تفسير سورة فاطر

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة فاطر من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

قال ابن عباس رضي الله عنهما : كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما لصاحبه : أنا فطرتها أي بدأتها، وقال ابن عباس :﴿ فَاطِرِ السماوات والأرض ﴾ : أي بديع السماوات والأرض، وقال الضحاك : كل شيء في القرآن فاطر السماوات والأرض : فهو خالق السماوات والأرض، وقوله تعالى :﴿ جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً ﴾ أي بينه وبين أنبيائه، ﴿ أولي أَجْنِحَةٍ ﴾ أي يطيرون بها ليبلغوا ما أمروا به سريعاً ﴿ مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ ﴾ أي منهم من له جناحان ومنهم من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة، ومنهم من له أكثر من ذلك، كما جاء في الحديث أن رسول الله ﷺ رأى جبريل عليه السلام ( ليلة الإسراء ) وله ستمائة جناح بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب، ولهذا قال جلَّ ونعلا :﴿ يَزِيدُ فِي الخلق مَا يَشَآءُ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِي ﴾ قال السدي : يزيد في الأجنحة وخلقهم ما يشاء، وقال الزهري :﴿ يَزِيدُ فِي الخلق مَا يَشَآءُ ﴾ يعني حسن الصوت.
يخبر تعالى أنه ما شاء وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، روي « أن رسول الله ﷺ، كان يقول إذا انصرف من الصلاة » لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لمن أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد « »، وفي « صحيح مسلم » عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال :« إن رسول الله ﷺ إذا رفع رأسه من الركوع يقول :» سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، اللهم أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد، الله لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد « » هذه الآية كقوله تبارك وتعالى :﴿ وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ ﴾ [ يونس : ١٠٧ ] ولها نظائر كثيرة.
ينبه تعالى عباده ويرشدهم إلى الاستدلال على توحيده، في إفراد العبادة له، كما أنه المستقل بالخلق والرزق، فكذلك فليفرد بالعبادة ولا يشرك به غيره من الأصنام والأنداد والأوثان، ولهذا قال تعالى :﴿ لاَ إله إِلاَّ هُوَ فأنى تُؤْفَكُونَ ﴾ أي فكيف تؤفكون بعد هذا البيان، ووضوح هذا البرهان، وأنتم بعد هذا تعبدون الأنداد والأوثان؟ والله أعلم.
يقول تبارك وتعالى : وإن يكذبوك يا محمد هؤلاء المشركون بالله ويخالفوك فيما جئتهم به من التوحيد، فلك فيمن سلف قبلك من الرسل أسوة، فإنهم كذلك جاءوا قومهم بالبينات، وأمروهم بالتوحيد فكذبوهم وخالفوهم، ﴿ وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور ﴾ أي وسنجزيهم على ذلك أوفر الجزاء، ثم قال تعالى :﴿ ياأيها الناس إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ ﴾ أي المعاد كائن لا محالة، ﴿ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا ﴾ أي العيشة الدنيئة، بالنسبة إلى ما أعد الله لأوليائه وأتباع رسله من الخير العظيم، فلا تتلهوا عن ذلك الباقي بهذه الزهرة الفانية، ﴿ وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بالله الغرور ﴾ وهو الشيطان، أي لا يفتنكم الشيطان ويصرفكم عن اتباع الله وتصديق كلماته، فإنه غرار كذاب أفاك. وهذه كالآية التي في آخر لقمان :﴿ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور ﴾ [ لقمان : ٣٣ ]، وقال زيد بن أسم : هو الشيطان، كما قال المؤمنون للمنافقين يوم القيامة ﴿ وَغرَّتْكُمُ الأماني حتى جَآءَ أَمْرُ الله وَغَرَّكُم بالله الغرور ﴾ [ الحديد : ١٤ ] ثم بيَّن تعالى عداوة إبليس لابن آدم، فقال :﴿ إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً ﴾ أي هو مبارز لكم بالعداوة، فعادوه أنتم أشد العداوة وخالفوه، وكذبوه فيما يغركم به، ﴿ إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السعير ﴾ أي إنما يقصد أن يضلكم حتى تدخلوا معه إلى عذاب السعير، فهذا هو العدو المبين، وهذه كقوله تعالى :﴿ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ﴾ [ الكهف : ٥٠ ].
لما ذكر تعالى أن أتباع إبليس مصيرهم إلى السعير، ذكر بعد ذلك أن الذين كفروا لهم عذاب شديد لأنهم أطاعوا الشيطان وعصوا الرحمن، وأن الذين آمنوا بالله ورسوله ﴿ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُم مَّغْفِرَةٌ ﴾ أي لما كان منهم من ذنب ﴿ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ على ما عملوه من خير، ثم قال تعالى :﴿ أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً ﴾ يعني كالكفار والفجار، يعملون أعمالاً سيئة وهم في ذلك يعتقدون ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً، أي فمن كان هكذا قد أضله الله، ألك فيه حيلة؟ ﴿ فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ ﴾ أي بقدره كان ذلك، ﴿ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ﴾ أي لا تأسف على ذلك، فإن الله حكيم في قدره، ولهذا قال تعالى :﴿ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾، روى ابن أبي حاتم عند هذه الآية عن عبد الله بن الديلمي قال : أتيت عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وهو في حائظ بالطائف يقال له الوهط، قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :« إن الله تعالى خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من نوره يومئذ فقد اهتدى، ومن أخطأه منه ضل، فلذلك أقول : جف القلم على ما علم الله عزَّ وجلَّ ».
