ﰡ
وختمت السّورة بنعت وبيان مصير الأبرار ومصير الفجّار، لترغيب الفريق الأول وتبشيره بالعاقبة الحميدة، وترهيب الفريق الثاني وإنذاره بالنّكال والعذاب الشّديد.
فضلها:
ذكر المفسّرون أحاديث في فضل سورة الدّخان، لكنها لا تخلو من ضعف «١»، منها ما رواه الدّارميّ في مسنده عن أبي رافع قال: «من قرأ الدّخان في ليلة الجمعة، أصبح مغفورا له، وزوّج من الحور العين»
ورواه الثّعلبي مرفوعا عن أبي هريرة أنّ النّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «من قرأ الدّخان في ليلة الجمعة أصبح مغفورا له»
وفي لفظ آخر للتّرمذي: «من قرأ حم الدّخان في ليلة، أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك»
، وعن أبي أمامة قال: سمعت النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: «من قرأ حم الدّخان ليلة الجمعة أو يوم الجمعة، بنى اللَّه له بيتا في الجنة».
إنزال القرآن في ليلة القدر المباركة وصفات منزله
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ١ الى ٩]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤)أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩)
أَمْراً مِنْ عِنْدِنا أَمْراً: إما منصوب على الحال بمعنى آمرين، أو منصوب على المصدريّة، أو منصوب بفعل مقدّر، أي أعني أمرا، وهو قول أبي العباس المبرّد.
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ رَحْمَةً: إما منصوب على أنه مفعول لأجله، أي للرّحمة، وحذف مفعول مُرْسِلِينَ، أو لأنه مفعول مُرْسِلِينَ والمراد بالرّحمة حينئذ النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، لقوله تعالى:
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء ٢١/ ١٠٧]، أو منصوب على البدل من قوله:
أَمْراً، أو منصوب على المصدر، أو منصوب على الحال، وهو قول أبي الحسن الأخفش.
رَبِّ السَّماواتِ بالجرّ: بدل من رَبِّكَ، وبالرّفع: خبر آخر، أو صفة، أو استئناف على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو ربّ السموات.
البلاغة:
حَكِيمٍ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ من صيغ المبالغة على وزن فعيل.
يُحْيِي وَيُمِيتُ بينهما طباق.
إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ حثّ وتحريض على الإيمان والتفكّر والتّبصر.
المفردات اللغوية:
حم الحروف المقطعة للدلالة على إعجاز القرآن، والتّنبيه على خطورة ما يلقى من أحكام في هذه السّورة، كما تقدّم. وَالْكِتابِ الْمُبِينِ هذا قسم بالقرآن، أي والقرآن ذي البيان الواضح لكل حاجات الإنسان في الدّين والدنيا.
لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ هي ليلة القدر، ابتدئ فيها إنزال القرآن، أو أنزل فيها جملة إلى سماء الدنيا من اللوح المحفوظ، وبركتها لأن نزول القرآن سبب للمنافع الدّينية والدّنيوية. مُنْذِرِينَ مخوّفين به، وهو استئناف يتبيّن فيه المقتضي للإنزال.
أَمْراً مِنْ عِنْدِنا أي أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا على مقتضى حكمتنا، وهو مزيد تفخيم للأمر. مُرْسِلِينَ الرّسل: محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم ومن قبله عليهم السّلام. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ رأفة بالمرسل إليهم. السَّمِيعُ لأقوالهم. الْعَلِيمُ بأفعالهم وأحوالهم، وهو وما بعده بيان أنّ الرّبوبية لا تحقّ إلا لمن هذه صفاته، مما ينفي ربوبية غيره. إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي إن كنتم من أهل الإيقان في العلوم وفي أنه تعالى ربّ السموات والأرض، أو كنتم تطلبون اليقين وتريدونه.
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إذ لا خالق سواه. يُحْيِي وَيُمِيتُ كما تشاهدون. بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ من البعث، وهو ردّ لكونهم موقنين. يَلْعَبُونَ يعبثون استهزاء بالنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، لذلك قال:
اللهم أعنّي عليهم بسبع كسبع يوسف».
التفسير والبيان:
حم، وَالْكِتابِ الْمُبِينِ، إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ أقسم اللَّه سبحانه بالقرآن العظيم الذي هو الكتاب الموضّح لكلّ ما يحتاجه الإنسان من أمور الدّين والدّنيا، على أنه أنزل القرآن في ليلة كثيرة الخيرات التي هي ليلة القدر، كما جاء مبيّنا في آية أخرى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر ٩٧/ ١]، من ليالي شهر رمضان الذي نزل فيه القرآن، كما قال تعالى:
شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ [البقرة ٢/ ١٨٥]، أي أنه بدئ بإنزاله في ليلة القدر من ليالي رمضان، واستمرّ نزوله منجّما ثلاثا وعشرين سنة، أو أنزل القرآن كلّه في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدّنيا.
إنّا كنّا بهذا القرآن منذرين الناس من العذاب الأليم في الآخرة إذا اقترفوا الشّرك والمعاصي، ومعلّمين النّاس ما ينفعهم ويضرّهم شرعا لتقوم حجّة اللَّه على عباده.
وسبب بدء نزوله في ليلة القدر ما قال تعالى:
فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أي في ليلة القدر يفصّل ويبيّن الأمر المحكم، فيكتب فيها ما يكون في السّنة من الآجال والأرزاق، من خير وشرّ، وحياة وموت، وغير ذلك، أو ما يكون من أمور محكمة لا تبديل فيها ولا تغيير، بتشريع الأحكام الصالحة لهداية البشر في الدنيا، والسعادة في الآخرة، فالحكيم:
معناه ذو الحكمة. وإنما أنزل القرآن في هذه الليلة خصوصا، لأن إنزال القرآن أشرف الأمور الحكمية، وهذه الليلة يفرق فيها كل أمر ذي حكمة.
والغاية من إنزال القرآن ما قال سبحانه:
أَمْراً مِنْ عِنْدِنا، إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ، رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي أنزل اللَّه القرآن من لدنه متضمنا وحيه وشرعه، وقد فعلنا ذلك الإنذار، وأرسلنا الرسول وجميع الأنبياء إلى الناس لتلاوة آيات اللَّه البيّنات، رحمة ورأفة منا بهم، لبيان ما ينفعهم وما يضرّهم، ولئلا يكون للناس حجّة بعد إرسال الرّسل، فرسالة الرّسل هي الرّحمة المهداة الدّائمة إلى البشر، وتتمثل الآن بالثّابت القطعي النّزول منها، وهو القرآن ورسالة النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. قال أبو حيان في تفسير إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. لما ذكر إنزال القرآن ذكر المرسل، أي مرسلين
(٢) تفسير القرطبي: ١٦/ ١٢٦
وإنما فعل اللَّه ذلك، لأنه السّميع لأقوال البشر، العليم بأحوالهم وبما يصلحهم، فأرسل الرّحمة إليهم رعاية لحاجتهم.
والدّليل على السّمع والعلم وإنزال القرآن ما قاله تعالى:
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي إن اللَّه السّميع العليم الذي أنزل القرآن هو ربّ السموات والأرض وما بينهما من سائر المخلوقات، وخالقها ومالكها وما فيها، إن كنتم تريدون معرفة ذلك عن يقين تام لا شكّ فيه، قال أبو مسلم: معنى قوله: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ إن كنتم تطلبون اليقين وتريدونه، فاعرفوا أن الأمر كما قلنا.
ثم ذكر اللَّه تعالى صفات أخرى هي الوحدانية والقدرة فقال:
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ، رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ أي بعد إثبات الرّبوبية لله أثبت الوحدانية، فهو الإله الواحد الذي لا إله غيره، وأثبت القدرة فهو المحيي والمميت، يحيي ما يشاء، ويميت ما يشاء، ثم أكّد الرّبوبية على البشر بالذّات، فهو ربّكم أيها المخاطبون وربّ آبائكم وأجدادكم الأولين، ومدبّر شؤونهم، فهو المستحق للعبادة، دون غيره من الآلهة المزعومة، ثم ذكر حقيقة المشركين، فقال:
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ أي بل هؤلاء المشركون في شكّ من أمر البعث والتّوحيد والإقرار الذي صدر منهم بأن اللَّه هو خالقهم، وهم في الواقع عابثون لا هون لاعبون، لا جدّية عندهم في الاعتقاد الصحيح، والسّلوك المطابق له.
دلّت الآيات على ما يأتي:
أولا- عظّم اللَّه تعالى القرآن في هذه الآيات بأمور هي:
١- أقسم به، واللَّه لا يقسم إلا بشيء عظيم، ولله أن يقسم بما يشاء على ما يشاء في أي وقت يشاء.
٢- أقسم به على أنه أنزل في ليلة مباركة هي ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر. قال قتادة وابن زيد: أنزل اللَّه القرآن كله في ليلة القدر من أم الكتاب إلى بيت العزّة في سماء الدنيا، ثم أنزله اللَّه على نبيّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الليالي والأيام في ثلاث وعشرين سنة. ذكر الطبري عن قتادة أنه قال: نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، والتوراة لستّ ليال منه، والزّبور لاثنتي عشرة مضت، والإنجيل لثمان عشرة منه، والفرقان لأربع وعشرين مضت.
٣- وصف اللَّه القرآن بكونه كتابا مبينا.
