام.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ الذين يَتْلُونَ كِتَابَ الله وَأَقَامُواْ الصلاة﴾ أي: يقرؤون القرآن ويدومون على أداء الصلاة لمواقيتها بحدودها. ومعنى أقاموا: يقيمون.
ثُمّ قال: ﴿وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً﴾ يعني: الزكاة المفروضة يعطونها خفية وجهاراً. وأنفقوا بمعنى ينفقون.
وقل: المعنى: أنهم يتصدقون بعد أداء الفرض الواجب عليهم.
ثم قال تعالى: ﴿يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ﴾ أي: يطلبون بفعلهم تجارة لن تبور، أي: لن تكسد ولن تهلك.
ثم قال: ﴿لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ﴾ أي: طلبوه ذلك ورجوه لكي يوفيهم أجورهم على فعلهم ذلك ويزيدهم من فضله، وهو ما زاد على الحسنة بحسنة، وذلك تسع حسنات إلى ست مائة وتسع وتسعين، هو تفضل من الله على عباده.
قال قتادة: كان مُطرِّف إذا مرَّ بهذه الآية: ﴿إِنَّ الذين يَتْلُونَ كِتَابَ الله﴾ قال: هذه آية
5974
القراء.
ثم قل: ﴿إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ أي: غفور لهؤلاء الذين تقدمت صفتهم، شكور لحسناتهم، قاله قتادة.
ثم قال تعالى: ﴿والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب﴾ أي: من القرآن، يخاطب محمّداً ﷺ. ﴿ هُوَ الحق﴾، أي: هو الحق عليك وعلى أمتك، أن تعملوا به وتتبعوا ما فيه دون غيره من الكتب التي نزلت قبله.
ثم قال: ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أي: يصدق ما قبله من الكتب: التوراة والإنجيل وغيرها.
ثم قال: ﴿إِنَّ الله بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ أي: ذو خَبَرٍ بِهِمْ وعلم، بصيرٌ بما يصلحهم.
ثم قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا﴾ أي: الذين اخترنا، يعني أمة محمد ﷺ. واختُلِفَ في هذه الثلاثة الأصناف المذكورين في هذه السورة وفي سورة " الواقعة ".
فقيل: الأصناف في هذه السورة هم الأصناف في سورة " الواقعة "، فالسابق بالخيرات هو المقرب، والمقتصد هم أصحاب الميمنة، والظالم لنفسه هم أصحاب المشئمة. وأكثر الناس على أن الثلاثة الأصناف في هذه السورة، هم أمّة محمد ﷺ،
5975
لأنه قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا﴾، وأصحاب المشئمة المذكبين الضّالين لم يورثوا كتاباً، ولا اصطفاهم الله ولا اختارهم، وقد أخبرنا في هذه السورة أنه إنما أورث الكتاب من اختباره واصطفاه. فالظالم لنفسه ليس هو من أصحاب المشئمة، والثلاثة الأصناف في " الواقعة " يراد بها جميع الخلق من الأولين والآخرين، والثلاثة الأصناف في هذه السورة في أمة محمد ﷺ خاصة لقوله: / ﴿أَوْرَثْنَا الكتاب﴾ ولقوله: ﴿الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا﴾، ولما نذكره من قول الصحاب والتابعين وما روي في ذكل عن النبي ﷺ.
من ذلك قول ابن عباس، قال: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا﴾ أي: الذين اخترنا من عبادنا، قال: معناه اخترنا منهم، فالظالم لنفسه هو الذي يموت على كبيرة لم يتب منها، والمقتصد هو الذي مات على صغائر - ولم يصب كبيرة - لم يتب منها، والسابق هو الذي مات تائباً من كبيرته وصغيرته، أو لم يصب ذلك فيحتاج إلى توبة. ولا يسلم من الصغائر واحد إلاّ يحيى بن زكريا، فأمّا الكبائر فالأنبياء معصومون منها، وسائر الخلق غير معصومين منها إلاّ من شاء الله أن يعصمه. ومعنى " اصطفينا ": اخترنا منهم، يعني أمة محمد ﷺ، أورثهم الله تعالى كل كتاب أنزله، فالظالمهم يغفر له، ومقتصدهم يحاسب حساباً يسيراً، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب.