كثيراً ما يستدل تعالى على المعاد بإحيائه الأرض بعد موتها، ينبه عباده أن يعتبروا بهذا على ذلك، فإن الأرض تكون ميتة هامدة لا نبات فيها، فإذا أرسل إليها السحاب تحمل الماء وأنزله عليها، ﴿ اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ [ الحج : ٥ ]، كذلك الأجساد إذا أراد الله تعالى بعثها ونشورها أنزل من تحت العرش مطراً يعم الأرض جميعاً، ونبتت الأجساد في قبورها كما تنبت الحبة في الأرض، ولهذا جاء في الصحيح :« كل ابن آدم يبلى إلا عَجْبَ الذنب، منه خلق ومنه يركب »، ولهذا قال تعالى :﴿ كَذَلِكَ النشور ﴾ وتقدم في الحج حديث أبي رزين، قلت :« يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟ قال ﷺ :» يا أبا رزين أما مررت بوادي قومك ممحلاً ثم مررت به يهتز خضراً « قلت : بلى، قال ﷺ :» فكذلك يحيي الله الموتى « »، وقوله تعالى :﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ العزة فَلِلَّهِ العزة جَمِيعاً ﴾ أي من كان يحب أن يكون عزيزاً في الدنيا والآخرة فليلزم طاعة الله تعالى فإنه يحصل له مقصوده، لأن الله تعالى مالك الدنيا والآخرة، وله العزة جميعاً، كما قال تعالى :﴿ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً ﴾ [ النساء : ١٣٩ ]، وقال عزَّ وجلَّ :﴿ وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ولكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ المنافقون : ٨ ] قال مجاهد :﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ العزة ﴾ بعبادة الأوثان ﴿ فَلِلَّهِ العزة جَمِيعاً ﴾، وقال قتادة :﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ العزة فَلِلَّهِ العزة جَمِيعاً ﴾ أي فليتعزز بطاعة الله عزَّ وجلَّ، وقوله تبارك وتعالى :﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب ﴾ يعني الذكر والتلاوة والدعاء؛ روى ابن جرير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : إذا حدثناكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله تعالى، إن العبد المسلم إذا قال : سبحان الله وبحمده والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر تبارك الله، أخذهن ملك فجعلهن تحت جناحه، ثم صعد بهن إلى السماء فلا يمر بهن على جمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن، حتى يجيء بهن وجه الله عزَّ وجلَّ، ثم قرأ عبد الله رضي الله عنه :﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ ﴾. وقال كعب الأحبار : إن لسبحانه الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، لدوياً حول العرش كدوي النحل، يذكرن لصاحبهن، والعمل الصالح في الخزائن.
وقوله تعالى :﴿ والعمل الصالح يَرْفَعُهُ ﴾ قال ابن عباس : الكلم الطيب ذكر الله تعالى يصعد به إلى الله عزَّ وجلَّ، والعمل الصالح أداء الفريضة، فمن ذكر الله تعالى في أداء فرائضه حمل عمله ذكر الله تعالى يصعد به إلى الله عزَّ وجلَّ، ومن ذكر الله تعالى ولم يؤد فرائضه رد كلامه على عمله فكان أولى به، وكذا قال مجاهد : العمل الصالح يرفع الكلام الطيب، وقال إياس بن معاوية : لولا العمل الصالح لم يرفع الكلام، وقال الحسن وقتادة : لا يقبل قول إلا بعمل، وقوله تعالى :﴿ والذين يَمْكُرُونَ السيئات ﴾ قال مجاهد : هم المراؤون بأعمالهم يعني يمكرون بالناس، يوهمون أنهم في طاعة الله تعالى وهم بغضاء إلى الله عزَّ وجلَّ يراؤون بأعمالهم
2091
﴿ وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [ النساء : ١٤٢ ]، وقال ابن أسلم : هم المشركون، والصحيح أنها عامة، والمشركون داخلون بطريق الأولى، ولهذا قال تعالى :﴿ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ ﴾ أي يفسد ويبطل، ويظهر زيفهم عن قريب لأولي البصائر والنُّهَى، فإنه ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه، وما أسر أحد سريرة إلا كساه الله تعالى رداءها إن خيرا فخير، وإن شراً فشر، فالمرائي لا يروج أمره ويستمر إلا على غبي، أما المؤمنون المتفرسون فلا يروج ذلك عليهم بل ينكشف لهم عن قريب، وعالم الغيب لا تخفى عليه خافية، وقوله تبارك وتعالى :﴿ والله خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ﴾ أي ابتدأ خلق أبيكم آدم من تراب، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ﴿ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً ﴾ أي ذكراً وأنثى لطفاً منه ورحمة أن جعل لكم أزواجاً من جنسكم لتسكنوا إليها، وقوله عزَّ وجلَّ :﴿ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ ﴾ أي هو عالم بذلك لا يخفى عليه من ذلك شيء بل ﴿ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ [ الأنعام : ٥٩ ]، وقد تقدم الكلام على قوله تعالى :﴿ الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ﴾ [ الرعد : ٨ ] وقوله عزَّ وجلَّ :﴿ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ ﴾ أي ما يعطى بعض النطف من العمر الطويل بعلمه وهو عنده في الكتاب الأول ﴿ وَماَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ ﴾ الضمير عائد على الجنس، لأن الطويل العمر في الكتاب وفي علم الله تعالى لا ينقص من عمره، وإنما عاد الضمير على الجنس. قال ابن جرير : وهذا كقولهم عندي ثوب ونصفه، أي ونصف ثوب آخر.
وروي عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ ﴾ الآية، يقول : ليس أحد قضيت له بطول العمر والحياة إلا وهو بالغ ما قدرت له من العمر، وقد قضيت ذلك له، فإنما ينتهي إلى الكتاب الذي قدرت لا يزاد عليه، وليس أحد قدرت له أنه قصير العمر، والحياة ببالغ العمر، ولكن ينتهي إلى الكتاب الذي كتبت له، فذلك قوله تعالى :﴿ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ ﴾ يقول : كل ذلك في كتاب عنده، وقال زيد بن أسلم ﴿ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ ﴾ قال : ما لفظت الأرحام من الأولاد من غير تمام وقال عبد الرحمن في تفسيرها، ألا ترى الناس يعيش الإنسان مائة سنة وآخر يموت حين يولد فهذا هذا، وقال قتادة : والذي ينقص من عمره فالذي يموت قبل ستين سنة.