٤- وصف اللَّه ليلة إنزال القرآن بأنه يفرق فيها كل أمر حكيم، قال ابن عباس وغيره: يحكم اللَّه أمر الدنيا إلى قابل في ليلة القدر ما كان من حياة أو موت أو رزق. وقال ابن عمر: إلا الشّقاء والسّعادة، فإنهما لا يتغيّران.
٥- الغاية من القرآن إنذار البشر وتخويفهم العذاب ليصلح حالهم في الدنيا.
٦- إن إنزال القرآن كان بأمر اللَّه ومن عنده.
٧- كان إنزاله رحمة من اللَّه بعباده.
٨- كان إنزاله محققا لمصالح الناس وحاجاتهم، لأن اللَّه هو السّميع العليم،
ثانيا- أظهر اللَّه تعالى حقيقة اعتقاد المشركين مبيّنا أنهم ليسوا في الواقع على يقين فيما يظهرونه من الإيمان والإقرار في قولهم: إن اللَّه خالقهم، وإنما يقولونه تقليدا لآبائهم من غير علم ولا حجة ولا برهان، فهم في شكّ بيّن، وإن توهّموا أنهم مؤمنون، فهم يلعبون في دينهم على وفق أهوائهم من غير حجّة.
تهديد المشركين بالعذاب
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ١٠ الى ١٦]
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤)
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦)
الإعراب:
إِنَّا مُؤْمِنُونَ الجملة حالية.
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى الذِّكْرى: مبتدأ، وأَنَّى لَهُمُ: خبره.
يَوْمَ نَبْطِشُ... يَوْمَ: منصوب على الظرف، والعامل فيه: إما فعل مقدر، يدلّ عليه مُنْتَقِمُونَ أي ننتقم يوم نبطش، ولا يجوز تعلّقه بقوله: إِنَّا مُنْتَقِمُونَ لأن ما بعد (إن) لا يعمل فيما قبلها، أو يكون العامل فيه إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ...
فَارْتَقِبْ انتظر. بِدُخانٍ مُبِينٍ بيّن واضح، والمراد من الدّخان: يوم الشدّة والمجاعة في الماضي، فإن الجائع يرى ما فوقه إلى السّماء ظلاما من شدّة الجوع، وضعف البصر، كهيئة الدّخان، وفي المستقبل يمكن تفسير الدّخان بالغبار الذّري الذي يهدّد البشرية بالموت ويعقبه ظلام.
يَغْشَى النَّاسَ يحيط بهم من كلّ جانب، وهو صفة للدّخان. هذا عَذابٌ أَلِيمٌ أي يقولون: هذا عذاب مؤلم، ويقولون: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ، إِنَّا مُؤْمِنُونَ مصدّقون بك وبنبيّك، وهذا وعد بالإيمان إن كشف العذاب عنهم.
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى؟ أي من أين لهم، وكيف يتذكرون في هذه الحال؟ المعنى:
لا ينفعهم الإيمان عند نزول العذاب. وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ بيّن الرّسالة، بيّن لهم بالآيات والمعجزات ما يوجب الإيمان والتّذكّر. مُعَلَّمٌ أي يعلمه غيره القرآن، قالوا: يعلمه غلام رومي لبعض ثقيف.
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ نكشف العذاب بدعاء النّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، فإنه دعا، فرفع القحط.
قَلِيلًا كشفا قليلا أو زمنا قليلا، وهو ما بقي من أعمارهم. إِنَّكُمْ عائِدُونَ إلى الكفر، فعادوا إليه بعد كشف العذاب.
نَبْطِشُ نأخذ بقوة وشدة، والبطش: الأخذ الشديد، والبأس. الْبَطْشَةَ الْكُبْرى يوم القيامة أو يوم بدر. إِنَّا مُنْتَقِمُونَ ننتقم منهم بسبب كفرهم.
سبب النّزول:
نزول الآية (١٠) :
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ: أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: إن قريشا لما استعصوا على النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، دعا عليهم بسنين كسنيّ يوسف، فأصابهم قحط، حتى أكلوا العظام، فجعل الرّجل ينظر إلى السماء، فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدّخان من الجهد، فأنزل اللَّه: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ فأتوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقالوا: يا رسول اللَّه، استسق اللَّه لمضر، فإنها قد هلكت، فاستسقى، فسقوا، فنزلت.
إِنَّكُمْ عائِدُونَ، يَوْمَ نَبْطِشُ... أخرج البخاري في تتمة الرواية السابقة:
فلما أصابتهم الرّفاهية عادوا إلى حالهم، فأنزل اللَّه: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى، إِنَّا مُنْتَقِمُونَ فانتقم اللَّه منهم يوم بدر.
المناسبة:
بعد أن وصف اللَّه تعالى المشركين بأنهم في شكّ من التّوحيد والبعث وقدرة اللَّه، ذكر تعالى أوصاف يوم العذاب الذي سيحلّ بهم في الدّنيا والآخرة، تهديدا لهم، وتسلية لرسوله، وأنه لا يؤمل اتّعاظهم بالرغم من تهديدهم وإظهار المعجزات والبيّنات على يد رسول اللَّه، ووصفهم له بأنه معلّم مجنون.
التفسير والبيان:
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ هذا توعّد من اللَّه وتهديد للمشركين، يقول اللَّه فيه لنبيّه: فانتظر اليوم الذي تأتي فيه السماء بهيئة كالدّخان الواضح المنتشر في الفضاء، وهذا الدّخان بالنسبة للماضي هو ما أصاب قريشا من الجدب والقحط مدة سبع سنين، بدعاء النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حتى كان الرجل يرى من شدّة الجوع ما بين السماء والأرض دخانا، لضعف البصر وزيغانه، كما تقدّم في بيان سبب النّزول عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه، أو هو غبار الحرب يوم بدر.
وأما بالنسبة للمستقبل فهو أمارة وعلامة من أشراط الساعة، يمكث في الأرض أربعين يوما، حيث يظهر في الفضاء غبار ذري أو غيره كالدّخان، يجعل الجو مظلما، وهذا ما أكّده العلماء في نهاية العالم، حيث تضعف الطاقة الشمسية.
وصفة ذلك الدّخان العموم والشمول، كما قال تعالى:
وحينئذ يستغيث الناس بالله قائلين:
رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ، إِنَّا مُؤْمِنُونَ أي يقولون: يا ربّنا اكشف عنّا عذابك، إنّا مصدّقون بالله ورسوله، أو إن كشفت عنّا هذا العذاب أسلمنا وآمنا، والمراد بالعذاب في الماضي الجوع الذي كان بسببه رؤية ما يشبه الدّخان.
روي أن المشركين أتوا النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وقالوا: «إن كشف اللَّه عنا هذا العذاب أسلمنا».
وأما في المستقبل فهو عذاب أشدّ يحدث قبيل الساعة، ويكون من أشراطها وعلاماتها.
وهذا كقوله عزّ وجلّ: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ، فَقالُوا: يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا، وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام ٦/ ٢٧]، وقوله جلّ وعلا: وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ، فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا: رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ، وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ، أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ [إبراهيم ١٤/ ٤٤].
ثم نفى اللَّه صدقهم في الوعد بالإيمان قائلا:
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى، وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ، ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ، وَقالُوا: مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ أي من أين وكيف لهم التّذكر والاتّعاظ والوفاء بالوعد بالإيمان بعد كشف العذاب؟ وكان قد جاءهم رسول مبين أدلّة الإيمان، ظاهر الآيات والمعجزات، ثم أعرض هؤلاء الكفار عنه، وقالوا عنه: إنما يعلمه القرآن بشر، وقالوا أيضا: إنه مجنون لا عقل له، وهذا يدلّ على أنّ الآيات نزلت في قريش،
وهذا كقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ، وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى؟
[الفجر ٨٩/ ٢٣].
ثم أعلن اللَّه تعالى عودتهم صراحة إلى الكفر، فقال:
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا، إِنَّكُمْ عائِدُونَ أي إنا سنرفع عنكم العذاب زمانا قليلا، وسنؤخّره قليلا بعد توافر أسبابه، وهذا كالحكم الصادر بالعقوبة مع وقف التّنفيذ، فإنكم راجعون إلى ما كنتم عليه من الشّرك والكفر والعناد، وقد رجعوا فعلا.
وهذا كقوله تعالى في قوم يونس: إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ [يونس ١٠/ ٩٨].
وتأخير العذاب إلى يوم القيامة كما قال تعالى:
يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى، إِنَّا مُنْتَقِمُونَ أي إنكم مؤجلون إلى عذاب شديد هو عذاب النار في يوم القيامة، ذلك اليوم الذي يكون فيه البأس الأكبر والأخذ الأشد، وفيه ننتقم أشدّ الانتقام، أي نعاقب هؤلاء الكفار.
وقيل كما روي عن ابن مسعود: إنه يوم بدر، لما عادوا إلى التّكذيب والكفر بعد رفع العذاب عنهم، انتقم اللَّه منهم بوقعة بدر، قال ابن مسعود: البطشة الكبرى: يوم بدر.
والظاهر كما رجّح ابن جرير الطبري وابن كثير أن ذلك يوم القيامة، وبه قال الحسن البصري وعكرمة في أصح الروايتين عنه.
أرشدت الآيات إلى ما يلي:
١- هدد اللَّه المشركين بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، وطالب نبيّه بأن ينتظر وجود العذاب بهؤلاء الكفار، أما في الدنيا فيتعرّضون لظلمة في أبصارهم من شدة الجوع، لأن
النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لما دعا عليهم بقوله: «اللهم اجعل سنيّهم كسنيّ يوسف»
ارتفع المطر وأصابت قريشا شدة المجاعة، حتى أكلوا العظام والكلاب والجيف، فكان الرجل، لما به من الجوع يرى ما بينه وبين السماء كالدّخان، كما قال ابن عباس وغيره.
