تفسير سورة الحشر

أوضح التفاسير
تفسير سورة سورة الحشر من كتاب أوضح التفاسير المعروف بـأوضح التفاسير .
لمؤلفه محمد عبد اللطيف الخطيب . المتوفي سنة 1402 هـ

﴿سَبَّحَ لِلَّهِ﴾ نزهه وقدسه ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ من أملاك ومخلوقات ﴿وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ من إنس وجن، ووحش وطير «وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم»
﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ اليهود ﴿مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ﴾ هم بنو النضير: أخرجهم المسلمون من ديارهم؛ حينما نقضوا عهدهم؛ وكان ذلك أول حشرهم إلى الشام. وقيل: إن آخر حشرهم: إجلاء عمر رضي الله تعالى عنه لهم. أو هو حشر يوم القيامة.
هذا وقد يكون الحشر الثاني: هو خروجهم من فلسطين - بعون الله تعالى وقدرته - بعد أن تملكوها، وشتتوا أهلها في البراري والقفار، وسفكوا دماءهم، وقتلوا أطفالهم، وفضحوا نساءهم ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ كانت النضير - قبل إجلائهم عن ديارهم - يخربونها؛ لئلا ينتفع المسلمون بها، وقد خرب المسلمون باقيها بالسلب والمغانم
﴿الْجَلاَءَ﴾ الخروج من الوطن ﴿لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا﴾ ولكنه تعالى اكتفى بما حل بهم من خزي خروجهم من وطنهم، وذلة مفارقتهم لبيوتهم
﴿ذَلِكَ﴾ الخزي في الدنيا، وعذاب النار في الآخرة} خالفوا وعادوا
﴿مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ﴾ نخلة ﴿﴾ بأمره وقضائه؛ نقمة منه تعالى
﴿وَمَآ أَفَآءَ﴾ الفيء: الغنيمة ﴿فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ﴾ أي لم تسيروا إليه خيلكم، ولا ركابكم
﴿كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ﴾ أي حتى لا يكون الفيء دولة بين الأغنياء منكم خاصة. والمراد: حتى لا تتداوله الأغنياء منكم، وتتكثر به؛ مع حاجة الفقراء إليه، واضطرارهم له
﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ﴾ أي توطنوا المدينة ﴿وَالإِيمَانَ﴾ أي تمسكوا به وألفوه كما يألف الإنسان داره ووطنه؛ وهم الأنصار رضي الله تعالى عنهم ﴿مِن قَبْلِهِمْ﴾ يعني من قبل المهاجرين ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾ وقد بلغ بهم الحب أن تآخوا معهم، وقاسموهم أموالهم. وقد بلغ من شدة حبهم، ومزيد تفانيهم: أن كان الأنصاري ينزل لأخيه المهاجر عن إحدى زوجتيه - أيتهما شاء - ويزوجها له ﴿وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً﴾ كمداً، أو حقداً على المهاجرين ﴿مِّمَّآ أُوتُواْ﴾ أي بسبب ما أوتوه من الفيء والغنائم. وقد كان يعطي المهاجرين ويمنع الأنصار؛ وهم أحب إليه منهم الخصاصة: الفقر والحاجة؛ وقد نزلت هذه الآية في الأنصار لأنهم آثروا المهاجرين بكل ما في أيديهم؛ رغم افتقارهم وحاجتهم إليه. وقيل: ذهب أحد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم - بعد انتهاء إحدى المواقع - يبحث عن أخيه القتيل؛ وفي يده كوز فيه ماء ليسقيه إن كان به رمق؛ فوجده يحتضر، فناوله الكوز، وبعد أن رفعه إلى فيه سمع بجواره أنين جريح آخر؛ فأشار إلى أخيه أن يسقيه قبله؛ فذهب إليه فوجده قد أسلم الروح؛ فعاد إلى أخيه فوجده قد لفظ النفس الأخير: فنزلت هذه الآية. وسأل شاب من أهل بلخ أبا زيد: ما الزهد عندكم؟ قال: إذا وجدنا شكرنا، وإذا فقدنا صبرنا. فقال البلخي: هكذا عندنا كلاب بلخ؛ بل نحن إذا فقدنا شكرنا، وإذا وجدنا آثرنا ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ﴾ الشح: اللؤم، وأن تكون النفس كزة، حريصة على المنع. وأما البخل: فهو المنع نفسه