2092
وقال مجاهد ﴿ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ ﴾ أي في بطن أمه يكتب له ذلك لم يخلق الخلق على عمر واحد، بل لهذا العمر، ولهذا عمر، فكل ذلك مكتوب لصاحبه بالغ ما بلغ، وقال بعضهم : بل معناه ﴿ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ ﴾ أي ما يكتب من الأجل ﴿ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ ﴾ وهو ذهابه قليلاً قليلاً الجميع معلوم عند الله تعالى سنة بعد سنة وشهراً بعد شهر، وجمعة بعد جمعة، وساعة بعد ساعة الجميع مكتوب عند الله تعالى في كتابه، نقله ابن جرير عن أبي مالك، واختار ابن جرير الأول، ويؤيده عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال سمعت رسول الله ﷺ يقول :« من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه »، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : ذكرنا عند رسول الله ﷺ فقال :« إن الله تعالى لا يؤخر نفساً إذا أجلها، وإنما زيادة العمر بالذرية الصالحة يرزقها العبد فيدعون له من بعده فيلحقه دعاؤهم في قبره فذلك زيادة العمر »، وقوله عزَّ وجلَّ :﴿ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ ﴾ أي سهل عليه يسير لديه، فإن علمه شامل للجميع لا يخفى عليه شيء منها.
2093
يقول تعالى منبهاً على قدرته العظيمة في خلقه الأشياء المختلفة، خلق البحرين العذب الزلال، وهو هذه الأنهار السارحة بين الناس من كبار وصغار، بحسب الحاجة إليها في الأقاليم والأمصار، وهي عذبة سائغ شرابها لمن أراد ذلك ﴿ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ ﴾ أي مر وهو البحر الساكن الذي تسير فيه السفن الكبار، وإنما تكون مالحة زُعاقاً مرة، ولهذا قال :﴿ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ ﴾ أي مر، ثم قال تعالى :﴿ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً ﴾ يعني السمك ﴿ وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ﴾، كما قال عزَّ وجلَّ :﴿ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ ﴾ [ الرحمن : ٢٢ ]، وقوله جلَّ وعلا :﴿ وَتَرَى الفلك فِيهِ مَوَاخِرَ ﴾ أي تمخره وتشقه بحيزومها وهو مقدمها المسنم الذي يشبه جؤجؤ الطير وهي صدره، وقال مجاهد : تمخر الريح السفن ولا يمخر الريح من السفن إلا العظام، وقوله جلَّ وعلا :﴿ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ﴾ أي بأسفاركم بالتجارة من قطر إلى قطر وإقليم إلى إقليم، ﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ أي تشكرون ربكم على تسخيره لكم هذا الخلق العظيم وهو البحر، تتصرفون فيه كيف شئتم وتذهبون أين أردتم، ولا يمتنع عليكم شيء منه، الجميع من فضله ورحمته.
وهذا أيضاً من قدرته التامة وسلطانه العظيم، في تسخيره الليل بظلامه والنهار بضيائه، ويأخذ من طول هذا فيزيده في قصر هذا فيعتدلان، ثم يأخذ من هذا في هذا فيطول هذا ويقصر هذا، ثم يتقارضان صيفاً وشتاء ﴿ وَسَخَّرَ الشمس والقمر ﴾ أي والنجوم السيارات، الجميع يسيرون بمقدار مبين، وعلى منهاج مقنن محرر، تقديراً من عزيز عليم، ﴿ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ أي إلى يوم القيامة، ﴿ ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ ﴾ أي الذي فعل هذا هو الرب العظيم الذي لا إله غيره، ﴿ والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ ﴾ أي من الأصنام والأنداد التي هي على صورة من تزعمون من الملائكة المقربين، ﴿ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ ﴾ قال ابن عباس : القطمير هو اللفافة التي تكون على نواة التمرة، أي لا يملكون من السماوات والأرض شيئاً ولا بمقدار هذا القمطير، ثم قال تعالى :﴿ إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ ﴾ يعني الآلهة التي تدعونها من دون الله لا تسمع دعاءكم لأنها جماد لا أرواح فيها ﴿ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ ﴾ أي لا يقدرون على شيء مما تطلبون منها، ﴿ وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ﴾ أي يتبرأون منكم، كما قال تعالى :﴿ وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ﴾ [ الأحقاف : ٦ ]، وقال تعالى :﴿ واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً * كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً ﴾ [ مريم : ٨١-٨٢ ]، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾ أي ولا يخبرك بعواقب الأمور ومآلها وما تصير إليه، مثل خبير بها، قال قتادة : يعني نفسه تبارك وتعالى فإنه أخبر بالواقع لا محالة.