وأما في الآخرة فينتقم اللَّه منهم يوم البطشة الكبرى- يوم القيامة- ويدخلهم النار.
ثم إن من علامات القيامة ظهور دخان في العالم، أي ظلمة بسبب ضعف الطاقة الشمسية في ذلك الوقت، وذلك يوم عسير وشديد على الكافرين، وأما المؤمنون فينجيهم من بأس ذلك اليوم، ويحميهم من شدته.
روى أبو سعيد الخدري مرفوعا: «أنه دخان يهيج بالناس يوم القيامة، يأخذ المؤمن منه كالزّكمة (الزّكام) وينفخ الكافر حتى يخرج من كلّ مسمع منه».
وعن حذيفة أنّ النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «أوّل الآيات: الدّخان، ونزول عيسى ابن مريم، ونار تخرج من قعر عدن أبين، تسوق الناس إلى المحشر»
وأبين: اسم رجل بنى هذه البلدة ونزل بها.
٢- شأن الكافر وطبيعته اللجوء إلى اللَّه وقت الشّدة والمحنة، ثم العودة إلى الكفر بعد الفرج وكشف الضّرّ. وهذا ما حدث لمشركي مكة، فقد روي: أن قريشا أتوا النّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم وقالوا: إن كشف اللَّه عنا هذا العذاب أسلمنا، ثم نقضوا هذا القول.
وهذا معروف عن قريش، فمن أين لهم التّذكر والاتّعاظ والاعتبار عند حلول العذاب؟ وقد جاءهم رسول من أنفسهم يبين لهم الحق، ثم أعرضوا عنه، بل إنهم اتّهموه زورا وبهتانا بأنه يعلّمه بشر وهو غلام رومي لبعض ثقيف، أو تعلّمه الكهنة والشياطين، ثم هو مجنون وليس برسول: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ، إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [الكهف ١٨/ ٥].
٤- مع كلّ هذا ومع علم اللَّه الشامل بما سيكون، وعد أن يكشف عن قريش ذلك العذاب في زمان قليل، ليعلم أنهم لا يفون بقولهم، بل يعودون إلى الكفر بعد كشفه، كما قال ابن مسعود، فلما كشف عنهم باستسقاء النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لهم، عادوا إلى تكذيبه.
ومن قال: إن الدّخان منتظر قرب القيامة قال: أشار بهذا إلى ما يكون من الفرجة بين آية وآية، من آيات قيام الساعة، ثم من أصرّ على كفره استمرّ عليه.
ومن قال: هذا في القيامة قال: أي لو كشفنا عنكم العذاب لعدتم إلى الكفر.
٥- إن يوم القيامة يوم رهيب، فهو يوم البطشة الإلهية الكبرى، ويوم الانتقام من الظالمين والمشركين والكافرين، وذلك بعذاب جهنم.
والخلاصة: تضمّنت الآيات تحليلا دقيقا لطبائع الكفار، ونبّهت إلى أنهم لا يوفون بعهدهم، وأنهم في حال العجز يتضرّعون إلى اللَّه تعالى، فإذا زال الخوف عادوا إلى الكفر وتقليد الأسلاف، وأخبرت عن تهديدات متكررة، وتقريعات وتوبيخات متوالية بقصد الرّدع والزّجر وتدارك الأمر قبل فوات الأوان.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ١٧ الى ٣٣]
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١)
فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦)
وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١)
وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣)
الإعراب:
أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ أَنْ: في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر، أي وجاءهم رسول بأن أدوا، وعِبادَ اللَّهِ: إما منصوب ب أَدُّوا أو منصوب على النداء المضاف، ومفعول أَدُّوا محذوف، تقديره: أدوا إليّ أمركم يا عباد اللَّه. وأَنْ: مفسرة لأن جاءَهُمْ تتضمن معنى القول، لأنه لا يجيئهم إلا مبشرا ونذيرا وداعيا إلى اللَّه، أو هي المخففة من الثقيلة، ومعناه: وجاءهم بأن الشأن والحديث: أدّوا إلي.
وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ: في موضع نصب بالعطف على أَنْ الأولى.
أَنْ تَرْجُمُونِ في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر، أي: من أن ترجمون.
وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً رَهْواً: حال، أي ساكنا، حتى يدخلوا فيه من غير نفرة عنه.
كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها الكاف: إما في موضع رفع، خبر مبتدأ محذوف، تقديره: الأمر كذلك، وإما في موضع نصب على الوصف لمصدر محذوف، تقديره: يفعل فعلا كذلك بمن يريد إهلاكه. وَأَوْرَثْناها: عطف على الفعل المقدر، أو على (تركوا).
مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ، مِنْ فِرْعَوْنَ: مِنْ: إما بدل من الْعَذابِ الْمُهِينِ وتقديره: من عذاب فرعون، فحذف المضاف، أو حال من الْعَذابِ الْمُهِينِ أي كائنا من فرعون، فلا يكون فيه حذف مضاف.
مِنَ الْمُسْرِفِينَ خبر ثان أو حال من ضمير عالِياً.
البلاغة:
فَتَنَّا استعارة تبعية، حيث شبه الابتلاء والاختبار بالفتنة.
فَأَسْرِ بِعِبادِي إيجاز بحذف كلام، أي وقلنا له: فأسر.
فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ استعارة تمثيلية، أي لم تحزن على هلاكهم السماء والأرض، وهذا أسلوب عربي يقال للتحقير والتهكم بحالهم.
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ رثاء وتفجع وإظهار الأسى والحسرة للعبرة والعظة للأحياء.
المفردات اللغوية:
فَتَنَّا بلونا واختبرنا وامتحنا. قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ امتحناهم بإرسال موسى عليه السلام إليهم، أو بالإمهال وتوسيع الرزق عليهم، وقرئ بالتشديد للتأكيد أو لكثرة القوم.
وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ على اللَّه تعالى، أو على المؤمنين، أو في نفسه فهو جامع لخصال الخير والأفعال الحميدة، وهو موسى عليه السلام. أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ بأن أدوا إلي حق اللَّه من الإيمان وقبول الدعوة، اي أظهروا إيمانكم لي يا عباد اللَّه، أو أطلقوا معي بني إسرائيل وأرسلوهم.
رَسُولٌ أَمِينٌ مؤتمن على ما أرسلت به، غير متهم، لدلالة المعجزات على صدقه، أو لائتمان اللَّه على وحيه ورسالته، وهو علة الأمر.
إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي ببرهان بيّن واضح على رسالتي، وهو علة النهي. وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ أي التجأت إليه وتوكلت عليه أن ترجموني بالحجارة، أو تؤذوني ضربا أو شتما، أو تقتلوني. وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي تصدقوني. فَاعْتَزِلُونِ فكونوا بمعزل مني، واتركوا أذاي، ولا تتعرضوا لي بسوء، فإن ذلك ليس جزاء من دعاكم إلى الفلاح.
أَنَّ هؤُلاءِ بأن هؤلاء. مُجْرِمُونَ مشركون، وهو تعريض بسبب الدعاء عليهم.
فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا أي فقال: أسر ببني إسرائيل، أي سر بهم ليلا، وقرئ بوصل الهمزة من (سرى). إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ يتبعكم فرعون وجنوده. وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً ساكنا منفرجا مفتوحا كما هو على هيئته بعد تجاوزه، ولا تضربه بعصاك، ولا تغير منه شيئا، حتى يدخل فيه القبط شعب فرعون. إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ أي لأنهم غارقون.
جَنَّاتٍ بساتين. وَعُيُونٍ ينابيع جارية. مَقامٍ كَرِيمٍ مجالس ومنازل حسنة.
وَنَعْمَةٍ من النعم، أي تنعم وحسن ومتعة ونضرة، والنّعمة: ما ينعم به على الإنسان، من الإنعام. فاكِهِينَ متنعمين أصحاب فاكهة، وقرئ «فكهين» أي أشرين بطرين مستهزئين.
كَذلِكَ أي الأمر كذلك، أو مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها. وَأَوْرَثْناها أي ورثنا أموالهم. قَوْماً آخَرِينَ بني إسرائيل.
فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ مجاز عن عدم الاكتراث بهلاكهم والاعتداد بوجودهم، تقول العرب إذا مات رجل خطير في تعظيم مهلكه: بكت عليه السماء والأرض، وبكته الريح، وأظلمت له الشمس، وفي
حديث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله: ما من مؤمن مات في غربة غابت فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض»
وقال جرير يرثي عمر بن عبد العزيز رحمه اللَّه:
الشمس طالعة ليست بكاسفة | تبكي عليك، نجوم الليل والقمرا |
وقالت الخارجية:
أيا شجر الخابور مالك مورقا | كأنك لم تجزع على ابن طريف |
والمراد لا أسف على فرعون وقومه، بخلاف المؤمنين يبكي عليهم بموتهم مصلاهم من الأرض، ومصعد عملهم من السماء. مُنْظَرِينَ ممهلين ومؤخرين التوبة إلى وقت آخر.