وروى ابو الدرداء: أنّ النبي ﷺ قال: " يَجِيءُ هَذَا السَّابِقُ بِالخَيْرَاتِ فَيَدْخُلُ الجَنَّةَ بِلاَ حِسَابٍ، وَيَجِيءُ هَذَا الْمُقْتَصِدُ فَيُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً، ثُمَّ يَتَجَاوَزُ اللهُ عَنْهُ، وَيَجِيءُ هَذَا الظَّالِمُ فَيُوقَفُ وَيُعَيَّرُ وَيُجْزَى وَيُغَرَّف ذُنُوبَهُ يُدْخِلُهُ اللهُ الجَنَّةِ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ
5976
فَهُمْ الّذِينَ قَالُوا (الحَمْدُ لله الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) أي غفر الذنب الكبير وشكر العمل القليل ".
وروى أيضاً أبو الدرداء: أنّ النبي ﷺ قال: " أَمَّا السَّابِقُ فَيَدْخُلُ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَالْمُقْتَصِدُ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً، وَأَمَّا الظَّالِمُ فَيُحْبَسُ فِي طُولِ المَحْبَسِ ثُمَّ يَتَجَاوَزُ اللهُ عَنْهُ ".
وقال عمر رضي الله عنهـ: سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له.
وقال ابن مسعود: هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة، ثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً، وثلث يجيئون بذنوبهم عظام فيقول تعالى ذكره: ما بهؤلاء؟ وهو أعلم، فتقول الملائكة: هؤلاء جاءوا بذنوب عظام إلاّ أنهم لم يشركوا بك، فيقول الرب جلّ ثناؤه: أدخِلوا هؤلاء في سعة رحمتي. ثم تلا عبد الله هذه الآية.
وقال كعب لما قرأ هذه الآية أو قُرئت عليه: دخلوها وربّ الكعبة. وقال: الظالم لنفسه من هذه الأمة والمقتصد والسابق بالخيرات كلهم في الجنة. ألم ترَ أن الله يقول: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا﴾ الآية، ثم قرأ: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا﴾ إلى قوله:
5977
﴿كُلَّ كَفُورٍ﴾.
وقال محمد بن الحنيفة: إنّ أمة محمد ﷺ مرحومة: الظالم مغفور له، والمقتصد في الجنات عند الله جلّ ذكره وثناؤه، والسابق بالخيرات في الدرجات عند الله جلّ ذكره.
وروي عن عمر وعثمان وأبي الدرداء وعقبة بن عمرو وعائشة رضي الله عنها أنهم قالوا: الثلاثة في الجنة ما لم يكن الظالم كافراً أو فاسقاً، أو منافقاً.
وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: الكتاب الذي أورث هؤلاء: شهادة أن لا إله إلاّ الله وهو قول مجاهد.
وروي أن كعب الأحبار لما أسلم قالت يهود: ما حملك على رأيك الذي رأيت؟ ألم تكن سيدننا وابن سيدنا في أنفسننا؟، قال لهم: أتلوموني إن كنت من أمة وجت مجتهدهم يدخل الجنة بغير حساب، ووجدت مقتصدهم يحاسب حساباً يسيراً،
5978
ووجدت ظالمهم يغفر له ذنبه.
وعن عائشة أنها قرأت هذه الآية: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا﴾ فلما بلغت: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا﴾، قالت: دخلت - ورب الكعبة - هذه الأصناف الثلاثة الجنة، فلما دخلوها واستقروا بها قالوا: ﴿الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن﴾، أي: حزن ما عيانوه من أهوال الموقف. وقيل: قالوا ذلك حين أيقنوا بذهاب الموت وأمنوا، فذهاب الموت وفقده حسرة على أهل النار وفرحة لأهل الجنة.
وقيل: الحزن أنهم علموا أعمالاً في الدنيا كانوا في حزن ألاّ تقبل منهم، فلما قبلت زال الحزن.
وقال ابن عباس: المصطفون/ أمة محمد ﷺ.
قال: فالظالم لنفسه: المنافق وهو في النار، والمقتصد والسابق في الجنة.
وروي عن ابن عباس أيضاً أنه قال: جعل الله أهل الآية على ثلاث منازل، كقوله: ﴿وَأَصْحَابُ الشمال مَآ أَصْحَابُ الشمال﴾ [الواقعة: ٤١]. ﴿وَأَصْحَابُ اليمين مَآ أَصْحَابُ اليمين﴾ [الواقعة: ٢٧]. ﴿والسابقون السابقون أولئك المقربون﴾ [الواقعة: ١٠ - ١١] قال عكرمة اثنان في الجنة وواحد في النار.