يخبر تعالى بغنائه عما سواه وبافتقاره المخلوقات كلها إليه، وتذللها بين يديه، فقال تعالى :﴿ ياأيها الناس أَنتُمُ الفقرآء إِلَى الله ﴾ أي هم محتاجون إليه في جميع الحركات والسكنات، وهو تعالى الغني عنهم بالذات، ولهذا قال عزَّ وجلَّ :﴿ والله هُوَ الغني الحميد ﴾ أي هو المنفرد بالغنى وحده لا شريك له، وهو الحميد في جميع ما يفعله ويقوله ويقدره ويشرعه، وقوله تعالى :﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ أي لو شاء لأذهبكم أيها الناس وأتى بقوم غيركم وما هذا عليه بصعب ولا ممتنع، ولهذا قال تعالى :﴿ وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى ﴾ أي يوم القيامة، ﴿ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا ﴾ أي وإن تدع نفس مثقلة بأوزارها إلى أن تساعد على حمل ما عليها من الأوزار أو بعضه، ﴿ لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قربى ﴾ أي وإن كان قريباً إليها حتى ولو كان أباها أو ابنها، كل مشغول بنفسه وحاله، قال عكرمة في قوله تعالى :﴿ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا ﴾ الآية، قال : هو الجار يتعلق بجاره يوم القيامة، فيقول : يا رب سل هذه لم كان يغلق بابه دوني، وإن الكافر ليتعلق بالمؤمن يوم القيامة فيقول له : يا مؤمن إن لي عندك يداً قد عرفت كيف كنت لك في الدنيا، وقد احتجت إليك اليوم، فلا يزال المؤمن يشفع له عند ربه، حتى يرده إلى منزل دون منزله، وهو في النار، وإن الوالد ليتعلق بولده يوم القيامة فيقول يا بني أي والد كنت لك فيثني خيراً، فيقول له يا بني إني قد احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك أنجو بها مما ترى، فيقول له ولده : يا أبت ما أيسر ما طلبت، ولكني أتخوف مثل ما تتخوف، فلا أستطيع أن أعطيك شيئاً، ثم يتعلق بزوجته فيقول : يا فلانة أو يا هذه، أي زوج كنت لك فتثني خيراً، فيقول لها : إني أطلب إليك حسنة واحدة تهبين لي لعلي أنجو بها مما ترين، قال فتقول : ما أيسر ما طلبت، ولكني لا أطيق أن أعطيك شيئاً إني أتخوف مثل الذي تتخوف، يقول الله تعالى :﴿ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا ﴾ الآية. ويقول تبارك وتعالى :﴿ لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً ﴾ [ لقمان : ٣٣ ]، ويقول تعالى :﴿ يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وصاحبته وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ [ عبس : ٣٤-٣٧ ]، ثم قال تبارك وتعالى :﴿ إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب وَأَقَامُواْ الصلاة ﴾ أي إنما يتعظ بما جئت به أولو البصائر والنهي، الخائفون من ربهم الفاعلون ما أمرهم به، ﴿ وَمَن تزكى فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ ﴾ أي ومن عمل صالحاً فإنما يعود على نفسه، ﴿ وَإِلَى الله المصير ﴾ أي وإليه المرجع والمآب وهو سريع الحساب، وسيجزي كل عامل بعمله إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
يقول تعالى : كما لا تستوي هذه الأشياء المتباينة المختلفة كالأعمى والبصير، لا يستويان بل بينهما فرق وبون كثير، وكما لا تستوي الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور، كذلك لا تستوي الأحيا ولا الأموات، وهذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمنين وهم الأحياء، وللكافرين وهم الأموات، كقوله تعالى :﴿ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي الناس كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ﴾ [ الأنعام : ١٢٢ ]، وقال عزَّ وجلَّ :﴿ مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ﴾ [ هود : ٢٤ ] ؟ فالمؤمن بصير سميع في نور يمشي على صراط مستقيم، في الدنيا والآخرة حتى يستقر به الحال في الجنات ذات الظلال والعيون، والكافر أعمى وأصم في ظلمات يمشي لا خروج له منها، بل هو يتيه في غيه وضلاله في الدنيا والآخرة، حتى يفضي به ذلك إلى الحرور والسموم والحميم ﴿ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ * لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ ﴾ [ الواقعة : ٤٣-٤٤ ]، وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ ﴾ أي يهديهم إلى سماع الحجة وقبولها والانقياد لها ﴿ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القبور ﴾ أي كما لا ينتفع الأموات بعد موتتهم وصيرورتهم إلى قبورهم وهم كفار بالهداية والدعوة إليها، كذلك هؤلاء المشركون الذين كتب عليهم الشقاوة لا حيلة لك فيهم، ولا تستطيع هدايتهم ﴿ إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ ﴾، أي إنما عليك البلاغ والإنذار والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، ﴿ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بالحق بَشِيراً وَنَذِيراً ﴾ أي بشيراً للمؤمنين ونذيراً للكافرين، ﴿ وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ ﴾ أي وما من أمة خلت من بني آدم إلا وقد بعث الله تعالى إليهم النذر وأزاح عنهم العلل، كما قال تعالى :﴿ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ﴾ [ الرعد : ٧ ]، وكما قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ﴾ [ النحل : ٣٦ ] الآية، والآيات في هذا كثيرة. وقوله تبارك وتعالى :﴿ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات ﴾ وهي المعجزات الباهرات والأدلة القاطعات، ﴿ وبالزبر ﴾ وهي الكتب، ﴿ وبالكتاب المنير ﴾ أي الواضح البين، ﴿ ثُمَّ أَخَذْتُ الذين كَفَرُواْ ﴾، أي ومع هذا كله كذب أولئك رسلهم فيما جاؤهم به فأخذتهم أي بالعقاب والنكال، ﴿ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾ أي فكيف رأيت إنكاري عليهم عظيماً شديداً بليغاً؟ والله أعلم.
يقول تعالى منبهاً على كمال قدرته في خلقه الأشياء المتنوعة المختلفة من الشيء الواحد، وهو الماء الذي ينزله من السماء، يخرج به ثمرات مختلفاً ألوانها من أصفر وأحمر وأخضر وأبيض، إلى غير ذلك من ألوان الثمار، كما هو الشاهد من تنوع ألوانها وطعومها وروائحها، كما قال تعالى في الآية الأخرى :﴿ يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [ الرعد : ٤ ]، وقوله تبارك وتعالى :﴿ وَمِنَ الجبال جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا ﴾ أي وخلق الجبال كذلك مختلفة الألوان كما هو المشاهد أيضاً من بيض وحمر، وفي بعضها طرائق وهي الجدد جمع جدة مختلفة الألوان أيضاً، قال ابن عباس : الجدد الطرائق، ومنها غرابيب سود، قال عكرمة : الغرابيب الجبال الطوال السود، وقال ابن جرير : والعرب إذا وصفوا الأسود بكثرة السواد، قالوا أسود غربيب، ولهذا قال بعض المفسرين في هذه الآية : هذا من المقدم والمؤخر في قوله تعالى :﴿ وَغَرَابِيبُ سُودٌ ﴾ أي سود غرابيب، وفيما قاله نظر. وقوله تعالى :﴿ وَمِنَ الناس والدوآب والأنعام مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ ﴾ أي كذلك الحيوانات من الأناسي ( والدواب ) وهو كل ما دب على القوائم ( والأنعام ) من باب عطف الخاص على العام كذلك هي مختلفة أيضاً، فالناس منهم بربر وحبوش في غاية السواد، وصقالبة وروم في غاية البياض، والعرب بين ذلك، والهنود دون ذلك، وكذلك الدواب والأنعام مختلفة الألوان، حتى في الجنس الواحد بل النوع الواحد، بل الحيوان الواحد يكون إبلق فيه من هذا اللون، وهذا اللون، فتبارك الله أحسن الخالقين، وقد روى الحافظ البزار في « مسنده » عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :« جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال : أيصبغ ربك؟ قال ﷺ :» نعم صبغاً لا ينفض أحمر وأصفر وأبيض « »، ولهذا قال تعالى بعد هذا ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء ﴾ أي إما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به، لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير أتم والعلم به أكمل، كانت الخشية له أعظم وأكثر.
