تفسير سورة سورة الدخان من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن
.
لمؤلفه
حسنين مخلوف
.
المتوفي سنة 1410 هـ
ﰡ
﴿ والكتاب المبين ﴾ أقسم الله بالقرآن المبين ؛ إعلاما ببلوغه غاية العظمة ورفعه القدر.
وجواب القسم :﴿ إنا أنزلناه ﴾ أي ابتدأنا إنزاله على محمد صلى الله عليه وسلم يقظة﴿ في ليلة مباركة ﴾
وهي على الصحيح : ليلة القدر. ووصفها بالبركة لزيادة خيرها، ولاستتباع ما أنزل فيها منافع الخلق الدينية والدنيوية. ولله تعالى أن يخص بعض الأزمنة والأمكنة بما شاء من الفضل والخير ؛ فيفضل ما سواه. ﴿ إنا كنا منذرين ﴾ مخوفين ومحذرين ؛ أي لأن من شأننا وعادتنا الإنذار بالكتب المنزلة. والإنذار : إخبار فيه تخويف وترهيب ؛ كما أن التبشير إخبار فيه تأمين وترغيب.
﴿ فيها يفرق كل أمر حكيم ﴾ أي في هذه الليلة يفصل ويبين كل أمر ملتبس بالحكمة، أو مفعول على ما تقتضيه الحكمة. والجملة مستأنفة لبيان تخصيص الإنزال بهذه الليلة. أي وكان إنزالنا إياه في هذه الليلة خصوصا ؛ لأن إنزال القرآن من الأمور الحكيمة. وهذه الليلة مفرق كل أمر حكيم ؛ إذ يفرق ويبين فيها للملائكة كل أمر من أرزاق العباد وآجالهم، وجميع شئونهم ؛ من هذه الليلة إلى ليلة القدر التي تليها من السنة المقبلة.
﴿ أمرا من عندنا ﴾ منصوب على الاختصاص. أي أعنى به أمرا عظيما صادرا من عندنا ؛ كما اقتضاه علمنا وتدبيرنا. ﴿ إنا كنا مرسلين رحمة من ربك ﴾ بدل من قوله تعالى " إنا كنا منذرين " ؛ أي أنزلنا القرآن لأن من شأننا إرسال الرسل بالكتب إلى العباد لأجل الرحمة عليهم. وحاصل المعنى : أنه تعالى أنزل القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر المباركة، التي يبين فيها للملائكة كل أمر حكيم من الأمور المتعلقة بعباده، صادر على وفق علمه وتدبيره، والقرآن من أجلّها، وقد أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم رحمة على العباد وهداية وتعليما، جريا على سننه في خلقه.
﴿ إن كنتم موقنين ﴾ أي إن كنتم على يقين في إقراركم حين تسألون عمن خلق السموات والأرض وما بينهما بأنه الله – علمتم ما يقتضيه من أنه هو المنزل للقرآن، المرسل لرسوله رحمة وهداية ؛ لظهور اقتضائه إياه ظهورا بينا.
﴿ بل هم في شك يلعبون ﴾ الإبطال لإيقانهم لعدم جريهم على مقتضاه. أي أنهم ما قالوا ذلك عن جد وإذعان، بل قالوه مختلطا بهزء ولعب.
﴿ فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين ﴾
ورد أنه لما استعصت قريش على الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبى أكثرهم الإسلام قال :( اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف ) فأصابهم قحط وجهد وبلاء ؛ حتى أكلوا العظام والميتة والجلود ؛ ونزلت الآية. وكنى عنه بالدخان ؛ لأن الهواء يتكدر سنة الجدب بكثرة الغبار المشبه للدخان لقلة الأمطار المسكنة له. ولأن الجوع الشديد تعريض فيه للبصر ظلمة من شدة الضعف حتى يرى صاحبه فيما بينه وبين السماء كهيئة الدخان. ثم أتوا الرسول صلى الله عليه وسلم فطلبوا أن يستسقى لهم، ووعدوه بالإيمان إن كشف الله عنهم العذاب بقولهم
﴿ يغشى الناس ﴾ يشملهم ويحيط بهم.