5979
وقال مجاهد والحسن وقتادة: " فمنهم ظالم لنفسه ": هذا المنافق، " ومنهم مقتصد ": هذا صاحب اليمين، و " منهم سابق بالخيرات ": هذا المقرب. وروى ابن وهب أن عثمان بن عفان قال: سابقنا أهل الجهاد منا. ومقتصدنا أهل حاضرنا، وظالمنا أهل بدون.
وقال قتادة: الناس ثلاث منازل في الدنيا، وثلاث منازل عند الموت، وثلاث منازل في الآخرة. أما الدنيا فمؤمن ومنافق ومشرك، وأما عند الموت فمقرب وصاحب يمين وضال. وقرأ: ﴿فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المقربين﴾ إلى: ﴿وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ﴾ [الواقعة: ٨٨ - ٩٤]، وأما في الآخرة فصاحب يمين وصاحب شمال وسابق. ثم قرأ: ﴿فَأَصْحَابُ الميمنة مَآ أَصْحَابُ الميمنة * وَأَصْحَابُ المشأمة مَآ أَصْحَابُ المشأمة * والسابقون السابقون * أولئك المقربون﴾ [الواقعة: ٨ - ١١].
فالضمير المرفوع في ﴿يَدْخُلُونَهَا﴾ على هذه الأقوال يعود على المقتصد والسابق. وعلى الأقوال الأولى يعود على الأصناف الثلاثة.
وقد قيل: إن المصطفين هنا: الأنبياء، والظالم لنفسه: المكتسب منهم الصغائر، وهذا قول شاذ، والأول أشهر.
5980
قال المبرد: المقتصد: الذي يعطي الدنيا حقها والآخرة حقها.
وقيل: الظالم هنا صاحب الكبائر، والمقتصد الذي لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيآته، فيكون ضمير يدخلونها يعود على السابقين بالخيرات لا غير.
وروي عن بن عباس: أن الكتاب هنا كل كتاب أنزل.
ثم قال: ﴿ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير﴾ أي: هو الذي وفق هذا، له من عمل الخيرات فضل كبير من الله عليه.
ويجوز أن يكون المعنى هذا الذي أورث الله هؤلاء من الكتاب فضل كبير من الله عليهم.
قوله تعالى ذكره: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ﴾ إلى قوله: ﴿مِن نَّصِيرٍ﴾.
أي: بساتين إقامة لا زوال منها، يدخل هؤلاء المتقدمون ذكرهم، على ما ذكرنا من الاختلاف في الآية التي قبلها، ورجوع الضمير على الكل أو على البعض.
ثم قال: ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ﴾ أي: يلبسون ذلك في هذه البساتين. وأساور جمع الجمع واحده أَسْوِرَة، وواحد أَسْوِرَة سَوار وسِوَار لغتان فيه. وحكي إِسْوَارٌ، وجمعه أساوير. وفي حرف أُبَيّ: " أساوير " على هذا المعنى.
5981
وقال بعض أهل اللغة: قوله: ﴿مِنْ عِبَادِنَا﴾ عام في النساء والرجال، وقوله: ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا﴾ يعني به النساء خاصة، وهو غلط لأنه كان يجب أن يقول يحلين، ولكن هو للرجال.
ويجوز أن يكون لها جميعاً فيغلب المذكر على المؤنث.
ثم قال: ﴿وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾ من خفض فعلى العطف على " أساور ". ومن نصب فعلى مومضع " أساور ".
وروي أن كل واحد يحلّى في يده ثلاث أسوِرة: واحد من فضة، وآخر من ذهب، وآخر من لؤلؤ، والذهب في الوسط في كل يد.
ثم قال تعالى: ﴿وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن﴾.
قال ابن عباس: الحزَن: حزن دخول النار، وهو قول الحسن. وقال عطية الحزنَ: الموت.
وقال شمر: الحزنَ: حزن الخبر.
5982
وقال قتادة: كانوا في الدنيا يعملون وينصبون وهم في حزن فحمدوا الله على ذهاب ما كانوا فيه.
وروى أبو الدرداء أن النبي ﷺ قال: " أَمَّا الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ فَيُصِيبُهُ فِي ذَلِكَ المَكَأنِ مِنَ الغَمِّ وَالحُزْنُ فَذَلِكَ قَوْلُهُم: الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَنَ " يعنون ما كانوا فيه - في الموقف - من الخوف.