مِنَ الْعَذابِ من استعباد فرعون وقتله أبناءهم واستخدامه نساءهم. مِنْ
إما على حذف مضاف، أي عذاب فرعون أو حال من العذاب كما تقدم. عالِياً متكبرا جبارا. مِنَ الْمُسْرِفِينَ المتجاوزين الحد في الشر والفساد، وهو خبر ثان أي كان متكبرا مسرفا، أو حال من ضمير عالِياً أي كان رفيع الطبقة من بينهم.
اخْتَرْناهُمْ اخترنا بني إسرائيل واصطفيناهم. عَلى عِلْمٍ منا بحالهم أي عالمين باستحقاقهم ذلك. عَلَى الْعالَمِينَ اخترناهم على عالمي زمانهم. الْآياتِ المعجزات، كفلق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى. ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ اختبار ظاهر.
المناسبة:
بعد أن بيّن اللَّه تعالى إصرار مشركي مكة على كفرهم، بيّن أن كثيرا من المتقدمين كانوا أمثالهم في تكذيب الرسل، وفي طليعتهم قوم فرعون، الذين كذبوا رسولهم موسى عليه السلام، فنصره اللَّه عليهم، وأغرقهم، وجعلهم عبرة للمعتبر.
التفسير والبيان:
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أي لقد اختبرنا قبل هؤلاء المشركين قوم فرعون، وهم قبط مصر، أرسل اللَّه إليهم رسولا كريما جامعا لخصال الخير والأفعال المحمودة، وهو موسى عليه السلام، وهو كريم على اللَّه، وكريم في قومه.
أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ أي وجاءهم رسول بأن أرسلوا معي عباد اللَّه وهم بنو إسرائيل، وأطلقوهم من العذاب، فإني رسول من اللَّه مؤتمن على الرسالة غير متهم، وهذا كقوله عز وجل: فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ، وَلا تُعَذِّبْهُمْ، قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ، وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى [طه ٢٠/ ٤٧].
ويجوز أيضا أن يكون قوله: عِبادَ اللَّهِ نداء لهم، والتقدير: أدوا إلي يا عباد اللَّه ما هو واجب عليكم من الإيمان، وقبول دعوتي، واتباع سبيلي. وعلل
وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ، إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي لا تتجبروا ولا تتكبروا عن اتباع آيات اللَّه، والانقياد لبراهينه، ولا تترفعوا عن طاعته ومتابعة رسله، كقوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي، سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر ٤٠/ ٦٠] إني آتيكم بحجة ظاهرة واضحة لا سبيل إلى إنكارها، وهي ما أرسله اللَّه تعالى به من الآيات البينات والمعجزات القاطعات كالعصا واليد وسائر الآيات التسع، فهددوه بالرجم كما قال تعالى:
وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ أي أستعيذ بالله وألتجئ إليه وأتوكل عليه مما تتوعدوني به من القتل بالحجارة أو الإيذاء والشتم.
وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ أي وإن لم تصدّقوني وتقرّوا بنبوتي وبما جئتكم به من عند اللَّه، فاتركوني، ولا تتعرضوا لي بأذى إلى أن يحكم اللَّه بيننا.
فلما يئس من إيمانهم، ولمس إصرارهم على الكفر وعنادهم، دعا عليهم فقال:
فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ أي فدعا موسى ربه حين كذبوه وهمّوا بقتله بأن هؤلاء قوم مكذبون رسلك مشركون بك، كما جاء في آية أخرى:
وَقالَ مُوسى: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ، رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ، وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ، فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ، قالَ: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما..
[يونس ١٠/ ٨٨- ٨٩].
وحينئذ أمره اللَّه تعالى أن يخرج ببني إسرائيل من مصر سرا ليلا:
وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً، إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ أي دع يا موسى البحر ساكنا منفرجا مفتوحا، لا تضربه بعصاك حتى يعود كما كان، ليدخله فرعون وجنوده، فإنهم قوم مغرقون في اليم. وهذه بشارة من اللَّه بنجاتهم وإهلاك عدوهم ليسكن قلب موسى عليه السلام، ويطمئن جأشه.
ثم ذكر تعالى ما خلّفوه وراءهم من عز ومجد ونعيم وثراء، فقال:
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ، وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ أي كثيرا ما تركوا في مصر وراءهم من بساتين خضراء، وحدائق غناء، وأنهار متدفقة وآبار مترعة بالماء، وزروع نضرة، ومنازل ومجالس حسنة وثيرة، وتنعم بالمال والخير الوفير، كانوا يرفلون بالنعمة ويتنعمون بعيشة هنية، ويستمتعون بأنواع اللذة، كما يتمتع الرجل بأنواع الفاكهة، فيأكلون ويلبسون ما شاؤوا.
كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ أي مثل ذلك الإهلاك والسلب والتدمير فعلنا بالذين كذبوا رسلنا، ونفعل بكل من عصانا، وأورثنا تلك البلاد بني إسرائيل الذين كانوا مستضعفين في الأرض، كما قال تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها، وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا، وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ، وَما كانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف ٧/ ١٣٧].
ثم تهكم اللَّه بهم وأبدى عدم الاكتراث بشأنهم قائلا:
ثم أتبع اللَّه تعالى ما يقابل النقمة بالنعمة للعبرة، فقال:
وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ، مِنْ فِرْعَوْنَ، إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ أي لقد خلصنا شعب بني إسرائيل بإهلاك عدوهم مما كانوا فيه من الاستعباد وقتل الأبناء واستحياء النساء وتكليفهم بالأعمال الشاقة، من عذاب فرعون الذي كان متعاليا عنيدا، متكبرا متجبرا، ومن المسرفين في الكفر بالله، وارتكاب معاصيه، ورأس الكفر: ادعاؤه الألوهية والربوبية بقوله: أنا ربكم الأعلى.
وهذا كقوله تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً، يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ، يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ، إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [القصص ٢٨/ ٤] وقوله سبحانه: فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ [المؤمنون ٢٣/ ٤٦].
ويلاحظ أن بيان الإحسان إلى موسى وقومه كان بعد بيان كيفية إهلاك فرعون وقومه، لأن دفع الضرر مقدم على جلب المصالح والمنافع.
ثم بيّن اللَّه تعالى مدى تكريمه لبني إسرائيل حين ذاك قائلا:
وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ، وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ أي لقد اختارهم اللَّه على عالمي زمانهم على علم منه باستحقاقهم لذلك، لكثرة الأنبياء فيهم، ولصبرهم مع موسى، وجهادهم في سبيل اللَّه، فلما بدلوا الإيمان بالكفر، والصلاح بالفساد غضب اللَّه عليهم ولعنهم وجعل منهم القردة والخنازير.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات الكريمات إلى ما يأتي:
١- لا يغترن أحد بمال أو جاه أو سلطان أو عزّ أو حكم قوي، فذلك كله للاختبار والامتحان، فقد ابتلى اللَّه قوم فرعون بالأمر بطاعة اللَّه ورسولهم موسى عليه السلام، فكذبوا وكفروا، والمقصود أنه عاملهم معاملة المختبر ببعثة موسى إليهم، فكذبوا فأهلكوا، وهكذا يفعل بأعداء محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم إن لم يؤمنوا.
٢- طلب موسى عليه السلام من فرعون وقومه أن يتبعوه في رسالته، كما قال ابن عباس، أو أن يرسلوا معه بني إسرائيل ويطلقوهم من العذاب، كما قال مجاهد، وهو في الحالين أمين على الوحي، فما عليهم إلا أن يقبلوا نصحه.
٣- اتبع موسى عليه السلام معهم أسلوبا لطيفا، فنصحهم بألا يتكبروا على اللَّه ولا يترفعوا عن طاعته، وخاطبهم بما يقنع عقلا ومنطقا، فذكر لهم أنه يأتيهم بحجة بينة وبرهان واضح على صدقه، وصحة دعوته، وإثبات ألوهية اللَّه الواحد الأحد، وحرص على مسالمتهم قائلا: إن لم تصدقوني ولم تؤمنوا بالله لأجل برهاني، فدعوني واتركوني، وخلّوا سبيلي وكفّوا عن أذاي.
٤- لم يدع نبي على قومه إلا بعد اليأس من إيمانهم، وهكذا فعل موسى عليه السلام، فإنه لما وجد إصرار فرعون وقومه على الكفر دعا ربه بأن هؤلاء قوم مشركون، امتنعوا من الإيمان، ومن إطلاق بني إسرائيل.
وسير الليل في الغالب إنما يكون عن خوف إما من العدو، وإما من خوف المشقة على الدواب والأبدان.
وأمره ربه أيضا أن يترك البحر الذي فتح لهم أثناء العبور بأمر من اللَّه مفتوحا ساكنا على حاله، لا يضربه بعصاه حتى يعود كما كان، وذلك استدراج لقوم فرعون ليعبروا فيغرقهم اللَّه بعد أن نجى بني إسرائيل.
٦- دلت آية كَمْ تَرَكُوا... على أنه تعالى أغرق قوم فرعون، ثم ذكر أنهم تركوا أشياء خمسة: هي الجنات والعيون والزروع والمقام الكريم والنّعمة بالفتح من التنعيم، أي حسن العيش ونضارته، أو سعة العيش والراحة.
أما النّعمة بالكسر من الإنعام: فهي إحسان اللَّه وعطاؤه وأفضاله.
وورث تعالى تلك الديار بما فيها من الخيرات لبني إسرائيل، بعد أن كانوا مستعبدين فيها، فصاروا لها وارثين، كوصول الميراث إلى مستحقيه.