قال ابن عباس في قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء ﴾ قال : الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير، وعنه قال : العالم بالرحمن من عباده من لم يشرك به شيئاً، وأحل حلاله وحرم حرامه، وحفظ وصيته، وأيقن أنه ملاقيه ومحاسب بعمله، وقال سعيد بن جبير : الخشية هي التي تحول بينك وبين معصية الله عزَّ وجلَّ، وقال الحسن البصري : العالم من خشي الرحمن بالغيب ورغب فيما رغب الله فيه، وزهد فيما سخط الله فيه، ثم تلا الحسن :﴿ إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : ليس العلم عن كثرة الحديث ولكن العلم عن كثرة الخشية، وقال مالك : إن العلم ليس بكثرة الرواية وإنما العلم نور يجعله الله في القلب، وقال سفيان الثوري : كان يقال : العلماء ثلاثة، عالم بالله عالم بأمر الله، وعالم بالله ليس بعالم بأمر الله، وعالم بأمر الله ليس بعالم بالله، فالعالم بالله وبأمر الله الذي يخشى الله تعالى ويعلم الحدود والفرائض، والعالم بالله ليس بعالم بأمر الله الذي يخشى الله ولا يعلم الحدود والفرائض، والعالم بأمر الله ليس بعالم بالله الذي يعلم الحدود والفرائض ولا يخشى الله عزَّ وجلَّ.
يخبر تعالى عن عبادة المؤمنين، الذين يتلون كتابه ويؤمنون به، ويعملون بما فيه من إقام الصلاة، والإنفاق مما رزقهم الله تعالى سراً وعلانية بأنهم ﴿ يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ﴾ أي يرجون ثواباً عند الله لا بد من حصوله، ولهذا قال تعالى :﴿ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ﴾ أي ليوفيهم ثواب ما عملوه ويضاعفه لهم بزيادات لم تخطر لهم، ﴿ إِنَّهُ غَفُورٌ ﴾ أي لذنوبهم ﴿ شَكُورٌ ﴾ للقليل من أعمالهم، قال قتادة : كان مطرف رحمه الله إذا قرأ هذه الآية يقول : هذه آية القرآء.
يقول تعالى :﴿ والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ ﴾ يا محمد من الكتاب وهو القرآن ﴿ هُوَ الحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ أي من الكتب المتقدمة يصدقها، كما شهدت هي له بالتنويه وأنه منزل من رب العالمين ﴿ إِنَّ الله بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾ أي هو خبير بهم بصير بمن يستحق ما يفضله به على من سواه، ولهذا فضل الأنبياء والرسل على جميع البشر، وفضل النبيين بعضهم على بعض ورفع بعضهم درجات، وجعل منزلة محمد ﷺ فوق جميعهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
يقول تعالى : ثم جعلنا القائمين بالكتاب العظيم، المصدق لما بين يديه من الكتب ﴿ الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا ﴾ وهم هذه الأمة ثم قسمهم إلى ثلاثة أنواع فقال تعالى :﴿ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ﴾ وهو المفرط في فعل بعض الواجبات المرتكب لبعض المحرمات، ﴿ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ ﴾ وهو المؤدي للواجبات التارك للمحرمات وقد يترك بعض المستحبات ويفعل بعض المكروهات، ﴿ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات ﴾ وهو الفاعل للواجبات والمستحبات التارك للمحرمات والمكروهات وبعض المباحات، قال ابن عباس في قوله تعالى :﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا ﴾ قال : هم أمة محمد ﷺ ورثهم الله تعالى كل كتاب أنزله، فظالمهم يغفر له، ومقتصدهم يحاسب حساباً يسيراً، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب، روى الطبراني عن ابن عباس عن رسول الله ﷺ أنه قال ذات يوم :« شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي » قال ابن عباس : السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد يدخل الجنة برحمة الله، والظالم لنفسه وأصحاب الأعراف يدخلون الجنة بشفاعة محمد ﷺ، وكذا روي عن غير واحد من السلف : أن الظالم لنفسه من هذه الأمة من المصطفين على ما فيه من عوج وتقصير. وقال آخرون : بل الظالم لنفسه ليس من هذه الأمة ولا من المصطفين الوارثين للكتاب. روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما ﴿ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ﴾ قال : هو الكافر، وقال مجاهد في قوله تعالى :﴿ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ﴾ قال : هم أصحاب المشأمة، وقال الحسن وقتادة : هو المنافق، ثم قد قال ابن عباس والحسن وقتادة : وهذه الأقسام الثلاثة كالأقسام المذكورة في أول سورة الواقعة وآخرها. والصحيح أن الظالم لنفسه من هذه الأمة، وهذا اختيار ابن جرير، كما هو ظاهر الآية، وكما جاءت به الأحاديث « عن رسول الله ﷺ من طرق يشد بعضها بعضاً »، ونحن إن شاء الله تعالى نورد منها ما تيسر :
الحديث الأول : قال الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي ﷺ أنه قال : في هذه الآية :« ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله ﴾ قال :» هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة وكلهم في الجنة «، ومعنى قوله بمنزلة واحدة : أي في أنهم من هذه الأمة وأنهم من أهل الجنة، وإن كان بينهم فرق في المنازل في الجنة. الحديث الثاني : قال الإمام أحمد عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال، سمعت رسول الله ﷺ يقول :» قال الله تعالى :﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله ﴾ فأما الكذين سبقوا فأولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وأما الذين اقتصدوا فأولئك الذين يحاسبون حساباً يسيراً، وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك يحبسون في طول المحشر، ثم هم الذين تلافاهم الله برحتمه، فهم الذين يقولون :﴿ وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الذي أَحَلَّنَا دَارَ المقامة مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ﴾ «
2101
الحديث الثالث : قال الحافظ الطبراني عن أُسامة بن زيد رضي الله عنهما :﴿ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله ﴾ الآية، قال قال رسول الله ﷺ :« كلهم من هذه الأمة »، الحديث الرابع : قال ابن أبي حاتم عن عوف بن مالك رضي الله عنه، عن رسول الله ﷺ أنه قال :« أمتي ثلاثة أثلاث، فثلث يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً ثم يدخلون الجنة، وثلث يمحصون ويكشفون، ثم تأتي الملائكة فيقولون : وجدناهم يقولون لا إله إلا الله وحده، يقول الله تعالى : صدقوا، لا إله إلا أنا أدخلوهم الجنة، بقولهم لا إله إلا الله وحده واحملوا خطاياهم على أهل النار »، وهي التي قال الله تعالى :﴿ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ﴾ [ العنكبوت : ١٣ ].