وقال الزجاج: معناه الذي أذهب عنا الغم بالمعيشة، والخوف من العذاب وتوقع الموت. وقيل: هو عام في جميع الحزن.
وقيل: الحزن هو أعمال عملوها من الخير فكانوا تحت خوف منها أن تقبل منهم أولا تقبل، فلما قبلت حمدوا الله على ذلك.
وروى زيد بن أسلم عن ابن عمر أنه قال: قال رسول الله ﷺ: " لَيْسَ عَلَى أَهْلِ لا إِلَهَ إِلاّ الله وَحْشَةٌ فِي قُبُورِهِم وَلا يَوْمَ نُشُورِهِمْ، وَكَأَنِّي بِأَهْلِ لا إِلَهَ إلاَّ اللهَ
5983
يَنْفُضُونَ التُّرابَ/ عَنْ رُؤُوسِهِمْ يَقُولُونَ: الحَمْدُ للهِ الَّذي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَنَ ".
ثمّ قال: ﴿إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾ قيل: إنه من قول الثلاثة الأصناف.
قال قتادة: غفور لذنوبنا شكور لحسناتنا.
قال شمر: غفر لهم ما كان من ذنب وشكر لهم ما كان من عمل. وقيل: هو من قول الظالم لنفسه، أي: غفر الذنب الكثير وشكر العمل القليل.
رواه أبو الدرداء عن النبي ﷺ في الحديث المتقدم ذكره في قوله: ﴿أَوْرَثْنَا الكتاب﴾.
وذكر ابن وهب عن أبي رافع أنه قال: بلغنا أنه يُجاء لابن آدم يوم القيامة بثلاثة دواوين، ديوان فيه الحسنات، وديوان فيه النِّعم، وديوان فيه السيّئات، فيقال لأصغر تلك النّعم: قومي فاستوفي ثمنك من الحسنات فتستوعب عمله ذلك كله فتبقى ذنوبه والنّعم كما هي، فمن ثم يقول العبد: ﴿إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾.
وعن ابن عباس أنه قال: السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد
5984
يُحاسب حساباً يسيراً، والظالم لنفسه يحاسب حساباً شديداً ويحبس حبساً طويلاً. فإذا أدخل هؤلاء الظلمة لأنفسهم الجنة قالوا: الحمد لله الذي أذهب عنّا الحزَنَ - الذي كنا [فيه] حين حبسنا - إنّ ربنا لغفور شكور، غفر الذنوب العظيمة وشكر العمل القليل.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿الذي أَحَلَّنَا دَارَ المقامة مِن فَضْلِهِ﴾ أي: أنزلنا وأدخلنا دار الإقامة. والمقامة والإقامة سواء، وهي الجنة. ﴿لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ﴾ أي: تعب ولا وجع.
﴿وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾ أي: عياء. يقال: لغب يلغبُ لُغُوباً.
قال ابن عباس: اللغوب: العياء. والنَّصبُ بفتح النونو والصاد التعب والنُّصْبُ بضم النون وتسكين الصاد: الشَّرُّ، والنُّصُبُ بضمّتين: ما يُنصَبُ لذبح أو غيره.
وقرأ أبو عبد الرحمن: " لَغوب " بفتح اللام جعله مصدراً كالوَقود والطَّهور.
وقيل: هو ما يغلب منه.
5985
ثم قال تعالى: ﴿والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ﴾ قال قتادة: لو ماتوا استراحوا، ولكن لا يموتون.
ثم قال: ﴿وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا﴾ أي: لا ينقص عنهم من النوع الذي هم فيه من العذاب.
ثم قال: ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ﴾ أي: نكافئ كلّ جَحُود لنعمة ربه يوم القيامة.
ثم قال تعالى: ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا﴾ أي: يستغيثون فيها ويضجون، ويسألون الرجعة إلى الدنيا ليعلموا صالحاً، فيقال لهم: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ﴾.
قال ابن عباس: هو أربعون سنة أعذر الله فيه لابن آدم، وقاله مجاهد.
وقال مسروق: إذا بلغ أحدكم أربعين سنة فليأخذ حذره من الله جلّ ثناؤه.
5986
وقيل: هي ثماني عشر سنة.
وعن ابن عباس أيضاً: إنها ستون سنة، وهو قول علي بن أبي طالب.