٧- لا أسف ولا حزن على إهلاك فرعون وجنوده، لأنهم لم يعملوا على الأرض عملا صالحا تبكي عليهم السماء والأرض لأجله، ولا صعد لهم إلى السماء عمل صالح، فتبكي فقد ذلك.
قال مجاهد: إن السماء والأرض يبكيان على المؤمنين أربعين صباحا. وقال علي وابن عباس رضي اللَّه عنهما في المؤمن: إنه يبكي عليه مصلّاه من الأرض، ومصعد عمله من السماء. وهذا تعبير كنائي يراد به فقد الأعمال الصالحة.
قال الواحدي في البسيط: روى أنس بن مالك أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال فيما رواه أبو يعلى
٨- امتن اللَّه تعالى بحق على بني إسرائيل بعد إهلاك فرعون وقومه إذ نجّاهم أولا من بطش فرعون وظلمه واستعباده لهم، وقتله الأبناء، واستخدام النساء، وتكليفهم بالأعمال الشاقة، لأن فرعون كان جبارا عاليا من المشركين، وليس هذا علو مدح بل علو إسراف.
٩- ثم ذكر ثانيا أنه تعالى اختارهم على علم منه باستحقاقهم على عالمي زمانهم، لكثرة الأنبياء منهم، وإيمانهم بموسى وصلاحهم، فلما بدّلوا تبدل الحال، وغضب اللَّه عليهم ولعنهم، وأعد لهم جهنّم وساءت مصيرا.
١٠- ثم أبان ثالثا أنه تعالى أمدهم بالآيات البينات في التوراة، وبمعجزات موسى التسع، كإنجائهم من فرعون، وفلق البحر لهم، وتظليل الغمام عليهم، وإنزال المن والسلوى.
١١- لقد تبين الفارق الواضح في هذه القصة بين الكافرين وبين المؤمنين، فقد أغرق اللَّه الكفار الأشداء، ونجّى المؤمنين، وجعل العاقبة للمتقين، والنصر للصادقين الصابرين المستضعفين، وهذا عدل من اللَّه تعالى، إذ لا يعقل التسوية بين الطائعين والعصاة.
فليعتبر بهذا كفار قريش وأمثالهم، فقد أهلك اللَّه من هم أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا، وأعز سلطانا ومجدا، وأقوى علما وحضارة.
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٣٤ الى ٣٩]
إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨)
ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩)
الإعراب:
إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى: إِنْ: بمعنى «ما» مثل قوله تعالى: إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ وهِيَ مبتدأ، ومَوْتَتُنَا: خبره، ولا يجوز أن تعمل إِنْ هنا في لغة من أعملها، لدخول إِلَّا لأن «إلا» إذا دخلت على «ما» بطل عملها، ومثلها «إن».
وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الَّذِينَ: إما مرفوع على أنه مبتدأ، وأَهْلَكْناهُمْ خبره، أو على أنه معطوف على قَوْمُ تُبَّعٍ وإما منصوب بفعل مقدر دلّ عليه أَهْلَكْناهُمْ وتقديره:
وأهلكنا الذين من قبلهم أهلكناهم.
لاعِبِينَ حال.
البلاغة:
إِنَّ هؤُلاءِ الإشارة هنا للتحقير.
فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أسلوب التعجيز.
أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ.. استفهام إنكار، للتحقير والاستصغار.
المفردات اللغوية:
إِنَّ هؤُلاءِ كفار قريش، لأن الكلام فيهم، قال البيضاوي: وقصة فرعون- السابقة-
أحياهم فَأْتُوا بِآبائِنا خطاب لمن وعدهم بالنشور والبعث من الرسل والأنبياء. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في وعدكم.
أَهُمْ خَيْرٌ في القوة والمنعة. تُبَّعٍ كل من ملك اليمن والشّحر وحضر موت، وجمعه التبابعة وهم ملوك اليمن، وهذا شبيه بفرعون لدى قدماء المصريين، وهو كل من ملك مصر. ومن التبابعة: ذو القرنين أو إفريقش ويسمى الصعب، وجاء بعده عمرو زوج بلقيس، ثم أبو كرب ابنه، ثم ذو نواس.
وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم كعاد وثمود. أَهْلَكْناهُمْ بكفرهم، والمراد: ليس كفار قريش أقوى منهم، وأهلكوا لاعِبِينَ لاهين عابثين. ما خَلَقْناهُما وما بينهما إِلَّا بِالْحَقِّ أي محقين في ذلك، ليستدل به على قدرتنا على البعث وغيره وعلى وحدانيتنا وغير ذلك.
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي كفار مكة لا يعلمون ذلك، لقلة نظرهم.
المناسبة:
بعد أن ذكر اللَّه تعالى قصة فرعون وقومه مع موسى عليه السلام ليتعظ بها كفار قريش، عاد إليهم بعد أن وصفهم أولا بأنهم في شك من البعث والقيامة، وأنهم في إصرارهم على كفرهم مثل قوم فرعون الذين أهلكهم ونجّى بني إسرائيل، وذكر هنا صراحة أنهم منكرون للبعث، ثم رد عليهم بأن اللَّه خالق السموات والأرض وما بينهما قادر على بعثهم، ثم توعدهم بالهلاك، كما أهلك قوم تبّع من قحطان ملوك اليمن، الذين هم أقوى منهم.
وبه تبين أن اللَّه هدد كفار مكة بمصير مشؤوم، مثل مصير قوم فرعون وقوم تبّع.
التفسير والبيان:
إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ: إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ أي
وهذا إنكار من اللَّه تعالى على المشركين في إنكارهم البعث والمعاد، وأنه ما ثمّ إلا هذه الحياة الدنيا، ولا حياة بعد الممات، ولا بعث ولا نشور، وهذا كقوله تعالى: وَقالُوا: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا، وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الأنعام ٦/ ٢٩].
ثم احتجوا بآبائهم الماضين الذين ذهبوا فلم يرجعوا مخاطبين النبي والمؤمنين:
فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي فإن كان البعث حقا، فأرجعوا إلينا آباءنا بعد موتهم إلى الدنيا، إن كنتم صادقين فيما تدعونه من البعث.
يروى أنهم طلبوا من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يعجل اللَّه لهم إحياء الموتى، فينشر كبيرهم قصيّ بن كلاب ليشاوروه في صحة نبوة محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم وصحة البعث، فلم يجبهم اللَّه إلى ذلك.
وهذه حجة واهية، فإن المعاد إنما هو يوم القيامة، لا في الدار الدنيا، بل بعد انقضائها وذهابها، يعيد اللَّه العالمين خلقا جديدا.
ثم هددهم تعالى وتوعدهم وأنذرهم بأسه الذي لا يرد، فقال:
أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ، وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، أَهْلَكْناهُمْ، إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ أي أهم كفار قريش الذين هم عرب من عدنان خير في القوة والمنعة، أم قوم تبّع الحميري الذين هم عرب من قحطان، الذين كانوا أقوى جندا وأكثر عددا، وكان لهم دولة وحضارة عريقة ومجد، وكذلك الأمم الذين سبقوهم، كعاد وثمود ونحوهم، أهلكناهم جميعا لكفرهم وإجرامهم، فإهلاك من هو دونهم لجرمه وضعفه وعجزه بالأولى، فهم ليسوا بخير من قوم تبع في العدد والعز والمنعة.
أخرج الطبراني عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «لا تسبّوا تبّعا فإنه قد أسلم». وكان يكتب إذا كتب: بسم اللَّه الذي ملك برا وبحرا.
ثم أقام تعالى الدليل على قدرته الفائقة ليستدل بذلك على إمكان البعث، فقال:
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ أي كيف ينكرون البعث، وقد شاهدوا أدلة قدرتنا في خلق هذا الكون، فإنا خلقنا هذه السموات والأرضين وما بينهما من المخلوقات المنظورة وغير المنظورة، ما خلقنا ذلك عبثا ولعبا، وباطلا ولهوا، وإنما بإبداع لا مثيل له، ولحكمة منقطعة النظير، كقوله جل وعلا: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا، ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص ٣٨/ ٢٧] وقوله تعالى:
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً، وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ، فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون ٢٣/ ١١٥- ١١٦] فهذا برهان على صحة البعث. وإنما جمع السموات في قوله. وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ لموافقة قوله في أول السورة: رَبِّ السَّماواتِ.
ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي ما خلقنا السماء والأرض وما بينهما إلا خلقا ملازما للحق، ولإظهار الحق، وهو الاستدلال على وجود الخالق ووحدانيته، ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون ذلك، لقلة نظرهم، فصاروا لا يرجون ثوابا ولا يخشون عقابا.
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- لا يؤمن المشركون بالبعث، فهم قوم ماديون دهريون كما في آية أخرى:
وَقالُوا: ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا، وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية ٤٥/ ٢٤] وقالوا هنا: ما الموتة التي من شأنها أن تعقبها حياة إلا الموتة الأولى في عالم الذر والنطف دون الموتة الثانية.
٢- احتجوا بحجة واهية وهي الإتيان بآبائهم وأجدادهم أحياء، بعد أن ماتوا، وتلك مغالطة، لأن المقصود بالبعث: هو إحياء جميع الخلق بعد فناء الدنيا، ولأن الإعادة إنما هي للجزاء لا للتكليف مرة أخرى.
قيل: إن قائل هذا من كفار قريش أبو جهل، قال: يا محمد، إن كنت صادقا في قولك فابعث لنا رجلين من آبائنا أحدهما- قصيّ بن كلاب، فإنه كان رجلا صادقا، لنسأله عما يكون بعد الموت.