( أثر عن ابن مسعود رضي الله عنه )
قال ابن جرير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : إن هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة، ثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً، وثلث يجيئون بذنوب عظام حتى يقول الله عزّ وجلّ ما هؤلاء؟ وهو أعلم تبارك وتعالى، فتقول الملائكة : هؤلاء جاءوا بذنوب عظام إلا أنهم لم يشركوا بك شيئاً، فيقول الرب عزّ وجلّ : أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي، وتلا عبد الله رضي الله عنه هذه الآية :﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا ﴾ الآية. أثر أخر : قال أبو داود الطيالسي، عن عقبة بن صهبان الهنائي قال :« سألت عائشة رضي الله عنها عن قول الله تعالى :﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ﴾ الآية، فقالت لي :» يا بني، هؤلاء في الجنة، أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله ﷺ، شهد له رسول الله ﷺ بالحياة والرزق، وأما المقتصد فمن اتبع أثراً من أصحابه حتى لحق به، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم، قال : فجعلت نفسها رضي الله عنها معنا « »، وهذا منها رضي الله عنها من باب الهضم والتواضع، وإلا فهي من أكبر السابقين بالخيرات لأن فضلها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام. وقال عوف الأعرابي، عن كعب الأحبار رحمه الله قال : إن الظالم لنفسه من هذه الأمة، والمقتصد، والسابق بالخيرات، كلهم في الجنة، ألم تر أن الله تعالى قال :﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا ﴾ إلى قوله عزّ وجل ﴿ والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ ﴾ قال : فهؤلاء أهل النار، وعن محمد بن الحنفية رضي الله عنه قال : إنها أمة مرحومة، الظالم مغفور له، والمقتصد في الجنان عند الله، والسابق بالخيرات في الدرجات عند الله.
2102
فهذا ما تيسر من إيراد الأحاديث والآثار المتعلقة بهذا المقام، وإذا تقرر هذا فإن الآية عامة في جميع الأقسام الثلاثة في هذه الأمة، والعلماء أغبط الناس بهذه النعمة، وأولى الناس بهذه الرحمة، فإنهم كما روى الإمام أحمد رحمه الله عن قيس بن كثير قال :« قدم رجل من أهل المدينة إلى أبي الدرداء رضي الله عنه وهو بدمشق، فقال : ما أقدمك أي أخي؟ قال : حديث بلغني أنك تحدث به عن رسول الله ﷺ، قال : أما قدمت لتجارة؟ قال : لا، قال : أما قدمت لحاجة؟ قال : لا. قال أما قدمت إلا في طلب هذا الحديث؟ قال : نعم، قال رضي الله عنه، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول :» من سلك طريقاً يطلب فيها علماً سلك الله تعالى به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإنه ليستغفر للعالم من في السماوات والأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء هم ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر « » وقد تقدم في أول ( سورة طه ) حديث ثعلبة بن الحكم عن رسول الله صلى الله عليه سولم قال :« يقول الله تعالى يوم القيامة للعلماء إني لم أضع علمي وحكمتي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي ».
2103
يخبر تعالى أن هؤلاء المصطفين من عباده الذين أورثوا الكتاب المنزل من رب العالمين يوم القيامة، مأواهم جنات عدن، أي جنات الإقامة يدخلونها يوم معادهم وقدومهم على الله عزّ وجلّ ﴿ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً ﴾ كما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ أنه قال :« تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء » ﴿ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ﴾، ولهذا كان محظوراً عليهم في الدنيا فأباحه الله تعالى لهم في الآخرة، وثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ قال :« من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة » وقال :« هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة » وقال ابن أبي حاتم، عن أبي أمامة رضي الله عنه حدَّث أن رسول الله ﷺ ذكر حلي أهل الجنة فقال :« مسورون بالذهب والفضة، مكللة بالدر، وعليهم أكاليل من در وياقوت متواصلة، وعليهم تاج كتاج الملوك، شباب جرد مرد مكحولون » ﴿ وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن ﴾ وهو الخوف من المحذور أزاحه عنا وأراحنا مما كنا نتخوفه ونحذره من هموم الدنيا والآخرة، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال، قال رسول الله ﷺ :« ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا نشورهم، وكأني بأهل ( لا إله إلا الله ) ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن » وروى الطبراني، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال، قال رسول الله ﷺ :« ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في الموت ولا في القبور ولا في النشور، وكأني أنظر إليهم عند الصيحة ينفضون رؤوسهم من التراب يقولون : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور »، قال ابن عباس : غفر لهم الكثير من السيئات، وشكر لهم اليسير من الحسنات ﴿ الذي أَحَلَّنَا دَارَ المقامة مِن فَضْلِهِ ﴾ يقولون : الذي أعطانا هذه المنزلة، وهذا المقام من فضله ومنّه ورحمته، لم تكن أعمالنا تساوي ذلك، كما ثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ قال :« » لن يدخل أحداً منكم عمله الجنةً « قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال :» ولا أنا إلاّ أن يتغمدني الله تعالى برحمة منه وفضل « » ﴿ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ﴾ أي لا يمسنا فيها عناء ولا إعياء، والنصب واللغوب كل منهما يستعمل في التعب، وكأن المراد ينفي هذا وهذا عنهم أنهم لا تعب على أبدانهم ولا أرواحهم والله أعلم، فمن ذلك أنهم كانوا يدئبون أنفسهم في العبادة في الدنيا، فسقط عنهم التكليف بدخولها، وصاروا في راحة دائمة مستمرة، قال الله تبارك وتعالى :﴿ كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيام الخالية ﴾ [ الحاقة : ٢٤ ].