وروي عن ابن عباس أن النبي ﷺ قال: " إذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ نُودِيَ أَيْنَ أَبْنَاءُ السِّتِّينَ وَهُوَ العُمْرُ الَّذِي قَالَ اللهُ تَعالَى ذِكرُهُ: أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ ".
وروى أبو هريرة أنّ النبي ﷺ قال: " لَقَدْ أَعْذَرَ اللهُ فِي العُمْرِ إِلَى صاحبِ السِّتِّينَ سنَة والسَّبْعِينَ ".
ثم قال: ﴿وَجَآءَكُمُ النذير﴾.
قال ابن زيد: هو محمد ﷺ، وقرأ: ﴿هذا نَذِيرٌ مِّنَ النذر الأولى﴾ [النجم: ٥٦]. وقيل: هو الشّيب.
5987
والمعنى عمرتهم هذا العمر فلم تتعظوا ولم تعملوا ولم تؤمنوا.
ثم قال: ﴿فَذُوقُواْ﴾ أي: عذاب جهنّم.
﴿فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ﴾ أي: ما لهم من ينصرهم من عذاب الله فيستنقذهم منه.
قوله تعالى ذكره: ﴿إِنَّ الله عَالِمُ غَيْبِ السماوات﴾ إلى قوله: ﴿لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلاً﴾.
أي: يعلم ما يخفى جميع الخلق وما يسرّون، وما لم يخفوه.
﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ أي: ما تخفون في أنفسكم.
ثم قال: ﴿هُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرض﴾ أي: استخفلكم في الأرض بعد الأمم الماضية.
قال قتادة: أمة بعد أمة وقرناً بعد قرن.
وفيه معنى التنبيه والتخويف أن يصيبهم مثل ما أصاب الأمم قبلهم.
ثم قال تعالى: ﴿فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ﴾ أي: على نفسه ضرر كفره راجع، مثل: ﴿وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا﴾ [فصلت: ٤٦]. وقيل: معناه: فعليه جزاء كفره.
ثم قال تعالى: ﴿وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً﴾ أي: بعداً من الله ورحمته.
﴿وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً﴾ أي: هلاكاً.
والمقت/ عن أهل اللغة أشد البغض.
5988
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ﴾ أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: أخبروني عن شركائكم الذين تدعون من دون الله، ﴿مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض﴾، أي: هل خلقوا شيئاً، ﴿أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السماوات﴾ - إن لم يكونوا خلقو في الأرض شيئاً - أم أعطاكم الله كتابً أن تشركوا بها، وتعبدونها من دون الله، فأنتم على حجج من عبادتكم لها إن كان معكم شيء من ذلك، فهل عبدتموها لأمر من هذه الأمور: فيقوم لكم بذلك عذر، أم عدبتموها لا لمعنى، فتظهر لكم خطايكم. وكذلك فعلوا، ألا ترى أنهم لم يجدوا حجة من عبادتهم لها إلا أن ﴿قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ﴾ [الأنبياء: ٥٣].
ومعنى " أرأيتم " عند سبيويه: أخبروني عن كذا، على (معنى) التوقيف، وأجاز سيبويه: " قد عَلِمْتُ زَيْدٌ أبو مَنْ هُوَ " بالرفع لأن زيداً في المعنى مستقفهم عنه، ولو جعلت موضع علمت أرأيت، لم يجز الرفع لأنه بمعنى أخبرني عن زيد، فلا يصلح أن يعلق، إذْ خرج عن حد ما يدخل على الابتداء والخبر، وحسن تعليق علمت لأنها داخلة على الابتداء والخبر.
ثم قال: ﴿بَلْ إِن يَعِدُ الظالمون بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً﴾ أي: ليس لآلهتهم شيء من هذه الخِلال، ، فقولهم: ما نعبد آلهتنا إلا لتقربنا إلى الله زلفى خداع من بعضهم لبعض، وحس إضافة الشركاء إليهم لأنهم هم اختلقوها وجعلوها شِرْكاً لله.
و" بَيّنَت " في الحظ بالتاء، وذلك يدل على أنه جمع لأنه لو كان واحداً لم يكتب
5989
بالتاء لأنه مُنَوَّنٌ، وإنَّ ما وقع بالتاء من هذا النوع ما كان غير منونٍ نحو " رَحْمَتِ رَبّي ". و [...] الله وشبه ذلك.