٣- إنهم بهذا القول استحقوا العذاب، إذ ليسوا هم خيرا من قوم تبّع والأمم المهلكة، وإذا أهلكنا أولئك، فكذا هؤلاء. وكان من قبلهم أظهر نعمة وأكثر أموالا، وأعز وأشد وأمنع جانبا، فأهلكهم اللَّه لكفرهم وإجرامهم.
قال القرطبي: وليس المراد بتبّع رجلا واحدا، بل المراد به ملوك اليمن، فكانوا يسمون ملوكهم التبابعة، فتبّع لقب للملك منهم كالخليفة للمسلمين، وكسرى للفرس، وقيصر للروم.
ثم قال: والظاهر من الآيات أن اللَّه سبحانه إنما أراد واحدا من هؤلاء، وكانت العرب تعرفه بهذا الاسم اشدّ من معرفة غيره، ولذلك
قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ولا
ثم
قد روي عنه أنه قال فيما رواه أحمد عن سهل بن سعد: «لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم».
فهذا يدلك على أنه كان رجلا واحدا بعينه، وهو- واللَّه أعلم- أبو كرب الذي كسا البيت بعد ما أراد غزوه، وبعد ما غزا المدينة وأراد خرابها، ثم انصرف عنها لمّا أخبر أنها مهاجر نبي اسمه أحمد «١».
٤- لم يخلق اللَّه السموات والأرض عبثا ولهوا، وإنما خلقهما بالأمر الحق، وللحق، ولإقامة الحق وإظهاره من توحيد اللَّه والتزام طاعته، ولكن أكثر الناس وهم في الماضي مشركو مكة لا يعلمون ذلك.
٥- لم يذكر كفار مكة في نفي الحشر والنشر شبهة حتى يجاب عنها، ولكنهم أصروا على الجهل والتقليد في ذلك الإنكار، لذا اقتصر اللَّه تعالى على الوعيد والتهديد بأن يتعرضوا للهلاك مثلما أهلك قوم فرعون وقوم تبّع.
أهوال يوم القيامة التي يتعرض لها الكفار والعصاة
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٤٠ الى ٥٠]
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤)
كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩)
إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ يَوْمَ: اسم إِنَّ ومِيقاتُهُمْ: خبرها، وأَجْمَعِينَ: توكيد ضمير مِيقاتُهُمْ.
يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى... يَوْمَ: بدل منصوب من يَوْمَ الأول.
إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ مَنْ: بالنصب على الاستثناء المنقطع، وبالرفع: إما بدل من ضمير يُنْصَرُونَ أي ولا ينصر إلا من رحم اللَّه، أو بدل من مَوْلًى الأول، أي يوم لا يغني إلا من رحم اللَّه، أو مبتدأ، تقديره: إلا من رحم اللَّه فيعفى عنه.
كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَالْمُهْلِ: خبر ثان، ويَغْلِي بالياء: لتذكير المهل، وهو خبر ثالث، ويقرأ بالتاء: لتأنيث الجرّة، وهو حال من المهل.
ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّكَ بالكسر: على الابتداء، وتقرأ بالفتح بتقدير حذف حرف الجر، أي ذق لأنك العزيز الكريم عند نفسك.
البلاغة:
كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ، كَغَلْيِ الْحَمِيمِ تشبيه مرسل مجمل.
الرَّحِيمُ الزَّقُّومِ الْأَثِيمِ الْحَمِيمِ الْجَحِيمِ الْكَرِيمُ سجع رصين لا تكلف فيه، فيه جمال.
المفردات اللغوية:
يَوْمَ الْفَصْلِ يوم القيامة، سمي بذلك، لأنه يفصل فيه بين الناس، فيفصل المحق عن المبطل بالجزاء، ويفصل الحق عن الباطل مِيقاتُهُمْ وقت موعدهم للعذاب الدائم لا يُغْنِي لا يدفع عنه مَوْلًى ناصر بقرابة أو صداقة، ويطلق المولى في الأصل على السيد والعبد وابن العم والناصر والحليف والقريب والصديق شَيْئاً من العذاب أو الإغناء وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ يمنعون منه.
إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ بالعفو عنه وقبول الشفاعة فيه، وهم المؤمنون فإنه يشفع بعضهم لبعض بإذن اللَّه الْعَزِيزُ الغالب في انتقامه من الكفار، فلا ينصر من أراد تعذيبه الرَّحِيمُ من أراد أن يرحمه، وهم المؤمنون.
شَجَرَةَ الزَّقُّومِ هي شجرة ذات ثمر مرّ، تنبت بتهامة، شبهت بها شجرة الجحيم، وهي
كَالْمُهْلِ ما يمهل في النار حتى يذوب أو دردي الزيت الأسود، أي عكر الزيت والقطران ومذاب النحاس أو غيره من المعادن الْحَمِيمِ الماء الساخن الشديد الحرارة.
خُذُوهُ أي يقال للزبانية: خذوا الأثيم فَاعْتِلُوهُ بكسر التاء وضمها: جرّوه وسوقوه بغلظة وشدة وعنف، ومنه العتل: الجافي الغليظ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ وسط النار عَذابِ الْحَمِيمِ أي من الحميم الذي لا يفارقه العذاب، فهو أبلغ من قوله: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ لأن المراد:
يصب من فوق رؤوسهم عذاب هو الحميم، للمبالغة، ثم أضيف العذاب إلى الحميم للتخفيف، وزيدت مِنْ للدلالة على أن المصبوب بعض هذا النوع ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ أي يقال له: ذق العذاب، استهزاء به أو تقريعا على ما كان يزعمه الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ بزعمك وقولك: ما بين جبليها أعز وأكرم مني إِنَّ هذا إن هذا العذاب تَمْتَرُونَ تشكون فيه أو تمارون.
سبب النزول:
نزول الآية (٤٣) وما بعدها:
إِنَّ شَجَرَةَ: أخرج سعيد بن منصور عن أبي مالك قال: إن أبا جهل كان يأتي بالتمر والزّبد، فيقول: تزقموا، فهذا الزقوم الذي يعدكم به محمد، فنزلت: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ...
نزول الآية (٤٩) :
ذُقْ إِنَّكَ..:
أخرج الأموي في مغازيه عن عكرمة قال: «لقي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أبا جهل، فقال: إن اللَّه أمرني أن أقول لك: «أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى» فنزع يده من يده، وقال: ما تستطيع لي أنت ولا صاحبك من شيء، لقد علمت أني أمنع أهل البطحاء، وأنا العزيز الكريم، فقتله اللَّه يوم بدر، وأذله وعيّره بكلمته، ونزل فيه: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ».
وأخرج ابن جرير الطبري عن قتادة نحوه.
قال أبو جهل لرسول اللَّه
المناسبة:
بعد إثبات البعث والقيامة، أعقبه تعالى بذكر ما يتعرض له الكافر يوم القيامة من أهوال بفقد الأعوان والنصراء، وتجرع الزقوم، وشرب المهل عكر الزيت والقطران، وجره بشدة وعنف إلى جهنم، وصب الماء الحميم البالغ منتهى السخونة والحرارة فوق رأسه، وتقريعه والاستهزاء به فيما زعمه من عز وإكرام، جزاء الشك بيوم البعث والقيامة.
التفسير والبيان:
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ إن يوم القيامة الذي يفصل اللَّه تعالى فيه بين الخلائق، فيعذب الكافرين، ويثيب المؤمنين، هو ميعاد جميعهم ووقت حسابهم وجزائهم جميعا، يجمعهم كلهم أو لهم عن آخرهم، ليميز المحسن من المسيء، والمحق من المبطل، كقوله تعالى: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً [النبأ ٧٨/ ١٧]. وسمى يوم القيامة يَوْمَ الْفَصْلِ لأنه تعالى يفصل بين عباده في الحكم والقضاء، أو يفصل بين أهل الجنة وأهل النار، أو يفصل بين المؤمنين وبين ما يكرهون، وبين الكافرين وبين ما يشتهون، فيفصل بين الوالد وولده، والرجل وزوجته، والمرء وخليله.
يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أي يوم لا ينفع قريب قريبا، ولا يدفع عنه شيئا من العذاب أو الإغناء، ولا هم يمنعون من عذاب اللَّه، فلا يفيد المؤمن الكافر ولا ينصر القريب قريبه، كقوله تعالى: لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ [الممتحنة ٦٠/ ٣] وقوله سبحانه:
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ، فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَلا يَتَساءَلُونَ
إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي لكن من رحمه اللَّه فإنه ينتصر وينجو، ولا يحتاج إلى ناصر غيره، إن اللَّه هو الغالب الذي لا يفلت أحد من أعدائه من عذابه، الرَّحِيمُ: ذو الرحمة الواسعة بعباده المؤمنين، وعلى هذا يكون الاستثناء منقطعا، ويجوز أن يكون متصلا، أي لا يغني قريب عن قريب إلا المؤمنين، فإنه يؤذن لهم في شفاعة بعضهم لبعض.
وبعد إقامة الدليل على أن القيامة حق، ووصف ذلك اليوم، أردفه تعالى بوعيد الفجار الكفار الجاحدين لقاءه، قائلا:
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ أي إن الشجرة التي خلقها اللَّه في جهنم وهي الشجرة الملعونة، يكون ثمرها طعام أهل النار الكثيري الإثم، قولا وفعلا، فإذا جاعوا أكلوا منها، ويدخل معهم أبو جهل. والْأَثِيمِ: مبالغة الآثم.
كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ، كَغَلْيِ الْحَمِيمِ أي وذلك الطعام يشبه دردي الزيت، وعكر القطران، والنحاس المذاب، يغلي في بطون الكفار كغلي الماء الشديد الحرارة، لحرارته ورداءته. شبه ما يصير في البطون منها بالمهل: وهو النحاس المذاب.
خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ يقال للملائكة الذين هم خزنة النار:
خذوا هذا الأثيم، فادفعوه وجروه إلى وسط النار بعنف وغلظة.
ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ أي ثم صبوا على رأسه الماء الشديد الحرارة المتقدم الوصف، كقوله عز وجل: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ، يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ [الحج ٢٢/ ١٩- ٢٠].
ذق العذاب أيها المتعزز المتكرم في زعمك في الدنيا.
إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ أي إن هذا العذاب هو الذي كنتم تشكون فيه، حين كنتم في الدنيا. وهو كقوله تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا، هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ [الطور ٥٢/ ١٣- ١٤].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- إن يوم القيامة هو يوم الحسم النهائي في مصير الخلائق، وهو يوم الفصل، لأن اللَّه تعالى يفصل فيه بين خلقه، فيتميز المسيء من المحسن، والمبطل من المحق، ويكون هناك فريقان: فريق في الجنة، وفريق في السعير. وهذا غاية في التحذير والوعيد.
٢- من خصائص يوم القيامة: فقد النصراء والأعوان والأقارب، فلا ينصر المؤمن الكافر لقرابته، لكن من رحمه اللَّه فإنه ينجو وينتصر بنصر اللَّه، ولا يحتاج إلى معونة المخلوقين، واللَّه سبحانه في ذلك اليوم هو المنتقم من أعدائه، الرحيم بأوليائه، كما قال: شَدِيدِ الْعِقابِ، ذِي الطَّوْلِ [غافر ٤٠/ ٢] فقرن الوعد بالوعيد.
٣- إن طعام أهل النار وهم الآثمون الفجار هو الثمر الشديد المرارة من شجرة الزقوم التي لا تقبل الاحتراق في النار، وهو لشدة حرارته ورداءته يغلي في بطون الكفار، كغلي الماء الشديد السخونة، فإذا جاع أهل النار أكلوا منها، فغلت في بطونهم كما يغلي الماء الحار.
٤- يتعرض أهل النار لأنواع كثيرة من الإهانة والذل، منها: أنهم بواسطة
ومنها: أنه يقال للأثيم الفاجر توبيخا وتقريعا وتهكما واستهزاء: ذق هذا العذاب فإنك كنت تزعم أنك المتعزز المتكرم، والمراد: إنك أنت الذليل المهان.
ومنها: أن ملائكة العذاب زبانية جهنم تقول للكفار: إن هذا العذاب هو ما كنتم تشكون فيه في الدنيا، كما قال تعالى: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ، لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ، ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ [التكاثر ١٠٢/ ٥- ٧].
ما يلقاه المتقون من ألوان النعيم في الجنان
[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ٥١ الى ٥٩]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥)
لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩)
الإعراب:
جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
بدل من مَقامٍ.
يَلْبَسُونَ خبر ثان ل إِنَّ أو حال من الضمير في الجارّ، أو استئناف.
مُتَقابِلِينَ حال من واو يَلْبَسُونَ.
كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ الكاف: إما في موضع الرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف، تقديره:
يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ يَدْعُونَ: جملة فعلية في موضع نصب على الحال من الهاء والميم في زَوَّجْناهُمْ والباء: ليست للتعدية، لأن يَدْعُونَ متعد بنفسه، وإنما هي للحال، تقديره: متلبسين بكل فاكهة، بمنزلة الباء في قولهم: خرج زيد بسلاحه، أي متلبسا بسلاحه.
لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى استثناء منقطع، أي لكن قد ذاقوا الموتة الأولى في الدنيا، والبصريون يقدرون «إلا» في الاستثناء المنقطع ب «لكن» والكوفيون يقدرونه ب «سوى».
فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ فَضْلًا: إما منصوب على المصدر المؤكد، وتقديره: ويفضل عليهم فضلا، أو منصوب بفعل مقدر، وتقديره: أعطاهم فضلا.
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ الهاء تعود على الكتاب، وقد تقدم ذكره في أول السورة في قوله تعالى:
حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ.
المفردات اللغوية:
فِي مَقامٍ مجلس أو مكان، والمقام والمقام بمعنى واحد أَمِينٍ يؤمن فيه من كل خوف وهمّ وحزن نَّاتٍ
بساتين عُيُونٍ
ينابيع جارية سُندُسٍ ما رقّ من الديباج أو الحرير إِسْتَبْرَقٍ ما غلظ منه وهما معرّبان مُتَقابِلِينَ في مجالسهم ليستأنس بعضهم ببعض، فلا ينظر بعضهم إلى قفا بعض لدوران الأسرّة بهم.
كَذلِكَ أي الأمر كذلك، أو آتيناهم مثل ذلك وَزَوَّجْناهُمْ قرناهم بِحُورٍ عِينٍ بنساء بيض حسان واسعات الأعين يَدْعُونَ يطلبون ويأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه وغيرها لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ أي في الآخرة، بل يحيون فيها دائما إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى الاستثناء منقطع أو متصل، والمراد به المبالغة في تعميم النفي وامتناع الموت، فكأنه قال: لا يذوقون فيها الموت إلا إذا أمكن ذوق الموتة الأولى في المستقبل وَوَقاهُمْ حماهم وحفظهم، وقرئ:
«ووقيهم».
فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ أي أعطوا كل ذلك عطاء وتفضلا منه ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لأنه خلاص عن المكاره وفوز بالمطالب يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ سهلنا القرآن حيث أنزلناه بلغتك، لتفهمه العرب منك لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ لعلهم يفهمونه فيتعظون به، فيؤمنون بك فَارْتَقِبْ انتظر هلاكهم إذا لم يتذكروا ولم يؤمنوا إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ منتظرون هلاكك وما يحل بك.
بعد وعيد الكفار الأشقياء وبيان ما يتعرضون له من أهوال الآخرة، ذكر تعالى وعده للمتقين الأبرار السعداء وما أعده لهم من جنات النعيم ذات المآكل والمشارب والملابس والزوجات الفائقة، وأنه نعيم أبدي. ثم أتبعه بختام للسورة يناسب مطلعها وهو الامتنان على العرب بنزول القرآن بلغتهم لّيعملوا بأحكامه، فإن كذّبوا انتقم اللَّه منهم.
التفسير والبيان:
ذكر اللَّه تعالى في هذه الآيات خمسة أنواع لنعيم الجنان لبيان وعد الأبرار، وهي:
١- إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ أي إن المتقين لله في الدنيا باتقاء الشرك والمعاصي وامتثال الفرائض، لهم مساكن آمنة من جميع المخاوف، طيبة المكان والنزهة، فهي في بساتين غناء وينابيع متدفقة بالماء، كما قال تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ، عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ، تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ، يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ، خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ، وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ، عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ [المطففين ٨٣/ ٢٢- ٢٨].
وهذا في مقابلة ما للكفار من شجرة الزقوم وشرب الحميم.
٢- ٣: يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ أي ملابسهم من الحرير الرقيق والغليظ، ذي البريق واللمعان والجمال الأخّاذ، وجلوسهم على صفة التقابل بقصد الاستئناس ونظر بعضهم لبعض، كقوله تعالى: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ [الصافات: ٣٧/ ٤٣- ٤٤].
٥- يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ أي يطلبون في الجنة ما شاؤوا من أنواع الثمار أو الفاكهة، وهم آمنون من انقطاعها وامتناعها، بل يحضر إليهم كلما أرادوا، وآمنون من الأوجاع والأسقام، ومن الموت والتعب والشيطان.
وهذا دليل على أنه اجتمعت لهم أنواع اللذة والشهوة المادية والمعنوية، بهذه الأنواع الخمسة من النعيم في المسكن والملبس والمأكل والزواج والأنس والأمان، وتلك أعلى أصناف الخيرات والراحات.
ثم بيّن اللَّه تعالى أن حياتهم دائمة، فقال:
لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى، وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ أي لا يموتون في الآخرة أبدا، ولا يذوقون طعم الموت بعدئذ، لكن الموتة الأولى التي ذاقوها في الدنيا قد ذاقوها وانتهى أمرها، وحماهم اللَّه من عذاب النار، ونجاهم منه، وزحزحهم عن العذاب الأليم في دركات الجحيم. قال الزمخشري: هذا من باب التعليق بالمحال، كأنه قيل: إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها في المستقبل، فإنهم يذوقونها. وقيل: الاستثناء منقطع، أي لكن الموتة الأولى قد ذاقوها.
ثبت في الصحيحين أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «يؤتى بالموت في صورة كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم يقال: يا أهل الجنة، خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت».
وأخرج مسلم وعبد الرزاق عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي اللَّه عنهما قالا: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «يقال لأهل
وأخرج أبو بكر بن أبي داود السّجستاني عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال:
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «من اتقى اللَّه دخل الجنة ينعم فيها، ولا يبأس، ويحيا فيها، فلا يموت، ولا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه».
وأخرج أبو القاسم الطبراني وأبو بكر بن مردويه عن جابر رضي اللَّه عنه قال: «سئل نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أينام أهل الجنة؟ فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: النوم أخو الموت، وأهل الجنة لا ينامون».
فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ، ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي تفضل اللَّه عليهم وأعطاهم ذلك عطاء فضلا منه وإحسانا إليهم، أو لأجل إسباغ الفضل منه، ذلك هو الفوز الأكبر الذي لا يعلوه فوز.
ثبت في الصحيح عند مسلم عن جابر عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: «اعملوا وسددوا وقاربوا، واعلموا أن أحدا لن يدخله عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول اللَّه؟ فقال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني اللَّه برحمة منه وفضل».
وبعد أن بيّن اللَّه تعالى دلائل قدرته، وأوضح الوعد والوعيد، ووصف القرآن في أول السورة بكونه كتابا مبينا (أي كثير البيان والفائدة) ذكر تعالى في خاتمة السورة ما يؤكد ذلك، فقال:
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي إنما يسرنا هذا القرآن وأنزلناه سهلا واضحا بينا جليا بلسانك الذي هو أفصح اللغات وأجلاها، والذي هو لسانهم ولغتهم، وجعلناه ميسرا للفهم، كي يفهمه قومك يا محمد، فيتذكروا ويعتبروا ويعملوا بما فيه، والمعنى: إن ذلك الكتاب المبين الكثير الفائدة إنما
وبالرغم من هذا الوضوح والبيان، كفر بعضهم وعاند وخالف، فسلّى اللَّه رسوله ووعده بالنصر، وتوعد من كذبه بالهلاك، فقال:
فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ أي انتظر أيها النبي ما وعدناك من النصر عليهم وإهلاكهم وما يحل بهم إن استمروا على الكفر، فإنهم منتظرون ما يحل وما ينزل بك من موت أو غيره، وسيعلمون لمن يكون النصر والظفر وعلو الكلمة في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة ٥٨/ ٢١] وقال سبحانه: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ، يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ، وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ، وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر ٤٠/ ٥١- ٥٢].
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- يفيض اللَّه على عباده المتقين الأبرار في الجنة أنواع النعم الحسية والمعنوية، ذكر منها هنا خمسة أنواع تشمل المساكن، والملابس، والتقابل في الجلسات واستئناس البعض بالبعض، والأزواج، والمآكل الدائمة. قال مجاهد:
إنما سميت الحور حورا لأنهن يحار الطرف في حسنهنّ وبياضهن وصفاء لونهنّ.
وهل الحور العين أفضل أو نساء الآدميات؟ اختلفوا في ذلك، فقال حبّان بن أبي جبلة- فيما ذكره ابن المبارك-: إن نساء الآدميات من دخل منهن الجنة فضّلن على الحور العين بما عملن في الدنيا. وروى ابن المبارك مرفوعا: إن «الآدميات أفضل من الحور العين بسبعين ألف ضعف».
لقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم في دعائه فيما رواه مسلم عن عوف بن مالك: «وأبدله أهلا خيرا من أهله».
وأما مهورهن
فروى أبو هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «مهور الحور العين قبضات التمر، وفلق الخبز»
وعن أبي قرصافة: سمعت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: «إخراج القمامة من المسجد مهور الحور العين»
وذكر الثعلبي عن أنس أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «كنس المساجد مهور الحور العين».
٢- إن تلك النعم في الجنان لها صفة الدوام والاستمرار، دون أن يطرأ عليها انقطاع، ولا ينشأ عنها أذى أو مكروه.
٣- أهل الجنة وأهل النار في خلود دائم، فكل منهم خالد إما في النعيم وإما في العذاب الأليم، ولا يطرأ عليهم موت، لكن الموتة الأولى في الدنيا قد ذاقوها.
قال المحققون: إن الجنة حقيقتها ابتهاج النفس، وفرحها بمعرفة اللَّه وبمحبته، فالإنسان الكامل هو في الدنيا في الجنة، وفي الآخرة أيضا في الجنة، فقد صح أنه لم يذق في الجنة إلا الموتة الأولى.
واكتفى اللَّه تعالى هنا ببشارة أهل الجنة بالخلود مع أن أهل النار يشاركونهم فيه، للدلالة على أن دوام الحياة مقرون مع ما ذكر سابقا من حصول الخيرات والسعادات.
٤- أكرم اللَّه المتقين بألوان النعيم، وحفظهم من عذاب الجحيم، تفضلا منه عليهم، وتلك هي السعادة، والربح العظيم، والنجاة العظيمة، والفوز الأكبر الذي لا مثيل له على الإطلاق. ودل قوله: ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ على أن التفضيل أعلى درجة من الثواب المستحق، لوصفه بأنه فضل من اللَّه، وكونه فوزا عظيما، أي إن المنحة الإلهية أفضل من الأجر والأجرة.
٦- هدد اللَّه تعالى المخالفين المكذبين للقرآن ورسول اللَّه بالهلاك والدمار، ووعد نبيه بالنصر عليهم، وسلاه عن مكابدته المشاق معهم، وأمره بانتظار ما وعده به من النصر عليهم، فإنهم منتظرون له الموت والهلاك.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الجاثيةمكيّة، وهي سبع وثلاثون آية.
تسميتها:
سميت (سورة الجاثية) أخذا من الآية المذكورة فيها: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً، كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [٢٨] أي كل أمة باركة على الرّكب لشدة الأهوال التي يشاهدها الناس يوم القيامة، انتظارا للحساب، قبل قسمة الخلائق فريقين: فريق في الجنة، وفريق في السعير.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجهين:
١- ابتدأت هذه السورة بالكلام عن تنزيل القرآن من اللَّه تعالى، والذي هو مكمّل لما ختمت به السورة المتقدمة من جعل القرآن بلغة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ولغة قومه العرب، فهو عربي اللسان نصا وفحوى، ومعنى وأسلوبا، وفي ذلك حث على اتباعه والإيمان به.
٢- تشابه السورتين في الغايات الكبرى التي يستهدفها القرآن: وهي إثبات وحدانية اللَّه من خلال بيان أدلة القدرة الإلهية في خلق السموات والأرض، ومناقشة المشركين في عقائدهم الفاسدة، وضرب الأمثال من مصائر الأمم الغابرة التي أهلكها اللَّه لتكذيبهم الرسل.
موضوع هذه السورة كسائر موضوعات السور المكية، وبخاصة آل حم السور السبعة، وهو تأصيل عقيدة الإسلام الأساسية وإثبات عناصرها وأركانها الثلاثة:
وهي الإيمان بالله تعالى وتوحيده، والاعتقاد بنزول القرآن من عند اللَّه، وبنبوة محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم ورسالته، والتصديق باليوم الآخر والحساب والبعث والجزاء.
ابتدأت السورة ببيان مصدر القرآن الكريم وهو اللَّه تعالى، وإثبات وجود الخالق ووحدانيته بخلق السموات والأرض، وخلق البشر والدواب، وتعاقب الليل والنهار، وإنزال المطر سبب الحياة، وتسخير الرياح.
ثم هددت وأوعدت كل من كذّب بآيات اللَّه، واستكبر عنها، واتخذها هزوا بعذاب جهنم.
وأخبرت عن نعم اللَّه العظمى وأولها كون القرآن هدى للناس، ثم تسخير البحر لجريان السفن فيه والاتجار بين الأقطار، وتسخير جميع ما في الكون لعباد اللَّه تعالى.
وأردفت ذلك بمبادئ خلقية واجتماعية إنسانية سلمية هي عفو المؤمنين وترفعهم عن زلات الكافرين، فالعمل الصالح أو الفاسد يعود أثره على صاحبه، وتذكير بني إسرائيل بما امتن اللَّه عليهم من نعم روحية ومادية هي التوراة، والحكمة والفقه وفصل الخصومات بين الناس، والنبوة، ورزق الطيبات، والتفضيل على العالمين في عصرهم، والإتيان بالبينات وهي الآيات والمعجزات، وأمر الرسول بعدم إطاعة المشركين واتباع أهوائهم، والتعجب من حالهم، وتجرؤهم على إنكار البعث، واتخاذهم الهوى إلها ومعبودا.
وفي مقابل ذلك بيان استقلال الشريعة الإسلامية وإثبات ذاتيتها، وأمر الرسول والمؤمنين باتباعها وحدها دون ما عداها، والاعتزاز والثقة بالله الذي يمدّ
ثم رد اللَّه تعالى على المشركين منكري البعث بأن اللَّه هو المحيي والمميت وجامع الناس ليوم القيامة، فهو صاحب القدرة العجيبة ومالك السموات والأرض، والمتفرد بالسلطان الأعظم في الآخرة ذات الأهوال الرهيبة في العرض والحساب وشهادة صحف الأعمال على أصحابها.
وختمت السورة ببيان الجزاء الحق العادل، وقسمة الناس فريقين: فريق الجنة الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وفريق النار الذين كفروا بالله ورسوله، واقترفوا السيئات والمعاصي، وهزئوا بآيات اللَّه، واغتروا بالحياة الدنيا.
وذلك كله يستوجب الحمد لله رب السموات ورب الأرض رب العالمين، وله وحده الكبرياء في السموات والأرض، وهو العزيز الحكيم.
سبب نزولها:
ذكر المهدوي والنحاس عن ابن عباس: أنها نزلت في عمر رضي اللَّه عنه، شتمه رجل من المشركين بمكة قبل الهجرة فأراد أن يبطش به، فأنزل اللَّه عز وجل: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [١٤] ثم نسخت بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة ٩/ ٥]. فالسورة كلها مكية على هذا من غير خلاف. وهي سبع وثلاثون آية.