لما ذكر تبارك وتعالى حال السعداء شرع في بيان ما للأشقياء، فقال :﴿ والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ ﴾، كما قال تعالى :﴿ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى ﴾ [ طه : ٧٤ ]، وثبت في « صحيح مسلم » أن رسول الله ﷺ قال :« أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون »، وقال عزّ وجلّ :﴿ وَنَادَوْاْ يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ ﴾ [ الزخرف : ٧٧ ] فهم في حالهم ذلك يرون موتهم راحة لهم، ولكن لا سبيل إلى ذلك، قال الله تعالى :﴿ لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا ﴾، كما قال عزّ وجلّ :﴿ إِنَّ المجرمين فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ﴾ [ الزخرف : ٧٤-٧٥ ]، وقال جلّ وعلا :﴿ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً ﴾ [ الإسراء : ٩٧ ]، ثم قال تعالى :﴿ فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً ﴾ [ النبأ : ٣٠ ] أي هذا جزاء كل من كفر بربه وكذب الحق، وقوله جلت عظمته :﴿ كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ﴾ أي ينادون فيها يجأرون إلى الله عزّ وجلّ بأصواتهم :﴿ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا ﴾ أي يسألون الرجعة إلى الدنيا ليعملوا غير عملهم الأول، وقد علم الرب جل جلاله أنه لو ردهم إلى الدار الدنيا ﴿ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ ﴾ فلهذا لا يجيبهم إلى سؤالهم، ولذا قال ههنا :﴿ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النذير ﴾ ؟ أي أو ما عشتم في الدنيا أعماراً، لو كنتم ممن ينتفع بالحق لانتفعتم به في مدة عمركم؟ وقد اختلف المفسرون في مقدار العمر المارد ههنا، فروي أنه مقدار سبع عشرة سنة، وقال قتادة : اعلما أن طول العمر حجة فتعوذ بالله أن نعير بطول العمر، قد نزلت هذه الآية :﴿ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ ﴾ وإن فيهم لابن ثماني عشرة سنة، وقال وهب بن منبه ﴿ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ ﴾ قال : عشرين سنة، وقال الحسن : أربعين سنة، وقال مسروق : إذا بلغ أحدكم أربعين سنة فليأخذ حذره من الله عزّ وجلّ. وروى ابن جرير عن مجاهد قال : سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول : العمر الذي أعذر الله تعالى لابن آدم ﴿ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ ﴾ أربعون سنة، وهذا هو اختيار ابن جرير، ثم روي عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : العمر الذي أعذر الله فيه لابن آدم في قوله :﴿ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ ﴾ ستون سنة، فهذه الرواية أصح عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهي الصحيحة في نفس الأمر أيضاً، لما ثبت في ذلك من الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال :
2105
« لقد أعذر الله تعالى إلى عبد أحياه حتى بلغ ستين أو سبعين سنة، لقد أعذر الله تعالى إليه، لقد أعذر الله تعالى إليه » وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« أعذر الله عزّ وجلّ إلى امرىء أخر عمره حتى بلغ ستين سنة »، وفي رواية :« من أتت عليه ستون سنة فقد أعذر الله عزّ وجلّ إليه في العمر » وذكر بعضهم أن العمر الطبيعي عند الأطباء مائة وعشرون سنة، فالإنسان لا يزال في أزدياد إلى كمال الستين، ثم يشرع بعد هذا في النقص والهرم، كما قال الشاعر :
إذا بلغ الفتى ستين عاماً فقد ذهب المسرة والفتاء
ولما كان هذا هو العمر الذي يعذر الله تعالى إلى عباده به، ويزيح به عنهم العلل، كان هو الغالب على أعمار هذه الأمة، كما ورد بذلك الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ :« أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك » وقوله تعالى :﴿ وَجَآءَكُمُ النذير ﴾ روي عن ابن عباس وعكرمة وقتادة أنهم قالوا : يعني الشيب، وقال السدي وعبد الرحمن بن زيد : يعني به رسول الله ﷺ، وقرأ ابن زيد :﴿ هذا نَذِيرٌ مِّنَ النذر الأولى ﴾ [ النجم : ٥٦ ] وهذه هو الصحيح عن قتادة أنه قال : احتج عليهم بالعمر والرسل، وهذا اختيار ابن جرير وهو الأظهر، لقوله تعالى :﴿ لَقَدْ جِئْنَاكُم بالحق ولكن أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ﴾ [ الزخرف : ٧٨ ] أي لقد بينا لكم الحق على ألسنة الرسل فأبيتم وخالفتم، وقال تعالى :﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾ [ الإسراء : ١٥ ]، وقال تبارك وتعالى :﴿ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُواْ بلى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ ﴾ [ الملك : ٨-٩ ]، وقوله تعالى :﴿ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ﴾ أي فذوقوا عذاب النار، جزاء على مخالفتكم للأنبياء في مدة أعمالكم، فما لكم اليوم ناصر ينقذكم مما أنتم فيه، من العذاب والنكال والأغلال.