وأيضاً فإن كثيراً من المصاحف كتبت " بيِّنَاتِ " فيه بألف قبل التاء فمن قرأ بالتوحيد فلا يخلو من أن يكون خالف الخط، ومخالفته لا يتجوز، أو تكون قراءة على لغة الذين قالوا في طلحة: طلحت فوقفوا بالتاء، هي لغة شاذة.
ثم قال: ﴿إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ﴾ أي: لئلا تزولا عن مكانهما.
﴿وَلَئِن زَالَتَآ﴾ قال الفراء: " لئن " بمعنى لو.
والمعنى: ولو زالتا. وحسن ذلك عنده لأن: (لئن ولو) تجابان بجواب واحد فشبيهتان في المعنى.
قال قتادة: " أن تزولا ": أي من مكانهما.
وروي أن رجلاً جاء إلى عبد الله، فقال له: من أين جئت؟ فقال من الشام، فقال: مَنْ لَقِيتَ؟ قال: لقيت كعباً، قال: ما حدثك كعب؟ قال: حدثني أن السماوات تدور على منكب ملك، قال: فصدقته أو كذبته؟ قال: ما صدقته ولا كذبته، قال: لوددت أنك افتديت من رحلتك إليه براحلتك ورحلها، كذب كعب، إن الله يقول:
5990
﴿إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات﴾ الآية.
وروي عنه أن الرجل قال له: قال كعب: إن السماء في قطب كقطب الرحى، [والقطب عمود]، والعمود على منكب ملك.
وقيل: إن المعنى أن النصارى لما قالت: إن المسيح ابن الله، وقالت اليهود عزي ابن الله كادت السماوات أن تنفطر، وكادت الجبال أن تزول، وكادت الأرض أن تنشق، فأمسك الله جل ذكره ذلك حِلْماً منه وأنَاةً وتفضلاً، وهو قوله تعالى: ﴿تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً * أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً﴾ [مريم: ٩٠ - ٩١].
وقوله جل ذكره: ﴿وَلَئِن زَالَتَآ﴾ يعني به يوم القيامة لأنها تزول فيه. س
وقيل: إن المعنى: لو وقع هذا، على ما ذكرنا عن الفراء.
ثم قال: ﴿إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً﴾ أي: حليماً عن مَنْ عصاه أن يعالجه بالعقوبة، فإمساكه السماوات والأرض والجبال عند قولهم ذلك، وإضافتهم الولد إليه مِن حلمه، غفوراً لمن تاب من كفره.
ثم قال تعالى: ﴿وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ أي: أقسم هؤلاء المشركون أشد
5991
الإيمان وأبلغها.
﴿لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ﴾ ينذرهم بأس الله ﴿لَّيَكُونُنَّ أهدى مِنْ إِحْدَى الأمم﴾ أي: ليكونن أسلك لطريق الحق واتباع الرسول من إحدى الأمم الماضية، فلما جاءهم نذير وهو محمد ﷺ ازدادوا في كفرهم وغيهم ونفروا عن الأيمان أكثر مما كانوا قبل أن يأتيهم، استكباراً منهم في الأرض وأنفة أن يُقِرُّوا بنبوة محمد ﷺ.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَكْرَ السيىء﴾ أي: وخدعة سيئة، وذلك أنهم صدوا الضعفاء عن اتباعه مع كفرهم به.
قال قتادة: " ومكر السيء " هو الشرك.
وأصل المكر السيء في اللغة الكذب/ والخديعة بالباطل. وقوله " جهد " نصبه على المصدر، أي: جهدوا في مبالغة الإيمان جهداً. " واستكباراً " ومكراً " انتصبا على أنهما مفعولان من أجلهما، أي فعلوا ذلك لهذا أي للاستكبار والمكر.
وأكثر النحويين على رد قراءة حمزة بإسكان همزة " السَّيِّءْ في الوصل ".
وقال قوم: هو جائز في كلام العرب سائغ، وإنما فعل ذلك في الوقف، فوصل على نبية الوقف كما أثبت هاء السكت وألف " أنا " في الوصل من أثبتهما على نية الوقف.
5992
وقال قوم: إنما أسكن استخفافاً لأنه قد اجتمع في الكلمة ياءان: الثانية مكسورة، والكسرة مقام ياء، وبعد ذلك همزة، وهي ثقيلة، فأسكن لاجتماع هذه الثقل.