﴿ ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون ﴾. فاستسقى فسقوا الغيث مدرارا ؛ فأنزل الله تعالى : " إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون ". وقد تحقق ذلك فلم يؤمنوا كما وعدوا !
﴿ أنى لهم الذكرى ﴾ من أين لهم الاتعاظ بشيء من ذلك !
﴿ وقالوا ﴾ معرضين عنه، تارة :﴿ معلم ﴾ يعلمه بشر، وتارة :﴿ مجنون ﴾ اختلط عقله.
﴿ يوم نبطش البطشة الكبرى ﴾ هو يوم بدر. وقيل يوم القيامة ؛ من بطش به يبطش ويبطش : إذا أخذه بعنف وقوة.
﴿ ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون ﴾ امتحناهم بإرسال موسى عليه السلام. أو أوقعناهم في الفتنة بالسعة في الرزق والإمهال حتى طغوا.
﴿ أن أدوا إلي عباد الله ﴾ أي أدوا إلي حق الله من الإيمان به، وقبول الدعوة إليه يا عباد الله.
و " أن " مفسرة أو مخففة.
﴿ وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون ﴾ اعتصمت بربي وربكم،
واستجرت به منكم أن تؤذوني ضربا أو شتما، أو تقتلوني. يقال : عاذ بالله عوذا ومعاذا ومعاذة، لجأ إليه واستجار به.
﴿ وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون ﴾ فكونوا بمعزل مني، لا لي ! ولا تتعرضوا لي بسوء.
﴿ فأسر بعبادي ﴾ أي سر ببني إسرائيل ومن آمن بك من القبط من مصر بقطع من الليل. وهمزته للقطع ؛ من أسرى يسرى إسراء. وقرئ بهمزة الوصل، من سرى يسرى سرى. ﴿ ليلا ﴾ تأكيد له بغير اللفظ ؛ إذ الإسراء والسرى : السير ليلا.
﴿ واترك البحر رهوا ﴾ اتركه ساكنا على هيئته التي هو عليها بعد ضربه بالعصا ؛ ليدخله القبط، فإذا حصلوا فيه أطبقه الله عليهم. يقال : رها البحر يرهو، سكن وجاءت الخيل رهوا : أي ساكنة أو اتركه مفتوحا على حاله منفرجا ؛ من رها الرجل رهوا : فتح بين رجليه وفرج بينهما وهو حال من البحر. والمراد به : البحر الأحمر.
﴿ ومقام كريم ﴾ محافل مزينة، ومنازل حسنة.
﴿ ونعمة ﴾ أي تنعم وترفه. أو نضارة عيش ولذاذته. والمراد بها : ما يتنعم به. ﴿ كانوا فيها ﴾ أي في تلك النعمة﴿ فاكهين ﴾ متنعمين. جمع فاكه، وهو المستمتع بأنواع اللذة كما يتمتع الآكل بأنواع الفاكهة وقرئ " فكهين " وهما لغتان بمعنى واحد ؛ كالحاذر والحذر، والفاره والفره.
﴿ وما كانوا منظرين ﴾ مؤخرين إلى وقت آخر في الدنيا : لتوبة وتدارك تقصير أو على يوم القيامة ؛ بل عجل لهم العذاب في الدنيا.
﴿ على العالمين ﴾ أي عالمي زمانهم ؛ بدليل قوله تعالى لهذه الأمة : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " .
﴿ بلاء مبين ﴾ نقمة ظاهرة، أو اختبار ظاهر بالرخاء والشدة، والنعم والنقم ؛ لننظر كيف يعملون.