﴿وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ﴾ أي من بعد الذين تبوأوا الدار والإيمان من الأنصار. والمقصود بهم المهاجرون ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا﴾ من الأنصار ﴿الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ﴾ فقد آمنوا بالرسول، وابتنوا المساجد، وجاهدوا في الله حق جهاده؛ قبل أن يحضروا إليهم
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ﴾ هم عبد اللهبن أبي ابن سلول وأصحابه ﴿يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ وهم بنو النضير؛ يقولون لهم تقوية لقلوبهم، وإثارة لهم ضد المؤمنين ﴿لَئِنْ﴾ غلبكم المؤمنون، و ﴿أُخْرِجْتُمْ﴾ من دياركم ﴿لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً﴾ بالامتناع عن معونتكم ﴿وَإِن قُوتِلْتُمْ﴾ أي قاتلكم المؤمنون ﴿لَنَنصُرَنَّكُمْ﴾ عليهم ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ﴾ يعلم ﴿إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ وإنما أرادوا بذلك إثارتهم وتحمسهم ضد المؤمنين
﴿لَئِنْ أُخْرِجُواْ﴾ أي لئن أخرج المؤمنون بني النضير ﴿وَلَئِن قُوتِلُواْ﴾ أي قاتلهم المؤمنون ﴿لاَ يَنصُرُونَهُمْ﴾ لأن من صفات المنافق: الجبن؛ فهم جبناء. والكذب؛ فهم كاذبون ﴿وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ﴾ ساعدوهم فرضاً، وصدقوا في وعودهم ﴿لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ﴾ معهم: المنافقون وبنو النضير جميعاً؛ فقد كتب الله النصر لعباده، والخذلان لأعدائهم؛ فلا تجدي القوة، ولا يجدي الإقدام؛ فما بالك وهم ضعفاء أذلاء جبناء
﴿لأَنتُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ اللَّهِ﴾ وذلك لأنهم يؤمنون بقوتكم وبطشكم، ولا يؤمنون ببطش الله تعالى وقوته. فإيمانهم في هذه الحال كإيمان البهائم: لا تؤمن إلا بحامل سوط أو عصا ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾ ولو فقهوا لآمنوا بالله، وأطاعوا رسوله، وأنجوا أنفسهم من غضبه وعقابه
بعد أن وصف الله تعالى حال اليهود والمنافقين، ومبلغ إيمانهم به: أراد جل شأنه أن يصف مبلغ شجاعتهم وإقدامهم؛ فقال عز من قائل: إنهم لو أرادوا قتالكم؛ فإنهم
﴿لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً﴾ مجتمعين ﴿إِلاَّ﴾ إن كانوا ﴿فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ﴾ يأمنون فيها بطشكم ﴿أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ﴾ حوائط تقيهم بأسكم وسهامكم ﴿بَأْسُهُمْ﴾ بطشهم وشدتهم ﴿بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ﴾ أي هم شديدو العداوة لبعضهم ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً﴾ متحدين، ذوي ألفة ﴿وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾ متفرقة؛ لا ألفة بينهم ولا مودة
﴿كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ كفار بدر ﴿ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ﴾ أي ذاقوا الهلاك، الذي هو عاقبة كفرهم. فمثل المنافقين واليهود
﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ﴾ موسوساً إليه ﴿اكْفُرْ فَلَمَّا﴾ أطاعه و ﴿كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ﴾ فكذلك المنافقون. قالوا لليهود: «لئن أخرجتم لنخرجن معكم... وإن قوتلتم لننصرنكم» فلما جد الجد: تخلوا عنهم وأسلموهم للتهلكة، وصدق فيهم قول الحكيم العليم ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾
﴿فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ﴾ أي عاقبة الشيطان. ومن أطاعه، والآمر بالكفر والفاعل له، والمنافقين واليهود
﴿وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ أي ما قدمت من الأعمال الصالحة - في دنياها - ليوم القيامة
﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ﴾ تركوا ذكره وتذكره، وخشيته ومراقبته ﴿فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ﴾ أنساهم الإيمان والعمل الصالح الذي ينفعهم في معادهم، أو أراهم يوم القيامة من الأهوال ما أنساهم أنفسهم
﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ أن لو جعلنا للجبل تمييزاً كما جعلنا لكم، وأنزلنا عليه هذا القرآن؛ بوعده ووعيده: لخشع وخضع، واستكان وتشقق؛ خوفاً من الله تعالى ومهابة له، واعترافاً بوجوده وقدرته أو أريد بالجبل كما هو، وأنه - كسائر الجمادات - كائن يسبح دائباً بحمد الله تعالى ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ وأنه لو ألقي عليه القرآن: لما وسعه إلا الخشوع، ولما كان من شأنه إلا التصدع من خشية الله تعالى.
أو هو كقول القائل للسامع المعاند: لقد قلت لك قولاً يفهمه الحمار. ومن المعلوم أن الحمار لن يفهم؛ ولكنه دليل على قوة الحجة، وأنها مفهمة مفحمة ولكن السامعين لها كانوا أحط من البهائم، وأخس من السوائم، وأصم من الجمادات
﴿عَالِمُ الْغَيْبِ﴾ ما غاب عن الأنظار، ودق على الأسماع ﴿فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ ﴿وَالشَّهَادَةِ﴾ ما شوهد وبان للعيان. لأن من يعلم ما غاب؛ فإنه لما ظهر أعلم
﴿الْمَلِكُ﴾ الذي لا يزول ملكه ﴿الْقُدُّوسُ﴾ المنزه عن كل قبيح. ومن تسبيح الملائكة له سبحانه: (سبوح قدوس رب الملائكة والروح) جل شأنه، وعز سلطانه ﴿السَّلاَمُ﴾ الذي سلم الخلق من ظلمه، وعم الكون عدله، وسلم كل من لجأ إليه واحتمى به. وهو الاسم الكريم الذي تدعو به الأنبياء يوم القيامة: يا سلام، يا سلام، يا سلام سلمنا الله تعالى من غضبه. ووقانا عقوبته، وأدخلنا جنته؛ بحرمة أسمائه ﴿الْمُؤْمِنُ﴾ واهب الأمن؛ الذي يأمن عذابه من أطاعه ﴿الْمُهَيْمِنُ﴾ الرقيب، الحافظ لكل شيء ﴿الْعَزِيزُ﴾ الغالب؛ الذي لا يغلب، ولا يناله ذل ﴿الْجَبَّارُ﴾ العالي العظيم؛ الذي يذل له من دونه: والكل دونه ﴿الْمُتَكَبِّرُ﴾ ذو العظمة والكبرياء ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ﴾ تنزه وتعالى وتقدس؛ من هذه أسماؤه وتلك صفاته
﴿الْبَارِىءُ﴾ الموجد للأشياء؛ بريئة من النقص والتفاوت ﴿لَهُ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى﴾ (انظر آيتي ١٨٠ من سورة الأعراف و١١٠ من سورة الإسراء) ﴿يُسَبِّحُ لَهُ﴾ ينزهه ويقدسه.
هذا وقد ختمت هذه السورة المباركة بمثل ما بدئت به: فقد كان بدؤها «سبح لله» بصيغة الماضي، وختامها «يسبح له» تعالى؛ بصيغة المضارع. فتعالى من سبح له كل مخلوق، وسبحت له سائر الأشياء
679
سورة الممتحنة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

680
Icon