وقد خففت العرب كسرتين نحو: إِبِلٍ " " وإِطِلٍ "، فقالوا: إِبْلٍ وإِطْلٍ، وخففوا ضمتين فقالوا: " رُسُلٍ وسُبُلٍ ". فشبهوا حركة الإعراب بحركة البناء عند اجتماع كسرتين على حرفين ثقيلين قبلهما حرف ثقيل.
وقيل: إنه إنما كان يخفي الحركة وليس يسكن.
ثم قال تعالى: ﴿وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ﴾ أي: لا يحل مكروه الباطل وعقوبته إلاّ بمن فعله.
ثم قال: ﴿فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأولين﴾ أي: سنتنا في إهلاكه الأمم الماضية على كفرهم.
﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَبْدِيلاً﴾ أي: لا تجد يا محمد لعادة الله في إهلاك الكفار تغييراً.
﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلاً﴾ أي: انتقالاً: بل ينتفقم منهم، وينزل عليهم سخطه، فإن أمهلهم وأملى لهم فلا بد من عادة الله فيهم بالانتقام كما مضت فيمن كان قبلهم من الأمم.
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض﴾ إلى آخر السورة.
5993
أي: أولم يسر هؤلاء المشركون من قومك يا محمد في الأرض، فينظروا عاقبة الأمم الذين كذبوا الرسل من قبلهم، فيتعظوا ويزدجروا عن إنكارهم لنبوتك وتكذيبك فيما جئتهم به، ويخافوا أن يحل بهم مثل ما حل بأولئك الأمم من العقوبات.
والمعنى: أنهم قد ساروا ونظروا لأنهم كانوا تجاراً إلى الشام، فيمرون على مدائن قوم لوط وغيرها من المدن التي أهلك الله قومها لكفرهم بالرسل، كما تقول للرجل ألم أحسن إليك؟ أي: قد أحسنت إليك.
ثم قال: ﴿وكانوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ أي: وكان أولئك الأمم أشد من هؤلاء قوة في الأبدان والأموال والأولاد، فلم ينفعهم ذلكإ ذ كفروا، فأحرى أن لا ينتفع هؤلاء بقوتهم وكثرة أموالهم وأولادهم إذ هم دون أولئك.
ثم قال: ﴿قُوَّةً وَمَا كَانَ الله لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السموات وَلاَ فِي الأرض﴾ أي: لم يكن شيء يفوت الله بهرب ولا غيره، بل كان تحت قبضته فلا محيص عنه ولا مهرب في السماوات ولا في الأرض.
بل هذا وعيد وتهديد وتخويف لمن أشرك بالله وكذب محمداً عليه السلام.
ثم قال: ﴿إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً﴾ أي: بخلقه وما هو كائن، ومَنِ المستحق منهم تعجيل العقوبة، ومن هو راجع عن ضلالته ممن يموت عليها. ﴿قَدِيراً﴾ أي: قادراً على جميع ذلك لا يتعذر عليه شيء.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ﴾ أي: لو عجل الله عقوبة بني آدم الآن بظلمهم لم يبق أحد إلا هلك، ولكن يؤخر عقابهم إلى وقت معلوم، وهو الأجل المسمى الذي لا يتجاوزونه ولا يتقدمون قبله.
قال قتادة: فعل الله ذلك بهم مرة في زمن نوح فأهلك ما على ظهر الأرض من
5994
دابة، إلا ما حمل نوح في السفينة.
قال أبو عبيدة: " مِنْ دَابَّةٍ " يعني الناس.
وقيل: هو الناس وغيرهم مما يدب.
قال ابن مسعود، كاد الجُعَلُ يعذب بذنب بني آدم ثم تلا: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس﴾ الآية.
وذكر ابن وهب عن الليث بن سعد أنه قال: إن رجلاً زنى بامرأة في عهد (موسى) عليه السلام فمات في تلك الليلة لذنبهما مائة ألف من بني إسرائيل، فدل الله هارون على مكانهما فاتنظمهما بحربة، ثم أقبل بهما على بني إسرائيل، وأقبل الدم حتى إذا دنا من يد هارون استدار حتى عاد كالترس ولم يصب الدم مِنْ يَدِ هارون.
ثم قال: ﴿فَإِنَّ الله كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً﴾ أي: إذا جاء وقتهم فهو تعالى بصير بمن يستحق العقوبة ومن يستوجب الكرامة.
5995
Icon