﴿ إن هؤلاء ﴾ أي مشركي مكة. وهو تتمة لما سبق من الكلام في شأنهم. وذكر قصة فرعون وقومه في الوسط للدلالة على أنهم أشباه في الإصرار على الضلالة وفي سوء العاقبة.
﴿ وما نحن بمنشرين ﴾ وما نحن بمبعوثين بعدها ؛ من أنشر الله الموتى نشورا : أحياهم ؛ فهم منشرون.
﴿ أهم ﴾ في القوة﴿ خير أم قوم تبع ﴾ هو تبع الحميري أبو كرب أسعد بن مليك، أحد ملوك التتابعة. وكان مؤمنا، وإليه تنسب الأنصار، وكان قومه كفارا فأهلكهم الله. ولم تغن عنهم قوتهم من الله شيئا. وتبع : لقب لكل ملك ملك اليمن والشحر وحضرموت ؛ مثل كسرى للفرس، وقيصر للروم، وفرعون لمصر
﴿ إن يوم الفصل ﴾ بين المحق والمبطل ﴿ ميقاثهم ﴾ أي وقت موعدهم﴿ أجمعين ﴾.
﴿ يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ﴾ لا يدفع قريب عن قريبه، ولا صديق عن صديقه شيئا من العذاب. والمولى : يطلق على القريب ؛ كابن العم ونحوه، وعلى الصاحب والحليف.
﴿ إن شجرت الزقوم ﴾ [ آية ٦٢ الصافات ص ٢٢٩ ].
﴿ طعام الأثيم ﴾ كثير الآثام وهو الكافر.
﴿ كالمهل ﴾ كالنحاس المذاب [ آية ٢٩ الكهف ص ٤٧٥ ].
﴿ الحميم ﴾ أي الماء البالغ غاية الحرارة.
﴿ خذوه فاعتلوه ﴾ يقال للزبانية : خذوا الأثيم الفاجر ؛ فجروه بقهر وسوقوه بعنف إلى﴿ سواء الجحيم ﴾ وسطها ؛ من العتل وهو الأخذ بمجامع الشيء وجره بقهره. يقال : عتلت الرجل أعتله وأعتله عتلا، إذا جذبته جذبا عنيفا، وسقته بجفاء. وقرئ بضم التاء.
﴿ إن هذا ما كنتم به تمترون ﴾ إن هذا العذاب هو ما كنتم فيه تجادلون وتخاصمون في الدنيا على مذهب الشك والريبة. وقد كانوا في إنكار البعث صنفين : صنف يجحده وهم أئمة الكفر، وصنف حائر فيه، يجحده إذا سمع مقالة أولئك، ويشك فيه إذا سمع الآيات الدالة عليه ؛ ومنشأ هذه الحيرة عدم التصديق بالرسالة، والإيمان بصدق الخبر مع الجهالة وفساد الاستعداد.
﴿ سندس ﴾ مارق من الحرير. واحده سندسه. ﴿ وإستبرق ﴾ ما غلظ منه.
﴿ كذلك ﴾ أي الأمر كذلك. ﴿ بحور ﴾ يحار فيهن الطرف لفرط حسنهن، وجمال بياضهن، وصفاء ألوانهن ؛ جمع حوراء، وهي التي يحار فيها الطرف. أو البيضاء ؛ من الحور وهو البياض. ﴿ عين ﴾ جمع عيناء، أي واسعة العينين.
﴿ فإنما يسرناه بلسانك ﴾ سهلنا عليك تلاوته وتبليغه إليهم، منزلا بلغتك ولغتهم. ﴿ لعلهم يتذكرون ﴾ كي يتعظوا فيؤمنوا به ويعملوا بما فيه ؛ لكنهم لم يتعظوا ولم يؤمنوا.
﴿ فارتقب إنهم مرتقبون ﴾ فانتظر ما يحل بهم إنهم ينتظرون ما يحل بك ؛ كما قالوا : " نتربص به ريب المنون " . والله أعلم.