2106
يخبر تعالى بعلمه غيب السماوات والأرض، وأنه يعلم ما تكنه السرائر، وما تنطوي عليه الضمائر، وسيجازي كل عامل بعمله، ثم قال عزّ وجلّ ﴿ هُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرض ﴾ أي يخلف قوم الآخرين وجيل لجيل قبلهم، ﴿ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ﴾ أي فإنما يعند وبال ذلك على نفسه دون غيره ﴿ وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً ﴾ أي كلما استمروا على كفرهم أبغضهم الله تعالى، وكلما استمروا فيه خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة بخلاف المؤمنين، فإنهم كلما طال عمر أحدهم وحسن عمله، ارتفعت درجته ومنزلته في الجنة وزاد أجره، وأحبه خالقه وبارئه رب العالمين.
يقول تعالى لرسوله ﷺ أن يقول للمشركين :﴿ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله ﴾ أي من الأصنام والأنداد، ﴿ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السماوات ﴾ أي ليس لهم شيء من ذلك، ما يملكون من قطمير، وقوله :﴿ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ على بَيِّنَةٍ مِّنْهُ ﴾ أي أم أنزلنا عليهم كتاباً بما يقولونه من الشرك والكفر، ليس الأمر كذلك ﴿ بَلْ إِن يَعِدُ الظالمون بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً ﴾ أي بل إنما اتبعوا في ذلك أهواءهم وأمانيهم التي تمنوها لأنفسهم، وهي غرور وباطل وزور، ثم أخبر تعالى عن قدرته العظيمة، التي بها تقوم السماء والأرض عن أمره، وما جعل فيهما من القوة الماسكة لهما فقال :﴿ إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ ﴾ أي أن تضطربا عن أماكنهما كما قال عزّ وجلّ ﴿ وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾ [ الحج : ٦٥ ]، وقال تعالى :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء والأرض بِأَمْرِهِ ﴾ [ الروم : ٢٥ ]، ﴿ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ ﴾، أي لا يقدر على دوامهما وإبقائهما إلا هو، وهو مع ذلك حليم غفور، أي يرى عباده وهم يكفرون به ويعصونه، وهو يحلم فيؤخر وينظم ويؤجل ولا يعجل، ويستر آخرين ويغفر، ولهذا قال تعالى :﴿ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ﴾، وفي « الصحيحين » عن ابي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ :« إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إاليه بصره من خلقه ».
يخبر تعالى عن قريش والعرب أنهم أقسموا بالله ﴿ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ﴾ قبل إرسال الرسول إليهم ﴿ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أهدى مِنْ إِحْدَى الأمم ﴾ أي من جميع الأمم الذين أرسل إليه الرسل، كقوله تعالى :﴿ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب لَكُنَّآ أهدى مِنْهُمْ فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ ﴾ [ الأنعام : ١٥٧ ]، وكقوله تعالى :﴿ وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الأولين * لَكُنَّا عِبَادَ الله المخلصين * فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ الصافات : ١٦٧-١٧٠ ]، قال الله تعالى :﴿ فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ ﴾ وهو محمد ﷺ بما أنزل معه من الكتاب العظيم وهو القرآن المبين ﴿ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً ﴾ أي ما ازدادوا إلا كفراً إلى كفرهم. ثم بيَّن ذلك بقوله :﴿ استكبارا فِي الأرض ﴾ أي استكبروا عن اتباع آيات الله، ﴿ وَمَكْرَ السيىء ﴾ أي ومكروا بالناس في صدهم إياهم عن سبيل الله، ﴿ وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ ﴾ أي وما يعود وبال ذلك إلا عليهم أنفسهم دون غيرهم، قال محمد بن كعب القرظي : ثلاث من فعلهن لم ينج حتى ينزل به، من مكر، أو بغي، أو نكث، وتصديقها في كتاب الله تعالى :﴿ وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ ﴾، ﴿ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ ﴾ [ يونس : ٢٣ ]، ﴿ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ ﴾ [ الفتح : ١٠ ]، وقوله عزّ وجلّ :﴿ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأولين ﴾ يعني عقوبة الله لهم على تكذيبهم رسله ومخالفتهم أمره، ﴿ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَبْدِيلاً ﴾ أي لا تغير ولا تبدل بل هي جارية كذلك في كل مكذب ﴿ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلاً ﴾ أي ﴿ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سواءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ ﴾ [ الرعد : ١١ ] ولا يكشف ذلك عنهم ولا يتولهم عنهم أحد، والله أعلم.
يقول تعالى : قل يا محمد لهؤلاء المكذبين، بما جئتهم به من الرسالة، سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين كذبوا الرسل، كيف دمر الله عليهم فخلت منهم منازلهم، وسلبوا ما كانوا فيه من النعيم، بعد كمال القوة وكثرة العدد والعدد، وكثرة الأموال والأولاد، فما أغنى ذلك شيئاً ولا دفع عنهم من عذاب الله من شيء، لأنه تعالى لا يعجزه شيء في السماوات والأرض، ﴿ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً ﴾ أي عليم بجميع الكائنات، قدير على مجموعها، ثم قال تعالى :﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ ﴾ أي لو آخذهم بجميع ذنوبهم لأهلك جميع أهل السماوات والأرض، وما يملكونه من دواب وأرزاق، قال سعيد بن جبير والسدي في قوله تعالى :﴿ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ ﴾ أي لما سقاهم المطر فماتت جميع الدواب ﴿ ولكن يُؤَخِّرُهُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ أي ولكن ينظرهم إلى يوم القيامة فيحاسبهم يومئذ، ويوفي كل عامل بعمله، فيجازي بالثواب أهل الطاعة، وبالعقاب أهل المعصية، ولهذا قال تبارك وتعالى :﴿ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ الله كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً ﴾.
Icon